شرح العقيدة الطحاوية
تأليف : خالد بن عبد الله المصلح
نبذة مختصرة
العقيدة الطحاوية : متن مختصر صنفه العالم المحدِّث: أبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي، المتوفى سنة 321هـ، وهي عقيدةٌ موافقة في جُلِّ مباحثها لما يعتقده أهل الحديث والأثر، أهل السنة والجماعة، وقد ذَكَرَ عددٌ من أهل العلم أنَّ أتْبَاعَ أئمة المذاهب الأربعة ارتضوها؛ وذلك لأنها اشتملت على أصول الاعتقاد المُتَّفَقِ عليه بين أهل العلم، وذلك في الإجمال لأنَّ ثَمَّ مواضع اُنتُقِدَت عليه، وفي هذه الصفحة شرح ألقاه الشيخ خالد المصلح - أثابه الله -.
- 1
DOC 3.7 MB 2019-05-02
- 2
PDF 2.7 MB 2019-05-02
تفاصيل
شرح العقيدة الطحاوية
لفضيلة الشيخ
خالد بن عبدالله المصلح
الدرس الأول
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
وبه نستعين، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
قَالَ الْعَلاَّمَةُ حُجَّةُ الإِسْلامِ أَبُو جَعْفَرٍ الْوَرَّاقُ الطَّحَاوِيُّ -بِمِصْرَ- رَحِمَهُ اللَّهُ:
هٰذا ذِكْرُ بَيَانِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ: أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الأَنْصَارِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- وَمَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَيَدِينُونَ بِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ).
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهٰذا الدرس هو قراءة في كتاب الطحاوية -عقيدة الإمام أبي جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى-.
ولا شك أيها الإخوان أن ما يتعلق بالاعتقاد من الدروس والمؤلفات والبحوث هو من أولى ما ينبغي لطالب العلم أن يهتم به، لا سيما مع كثرة الضلال في هٰذا الباب، واشتباه الحق بالباطل على كثيرٍ من الناس، وليس هٰذا خاصاً بالمبتدئين من طلاب العلم ولا حتى المتوسطين، بل هو عامٌ وقع فيه كثيرٌ من المحقّقين من أهل العلم.
ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يعتنيَ بمسائل الاعتقاد، وأن يحرّر فيها القول، وأن يبني عَقْدَه وما يدين الله به على أرضٍ عزاز، على أرضٍ صُلبة، على حجة وبرهان من الكتاب والسنة.
وهٰذا لا يتأتى إلا بالنظر فيما ذكره الله جل وعلا في كتابه من العقائد، وفيما ذكره رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سنته، وفيما كان عليه سلف الأمة في القرون المفضلة، فإنهم خير القرون، لا سيما ما كان عليه الصحابة، فإنهم أفضل الناس وخير الناس بعد النبي ﷺ.
فينبغي للمؤمن أن يتحرّى ما كانوا عليه، فإنهم على الحق والهدى، تلقوا عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الاعتقاد والعمل، عملوا بما اعتقدوا، كانوا على معينٍ صافٍ، وعلى حجة بينة، وعلى هدى وبرهان، لم يختلط بما اختلط به حال من بعدهم من العقائد المختلفة والأقوال المبتدعة والآراء الناشئة عن عقائد وأقوال فاسدة.
فينبغي لطالب العلم أن يحرر هٰذا القصد، ومن رحمة الله جل وعلا بهٰذه الأمة أن جعل كتابها محفوظاً، وقيّض لسنة النبي e من يميز الحق فيها من الباطل، من يميز الصحيح من المنسوب، من غير الصحيح.
وأيضاً يسّر الله جل وعلا من يدوّن عقائد السلف ويبين أقوالهم وما كانوا عليه، ويبين ضلال الضالين ويردّ على المنحرفين.
ولذلك كانت كتب الردود في العقائد من أوائل ما أُلف في الاعتقاد؛ لأن الناس كانوا على صراط مستقيم، وعلى هدى وحجة وبرهان، لم يلتبس عليهم الحق، ولم يختلط عندهم الأمر، بل كانوا على محجة واضحة بيضاء نقية.
ثم حصل الزيغ والانحراف واحتاج أهل العلم أن يردوا على المنحرفين، فردّ من رد في القرن الأول في الصدر الأول من التابعين، بل رد الصحابة رضي الله عنهم على ما ظهر من البدع في أوقاتهم، كما جرى من ابن عمر وابن عباس: ابن عمر مع القدرية وابن عباس مع الخوارج، وغيرهما من صحابة رسول الله ﷺ.
وهكذا سار على هٰذا المنوال وعلى هٰذا الطريق الأئمة المهديون من بعدهم، الذين تلقوا عنهم وساروا على طريقهم، ردوا البدع ولم يكونوا بحاجة إلى أن يؤلفوا عقائد؛ لأن الناس يستقون عقائدهم من الكتاب والسنة، يتلقون من قال الله قال الرسول ﷺ ليس عندهم في ذلك شك ولا ريب.
فلما حدثت البدع وتنوّعت الطرق، وتكاثرت الأقوال الفاسدة، احتاج العلماء أن يؤلفوا عقائد يميزون فيها صراط أهل السنة والجماعة، طريقَ الفرقة الناجية المنصورة عن غيرها من الطرق.
فكان من أوائل المؤلفات ما ألفه حماد بن أبي سليمان في الفقه الأكبر.
وكذلك ما كتبه أبو حنيفة رحمه الله في كتابه الفقه الأكبر، وهي ورقات معدودة زِيد فيها ما ليس منها.
ثم بعد ذلك نقلت العقيدة عن الإمام أحمد من رواية بعض أصحابه.
ونقل الاعتقاد المشهور عن الإمام الشافعي عن بعض أصحابه.
وهكذا كانت العقائد تنقل عن الأئمة وتُدوّن.
ثم جاء بعد ذلك من العلماء من ألّف وكتب في عقائد السلف في مطولات ومختصرات.
من أوائل من أَلَّف في المختصرات أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في هٰذه العقيدة التي بين أيدينا وسندرسها -إن شاء الله تعالى- وهي عقيدة مشهورة ذائعة الصيت، تكلّم عنها العلماء المتقدمون واعتمدوها ونقلوا عنها، حتى إنهم ينقلون منها فصولاً طويلة ومقاطع طويلة في الاستدلال لعقيدة السلف.
وممن فعل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فإنه ذكر عقيدة الطحاوي، ونقل منها، وكذلك ابن القيم رحمه الله، وغيرهما من أهل العلم.
فالعقائد كانت مؤلفة منذ وقت طويل وعرفتم سبب ذلك، وهو أن الناس حصل عندهم الاشتباه وحدثت الأقوال المنحرفة والآراء المبتدعة في دين الله عز وجل، فاحتاجوا إلى أن يميزوا الحق عن الباطل، احتاجوا أن يبينوا صراط أهل السنة والجماعة عن غيره.
ولا يعني أن هٰذه العقائد ما تضمنته قد حوى جميع عقيدة أهل السنة والجماعة، ولا يعني أيضاً أن هٰذه العقائد اقتصرت فقط على ذكر ما يتعلق بالعقيدة دون غيره من المسائل، بل فيها من مسائل الفقه ما هو معروف مشهور وسيمر علينا بعضه في هٰذه الرسالة.
ومنها ما اقتصر على أبواب من أبواب الاعتقاد وعلى جوانب من العقيدة ركز عليها للحاجة فيما يظهر للكاتب المؤلف إلى البيان والتوضيح في هٰذه الأبواب وهٰذه الجوانب.
عقيدة الطحاوي رحمه الله عقيدةٌ مختصرة، تكلم فيها عن أصول الإيمان وعن ما يتعلق بأكثر أبواب الاعتقاد.
إلا أنه رحمه الله كان في كلامه شيءٌ من التكرار، فإنّ هٰذه العقيدة وقع فيها تكرار في عدة مواضع، كرر فيها كلاماً في مسائل تقدم له تقريرها ولا حاجة إلى إعادة الكلام فيها، ولعل ذلك ناشئٌ عن نظر المؤلف إلى أهمية هٰذه المسائل، وإلى الحاجة إلى تكرارها وتأكيدها.
كذلك مما يلاحظ على هٰذه العقيدة أنها لم تحرر عقيدة أهل السنة والجماعة، عقيدة السلف الصالح فيما يتعلق بباب الإيمان، بل وقع فيها خلطٌ واشتباه فيما يتعلق بالإيمان، حيث إن المؤلف رحمه الله سار على ما كان عليه مُرجئة الفقهاء في قولهم في مسائل الإيمان، وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى ونوضحه.
هٰذه العقيدة شروحها كثيرة في القديم والحديث، فلها من الشروح ما هو على طريق أهل السنة والجماعة، ومنها ما هو على طريق المبتدعة الذين لووا أعناق النصوص وحرّفوا الكتاب والسنة فضلاً عن كلام البشر، فإنهم حرّفوا كلام الطحاوي وحملوه على ما يوافق العقائد المنحرفة من عقائد الأشاعرة والماتريدية وغيرهم من مثبتة الصفات الذين خالفوا أهل السنة والجماعة.
أشهر هٰذه الشروح وأخلصها و أصفاها من الاشتباه ما كتبه ابن أبي العز رحمه الله، حيث إنه كتب شرحاً موسعاً ضمّنه بياناً واضحاً لكثير من مسائل الاعتقاد، وكثير من مواد هٰذا الكتاب ومحتوياته، يعني ومما فيه هو منقول ٌ عن شيخ الإسلام رحمه الله وعن تلميذه ابن القيم، يعرف هٰذا من عرف كلام الشيخين، بل هناك نصوصٌ منقولة –مقاطع طويلة- من كلام الشيخين، ولا ضير في ذلك، فإن المؤلف رحمه الله أراد بيان الكتاب بكلام مبتدأ منه وبكلام مستفادٍ من غيره.
وأيضاً مما تميز به هٰذا الشرح أنه شرح محرر من حيث الاستدلال، فهو مليء بالأدلة النقلية من الكتاب والسنة، التي تقرر ما تضمنته هٰذه العقيدة من مسائل الاعتقاد على اختلاف أبوابها، فهٰذا الشرح من أوفى الشروح ومن أجمعها وأوسعها، إلا أنه في الحقيقة لا يناسب المبتدئين؛ لكثرة التشعبات التي فيه، ولكونه حوى مسائل في الحقيقة هي من فضول المسائل وليست من أصول مسائل الاعتقاد، كمسألة التسلسل على سبيل المثال، وكمسألة أيّهما أفضل الملائكة أم البشر؟ وما أشبه ذلك من المسائل الكلامية، هل الاسم غير المسمى؟ وما أشبه ذلك.
فالكتاب في الجملة كتابٌ جيدٌ من أفضل شروح هٰذه العقيدة المباركة.
في المتأخرين هناك عدد من الشروح وعدد من التعليقات، علق عليها شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله تعليقات مفيدة في كتابه المختصر، وله شرحٌ وتعليق على شرح ابن أبي العز، تعليق مفيد جيد، قرئ عليه شرح الطحاوية وعلق عليه في مواضع عديدة تعليقات مفيدة جيدة لطالب العلم، إلا أن الصوت فيها رديء. وفي الجملة الذي يتقن سماع الشيخ رحمه الله لا يجد إشكالاً في فهم الكلام.
هناك تعليقات للشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في الشرح وفي الاستدراك وفي بيان هٰذه العقيدة، وهو شرح مختصر.
قبل هذين هناك شرح لابن مانع، وهو من علماء هٰذه البلدة، وهو شرح مفيد جيد، قرر فيه عقيدة أهل السنة والجماعة، وبيّن فيه ما في هٰذه العقيدة من العقائد المباركة.
هٰذا أبرز ما لهٰذه العقيدة من شروح المتأخرين.
وهناك شرحٌ جديد للشيخ صالح الفوزان أثابه الله، وهو شرحٌ مفيدٌ مختصر لهٰذه العقيدة، لخص فيه الكلام على جمل هٰذه العقيدة، وهو شرحٌ مفيدٌ مختصر مناسب لطالب العلم المبتدئ.
هٰذه العقيدة بين المؤلف رحمه الله في مقدمته ما الذي يريد تحقيقه وما الذي يريد الكتابة فيه.
قال رحمه الله: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه نستعين). فبدأ الرسالة بما جرى عليه أهل العلم رحمهم الله من البداءة بالبسملة تأسياً بكتاب الله عز وجل، واتباعاً لسنة النبي e، وسيراً على ما جرى عليه عمل أهل العلم رحمهم الله في مؤلفاتهم وكتاباتهم.
والبداءة بالبسملة سنة جارية في الكتاب والسنة وفي عمل أهل العلم قديماً وحديثاً، والبسملة تقدم الكلام عليها، وأنها جملة تامة، جملة اسمية أو فعلية تامة مفيدة، المتعلق فيها إما أن يكون اسماً أو فعلاً مقدراً مؤخراً مناسباً.
قال رحمه الله: (وبه نستعين) بعد أن بدأ باسم الله عز وجل، أعقب ذلك الاستعانة به، والاستعانة بالله جل وعلا من أعظم ما يحصل به الإنسان مقصوده، قال النبي ﷺ: ((ومن يستعن بالله يعنه))([1]). فإن الإنسان إذا استعان بالله عز وجل على تحصيل مطلوبه يسر الله عز وجل له مطالبه، أما إذا اعتمد على نفسه وجهده وكدّه وعمله في تحصيل أموره فإنه لا يوفق إلى تحصيل المطلوب، بل كثيراً ما يفوته غرضه ومقصوده.
فينبغي للمؤمن أن يَكِلَ أمره إلى الله، وقد قال الله جل وعلا في السورة المتكررة التي يقرؤها أهل الإيمان في صلواتهم: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)﴾([2]). فجعل بعد إفراد الله بالعبادة إفراده بالاستعانة، وذلك أنه:
فأول ما يجني عليه اجتهاده
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى
فينبغي للمؤمن ألا يعتز بقوته وحوله، بل لا حول ولا قوة إلا بالله، فيستعين بالله عز وجل على مطلوبه دقيقٍ أو جليلٍ، فإنّ الله جل وعلا إذا لم ييسر لك الأمر لم يتيسر، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو جل وعلا.
فينبغي للمؤمن أن يعلق قلبه بالله عز وجل، مستعيناً في فهم العلم وفي نشره وفي بذله وفي إفادة الناس به، فإنه إذا أعان الله عبده على ذلك وفق إلى خير كثير.
قال رحمه الله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). وهٰذا حمدُ الله جل وعلا.
هٰذه المقدمة هل هي من المؤلف أو من النساخ؟ على كل حال الأصل أنها من كاتب هٰذه العقيدة ومؤلفها، وهو الطحاوي رحمه الله.
بعد البسملة والاستعانة حمد الله، وهو أحق من حُمد جل وعلا، وحمده إثبات الكمال له، فإن الحمد ذكر المحمود بصفات الكمال محبةً وتعظيماً، هٰذا أحسن ما قيل في تعريف الحمد: ذكر المحمود بصفات الكمال محبةً وتعظيماً. ولابد من هذين القيدين الأخيرين: أنه ذكرٌ لصفات المحمود على وجه المحبة والتعظيم، فإذا لم يكن محبةٌ ولا تعظيمٌ فإنه لا يسمى حمداً.
قال رحمه الله: (قَالَ الْعَلاَّمَةُ حُجَّةُ الإِسْلامِ أَبُو جَعْفَرٍ الْوَرَّاقُ الطَّحَاوِيُّ -بِمِصْرَ-). وهو من علماء القرنين الثالث والرابع الهجري، توفي رحمه الله في سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة (321هـ)، وله مؤلفات مشهورة نافعة في الحديث والفقه، وهو على مذهب الإمام أبي حنيفة، وإن كان في الأصل شافعياً، إلا أنه انتقل إلى مذهب الإمام أبي حنيفة، وسار عليه، وإن لم يكن متمذهباً به بالمعنى الضيق؛ لأنه له اجتهادات خالف فيها الحنفية، وإنما ارتضى سبيلهم وطريقهم في التفقه في الدين.
يقول رحمه الله: (هٰذا ذِكْرُ بَيَانِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ). المشار إليه ما سيأتي تفصيله في هٰذه العقيدة، وقوله رحمه الله: (ذِكْرُ بَيَانِ) المقصود توضيح وتجلية عقيدة أهل السنة والجماعة، (ذِكْرُ بَيَانِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ)، والعقيدة هي ما طوى الإنسان قلبه عليه، وأصلها من العقد والشد؛ لأن الإنسان يعقد على ما يعتقد ويربط قلبه عليه، فالعقيدة هي ما طوى الإنسان قلبه عليه مما يتعلق بالله عز وجل وما يتعلق بأصول الإيمان، هٰذا الذي يبينه الشيخ رحمه الله في هٰذه العقيدة.
وقوله رحمه الله: (أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) ليخرج غيرهم، فـ (أَهْلِ السُّنَّةِ) أخرج به أهل البدعة، و(أَهْلِ الْجَمَاعَة) أخرج به أهل الفرقة.
وهٰذان الوصفان متلازمان، فإنه لا يمكن أن يكون الإنسان من أهل السنة إلا إذا كان من أهل الجماعة، ولا يمكن أن يكون من أهل الجماعة إلا إذا كان من أهل السنة، فهما وصفان متلازمان، وإنما نصوا عليهما- مع أن أحد الوصفين يغني عن الآخر- لأن هذين الوصفين يميزان أهل السنة عن غيرهم، فهما أبرز أوصاف أهل السنة والجماعة.
أبرز صفات هٰذه الفرقة أنهم أهل سنة: فهم بالسنة مستمسكون، وإليها راجعون، وعنها صادرون، لا يعدلون بها شيئاً، ولا يقدمون عليها شيئاً، بل هي الحاكم على أقوالهم وعقائدهم وأعمالهم وآرائهم، فما جاء في السنة أخذوا به، وما ردته السنة ردوه، وما خالف السنة ابتعدوا عنه؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من أحدث في أمرنا هٰذا ما ليس منه فهو رد)).([3])
وأما الجماعة: فهم أهل اجتماع، ليسوا أهل فرقة، وهٰذا وصف لا بد لأهل السنة أن يعتنوا به، فإن الله جل وعلا في كتابه ذم الافتراق والاختلاف، وحث على الائتلاف والاجتماع، نصوص ذلك كثيرة، بل هو من الشرع السابق الذي سار عليه النبيون: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾([4]). ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ﴾ إقامته بالقيام به عقْداً وعملاً، ﴿وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ أي ولا يكن شأنكم فيه شأن المتفرقين، وهٰذا بيان أن الائتلاف والاجتماع هو دين النبيين، ليس خاصّاً بهٰذه الأمة، ولذلك كانوا أهل اجتماع ليسوا أهل افتراق، واجتماعهم ليس على هوى إنما اجتماعهم على الكتاب والسنة، على إقامة الدين الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قال رحمه الله: (عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ: أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) إلى آخر ما قال. قال رحمه الله: (عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ) أي إن هٰذه العقيدة التي ألفها رحمه الله وكتبها مستقاة مستفادة من أقوال فقهاء المِلة، وذكر (فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ) وسبب ذلك أن من ذكرهم تميزوا بالفقه عن غيره من العلوم، فأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن اشتهروا بين أهل العلم في القديم والحديث بالعناية بالفقه والكتابة فيه والتأصيل فيه، ولذلك ذكرهم بأخص ما اتصفوا به، وليس هٰذا أنهم لا يُتقنون إلا الفقه، إنما أراد رحمه الله بيان أخص ما تميزوا به عن غيرهم من العلماء. وقوله: (الْمِلَّةِ) الملة هي الطريقة، والمقصود بالملة هنا ملة النبي ﷺ، وهي ما يدين به صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ما جاء به من ملة إبراهيم.
ومن هٰذا نعلم أن أبرز ما يوصف به الإنسان أن يكون من علماء الملة؛ لأن العلماء ينقسمون إلى ثلاثة أقسام كما قال شيخنا محمد رحمه الله:
· عالم مِلة.
· وعالم أمة.
· وعالم دولة.
الذي ينبغي لطلبة العلم أن يسعوا إلى تحقيقه في أخلاقهم وأعمالهم أن يكونوا من علماء المِلة الذين ينظرون إلى النصوص ويحكّمونها في أقوالهم وعقائدهم وأعمالهم، ويدعون إليها، ويعملون بها.
عالم الأمة هو الذي ينظر إلى ما يشتهيه الناس، وما يحبونه وما يميلون إليه فيفتيهم بما يريدون، وهٰذا مذموم؛ لأنه لا يدل الناس على الخير، إنما يدلهم ويجيبهم بما يحبون وما يشتهون.
مثل هٰذا في السوء عالم الدولة الذي ينظر إلى ما يشتهي أهل السلطة، ويقول بقولهم.
والواجب على أهل الإيمان أن يكونوا من علماء الملة الذين ينظرون إلى قول الله وقول رسوله ولا يقدمون عليهما لا شهوة الأمة ولا شهوة غيرهم، بل يعملون بكتاب الله وسنة رسوله.
ذكر في هٰذه العقيدة ثلاثة علماء هم:
· أبو حنيفة رحمه الله: النعمان بن ثابت الكوفي.
· وأبو يوسف: يعقوب بن إبراهيم الأنصاري.
· وأبو عبد الله: محمد بن الحسن الشيباني.
أما أبو حنيفة فهو الإمام المقدم في هٰذا المذهب والمسلك، وكانت وفاته عام خمسين ومائة (150هـ)، وهو من الفقهاء المحققين، إلا أن بضاعته في الحديث قليلة رحمه الله.
تبعه صاحباه في كثير من أقواله، وخالفاه حتى إنهما اشتهرا وأصبح لهما قولٌ يعدل بقوله، وقد يكون المذهب ما قالاه لا ما قاله أبو حنيفة، وهما أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري وكانت وفاته عام ثلاثة وثمانين ومائة (183هـ)، وأبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني وكانت وفاته سنة تسع وثمانين ومائة (189هـ) رضوان الله عليهم أجمعين.
فهٰذه العقيدة مستفادة من أقوال هؤلاء، وليست العقيدة مذهباً خاصّاً يُعمل به ويفرَّق الناس عليه؛ يعني ليست كالمذاهب الفقهية العملية، إنما العقيدة قولٌ لم تختلف الأمة في أصوله وفي كثير من فروعه وتفاصيله، فهم متفقون عليه، ولذلك لا يقال: هٰذا في العقيدة حنفي، أو هٰذا في العقيدة شافعي، فإن الشافعية والحنفية والحنابلة والمالكية وغيرهم من المذاهب الفقهية إنما هي مذاهب وأقوال في المسائل العملية، وأما مسائل الاعتقاد فإنها مبنية على أي شيء؟ على الكتاب والسنة، لا تفرق فيها، ولا يعني هٰذا أنه لا خلاف بين أهل السنة في مسائل الاعتقاد بالكلية، لا في الأصول ولا في الفروع، لكن الكلام على أن الخلاف محدود، وهو في الفروع لا في الأصول.
ليس بين أهل السنة والجماعة خلافٌ في مسائل الاعتقاد، بخلاف مسائل العمل، فإن فيها خلافاً بيّناً واضحاً.
قال رحمه الله: (وَمَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ). (مَا يَعْتَقِدُونَ) أي ما يدينون وما هي عقيدتهم في أصول الدين، و(أُصُولِ الدِّينِ) المراد بها مسائل الاعتقاد.
وهٰذا التقسيم، منذ زمن بعيد جرى تقسيم الدين إلى أصول وفروع:
الأصول: هي ما يتعلق بالعقائد.
والفروع: هي ما يتعلق بالأعمال.
وإن كان هٰذا التقسيم غير مطّرد؛ لأنه في الحقيقة يجعل ما هو أصل فرعاً، فمثلاً الصلاة أصل: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)).([5]) وعلى هٰذا التفصيل هي من مسائل الفروع، وهٰذا لا شك أنه نزول برتبتها، وهي عمود الدين.
لكن هٰذا التقسيم جرى عليه العلماء، وليس المراد بتقسيم الأصول والفروع التقليل من شأن الفروع، إنما المراد هو بيان ما يتعلق بالاعتقاد مما يتعلق بالعمل، فلما كان غالب ما يتعلق بالعمل هو من الفروع سمي جميع ما يتعلق بالعمل فروعاً.
وإن كان في مسائل الاعتقاد ما هو من الفروع، كمسألة: أيهما أفضل الملائكة أو البشر؟ فإن هٰذا لو مات الإنسان ولم يكن له فيه اعتقاد بين ما ضره ولا نقصه، بل لا يزيد الإيمان ولا ينقص بمعرفة الراجح في مثل هٰذه المسألة.
فالتقسيم إلى أصول وفروع إنما هو لأجل تمييز مسائل الاعتقاد عن مسائل العمل.
قال: (وَيَدِينُونَ بِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ). (يَدِينُونَ) أي يتعبدون، أصلها من: دان يدين، والمراد بذلك أن ما في هٰذه العقيدة مما يتعبد الله جل وعلا به، فقوله: (وَيَدِينُونَ بِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ) أي يتعبدون بها لله سبحانه وتعالى.
ومن هٰذا نفهم أن العقيدة ليست أقوالاً جامدة، كما يقول بعض الناس، إنما هي عقدٌ يتعبد العبد به الله جل وعلا ويدين به ربه سبحانه وتعالى، يتقرب إلى الله بهٰذا الاعتقاد، فالعقيدة مما يتقرب به إلى الله جل وعلا، بل هي من أجلّ ما يتقرب به إلى الله عز وجل؛ لأن العقيدة من أعمال القلوب، ومعلوم أن جنس أعمال القلوب أعظم عند الله عز وجل من جنس أعمال الجوارح، فكانت العناية بالاعتقاد مما ينبغي لطالب العلم أن يهتم به تعبداً وعملاً.
يقول رحمه الله بعد هٰذه المقدمة التي بين فيها منهجه في هٰذه العقيدة المختصرة المباركة، قال رحمه الله: (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ -مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ-). (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ) وتوحيد الله هنا بمعناه العام، الذي يشمل توحيد الإلهية والربوبية والأسماء والصفات؛ لأن هٰذه العقيدة لم تختص فقط ببيان نوع من التوحيد، إنما قرّرت ما يتعلق بتوحيد الربوبية، ما يتعلق بتوحيد الإلهية، ما يتعلق بتوحيد الأسماء والصفات، فهي عقيدة شاملة واسعة تناولت جميع هٰذه الأبواب، فليست خاصة بنوع من أنواع التوحيد.
ككتاب التوحيد مثلاً للإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فإنه في الغالب يقرر توحيد الإلهية.
والواسطية على سبيل المثال الغالب فيها تقرير ما يتعلق بالأسماء والصفات، كذلك الحموية الغالب، بل هي في تقرير توحيد الأسماء والصفات فقط، وهلم جرًّا.
هٰذه العقيدة قررت ما يتعلق بالتوحيد على وجه العموم، والتوحيد في الأصل مأخوذ من وحد يوحد توحيداً، فهو مأخوذ من وحّد، وأصل هٰذا الفعل دائرٌ على معنى الإفراد أي أفرد.
فالتوحيد هو التفريد، أو إفراد الله عز وجل، وبماذا يحصل إفراده؟ إفراده بما يختص به سبحانه وتعالى، في الإلهية وفي الربوبية وفي الأسماء والصفات.
أهم ذلك ما يتعلق بتوحيد الإلهية؛ لأنه الأصل الذي جاءت الرسل بالدعوة إليه، وهو المقصود من النوعين الآخرين: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات.
فإن المقصود من توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الربوبية تقرير الإلهية، ولذلك استدل الله جل وعلا في الكتاب على إلهيته بأسمائه وصفاته، وبمعاني ربوبيته جل وعلا وبما ذكره من معاني الربوبية في كتابه سبحانه وتعالى، وأنه ربُّ كل شيء.
ولا يعني هٰذا أن توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات ليس ذا أهمية، بل إن توحيد الأسماء والصفات مما يزداد به الإيمان ويرسخ، و يتحقق توحيد الإلهية بقدر ما يتحقق في قلب الإنسان من توحيد الأسماء والصفات، فهي متلازمة يبني بعضها على بعض، لكن في بيان ما جاءت الرسل بالدعوة إليه وجرت الخصومة بينهم وبين أقوامهم إنما هو في توحيد الإلهية، وإن كان وقعت مخالفات في توحيد الربوبية ومخالفات في توحيد الإلهية، لكن الخلاف الأساسي والأصلي الذي جرى بين الرسل وأقوامهم هو في توحيد الإلهية.
يقول رحمه الله: (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ -مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ-) أي إن هٰذا الاعتقاد وهٰذا القول ليس من جهدنا ولا من كدّنا ولا من عملنا ولا من جودة أفكارنا وعقولنا، بل هو بتوفيق الله.
وهٰذا فيه تفويض الأمر إلى الله جل وعلا؛ لينفي العبد عن نفسه العجب، فإن الإنسان إذا نظر إلى عمله على أنه كسبه ومن جهده وكده اغتر ووقع في العجب الذي يحبط العمل، لكنه إذا أوكل ذلك إلى فضل الله عز وجل، وأسند ما هو فيه من خير إلى نعمة الله ورحمته كان ذلك من أسباب زيادته في الخير وشكره لهٰذه النعمة وفرحه بها وعمله بها بتوفيق الله.
