التعليقات على كشف الشبهات
تأليف : عبد الله بن صالح القصير
نبذة مختصرة
كشف الشبهات: رسالة نفيسة كتبها الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وهي عبارة عن سلسلة شبهات للمشركين وتفنيدها وإبطالها، وفيها بيان توحيد العبادة وتوحيد الألوهية الذي هو حق الله على العباد، وفيها بيان الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية والعبادة، وقد عدد من أهل العلم بشرحها وبيان مقاصدها، وفي هذه الصفحة كتاب التعليقات على كشف الشبهات، والذي جمع فيه مؤلفه الشيخ عبد الله بن صالح القصير العديد من الفوائد.
- 1
PDF 500.1 KB 2019-05-02
- 2
DOC 3.4 MB 2019-05-02
تفاصيل
التعليقات على كشف الشبهات
تأليف الفقيـر إلـى عفو ربه
عبدالله بن صالح القصيّر
تقديم
الحمد لله العليم الحكيم، وصلى الله وسلم على نبيه الأمين ورسوله الكريم، وعلى آله وأصحابه أئمة الأمة في التعلم والتعليم.
أما بعد:
فهذه جملة فوائد على رسالة ((كشف الشبهات )) للإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى كنت قد جمعتها مما اطلعت عليه من كلام أهل العلم المتقدمين منهم والمعاصرين على تلك الرسالة المباركة، أحببت إلحاقها بها ونشرها معها تعميماً لفائدتها ورجاء مثوبة الله تعالى عليهــا. والله المسؤول أن ينفع بها كما نفع بأصلها فإنه تعالى على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الفقير إلى عفو ربه
عبد الله بن صالح القصيّر
الرياض في 6/4/1423هـ
ييي
فوائد بين يدي الكتاب
فوائد الكتاب:
الأولى: الشبهات جمع شبهة، والشبهة هي: المسألة الباطلة التي صورت للناس شبيهة بالحق لما أورد عليها من الأدلة التي يظن المستدل بها والسامع لها ـ من غير أهل الفقه في الدين ـ أنها من العلم لما قرن بها من الدليل والبرهان، فظنوها من الحق لشبهها به، فصار أمرها غير واضح لبعض الناس.
الثانية: الشبهة كقول قد تكون في الاعتقاد المشركين ﴿أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾( )، وقولهم:﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى﴾( )، وقد تكون في الأحكام كقولهم: ﴿إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾( )، وقولهم (( الميتة قتلها الله، فهي أولى بالحل مما ذبحتم بأيديكم )).
الثالثة: كشف الشُبهة: هو رفع التباسها بالحق ببيان مضمونها وغايتها ووجوه بطلانها ومخالفتها للحق، وفساد الاستدلال بما أورد لها من الأدلة الصحيحة، وبطلان الأدلة الضعيفة.
الرابعة: كشف الشُبهات ورد الضلالات من أصول الدين التي دل عليها الكتاب والسنة، وقام بها أئمة الأمة منذ عهد الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ إلى يومنا هذا، فإن القرآن والسنة قد دحضا الشُبه التي أثيرت على الحق زمن الوحي من أهل الباطل، واشتملا على أصول دحض الشُبه ورد الباطل فإن أهل الباطل لهم كتب وعندهم حجج، ولكنها داحضة إذا قوبلت بالحق من أهل الحق المختصين بفقهه وفهمه، ومعرفة ما في خلافه من وجوه البطلان، قال تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾( ).
فدحضُ الشبهات التي تورد على الحق واجب بحسب الطاقة على من عنده أهلية من أهل كل زمان ومكان، وهذه الرسالة المباركة نموذج من جهود أعلام الأمة في تفنيد شبهات أهل الباطل وهداية الأمة للحق لأن ترك الشبهات دون رد يجعل الباطل يلتبس بالحق، وهذا من أسباب خفاء الحق وضلال كثير من الخلق.
الخامسة: إنما سمى الله تعالى ما يدلي به أهل الباطل، من الشُبه ـ معترضين بها ـ على الحق حجة لقوة الشبهة، وذلك لما فيها من الاستدلال بنصوص الحق على الباطل، مع ما يزينون به باطلهم من زخرف القول حتى يكون لبعض شبههم حظ من النظر أي أنها تستحق التوقف عندها والنظر فيها لما فيها من مشابهة الحق ـ لأول وهلة ـ فتدخل العقل، لكنها عند الفحص والتمحيص، وعرضها على النصوص المحكمة، وهدي النبي ، ومنهاج السلف الصالح يتبين أنها بهرج وخداع، وأنها حجج داحضة أمام أنوار الشرع.
السادسة: قد يكون الباعث من إثارة الشبهة:
(أ) تشويه الحق والصد عنه، والتنفير من أهله، وتزيين صور من الشرك وأمور من الباطل.
