وصية
الكاتب : عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
نبذة مختصرة
وقفةٌ بذكر ثلاث وصايا مستخرجةٌ من حديث: «من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات مات ميتةً جاهلية ...»; أخرجه مسلم (1848).
تفاصيل
وصية
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فإنَّ من نعمة الله علينا بهذا الدين القويم: أن جَعَلَه - سبحانه - مباركًا على أهله، به تنتَظِمُ أمورُهم، وتجتمعُ كلمتُهم، ويلتَئِمُ شملُهُم، ويتَّحِدُ صفُّهم، وتقوى شوكَتُهم، وتتحقَّق مصالِحُهم، وبه تندَفِعُ عنهم الشرور والآفات، وتزولُ عنهم المِحَن والرَّزِيَّات، مُحقِّقًا لهم السعادة والطمأنينة، والتمكين والعز، والقوة والمهابة، والفوز والفلاح، وليس شيءٌ من ذلك مُتحقِّقًا لأمة الإسلام إلا بتمسُّكٍ صادقٍ، واعتصامٍ جادٍّ بحبل الله المتين، ودينه القويم، وصراطه المستقيم.
لنا هنا وقفةٌ مع حديثٍ عظيمٍ، ثابتٍ عن رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -، يبين فيه الجادَّة السوِيَّة، والنهج السديد لانتظام مصالح المسلمين، واستقامة أمرهم، ويُحذِّر فيه من المسالك المنحرفة، والطرائق المُعْوَجَّة، التي لا يُؤمَنُ معها العثار، ولا تَجلِبُ للمسلمين إلا الأضرار والأخطار.
عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات، ماتَ مِيتةً جاهلية، ومن قاتل تحت راية عُمِّيَّةٍ، يغضَبُ لِعَصَبةٍ، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقُتل، فَقِتلتُه جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرِبُ برَّها وفاجِرَها ولا يتحاش من مؤمنها، ولا يفي لذي عهدٍ عهدَه، فليس مني ولستُ منه»؛ مسلم (1848).
تضمَّن هذا الحديث ثلاث وصايا حكيمة، يجدُرُ بالمسلم أن يتأمَّلَها، وأن يجِدَّ ويجتَهِدَ في تحقيقها وتطبيقها:
الوصية الأولى: السمعُ والطاعة لوُلاة أمر المسلمين، والنُّصْح لهم، وعدم الخروج عليهم ونزع اليد من طاعتهم، والحذر من مفارقة جماعتهم، ومن خالف ذلك فمات، مات ميتةً جاهليَّةً. ويجب أن يُعْرَفَ أنَّ ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين؛ بل لا قيام للدين إلا بها؛ فإنَّ بني آدم لا تتمُّ مصالحهم إلا بالاجتماع، ولا بُدَّ لهم عند الاجتماع من رأس وأمير، ولا إِمرَةَ إلا بالسمع والطاعة، وولاة الأمر تنتظم بهم - بإذن الله - مصالح المسلمين، وبهم تجتمع كلمتهم، وتؤمن سبلهم، وتُقام صَلاتهُم، ويُجاهد عدوهم، وبدونهم تتعطَّل الأحكام، وتعُمُّ الفوضى، ويختَلُّ الأمن، ويكثُر السَّلْبُ والنَّهْبُ، وأنواع الاعتداء، وينثلِمُ صرحُ الإسلام، ولا يأمنُ الناسُ على دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
والواجبُ اتخاذُ الإمارة دِينًا وقربةً يُتقرَّبُ بها إلى الله، مع النصح للولاة، والدعاء لهم بالتوفيق والسداد والصلاح والعافية، والحَذَر من سَبِّهِم، والطعن فيهم، وغِشِّهم، وقد ثَبَتَ في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تسُبُّوا أُمَرَاءكم، ولا تغُشُّوهم، ولا تُبغِضُوهم، واتقوا الله واصبروا؛ فإن الأمر قريبٌ»؛ رواه ابن أبي عاصم في "السنة".
الوصية الثانية: تحقيقُ الأُخُوَّة الإيمانية، والرابطة الدينية، والحَذَر من العصبيَّات المذمومة، والتعصُّبات المحمومة، والحمِيِّات الجاهلية، والعصبيَّات العِرْقية التي تُمزِّق ولا تجمع، وتُشتِّت ولا تُؤلِّف، وتُفسِد ولا تُصلِح، ومن آثارها الوَخِيْمة: نشوء القتال تحت رايات عُمِّيَّة، يُغضَبُ فيها لعصبية، أو يُدعَى إلى عَصبة، أو يُنتصَر لعَصَبة، ومن كان على هذا النهج فقُتِل، فقِتلتُه جاهلية.
الوصية الثالثة: حفظ وحدة المسلمين، ومراعاة حرماتهم، والوفاء بعهودهم وعقودهم، وعدم إخفار ذِمَمهم، والبُعْد عن الإضرار بهم وإيذائهم، ومَن انحرفَ عن هذا السبيل المبارك، وخرج على المسلمين، يضرِبُ بَارَّهم وفاجرهم، ولا يتحاشَى من مؤمنهم، ولا يفِي لذي عهدٍ عهدَه، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - منه بَرَاءٌ؛ ولهذا قال في الحديث: «فليسَ مِنِّي ولستُ منه».
فما أعظم هذه الوصايا النبوية، وأما أشد حاجة المسلمين إلى تطبيقها؛ لتتحقَّق لهم الخيرية، وليأمنوا من الأخطار المُحْدقة، والشرور المُهلِكة، والعواقب الوخيمة.
ومن يتأمَّل ما سبق من وصايا وتوجيهات، يُدرِك سوء حال، وقبيحَ فعال من اتخذوا إخافة المؤمنين، وإرعاب الآمنين، وقتل المسلمين والمستأمنين، وتخريب المساكن، وتفجير الدور سبيلاً وطريقًا، زاعمين أنهم يصلحون: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12].
أفَمِنَ الإصلاح قتلُ النفوس المعصومة من الولدان والنساء والشيب؟! أو مِنَ الإصلاح الخروج على وليِّ الأمر المسلم ونزع اليد من الطاعة، وتسفيه العلماء وتجهيل الفقهاء؟! أو من الإصلاح إتلافُ الأموال المحترمة، وتدمير الدور والمساكن؟! أو مِنَ الإصلاح نقض العهود، وإخفارُ الذِّمَّة، وقتل المعاهدين والمُستَأْمَنين؟! هَيْهَات وحاشا أن يكون هذا سبيل المسلمين.
نعوذ بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، ونسأله - سبحانه - أن يُعِزَّ دينه، وأن يُعلِيَ كلمَتَه، وأن يجمع كلمةَ المسلمين على الحقِّ والهدى، وأن يُجنِّبَ بلادهم كل سوءٍ ومكروهٍ، إنه سميعٌ مجيبٌ.