ثم بين رحمه الله في أول ما ذكره في هٰذه العقيدة المباركة تقرير توحيد الإلهية، بل قرر رحمه الله في هٰذا الإلهية والربوبية والأسماء والصفات، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ). هٰذه أول جملة في هٰذه العقيدة المباركة (إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ). واحدٌ في أسمائه وصفاته، واحدٌ في ربوبيته، واحدٌ في إلهيته، وهٰذا فيه غاية التوحيد في جميع أبوابه وأصنافه، في توحيد الربوبية، وفي توحيد الإلهية، وفي توحيد الأسماء والصفات. (لا شَرِيكَ لَهُ) هٰذا فيه تقرير أنه لا شريك له في إلهيته، ولا في ربوبيته، ولا في أسمائه وصفاته.
ففي هٰذه الجملة إثبات التوحيد بأنواعه الثلاثة، وأن الله جل وعلا لا شريك له في أيٍّ من هٰذه الأنواع الثلاثة.
وحقيقة توحيد الربوبية –اعتقاد أن الله واحد في ربوبيته- أن تعتقد بأنه هو: الخالق، الرازق، المالك، المدبر، المحيي، المميت.
وحقيقة اعتقاد أن الله واحدٌ في صفاته أن تثبت له ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وأنه ليس كمثله شيء في صفاته سبحانه وتعالى.
ومما يتحقق به أن الله واحدٌ في إلهيته أن تفرده سبحانه وتعالى بالعبادة، فلا تشرك معه أحداً: لا ملكاً مقرباً ولا نبيّاً مرسلاً، بل جميع العبادات له وحده دون غيره.
وبهٰذا يتحقق عقد (إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ).
وقد أحسن المؤلف رحمه الله حيث قدّم هٰذه العقيدة بهٰذا الاعتقاد، بهٰذه الجملة التي تضمنت إثبات الكمال بالتوحيد لله سبحانه وتعالى في الإلهية وفي الربوبية وفي الأسماء والصفات.
طيب هل هناك أنواع أخرى من التوحيد تدخل في قوله: (إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ)؟
الجواب: لا، جميع أنواع التوحيد مندرجة في هٰذه الثلاثة.
فمثلاً ما يتكلم عنه ابن القيم رحمه الله من توحيد المحبة، هٰذا من جملة توحيد الإلهية، توحيد القصد والتوكل، هٰذا من جملة توحيد الإلهية والربوبية.
فجميع الأقسام التي تذكر على وجه الانفراد من أنواع التوحيد لا بد وأن تندرج تحت أصل من هٰذه الأصول الثلاثة: إما توحيد الإلهية، أو توحيد الربوبية، أو توحيد الأسماء والصفات.
ولذلك جرى عمل العلماء -رحمهم الله- منذ زمن بعيد على الاقتصار في ذكر أقسام التوحيد على هٰذه الأقسام الثلاثة.
ولا حاجة إلى مزيد تقسيمات؛ لأن كثرة التقسيمات يحصل بها التشويش، ومعلوم أن التقسيم مقصوده في الأصل التسهيل، فإذا أكثرنا التقسيم انفرط العقد، وأصبح للمحبة توحيد، وللخشية توحيد، وللخوف توحيد، وللحكم توحيد، وهلُّم جرًّا، مع أن هٰذه كلها يمكن أن تندرج في الأقسام التي جرى عليها كلام أهل العلم واستقر عليها الأئمة من تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية وتوحيد الأسماء والصفات، ولا حاجة إلى المزيد، بل كل من زاد نقول هٰذا القسم يندرج تحت هٰذا النوع وانتهى الأمر، لا حاجة إلى تشقيق أكثر من هٰذا.
فجميع صور التوحيد وأنواعه تندرج في قوله رحمه الله: (إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ).
والله تعالىٰ أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
¹
الدرس الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
قال رحمه الله تعالى: (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ - مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ -: إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ. وَلا شَيْءَ مِثْلُهُ، وَلا شَيْءَ يُعْجِزُهُ، وَلا إِلَهَ غَيْرُهُ.
قَدِيمٌ بِلا ابْتِدَاءٍ، دَائِمٌ بِلا انْتِهَاءٍ.
لا يَفْنَى وَلا يَبِيدُ. وَلا يَكُونُ إِلاَّ مَا يُرِيدُ.
لا تَبْلُغُهُ الأَوْهَامُ، وَلا تُدْرِكُهُ الأَفْهَامُ.
وَلا يُشْبِهُ الأَنَامَ، حَيٌّ لا يَمُوتُ، قَيُّومٌ لا يَنَامُ. خَالِقٌ بِلا حَاجَةٍ، رَازِقٌ بِلا مُؤْنَةٍ. مُمِيتٌ بِلا مَخَافَةٍ، بَاعِثٌ بِلا مَشَقَّةٍ).
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين.وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فتقدم لنا في أول هٰذه العقيدة ما ذكره المؤلف رحمه الله في افتتاحها من ذكر توحيد الله جل وعلا في قوله: (إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ)، وقلنا إن هٰذا فيه إثبات جميع أنواع التوحيد لله رب العالمين: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات. وبينا كل نوع من هٰذه الأنواع.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (وَلا شَيْءَ مِثْلُهُ). ولا ريب أن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، فإن الله جل وعلا الكامل في صفاته، الذي دلت العقول والنصوص على أنه لا نظير له سبحانه وتعالى:
· لا مثيل له في ربوبيته.
· لا مثيل له في إلهيته.
· لا مثيل له في أسمائه وصفاته.
ولذلك نفى الله جل وعلا النظير والمثيل في كتابه بألفاظ متنوعة فقال سبحانه وتعالى: ﴿ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾،([6]) وهٰذا نفيٌ واضح للمثيل. ومنه قوله تعالى: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً﴾([7]) فنفى عن نفسه السميّ وهو النظير، المثيل. ونفى أيضاً الند فقال: ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾([8]). ونفى أن يدرك بالأمثال فقال سبحانه وتعالى: ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ﴾([9]). ونفى العديل والكفء فقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾.([10])
وكل هٰذا لتقرير هٰذا الأمر الذي أجمع عليه أهل السنة والجماعة، ودلّ عليه الكتاب والسنة والعقل، وهو أن الله جل وعلا لا مثيل له، ومهما طلب العقل المثيل للرب فإنه ينحسر ويقف دون إدراك ذلك، بل هو سبحانه وتعالى الذي لا نظير له ولا كفْء ولا سميّ ولا ند له جل وعلا،وهٰذا ليس خاصاً في أسمائه وصفاته فقط، بل في ربوبيته وفي إلهيته سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ.
فلا مثيل له فيما يتعلق بالربوبية.
ولا مثيل له فيما يتعلق بالأسماء والصفات.
ولا مثيل له فيما يجب له من الحقوق، وهو ما يعرف بتوحيد الإلهية، فلا مثيل له في إلهيته سبحانه وتعالى.
ثم قال رحمه الله: (وَلا شَيْءَ يُعْجِزُهُ). وهٰذا كالجملة السابقة في أن المؤلف رحمه الله ذكر وصف الله عز وجل بالنفي، النفي المتقدم في قوله: (وَلا شَيْءَ مِثْلُهُ) نفيٌ مجمل، قد دلت على مجيئه في صفات الله عز وجل النصوص من الكتاب والسنة.
والنفي المجمل في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله ﷺ ليس نفياً وعدماً محضاً، بل هو نفي لإثبات الكمال للرب سبحانه وتعالى، فإنه إذا قال القائل: ليس كمثله شيء. أو قرأ قول الله تعالى: ﴿ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾([11]) كان ذلك مُفهماً ومُعْلماً أنه سبحانه وتعالى الكامل في صفاته، الذي لا يلحقه نقصٌ بوجه من الوجوه، وكذلك النفي في بعض أنواعه وهو النفي التفصيلي، يفيد إثبات الكمال للرب سبحانه وتعالى.
فالنفي في صفات الله عز وجل يرد على نحوين:
يرد نفياً مجملاً كقوله تعالى: ﴿ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾،([12]) كقوله سبحانه وتعالى: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً﴾،([13]) ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾([14]) وما أشبه ذلك من النفي المجمل.
ويرد النفي عن أوصاف خاصة، وهو ما يسمى بالنفي التفصيلي أو النفي المفصل، وهٰذا النوع من النفي في صفات الله عز وجل في الكتاب والسنة قليل، ولا يرد إلا لفائدة:
إما أن يكون لإثبات كمال الضد، كما هو في قول المؤلف: (وَلا شَيْءَ يُعْجِزُهُ). فإن نفي الإعجاز عن الرب سبحانه وتعالى في مثل هٰذا إنما هو لإثبات كمال قدرة الله جل وعلا، فلما كملت قدرته سبحانه وتعالى نفى جل وعلا النقص في هٰذه القدرة بنفي العجز، فلا يعجزه شيء سبحانه وتعالى.
يأتي النفي مفصلاً في صفات الله عز وجل لنفي ما اعتقده الجاهلون في رب العالمين، ومن ذلك قوله جل وعلا: ﴿وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾،([15]) وكقوله سبحانه وتعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾([16]) فهٰذا إثبات لنفي ما تقدم من كلام اليهود: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾.([17]) فهنا ليس فيه نفي، لكن نفي معنوي، نفي للمعنى السابق ولكنه بصيغة الإثبات.
المراد أن النفي قد يرد في صفات الله عز وجل ويُراد به نفي ما اعتقده الجاهلون في رب العالمين سبحانه وتعالى، وما وصفه به أهل الإلحاد والكفر وأهل الشرك والتنقص لرب العالمين.
النفي يرد في صفات الله عز وجل ويقصد به نفي النقص فيها، يعني إثبات كمال الصفة، مثال هٰذا ما ذكره الله جل وعلا في أعظم آية من كتابه سبحانه وتعالى: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ فأثبت الله سبحانه وتعالى في هٰذه الآية الحياة والقيومية له سبحانه وتعالى، ثم نفى فقال: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ﴾([18]). الغرض من هٰذا النفي هو إثبات كمال الصفة، وأنه لا نقص فيها، أنه لا نقص في صفاته سبحانه وتعالى، فالذي لا تأخذه سنة ولا نوم، إنما اتصف بهٰذا لكمال حياته وكمال قيوميته جل وعلا.
فقول المؤلف رحمه الله: (وَلا شَيْءَ مِثْلُهُ). من أي أنواع النفي: النفي المفصل أو النفي المجمل؟ النفي المجمل؛ لأنه نفي عام، ليس نفياً لصفة خاصة، فنفى المثيل له سبحانه وتعالى.
في قوله: (وَلا شَيْءَ يُعْجِزُهُ) نفي مفصل، وذلك لإثبات كمال قدرته سبحانه وتعالى.
ثم قال رحمه الله تعالى: (وَلا إِلَهَ غَيْرُهُ) معنى الإله: المعبود المألوه، الذي تألهه القلوب محبةً وتعظيماً ورقةً.
والإله في الأصل في أصل كلام العرب اسم جنس لما قُصد بشيء من العبادة، الإله في كلام العرب -في أصله- اسم جنس لما قصد بشيء من العبادة، لكنه غلب على الله جل وعلا لأنه المستحق للعبادة، فما سُمي من الآلهة دون الله سبحانه وتعالى إنما هو تسمية خالية من معناها، فإنه لا إله إلا الله، لا معبود حق إلا هو جل وعلا.
وهٰذه الكلمة هي أصل الإسلام وأساسه، ولا يَقَرُّ الإيمان ولا يستقيم الإسلام ولا يصلح حال أحدٍ إلا بهٰذه الكلمة، فبها صلاح الدنيا والآخرة، هي أول مطلوب وآخر مطلوب:
أول مطلوب، فإنه لا يدخل أحد الدين إلا بلا إله إلا الله: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)).([19])
وآخر مطلوب: ((من كان آخر كلامه من الدنيا لا إلـٰه إلا الله دخل الجنة)). ([20])
فكانت لا إله إلا الله هي أول المطالب وما يخاطب به الناس، وهي آخر ما يندب الناس إليه ويطلب منهم؛ وذلك لعظم هٰذه الكلمة التي من أجلها أوجد الله جل وعلا الجن والإنس، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾([21]). ولا تتحقق العبادة إلا بالإقرار بأنه لا إله إلا الله، لا إله غيره جل وعلا، والاستقامة على هٰذه الكلمة والعمل بمقتضاها. فإن العبادة كلها مشمولة بهٰذه الكلمة داخلةٌ فيها، ولذلك كان شأنها عظيماً، فإذا قالها الإنسان صادقًا من قلبه حرّمه الله على النار وكان من أهل الجنة.
فقول المؤلف رحمه الله: (وَلا إِلَهَ غَيْرُهُ). فيه إثبات إلهية الرب، فيه إثبات توحيد الإلهية له سبحانه وتعالى، معنى هٰذه الكلمة (لا إله إلا الله): لا معبود حقٌ إلا الله، لا معبود حقٌ إلا الله، لماذا احتجنا إلى تقدير (حق)؟ حتى نخرج المعبودات الباطلة، ولو قلنا: لا معبود إلا الله، لوقعنا في إشكال أنه يعبد غير الله، أليس كذلك؟ ألم يعبدوا الشمس والقمر والأصنام والملائكة والأنبياء؟ عُبدوا من دون الله، فهٰذا القيد ضروري لإخراج كل من عُبد من دون الله وهو باطل.
أيضاً لابد من هٰذا القيد؛ لأن الكلام بدون هٰذا القيد يفهم معنىً باطلاً، وهو أن كل ما عبد من دون الله فهو إله حقٌ؛ يعني إذا قال قائل: لا معبود إلا الله، ماذا تفهم؟ تفهم أن كل من توجه إليه العبادة فهو إله ومعبود.
وهٰذا المعنى هو ما كان يقوله أهل وحدة الوجود الذين جعلوا كل شيء معبوداً من دون الله، فالذي يعبد الصنم إنما يعبد الله، والذي يعبد الشمس إنما يعبد الله، والذي يعبد الملائكة إنما يعبد الله، والذي يعبد الكلاب والخنازير إنما يعبد الله.
تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
ومنه قول شاعرهم:
وما الله إلا راهب في كنيسةِ
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا
فجعل كل من يعبد شيئاً من دون الله إنما هو في الحقيقة يعبد الله وهٰذا المعنى باطل.
لكن الذين قالوا: لا إله إلا الله؛ يعني لا معبود إلا الله. ولم يقدّروا بحق، يقيناً أنهم لا يقصدون هٰذا القول، لكن لما كان يترتب على عدم التقدير معنى باطل احتجنا إلى تقدير (حق)، فكلمة (حق) ضرورية لإخراج المعبودات من دون الله، ولنفي ما يعتقده أهل وحدة الوجود من أن كل معبود في الأرض هو الله جل وعلا؛ لأن هؤلاء يعتقدون أن كل شيء تعبده أو كل شيء عبد من دون الله فهو حق، ولا تنكر على عبدة الأصنام، ولا على عبدة الفروج، ولا على عبدة الحيوانات، ولا على عبدة الأحجار؛ لأن هؤلاء إنما يعبدون الله عندهم.
وهٰذا كذب وضلال وتحريف لدين رب العالمين.
طيب، ما الدليل من الكتاب على هٰذا التقدير لا إله حق؟ نعم: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾([22]). وقوله تعالى: ﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ﴾([23]). فكل هٰذا يدل على وجوب تقدير (حق)؛ لأن ما عبد من دونه فإنما يعبد من غير حق وبدون استحقاق.
ثم قال رحمه الله: (قَدِيمٌ بِلا ابْتِدَاءٍ، دَائِمٌ بِلا انْتِهَاءٍ). (قَدِيمٌ بِلا ابْتِدَاءٍ) أي إنه جل وعلا لا بداية له، لا أول له، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، (دَائِمٌ بِلا انْتِهَاءٍ) هٰذا فيه الخبر عن آخريته سبحانه وتعالى وأنه ليس بعده شيء.
وهٰذان الوصفان في كلام المؤلف رحمه الله مستفادان من قوله تعالى: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ﴾([24]) وهٰذان الاسمان للرب جل وعلا اللذان يتضمنان إثبات وصف الأولية والآخرية يفيدان إثبات معنى واحد للرب جل وعلا وهو الإحاطة الزمنية، فالله جل وعلا قد أحاط بكل شيء زمناً، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء جل وعلا.
ولا ينافي هٰذا أن أهل الجنة يقال لهم: ((خلود بلا موت))([25]).فإن خلودهم إنما هو بإعطاء الله جل وعلا وهبته ومنته، فليس خلودهم ذاتياً، بخلاف آخريته جل وعلا وبقائه، فإنه سبحانه وتعالى وصفٌ له ذاتي ليس مكتسباً من شيء، وهٰذا معنى قول الله جل وعلا: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ﴾، وقد فسر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث قال: ((أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء)).([26])
ثم اعلم أن قوله: (قَدِيمٌ بِلا ابْتِدَاءٍ) علق عليه بعض الشرّاح فقالوا: إنه لا يصح تسمية الله بالقديم، وإن ذكر القديم إنما هو على وجه الوصف.
الحقيقة أن الكلام على وجهه، ليس في أسماء الله جل وعلا القديم، ولكن كلام المؤلف ليس فيه ما نحتاج بسببه إلى هٰذا التعليق؛ لأنه لم يقل: (القديم). إنما قال: (قَدِيمٌ بِلا ابْتِدَاءٍ) على وجه الخبر والتفسير لقول النبي ﷺ: ((الأول))، وقول الله عز وجل: ﴿هُوَ الأَوَّلُ﴾([27]).
فهو ترجمة وبيان لقوله ﷺ: ((الأول الذي ليس قبله شيء)).
وأما لفظة (القديم) فإنها عند أهل الكلام تقابل ما دل عليه الكتاب والسنة من اسمه جل وعلا (الأول)، فإن (القديم) عندهم هو (الأول)، ولذلك عندهم القديم الذي لا بداية له، ويسمونه القِدَم الأزلي؛ يعني الذي لا بداية له.
والتعبير الذي في الكتاب والسنة أفضل، وما تكلّم به الله جل وعلا وما جاء في السنة أكمل وأحسن فيما يتعلق بالخبر عنه.
لكن من القواعد التي ينبغي لنا أن نفهمها فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته أن:
الأسماء توقيفية.
والصفات كذلك توقيفية إلا أنها أوسع من الأسماء.
ثم بعد ذلك يأتي مرتبة ثالثة وهي ما يسمى بالإخبار، الإخبار عن الله عز وجل.
الإخبار عنه جل وعلا أوسع من الصفات، فتخبر عنه بما لم يأتِ له ذِكر في الكتاب والسنة، فتقول: يصنع الله كذا، لا بأس، فالأخبار أمرها واسع، تقول: هو قديم جل وعلا وتقصد بالقديم أنه المتقدم على غيره الذي ليس قبله شيء.
لكن فيما يتعلق بالأسماء وفيما يتعلق بالصفات لا بد من النص الدال على الاسم وعلى الصفة.
فقوله: (قَدِيمٌ بِلا ابْتِدَاءٍ) هٰذا معنى ما ذكره الله عز وجل في اسمه الأول.
كذلك: (دَائِمٌ بِلا انْتِهَاءٍ) أي إنه لا نهاية له، فهو الآخر جل وعلا الذي ليس بعده شيء.
ثم قال رحمه الله: (لا يَفْنَى وَلا يَبِيدُ) الفناء هو الهلاك، (وَلا يَبِيدُ) البيد هو الانقطاع والانتهاء، وهو قريب من معنى الفناء، فنفى المؤلف رحمه الله عن الله جل وعلا هذين الوصفين، ونفي هذين الوصفين دل عليه قول الله جل وعلا: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾([28]). فأثبت لنفسه سبحانه وتعالى الحياة وهي البقاء الدائم ثم قال: ﴿الَّذِي لا يَمُوتُ﴾. وهٰذه الصفة اختص الله جل وعلا بها دون غيره، فإن حياته حياة كاملة لا تنقضي ولا تنقطع، وأما ما عداه فإنه يهلك: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾([29]). وقد قال الله جل وعلا فيمن هم على الأرض: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام﴾([30]). فبقاء الله جل وعلا دائم بلا انتهاء، فقوله: (لا يَفْنَى وَلا يَبِيدُ) تأكيد لمعنى قوله: (دَائِمٌ بِلا انْتِهَاءٍ)، ويدل عليه قوله تعالى: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ}: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾. ويدل عليه أيضاً التأكيد لهذين الوصفين في قوله تعالى: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ﴾. ([31])
ثم قال رحمه الله: (وَلا يَكُونُ إِلاَّ مَا يُرِيدُ). هٰذا فيه إثبات الإرادة لله جل وعلا، والإرادة ثابتة له سبحانه وتعالى بالكتاب والسنة والإجماع والعقل، ولذلك الإرادة من الصفات التي يثبتها من يعتمد العقل في إثبات الصفات، وهم مثبتة الصفات كالأشاعرة والماتريدية والكلابية.
فالإرادة صفة ثابتة لله سبحانه وتعالى بالكتاب والسنة والإجماع والعقل.
اعلم أن الإرادة الثابتة لله سبحانه وتعالى تنقسم إلى قسمين:
1. إرادة دينية شرعية أمرية.
2. وإرادة كونية خلقية قدرية.
يعني تسمى إرادة أمرية، ويسمونها إرادة شرعية، يسمونها إرادة دينية، وهي شيء واحد، والمراد بالإرادة الدينية، هو كل ما أمر الله سبحانه وتعالى به عباده من الطاعات الواجبة والمستحبة، يعني كل المأمورات التي أمر الله بها جل وعلا على وجه التعبد.
وهٰذا النوع من الإرادة يتعلق بمحبته ورضاه جل وعلا، فلا يأمر جل وعلا شرعاً إلا بما يحب، ولا يأمر شرعاً إلا بما يرضى.
الوصف الثاني الذي يختص به هٰذا النوع من الإرادة: أنه غير لازم الوقوع، قد يقع وقد لا يقع، الإرادة الشرعية قد تقع وقد لا تقع.
الله جل وعلا أراد من الخلق العبادة أليس كذلك؟ ما الدليل؟ ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾([32]).هل هٰذا تحقق من الخلق؟ لم يتحقق من جميعهم، ولو كان المراد هنا مراداً كوناً وقدراً لكان لابد أن يقع؛ لكنه مرادٌ ومحبوبٌ له سبحانه وتعالى شرعاً، فكان غير لازم الوقوع.
القسم الثاني من الإرادة: الإرادة الكونية الخلْقية القدرية، وهٰذا هو الذي يصدر عنه كل ما يقع في الكون، فالإرادة الخلقية القدرية الكونية هي المشيئة في الحقيقة، هي مشيئة الله جل وعلا التي عنها يصدر كل شيء، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، قول المسلمين: ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. هٰذا هو الإرادة الكونية، فكل ما وقع في الكون من خيرٍ أو شر، من برٍ أو معصية، مما يحبه الله أو يكرهه، مما يرضاه ومما لا يرضاه: الإيمان والكفر، الطاعة والمعصية، الاستقامة والغي، كل هٰذا داخل في الإرادة الكونية.
عرفنا من هٰذا أن الإرادة الكونية تختلف عن الإرادة الشرعية في أي شيء؟ في أنها لا تتعلق بالمحبة والرضا.
الفرق الثاني: أن الإرادة الكونية لا بد أن تقع، فما أراده الله كوناً لا بد أن يقع، لا محالة من وقوعه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ما شاء وجد وما لم يشأه لم يوجد.
هٰذا الذي يميز الإرادة الكونية عن الإرادة الشرعية.
اعلم أن هٰذا التفريق اليسير الذي دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة انطمس على كثيرٍ من أهل الكلام، فلم يميزوا بين نوعي الإرادة، بل عندهم الإرادة شيء واحد، فلا فرق عندهم بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، وهٰذا الانطماس للتفريق وعدم التمييز بين النوعين -بين نوعي الإرادة- أوقعهم في أنواع من الضلالات: فيما يتعلق بالقدر، وفيما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأشياء كثيرة.
نضرب مثالاً للإرادة الشرعية من كلام الله عز وجل، من أمثلة الإرادة الشرعية قول الله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾([33]).الإرادة هنا شرعية أو كونية؟ شرعية.
﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾([34]). ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾([35]).كل هٰذه الإرادات إرادات شرعية، غير لازمة الوقوع، قد لا يتوب الله عز وجل على بعض من عصاه، إنما هو يريد التوبة، إرادة شرعية يحبها ويرضاها؛ لكن قد لا تقع من العبد.
النوع الثاني من الإرادة: الإرادة الكونية، مثاله قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾([36]). ومثاله أيضاً قول الله تعالى فيما ذكره عن نوح: ﴿وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾([37]). الإرادة هنا إرادة الإغواء هل هي مما يحبه الله ويرضاه؟ لا. إنما هي من مقتضى حكمته جل وعلا فهي من الإرادة الكونية.
الذين لا يفرقون بين نوعي الإرادة يجعلون جميع الإرادة متعلقة بالمحبة، فكل ما أراده الله سبحانه وتعالى فهو محبوب له، كلّ ما وقع فهو محبوب له، وعلى هٰذا فإن الزنى محبوب له -أعوذ بالله- لماذا؟ لأنه وقع، أراده ووقع، ولو لم يرده ويحبه لما وقع.
لكنهم ضلوا بعدم التمييز بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية.
هؤلاء الذين يقولون:إن كل ما يقع محبوب له هم الجبرية الجهمية.
يقابلهم القدرية الذين يقولون: إن الله جل وعلا لم يرد الزنى من الزاني، فهو واقع من غير إرادته جل وعلا.
وهؤلاء كذبوا على الله جل وعلا، فإن الله جل وعلا لا يقع شيء في الكون إلا بإرادته، فما من حركةٍ ولا سكون ولا ذهاب ولا إياب ولا قيام ولا قعود إلا بإرادة الله جل وعلا، ولا معصية ولا طاعة إلا بإرادته جل وعلا، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾([38]). فكل ما في الكون هو بإرادته جل وعلا، لكن هؤلاء قالوا: إنه ليس مراداً لله لأنه ليس محبوباً له، والله لا يريد إلا ما يحب، فأخرجوا المعاصي عن إرادة الله جل وعلا.
ولذلك قال أحدهم كلمة يعني ظاهرها التعظيم لله جل وعلا، وباطنها التعطيل لصفة الإرادة، قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء. كلمة جيدة أليس كذلك؟ فلما فهمها العالم السلفي قال له: سبحان من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء. لأن هٰذا مراده أن الزنى والسرقة وما يكون من المخالفات إنما هي من غير إرادة الله، ما أرادها الله، ولذلك هو متنزه عن الفحشاء إرادةً، فردّ عليه العالم السلفي، فقال: سبحان من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء.
وأيهما أبلغ تعظيماً؟ الثاني لا إشكال؛ لأن فيه تمام الملك والتصرف من رب العالمين، وأنه لا يقع في ملكه إلا ما يشاء جل وعلا، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. المهم أن هٰذه القضية الواضحة التي دل عليها الكتاب والسنة وهي من أجلى ما يكون لمن سلم من الشبهات والخيالات الفاسدة والظنون الكاذبة، هي ملتبسة على أصحاب الأهواء من أهل الكلام، حيث جعلوا الإرادة بنوعيها نوعاً واحداً، ففسروا الإرادة بأي شيء يا إخوان؟ بالمحبة، فما شاءه الله فهو محبوب له، وهٰذا يستوي فيه القدرية الجبرية.
الجبرية يوسعون ويقولون: كل ما وقع فهو محبوب له.
ويقابلهم من؟ القدرية الذين يخرجون عن إرادة الله عز وجل المعاصي، فيقولون: المعاصي ليست مرادة له سبحانه وتعالى.
ثم قال رحمه الله: (لا تَبْلُغُهُ الأَوْهَامُ، وَلا تُدْرِكُهُ الأَفْهَامُ). (لا تَبْلُغُهُ) أي لا تطاله جل وعلا، (الأَوْهَامُ): يعني الأفكار والخيالات والظنون، فمهما كدّ الإنسان ذهنه، وأعمل فكره، وشغّل عقله، في التوصل لصفات الله عز وجل وما له من الكمال فإنه يعود منكسراً حسيراً لا يصل إلى شيء؛ لأنه جل وعلا ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾([39]). فإذا كان (ليس كمثله شيء) فمهما وقع في بالك أو خطر في ذهنك أو دار في خاطرك، فاعلم أن الله ليس كذلك؛ لأنه جل وعلا (ليس كمثله شيء).