(ب) وقد يكون الباعث على إثارة الشبهة سوء الفهم للنصوص أو إشكال طرأ على من ينتسب إلى العلم فظنّ أنه محق فيما أداه إليه اجتهاده، وهو مخطئ موافق لبعض أهل الضلال من غير قصد منه.
السابعة: الشبهات:
أ- منها ما هو قديم ومردود عليه في القرآن والسنة وكلام السلف الصالح، كشُبه المشركين في التعلق بالخلق من الملائكة والنبيين والصالحين ودعائهم من دون الله لكن أهل الباطل يتوارثونه ويتفننون في تجديد أساليب عرضه على الناس حتى يظّن أنه جديد، وشبه المنحرفين فـي الصفات، والقدر، ونحوهم من أهل المقالات الباطلة.
ب- ومنها ما هو جديد، ومن إيحاء شياطين الجن والإنس بعضهم لبعض زخرف القول غرورا إذا ظنوا فتور أهل الحق كشُبه الذين يزينون للناس عبادة أهل القبور وبدع الموالد ونحوها.
الثامنة: الواجب على عامة المسلمين والمؤمنين عند ورود شبهات أهل الباطل عليهم أمور:
الأول: إساءة الظن بأهل الباطل والحذر من الإصغاء إلى شبههم إلا من أجل الرد عليهم ـ ممن هو أهل لذلك:
أ- عملاً بقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾( )، و بقولـه : (( إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ـ يعنى القرآن ـ فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم )).
ب- وقول بعض السلف: لا تصغي إلى ذي هوى بإذنيك فإنك لا تدري ما يلقي عليك.
ج ـ وحتى لا يلبسوا عليهم دينهم.
د- ولأن بعض أهل العلم عد من أنواع الصبر المأمور به شرعاً: الصبر عن الأهواء المضلة فلا يصغي إلى دعاتها.
2- أن يقول المرء فيما يورد عليه من النصوص المحكمة من القرآن والسنة التي يشبه بها أهل الباطل ﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾( ) فإن القرآن والسنة حق لكن استدلالك بهما على ما تورد من الباطل لا أفهمه ـ أي لا أدري وجه دلالته ـ فالدليل عندي حقٌّ محكمٌ بَيِّنٌ ـ أي إن القرآن والسنة حق ـ لا يُرد ولا يُدفع، واستدلالك أيها المبطل بها على ما تريد شبهة لا أفهمها، فلا أترك المحكم من أجل المتشابه حتى لا أتشبه بأهل الزيغ المذمومين في القــرآن فـي قــولـه تعالى ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ﴾( ).
الثالث: الرجوع إلى أهـل العلم لمعرفــــة الحق فيمــــــا شبه به أهل الباطل ووجوه رد الشبهة على من جاء بها.
التاسعة: تنوعت الآيات المحكمات (( في التوحيد )) والتي ترد شبه أهل الباطل:
النوع الأول: آياتٌ بيَّنت إقرار المشركين بتوحيد الربوبية وجنس توحيد الأسماء والصفات ومع ذلك حكمت بكفرهم وشركهم وضلالهم إذ لم يفردوا الله تعالى بالإلهية ويخلصوا له العبادة.
النوع الثاني: آيات فيها بيان أن مقصد المشركين من اتخاذ الشفعاء والأنداد التقريب والشفاعة وأن هذا هو الذي جعلهم مشركين كافرين مستوجبين للقتال والعذاب، فدلّت على أن حسن القصد، أو حسن الظن بالصالحين لا يبرر الشرك أو البدعة.
النوع الثالث: آيات فيها التصريح بأن المشركين عبدوا آلهة متنوعة من الملائكة والصالحين، ومن الطواغيت والشياطين ومن القبور والتماثيل، ومن الأشجار والأحجار فاتفقوا على الشرك وتنوعت شركاؤهم وباؤا بالخسران وتأهلوا للخلود في النيران.
النوع الرابع: آيات فيها ذكر أن الصالحين الذين اتخذهم المشركون أنداداً من الملائكة والأنبياء والصالحين غافلون عن عبادتهم وسيتبرؤن من عابديهم يوم القيامة ويكفرون بعبادتهم فتنقلب عبادتهم لهم في الدنيا حسرة وعذاباً يوم القيامة.
النوع الخامس: آيات فيها نفي الشركاء والأولاد والأولياء والشفعاء عن الله تعالى وأن من زعم له سبحانه شيئاً من ذلك ما قدره حق قدره.
فهذه آيات محكمات، هي أصول في بيان حقيقة التوحيد، وعظيم ثوابه، والتنبيه على أنواع الشرك، وشؤمه، وسوء عقابه، ورد الشبهة التي يستدل بها للباطل على من جاء بها كائناً من كان.
العاشرة: من فن الرد على الشبه:
الأول: معرفة حقيقة الشبهة ومقصود المستدل بها منها.
الثاني: معرفة هل الشبهة قديمة أو جديدة أو مزيج بينهما حتى يُحدد أسلوب الرد، ويستفاد من ردود السابقين على مثلها.
الثالث: التفريق بين الدليل الصحيح والاستدلال الباطل.
الرابع: البداءة بالرد الإجمالي على الشبهة بعمومها، ثم الرد المفصل، على كل جملة منها بخصوصها.
الخامس: تقديم المتفق عليه على المختلف فيه، ـ لإلزام الخصم ـ ثم تقديم ما هو أقل اختلافاً على ما هو أكثر اختلافاً.
الحادية عشرة: هذه الرسالة اشتملت على جملة الشُبه التي يوردها أعداء توحيد الأنبياء والمرسلين، لتبرير الشرك والتعلق بأهل القبور وإظهار ذلك للناس في قالب حب الصالحين وتعظيمهم وحسن الظن بهم وقد رد الشيخ ــ رحمه الله تعالى ـ على كل شبهة رداً سديداً شافياً مجلياً للحق مزهقاً للباطل فجزاه الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء وأورثه الفردوس الأعلى فقد جلى التوحيد، وفنَّد شبهات أهل الشرك والتنديد وعلّم من بعده شيئاً من أفانين الرد على المبطلين، وأحيا سنة السلف الصالحين.
الثانية عشرة: لا يفهم هذه الرسالة حق الفهم إلا من أتم دراسة القواعد الأربع وثلاثة الأصول وكتاب التوحيد، (( على أهل العلم )) مع كمال العناية والفهم.
الثالثة عشرة: مقدمة الرسالة اشتملت على أمور:
1- بيان حال المشركين من أقوام الرسل، ومن أهل الديانات الأخرى.
2- بيان معنى التوحيد الذي هو حق الله على العبيد وقد جهله أكثر المكلفين.
3- بيان أن أكثر الناس مخالفون للتوحيد، معرضون عنه، جهال به..
وهؤلاء المقدمات تفيد ـ المسلم المتبصر ـ الفرح بالتوحيد، والخوف من ضده، وفيها تهيئة للطالب لتلقي ما سيورد عليه من شبهات تلقياً عقلياً حذراً، حتى لا يتأثر بالشبهة مهما عظمت وزخرفت.
اعلم( ) رحمك الله( ).......................................................................
أن التوحيــد( ) هو إفراد الله بالعبـــادة، وهو ديـن الرسل( ) الذي أرسلهم الله به إلى عباده، فأولهم نوح عليه السلام( )، أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر.
وآخر( ) الرســـل محمد ،...............................
وهو الذي كسر( ) صور هؤلاء الصالحين، أرسله الله إلى قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون، ويذكرون الله كثيراً، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده، مثل الملائكة وعيسى ومريم، وأناس غيرهم من الصالحين( ) فبعث الله محمداً يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم عليه السلام، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق لله، لا يصلح منه شيء لغير الله لا لملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما. وإلا فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحي إلا هو، ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السموات ومن فيهن، والأرضين السبع ومن فيها كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره، فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء الذين قاتلهم رسول يشهدون بهذا، فاقرأ قولـه تعالـى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ ( ).
وقولـه: ﴿قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾ ( ).
فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا، ولم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا (( الاعتقاد ))( ) كما كانوا يدعون الله ليلاً ونهاراً ثم منهم من يدعوا الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله، ليشفعوا له أو يدعوا رجلاً صالحاً مثل اللات، أو نبياً مثل عيسى، وعرفت أن رسول الله قاتلهم على هذا الشرك ودعاهم إلى إخلاص العبادة، كما قال تعالى: ﴿وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا﴾ ( )، وكمـــا قال تعالى: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ﴾ ( )، وتحققتَ أن رسول الله قاتلهم ليكون الدعاء كله لله، والنذر كله لله والذبح كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع العبادات كلها لله، وعرفتَ أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء يريدون شفاعتهم، والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم ؛ عرفتَ حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون( )، وهذا التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله. فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكاً، أو نبياً، أو ولياً، أو شجرة، أو قبراً، أو جنياً لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر، فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قدمت لك، وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد( )، فأتاهم النبي يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي (( لا إله إلا الله )) والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها، والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق به، والكفر بما يعبد من دون الله البـــراءة منه، فإنه لما قـــال لهم: قولـــوا لا إله إلا الله، قالــــوا: ﴿أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ* .....﴾ الآية( ).
فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك، فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب بشيء من المعاني، والحاذق منهم يظــــن أن معناهــــا لا يخلق ولا يرزق إلا الله، فلا خير في رجـــل جهال
الكفار أعلم منه بمعنى (( لا إله إلا الله )).
إذا عرفتَ ما ذكرتَ لك معرفة قلب، وعرفتَ الشرك( ) بالله الذي قال الله فيه: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾الآية وعرفت دين الله الذي أرسل به الرسل من أولهم إلى أخرهم الذي لا يقبل الله من أحد سواه وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا( )، أفادك فائدتين:
الأولى: الفرح بفضل الله( ) ورحمته كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ ( ).