والعباد لا يمكن أن يحيطوا بصفة من صفاته فكيف به جل وعلا؟ قال الله جل وعلا في صفة العلم وهي من صفاته، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾([40]). هٰذا في صفة من صفاته، ﴿بِشَيْءٍ﴾ بجزء يسير من علمه، فكيف به؟ فنفى الله جل وعلا الإحاطة بصفة من صفاته، ونفى الإحاطة به فقال: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً﴾.([41])
ثم اعلم أن الله جل وعلا- لكماله وعظيم ما يتصف به- لا يدركه الإنسان، حتى إذا نظر إليه، -نسأل الله أن نكون من أهل النظر إليه- فإنه إذا نظر الإنسان إلى ربه يوم القيامة، هٰذا النظر لا يحصل به الإدراك، كما قال الله جل وعلا: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾([42]). بل إنّ مثلاً قائماً وهو هٰذه السماوات، لو أراد الإنسان أن يحيط بها لما استطاع، ولذلك قال الله جل وعلا: ﴿ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ﴾([43]). لا يمكن أن يدرك عظم هٰذا الخلق العظيم والبناء الكبير وهو مخلوق من مخلوقات الله جل وعلا، فكيف به سبحانه وتعالى؟ فهو جل وعلا: (لا تَبْلُغُهُ الأَوْهَامُ).
ولذلك ينبغي للمؤمن أن يقطع الوساوس وأن يقطع الطريق على الشيطان بأن يذكر قول الله جل وعلا إذا ورد عليه خاطر أو ما أشبه ذلك: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾([44]) فيُريح باله، ويهنأ فؤاده ويطمئن قلبه، ويسلم من كثير مما يصطلي به أصحاب الوساوس والأفكار.
قال: (وَلا تُدْرِكُهُ الأَفْهَامُ). أي لا تحيط به الأفهام، وهٰذا مستفادٌ من الآيات التي ذكرناها في قوله تعالى: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً﴾([45])، ومن قوله تعالى: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾([46])،ومن قوله تعالى: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾.([47])
كيف نستدل بقوله: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾([48]) على أنه لا تدركه الأفهام؟
هنا ما قال: (لا تدركه الأبصار)، قال: (وَلا تُدْرِكُهُ الأَفْهَامُ). نقول: إن قوله تعالى: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾ يدل على صحة قوله: (وَلا تُدْرِكُهُ الأَفْهَامُ)؛ لأنه أيهما أسهل في الإدراك: إدراك البصر أو إدراك العقل؟ إدراك البصر، فإذا كان البصر مع سهولته ويسر حصول المطلوب من طريقه لا يحصل فيما يتعلق بالله عز وجل وصفاته، فكيف بما هو أصعب وهو إدراك الأفهام؟
فإذا كانت لا تدركه الأبصار مع سهولة إدراك البصر فإدراك الأفهام من باب أولى.
ثم قال رحمه الله: (وَلا يُشْبِهُ الأَنَامَ). ونقف على قوله: (وَلا يُشْبِهُ الأَنَامَ).
والله تعالى أعلم وصلى Q وسلم على نبينا محمد.
¹
الدرس الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
قال رحمه الله تعالى:
(لا تَبْلُغُهُ الأَوْهَامُ، وَلا تُدْرِكُهُ الأَفْهَامُ، وَلا يُشْبِهُ الأَنَامَ.
حَيٌّ لا يَمُوتُ، قَيُّومٌ لا يَنَامُ. خَالِقٌ بِلا حَاجَةٍ، رَازِقٌ بِلا مَؤونَةٍ([49])، مُمِيتٌ بِلا مَخَافَةٍ، بَاعِثٌ بِلا مَشَقَّةٍ.
مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ قَدِيمًا قَبْلَ خَلْقِهِ، لَمْ يَزْدَدْ بِكَوْنِهِمْ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُمْ مِنْ صِفَتِهِ، وَكَمَا كَانَ بِصِفَاتِهِ أَزَلِيًّا كَذَلِكَ لا يَزَالُ عَلَيْهَا أَبَدِيًّا.
لَيْسَ بَعْدَ خَلَقَ الْخَلْقَ اسْتَفَادَ اسْمَ "الْخَالِقِ"، وَلا بِإِحْدَاثِ الْبَرِيَّةِ اسْتَفَادَ اسْمَ "الْبَارِي".
لَهُ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَلا مَرْبُوبَ، وَمَعْنَى الْخَالِقِ وَلا مَخْلُوقَ.
وَكَمَا أَنَّهُ مُحْيِي الْمَوْتَى بَعْدَمَا أَحْيَا اسْتَحَقَّ هٰذا الاسْمَ قَبْلَ إِحْيَائِهِمْ، كَذَلِكَ اسْتَحَقَّ اسْمَ الْخَالِقِ قَبْلَ إِنْشَائِهِمْ.
ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ فَقِيرٌ، وَكُلُّ أَمْرٍ عَلَيْهِ يَسِيرٌ، لا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ).
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فقد وقفنا على قول المؤلف رحمه الله: (وَلا يُشْبِهُ الأَنَامَ) أليس كذلك؟ طيب.
قوله رحمه الله: (وَلا يُشْبِهُ الأَنَامَ). هٰذا فيه ما تقدم في قوله: (لا شَيْءَ مِثْلُهُ)، وقد تقدم الكلام على نفي المثلية لله سبحانه وتعالى، وأنه جل وعلا (ليس كمثله شيء)، دلّ على ذلك الكتاب والسنة والإجماع والعقل.
فإن الله سبحانه وتعالى لا مثيل له في ذاته، ولا مثيل له في أسمائه وصفاته، ولا مثيل له في أفعاله، ولا مثيل له فيما يجب له.
فقول المؤلف رحمه الله هنا:(لا يُشْبِهُ الأَنَامَ)، تكرار لما تقدم، وهٰذا من المواضع التي كرر فيها المؤلف رحمه الله القول، وسيأتي أيضاً مزيد تكرار -أو تكرير- لهٰذا الأمر.
وقوله: (الأَنَامَ) المراد بهم الناس، الخلق، لا يشبه الأنام، فهو سبحانه وتعالى ليس بينه وبين خلقه مشابهة، والمنفي هنا هو المشابهة.
وإذا نظرنا إلى نصوص الكتاب والسنة لم نجد فيهما ما يدل على نفي المشابهة، إنما الذي في الكتاب والسنة هو نفي المثلية: ﴿ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾([50]). ولذلك ذهب جماعة من المحققين من أهل العلم إلى أن الذي يُنفى عن الله عز وجل هو المثل لا الشبيه، وذلك أنه جل وعلا أخبرنا بصفات عن نفسه، وهٰذه الصفات نحن نعقل معناها ولا ندرك كيفيتها، وإنما نعقل معناها ونفهم معناها؛ لما أدركناه في المشاهدة مما هو شبيه لها.
والمشابهة ليست في ذات الصفة أو في الصفة التي اتصف بها الله جل وعلا؛ بل هي في أصل الصفة.
فمثلاً العلم ندرك معناه، فالعلم ضد الجهل، وصف الله جل وعلا نفسه بالعلم، ونحن ندرك أن العلم الذي يتصف به المخلوق هو ضد الجهل، فبين العلم الموصوف به الرب جل وعلا والعلم الموصوف به العبد مشابهة من حيث أصل المعنى، وهو عدم الجهل، ولكن هل علم الله عز وجل كعلم المخلوق؟ لا، لا إشكال أن علم الله جل وعلا ليس كمثله شيء، كسائر صفاته سبحانه وتعالى.
فثبوت أصل المشابهة لا يعارض نفي المثلية، وإنما ذكر المؤلف رحمه الله وغيره من أهل السنة نفي المشابهة؛ لأن نفي المشابهة في اصطلاح المتكلمين يوازي ويعني نفي المماثلة، فعندهم: (لا يُشْبِهُ الأَنَامَ) أو ليس له شبيه مرادهم بذلك أنه ليس له مثيل، مع أن بعضهم يستعمل هٰذا في نفي كل الصفات، فيقول: (لا يُشْبِهُ الأَنَامَ)، معنى هٰذا أن ما أخبر به عن نفسه سبحانه وتعالى من الأوصاف لا نعقله، فيستعملون هٰذا لنفي الصفات المتقررة التي يثبتها أهل السنة والجماعة.
والصحيح في النفي: أن ننفي المماثلة، أما المشابهة فإنه إذا نفيناها بالكلية، فيلزم على ذلك ألا نعقل ما أخبر الله به عن نفسه:
فلا نعقل معنى العلم؛ لأنه ما فيه مشابهة.
لا نعقل معنى الحلم؛ لأنه ما فيه مشابهة.
لا نعقل معنى البصر، السمع، الكلام، وما إلى ذلك مما وصف الله سبحانه وتعالى به نفسه.
إذا كان المنفي هو أدنى مشابهة فإنه يتعذر علينا فهم ما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه.
ولذلك تحرير القول في نفي المشابهة أن نقول: ﴿ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾([51]). وأما المشابهة فلا بد منها بين كل شيئين، لا بد منها، ولكن المشابهة لا تستلزم إثبات النقص لله عز وجل أو إثبات الصفة للمخلوق كصفة الخالق، أو جعل صفة الخالق كصفة المخلوق.
ولذلك الأحسن في النفي أن نقول: ﴿ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما كتب عقيدة الواسطية وتحرى فيها ألا يكون فيها إلا ما جاء النص عليه في كتاب الله عز وجل أو في سنة رسوله ﷺ، لما أراد نفي المماثلة لم يستعمل نفي المشابهة، بل استعمل النص القرآني فقال: ﴿ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، وقال أيضاً في النفي: مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلاَ تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ. ولم يقل: تشبيه. فلم يذكر المشابهة؛ لأن المشابهة لفظٌ مجملٌ قد يتوصل به إلى نفي أصل الصفات التي يثبتها أهل السنة والجماعة.
والمراد أن الله جل وعلا لما كان الغاية في الكمال فإنه جل وعلا لا مثيل له ولا نظير ولا سمي ولا كفء، لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا فيما يجب له سبحانه وتعالى.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (حَيٌّ لا يَمُوتُ). وهٰذا دليله قول الله عز وجل: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾([52]). وهو معنى قول المؤلف رحمه الله: (قَدِيمٌ بِلا ابْتِدَاءٍ، دَائِمٌ بِلا انْتِهَاءٍ). فإنّ حياته جل وعلا لا مبدأ لها ولا منتهى لها، بل هو الحي القيوم جل وعلا، فهو حيٌ حياة كاملة، ولذلك أكد المؤلف رحمه الله هٰذا المعنى بقوله: (لا يَمُوتُ). وقد تأسّى في ذلك أو استفاد ذلك من كتاب الله عز وجل في قوله: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾. مع أن إثبات الحياة يكفي فيه قوله تعالى: ﴿الْحَيِّ﴾، لكن قال: ﴿لا يَمُوتُ﴾ لأجل أي شيء؟ لأجل أن ينفي كل نقص عن هٰذه الحياة، فإن حياته سبحانه وتعالى لا يتطرق إليها نقصٌ بوجه من الوجوه، بل هي الحياة التامة الكاملة الدائمة الباقية التي لا انتهاء لها ولا نقص، وهٰذه فائدة النفي في قوله: ﴿الَّذِي لا يَمُوتُ﴾،فإن وصف الله عز وجل بالنفي هنا في قوله: ﴿الَّذِي لا يَمُوتُ﴾ مقصوده أي شيء؟ مقصوده إثبات كمال الصفة، وهي صفة الحياة.
نظير هٰذا قول الله جل وعلا في أعظم آية من كتابه: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾، ثم أكد كمال الحياة وكمال القيومية بقوله: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ﴾([53])، فذلك لكمال حياته وقيوميته سبحانه وتعالى.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (قَيُّومٌ لا يَنَامُ). (قَيُّومٌ) هٰذا من أسمائه ومن صفاته جل وعلا، فمن أسمائه القيوم ومن أوصافه القيومية.
ومعنى القيوم أنه جل وعلا قائمٌ بنفسه، فلا حاجة به إلى خلقه، وهو جل وعلا مقيم لخلقه، فكل أحد محتاج إليه، فهو الصمد الذي لا تستغني عنه الخلائق، وليس بهم كفاية ولا غنى عنه سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾([54]). فمعنى القيوم أنه القائم بنفسه فلا حاجة به إلى غيره، وأنه جل وعلا المقيم لغيره، فكل أحد قيامه بإقامة الله عز وجل، السماوات والأرض إنما تقوم بإقامة الله عز وجل، كما قال جل وعلا: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ﴾([55]). يعني: لا يمسكهما أحد من بعده إن أزال الله جل وعلا ورفع إمساكه لهما.
والقيومية عنها يصدر كل فعل لله جل وعلا.
ولذلك كان اسم (الحي) واسم (القيوم) يرجع إليهما جميع معاني أسماء الله عز وجل وصفاته:
· فالحياة تستلزم كل وصف كمال من أوصاف الذات.
· والقيومية تستلزم كل وصف كمالٍ من أوصاف الفعل.
ولذلك قيل:إن الاسم الأعظم هو الحي القيوم، وهٰذا من أسباب كون آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله عز وجل؛ لكونها احتوت على هذين الاسمين اللذين إليهما ترجع أوصاف الكمال وأسماء الله الحسنى.
قال ابن القيم رحمه الله:
ما للممات عليه من سلطان
وله الحياة كمالها فلأجل ذا
ما للمنام عليه من غشيان
وكذلك القيوم من أوصافه
ثبتت له-ثم قال:- ومدارها الوصفان
وكذاك أوصاف الكمال جميعها جميعهاثبتت ثبتت
أي وجميع هٰذه الأوصاف صفات الكمال ترجع إلى هذين المعنيين أنه الحي القيوم جل وعلا.
وهٰذا هو السر في كون هذين الاسمين الاسم الأعظم لله عز وجل، بل قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن اسم الحي وصفة الحياة التي أثبتها الله لنفسه يدل بالتلازم -أو بالالتزام- على جميع أسماء الله عز وجل وصفاته.
فناسب أن يبدأ المؤلف رحمه الله ذكر الصفات بهذين الاسمين العظيمين، اللذين يرجع إليهما كل اسم من أسماء الله الحسنى وكل وصفٍ من أوصافه جل وعلا العُلا.
قال: (قَيُّومٌ لا يَنَامُ)، ثم قال: (خَالِقٌ بِلا حَاجَةٍ). أثبت صفة الخلْق لله جل وعلا، ونفى في هٰذه الصفة أن يكون الخلْق عن حاجة؛ لأن من يخلق ومن يصنع قد يكون سبب خلقه وصناعته حاجته إلى ما يخلق، فإذا احتاج إلى شيء خلقه.
كما أن الإنسان إذا احتاج إلى قلم صنعه، وإذا احتاج إلى بيت بناه وعمره، وإذا احتاج إلى مركب سوّاه وركبه، وهلم جرًّا.
إلاّ أن الله جل وعلا (خَالِقٌ بِلا حَاجَةٍ)، وهٰذا قد أشار الله جل وعلا إليه في قوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ﴾. فذكر الخلق والغاية منه،ثم نفى أن يكون هٰذا الخلق للحاجة: ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾([56]). فخلْقه ناشئ عن قوته وكمال غناه وشدة قوته جل وعلا، لا عن حاجته إلى خلقه.
والخلْق من صفات الله عز وجل العظيمة، وهي تعني الإبداع والإيجاد والتكوين، معنى الخالق: المبدع الموجد المكوّن سبحانه وتعالى.
ثم قال: (رَازِقٌ بِلا مَؤُونَةٍ) أي إنه جل وعلا يرزق عباده، ورزقه جل وعلا لا يُكرثه ولا يُكْلِفه ولا يُتعبه ولا يشق عليه، بل رزقه للواحد كرزقه للخلق، ليس فيه كلفة، ويدل لذلك قوله جل وعلا لما ذكر ملك الله عز وجل للسماوات والأرض: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ ثم قال: ﴿وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾([57]). أي لا يُكرثه ولا يثقله ولا يتعبه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما؛ لأن الحفظ ليس فقط لجرم السماء وجرم الأرض؛ بل حفظه جل وعلا لمن في السماء ومن في الأرض، ومن تمام الحفظ الرزق، فإنه لا يقوم الحفظ إلا بالرزق، فلذلك كان جل وعلا رازقاً بلا مؤونة.
ويدل لذلك أيضاً ما في الصحيح من حديث أبي ذر أن النبي ﷺ قال: قال الله تعالى في الحديث الإلهي: ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسأل كل واحد منهم مسألته، فأعطيته مسألته لم ينقص ذلك من ملكي شيئاً))([58]). فملك الله -جل وعلا- لا ينفد، ولا ينقصه سؤال السائل ولا إعطاء الداعي، فهو -جل وعلا- (رَازِقٌ بِلا مَؤُونَةٍ) بلا كلفة.
ثم قال: (مُمِيتٌ بِلا مَخَافَةٍ). لما ذكر الخلق رحمه الله ذكر الإماتة، وذلك أن من تمام الإيمان بالله عز وجل أن يؤمن العبد بأنه المحيي المميت، الخالق الباعث المميت.
قال رحمه الله: (مُمِيتٌ بِلا مَخَافَةٍ) أي إنه سبحانه وتعالى قضى بالموت على كل حي، أذل بالموت قوة الأقوياء -جل وعلا-، فإنه سبحانه وتعالى كتب الموت على كل خلقه، فلا أحد من الناس سالم من الموت، بل قد جعل الله -جل وعلا- الموت لكل نفس:﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾([59]). لكن هٰذا الموت ليس عن خوف في منازعة المخلوق، بل هو من تمام قدرته وقوته واقتداره على خلقه؛ لأن الإنسان قد يميت شخصاً مخافة أن ينازعه في الملك، أو أن ينزع منه شيئاً مما هو له من الصفات أو من الملك أو من غير ذلك.
فالله جل وعلا (مُمِيتٌ بِلا مَخَافَةٍ). وهٰذه الصفات لله عز وجل بعضها يستفاد منه الاسم، كما دل عليه الكتاب والسنة في مثل الخالق: ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ﴾([60]). فقد جاء هٰذا الاسم لله عز وجل،
وكذلك الرازق: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾([61]).أما المميت فإنه لم يثبت في الكتاب ولا في السنة تسمية الله تعالى بذلك، فليس من أسمائه سبحانه وتعالى، جاء ذلك في حديث أبي هريرة الذي فيه ذكر الأسماء،لكنه لم يثبت بطريق غير ذلك، والحديث معلوم أنه لا يصح عند أئمة الحديث والعلماء بهٰذا الشأن.
يقول رحمه الله: (بَاعِثٌ بِلا مَشَقَّةٍ). بعد أن ذكر الإماتة، ذكر البعث؛ وذلك أنه من تمام الإيمان بربوبية الله جل وعلا الإيمان بأنه باعث، يبعث الخلق.
والبعث هو الإحياء بعد الإماتة، وهٰذا عام لكل من فيه حياة، فإن كل من فيه حياة يبعثه الله جل وعلا ويحشره يوم القيامة، وبعثه بلا مشقة، كما قال الله جل وعلا: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ ([62])، وكما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ ([63]). وهٰذا يدل على سهولته ويسره على رب العالمين، وأنه جل وعلا لا مشقة عليه في الخلق، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾([64]). فلا مشقة في بعث الخلق كلهم إنسهم وجنهم دوابهم وطيورهم، ما في البحر وما في البر، كلهم يبعثهم الله عز وجل ثم يحشرهم يوم القيامة، كل أمة تأتي في موقف عظيم مهول تشيب له رؤوس الولدان.
ثم قال بعد أن قرر البعث: (مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ قَدِيمًا قَبْلَ خَلْقِهِ). وهٰذا فيه الرد على معطلي الصفات من الجهمية والمعتزلة، فإن المؤلف رحمه الله أبطل شبهة من الشبه الكبار التي يعتمدها الجهمية والمعتزلة في إنكار الصفات.
اعلم بارك الله فيك أن صفات الله جل وعلا تنقسم إلى قسمين:
· صفات ذاتية.
· وصفات فعلية.
صفات ذات، وصفات فعل.
صفات الذات هي التي لم يزل ولا يزال سبحانه وتعالى متصفاً بها، فهو متصف بها في الأزل والأبد، كصفة الحياة، فهو الحي جل وعلا أزلاً وأبدا،ً وكصفة العلم، وكصفة القيومية، وغير ذلك من صفات الذات، فهو سبحانه وتعالى متصف بها أزلاً وأبداً.
القسم الثاني من الصفات صفات الفعل أو الصفات الفعلية، وهٰذا النوع من الصفات يفارق النوع السابق في أن الله -جل وعلا- متَّصف به إذا شاء، فهي صفات متعلقة بمشيئته سبحانه وتعالى، ومثال ذلك الإحياء والإماتة، مثال ذلك الاستواء هٰذا من صفات الفعل؛ لأنه لما شاء أن يستوي استوى -جل وعلا-، منه أيضاً النزول، كل صفات الفعل ويسميها بعض العلماء الصفات الاختيارية؛ للدلالة على أنها معلقة بالمشيئة والاختيار، إذا شاء اتصف بها وإذا شاء لم يتصف بها.
النوع الأول من حيث اتصاف الله جل وعلا بها في الأزل، ما فيه إشكال، فالله حي قيوم سميع بصير عليم أزلاً وأبداً.
فقول المؤلف رحمه الله: (مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ قَدِيمًا). المراد بذلك صفات الذات لا إشكال، صفات الذات داخلة في هٰذا لا الإشكال؛ لأنه لم يزل متصفاً بهٰذه الصفات، فهو الحي لا أولية لحياته، هو الأول الذي ليس قبله شيء سبحانه وتعالى، كذلك العلم، كذلك السمع، البصر، الإرادة، كل هٰذه من الصفات الذاتية التي اتصف بها سبحانه وتعالى أزلاً، فهي قديمة، والمراد بالقديمة هنا أي إنها لا أول لها، فهي كالأول (مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ قَدِيمًا) إذاً دخل في هٰذا صفات الذات.
صفات الفعل هل هي قديمة؟ صفات الفعل من حيث الجنس قديمة، من حيث الجنس قديمة، ومعنى قديمة: أنه لا أول لها، يدل لذلك قوله تعالى: ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾([65]). ويدل لذلك أيضاً أنه جل وعلا القيوم، وهو موصوف بهٰذا أزلاً وأبداً، لكن أفراد الصفات الفعلية الاختيارية حادثة بعد أن لم تكن، فعندنا في صفات الفعل جنس الأفعال هٰذا قديم ليس قبله شيء، أما أفراد الأفعال وآحاد الأفعال فهٰذه حادثة بعد أن لم تكن.
استواء الله عز وجل على العرش هل هو في الأزل، أم أنه جرى وحدث بعد أن لم يكن؟ حدث بعد أن لم يكن، فإنه جل وعلا إنما استوى بعد خلق السمٰوات والأرض، بعد خلق السمٰوات والأرض استوى على العرش –جل وعلا-، وقبل ذلك لم يكن مستوياً على العرش، قبل خلق العرش لم يكن مستوياً عليه سبحانه وتعالى، لكن من حيث فعل الله -جل وعلا- هل هو حادث أم قديم؟ جنس الفعل أصل الفعل؟ قديم، فإنه جل وعلا فعال لما يريد، وهٰذا وصف لا يتقيد بزمن، بل هو –جل وعلا- فعال لما يريد.
المؤلف رحمه الله يقول: (مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ قَدِيمًا قَبْلَ خَلْقِهِ). يعني قبل أن يخلق خلقه، (لَمْ يَزْدَدْ بِكَوْنِهِمْ شَيْئًا). أي بخلقهم وإيجادهم ورزقهم وإمدادهم، إحيائهم وإماتتهم، لم يزدد بهٰذه الأفعال وهٰذه الأوصاف شيئاً (لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُمْ مِنْ صِفَتِهِ). بل هو سبحانه وتعالى الموصوف بصفات الكمال أزلاً قبل كل شيء، (وَكَمَا كَانَ بِصِفَاتِهِ أَزَلِيًّا) الآن فرغ من تقرير أن الله -جل وعلا- متصف بهٰذه الصفات أزلاً، ومعنى الأزل: الذي لا أول له، فقوله: (وَكَمَا كَانَ بِصِفَاتِهِ أَزَلِيًّا) أي إنه لا أول لصفاته، (كَذَلِكَ لا يَزَالُ عَلَيْهَا أَبَدِيًّا) أي إنه لا آخر لهٰذه الصفات، بل هي ممتدة لأنه الآخر، وهٰذا الوصف للذات والصفات، فهو الآخر -جل وعلا- الذي ليس بعده شيء.
ثم قال في تقرير المعنى وتوضيحه وتبيينه: (لَيْسَ بَعْدَ خَلَقَ الْخَلْقَ اسْتَفَادَ اسْمَ "الْخَالِقِ")، بل هو الخالق قبل أن يخلق الخلق -جل وعلا-، (وَلا بِإِحْدَاثِ الْبَرِيَّةِ) البرية هم الخلق، (وَلا بِإِحْدَاثِ الْبَرِيَّةِ اسْتَفَادَ اسْمَ "الْبَارِي") بل هو الموصوف والمتسمي بهٰذا الاسم قبل أن يخلق الخلق سبحانه وتعالى، هو الله الخالق البارئ أزلاً وأبداً، فليس بعد أن خلق البرية وأوجدهم استفاد اسم البارئ.
والخالق والبارئ اسمان من أسماء الله عز وجل دل عليهما الكتاب في قوله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ﴾([66]). والفرق بين الخالق والبارئ: أن الخالق الموجد والبارئ المبدع، وقيل في الفرق: إن الخالق هو المقدر، والبارئ هو الموجد لهٰذا التقدير، ومعناهما متقارب.
ثم قال: (لَهُ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَلا مَرْبُوبَ) إن الله سبحانه وتعالى متصف بأنه الرب ولا مربوب؛ لأنه بصفاته قديم، وهو الأول الذي ليس قبله شيء.
(وَمَعْنَى الْخَالِقِ وَلا مَخْلُوقَ) أي إنه -جل وعلا- موصوف بأنه الخالق ولا مخلوق، وهٰذا تكرار لقوله: (لَيْسَ بَعْدَ خَلَقَ الْخَلْقَ اسْتَفَادَ اسْمَ "الْخَالِقِ").
ثم قال في الاستدلال لصحة هٰذا التقرير: (وَكَمَا أَنَّهُ مُحْيِي الْمَوْتَى بَعْدَمَا أَحْيَا اسْتَحَقَّ هٰذا الاسْمَ قَبْلَ إِحْيَائِهِمْ، كَذَلِكَ اسْتَحَقَّ اسْمَ الْخَالِقِ قَبْلَ إِنْشَائِهِمْ). يقول المؤلف رحمه الله في الاستدلال لكونه سبحانه وتعالى بصفاته قديماً قبل أن يخلق الخلق: كما أنه محيي الموتى. الآن الموتى هل أحياهم الله جل وعلا؟
الموتى، الإحياء العام لم يحصل بعد، الإحياء العام إنما يكون بعد قيام الساعة: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)﴾([67]). فإذا نُفخ في الصور بعث الله عز وجل الخلق وأحياهم، هل هٰذا موجود أو ليس بموجود؟ لم يوجد بعد، ألا يوصف الله -جل وعلا- بأنه محيي الموتى؟ بلى يوصف بأنه محيي الموتى.
يقول المؤلف رحمه الله: (وَكَمَا أَنَّهُ مُحْيِي الْمَوْتَى بَعْدَمَا أَحْيَا). يعني كما أنه متحقق بهٰذا الوصف بعد إحيائه يوم القيامة لخلقه، وهو (اسْتَحَقَّ هٰذا الاسْمَ قَبْلَ إِحْيَائِهِمْ) يعني استحقه في الدنيا قبل أن يحصل الإحياء (كَذَلِكَ اسْتَحَقَّ اسْمَ الْخَالِقِ قَبْلَ إِنْشَائِهِمْ). وهٰذا دليل واضح وبيّن في أن الله -جل وعلا- موصوف بصفات الكمال قديماً أزلاً، وأنه سبحانه وتعالى لم يحدث له شيء من الصفات بعد أن لم يكن، والمقصود بالصفات صفات الذات وجنس صفات الفعل.
وفي هٰذا الموضع يبحث بعض العلماء مسألة التسلسل، تسلسل الحوادث، وهي مسألة لا خير في بحثها في الحقيقة، إلا على وجه الرد على أهل الشبه الذين يريدون إبطال ما دلت عليه النصوص من أن الله جل وعلا موصوف بصفات الكمال أزلاً وأبداً، وإلا فإن النظر في هٰذه المسألة لا يزيد به الإيمان ولا يزداد به العلم، وإنما يحتاجه واضطر إليه أهل السنة والجماعة في الرد على المبتدعة الذين تكلموا بهٰذه الأمور، ولذلك ينبغي لطالب العلم لاسيما المبتدئ أن لا يشتغل بهٰذه المسائل؛ لأنها مما يحسر عنه فكره ويضيق عنه فهمه، وقد يورثه شبهة لا ينفك منها، لكن ينبغي له أن يؤمن بأن الله هو الأول الآخر الظاهر الباطن، وأنه فعال لما يريد -جل وعلا-، وأنه موصوف بصفات الكمال أزلاً وأبداً ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
ثم إذا احتاج إلى الرد على المبتدعة في شبهة من الشبه أو قول من الأقوال فلا بأس، عند ذلك يطلب ويستعين بالله عز وجل وينظر في جواب هٰذه الشبهة، أما أن يطلب ذلك ويقرأه ويصرف فيه الوقت وهم لم يبتلَ به فهٰذا من تفويت ما هو أهم من العلم؛ لأن العلم كثير، والإنسان إذا اشتغل بفضول العلم وحواشيه صرفه ذلك عن أصوله ومقاصده.