وأفادك أيضاً الخوف العظيم.
فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله تعالى كما ظن المشركون، خصوصاً إن ألهمك الله ما قصّ عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم أنهم أتوه قائلين: ﴿كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ ( ) الآية فحينئذ حرصك يعظم وخوفك على ما يخلصك من هذا وأمثاله( ).
واعلم أن الله سبحانه من حكمته لم يبعث نبياً بهذا التوحيد إلا جعل له
أعداء( )، كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا﴾ )، وقد يكون لأعداء التوحيد علومٌ كثيرة وكتب وحُجـج كما قال تعالـــى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ العِلْمِ﴾ ( ).
إذا عرفتَ ذلك، وعرفتَ أنَّ الطريق إلى الله لابد لـه من أعداء قاعدين عليه( ) أهلُ فصاحةٍ وعلمٍ وحُجَج، فالواجب عليك أن تتعلم من دين الله ما يصير سلاحاُ لك تقاتل به هؤلاء الشياطين( ) الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ ( ) ولكن إذا أقبلت على الله، وأصغيت إلى حججه وبيناته، فلا تخف ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ ( ). والعامي من الموحدين يغلب ألفاً من علماء هــــؤلاء المشركين( )، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ﴾ ( ) فجنـد الله هم الغالبون بالحجـة واللسـان، كما هم الغالبون بالسيف والسِّنان، وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح، وقد مَنَّ الله تعالى علينا بكتابه الذي جعله ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ ( ) فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها( )، كما قال تعالى: ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾( ) يقول بعض المفسرين: هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة.
وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله في كتــابه جواباً لكلام احتج به المشركون
في زماننا علينا فنقول: جواب أهل الباطل من طريقين: مجملٌ، ومفصلٌ.
أما المجمل: فهو الأمر العظيم، والفائدة الكبيرة لمن عقلها، وذلك قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ﴾ ( ) الآية.
وقد صح عن رسول الله أنه قال: (( إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ))( ).
مثال ذلك: إذا قال لك بعض المشركين: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ( )، وأن الشفاعة حق، وأن الأنبياء لهم جاه عند الله، أو ذكر كلاماً للنبي يستدل به على شيء من باطله، وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره.
فجاوبه بقولك: إن الله ذكر أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتبعون المتشابه، وما ذكرته لك من الله ذكر، أن المشركين يقرون بالربوبية،وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأوليـــاء، مع قولهــم: ﴿هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهَِ﴾ ( ) هذا أمر محكم بين لا يقدر أحد أن يغير معناه، وما ذكر لي أيها المشرك من القرآن أو كلام النبي لا أعِّرف معناه، لكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض، وأن كلام النبي لا يخالف كلام الله، وهذا جواب سديد، ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى، فلا تستهون به، فإنه كما قال تعالـى: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ ( ).
وأما الجواب المفصل: فإن أعداء توحيد الأنبياء والمرسلين لهم اعتراضات كثيرة، يصدون بها الناس عنه، منها قولهم: نحن لا نشرك بالله، بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فضلاً عن عبد القادر أو غيره، ولكن أنا مذنب، والصالحون لهم جاه عند الله، وأطلب من الله بهم( ).
فجاوبه: بما تقدم، وهو أن الذين قاتلهم رسول الله مقرون بما ذكرت ومقرون أن أوثانهم لا تدبر شيئاً وإنما أرادوا الجاه والشفاعة، واقرأ عليه ما ذكر الله في كتابه ووضحه.
فإن قال: هؤلاء الآيات نزلت في من يعبـــد الأصنام( )، كيف تجعلـون
الصالحين أصناماً، أم كيف تجعلون الأنبياء أصناماً؟.
فجاوبه: بما تقدم فإنه إذا أقرّ أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله، وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة، ولكن أراد أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكره فاذكر لـه أن الكفار، منهم من يدعو الصالحين والأصنام، ومنهم من يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ....﴾ ( ) الآية، ويدعون عيسى بن مريم وأمه، وقد قال الله تعالى: ﴿مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ ( )، واذكر لـه قولـه تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾ ( ) وقولـه تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ﴾( ).
فقل لـه: عرفت أن الله كفََر من قصد الأصنام، وكفّر أيضاً من قصد الصالحين، وقاتلهم رسول الله ، ولم يفرق بينهم.
فإن قال: الكفار يريدون منهم وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار المدبر لا أريد إلا منه، والصالحون ليس لهم من الأمر شيء، ولكن أقصدهم أرجو من الله شفاعتهم( ).
فالجواب: أن هذا قول الكفار سواء بسواء، فاقرأ عليه قولـه تعالــى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى﴾ )، وقوله تعالى: ﴿ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهَِ﴾ ( ).
واعلم أن هــذه الشبه الثلاث( ) هي أكبر ما عنـــدهم، فإذا عرفتَ أن الله
وضحها في كتابه، وفهمتها جيداً فما بعدها أيسر منها.
فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله، وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة( ).
فقل لـه: أنت تقرَّ أن الله افترض عليك إخلاص العبادة لله وحده، وهو حقه عليك.
فإذا قال: نعم.
فقل لـه: بَيِّن لي هذا الذي فرضه الله عليك، فإنه لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبيّنها له بقولك: قال الله تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾ ( ) الآية. فإذا أعلمته بهذا.
فقل له: هل علمت هذا عبادة لله؟.
فلابد أن يقول: نعم والدعاء مخ العبادة.
فقل لـه: إذا أقررت أنه عبادة لله ودعوت الله ليلاً ونهاراً خوفاً وطمعاً ثم دعوت في تلك الحاجة نبياً أو غيره هل أشركت في عبادة الله غيره.
فلا بد أن يقول: نعم.
فقل له: إذا عملت بقول الله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ ( ) وأطعت
الله ونحرت له، هل هذا عبادة؟.
فلا بد أن يقول: نعم.
فقل له: إذا نحرت لمخلوق نبي أو جني أو غيرهما، هل أشركت في هذه العبادة غير الله؟.
فلا بد أن يقر ويقول: نعم.
فقل لـه أيضاً: المشركون الذين نزل فيهم القرآن هل كانوا يعبدون الملائكة والصالحين واللات وغير ذلك؟.
فلا بد أن يقول: نعم.
فقل له: وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك؟ وإلا فهم مقرون أنهم عبيد الله تحت قهره وأن الله هو الذي يدبر الأمر ولكن دعوهم والتجئوا إليهم للجاه والشفاعة، وهذا ظاهر جداً.
فإن قال: أتنكر شفاعة رسول الله وتبرأ منها( )؟.
فقل: لا أنكرها ولا أتبرأ منها، بل هو الشافع المشفع، وأرجو شفاعته، لكن الشفاعة كلها لله، كما قال تعالى: ﴿قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾ ( ) ولا تكون إلا من بعد إذن الله، كما قال عز وجل: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ ( )، ولا يشفع في أحد إلا من بعـــد أن يأذن الله فيه كما قــال عز وجل: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ ( ) وهو لا يرضى إلا التوحيد، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ ( ) الآية، فإذا كانت الشفاعة كلها لله، ولا تكون إلا من بعد إذنه، ولا يشفع النبي ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد، تبين لك أن الشفاعة كلها لله، وأطُلبها منه، فأقول: اللهم لا تحرمني شفاعته، الله شفعه فيّ، وأمثال هذا.
فإن قال: النبي أُعطي الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله.
فالجواب: أن الله أعطاه الشفـــاعة ونهاك عن هـــذا فقال تعالـى: ﴿فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا﴾ ( )، فإذا كنت تدعو الله أن يشفع فيك فأطعه في قوله: ﴿فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا﴾ أيضاً فإن الشفــــاعة أعطيهـا غير النبي ، فصح
أن الملائكة يشفعون، والأفراط ويشفعون، والأولياء يشفعون.
أتقول: إن الله أعطاهم الشفاعة وأطلبها منهم؟
فإن قلت هذا ؛ رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكر الله في كتابه.
وإن قلت: لا، بطل قولك أعطاه الله الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله.
فإن قال: أنا لا أشرك بالله شيئاً، حاشا وكلا، ولكن الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك( ).
فقل له: إذا كنت تقر أن الله عز وجل حرم الشرك أعظم من تحريم الزنا، وتقر أن الله لا يغفره؟ فما هذا الأمر الذي حرمه الله، وذكر أنه لا يغفره، فإنه لا يدري.
فقل له: كيف تبرئ نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه، أم كيف يحـرم الله عليك هذا ويذكر أنه لا يغفره، ولا تسأل عنه ولا تعرفه؟ أتظن أن الله يحرمه ولا يبيِّنه لنا؟.
فإن قال: الشرك عبادة الأصنام، ونحن لا نعبد الأصنام( ).
فقل لـه: وما معـــنى عبادة الأصنـــام ؟ أتظن أنهـــم يعتقـــدون أن تلـــك
الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها؟ فهذا يكذبه القرآن كما في قولـه تعالى ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾ ( ).
وإن قال: هو من قصد خشبة أو حجراً أو بنية على قبر أو غيره يدعون ذلك، ويذبحون له ويقولون: إنه يقربنا إلى الله زلفى ويدفع عنا ببركته، أو يعطينا ببركته.
فقل: صدقت، وهذا هو فعلكم عند الأحجار والبنايات التي على القبور وغيرها، فإن أقر أن فعلهم هذا هو عبادة الأصنام، فهو المطلوب.