الشبهة التي رد عليها الشيخ رحمه الله بهٰذا الكلام هي مسألة ما يدّعيه الجهمية من أنه يلزم من إثبات الصفات تعدد القدماء، هٰذه شبهة كبيرة عند أهل الكلام يجعلونها سيفاً مسلطاً على النصوص؛ لإبطال ما دلت عليه من اتصاف الله عز وجل بصفات الكمال.
يقول: إذا كان الله -جل وعلا- موصوفاً بالعلم وبالحياة وبالقدرة وبالكلام وبالسمع، وهو قديم وصفاته قديمة، إذاً تعدد القدماء، أصبح عندنا عدة قدماء، ما هو بقديم واحد، فإذا تعدد القدماء دل ذلك على أن الله ليس موصوفاً بهٰذه الصفات.
ونقول لهم: إن الله –جل وعلا- قديم بصفاته، وليس هٰذا من تعدد القدماء، وليس فيه أن غير الله -جل وعلا- يشاركه في أنه الأول الذي ليس قبله شيء؛ لأن صفاته له -جل وعلا-، فهو بصفاته قديم، ولذلك قال المؤلف رحمه الله في إبطال هٰذه الشبهة: (مَا زَالَ) أي الرب -جل وعلا- (بِصِفَاتِهِ قَدِيمًا قَبْلَ خَلْقِهِ)، فجعل القِدَم له بصفاته التي هو متصف بها سبحانه وتعالى وهي له.
وهٰذه شبهة باطلة ناقشها شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع عديدة، من هٰذه المواضع كتاب درء تعارض النقل والعقل، أبطلها وبين عوارها.
أيضاً مما يرد به على المعتزلة وغيرهم من الجهمية من خلال هٰذا الكلام ما يذكرونه من أن إثبات الصفات يقتضي حلول الحوادث، والله -جل وعلا- لا تحله الحوادث، ولذلك هم يقولون: لا تحله الحوادث، ومعنى لا تحله الحوادث أي إنه لا تقوم به الصفات الاختيارية.
وهٰذه من أكبر الشبه التي يستندون إليها أيضاً في إبطال الصفات، فبين المؤلف رحمه الله أن الله موصوف بصفات الكمال أزلاً وأبداً، وأنه سبحانه وتعالى لا يلزمه النقص بهٰذا بوجه من الوجوه.
علل المؤلف رحمه الله ما تقدم في قوله: (مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ قَدِيمًا قَبْلَ خَلْقِهِ، لَمْ يَزْدَدْ بِكَوْنِهِمْ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُمْ مِنْ صِفَتِهِ، وَكَمَا كَانَ بِصِفَاتِهِ أَزَلِيًّا كَذَلِكَ لا يَزَالُ عَلَيْهَا أَبَدِيًّا). علل ذلك بقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). فهٰذه الجملة كالتعليل لما تقدم من التقرير، فالمشار إليه في قوله: (ذَلِكَ) قول المؤلف رحمه الله: (مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ قَدِيمًا) (ذا) اسم إشارة، والمشار إليه قوله: (مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ قَدِيمًا.. ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فاتصاف الله سبحانه وتعالى بهٰذه الصفات العظيمة وأنه موصوف بها أزلاً وأبداً: (ذَلِكَ بِأَنَّهُ) جل وعلا (عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾([68]). وهٰذا يعم كل شيء، فالله جل وعلا على كل شيء قدير.
لكنه سيأتي الكلام في ما يخرج من هٰذا العموم كإخراج الممتنعات، فإنها لا تدخل في هٰذا، إنما الذي يدخل فيه الممكنات، فإنه عليها جل وعلا قدير، أما الممتنع فلا يدخل في هٰذا.
ثم قال رحمه الله: (وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ فَقِيرٌ). كل شيء من خلقه إليه فقير، فهو محتاج إلى ربه سبحانه وتعالى لا غنى به عنه جل وعلا، ويدل لذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ﴾،([69]) ويدل عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ﴾([70]). فهٰذا يدل على أن خلقه محتاجون إليه، ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: ﴿وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾،([71]) فإن حفظهما حفظ السماوات والأرض ومن فيهما لا يقوم إلا بالله جل وعلا، ويدل له أيضاً اسم (القيوم)، فإنه مقيم لكل نفس، مقيم لكل شيء، لا قيام لشيء إلا به سبحانه وتعالى.
ثم قال: (وَكُلُّ أَمْرٍ عَلَيْهِ يَسِيرٌ). هٰذا من تمام قدرته جل وعلا أنه لا يصعب عليه شيء، ولا يمتنع منه شيء، ولا يمتنع عليه شيء، أي لا يرده شيء: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(82)﴾([72]) جل وعلا، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾([73]). فهٰذا يدل على عظم هٰذا الرب جل وعلا وعلى عظيم قدرته.
ثم قال: (لا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ) هٰذا لكمال غناه سبحانه وتعالى، فهو الغني الحميد، والعباد هم المحتاجون إليه وهم المفتقرون إليه، أما الله جل وعلا فهو الغني الحميد، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾.([74])
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
¹
الدرس الرابع
بسم الله الرحمن الرحيم
قال رحمه الله تعالى:
(لا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾([75]).
خَلَقَ الْخَلْقَ بِعِلْمِهِ، وَقَدَّرَ لَهُمْ أَقْدَارًا، وَضَرَبَ لَهُمْ آجَالاً.
وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، وَعَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ.
وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ.
وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِتَقْدِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَمَشِيئَتُهُ تَنْفُذُ، لا مَشِيئَةَ لِلْعِبَادِ إِلاَّ مَا شَاءَ لَهُمْ، فَمَا شَاءَ لَهُمْ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.
يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي فَضْلاً، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَخْذُلُ وَيَبْتَلِي عَدْلاً.
وَكُلُّهُمْ يَتَقَلَّبُونَ فِي مَشِيئَتِهِ بَيْنَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ.
وَهُوَ مُتَعَالٍ عَنِ الأَضْدَادِ وَالأَنْدَادِ.
لا رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلا غَالِبَ لأَمْرِهِ.
آمَنَّا بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَيْقَنَّا أَنَّ كُلاًّ مِنْ عِنْدِهِ).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾. هٰذه آية من كتاب الله عز وجل جعلها المؤلف رحمه الله ضمن ما قرره من عقيدة أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية المنصورة، وقد تقدّم الكلام على نفي المثلية عن الله جل وعلا في موضعين مما تقدم من كلام المؤلف رحمه الله في قوله: (لا شَيْءَ مِثْلُهُ)، وفي قوله: (ولا يُشْبِهُ الأَنَامَ) .
ثم قال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾. ولعل المؤلف رحمه الله أراد بهٰذه الآية بيان إثبات الصفات، أو لعل المؤلف رحمه الله أراد بهٰذه الآية الرد على من ضلّ في باب الأسماء والصفات، وليس مقصوده تقرير نفي المثلية؛ لأن نفي المثلية تقدم في قوله: (لا شَيْءَ مِثْلُهُ) و(لا يُشْبِهُ الأَنَامَ). لكنه ساق هٰذا ليرد على طائفتين ضالتين، وفريقين منحرفين عن صراط الله المستقيم، عن مذهب أهل السنة والجماعة وعقيدة الفرقة الناجية المنصورة، وهم: أهل التعطيل وأهل التمثيل، فإن هٰذه الآية ردت على جميع البدع الواقعة في باب أسماء الله وصفاته، على اختصار هٰذه الآية ووجازة لفظها وقلة كلماتها إلا أنها ردت وسدت أبواب الضلال فيما يتعلق بالأسماء والصفات.
قال الله جل وعلا: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ وهٰذا رد على الممثلة، رد على أهل التمثيل الذين يثبتون لله عز وجل مثيلاً ونظيراً وسمياً وكُفْئًا في أسمائه أو صفاته أو أفعاله أو ما يجب له.
وفي قوله تعالى: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ رد على أهل التعطيل الذين عطلوا صفات الله جل وعلا، فأهل التعطيل عطلوا الله عن صفاته وأخلوه منها، إما على وجه الكلية أو تعطيلاً جزئياً.
والمقصود أن هٰذه الآية ردّت على هاتين الفرقتين.
إذا سُئلت: ما هي أبواب الضلال في أسماء الله وصفاته؟ تقول: بدعتان، جميع البدع في هٰذا الباب ترجع إلى بدعتين: بدعة أهل التمثيل، وبدعة أهل التعطيل.
والممثلة والمعطلة يصلون إلى التمثيل والتعطيل من طريقين:
أما الممثلة فيصلون إلى التمثيل عن طريق التكييف، فيطلبون كيفية ما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن صفاته.
ولذلك كان من عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، فنفي التمثيل هو نفي الغاية والمنتهى والمقصد، ونفي التكييف هو نفي للطريقة والواسطة التي يتوصل بها المبتدعة إلى التمثيل. وكذلك من عقيدتهم أنهم لا يعطّلون الله جل وعلا عن صفاته، بل يثبتون له ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من غير تعطيل.
ومن لوازم نفي التعطيل نفي الطريق الموصل إليه، وهو التأويل، التحريف، الذي يسميه أهله تأويلاً، ولذلك كان من العقيدة السلفية عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات الصفات من غير تحريف ولا تعطيل، فنفي التحريف هو نفي للطريق الموصل إلى التعطيل.
ونفي التعطيل هو نفي للغاية والمقصد الذي ينتهي إليه طريق هؤلاء، وهم القسم الثاني من أقسام المبتدعة في باب أسماء الله وصفاته: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾. ولما كانت هٰذه الآية متضمنة هذين المعنيين من إثبات كمال الصفات ونفي مماثلة المخلوقين ضاق بها صدور نفاة الصفات، حتى إن أحدهم اقترح على المأمون أن يبدل بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾([76]) قولَه: وهو العزيز الحكيم، فقال له: أزل من ستار الكعبة قوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾،فاكتب: ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم. حتى ينفي إثبات هاتين الصفتين، اللتين يظن أن إثباتهما يقتضي إثبات المماثلة للمخلوق.
وتعالى الله عما يقول علوّاً كبيراً، فالله جل وعلا كلامه حق: ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾([77]) بل: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ وهٰذا فيه نفي المماثلة، ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾فيه إثبات كمال الصفات للرب جل وعلا.
بعد أن فرغ المؤلف رحمه الله من تقرير ما يتعلق بصفات الرب سبحانه وتعالى انتقل إلى تقرير أمر من أصول الدين، وهو من أصول الإيمان، وهو ما يتعلق بالقضاء والقدر، فقال رحمه الله: (خَلَقَ الْخَلْقَ بِعِلْمِهِ). الخلق هو الإيجاد والإبداع والإنشاء، والله جل وعلا خلق كل شيء، فالله سبحانه وتعالى خلق الخلق، فهو الخالق جل وعلا لكل شيء، كما تقدم ذكر ذلك في كلام المؤلف رحمه الله حيث قال: (خَالِقٌ بِلا حَاجَةٍ). فالله جل وعلا خالق بلا حاجة، خلق كل شيء جل وعلا، فكل شيء مخلوق للرب سبحانه وتعالى.
وليس مراد المؤلف رحمه الله في هٰذه العبارة إثبات الخلق، فإنه قد تقدم ذكره، إنما مراد المؤلف في هٰذه العبارة أن يقرر أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ خلق الخلق وهو عالم بهم، ولا شك أنه لا يمكن أن تثبت صفة الخلق لله عز وجل إلا بالعلم؛ لأنه لا يمكن أن يكون خالقاً إلا من كان عالماً، ولذلك قال رحمه الله: (خَلَقَ الْخَلْقَ بِعِلْمِهِ). الباء هنا للملابسة والمصاحبة، وهي التي تفيد المعية، يعني: خلق الخلق مع علمه أو حال كونه عالماً بهم، خلق الخلق عالماً بهم سبحانه وتعالى، فالباء هنا للمصاحبة، ومعنى المصاحبة أنها تفيد المعية، يعني: خلق الخلق مع علمه بهم أو عالماً بهم، فإما أن تقدّر (مع) أو أن تقدِّر (حالاً) حتى يتبين معنى الملابسة والمصاحبة.
(خَلَقَ الْخَلْقَ بِعِلْمِهِ) ولا شك في ذلك، وقد قرر الله سبحانه وتعالى علمه بكل شيء، فعلم الله جل وعلا متعلق بكل شيء، فهو بكل شيء عليم سبحانه وتعالى.
والعلم -يا أخي- هو من أوسع الصفات تعلقًا؛ بل هو متعلق بكل شيء: فهو متعلق بالماضي وبالحاضر وبالمستقبل، متعلق بالممكن، ومتعلق بالواجب، ومتعلق بالممتنع، فهو من أوسع الصفات تعلقاً، ولذلك لا تخصيص في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾([78])؛ لأنه يتعلق بكل شيء، حتى يتعلق بالمعدوم ويتعلق بالممتنع، أي الذي لا يكون.
مثال تعلقه بالممتنع قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾([79]). هل يمكن أن يوجد آلهة حق غير الله؟ الجواب: لا، ومع ذلك قال: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ فأخبر بماذا سيكون لو كان هناك آلهة.
ومما يدل على تعلق العلم بالممتنع قوله تعالى: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ ([80]). والرد بعد الموت هل هو ممكن أو ممتنع؟ ممتنع، وهل هو ممتنع لعدم القدرة عليه أو لحكمة رب العالمين؟ للحكمة، لحكمته جل وعلا، فإنه يمنع أن يرد الناس بعد موتهم، ومع ذلك أخبر سبحانه وتعالى بحال الناس لو ردوا بعد موتهم كيف يكونون.
فالمراد أن الله جل وعلا عالم بكل شيء، وعلمه من الصفات التي تعلقت بكل شيء، تعلقت بذاته وبصفاته وبأفعاله وبخلقه، فكل شيء يتعلق به العلم، بل تعلق بالممكن والواجب والممتنع.
ثم اعلم أن الله سبحانه وتعالى استدل على علمه بخلقه بثلاث صفات من صفاته، قال سبحانه وتعالى: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾([81]). فأثبت الله جل وعلا علمه بخلقه فـ﴿مَنْ﴾ هنا فيها وجهان:
· إما أن تكون في محل رفع فاعل.
· وإما أن تكون في محل نصب مفعول به.
على الأول: ألا يعلم الذي خلق؟ يعني :كيف لا يعلم الذي خلق؟ فجعل من لوازم إثبات صفة الخلق وأنه خالق أنه عالم بكل شيء، وهٰذا المعنى صحيح، ولا إشكال فيه.
المعنى الثاني: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾ يعني: ألا يعلم مخلوقه؟ ولا إشكال في أن الله سبحانه وتعالى عالم بمخلوقه.
فعلى المعنى الأول وأن ﴿مَنْ﴾ مرفوعة ،في محل رفع فاعل، يكون من دلائل علمه جل وعلا وشواهد علمه بخلقه أنه خلقهم سبحانه وتعالى: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾. يعني: كيف لا يعلم الخالق؟ كيف لا يعلم بخلقه وهو الخالق لهم؟ فاستدل على علمه بخلقه بهٰذه الصفة أنه خالق جل وعلا.
الثاني: قوله تعالى: ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾. فجعل هاتين الصفتين دالتين على علمه بخلقه.
و﴿اللَّطِيفُ﴾ هو من يدرك الدقيق من الشيء، هو من يدرك ما دق من الأشياء.
و﴿الْخَبِيرُ﴾ هو من يدرك ما خفي من الأشياء.
فإذا كان يدرك الدقيق ويدرك الخفي فكيف لا يعلم بخلقه؟ فهو سبحانه وتعالى اللطيف الخبير العالم بما دقّ وبما خفي، فإذا كان يعلم الدقيق والخفي فهو جل وعلا عالم بخلقه لا إله غيره، هو بكل شيء عليم سبحانه وتعالى، سبحانه وبحمده.
إذاً قول المؤلف رحمه الله: (خَلَقَ الْخَلْقَ بِعِلْمِهِ) يدل على إثبات علم الله المتقدم على خلق كل مخلوق، ولا إشكال في ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم، وهو جل وعلا عالم بكل شيء قبل خلقه، وسيأتي مزيد تقرير لهٰذا في تقرير المؤلف رحمه الله لمسألة القدر.
والمؤلف رحمه الله وغفر له فرّق ما يتعلق بمبحث القدر، لم يجمعه في موضع واحد، بل أعاد وأبدأ ورد وكرر في هٰذه المسألة، ولعل ذلك لأهميتها وشدة الحاجة إليها في وقته رحمه الله.
ثم قال: (وَقَدَّرَ لَهُمْ أَقْدَارًا). الآن تقدّم أن الله سبحانه وتعالى عالم بخلقه، وأنه خلقهم بعلمه، فعلمه محيط بخلقه جل وعلا، فهو محيط بكل شيء، عالم بكل شيء. الآن أتى إلى تقرير أنه ما من شيء إلا بقدر فقال: (وَقَدَّرَ لَهُمْ أَقْدَارًا). قدّر لهٰذا الخلق الذي خلقه أقداراً، فالله جل وعلا خلق كل شيء بقدر ،كما قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾([82]). فما من شيء إلا وهو مقدّر سبق به تقدير رب العالمين، فلا يخرج شيء مما يكون عن تقدير الله جل وعلا العليم القدير، فالعباد كلهم أحاطت بهم قدرة الله جل وعلا، قال الله سبحانه وتعالى في بيان إحاطة علمه وإحاطة تقديره بخلقه: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾،([83]) ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ ([84]) وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أن كل شيء بقدر: ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾([85]) وما إلى ذلك من الآيات التي لا تحصر في إثبات أن الله جل وعلا قدّر لخلقه أقداراً.
ثم قال رحمه الله: (وَضَرَبَ لَهُمْ آجَالاً). (ضَرَبَ) أي حدّد، (لَهُمْ آجَالاً) أي مُدداً مضروبة لا يتجاوزونها، فكل عباده لا يتجاوزون ما قدره الله جل وعلا من الآجال، بل هي آجال محتومة وآجال مقدرة، لكل أجل كتاب، وقد دل على هٰذا كتاب الله جل وعلا، ودلت على ذلك السنة. الكتاب قوله تعالى: ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾([86]). ومن السنة قول النبي ﷺ: ((إنّ الله قدّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة))([87]). فالله جل وعلا قدّر لخلقه الأقدار وبينها ووضحها وكتبها وأثبتها، فلا يخرج شيء عن قدره، ومن تمام تقديره أنْ ضرب لهم آجالاً.
ثم قال رحمه الله: (وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ). هٰذا فيه تأكيد ما تقدّم من أنه عالم بهم قبل الخلق. (وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ ) جل وعلا (شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ)، بل هو المحيط بهم العالم بهم قبل خلقه.
ثم قال: (وَعَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ). هٰذا تأكيد لمعنى الجملة السابقة وما تقدم من إثبات علم الله عز وجل بالخلق قبل أن يخلقهم.
فالله جل وعلا عالم بكل شيء قبل خلقه. يقول: (وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ).
طيب، المؤلف رحمه الله لما قال: (وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، وَعَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ): هل مراده بهٰذا مجرد تأكيد ما تقدم؟
الجواب: أنه أكد ما تقدم، وأجاب عن قول خُصماء الله في القدر، فإن قوله رحمه الله: (وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، وَعَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ.وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ). هٰذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله ردٌّ على خُصماء الله في القدر، وخُصماء الله في القدر فريقان:
الفريق الأول: هم الذين نفوا تقدير الله للأشياء قبل وجودها، الذين نفوا القضاء والقدر، وهم غلاة المعتزلة، غلاة القدرية الذين قالوا: إن الله لم يقدر شيئاً، وإن الأمر أنف، وهٰذه بدعة ظهرت في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، وردّها ابن عمر وغيره من صحابة رسول الله ﷺ، وأصل هٰذه البدعة كانت في الذين خاصموا النبي ﷺ من المشركين في القدر، كما جاء حديث أبي هريرة أن المشركين جاؤوا يخاصمون النبي ﷺ في القدر فأنزل الله جل وعلا قوله: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾([88]). فإن هٰذا جواب على من خاصم النبي ﷺ في تقدير الله عز وجل للأشياء قبل وقوعها.
إذاً الفريق الأول الذين خاصموا الله في القدر هم الذين نفوا القضاء والقدر، عطلوا القضاء والقدر، قالوا: إن الله جل وعلا لم يقدر شيئاً.
هٰذا الفريق الأول والقسم الأول من خُصماء الله في القدر.
القسم الثاني هم الذين عارضوا الشرع بالقدر، فعطلوا الأمر والنهي، وهم الجبرية، الذين قالوا: إنه ما من شيء إلا بقضاء الله وقدره، وعلى هٰذا لا يلام العاصي على معصيته، ولا يشكر المحسن على إحسانه؛ لأن إحسان المحسن بقدر الله، ومعصية العاصي بقدر الله، فعلى هٰذا جعلوا القدر حجة على تعطيل الشرع، وهٰذا قد ذكره الله جل وعلا عن الكفار في مواضع من كتابه، منها قوله جل وعلا: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾([89]). فجعلوا تعطيل الطاعة والتوحيد محتجين على ذلك بالقدر.
ومن المواضع التي أبطل الله جل وعلا فيها الاحتجاج بالقدر على ترك الطاعة قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾([90]). هناك الاحتجاج بالقدر على ترك التوحيد، وهنا الاحتجاج بالقدر على ترك الطاعة.
بقي الاحتجاج بالقدر على المعصية، وهو في قول إبليس: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾([91]). فجعل فعله ومعصيته بسبب إغواء الله عز وجل، فنسبها إلى الله جل وعلا، واحتج بها على استمراره في الغي والضلال.
فتبين أنه:
· لا حجة في القدر على ترك التوحيد.
· ولا حجة في القدر على المعصية.
· ولا حجة في القدر على ترك الطاعة.
بل الحجة لله بالغة على كل أحد، فإنه ما من أحد إلا وله الاختيار الكامل في فعل ما شاء، وترك ما شاء، وهٰذه المشيئة لا تخرج عن مشيئة الله عز وجل كما سيأتي.
المراد أنّ كلام المؤلف رحمه الله في هٰذا الموضع ردّ فيه على فرقتين ضالتين في باب القضاء والقدر وهما: غلاة القدرية والجبرية، الذين عارضوا الشرع بالقدر والذين نفوا القدر وعطلوه.
ثم قال رحمه الله: (وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ). هٰذا الرد على الفريق الثاني ممن خاصم الله في القدر.
قال رحمه الله: (وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِتَقْدِيرِهِ ). (كُلُّ شَيْءٍ ) يشمل جميع الأشياء، فكل مَشِيءٍ في الكون وكل موجود ومخلوق فهو بتقدير الله جل وعلا، لا نَظَر في ذلك إلى كونه محبوباً لله أو غير محبوب، فإن الله جل وعلا شاء ما كان وما يكون لحكمة بالغة، ولا تعلُّق لذلك بالمحبة، فلا يلزم أن يكون ما وقع محبوباً لله جل وعلا، بل كثيرٌ مما يقع يكون مبغوضاً لله جل وعلا، فكل شيء يجري بتقديره.
وإذا اعتقد المؤمن أن كل شيء يجري بتقدير الله عز وجل اطمأن قلبه فيما يتعلق بالمصائب، ورضي بما قدره الله له، ولم يقع في قلبه معارضة لتقديره جل وعلا، ولا ضيق لما يجري عليه من الأقدار.
قال رحمه الله: (وَمَشِيئَتُهُ تَنْفُذُ، لا مَشِيئَةَ لِلْعِبَادِ إِلاَّ مَا شَاءَ لَهُمْ). لما قرر ما تقدم يبين المؤلف رحمه الله في هٰذا المقطع أن إثبات المشيئة والإرادة للمخلوق ليس ذلك على وجه الاستقلال والانفصال والانفكاك عن مشيئة الله عز وجل، بل (فَمَا شَاءَ لَهُمْ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ)، ولذلك قال: (وَمَشِيئَتُهُ تَنْفُذُ ) مشيئة من؟ مشيئة الرب جل وعلا، (تَنْفُذُ) أي تجوز، ولا يحدّها حد، فهو جل وعلا ذو المشيئة النافذة والقدرة النافذة، لا رادّ لما شاء ولا مانع لما قدر وقضى جل وعلا، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع.
(وَمَشِيئَتُهُ تَنْفُذُ، لا مَشِيئَةَ لِلْعِبَادِ إِلاَّ مَا شَاءَ لَهُمْ). فإثبات المشيئة للعبد لا يعطِّل مشيئة الله عز وجل، وليس خارجاً عن مشيئة الله عز وجل، بل مشيئة الله عز وجل محيطة بمشيئة عبده، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾([92]). وكما قال الله جل وعلا: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾([93]). فمشيئة الله سبحانه وتعالى محيطة بمشيئة العبد، لا خروج للعبد عن مشيئة الله عز وجل. (فَمَا شَاءَ لَهُمْ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ). هٰذه المشيئة المذكورة في قوله: (مَا شَاءَ لَهُمْ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ). تدخل في أي نوع من أنواع الإرادة؟ في الإرادة الكونية، الإرادة الكونية هي معنى قول المؤلف رحمه الله وقول المسلمين: (مَا شَاءَ الله كَانَ) أي حصل ووجد (وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ) أي لا حدوث له ولا حصول.
ثم بعد أن أثبت عموم مشيئة الرب سبحانه وتعالى لكل شيء، وأنه لا خروج لمشيئة العبد عن مشيئة الله عز وجل قال رحمه الله: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي فَضْلاً، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَخْذُلُ وَيَبْتَلِي عَدْلاً) جل وعلا. وفي هٰذه العبارة الرد على المعتزلة والقدرية الذين قالوا: إن العبد يخلق فعل نفسه، فالهدى والضلال ليس من فعل الله عز وجل ولا من مشيئته ولا من إرادته، إنما هي من مشيئة العبد وإرادته وفعله المستقل عن الله جل وعلا.
واضح يا إخوان؟ فقوله: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) يرد بذلك على من؟ على المعتزلة القدرية الذين قالوا: إن الله لا يخلق فعل العبد، بل أفعال العباد خارجة عن قدرته ومشيئته وإرادته سبحانه وتعالى.
ثم كيف يفسرون الهداية المذكورة في الكتاب؟ يفسرون الهداية المذكورة في الكتاب بأنها هداية البيان والإرشاد والدّلالة، فيحملون كل آية أضاف الله جل وعلا فيها الهداية إليه على أنها هداية بيان وإرشاد ودلالة.
وهٰذا لا إشكال أنه تحريف للكلم عن مواضعه، فإن الآيات التي فيها أن الله سبحانه وتعالى (يهدي من يشاء ويضل من يشاء) الهداية المثبتة هي هداية الدلالة والإرشاد والبيان وهداية التوفيق للعمل، فإنه إذا لم يوفق الله جل وعلا العبد للعمل فإنه لا إصابة في عمله ولا توفيق له.
ومما يدل على أن الهداية المضافة إلى الله جل وعلا تشمل هداية التوفيق للعمل قول الله جل وعلا فيما ذكره في أبي طالب: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾([94]). فالهداية المنفية عن النبي ﷺ هي هداية التوفيق والعمل، وأما الهداية المثبتة لله عز وجل فهي هداية الإرشاد والدلالة والبيان، وهداية التوفيق إلى العمل.
فقوله: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي فَضْلاً) أي إن الهداية منه سبحانه وتعالى فضل ومنة على العبد.
وهٰذا فيه الجواب عن قول من يقول: كيف يهدي فلاناً ولا يهدي فلاناً؟ نقول: الهداية فضل الله ومنته ورحمته، وهو جل وعلا أعلم بمحالّ الفضل من غيره، فإن الله سبحانه وتعالى يمنّ على من يشاء من عباده بالهداية؛ لعلمه بأن الممتن عليه بالهداية المتفضل عليه بالاستقامة أهلٌ لذلك، أي إنه يستحق ذلك، وإنه صالح لهٰذا.
قال الله سبحانه وتعالى- في جواب المعترضين على الرسل في أنهم خصوا بالرسالة، قال الله جل وعلا-: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾([95]). فالله سبحانه وتعالى جعل الفضل في محله، وجعله لفضل الرسالة في الرسل لعلمه بأنهم أهل لها.
قال ابن القيم رحمه الله: والله جل وعلا أعلم بمحالّ الفضل في الرسل وأتباعهم.
فإن الله سبحانه وتعالى أعلم بالمهتدين، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾([96]). أي أعلم بمن يستحق الهداية فيوفقه إلى الهداية، أعلم بمن يستحق الاستقامة فيوفقه إليها، وهٰذا معنى قوله رحمه الله: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي فَضْلاً). الهداية إلى الصراط المستقيم توفيقاً وعملاً، ويعصم من المعاصي ويعافي من الذنوب والخطايا فضلاً منه سبحانه وتعالى.
(وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَخْذُلُ وَيَبْتَلِي عَدْلاً). أي عدلاً منه، فهو جل وعلا لا يظلم الناس شيئاً، {وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)}([97]). ما منعهم الله جل وعلا الفضل وهم أهل له، بل الأمر كما قال الله جل وعلا: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾([98]). فإنهم لما استحقوا الزيغ أضلهم وخذلهم وخلّى بينهم وبين أنفسهم، ولذلك اعلم أن كل معصية تقع فيها فإنها من خذلان الله جل وعلا؛ لأنه خلى بينك وبينها، ولو أن الله جل وعلا أكرمك لعافاك وعصمك.
وهٰذا معنى قوله رحمه الله في هٰذه العبارة: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي فَضْلاً، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَخْذُلُ وَيَبْتَلِي عَدْلاً).
ثم قال رحمه الله: (وَكُلُّهُمْ يَتَقَلَّبُونَ فِي مَشِيئَتِهِ بَيْنَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ). نقف على هٰذا ونكمل إن شاء الله تعالىٰ في الدرس القادم.
[الأسئلة]
فيه سؤال؟ مازن
ج1/ لا، المشيئة لا تنقسم إلى مشيئة شرعية وكونية، المشيئة واحدة، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
ج2/ التعطيل عدم إثبات الصفات لله عز وجل، هٰذا معنى التعطيل، إما عدم إثبات الصفات كليّاً أو جزئيّاً.
ج3/ المشيئة هي القدرة هي القدر نعم، لكن هي من مراتب الإيمان بالقدر كما سيأتينا إن شاء الله تعالى؛ لأن القدر يتضمن العلم والخلق والمشيئة والكتابة.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
¹
الدرس الخامس
بسم الله الرحمن الرحيم
قال رحمه الله تعالى:
(وَكُلُّهُمْ يَتَقَلَّبُونَ فِي مَشِيئَتِهِ بَيْنَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ. وَهُوَ مُتَعَالٍ عَنِ الأَضْدَادِ وَالأَنْدَادِ، لا رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلا غَالِبَ لأَمْرِهِ. آمَنَّا بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَيْقَنَّا أَنَّ كُلاًّ مِنْ عِنْدِهِ. وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى، وَنَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى، وَرَسُولُهُ الْمُرْتَضَى، وَأَنَّهُ خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِمَامُ الأَتْقِيَاءِ، وَسَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ، وَحَبِيبُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَكُلُّ دَعْوَى النُّبُوَّةِ بَعْدَهُ فَغَيٌّ وَهَوًى. وَهُوَ الْمَبْعُوثُ إِلَى عَامَّةِ الْجِنِّ، وَكَافَّةِ الْوَرَى، بِالْحَقِّ وَالْهُدَى، وَبِالنُّورِ وَالضِّيَاءِ).
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فصلة ما تقدم من كلام المؤلف رحمه الله في مسائل القدر، قال رحمه الله: (وَكُلُّهُمْ) أي كل عباده وخلقه (يَتَقَلَّبُونَ فِي مَشِيئَتِهِ بَيْنَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ). فالله جل وعلا لا يظلم الناس شيئاً، بل الخلق لا يخرجون عن فضل الله جل وعلا، فإن قَصُروا عن الفضل فلا يخرجون عن العدل، قال الله جل وعلا: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا﴾([99]). فالله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئاً، فمن هداه فبفضله، ومن وقع في الضلال، فإنما يضل على نفسه، كما قال الله جل وعلا: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾([100]). والله جل وعلا أعلم بالمهتدين، وهو سبحانه وتعالى يعلم محالّ الفضل والاختيار، ومحالّ المنّ ومواضعه.فلذلك لا يعترض على الله جل وعلا في هداية فلان وفي إضلال فلان.
فهٰذا مما ينبغي أن يقر في قلب المؤمن أن الله جل وعلا حكم عدل، ليس في حكمه الكوني ولا في حكمه الشرعي نقص ولا ظلم، بل الظلم منتفٍ عن الرب، حرمه الله جل وعلا على نفسه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً﴾([101]). قال النبي ﷺ في الحديث الإلهي: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً)) ([102]). فنفي الظلم عن الله يدل على أنه سبحانه وتعالى العَدْلُ الذي لا ظلم في شيء من أحكامه.
وقد اعترض بعض من بُلي في مسائل القدر، فسأل أحد العلماء فقال له: أرأيت إن منعني الهدى ثم أمرني به، أيكون قد ظلمني؟ فقال له العالم الرباني العالم بربه جل وعلا: إن كان قد منعك شيئاً لك فقد ظلمك.
والله جل وعلا لا يظلم الناس شيئاً، بل الله جل وعلا لا ينفكّ عباده -مسلمهم وكافرهم- من خيره وفضله، فلا أحد أصبرُ على الأذى من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ، فإنهم يشتمونه ويسبونه وينسبون إليه الولد، وهو جل وعلا يعافيهم ويرزقهم ويمدهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ بما تقوم به حياتهم ويصلح به معاشهم.
فكل العباد -المسلم والكافر- يتقلبون في مشيئته، يعني: فيما يقدره ويقضيه بين فضله وعدله سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ.
ثم انتقل المؤلف رحمه الله فقال: (وَهُوَ مُتَعَالٍ عَنِ الأَضْدَادِ وَالأَنْدَادِ).
الأضداد: جمع ضد، والضد هو المناوئ، المعارض، المقابل، والله جل وعلا لا ضد له، فإنه لا يقوم شيء لإرادته، ولا يقوم شيء أمامه سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ، بل هو القوي العزيز الذي لا رادّ لقضائه جل وعلا.
وقول المؤلف رحمه الله: (مُتَعَالٍ عَنِ الأَضْدَادِ ) يردّ بذلك على المعتزلة الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه، وإن العبد يشاء ما لا يشاؤه الله، وإن العبد يخرج بأفعاله عن أقدار الرب جل وعلا، فهٰذا فيه الرد على هؤلاء.
وهٰذه الكلمة (مُتَعَالٍ عَنِ الأَضْدَادِ ) يستعملها أهل العلم رحمهم الله في كلامهم، فافتتح بها ابن القيم رحمه الله كتاب إغاثة اللهفان أو ذكرها في افتتاح كتاب إغاثة اللهفان، ومعناها ما ذكرنا: أنه لا أحد يقوم في مضادة الرب جل وعلا، فهو سبحانه وتعالى الذي لا يقوم له شيء.
وأما قوله: (وَالأَنْدَادِ) فالأنداد جمع ند، والند هو المثيل والمكافئ والنظير، ويطلق أيضاً على المناوئ، لكن المراد به هنا المثيل والنظير.
فنزه المؤلف رحمه الله الرب جل وعلا عمن يُعِارضه ويضاده ويخالف أمره، ويخرج عن تقديره، ونزهه سبحانه وتعالى أن يكون له ند ونظير ومثيل، كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً﴾([103])، وكما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾([104]) فهٰذا أمر واضح وقد تقدم تقريره.
ثم قال رحمه الله: (لا رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلا غَالِبَ لأَمْرِهِ) جل وعلا. (لا رَادَّ لِقَضَائِهِ) فلا أحد يقوم لرد قضاء الله جل وعلا، بل: ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35)﴾([105]). فأمر الله جل وعلا، قضاؤه جل وعلا ماضٍ لا راد له، والقضاء هنا المراد به القضاء الكوني الخلقي القدري.
وأما القضاء الشرعي فإنه يُرد؛ لأنه ليس لازم الوقوع، فقوله: (لا رَادَّ لِقَضَائِهِ) أي إنه لا يرد ما قضاه وقدره سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ: فإذا قضى الله جل وعلا بالموت على أحد فلا يمكن لأحد أن يرده، إذا قضى بالنجاح لأحد فلا يمكن أن يرده ، إذا قضى بالسعادة لأحد فلا يمكن أن يرده أحد. لا راد لما أعطى ولا معطي لما منع، بل قضاؤه جل وعلا ماضٍ.
المراد أن القضاء هنا المراد به إيش؟ القضاء الكوني.
وأما القضاء الشرعي هل يُرد؟ نعم يُرد، ولذلك ردّ أهل الشرك قضاء الله عز وجل بعبادته، ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾([106]) فردّوا هٰذا القضاء وعبدوا غيره.
فقول المؤلف: (لا رَادَّ لِقَضَائِهِ) أي لا راد لقضائه الكوني القدري الخلقي.
قال رحمه الله: (وَلا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) أي لا مؤخّر لحكمه، معنى (مُعَقِّبَ) أي مؤخر، فإذا قضى الله جل وعلا أمراً فإنه لا يؤخر، بل: ﴿لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾([107]). فإذا قضى الله أجلاً معيّناً في وقت معين فإنه لا يتأخر ولا يتقدم، لا معقب لحكمه، هٰذا من معاني (وَلا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ).
وقد وصف الله جل وعلا نفسه بذلك في قوله: ﴿لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾([108]). فإنه لا معقب لحكم الله جل وعلا.
كذلك (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) أي لا متتبع لحكمه، فحكمه نافذ لا يتتبعه أحد وينظر فيه ويتأمل ويرد البعض ويقبل البعض، بل حكمه جل وعلا نافذ.
فحكمه الكوني لا شك أنه لا معقب له، ولا رادّ له، ولا متتبع له، بل هو جل وعلا الحكيم الخبير الذي إذا حكم وقضى فإنه لا يُرد قضاؤه، ولا يعقب حكمه سبحانه وتعالى.
ثم قال: (وَلا غَالِبَ لأَمْرِهِ). بل الله جل وعلا غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون([109]). فالله سبحانه وتعالى غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، قد جعل الله لكل شيء قدراً، يسوق الله جل وعلا المقادير إلى المقدورات أي إلى مواضع القدر، فهو سبحانه وتعالى يسوق عباده إلى ما قضاه وقدره، فكل ميسر لما خلق له. (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلا غَالِبَ لأَمْرِهِ) سبحانه وتعالى.
والحكم والقضاء والأمر هنا هو كله في القضاء والحكم والأمر الكوني.
وكذلك يمكن أن يقال: لا معقب لحكمه الشرعي من حيث إنه لا يبدل ولا يغير، لكن من حيث الفعل فإنه قد يُرد وقد يعقب عليه وينتقد، لكن هٰذا لا يضر حكم الله جل وعلا بشيء.
والظاهر أن الجميع: القضاء والحكم والأمر في هٰذه العبارات كلها تدور على معنى القضاء والحكم والأمر الكوني.
ثم قال رحمه الله: (آمَنَّا بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَيْقَنَّا أَنَّ كُلاًّ مِنْ عِنْدِهِ). أي آمنا بما تقدم مما تقرر في هٰذه العقيدة (آمَنَّا بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَيْقَنَّا أَنَّ كُلاًّ مِنْ عِنْدِهِ). أي كل ما قضاه الله جل وعلا وقدّره وشاءه أن ذلك كله بتقديره: فسعادة السعيد بتقديره، وشقاء الشقي بتقديره.
والمؤلف رحمه الله ختم هٰذا المقطع بهٰذه العبارة؛ لأنه سينتقل إلى تقرير عقد أو أصل جديد من أصول الاعتقاد وأصول الإيمان، فناسب أن يَختم ما تقدم بهٰذه العبارة تأكيداً وتقريراً لما تضمّنه قوله رحمه الله: (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ -مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ-: إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ). إلى آخره، فيقول: (آمَنَّا بِذَلِكَ كُلِّهِ) يعني بكل ما ذكرنا من أننا نعتقده (وَأَيْقَنَّا أَنَّ كُلاًّ مِنْ عِنْدِهِ). أي إن اعتقادنا ذلك إنما هو امتثال لله عز وجل، وامتثال لما جاء في كتابه، وما جاءت به سنة رسوله ﷺ.
ثم بعد ذلك انتقل المؤلف رحمه الله إلى تقرير الأصل الثاني الذي لا يصحّ الإيمان والإسلام إلا به، وهو شهادة أن محمداً رسول الله، فقال: (وَإِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى، وَنَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى، وَرَسُولُهُ الْمُرْتَضَى). طيب هكذا عندي في هٰذه النسخة بفتح همز (إِنَّ)، والصحيح الكسر؛ لأنه معطوف على قوله: (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ -مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ-: إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ. وَإِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى، وَنَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى). ومعلوم أن همز (إن) يُكسر بعد القول وما في معناه.
قال رحمه الله: (وَإِنَّ مُحَمَّدًا) محمد المذكور في هٰذه الجملة هو رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، وهو خاتم النبيين ﷺ، وسيأتي تفصيل ما يجب اعتقاده في النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، المهم أن محمداً هو نبينا ﷺ، أتى به بعد ذكر ما يتعلق بالله؛ لأن الإيمان بالنبي ﷺ هو ثاني ما يطلب من المكلَّف، فإن المكلف مطالب بعبادة الله وحده، ومطالب بالإقرار برسالة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وهو الأصل الثاني من الأصول التي يُطلب من المكلفين الإقرار بها: الإيمان بالله والإيمان برسله، فإن الإيمان بالرسل من أصول الإيمان التي لا يَقَرُّ الإيمان ولا يستقيم إلا بها.
(إِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ) عبد من؟ عبد الله جل وعلا، الذي قال المؤلف: (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ مُعْتَقِدِينَ) فذِكر الضمير هنا عائد إلى ما تقدم في قوله: (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ مُعْتَقِدِينَ ..وَإِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى) عبد الله المصطفى، ووصف النبي ﷺ بالعبودية من أعظم ما يوصف به صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، خلافاً لما يظنه كثير من الجهال أن وصف النبي ﷺ بالعبودية نقص في حقه، ونزول في رتبته، بل وصفه بالعبودية هو أكمل ما يكون، ولذلك ورد وصف الله عز وجل نبيه محمداً ﷺ بالعبودية في أشرف مقامات النبي ﷺ.
فوصفه بالعبودية في أشرف لياليه ﷺ، في الإسراء حيث قال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَا﴾([110]).
وصفه في مقام الدعوة، وهو من أشرف مقامات النبي ﷺ حيث قال: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا(19)﴾([111]).
وصفه بالعبودية في مقام المنافحة والمدافعة عنه في مقام التحدي حيث قال: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ﴾([112]).
وصفه بالعبودية في مقام الإيحاء في ليلة المعراج فقال: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾([113]).
وهٰذه أشرف مقامات النبي ﷺ ،لم يصفه الله جل وعلا بوصف زائد على هٰذا([114])، فدل ذلك على أنه من أعظم أوصافه ﷺ.
وقول المؤلف رحمه الله: (الْمُصْطَفَى) هٰذا فيه بيان ما خص الله عز وجل به رسوله محمداً ﷺ من الاصطفاء، فإن الله اصطفى نبيه محمداً ﷺ.
والاصطفاء هو الاختيار، الاصطفاء افتعال من الاختيار، وأصله اصتفى لكن الصاد إذا ولتها التاء- يعني إذا جاءت بعدها التاء- فإنها تنقلب إلى طاء، وهٰذا مطرد: فحيث ما جاءت الصاد وجاء بعدها تاء فإنها تنقلب التاء طاء للمناسبة بينهما، فإن الصاد من حروف الاستعلاء وكذلك الطاء، بخلاف التاء، فالاصطناع أصلها اصتنع، والاصطلام([115]) أصلها اصتلم، وهلم جرًّا.
المراد أنّ الاصطفاء معناه الاختيار، والاختيار حق لله جل وعلا دون غيره، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾([116]). فذكر الله جل وعلا فعلين من أفعاله:
· الخلق وهٰذا لا منازع له فيه.
· والاختيار وهٰذا الذي وقعت فيه المنازعة من المشركين لرب العالمين.
فقال الله جل وعلا: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾. قِفْ على هٰذا، هنا تتم الجملة، ثم قال: ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ فنفى الخيرة عن غيره ممن نازعه جل وعلا الاختيار ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)﴾ ([117]). فنزه نفسه عن الشركة في الاختيار؛ وذلك لأن الاختيار حق الله جل وعلا، فالله يخلق ما يشاء ويختار من خلقه ما يشاء.
ولذلك اصطفى الله جل وعلا من خلقه زماناً ومكاناً وشخصاً ما شاء الله أن يختار.
فمن الأزمان اختار على سبيل المثال الجمعة، اختار شهر رمضان، اختار أشهر الحج، وهٰذا اختيار من رب العالمين، اختار الأشهر الحرم.
ومن الأماكن: اختار مكة فاصطفاها بما اصطفاها به، وخصها بما خصها به من الأحكام.
الأشخاص: اختار الله عز وجل من خلقه الرسل والأنبياء، فخصهم بخصائص دون غيرهم: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ﴾([118]). فالاصطفاء واقع من الملائكة ومن الناس، يصطفي الله جل وعلا من يرسلهم، فالله عز وجل اصطفى رسوله ﷺ وخصه بخصائص كثيرة، سيأتي ذكر بعض هٰذه الخصائص في كلام المؤلف رحمه الله.
لكن هل هٰذا الوصف أخص أوصاف النبي ﷺ؟ الجواب: لا.
ومن هٰذا نعلم أن الذين لا يذكرون النبي ﷺ إلا بقولهم: المصطفى. قال المصطفى، وفعل المصطفى. يقصرون في حق النبي ﷺ عن رتبته التي أنزله الله إياها؛ لأن الاصطفاء ليس خاصّاً بالنبي ﷺ، بل هو له ولكثير من خلقه: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ﴾([119]). فالمصطفَوْن من خلق الله كُثُر، لكن النبي ﷺ له من الاصطفاء الغاية، فله أوفر حظ ونصيب من اصطفاء رب العالمين جل وعلا.
لكن الذي اختص به ورضيه ﷺ هو أن يكون عبد الله ورسوله، ولذلك قال ﷺ: ((لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله))([120]). فهٰذا أفضل ما يوصف به النبي ﷺ.ولو أن المؤلف رحمه الله ذكر هٰذا في مقدم أوصاف النبي ﷺ لكان أوفق للسنة.
قال: (وَإِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى). فالله اصطفاه من بين الخلق، قال النبي ﷺ: ((إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم))([121]). فهو اصطفاء وراء اصطفاء، خيار من خيار ﷺ.
قال: (وَنَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى). المجتبى من الاجتباء، والاجتباء معناه مطابق للاصطفاء، فالاجتباء والاصطفاء معناهما واحد.
قال رحمه الله: (وَرَسُولُهُ الْمُرْتَضَى). والمؤلف رحمه الله تدرّج في أوصاف النبي ﷺ تدرجاً رُتبياً، فبدأ بالعبودية، ثم انتقل إلى النبوة، ثم انتقل إلى الرسالة.
فالعبودية ليست خاصة به ﷺ ،بل له ولغيره، والنبوة له ولكثير من الناس، أخص وأرفع هٰذه الدرجات الرسالة، فهي له ﷺ ولخاصة خلق الله عز وجل، لخاصة البشر (وَرَسُولُهُ الْمُرْتَضَى). المرتضى مأخوذة من الارتضاء، وهو مأخوذ من الرضا، والرضا هو معنى يَثبت به للمرضي الخير الكثير، وهو أن يكون ممتثلاً للأمر منتهياً عن النهي مسارعاً إلى الخير.
فالمرتضى هو المرضي أو المرضو، والنبي ﷺ مرضي من رب العالمين، ولذلك خصه سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ بما لم يخص به غيره.
وعلى كل حال الرضا فيه معنى زائد على الاصطفاء والاجتباء؛ لأنه اصطفاء واجتباء وزيادة، فقول بعض الشرّاح: إن الاصطفاء والاجتباء والارتضاء متقاربة في المعنى، فيه نوع نظر، بل الارتضاء فيه زيادة على معنى الاصطفاء والاجتباء؛ لأنه اصطفاء واجتباء وزيادة.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (وَإِنَّهُ خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ). هٰذا وصف النبي ﷺ، فهو خاتم الأنبياء، والخاتَم هو الذي لا يأتي بعده شيء، الذي لا يأتي بعده شيء، فالله عز وجل ختم النبوات بالنبي ﷺ، دليل ذلك قول الله جل وعلا: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾([122]). فهو ﷺ خاتم النبيين، ختم الله به النبوات، فلا نبي بعده صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقد جاء تقرير ختم النبوة في سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وجوه عديدة:
منها ضرب الأمثال، فإن النبي ﷺ ضرب مثلاً للنبوة فقال: ((إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بناءً فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة في زاوية، فجعل الناس يطوفون بهٰذا البناء يقولون: ما أجمله إلا هٰذه اللبنة. فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين))([123]). وهٰذا ضرب مثل لختم النبوات به ﷺ، وهٰذا أحد الطرق التي قرر بها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ختم النبوة. الطريق الأول ضرب الأمثال.
الثاني من الطرق التي ذكرها النبي ﷺ في سنته في ختم النبوة أنه ﷺ أخبر بمجيء كذابين فقال: ((سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يدعي- أو كلهم يزعم- أنه نبي، لا نبي بعدي))([124]). فتكذيب النبي ﷺ لهؤلاء في دعوى النبوة دلّ ذلك على أنه خاتم النبيين.
مما يستدل به من السنة على ختم النبوة أسماؤه ﷺ ،فإن من أسمائه (العاقب)، وقد فسر النبي ﷺ هٰذا الاسم فقال: ((العاقب الذي لا نبي بعده)). ([125]) فلا نبي بعد النبي ﷺ.
ومما سلكه النبي ﷺ في تقرير ختم نبوته أنه في جملة ما ذكر من الخصائص ذكر ختم النبوة، وذلك في بعض روايات حديث: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي)). ([126]) في بعض رواياته: ((أعطيت ستا))، وذكر آخرها: ((وختم بي الرسل)) ([127]) فختم الله عز وجل بالنبي ﷺ الرسل. طيب.
لو قال قائل: إن ختم النبوة لا يستلزم ختم الرسالة، فما الجواب؟
الجواب: هٰذا كذب؛ لأنه ما من رسول إلا ولا بد أن يكون نبيّاً، فالرسالة مرتبة أعلى من النبوة، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً، فإذا ختم الله بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم النبوات دلّ ذلك على أنه خاتم الرسل صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فختم النبوة يدل على ختم الرسالة، فما يدعيه الكذّابون ممن يدعون الرسالة أن النبي ﷺ لم يخبر بختم الرسل إنما أخبر بختم النبوات، حجتهم داحضة باطلة واضحة العوار.
قال رحمه الله: (وَإِمَامُ الأَتْقِيَاءِ). النبي ﷺ لا ريب أنه إمام الأتقياء، والإمام هو المقدم، ودليل هٰذا أن النبي ﷺ قال: ((والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له))([128]). فأقسم النبي ﷺ أنه أتقى الأمة للرب جل وعلا. فإمام الأتقياء رسول الله ﷺ ؛ لأنه مقدمهم هٰذا واحد.
وهو إمام الأتقياء أيضاً؛ لأنه محل الأسوة لهم، فبه يتأسون وبه يقتدون، وعن فعله يصدرون صلى الله عليه وعلى آله وسلم:﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ﴾ ([129]). وقال الله جل وعلا: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾([130]). فجعله الله إماماً لهم في العمل وفي الأسوة، فهو إمام الأتقياء ﷺ.
إذاً قول المؤلف رحمه الله: (وَإِمَامُ الأَتْقِيَاءِ) يشمل معنيين:
· الإمامة بمعنى التقدم، ودليل ذلك قسم النبي ﷺ وإخباره بأنه أتقى الأمة.
· والإمام بمعنى محل القدوة والأسوة والاهتداء بهديه، وهٰذا أدلته كثيرة في الكتاب والسنة.
ثم قال رحمه الله في وصف النبي ﷺ: (وَسَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ). ولا إشكال في أن النبي ﷺ سيد المرسلين، لكنه لم يرد في ما أعلم وصفه ﷺ بذلك في السنة، وإنما الذي ورد في السنة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة))([131]). فأخبر ﷺ بأنه سيد ولد آدم يوم القيامة، وورد ذلك مطلقاً حيث قال: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر في الدنيا وفي الآخرة))([132]).
وإنما استعمل العلماء أو خص العلماء سيادة النبي ﷺ للمرسلين؛ لأن صفوة ولد آدم هم المرسلون، صفوة ولد آدم هم المرسلون، فإذا كان النبي ﷺ سيدهم، فهو سيد ولد آدم جميعاً.
وعندي أن الأحسن أن يوصف صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما وصف به نفسه، فإن قول القائل: إن النبي ﷺ سيد ولد آدم. أكمل من كونه سيداً للمرسلين؛ لأنه أوسع معنىً وأوسع مدلولاً، فهو سيد ولد آدم: المسلم والكافر، البر والفاجر، وهٰذا هو المعنى الذي يلمح من قوله ﷺ: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)). فإن تخصيص السيادة بيوم القيامة؛ لأنه يظهر بها مكانه وفضله، حيث يتخلى الجميع ولا يجدون من يقوم بالشفاعة العظمى إلا نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
فينبغي أن يقتصر في الوصف على ما جاء عن النبي ﷺ، فإنه مهما بالغ الإنسان في إيفاء النبي حقه لا يبلغ ما جاءت به النصوص.
ثم قال: (وَحَبِيبُ رَبِّ الْعَالَمِينَ). هٰذا فيه وصف النبي ﷺ بالمحبة، وأنه (حَبِيبُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أي محبوب رب العالمين، فـ(حَبِيبُ) فعيل بمعنى مفعول، فهو محبوب رب العالمين جل وعلا.
ولا شك في إثبات محبة الله لرسوله ﷺ، إلا أن في هٰذا قصوراً عما ينبغي أن يكون عليه النبي ﷺ، فإن النبي ﷺ خليل الرحمن، خليل رب العالمين، والخلة مرتبة أعلى من المحبة، فالخلة هي الغاية والمنتهى في مراتب المحبة، والخلة أخص من مطلق المحبة، وتخصيصها من وجهين:
الوجه الأول: أن الخلة تكون محبة لذات الشيء، أي محبة ليست لغرض إلا لكون المحبوب مستحقّاً للمحبة، هٰذا الوجه الأول.
الوجه الثاني: أن الخلة تمنع الشركة، فلا شركة في الخلة، بخلاف المحبة فإنها تقبل الشركة.
وهٰذان الوجهان واضحان في قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ((إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً))([133]). أي صيرني خليلاً له جل وعلا، فهو خليل الرحمن، فتبرأ النبي ﷺ من كل خلة:
· لأن الخلة لا تقبل الشركة.
· ولأن المحبوب سبحانه وتعالى محبوب لذاته.
فهٰذا ما اختصت به الخلة.
ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن الخلة تستلزم كمال العبودية، تستلزم كمال العبودية([134])، وهٰذا في الحقيقة ليس لازماً لمعنى الخلة، أو ليس من لوازم الخلة في كل مكان؛ لأن الخلة تكون بين الناس ولا تستلزم أن يعبد الخليل خليله، لكن ما تختص به الخلة عن المحبة هما الوجهان السابقان.
بعض العلماء يرى أن المحبة أعلى من الخلة، ويستدلون بحديث ضعيف: ((إبراهيم خليل الله، وأنا حبيب الله ولا فخر)).([135]) لكن الحديث لا يصح، وكل حديث في هٰذا المعنى لا يصح، بل الخلة أعلى درجة من المحبة، ولذلك قال النبي ﷺ: ((إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً)).([136])
نقف على قوله: (وَكُلُّ دَعْوَى النُّبُوَّةِ بَعْدَهُ فَغَيٌّ وَهَوًى).
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
¹
الدرس السادس
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(وَكُلُّ دَعْوَى النُّبُوَّةِ بَعْدَهُ فَغَيٌّ وَهَوًى. وَهُوَ الْمَبْعُوثُ إِلَى عَامَّةِ الْجِنِّ، وَكَافَّةِ الْوَرَى، بِالْحَقِّ وَالْهُدَى، وَبِالنُّورِ وَالضِّيَاءِ).
طيب. قال المؤلف رحمه الله في تكميل ما يتعلق بتقرير رسالة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (وَكُلُّ دَعْوَى النُّبُوَّةِ) أي وكل ادّعاء للنبوة بعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (فَغَيٌّ وَهَوًى)، وصفها المؤلف رحمه الله بوصفين: (غَيٌّ وَهَوًى).
والغي هو الجهل عن اعتقاد فاسد، فادعاء النبوة بعد نبوة النبي ﷺ جهل ناشئ عن اعتقاد فاسد، وهو أنه تجوز النبوة بعده ﷺ.
وقول المؤلف رحمه الله: (وَهَوًى) أي واتباع للهوى، وهو ما تشتهيه النفس وتميل إليه، فالهوى مأخوذ من هوِي يهوى، إذا مال إلى الشيء والتذ به وانجذب إليه.
فكل من ادعى النبوة بعد محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فدعواه لا تخرج عن هذين:
· عن كونها جهلاً ناشئاً عن اعتقاد فاسد.
· أو اتباعاً للهوى.