ويقال لـه أيضاً: قولك: الشرك عبـادة الأصنام، هل مرادك أن الشـرك مخصوص بهذا، وأن الاعتماد على الصالحين ودعاءهم لا يدخل في هذا؟ فهذا يرده ما ذكر الله في كتابه من كفر من تعلق على الملائكة وعيسى والصالحين.
فلا بد يقر لك أن من أشرك في عبادة الله أحداً من الصالحين، فهذا هو الشرك المذكور في القرآن، وهذا هو المطلوب.
وسر المسألة أنه إذا قال: أنا لا أشرك بالله.
فقل له: وما الشرك بالله، فسره لي؟.
فإن قال: هو عبادة الأصنام.
فقل: وما معنى عبادة الأصنام، فسِّرها لي؟.
فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله وحده.
فقل: ما معنى عبادة الله وحده، فسّرها لي؟.
فإن فسرها بما بينه القرآن فهو المطلوب، وإن لم يعرفه فكيف يدَّعي شيئاً وهو لا يعرفه؟ وإن فسر ذلك بغير معناه بينت له الآيات الواضحات في معنى الشرك بالله وعبادة الأوثان وأنه الذي يفعلونه في هذا الزمان بعينه( ) وأن عبادة الله وحده لا شريك لــه هي التي ينكرون علينا ويصيحـــون كما صـاح
إخوانهم حيث قالوا: ﴿أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ ( ).
فإذا عرفتَ أن هذا الذي يسميـــه المشــركون في زمانــنا هذا (الاعتقاد) هو الشرك الذي نزل فيه القرآن، وقاتل رسول الله الناس عليه، فاعلم أن شرك الأوليين أخف من شرك أهل زماننا بأمرين:
أحدهما: أن الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله إلا في الرخاء، وأما في الشدة فيخلصون لله الدين، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا﴾ ( )، وقولـه: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾ ( )، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ﴾ إلى قولـه: ﴿قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ﴾ ( )، وقولـه: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾( ).
فمن فَهِم هذه المسألة التي وضحها الله في كتابه وهي أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله يدعون الله تعالى ويدعون غيره في الرخاء، أما في الضر والشدة فلا يدعون إلا الله وحده لا شريك له، وينسون ساداتهم فإذا تبين لك الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأولين، لكن أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهماً راسخاً، والله المستعان.
والأمر الثاني: أن الأولين يدعون مع الله أناساً مقربين عند الله إما أنبياء وإما أولياء وإما ملائكة، أو يدعون أشجاراً وأحجاراً مطيعة لله ليست عاصية، وأهل زماننا يدعون مع الله أناساً من أفسق الناس والذين يدعونهم هم الذين يحكوا عنهم الفجور من الزنا والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك، والذي يعتقد في الصالح والذي لا يعصي مثل الخشب والحجر أهون ممن يعتقد في من يشاهد فسقه وفساده ويشهد به.
إذا تحققت أن الذين قاتلهم رسول الله أصح عقولاً وأخف شركاً من هؤلاء( ) فاعلم أن لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا وهي من أعظم شبههم، فاصغ سمعك لجوابها، وهي أنهم يقولون: إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله ويكذبون الرسول وينكرون البعث ويكذبون القرآن ويجعلونه سحراً، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ونصدق القرآن ونؤمن بالبعث ونصلى ونصوم فكيف تجعلوننا مثل أولئك( ).
الجواب: إنه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجـــل إذا صدَّق رســـول الله في شيء وكذبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام، وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه كمن أقرّ بالتوحيد وجحد وجوب الصلاة أو أقر بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة أو أقرّ بهذا كله وجحد الصوم أو أقر بهذا كله وجحد الحج، ولما لم ينقد أناس في زمن النبي للحج أنزل الله في حقهم ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ﴾ )، ومن أقر بهذا كله وجحد البعث كفر بالإجماع وحل دمه وماله كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾ ( )، فإذا كان الله قد صرح في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقاً، زالت هذه الشبهة، وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الأحساء في كتابه
الذي أرسله إلينا.
ويقال أيضاً: إذا كنت تقرُّ أن من صدق الرسول في كل شيء وجحد وجوب الصلاة أنه كافر حلال الدم والمال بالإجماع، وكذلك إذا أقرّ بكل شيء إلا البعث، وكذلك إذا جحد وجوب صوم رمضان وصدّق بذلك لا تختلف المذاهب فيه، وقد نطق به القرآن كما قدمنا، فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي ، هو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج فكيف إذا جحد الإنسان شيئاً من هذه الأمور كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول ؟ وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفّر؟ سبحان الله ما أعجب هذا الجهل.
ويقال أيضاً: هؤلاء أصحاب رسول الله قاتلوا بني حنيفة وقد أسلمـــوا مع النبي وهم يشهـــدون أن لا إله إلا الله وأن محمــداً رسول الله ويؤذنون ويصلون.
فإن قال: إنهم يقولون إن مسيلمة نبي.
فقل: هذا هو المطلوب، إذا كان من رفع رجلاً إلى رتبة النبي ، كفر وحُلَّ مالُه ودمُه، ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة، فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف أو صحابياً أو نبياً إلى مرتبة جبار السموات والأرض؟
سبحان الله.. ما أعظم شأنه ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ( ).
ويقال أيضاً: الذين حرَّقهم علي بن أبي طالب وتعلموا العمل من الصحابة ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟
أتظنون أن الصحابة يكفِّــــرون المسلمين؟.
أم تظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر والاعتقاد في علي بن أبي طالب يكفّر؟.
ويقال أيضاً: بنو عبيد القدّاح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمن بني العباس، كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويدّعون الإسلام ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه، أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين.
ويقال أيضاً: إذا كان الأولون لم يكفروا، إلا أنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول والقرآن وإنكار البعث وغير ذلك، فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب: باب حكم المرتد، وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعاً كثيرة كل نوع منها يكفّر ويحل دم الرجل وماله، حتى أنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها، مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب.
ويقال أيضاً: الذين قال الله فيهم: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ﴾ [التوبة: 74] ،أما سمعت أن الله كفرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله ويجاهدون معه ويصلون، ويزكون ويحجون ويوحدون، وكذلك الذين قال الله فيهم: ﴿قُلْ أَبِاللهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة: 265-266] فهؤلاء الذين صرّح الله أنهم كفروا بعد إيمانهم وهم مع رسول الله في غزوة تبوك، قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح فتأمل هذه الشبهة، وهي قولهم: تكفّرون المسلمين أناساً يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون ويصومون، ثم تأمل جوابها فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق.
ومن الدليل على ذلك أيضاً ما حكى الله عن بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم أنهم قالوا لموسى: ﴿أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾ وقول أناس من الصحابة: (اجعل لنا ذات أنواط) فحلف النبي أن هذا نظير قول بني إسرائيل اجعل لنا إلهاً.
ولكن للمشركين شبهة يدلون بها عند هذه القصة، وهي أنهم يقولون: أن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك، وكذلك الذين قالوا للنبي اجعل لنا ذات أنواط لم يكفروا.
فالجواب: أن تقول إن بني إسرائيل لم يفعلوا، وكذلك الذين سألوا النبي لم يفعلوا، ولا خلاف في أن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك ولو فعلوا ذلك لكفروا، وكذلك لا خلاف في أن الذين نهاهم النبي لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا.. وهذا هو المطلوب.
ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم ـ بل العالم ـ قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها فتفــــيد التعلــــم والتحرز ومعرفـــة أن قول الجاهل (( التوحيد
فهمناه )) أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان.
وتفيد أيضاً أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري على ذلك فتاب من ساعته أنه لا يكفر كما فعل بنو إسرائيل والذين سألوا النبي وتفيد أيضاً أنه لو لم يكفر فإنه يغلظ عليه الكلام تغليظاً شديداً كما فعل الرسول .
وللمشركين شبهة أخرى، يقولون: إن النبي أنكر على أسامة قتل من قال: (( لا إله إلا الله ))( ). قال لـه: أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله وكذلك قولـه: (( أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله )) وأحاديث أخرى في الكف عمن قالها، ومراد هؤلاء الجهلة أن من قالها لا يكّفر، ولا يقتل ولو فعل ما فعل( ).
فيُقال لهؤلاء المشركين الجُهّال: معلومٌ أن رسول الله قاتل اليهود وسباهم وهم يقولون لا إله إلا الله، وأن أصحاب رسول الله قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلون ويدّعون الإسلام، وكذلك الذين حرَّقهم علي بن أبي طالب بالنار، وهؤلاء الجهلة يقولون أن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال لا إله إلا الله، وأما من جحد شيئاً من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها، فكيف لا تنفعه إذا جحد فرعاً من الفروع، وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أساس دين الرسل ورأسه؟.
ولكن أعداء توحيد الأنبياء والمرسلين ما فهموا معنى الأحاديث، فأما حديث أسامة فإنه قتل رجلاً ادعى الإسلام بسبب أنه ظنّ أنه ما ادعى الإسلام إلا خوفاً على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك، وأنزل الله تعالى في ذلك ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ [النساء: 94] أي: فتثبتوا، فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت، فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل لقولـه تعالى: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبت معنى.
وكذلك الحديث الآخر وأمثاله معناه ما ذكرناه أن من أظهر التوحيد والإسلام وجب الكف عنه إلا أن يتبين منه ما يناقض ذلك والدليل على هذا أن رسول الله هو الذي قال: (( أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله )) وقال: (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله )) هو الذي قال في الخـــوارج: (( أينما لقيتموهم فاقتلوهم، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد )) مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلاً وتسبيحاً، حتى أن الصحابة يحقرون أنفسهم عندهم، وهم تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم لا إله إلا الله، ولا كثرة العبادة، ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة، وكذلك ما ذكرناه من قتال اليهود، وقتال الصحابة بني حنيفة، وكذلك أراد النبي أن يغزو بني المصطلق لما أخبره رجل أنهم منعوا الزكاة حتى أنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ وكان الرجل كاذباً عليهم، وكل هذا يدل على أن مراد النبي في الأحاديث التي احتجوا بها ما ذكرناه.