وقد بين النبي ﷺ.....(هنا نقص في الأصل) النار نعوذ بالله من الخذلان، وهٰذا يوجب على كل أحد يبلغه خبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يوجب عليه أن يتبعه وأن ينقاد له وأن يشهد له بالرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ومما يدل على عموم رسالة النبي ﷺ أن الله أمره بمخاطبة اليهود والنصارى، وهم بقية الأمم من الأمم السابقة الذين معهم كتب، وخاطبهم ﷺ وأمرهم بالاستجابة إليه: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾([137]). فكل من لم يأتِ بما أمر به النبي ﷺ من الإقرار له بالرسالة فهو كافر بالله العظيم، وما يدعيه أهل الكتاب من أن رسالة النبي ﷺ خاصة بالعرب أو خاصة بالأميين فهو كذب وضلال، وإنما هو في الحقيقة طعن وتكذيب للنبي ﷺ، فأهل الكتاب الذين يقولون: نحن نؤمن بالنبي ﷺ -بالنبي محمد-، لكنه خاص بالعرب، بالأميين، هؤلاء كاذبون مكذبون للنبي ﷺ؛ لأن النبي ﷺ أخبر وهو لا ينطق عن الهوى، أخبر بعموم رسالته.
وإنما نحتاج إلى تقرير هٰذا حتى نرد على الذين يقولون في هٰذه الأزمان المتأخرة: اليهود على حق والنصارى على حق، ويسوون بين أهل الإسلام وغيرهم من أهل الكتاب.
ولا سواء، فهؤلاء يؤمنون بالله الواحد القهار الذي لا إله غيره، ويصدقون النبي ﷺ بالرسالة وبما جاء به، وأولئك يكذبون بالأصلين:
فهم يشركون بالله: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ﴾([138])، ويكذبون النبي ﷺ حيث قالوا: إنما بعث للعرب خاصة وليس لعموم الناس.
وأما عموم رسالة النبي ﷺ للجن فذلك مستفاد من سورة الجن، فإن سورة الجن ظاهرة والدلالة فيها من مواضع عديدة على أن النبي ﷺ مبعوث إليهم، ويدل لذلك أيضاً ما ذكره الله جل وعلا في سورة الأحقاف حيث قال I: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ﴾ أي قضي قراءة القرآن وقضي سماعـه ﴿وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾([139]) منذرين بأي شيء؟ بما سمعوه وما تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قالوا لما ولوا إلى قومهم منذرين بين وجه الإنذار ﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾([140]). وهٰذا يدل على أنهم كانوا متعبدين أو أن منهم من كان يعبد الله بشريعة موسى. ﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ﴾([141]) فهٰذا فيه وجوب اتباع ما جاء عن النبي ﷺ ،ووجوب الانقياد لما سمعوه من القرآن العظيم.
ولا ريب أن الجن مخاطبون برسالة النبي ﷺ، وعلى هٰذا دل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ولا خلاف بينهم في أن الجن مخاطبون بدعوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
فرغ المؤلف رحمه الله من تقرير هٰذا الأصل، ثم انتقل إلى تقرير ما يتعلق بالقرآن، لكن قبل ذلك ذكر المؤلف رحمه الله شيئاً من أوصاف ما جاء به النبي ﷺ، قال: (بِالْحَقِّ وَالْهُدَى، وَبِالنُّورِ وَالضِّيَاءِ). وهٰذا وصف مطابق لفظاً ومعنىً لما جاء به النبي ﷺ، فإن نبينا ﷺ بعثه الله بالهدى ودين الحق، بعثه بالنور والضياء، الحق في القول والعمل، الهدى في القول والعمل: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾.([142]) ﴿الْهُدَى﴾ العلم النافع ﴿وَدِينِ الْحَقِّ﴾ العمل الصالح، فبعث الله ﷻ رسوله بالحق في الأقوال والأعمال والهدى في العلم والاعتقاد.
وقد أثبت الله جل وعلا لرسوله هٰذا الوصف، فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾([143]). الله أكبر، فجعل الله النبي ﷺ هادياً إلى صراط مستقيم.
وأثبت له الثبات والاستقرار والاستعلاء والتمكن من الصراط المستقيم فقال: ﴿إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ﴾([144]). وانظر كيف أتى بحرف (على) الذي يفيد الاستعلاء والتمكن والاستقرار، فرسول الله ﷺ ثبتت قدمه على الصراط المستقيم، ثبتت ثباتاً متمكناً عالياً لا زوال له، وكل من سار على طريقه وأخذ بهديه واتبع سنته فإنه موافق له، وله نصيب من هٰذا الوصف المذكور: ﴿إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ﴾([145]). ثم قال: (وَبِالنُّورِ وَالضِّيَاءِ). أي ما جاء به النبي ﷺ نور وضياء، ولا ريب أن ما جاء به نور وضياء: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ﴾([146]). من أهم وأخص ما جاء به النبي ﷺ إخراج الذين آمنوا من الظلمات إلى النور، فالله ﷻ أخرج أهل الإيمان بالنبي ﷺ، وما جاء به من الهدى والنور، أخرجهم من ظلمات الجهالات والتعاسات والشقاء في الدنيا إلى نور السعادة والعلم والعبادة في الدنيا قبل الآخرة. أما الآخرة فإنها نور ولا إشكال فيه؛ لأن أهل الإيمان يأتون تضيء لهم أعمالهم على قدر استمساكهم بهدي النبي ﷺ، فبقدر ما مع الإنسان من هدي النبي ﷺ عقداً وعملاً بقدر ما يكون له من النور يوم القيامة.
فما الفرق بين النور والضياء؟ من حيث دلالة المعنى: المعنى متقارب، لكن الفرق بين النور والضياء:
· أن النور ضياء، أن النور نور لا حرارة فيه.
· وأما الضياء فإنه نور مع حرارة.
قال الله جل وعلا إيش؟: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً﴾ ([147]). هل بينهما فرق؟ نعم بينهما فرق: الشمس إضاءة ونور مع حرارة، والقمر نور لا حرارة فيه، وهكذا ما جاء به النبي ﷺ فمنه ما هو نور لا حرارة فيه، ومنه ما فيه حرارة، لكنها حرارة تعقب سعادة ولذة وطمأنينة.
قال بعد هٰذا في تقرير ما جاء عن أهل السنة والجماعة، قال في مسائل القرآن: (وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ).
(وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ، مِنْهُ بَدَأَ بِلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلاً، وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْيًا، وَصَدَّقَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ حَقًّا، وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ، لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَكَلامِ الْبَرِيَّةِ، فَمَنْ سَمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَلامُ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ، وَقَدْ ذَمَّهُ اللَّهُ وَعَابَهُ وَأَوْعَدَهُ بِسَقَرَ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾([148])، فَلَمَّا أَوْعَدَ اللَّهُ بِسَقَرَ لِمَنْ قَالَ: ﴿إِنْ هٰذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ﴾([149])، عَلِمْنَا وَأَيْقَنَّا أَنَّهُ قَوْلُ خَالِقِ الْبَشَرِ، وَلا يُشْبِهُ قَوْلَ الْبَشَرِ).
هٰذا الكلام من أنفس ما في هٰذه العقيدة من تقرير عقيدة أهل السنة والجماعة في هٰذه الصفة العظيمة، صفة الكلام لله رب العالمين.
والكلام صفة ذاتية للرب جل وعلا يُثبتها أهل السنة والجماعة بالكتاب والسنة وإجماع السلف والعقل، فإنها صفة دل عليها العقل، ولذلك أثبتها مثبتة الصفات.
وإذا رأيتم في كلام العلماء مثبتة الصفات فالمراد بهم من يثبت بعض الصفات وينكر بعضاً كالأشاعرة والكلابية والماتريدية وأشباههم، فهؤلاء يثبتون شيئاً من الصفات وينكرون شيئاً من الصفات.
فمثبتة الصفات يثبتون لله ﷻ صفة الكلام؛ لأنها صفة كمال دل عليها العقل، والكلام ذكرنا أنه صفة ذاتية، فلم يزل ولا يزال الله جل وعلا متصفاً بالكلام، يتكلم أزلاً وأبداً كيف شاء جل وعلا: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي﴾([150]) جل وعلا. فهو سبحانه وتعالى متكلم، ومن عطّل الله جل وعلا عن هٰذه الصفة وقال: إنه لا يتكلم. فقد افترى إثماً عظيماً على الرب جل وعلا، وأثبت له نقصاً كبيراً، فإن من دلائل ألوهية الله ﷻ واستحقاقه العبادة أنه I متكلم، ولذلك لما احتج إبراهيم عليه السلام على من عبد غير الله، احتج عليهم بأنهم لا يتكلمون، وذلك في قوله: ﴿فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾([151]). فاحتج بها إبراهيم عليه السلام كذلك موسى -عليه السلام -في قول موسى: ﴿أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً﴾([152])- على إبطال عبادة الأصنام وعلى إبطال عبادة العجل بأنهم لا يتكلمون ولا يرجعون إليهم قولاً.
فكل من وصف الله ﷻ بأنه لا يتكلم فقد عطّل الله جل وعلا عن صفة من الصفات الموجبة لإفراده بالعبادة I. ثم اعلم أن مسألة تعطيل الله جل وعلا عن صفة الكلام لها اتصال بالإيمان بالله، واتصال بالإيمان بالكتب، واتصال بالإيمان بالرسل، ولذلك كان الإخلال بهٰذه الصفة خللاً في جميع أنواع هٰذا التوحيد وهٰذه الأصول: الإيمان بالله، والإيمان بالكتب، والإيمان بالرسل:
فإن الكتب كلام الله، والرسل أخبروا عن قول الله، والله جل وعلا متصف بالكلام، فمن قال: إنه لا يتكلم. فقد كذّب الرسل فيما أخبروا به عن رب العالمين. ولم يحقق الإيمان بالكتب؛ لأن الكتب كلام الله، وهو يعتقد أن الله جل وعلا لا كلام له. الثالث قدح في الإيمان بالله ونقص في الإيمان به. ولذلك قال الشيخ رحمه الله شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية: وَمِنَ الإِيمَانِ باللهِ وَكُتُبِهِ ورسله الإيمانُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللهِ، مِنْهُ بَدَأَ، وَإِلَيْهِ يَعُودُ. فجعل الإيمان بأن القرآن كلام الله من تمام الإيمان بالله، من تمام الإيمان بالكتب، من تمام الإيمان بالرسل.
ولذلك كان التعطيل لهٰذه الصفة تعطيلاً لأنواع من التوحيد وإخلالاً بعدة أصول من أصول الإيمان: الإيمان بالله، الإيمان بالكتب، الإيمان بالرسل .
قال المؤلف رحمه الله: (وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ). المؤلف رحمه الله لم يناقش قولهم في صفة الكلام، إنما ناقش قولهم في القرآن، فقرر ما يعتقده أهل السنة والجماعة في القرآن؛ لأن القرآن أشرف كلام الله ﷻ، فأشرف كلام الله جل وعلا القرآن، فالقرآن أعظم ما تكلم الله به I، فجعل الكلام منصبّاً ومتوجهاً إلى هٰذا الأصل العظيم، فإذا ثبت فغيره تابع له.
واعلم أن كلام الله جل وعلا ينقسم إلى قسمين:
· كلام خَلْقِي قدري كوني.
· وكلام شرعي ديني أمري.
الكلام الخلقي القدري الكوني هو الذي يصدر عنه كل شيء في هٰذا الكون، ولا حد له ولا حصر، وهٰذا الكلام هو الذي قال فيه النبي ﷺ في تعوذه: ((أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر و لا فاجر)) ([153]). فإن كلمات الله التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر هي الكلمات الكونية؛ لأنه لا خروج لأحد عن قدر الله، كل ما وقع في الكون من خير أو شر فهو بكلمات الله الكونية، لا يتجاوز هٰذا ولا يخرج عنه بر ولا فاجر.
أما القسم الثاني من الكلام فهو الكلام الشرعي الديني الأمري: وهو كلام الله ﷻ الذي كلم به رسله، وأنزل به كتبه كالتوراة والإنجيل والقرآن والزبور وغير ذلك من الكتب، أشرف ذلك القرآن ثم يليه التوراة، ولذلك تجد أن القرآن العظيم يذكر التوراة والقرآن كثيراً، فأشرف الكتب التي أنزلها الله وأشرف كلام الرب جل وعلا هو ما كان في القرآن العظيم وما كان في التوراة، وأشرف ذلك ما كان في القرآن: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً﴾([154]). والآية تشير إلى ما أنزله الله ﷻ على نبيه محمد ﷺ.
وهٰذا الكلام مما يُتعبد الله I به.
أما الكلام القدري الكوني فإنه لازم لكل أحد، ولم يتعبدنا الله جل وعلا به، يعني بالتزامه وفعله؛ لأنه لا خروج لأحد عنه.
نعم كلام الله الكوني يقال: الخلقي، يعني: هو الذي يحصل منه الخلق، يوصف بهٰذا باعتبار أن الخلق صادر عنه لا أنه هو مخلوق، الكلام الكوني القدري الخلقي، مثل القضاء، ومثل الحكم، ومثل الإرادة الكونية الخلقية، الإرادية فتوصف بالخلقية، لا أنها مخلوقة، لكن عنها تصدر المخلوقات.
حقيقة ما بودي أن أبدأ بالكلام على ما ذكره المؤلف رحمه الله؛ لأن الكلام متصل ولا بودنا أن نقطعه هٰذه مقدمة موجزة فيما يتعلق بصفة الكلام لله ﷻ، ويأتي إن شاء الله تعالى بقية البحث فيما ذكره المؤلف رحمه الله مما يتعلق بالقرآن في الدرس القادم.
¹
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الطحاوي رحمه الله تعالى:
(وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ، مِنْهُ بَدَأَ بِلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلاً، وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْيًا، وَصَدَّقَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ حَقًّا، وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ، لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَكَلامِ الْبَرِيَّةِ، فَمَنْ سَمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَلامُ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ، وَقَدْ ذَمَّهُ اللَّهُ وَعَابَهُ وَأَوْعَدَهُ بِسَقَرَ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾([155]). فَلَمَّا أَوْعَدَ اللَّهُ بِسَقَرَ لِمَنْ قَالَ: ﴿إِنْ هٰذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ﴾([156]) عَلِمْنَا وَأَيْقَنَّا أَنَّهُ قَوْلُ خَالِقِ الْبَشَرِ، وَلا يُشْبِهُ قَوْلَ الْبَشَرِ.
وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ، فَمَنْ أَبْصَرَ هٰذا اعْتَبَرَ، وَعَنْ مِثْلِ قَوْلِ الْكُفَّارِ انْزَجَرَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ بِصِفَاتِهِ لَيْسَ كَالْبَشَرِ).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فقد تقدم الكلام على أول ما يتعلق بهٰذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله في قوله: (وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ). وقلنا: إنّ في هٰذا إثبات صفة الكلام لله جل وعلا، والكلام صفة لله I ذاتية دل عليها الكتاب والسنة والإجماع والعقل، فإن صفة الكلام من صفات الباري العظيمة جل وعلا، التي إنكارها يقتضي القدح في الإيمان بالله ﷻ ونقض الإيمان بالرسل ونقض الإيمان بالكتب، فإن الإيمان بالرسالة من لوازمه أن تؤمن بالمرسِل، ومن لوازم الإيمان بالمرسِل أن تؤمن بالقول الذي أرسل به رسله.
فالإخلال بهٰذا النوع من أنواع التوحيد أو بهٰذا النوع من أنواع الصفات خلل في أنواع عديدة من العقائد وما يجب الإيمان به من أصول الإيمان.
وتقدم الكلام على أن الكلام ينقسم إلى قسمين: كلام كوني، وكلام شرعي.
والمؤلف رحمه الله في هٰذا المقطع يقرر كلام الله جل وعلا الشرعي؛ لأن القرآن من كلام الله الشرعي، يقول رحمه الله: (وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ). وعلى هٰذا أهل السنة والجماعة، دل على ذلك الكتاب في قول الله جل وعلا: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ﴾([157]). والمراد بكلام الله في الآية كلامه الذي تكلم به وهو القرآن، فإن الله جل وعلا تكلم بالقرآن وقت نزوله وبلغه جبريل النبي ﷺ ، فهو كلام رب العالمين، أضافه الله إلى نفسه إضافة الصفة إلى الموصوف، فليس في هٰذا مِرية ولا في هٰذا شك ولا ريب عند أهل السنة والجماعة.
وأما إضافة القرآن إلى النبي ﷺ وإضافته إلى جبريل في بعض الآيات، فإن هٰذا من باب إضافة الكلام إلى مبلِّغه، وليس إلى قائله؛ بل المتكلم به وقائله هو رب العالمين جل وعلا.
ولذلك إضافة القرآن: أضافه الله في كتابه إليه، وأضافه إلى جبريل، وأضافه إلى النبي ﷺ:
إضافته إليه I من باب إضافة الصفات.
وإضافته إلى جبريل من باب إضافة البلاغ، فهو الرسول الملكي الذي أرسله الله ﷻ بالقرآن.
وإضافته إلى النبي ﷺ هي إضافة إلى الرسول البشري الذي جعله الله سبحانه وتعالى مبلغاً لرسالاته ﷺ، فلا يلتبس عليك، فإن الكلام يضاف وينسب إلى من تكلم به أولاً، لا من قاله مبلغاً.
ولذلك تجد القائل ممن يبلّغ قول النبي ﷺ يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كذا وكذا. مع أنه لم يسمعه منه، وهٰذا الكلام ليس كلام المتكلم، أي إنه ليس منسوباً إليه، وإنما هو مبلغ وناقل لما قاله رسول الله ﷺ.
فالكلام يضاف في لغة العرب إلى من تكلم به ابتداءً، وإن أضيف إلى من نقله فهي إضافة نقل وتبليغ لا إضافة ابتداء وكلام.
ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (مِنْهُ بَدَأَ بِلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلاً)، فـ(من) هنا بيانية لبيان ابتداء الغاية، أي إن الكلام منه ابتدأ I، فـ(من) لابتداء الغاية، والهاء هنا الضمير يعود إلى الرب جل وعلا، أي من الله، بدأ أي هو المتكلم به I، لم يتكلم به غيره، ولم يخلقه في غيره، وهٰذه الكلمة منقولة عن السلف، ومرادهم بها كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله وغيره أن الله I لم يخلق هٰذا الكلام في غيره كما تقول المعتزلة والجهمية، الذين يقولون: إن الكلام كلام الله والقرآن كلام الله، لكنه كلام الله مخلوق.
فللرد عليهم قال رحمه الله: (مِنْهُ بَدَأَ) أي هو المتكلم به، فالجهمية يقولون: القرآن كلام الله لكن خلقه في غيره، فهو مخلوق من جملة خلق الله I. وقد رد عليهم سلف هٰذه الأمة، وحصل في هٰذه الصفة فتنة عظيمة لأهل السنة والجماعة أيام الإمام أحمد رحمه الله، حيث بُلي الناس بمسألة القرآن وامتحنوا وامتحن العلماء والقضاة وأهل العلم، بل امتحن العامة بهٰذه المسألة، وثبّت الله جل وعلا الإمام أحمد رحمه الله، وحفظ الله به كتابه وعقد السلف الصالح من الاندثار والضياع، حيث ثبت على قوله وذبّ عما دل عليه الكتاب والسنة، ورد قول المبتدعة الجهمية الذين قالوا: إن القرآن كلام الله لكنه مخلوق كسائر المخلوقات. واستدلوا لذلك بقوله تعالى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ([158]) والقرآن شيء فهو داخل في هٰذا العموم لكنه كذب؛ لأن (كل) في كل موضع تفيد العموم بحسب الموضع الذي وردت فيه، فإفادة (كل) للعموم ليست مطلقة مجردة عن السياق الذي وردت فيه، ولذلك الريح التي أرسلها الله ﷻ على عاد لم تدمر المساكن، مع أن الله ﷻ قال: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ﴾([159]) ولو كانت تدمر كل شيء لما بقيت الأرض؛ لأنها مرت على الأرض، فبقيت الأرض، فدل ذلك على أن (كل) في كل محل ترد فيه تفيد العموم بحسب السياق الذي ترد فيه، وبحسب ما يقتضيه معنى الكلام، وليست (كل) تفيد العموم في كل المواضع العموم المطلق الذي لا يخرج عنه شيء.
ثم إن القول بأن القرآن مخلوق استدلالاً بهٰذا يقتضي أن نجعل جميع الصفات مخلوقة؛ لأن الرحمة شيء، والعلم شيء، والبصر شيء، والسمع شيء، والإرادة شيء، ومقتضى هٰذا أن تكون جميع صفات الله ﷻ مخلوقة داخلة في قوله: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ([160])، مع أنه I الخالق المدبر الذي لا يدخل شيء من صفاته في عموم قوله: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾.
فالرد على المعتزلة والجهمية في استدلالهم بهٰذه الآية على أن القرآن مخلوق واضح وبين، يدركه كل أحد، كل من فقه اللسان وعرف موارد الكلام فهم وعلم أن إفادة العموم من هٰذا اللفظ ليست واضحة في إدخال كلام الله ﷻ.
المراد أنّ القرآن كلام الله حقيقة، والإضافة هنا إضافة أوصاف لا إضافة أعيان.
والجهمية عندهم أن الإضافة هنا إضافة عين؛ لأن الكلام مخلوق فإضافته إلى الله كإضافة بيت الله وناقة الله وما أشبه ذلك من الإضافات التشريفية التي أضافها الله I إلى نفسه للتشريف وبيان المكانة والمنزلة، فناقة الله الإضافة هنا ليست إضافة صفات؛ لأن الناقة عين قائمة بذاتها، فإضافتها إلى الله ﷻ إضافة تشريف، كذلك (بيت الله) الإضافة هنا إضافة تشريف؛ لأنها عين قائمة، (عبد الله) الإضافة إضافة تشريف؛ لأن العبد عين قائمة، لكن ما لا يقوم من الإضافات كالكلام والرحمة والسمع والبصر، هٰذه ليست أعياناً قائمة بذاتها إنما تقوم بغيرها، فإضافتها إلى الله جل وعلا تكون من باب إضافة الصفات ومن ذلك الكلام، الكلام ليس شيئاً يقوم بذاته حتى نقول: إن الإضافة إضافة خلق، بل هٰذا تلبيس وتشبيه يرده أصحاب العقول النيرة والأفهام البينة.
يقول رحمه الله: (مِنْهُ بَدَأَ بِلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلاً). قوله رحمه الله: (بِلا كَيْفِيَّةٍ) الكيفية المنفية هنا هي كيفية العلم، يعني نفي علم الكيفية لا الكيفية ذاتها، بل الكيفية ثابتة، والمنفي هو علمنا لهٰذه الكيفية، إذْ لا شيء إلا وله كيفية، لكن نحن لا ندرك هٰذه الكيفيات.
فقول العلماء: نثبت ما أثبته الله لنفسه من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل. المراد من غير تكييف نعلمه، وأما كيفية الشيء وهي أن يكون له هيئة، فإن الصفات لها هيئة الله أعلم بها، ولا بد أن يكون لها هيئة، لكن هيئة هٰذه الصفات لا نعلمها ولا ندركها.
فالمنفي هنا العلم بالكيفية لا أصل الكيفية وذاتها، فليس نفياً لأن تكون الصفات على هيئة وصفة معينة، فافهم هٰذه. قوله: (مِنْهُ بَدَأَ بِلا كَيْفِيَّةٍ). ونفي التكييف ما دليله؟ دليله قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾([161]). تقول: هٰذا نفي للمثلية فكيف يكون نفياً للكيفية؟ الجواب: أنه لا يمكن أن تصل إلى المثلية إلا بالتكييف، فالآية تضمنت نفي الغاية والوسيلة، فالله جل وعلا نفى المثل، وإذا كان المثل منتفياً، فما يوصل إليه وهو الكيفية العلم بالكيفية أيضاً منتفٍ.
ولذلك لما سئل بعض السلف عن الاستواء: كيف استوى؟ قال: دُلّني على كيف هو، فأخبرك كيف استوى.
دلني كيف هو، كيف الله جل وعلا حتى أخبرك بكيفية صفاته، ولا أحد يمكن أن يقول: الله على هٰذا الكيف على هٰذه الهيئة على هٰذه الصفة، فإنه جل وعلا ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾([162]) فإذا انتفى علم كيفية الذات فكذلك علم كيفية الصفات؛ لأن القاعدة عند أهل السنة والجماعة، وهي قاعدة دلّ عليها الكتاب والسنة: أن القول في الصفات كالقول في الذات، فإذا كنا نجهل ذات الرب جل وعلا، كيفية ذات الرب جل وعلا، فنحن نجهل أيضاً صفاته I.
والمراد أن كل صفات الله ﷻ على هٰذا الباب، وليس هٰذا مما اختص به الكلام، بل هو في جميع الصفات، فإن نفي الكيفية من عقد أهل السنة والجماعة الذي دل عليه الكتاب والسنة.
ولذلك لما سئل الإمام مالك رحمه الله عن كيفية الاستواء أجاب بالجواب الفصل البين الواضح الذي عليه نور القرآن وهدي السنة، قال رحمه الله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، أو غير معلوم. فنفى العلم بالكيفية، وذلك أن العلم بالكيفيات فرع عن العلم بالذات.
قوله رحمه الله: (قَوْلاً)، (مِنْهُ بَدَأَ بِلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلاً). هٰذا فيه الرد على الأشاعرة والماتريدية، انظر هٰذه العبارة على اختصارها ردت على فرق الضلال في صفة الكلام، فقوله: (مِنْهُ بَدَأَ) فيه الرد على من؟ على الجهمية والمعتزلة الذين قالوا: كلام الله مخلوق، وفي قوله: (قَوْلاً) رد على الأشاعرة والماتريدية والكلابية الذين ضلوا في الصفة.
فقالت الأشاعرة: القرآن عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله؛ لأن الكلام عندهم معنى يقوم بالنفس.
وقالت الكلابية: القرآن حكاية عن كلام الله ﷻ، حكاية عن كلام الله ﷻ، وليس كلام الله. واختلفوا في المعنى المحكي عنه، فمنهم من قال: إنه معنى واحد، ومنهم من قال: إنه خمسة معانٍ. فليس عندهم كلام تكلم به الرب جل وعلا، إنما الكلام عندهم معانٍ، منهم من قال: إنه معنى واحد، ومنهم من قال: إنه خمسة معانٍ، على اختلاف بينهم.
ولا إشكال أن هٰذا القول باطل ضلال، ترده النصوص من الكتاب والسنة، ويرده قول أهل السنة والجماعة في القرون المفضلة ومن بعدهم ممن سار على طريقهم.
قوله رحمه الله: (وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْيًا). هٰذا فيه بيان أن القرآن منزل من رب العالمين، وهٰذا فيه التأكيد لمعنى ما تقدم من أن القرآن كلام الله جل وعلا، حيث إنه نزل منه I.
وقد قرّر الله جل وعلا هٰذا الأمر وهو إنزال الكتاب منه في آيات كثيرة: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾،([163]) ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾([164]). والآيات في هٰذا كثيرة التي يخبر فيها جل وعلا أن القرآن منزل منه، وهٰذا فيه أنه كلامه I المضاف إليه، فهٰذا تأكيد لما تقدم من أن القرآن كلام الله جل وعلا (مِنْهُ بَدَأَ بِلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلاً).
قال: (وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْيًا). الرسول هنا المراد به النبي ﷺ، وقوله: (وَحْيًا) أي أنزله على صفة الوحي، والوحي أيها الإخوة له ثلاث درجات:
يطلق الوحي ويراد به الإعلام السريع الخفي، هٰذا الأصل فيه.
فمنه ما يكون ظاهراً.
ومنه ما يكون خفيّاً.
ومنه ما يكون يقظةً.
ومنه ما يكون مناماً.
· وقد بين الله جل وعلا أقسام الوحي في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً﴾([165]) هٰذه المرتبة الأولى.
· ﴿أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾([166]) هٰذه المرتبة الثانية.
· ﴿َأَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ﴾([167]) هٰذه المرتبة الثالثة.
فأقسام الوحي ثلاثة:
القسم الأول هو الإعلام السريع: وهٰذا لا يختص به الأنبياء بل يكون للأنبياء وغيرهم، ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي﴾([168])، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى﴾([169])، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾([170]). فهٰذا كله يدخل في القسم الأول.
القسم الثاني وهو ما خص الله به موسى عليه السلام، وهو التكليم من وراء حجاب، وهو المشار إليه بقوله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً﴾. ([171])
القسم الثالث وهو العام في الرسل، ولا يكون إلا لهم، وهو أن يرسل إليهم رسولاً، وهو جبريل عليه السلام، فالأصل في الرسول الذي يبلغ القرآن جبريل عليه السلام الذي يبلغ القرآن ووحي رب العالمين، في الكتب السابقة الأصل فيه أنه جبريل عليه السلام، وهٰذا عام لجميع الأنبياء.