ولهم شبهة أخرى: وهي ما ذكره النبي أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، ثم نوح، ثم بإبراهيم، ثم موسى، ثم بعيسى فكلهم يعتذر حتى ينتهوا إلى رسول الله .
قالوا: فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركاً( ).
والجواب أن نقول: سبحان من طبع على قلوب أعدائه فإن الاستغاثة بالمخلوق فيمـــا يقدر عليه لا ننكرها، كما قال الله تعالـــى في قصة موسى: ( )، وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب أو غيره في أشياء يقدر عليها المخلوق، ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله، إذا ثبت ذلك فاستغاثتهم بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف وهذا جائز في الدنيا والآخرة، وذلك أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك ويسمع كلامك فتقول لـه: ادع الله لي، كما كان أصحاب رسول الله يسألونه ذلك في حياته، وأما بعد موته فحاشا وكلا أنهم سألوا ذلك عند قبره، بل أنكر السلف الصالح على من قصد دعاء الله عند قبره فكيف بدعائه نفسه؟.
ولهم شبهة أخرى وهي: قصة إبراهيم ــ عليه السلام ــ لما أُلقــي في النــار
اعترض له جبريل في الهواء فقال: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم( ): أما إليك فلا.
قالوا: فلو كانت الاستغاثة بجبريل شركاً لم يعرضها على إبراهيم؟.
فالجواب: أن هذا من جنس الشبهة الأولى، فإن جبريل عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدر عليه، فإنه كما قال الله تعالى فيه: ﴿شَدِيدُ القُوَى﴾ ( )، فلو أذن الله لـه أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها من الأرض والجبال ويلقيها في المشرق أو المغرب لفعل، ولو أمره أن يضع إبراهيم في مكان بعيد عنهم لفعل، ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل، وهذا كرجل غني له مال كثير يرى رجلاً محتاجاً فيعرض عليه أن يقرضه، أو أن يهبه شيئاً يقضي به حاجته فيأبى ذلك المحتاج أن يأخذ ويصبر إلى أن يأتيه الله برزق لا منة فيه لأحد فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون.
ولنختم الكلام ـ إن شاء الله تعالى ـ بمسألة عظيمة مهمة تُفهم مما تقدم، ولكن نفرد لها الكلام لعظم شأنها، ولكثرة الغلط فيها فنقول: لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل( ) فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند ككفر فرعون وإبليس وأمثالهما، وهذا يغلط فيه كثير من الناس يقولون: هذا حق ونحن نفهم هذا، ونشهد أنه الحق، لكنا لا نقدر أن نفعله ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم، وغير ذلك من الأعذار. ولم يدرِ المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق، ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار كما قال تعالى: ﴿اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ ( )، وغير ذلك من الآيات كقوله: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ ( ).
فإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهراً وهو لا يفهمه، ولاً يعتقده بقلبه فهو منافق، وهو شر من الكافر الخالص لقولـه تعالى: ﴿إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ ( )، وهذه المسألة كبيرة وطويلة تبين لك إذا تأملتها في ألسنة الناس ترى من يعرف الحق ويترك العمل به لخوف نقص دنيا، أو جاه، أو مداراة لأحد، وترى من يعمل ظاهرا لا باطناً فإذا سألته عما يعتقد بقلبه فإذا هو لا يعرفه ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله: أولاهما قوله تعالى: ﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾.
فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب تبيَّن لك أن الذي يتكلم بالكفر، أو يعمل به خوفاً من نقص مال، أو جاه، أو مداراة لأحد أعظم ممن يتكلم بكلمة يمزح بها.
والآية الثانية قولـه تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآَخِرَةِ﴾ ( )، فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئن بالإيمان، وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه سواء فعله خوفاً، أو مداراة، أو مشحة بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله، أو فعله على وجه المزح أو لغير ذلك من الأغراض إلا المكره.
فالآية تدل على هذا من وجهين:
الأولى: قولـه: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ﴾( ) فلم يستثن الله تعالى إلا المكره، ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكــلام أو الفعل وأما عقيدة القلب فلا
يكره عليها أحد.
الثانية: قولـه تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآَخِرَةِ﴾ فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد، أو الجهل، أو البغض للدين، أو محبة الكفر وإنما سببه أن له في ذلك حظاً من حظوظ الدنيا فآثره على الدين. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
المؤلف الفقير إلى عفو ربه
عبدالله بن صالح القصير
فـي 19/6/1423هـ