فقول المؤلف رحمه الله: (وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْيًا) من أي أنواع الوحي: هل هو من النوع الأول أو الثاني أو الثالث؟ الثالث؛ لأن جبريل هو الذي نزل بالقرآن، قال الله تعالى: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾([172])، وقال I: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾([173]). فالذي نزل بالقرآن جبريل عليه السلام، فقوله: (وَحْيًا) هو من النوع الثالث. أرفع هٰذه الأنواع هو النوع الثاني، النوع الثاني الذي خص الله به موسى، وهو أن يكلم الله الرسول من وراء حجاب، ثم النوع الثالث الذي هو آخر المذكورات في الآية، وأقلها وأدناها درجة هو النوع الأول الذي ابتدأ به ذكر أقسام الوحي في قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً﴾([174]). وهٰذا لا يختص الأنبياء كما تقدم.
أعيدوها أنتم: القسم الأول: الإعلام الخفي السريع، وهٰذا يلزم أن يكون كلاماً أو لا يلزم؟ لا يلزم أن يكون كلاماً، إطلاق الوحي على غير الكلام، فيه دلالة واضحة على أنه غير الكلام. النحل ما ندري هل لها لغة كلمها الله بها أو لا. المهم فيه شيء واضح أوضح من هٰذا في قصة زكريا: ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً﴾([175]). ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ﴾ ([176]). هنا ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ﴾ بغير الكلام؛ لأن الله أخذ عليه العهد أن لا يكلم الناس، فهٰذا دليل على أن الوحي الخاص يكون بغير تكليم، ولذلك الوحي والتكليم بينهما عموم وخصوص: فقد يكون الوحي بالتكليم وقد يكون بغير التكليم، والكلام قد يكون وحياً وقد لا يكون وحياً.
القسم الثاني: ما خص الله به موسى، وهو التكليم من وراء حجاب.
الثالث: الوحي برسول، إرسال الرسول لتبليغ الوحي.
طيب.ثم قال: (وَصَدَّقَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ حَقًّا). (صَدَّقَهُ) أي صدق من؟ صدق إيش؟ (وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْيًا، وَصَدَّقَهُ) الضمير يعود إلى القرآن، أي صدق القرآن المؤمنون على ذلك حقّاً، يعني على ما تقدم، على الصفة التي تقدمت في أنه كلام الله ﷻ: (مِنْهُ بَدَأَ بِلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلاً، وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْيًا)، وقوله: (حَقًّا) أي من غير تحريف ولا تأويل ولا تعطيل، بل صدقوه على ما دلت عليه هٰذه الألفاظ من أنه كلام الله حقيقة.
قال رحمه الله تأكيداً لهٰذا: (وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ) وهٰذا فيه الرد على طوائف الضلال ممن قال: إن القرآن مضاف إلى الله إضافة خلق، وممن قال: إنه عبارة عن كلام الله، وممن قال: إنه حكاية عن كلام الله.
ثم عاد المؤلف رحمه الله لتقرير ما تقدم، قال: (لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَكَلامِ الْبَرِيَّةِ) أي إن كلام الله جل وعلا لا يوصف بالخلق، بل هو كلامه الذي هو صفة من صفاته. (لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَكَلامِ الْبَرِيَّةِ) أي ككلام الخلق، فإن كلام الخلق مخلوق، وإن تكلموا بالقرآن فإن حركاتهم مخلوقة، لكن الكلام الذي يتكلمون به وهو القرآن كلام رب العالمين ليس بمخلوق.
وقولنا: إن القرآن كلام الله. يشمل اللفظ والمعنى، فإنه كلام الله لفظه ومعناه.
وهٰذا فيه الرد على من قال: إن المعنى هو كلام الله، واللفظ من جبريل أو من النبي ﷺ.
وفيه الرد أيضاً على من قال: إن كلام الله هو الألفاظ فقط دون المعاني.
وكل هٰذا من أنواع الضلال في كلام الله ﷻ، بل كلام الله ﷻ اللفظ والمعنى، فليس اللفظ خارجاً عن كلام الله، وليس المعنى خارجاً عن كلام الله، بل كلام الله ﷻ اللفظ والمعنى، فالقرآن بلفظه ومعناه كلام رب العالمين.
يقول: (فَمَنْ سَمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَلامُ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ). وهٰذا فيه بيان أنّ التكذيب بأنّ القرآن كلام الله كفر؛ لأنه تكذيب للقرآن الكريم، فمن قال: إنه كلام البشر فقد كفر، وهٰذا فيه بيان حكم من قال: إن القرآن من قول النبي ﷺ- كما يقوله بعض الأشاعرة- وإن المعنى من الله واللفظ من النبي ﷺ.
يقول: (فَقَدْ كَفَرَ). والتكفير في مثل هٰذا هل هو تكفير عيني أو تكفير وصفي؟ تكفير وصفي، أي من قال بهٰذا القول فقد كفر، لكن يبقى هل إذا جاءنا شخص يقول بهٰذا القول، هل نقول: إنه كافر؟ الجواب: لا، نقول: القول كافر. وأما القائل فنحتاج إلى النظر في حاله من حيث توافر الشروط وانتفاء الموانع، فإن تكفير المعين يحتاج إلى هذين، وأما تكفير الأقوال فإنه لا يحتاج إلا إلى إثبات الدليل على أن القول كفر، أما تنزيل هٰذا الحكم العام على الشخص المعين فنحتاج فيه إلى النظر في الشروط هل توافرت؟ والموانع هل ارتفعت؟ فإن توافرت الشروط وانتفت الموانع فإننا نحكم بكفره.
قال رحمه الله: (وَقَدْ ذَمَّهُ اللَّهُ وَعَابَهُ وَأَوْعَدَهُ بِسَقَرَ). سقر اسم من أسماء النار نعوذ بالله منها، وقيل: إنه اسم من أسماء أبوابها، قال: (حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾([177])، فَلَمَّا أَوْعَدَ اللَّهُ بِسَقَرَ لِمَنْ قَالَ: ﴿إِنْ هٰذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ﴾([178])، عَلِمْنَا وَأَيْقَنَّا أَنَّهُ قَوْلُ خَالِقِ الْبَشَرِ). وهٰذا القول قول الوليد ابن المغيرة الذي سمع القرآن فقال في مدحه والثناء عليه ما نفى عنه قول البشر، ثم حاجّه قومه قالوا: كيف تقول هٰذا وأنت سيد قريش؟ فرجع وقال: إن هو إلا قول البشر. قال الله ﷻ في توعده وتهديده:﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾؛ لأنه كذّب بكلام رب العالمين وأضافه إلى النبي ﷺ حيث قال: ﴿إِنْ هٰذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ﴾. (إن) هنا نافية والمعنى: ما هٰذا إلا قول البشر.
قال رحمه الله: (وَلا يُشْبِهُ قَوْلَ الْبَشَرِ) وهٰذا ليس خاصّاً بالقرآن، بل هو في سائر الصفات كما تقدم، فإنه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾([179]) سبحانه وبحمده.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ). هٰذا فيه النهي عن الأصل الثاني من أصول الشرك والكفر بالله ﷻ، الشرك يدور على أصلين:
الأصل الأول: تشبيه الله بخلقه.
والأصل الثاني: تشبيه الخلق بالخالق.
فمن شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن شبه الخلق بالله ﷻ فقد كفر، على هذين الأصلين تدور جميع أنواع الشرك والكفر، يقول المؤلف رحمه الله: (وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبَشَرِ). أي شبه الله بخلقه، فقال: يده كأيدينا، سمعه كأسماعنا، حياته كحياتنا، كلامه ككلامنا أو ما أشبه ذلك (فَقَدْ كَفَرَ). وهٰذا قول من؟ قول الممثلة الذين غلوا في إثبات الصفات فمثلوا الله بخلقه، وأبرز الفرق في هٰذا الكرامية أتباع عبد الله بن كرام الذين مثلوا الله بخلقه، إلا أن هٰذه الفرقة انقرضت، وذلك أن الفطر مجبولة على تنزيه الخالق، وأن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، ولذلك لم تقم لهٰذه الفرقة سوق، وإنما السوق القائمة لقول أهل التعطيل الذين دخلوا في صفات الله ﷻ بعقولهم وآرائهم الفاسدة، فأفسدوا ما دلت عليه النصوص.
يقول رحمه الله: (فَمَنْ أَبْصَرَ هٰذا). أي من تأمل وأدرك وفهم وعقل، فالإبصار هنا إبصار القلب لا إبصار النظر فقط (فَمَنْ أَبْصَرَ هٰذا اعْتَبَرَ). أي حصلت له العبرة والعظة (وَعَنْ مِثْلِ قَوْلِ الْكُفَّارِ انْزَجَرَ). أي انكف وامتنع، سواءً في ما يتعلق بصفة الكلام أو بغيرها من الصفات (وَعَلِمَ أَنَّهُ بِصِفَاتِهِ)أي الله جل وعلا (لَيْسَ كَالْبَشَرِ) كما قال الله جل وعلا: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.([180])
ثم ذكر المؤلف رحمه الله ما يتعلق بالرؤية فقال: (وَالرُّؤْيَةُ حَقٌّ لأَهْلِ الْجَنَّةِ).
نقف في هٰذا الدرس على مبحث الرؤية، ويأتي إن شاء الله تعالى بقية الكلام في الدرس القادم بإذن الله تعالى.
الدرس السابع
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على الرسول الأمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله:
(وَالرُّؤْيَةُ حَقٌّ لأَهْلِ الْجَنَّةِ بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ وَلا كَيْفِيَّةٍ، كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ رَبِّنَا: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾([181]). وَتَفْسِيرُهُ عَلَى مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلِمَهُ.
وَكُلُّ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَعْنَاهُ عَلَى مَا أَرَادَ، لا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ بِآرَائِنَا، وَلا مُتَوَهِّمِينَ بِأَهْوَائِنَا، فَإِنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ إِلاَّ مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ ﷻ وَلِرَسُولِهِ ﷺ، وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ.
وَلا تَثْبُتُ قَدَمُ الإِسْلامِ إِلاَّ عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ وَالاسْتِسْلامِ، فَمَنْ رَامَ عِلْمَ مَا حُظِرَ عَنْهُ عِلْمُهُ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِالتَّسْلِيمِ فَهْمُهُ، حَجَبَهُ مَرَامُهُ عَنْ خَالِصِ التَّوْحِيدِ، وَصَافِي الْمَعْرِفَةِ، وَصَحِيحِ الإِيمَانِ، فَيَتَذَبْذَبُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالإِيمَانِ، وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَالإِقْرَارِ وَالإِنْكَارِ، مُوَسْوَسًا تَائِهًا، [زَائِغًا] شَاكًّا، لا مُؤْمِنًا مُصَدِّقًا، وَلا جَاحِدًا مُكَذِّبًا.
وَلا يَصِحُّ الإِيمَانُ بِالرُّؤْيَةِ لأَهْلِ دَارِ السَّلامِ لِمَنِ اعْتَبَرَهَا مِنْهُمْ بِوَهْمٍ، أَوْ تَأَوَّلَهَا بِفَهْمٍ، إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ وَتَأْوِيلُ كُلِّ مَعْنًى يُضَافُ إِلَى الرُّبُوبِيَّةِ بِتَرْكِ التَّأْوِيلِ وَلُزُومِ التَّسْلِيمِ، وَعَلَيْهِ دِينُ الْمُسْلِمِينَ. وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ).
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فهٰذا المقطع قرر فيه المؤلف رحمه الله عقد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق برؤية الرب جل وعلا، فقال رحمه الله: (وَالرُّؤْيَةُ حَقٌّ لأَهْلِ الْجَنَّةِ). (حَقٌّ) أي ثابتة حقيقةً لا مجازاً، فالحق هو الشيء الثابت الذي لا شبهة فيه ولا مرية، وقوله رحمه الله: (لأَهْلِ الْجَنَّةِ) هٰذا فيه بيان أعلى ما يكون من الرؤية، فإنّ الرؤية التي يحصل بها التنعيم وهي فضل الله جل وعلا ومنته وإحسانه وكرمه، وأعظم ما يُنعّم به أهل الجنة هي ما يكون من الرؤية لأهل الجنة.
فقوله رحمه الله: (وَالرُّؤْيَةُ حَقٌّ لأَهْلِ الْجَنَّةِ) يُخرج أهل النار، فإن أهل النار لا يرونه، ويخرج أيضاً أهل الدنيا، فإن أهل الدنيا لا يرونه، ويبقى رؤية الناس للرب جل وعلا قبل دخول الجنة في أرض المحشر، فإنها ثابتة كما دل على ذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي ﷺ.
واختلف أهل العلم هل يرى الربَّ سبحانه وتعالى الكفارُ في الموقف أو لا يرونه؟ على أقوال:
· فمنهم من نفى الرؤية مطلقاً.
· ومنهم من قال: إنهم يرونه.
· ومنهم من قال: لا يراه إلا المنافقون، أما الكفار فلا يرونه.
وعلى كل حال فإن الرؤية التي تكون لأهل الموقف هي لأهل الإيمان رؤية تعريف، وأما أهل الكفر أو النفاق فإنها رؤية حسرة وعذاب، وليست رؤية تنعيم.
ولا ينبغي ولا يسوغ أن يقال على وجه الإطلاق: إن الكفار يرون ربهم، بل لا بد من تقييد ذلك -على القول بأنهم يرونه-، فإن إطلاق الرؤية لا يكون إلا على وجه التنعيم، وهٰذا لا يكون إلا لأهل النعيم، وهم أهل الجنة.
أما الرؤية في النار فلا تكون لأهل النار: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾.([182])
وأما في الدنيا فإنّه لا يُرى جل وعلا في الدنيا، كما قال سبحانه وتعالى لما طلب موسى رؤيته، قال له: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ ([183])، وقال النبي ﷺ:((واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه قبل أن يموت))([184]). فدل ذلك على أن الرؤية بالعين ممتنعة في الدنيا.
أما رؤية الفؤاد فإنها حصلت للنبي ﷺ.
وكذلك رؤيا المنام أو الرؤية في المنام فقد حصلت له صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وما نقل عن الإمام أحمد وابن عباس رضي الله عنهما من إثبات الرؤية في الدنيا فإن المنقول عنهما مطلق، يعني الرؤية مطلقاً، لم يقيداها برؤية العين، وفي بعض الروايات وردت مقيدة، فالمطلق يحمل على المقيد، ولم ينقل عنهما أنهما قالا: إنه رآه بعينه سبحانه وتعالى، أي إن النبي ﷺ رأى الرب سبحانه وتعالى بعينه في الدنيا.
فقول المؤلف رحمه الله: (وَالرُّؤْيَةُ حَقٌّ لأَهْلِ الْجَنَّةِ) أي ثابتة لا مرية فيها، ولا خلاف بين أهل السنة والجماعة وسلف الأمة.
وقد أنكر الرؤية طوائف:
أول من أحدث إنكار الرؤية الجهمية، حيث أنكروا أن يُرى الرب سبحانه وتعالى، فقالوا: لا يرى.
تبعهم على ذلك المعتزلة.
ووافقهم الخوارج.
ووافقهم كذلك متأخرو الإمامية، أما متقدمو الإمامية الرافضة فإنهم يثبتون الرؤية، لكن المتأخرين منهم أنكروها؛ لأن متأخري الإمامية على مذهب الاعتزال، فهم معتزلة في الاعتقاد.
كذلك ممن ضل في الرؤية بعض مثبتة الصفات، كالأشاعرة والكلابية والماتريدية، فإنهم أثبتوا الرؤية لكن على غير طريق أهل السنة والجماعة، وحقيقة قولهم عند المحققين أنه لا رؤية؛ لأنهم يقولون: يُرَى من غير معاينة ولا في جهة، وهٰذا قول في غاية السقوط؛ لأنه لا يمكن أن يرى الشيء إلا في جهة، فقولهم: يرى من غير معاينة ولا في جهة، حقيقته -كما قال محققوهم- أنه لا يرى، فهُم وافقوا من حيث حقيقة القول، وافقوا نفاة الرؤية.
أما أهل السنة والجماعة فإنهم يثبتون الرؤية، وحجتهم في ذلك:
كتاب الله جل وعلا، فإنه قد جاء إثبات الرؤية في الكتاب تصريحاً وتعريضاً.
وأما السنة فقد ورد ذلك متواتراً عن النبي ﷺ، رواه أكثر من ثلاثين من الصحابة رضي الله عنهم.
وأما الأقوال الواردة عن السلف فهي أكثر من أن تحصى في إثبات رؤية المؤمنين لرب العالمين.نسأل الله من فضله.
يقول رحمه الله في الرؤية التي يثبتها أهل السنة والجماعة،يقول: (بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ وَلا كَيْفِيَّةٍ). (بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ) لقوله تعالى: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾([185]). فإنّ إثبات أهل السنة والجماعة لرؤية الرب سبحانه وتعالى لا إحاطة فيها؛ لأنه I الكبير الواسع العظيم الذي جلّ أن يحيط به عباده، وعلا قدره أن تدركه أبصار خلقه، قال أبو سعيد الخدري y في قوله تعالى: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾([186]): لو أن الملائكة والإنس والجن والشياطين، منذ خلق الله الخلق إلى آخر واحد منهم، صفوا صفّاً واحداً، ونظروا إلى الرب لما أحاطوا به، فكيف يحيط به نظر واحد من خلقه؟
وهٰذا كله يدلك على أن معنى الآية نفي الإحاطة لا نفي الرؤية، فإن الآية ليس فيها أنه لا يرى، بل فيها نفي إدراكه: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾. ونفي الإدراك أمر زائد على نفي الرؤية، بل هو غير نفي الرؤية، فإن الإنسان ينظر إلى أشياء كثيرة لا يدركها، إما لعظم خلقها، أو لشدة فيها.
فمثلاً الشمس يراها كل أحد ممن له بصر ونظر، لكن هل يدركها الناظر إليها؟ الجواب: لا.
دع الشمس، إذا أقبلت على المدينة من بُعد ورأيت المدينة هل تدركها؟ فإذا قلت: لا أدرك هٰذه المدينة لسعة أطرافها، هل هٰذا نفي لرؤيتها؟ الجواب: لا، لا تلازم بين نفي الرؤية ونفي الإدراك، فإن نفي الإدراك هو نفي للإحاطة([187]).
وأما نفي الرؤية فإنه لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة، بل على العكس الأدلة في الكتاب والسنة دالة على ثبوت الرؤية لأهل الإيمان.
وقوله رحمه الله: (وَلا كَيْفِيَّةٍ). هٰذا كسائر الصفات، أي إننا نثبت الرؤية من غير تكييف، كسائر ما نثبته لله ﷻ من الصفات، وهٰذا فيه الرد على من يقول: إنه يلزم من أنه يُرى أنه جسم، ويلزم من أنه جسم أن يكون متحيزاً، ويلزم من هٰذا أن...، لوازم كلها باطلة، ويلزم أن يكون له مكان يحيط به، وما أشبه ذلك من اللوازم الباطلة. ونحن نقول: نثبت ما أثبته الله لنفسه من غير هٰذه اللوازم، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل.
قال رحمه الله:(كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ رَبِّنَا: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾([188])). (كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ رَبِّنَا) نطق أي تكلم به، وبعض الناس يتحاشى من أن يقول: نطق الكتاب بكذا، والظاهر أنه لا بأس بهٰذا اللفظ، وقد استعمله شيخ الإسلام رحمه الله في كثير من كلامه، وكذلك ابن القيم، وهو مستفاد من قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾([189]). فلعله مأخوذ من هٰذا، مع أن النطق في الآية مضاف إلى النبي ﷺ.
يقول: (كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ رَبِّنَا). أي القرآن العظيم فقط، ثم ذكر أعظم ما يستدل به على إثبات الرؤية من القرآن، وهو قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾. وهٰذه الآية هي أقوى ما في كتاب ربنا جل وعلا من إثبات رؤية المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى، حيث قال: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ فأضاف النظر إلى الوجوه.
ومعلوم أن النظر يكون بالوجوه؛ لأنه محلها، فالعينان محلهما الوجه، ولذلك أضاف النظر إلى الوجه، ثم إنه عدّى النظر بـ(إلى)، ولا يكون ذلك إلا في نظر العين، لا يستعمل النظر معدّىً بـ(إلى) إلا فيما ينظر بالعين، ثم قال I: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ﴾ وهٰذا لنظرها إلى الرب سبحانه وتعالى، فاكتسبت من نظرها إلى الله جل وعلا نضارة، كل هٰذا من الدلائل في هٰذه الآية على أن النظر هو النظر إلى الرب I.
أما أهل التحريف الذين يحرّفون الكلم عن مواضعه فقالوا: إن قوله تعالى: ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ أي منتظرة، منتظرة تنتظر فضل الله ورحمته، وقالوا: إن هٰذه المادة تستعمل في الانتظار، ومن ذلك قول المنافقين لأهل الإيمان: ﴿انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ﴾([190]).
فالجواب على هٰذا التحريف:أن في الآية ما ينفي تفسير النظر بالانتظار، فإن الله جل وعلا ساق هٰذه الآية في مساق التنعيم، ومعلوم أنه ليس من تنعيم أهل الجنة الانتظار؛ لأن الانتظار فيه إيلام، وإنما هو النظر إلى الرب I الذي هو غاية نعيم أهل الجنة.
ثم إنه لا يمكن أن يكون قوله تعالى: ﴿نَاظِرَةٌ﴾ بمعنى منتظرة وقد عدي بـ(إلى) الدالة على أن النظر للعين.
ثم إنه من وجه ثالث أن النظر هنا أضيف إلى الوجه، ومعلوم أن الانتظار لا يضاف إلى الوجه.
فدل ذلك على أن قوله تعالى: ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ ما فهمه سلف الأمة، ودل عليه الكتاب والسنة من أن النظر هنا هو النظر إلى الرب جلا وعلا، كقوله تعالى في نعيم أهل الجنة: ﴿عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ﴾([191]). فإن السلف فسروها بالنظر إلى الرب I، وكقوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾([192]). فالزيادة فسرها صديق الأمة بالنظر إلى الرب جل وعلا، بل ورد ذلك في تفسير النبي ﷺ في صحيح مسلم من حديث صهيب([193]). والمزيد فسره أبو بكر وغيره بالنظر في قوله تعالى: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾([194]).
قال رحمه الله: (وَتَفْسِيرُهُ) أي تفسيره، تفسير النظر في قوله تعالى: ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾([195]). (عَلَى مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلِمَهُ). وهٰذا فيه الرد على تأويل وتحريف المحرّفين لهٰذه الآية، فإن تفسير النظر هنا على ما أراد الله تعالى وعلمه، والمراد بالتفسير هنا الكيفية، وإلا فالتفسير في المعنى أي إدراك معنى هٰذا الكلام فهو على ما أراد الله تعالى وعلمناه نحن من مقتضى اللغة، وما نُقل من تفسير الصحابة رضي الله عنهم، فهٰذا أمر لا يختص به الله، لكن الذي يختص به الله من التفسير هو إيش؟ هو معرفة حقيقة ما أخبر الله I به عن نفسه، علم حقيقة ما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه هو الذي لا يعلمه إلا هو I.
ثم قال رحمه الله: (وَكُلُّ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ فَهُوَ كَمَا قَالَ). (كُلُّ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ). المشار إليه الرؤية (مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ فَهُوَ كَمَا قَالَ). يعني: لا نحرّفه ولا نؤوله تأويلاً مذموماً، بل نفسره ونمضيه على ظاهره، وهو رحمه الله يشير بهٰذا إلى ما جاء من الأحاديث الدالة على إثبات الرؤية.
ومنها حديث أبي هريرة y في الصحيحين، وفيه أن النبي ﷺ سأله أناس: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال لهم رسول الله ﷺ: ((هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟)) قالوا: لا. قال: ((هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟)) قالوا: لا. قال: ((فإنكم سترونه كما ترون هذين أو كما ترون ذلك))([196]). أي كما ترون الشمس ليس دونها سحاب، وكما ترون القمر في إبداره ليس دونه سحاب.
ومعلوم أن أكمل ما يُرى في الدنيا إدراكاً مما هو عظيم، يعني أكمل ما يرى في الدنيا وضوحاً ويدركه كل أحد هو الشمس ليس دونها سحاب، والقمر ليلة الإبدار ليس دونه سحاب، فشبه رسول اللهe الرؤية بالرؤية، وشبهها بأعظم ما يرى في الدنيا وهو رؤية الشمس والقمر، وليس فيه تشبيه وتمثيل المرئي بالمرئي؛ بل الله جل وعلا ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾([197]). فنثبت ما أثبته النبي ﷺ من الرؤية على ما جاء من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
ثم قال: (وَمَعْنَاهُ عَلَى مَا أَرَادَ، لا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ بِآرَائِنَا). يُبطل تأويلات المحرفين الذين حرفوا الكلم عن مواضعه وحملوا الكلام على غير ظاهره؛ ليثبتوا ما عقدوه قبل أن ينظروا في النصوص من إبطال الرؤية، ونفي ما دلت عليه النصوص. (لا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ) يعني فيما قاله الله وفيما قاله رسوله ﷺ في شأن الرؤية، بل وفي غيرها (لا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ بِآرَائِنَا، وَلا مُتَوَهِّمِينَ بِأَهْوَائِنَا). ثم قال رحمه الله في قاعدة مهمة،قال: (فَإِنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ). والسلامة هي النجاة من العطب (مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ إِلاَّ مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ ﷻ وَلِرَسُولِهِ ﷺ). لا إشكال أنه لا سلامة لأحد إلا بالتسليم لله ورسوله، والتسليم يكون لله ولرسوله، يكون بقبول ما جاء عن الله وعن رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل ينقاد ويقبل ما جاءت به النصوص دون تأويل وتحريف.
قال: (وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ). وهٰذا فيه الأدب فيمن أشكل عليه شيء من النصوص فضاق عنها فهمه ولم يدركها عقله، الواجب عليه في ذلك أن يرد علم ما اشتبه عليه، يعني:اختلط والتبس إلى عالمه، فيقول: الله أعلم بمراده، ولا يدخل في ذلك بتأويل فاسد ولا بوهم باطل، بل يسلم لله ورسوله، فإذا قصر فهمه عن شيء مما أخبر الله به عن نفسه وجب عليه أن يرد ذلك إلى عالمه، كما قال الله جل وعلا: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾([198]). فنهى الله I عن اتباع ما ليس للإنسان فيه علم.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله مثالاً لهٰذا في تفسير اسم الظاهر الباطن الأول الآخر، فإنه أطال في الكلام عن هٰذه الأسماء وبيانها، ثم قال بعد أن بين المعاني في هٰذه الأسماء، قال: فإن ضاق عن ذلك فهمك فجاوزه على حد قول القائل:
وجاوزه إلى ما تستطيع
إذا لم تستطع شيئاً فدعه
يعني: إذا كان قصر فهمك ولم يتسع ذهنك إلى فهم معاني كلام الله ﷻ، فليس هٰذا مسوغاً لرده-أي كلام الله- ولا إلى التكذيب به ولا إلى تحريفه، بل الواجب عليك أن تسلم للنصوص وتقول: الله أعلم بمراده، لم أفهم هٰذا، الله أعلم بمراده، ولا يجوز لك أن تقول: ليس لها معنى، بل لها معنى ضاق عنه فهمك، والناس أفهام، فرُدّ علم ما اشتبه عليك واختلط إلى عالمه، ولا تدخل في ذلك بتحريف ولا تعطيل.
قال: (وَلا تَثْبُتُ قَدَمُ الإِسْلامِ إِلاَّ عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ وَالاسْتِسْلامِ). وهٰذا لا إشكال فيه، فإنه من دخل فيما أخبر الله به عن نفسه على وجه المنازعة والمعارضة فإنه لا تثبت قدمه على الحق، بل يزيغ عن الصراط المستقيم، ويقع في مهاوي الضلال، فخير ما يثبت القدم على الإسلام أن يسلم لله ﷻ، ولذلك قال: (وَلا تَثْبُتُ قَدَمُ الإِسْلامِ إِلاَّ عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ وَالاسْتِسْلامِ). التسليم بمعنى الاستسلام، ودليل ذلك قول الله جل وعلا: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾([199]). وأكد التسليم بالمصدر تحقيقاً له، وأنه لا يحصل تمام الإيمان إلا بالتسليم التام لما جاء عن الله وعن رسوله، وكل من عارض كلام الله وكلام رسوله بالشبه والعقول الفاسدة والآراء الباطلة لم يحصل له الثبات على الإسلام.
يقول رحمه الله: (فَمَنْ رَامَ عِلْمَ مَا حُظِرَ عَنْهُ عِلْمُهُ). ما الذي حُظر عنا علمه؟ علم الكيفيات، وعلم ما لم يخبر به الله ورسوله من الصفات. فكل (مَنْ رَامَ) أي طلب (عِلْمَ مَا حُظِرَ عَنْهُ عِلْمُهُ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِالتَّسْلِيمِ فَهْمُهُ) أي في ما جاء الخبر عنه؛ لأنه هناك ما منعنا من النظر فيه، وهو ما يتعلق بكيفية ما أخبر الله به عن نفسه، وهناك ما أخبرنا به، وهو الصفات التي جاء الخبر عنها في الكتاب والسنة.
فما أخبرنا به الواجب فيه التسليم.
وما منعنا من النظر فيه -وهو الكيفيات- الواجب فيه عدم النظر وعدم الطلب.
(فَمَنْ رَامَ عِلْمَ مَا حُظِرَ عَنْهُ عِلْمُهُ) وهو في الكيفيات (وَلَمْ يَقْنَعْ بِالتَّسْلِيمِ فَهْمُهُ) فيما أخبرنا عنه، وما جاء الخبر فيه عن كتاب الله وسنة رسوله (حَجَبَهُ مَرَامُهُ) أي مطلوبه (عَنْ خَالِصِ التَّوْحِيدِ). ما فيه إشكال، يحجب عن خالص التوحيد، ويقع في أنواع من الاشتباه والشرك (وَصَافِي الْمَعْرِفَةِ، وَصَحِيحِ الإِيمَانِ). فلا يصح إيمانه، ولا تتم معرفته بربه، ولا يحصل له كمال التوحيد وصافي التوحيد.
لأن كمال التوحيد فرع عن كمال الإيمان بالأسماء والصفات، وهٰذا مما يدلك على أن التوحيد مرتبط بعضه ببعض، فالخلل في توحيد الأسماء والصفات يؤثر وينجرّ على توحيد الإلهية، ويفضي إلى نقص في توحيد الإلهية، ونقص في توحيد الربوبية، فمن لم يثبت ما أثبته الله لنفسه من الصفات الدالة على كماله وعظيم قدره جل وعلا فإنه يَنقص قدر توحيده لربه سبحانه وتعالى.
ولذلك لا يعد الخلل في نوع من أنواع التوحيد مقصوراً عليه، بل في الغالب إذا تأملت وجدت أن الخلل في توحيد الإلهية ناشئ عن خلل في توحيد الأسماء والصفات أو توحيد الربوبية ولا بد.
يقول رحمه الله: (فَيَتَذَبْذَبُ) هٰذا فيه الثمرة، فالفاء هنا للتفريع، لبيان ما الذي يثمره طلب علم ما حظر عنه وعدم القناعة والتسليم بما جاءت به النصوص؟ ما الذي يثمره؟
يقول: (فَيَتَذَبْذَبُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالإِيمَانِ، وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَالإِقْرَارِ وَالإِنْكَارِ) فهو في أمر مريج، وهٰذا الذي قال الله جل وعلا عنه في قوله تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ﴾([200]) أمر مضطرب، وهٰذا شأن كل من كذب بالحق قليلاً أو كثيراً، فإن شأن المكذبين بالحق الذين لا ينقادون له ولا يقبلونه أن يكونوا في اضطراب عظيم، فَيَتَذَبْذَبُون بَيْنَ الْكُفْرِ وَالإِيمَانِ، وَبين التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَالإِقْرَارِ وَالإِنْكَارِ.
قال رحمه الله: (مُوَسْوَسًا تَائِهًا، [زَائِغًا] شَاكًّا، لا مُؤْمِنًا مُصَدِّقًا، وَلا جَاحِدًا مُكَذِّبًا). وهٰذا مطابق لحال من لم يسلم للنصوص القياد، فإنهم لم يحصوا علماً ولم يدركوا مطلوباً ولا معرفةً بالرب سبحانه وتعالى، بل هم تائهون شاكون، لم يتحقق لهم تمام الإيمان والتصديق، ولم يسلموا من اعتراضات الجاحدين المكذبين. ومن قرأ كلامهم، ورأى مقال من سلك طريق التشبيه عَلِمَ صدق ذلك.
فإذا نظرت إلى ما ذكره الرازي على سبيل المثال، ما ذكره صاحب إحياء علوم الدين الغزالي، وما وجداه في هٰذا الطريق من العطب والضلال وأنهما لم يسلما ولم يطمئنا إلا بالنظر والتسليم للنصوص علمت أن ما قاله المؤلف رحمه الله مطابق للواقع.
ويكفي في هٰذا ما أنشده الرازي حيث قال:
وغاية([201]) سعي العالمين ضلال
نهاية إقدام العقــول عقال
والعالمين المراد بهم من ترك طريق أهل السنة والجماعة، ودخل في علم الأسماء والصفات وما يتعلق بالرب سبحانه وتعالى بعقله متأولاً، ولذلك قال:
..................................
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
يعني: طوال هٰذا الكد والسعي والبذل والتأليف والكتابة
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
...................................
والعجيب أنهم في مؤلف واحد تجد أن الواحد منهم يثبت في أول المؤلف ما ينفيه في آخره.
بل بعضهم يقول: ونفي هٰذا كفر، ثم تجده في آخر المؤلف يقول بنقيض ذلك، فيثبت ما جعل إثباته أو ينفي ما جعل نفيه كفراً، وهٰذا غاية الاضطراب. نسأل الله السلامة والعافية.
وهٰذا حال كل من كذب بالحق كما دلت عليه الآية.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (وَلا يَصِحُّ الإِيمَانُ بِالرُّؤْيَةِ لأَهْلِ دَارِ السَّلامِ) -جعلنا الله وإياكم من أهلها- (لأَهْلِ دَارِ السَّلامِ) الجنة (لِمَنِ اعْتَبَرَهَا مِنْهُمْ بِوَهْمٍ، أَوْ تَأَوَّلَهَا بِفَهْمٍ).
يقول رحمه الله:(لا يَصِحُّ الإِيمَانُ بِالرُّؤْيَةِ) أي لا يتم الإيمان بالرؤية (لأَهْلِ دَارِ السَّلامِ لِمَنِ اعْتَبَرَهَا مِنْهُمْ بِوَهْمٍ، أَوْ تَأَوَّلَهَا بِفَهْمٍ). يعني: من مثلها أو أولها، فإن من مثل وقع في الضلال؛ لأن الله جل وعلا يقول: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾([202]). ومن أول -بمعنى حرّف- فإنه قد ضل في إثبات ما أثبته الله لنفسه؛ لأن التحريف لا يفضي إلا إلى ضلال، ولا يوصل إلا إلى عطب، فلا يصح الإيمان بالرؤية إلا بالتسليم للنصوص، وإثبات الرؤية على ما أثبته الله لنفسه من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
يقول: (إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ) التأويل المراد به هنا التحريف.
واعلم أن التأويل في الأصل معناه التفسير، لكن المشبهين استعملوا هٰذا اللفظ في طريقة سلكوها حقيقتها التحريف، فسمّوا تحريف النصوص تأويلاً، وهم كاذبون، فإن النصوص التي عطلوها بما يسمى التأويل حقيقة فعلهم فيها أنهم حرفوها وعطلوها عن معانيها.
يقول رحمه الله: (إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ وَتَأْوِيلُ كُلِّ مَعْنًى يُضَافُ إِلَى الرُّبُوبِيَّةِ بِتَرْكِ التَّأْوِيلِ) الباطل والتسليم للنص، يقول: (وَلُزُومِ التَّسْلِيمِ).
فالتأويل الذي ينبغي أن تُفسر به النصوص ما جاء عن السلف، وغير ذلك -من التأويل الذي يسميه أصحابه تأويلاً وحقيقته تحريف- ضلال وباطل.
يقول رحمه الله: (وَعَلَيْهِ دِينُ الْمُسْلِمِينَ) أي ترك التأويل الباطل المنحرف عليه دين المسلمين، فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يدخلوا في النصوص مؤولين تأويلاً يعطلها عن معانيها أو يحرفها عما دلت عليه.
ثم قال رحمه الله: (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ). المؤلف رحمه الله ذكر في هٰذا المقطع البدعتين الرئيستين فيما يتعلق بالأسماء والصفات:
· بدعة التمثيل.
· وبدعة التأويل، التحريف الباطل.
يقول رحمه الله: (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ) هٰذا طريق من؟ طريق المؤولة أهل التحريف والتعطيل، سواءً تعطيلاً كلياً كالجهمية، أو جزئياً كالمعتزلة والأشاعرة وبعض مثبتة الصفات.
يقول: (وَالتَّشْبِيهَ) المراد به التمثيل.
من لم يتوقَّ هاتين البدعتين: بدعة أهل التعطيل، وبدعة أهل التمثيل، زل، لا إشكال أنه زل- والزلل الخروج عن الطريق المستقيم- (زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ) يعني: لم يصب ما قصده من تنزيه رب العالمين، فإن تنزيه الله جل وعلا لا يكون إلا من طريق الكتاب والسنة.
وكل من اقترح طريقاً ينزه فيه الرب جل وعلا خارجاً عن الكتاب والسنة فإنه لم يصب التنزيه، بل التنزيه الكامل التام في كلام الله ﷻ وفي كلام رسوله؛ لأن الكلام عن الله ﷻ كلام عن غيب، والغيب لا سبيل إلى إدراكه إلا بالوحي.
ولذلك تمام التنزيه في قول الله وقول رسوله والتزام ما جاء في الكتاب والسنة. (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ) التعطيل والتمثيل (زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ) وهٰذا فيه الرد عليهم؛ لأنهم قالوا: إنما نؤول حتى ننزه الله جل وعلا. فيقال لهم: ليس في تأويلكم تنزيه للرب جل وعلا، بل في تأويلكم إثبات النقص له سبحانه وتعالى عما تقولون علوّاً كبيراً.
ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله: كل من أول النصوص لشبهة يروم بها تنزيه الرب سبحانه وتعالى لزمه على قوله أعظم مما فرّ منه.
فالذين يؤولون الرؤية ويقولون: إن قوله تعالى: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾ ([203]) يعني لا يرى، تنزيهاً له عن أن يكون في جهة، أو عن أن يكون جسماً كما يزعمون، فلازم الرؤية عندهم أن يكون جسماً.
قلنا لهم: أنتم فررتم من التجسيم وفررتم من أن يكون في جهة ووقعتم في أعظم من ذلك، وهو أن شبهتموه بالعدم؛ لأن الذي لا يرى هو العدم، والعدم أقل شأناً من الموجودات، فالموجودات أكمل من العدم، وهلم جرّاً فإنهم ما فرّوا من باطل إلا ووقعوا في باطل أعظم منه.
¹
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين:
قال المؤلف رحمه الله: (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ). تكلمنا عن هٰذا في الدرس السابق، وقلنا: إن هٰذا المقطع فيه النهي عن بدعتين عظيمتين حصل بهما الضلال الكبير لكثيـر من الخلق في باب الأسمـاء والصفات، فيما أخبر الله جل وعلا به عن نفسه.
وهاتان البدعتان هما: بدعة التعطيل، وبدعة التمثيل.
· بدعة التعطيـل في قول المؤلف: (النَّفْيَ).
· وبدعة التمثيل في قول المؤلف (وَالتَّشْبِيهَ).
فمن لم يتوقّ التعطيل والتمثيل زلّ عن الصراط المستقيم، ولم يصب التنزيه الذي قصده في تعطيله أو في تمثيله.
ثم قال رحمه الله في التعليل للجملة السابقة: (فَإِنَّ رَبَّنَا جَلَّ وَعَلا مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ). الوحدانية مأخوذة من اسم الله الواحد، والواحد اسم من أسماء الله ﷻ، كما قال الله جل وعلا: ﴿إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾([204]). فالله I واحد في صفاته، واحد في أفعاله، واحد في أسمائه، واحد فيما يجب له، فهو I لا شريك له.
وبعض العلماء يقول: الوحدانية مأخوذة من اسم الله ﷻ الأحد في قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾([205]). لكن الظاهر أنه ليس بصواب؛ لأن الأحد ينسب إليه المعنى الأحدية، لكن هنا قال: (الْوَحْدَانِيَّةِ) فهي مأخوذة من اسمه الواحد.
قال رحمه الله: (مَنْعُوتٌ بِنُعُوتِ الْفَرْدَانِيَّةِ). منعوت أي موصوف، فالنعت والوصف معنى واحد، وبعضهم يفرق بين النعت والوصف، لكن الذي جرى عليه أكثر العلماء على أن الوصف والنعت لفظان مترادفان معناهما واحد.
فقوله رحمه الله: (مَنْعُوتٌ بِنُعُوتِ الْفَرْدَانِيَّةِ) أي موصوف جل وعلا بصفات الفردانية، والفردانية مأخوذة من الفرد، والفرد ليس اسماً لله ﷻ، فإنه لم يثبت ثبوتاً يعتد به ويلحق هٰذا الوصف بأسمائه، لكنهم قالوا: إنه مأخوذ من قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾([206]) فهو من معاني اسمه الصمد الذي ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾([207]) فهو فرد I.
قال رحمه الله: (لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْبَرِيَّةِ). (لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ) أي لا يثبت لأحد من البرية معنى من معانيه، ولا يثبت له I ما يثبت للمخلوق، فلا يثبت للخالق جل وعلا معنى من معاني الخلق، كما أن الخلق لا يثبت لهم شيء من صفات الرب، فقوله: (لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ) أي في معنى الله جل وعلا وما ثبت له من الصفات العظيمة الجليلة أحد من البرية، وهٰذا فيه نفي التمثيل.
والمؤلف رحمه الله يبدئ ويعيد في تقرير نفي التمثيل؛ لكون هٰذا من أعظم ما يَسْلم به الإنسان من التعطيل والتمثيل.
فإن المعطل إنما عطل لما مثّل صفات الرب جل وعلا بصفات العبد، وعَظُم في صدره أن يكون الرب كالعبد عطل ما أخبر الله به عن نفسه لشبهة التمثيل.
ولذلك أبدأ المؤلف رحمه الله وأعاد في نفي هٰذه البدعة؛ لأنها أصل الضلالات في باب الأسماء والصفات. فإن المعطلة إنما عطلوا بعدما مثلوا.
وكذلك الممثلة وقعوا في هٰذه البدعة بعدما توهموا تمثيل الخالق بخلقه، وأن له جل وعلا مثيلاً.
قال رحمه الله: (وَتَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ..) ما قرأتَه؟ ثم قال رحمه الله: (فَإِنَّ رَبَّنَا جَلَّ وَعَلا) هٰذا كالتعليل للعبارة السابقة (فَإِنَّ رَبَّنَا جَلَّ وَعَلا مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، مَنْعُوتٌ بِنُعُوتِ الْفَرْدَانِيَّةِ، لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْبَرِيَّةِ). نعلّق على هٰذا إن شاء الله في الدرس القادم.
نقتصر على ما مضى والله تعالى أعلم.
¹
الدرس الثامن
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(فَإِنَّ رَبَّنَا جَلَّ وَعَلا مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، مَنْعُوتٌ بِنُعُوتِ الْفَرْدَانِيَّةِ، لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْبَرِيَّةِ. وَتَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ، وَالأَرْكَانِ وَالأَعْضَاءِ وَالأَدَوَاتِ، لا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ).
هٰذه الجملة قوله رحمه الله: (وَتَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ، وَالأَرْكَانِ وَالأَعْضَاءِ وَالأَدَوَاتِ، لا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ). قال بعض الشرّاح: إنها مما أدخل على المؤلف وليست من كلامه، وذلك أن الطحاوي رحمه الله سائر في باب الأسماء والصفات على عقيدة أهل السنة والجماعة، فلم يقرر في هٰذه العقيدة شيئاً يخالف ما عليه سلف الأمة مما يتعلق بالأسماء والصفات.
وما ذكره في هٰذه الجملة ليس من منهج أهل السنة والجماعة، فإن أهل السنة والجماعة سائرون في هٰذا الباب على ما جاء في الكتاب والسنة، فلا يصفون الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، كما أنهم لا ينفون عن الله إلا ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله.
والمؤلف رحمه الله في هٰذا المقطع نفى عن الله ﷻ الحدود والغايات والأركان والأعضاء.
وإذا طلبنا هٰذا في كتاب الله وفي سنة رسوله ﷺ وفي كلام السلف الصالح لم نجد له ذكراً، فإن هٰذا مما أُحدث بعد القرون المفضلة، ولم يكن عليه سلف الأمة.
ولقائلٍ أن يقول: لماذا تنكرون هٰذه الألفاظ مع أنها توحي للسامع بالتعظيم، ويفهم منها تعظيم الرب جل وعلا؟
نقول: إن هٰذه الكلمات وإن كان قد يظهر منها التعظيم، إلا أن أهل الكلام الباطل المنحرفين عن طريق أهل السنة والجماعة يستعملونها في نفي ما دل عليه الكتاب والسنة.
فقولهم: (تَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ) ينفون به الاستواء، وينفون به العلو. وتَعَالَى عن الْغَايَاتِ ينفون به الحكمة، فيقولون: ليس لأفعال الله غاية ولا حكمة، ويقولون: الغاية إنما تكون للمحتاج، أما الله فهو الغني عن الغايات. وينْفُون بالأركان والأعضاء والأدوات ما أخبر الله به عن نفسه من أن له وجهاً جل وعلا كما في قوله: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾([208]) ونحو ذلك من الآيات التي فيها إثبات الوجه. وكذلك ينفون عنه بهٰذا الكلام ما أخبر به عن نفسه من أن له يداً، كما قال تعالى: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾([209])، ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ ([210]) وما أشبه ذلك.
فهُم يأتون بهٰذه الألفاظ المجملة المبهمة التي تحتمل معنىً صحيحاً وتحتمل معنىً باطلاً، ويستعملونها في أي شيء؟ في رد ما دلت عليه النصوص من إثبات صفات الكمال للرب جل وعلا.
وينفون بقولهم: (لا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ) العلو.
ولذلك كان عقد أهل السنة والجماعة في هٰذا من أفضل ما يكون، حيث إنهم لا يثبتون هٰذه الألفاظ المجملة المبهمة ولا ينفونها، يعني لا نثبت ولا ننفي؛ لأن الإثبات يحتاج إلى دليل كما أن النفي يحتاج إلى دليل، لكننا نستفصل، ومعنى نستفصل نطلب التفصيل، نطلب التفصيل من أصحاب هٰذه الأقوال، فنثبت المعنى الصحيح من أقوالهم ونرد المعنى الفاسد من أقوالهم، لكن مع إثباتنا للمعنى الصحيح لا نثبت الألفاظ المبتدعة، فلا نقول: (تَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ) وما أشبه ذلك من الألفاظ التي يقولها هؤلاء؛ لأن نفيها نفي لما لم يأتِ في الكتاب والسنة نفيه، وإثباتها كذلك مشكل؛ لأنها محتملة مبهمة.
فإذاً قاعدة أهل السنة والجماعة في الألفاظ المبهمة المجملة أنهم يستفصلون، ما معنى يستفصلون؟ أي يطلبون من المتكلم بهٰذه الكلمات التفصيل، فإذا استفصلوا نظروا في المعاني الصحيحة فأثبتوها، ونظروا إلى المعاني الباطلة وردوها.
وهٰذا منهج يسلم به الإنسان من أن يتورط في ألفاظ ظاهرها التعظيم للرب جل وعلا، وباطنها نفي ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله ﷺ.
ولذلك في تعليق شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله المكتوب والمسموع إنكار هٰذا الكلام، بل إنه في التسجيل الذي علق فيه على العقيدة الطحاوية رحمه الله قال: إن هٰذا الكلام رديء، ولكنه محمول على معنى صالح فيما ذكره المؤلف؛ لأن المؤلف رحمه الله من أهل السنة والجماعة، كلامه يفسر بعضه بعضاً، فما أجمله في هٰذا المكان يفسره في هٰذه العقيدة التي بين فيها إثبات ما أثبته الله لنفسه من الصفات.
والمعاني الصحيحة التي تحتملها هٰذه الألفاظ:
مرادهم في قول: (تَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ) أي تعالى عن أن يحده عقل بشر، فهو سبحانه وتعالى غير محدود، أي لا تحيط به عقول عباده، كما قال الله جل وعلا: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)﴾([211]). (وَالْغَايَاتِ) أي النهايات، فالله جل وعلا الكبير المتعال الذي لا تحيط به عقول عباده. ومما ينفى أيضًا، من المعاني الصحيحة التي تنفى عن الله ﷻ بهٰذا اللفظ: الغاية التي يحتاجها، فهو سبحانه وتعالى الغني عن عباده، كما قال الله جل وعلا: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾([212]). فنفى الله I الحاجة.
والمهم يعني ما نريد أن نفصل في المعاني الصحيحة والمعاني الفاسدة التي تضمنتها هٰذه الجمل، لكن نقول: كل من تكلم بهٰذا الكلام ينظر إلى كلامه بالاستفصال، فما صح ثبت، وما لم يصح من المعاني رد، هٰذا من حيث المعاني.
أما من حيث الألفاظ فإننا لا نُثبت ولا ننفي، نتوقف في الألفاظ؛ لأن الألفاظ موقوفة على أي شيء؟ على النصوص من الكتاب والسنة، فما ثبت بها ثبت، وما لم يثبت يرد.
ثم قال رحمه الله:
(وَالْمِعْرَاجُ حَقٌّ، وَقَدْ أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ ﷺ، وَعُرِجَ بِشَخْصِهِ فِي الْيَقَظَةِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْعُلا، وَأَكْرَمَهُ اللَّهُ بِمَا شَاءَ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ مَا أَوْحَى:﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾([213]). فَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الآخِرَةِ وَالأُولَى).
اللهم صلّ وسلم على رسول الله.
يقول رحمه الله في بيان عقد أهل السنة والجماعة: (وَالْمِعْرَاجُ حَقٌّ). فالمعراج اسم آلة الصعود، هٰذا في الأصل، فالمعراج هو السلم الذي يُصعد به إلى علو، وأصل العروج، أصل المادة (عرج) يدور على معنى الذهاب في الصعود، يعني العلو، الارتفاع. فالمعراج هٰذا معناه في اللغة.
وأما ما يشير إليه المؤلف رحمه الله فهو ما أكرم الله I به نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم من كونه عُرج به إلى السماء، صُعد به إلى السماء صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وهٰذا الصعود جاء إثباته في كتاب الله ﷻ، وفي سنة النبي ﷺ . أما ثبوته في الكتاب: فبما ذكره الله جل وعلا في سورة النجم، فإنه ذكر ما يدل على عَرْجِهِ سبحانه وتعالى بنبيه ﷺ إلى السماء، وذلك في قوله I في رؤية جبريل: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾([214]). ومعلوم أن سدرة المنتهى في السماء ليست في الأرض، فهٰذا دل على أن الله ﷻ عرج بنبيه ﷺ. هٰذا دليل المعراج من القرآن.
أما دليله من السنة: فقد ثبت متواتراً بما لا شك فيه أن النبي ﷺ قد عَرج الله به إلى السماء، ولم ينكر ذلك أحد من سلف الأمة.
وإنما اختلفوا في مسألة: هل عُرج به ﷺ بروحه وشخصه، أم أنه عُرج بروحه دون شخصه، يعني دون بدنه؟
ولم يقل أحد منهم: إنه عُرج به مناماً.
وهنا مسألة تلتبس على بعض طلبة العلم، فيظن أن قول عائشة ومعاوية رضي الله عنهما من أن العروج كان بروحه أنه كان مناماً، وهٰذا ليس بمرادٍ لهما ، إنما أرادا أن الروح انفصلت عن البدن انفصالاً تامّاً وعُرج بها، فلم يكن لها تعلق بالبدن.
والذي عليه أهل السنة والجماعة ودل عليه الكتاب والسنة وقول الصحابة رضي الله عنهم أن العروج إلى السماء كان بروحه ﷺ وبدنه، ولا تعجب فهٰذه قدرة الله جل وعلا الذي أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كُنْ فَيَكُونُ، وليس المحل محل تنظير بالواقع حتى نقول: هٰذا لا يمكن، فإن ذلك على الله يسير.
قال رحمه الله: (وَقَدْ أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ ﷺ). أُسري به، هٰذا فيه إثبات الإسراء. والإسراء مقدمة المعراج، وقد جرى للنبي ﷺ في إسرائه ومعراجه آيات عظيمة.
وأما الإسراء فقد ثبت في الكتاب في سورة الإسراء حيث قال I: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَا﴾([215]). فلا إشكال في ثبوت الإسراء، حيث أُسري به ﷺ إلى المسجد الأقصى وصلى فيه بالأنبياء، ثم بعد ذلك عُرج به إلى السماء صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ثم قال رحمه الله في بيان المعراج، قال: (وَعُرِجَ بِشَخْصِهِ فِي الْيَقَظَةِ إِلَى السَّمَاءِ). ومعلوم أنه إذا قال :(بِشَخْصِهِ) فالمراد الروح والبدن؛ لأن العروج بالبدن دون الروح لا فائدة منه.
إنما العروج الذي أثبته بقوله: (وَعُرِجَ بِشَخْصِهِ) أي بروحه وبدنه ﷺ.
(فِي الْيَقَظَةِ) ليدفع قول من قال: إنه عُرج به في المنام.
(إِلَى السَّمَاءِ) إلى العلو، والسماء هنا اسم جنس يشمل السماء الدنيا والعليا، فإن النبي ﷺ جاوز السبع الطباق، وبلغ مكاناًلم يبلغه أحد، سمع فيه صريف الأقلام، الله أكبر! صوت الأقلام التي تكتب ما شاء الله أن يقضي في عباده: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾([216]) جل وعلا. وهٰذه منزلة لم يبلغها أحد قبل النبي ﷺ، ولن يبلغها أحد بعده صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
يقول رحمه الله: (ثُمَّ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْعُلا). لم يذكر المؤلف رحمه الله منتهى للعروج، بل قال: (حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْعُلا). أي العلو والارتفاع. (وَأَكْرَمَهُ اللَّهُ بِمَا شَاءَ) مما شاهد في ذلك الموقف العظيم، شاهد آيات قال الله جل وعلا فيها: ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾([217]). رأى آيات عظيمة: رأى الجنة والنار، رأى جبريل كما خلقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ، رأى سدرة المنتهى، ورأى ما غشيها من التغير الذي أذن الله I به لهٰذه السدرة العظيمة حتى إنه قال ﷺ: ((فاعتراها من أمر الله ﷻ ما لا يكاد يحيط به وصف، أو ما لا يدرك بوصف)) ([218]). وذلك لعظيم ما رأى، مع أن النبي ﷺ لم يتزلزل فؤاده، ولم يضطرب قلبه لما رآه في ذلك الموقف العظيم، زكاه الله جل وعلا في موضعين: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾([219]). وزكاه أيضاً في قوله: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾([220]). مع هٰذا الثبات العظيم لقلبه وفؤاده في هٰذه المشاهد الكبرى العظيمة ما استطاع أن يصف ما اعترى الشجرة من تغير، لما أذن الله جل وعلا أن يغشاها ما يغشى، كما قال تعالىٰ في قوله تعالى: ﴿عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى﴾([221]). وأبهم ما غشيها تعظيماً وتفخيماً لشأنها.
(وَأَوْحَى إِلَيْهِ) أي أوحى الله جل وعلا إلى رسوله ﷺ في هٰذا الموقف العظيم (مَا أَوْحَى) يعني الذي أوحى، والإبهام هنا كما مر معنا في التفسير إبهام تعظيم، أوحى الله إليه أمر الصلاة وما شاء الله أن يوحيه إلى النبي ﷺ.
قال رحمه الله: قال الله تعالىٰ: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾([222]) أي ما رأى من تلك المواقف العظيمة والآيات الكبيرة.
واعلم أن ليلة المعراج هي أفضل ليالي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، هي أفضل بالنسبة له من ليلة القدْر، أما الأمة فإن الفضل لها في ليلة القدر، وأما النبي ﷺ فإن الفضل الذي حصّله وناله وجرى له في تلك الليلة أعظم مما يجري في ليلة القدر.
ثم المؤلف رحمه الله طوى ذكر هل رأى النبي ﷺ في تلك الليلة ربه أو لا؟ لأنه لا دليل على أنه رأى ربه.
ولعل المؤلف رحمه الله أتى بالمعراج بعد ذكر الرؤية إشارة إلى الخلاف في هل رأى النبي ﷺ ربه ليلة المعراج أو لا؟ والعلماء في هٰذا لهم قولان:
القول الأول: أنه لم يرَ ربه بعينيه التي في رأسه، وهٰذا قول جمهور العلماء وعليه المتقدمون، والمتأخرون أنه لم ير النبي ﷺ ربه رؤية معاينة؛ لأنه I لا يراه أحد قبل الآخرة، قبل الموت، كما قال جل وعلا: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾([223]) في قوله لموسى، وكما قال النبي ﷺ: ((واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت))([224]).
وذهب بعض العلماء إلى أنه رآه بفؤاده، وهٰذه الرؤية ليست مقيدة بالمعراج؛ لأنهم يقولون: رآه بفؤاده مرتين.
ورؤية الفؤاد هي رؤية القلب، وهي غير رؤية المنام؛ لأن رؤية المنام لا إشكال في إثباتها، ولكن لا تقل: كيف رآه بفؤاده؟ فإن هٰذا أمر لا يدرك، لكن رآه بفؤاده، هكذا قال الإمام أحمد وابن عباس، وورد عنهما إثبات الرؤية مطلقاً للنبي ﷺ، يعني دون تقييد، فالإطلاق يحمل على التقييد، ما ورد عنهما مطلقاً يُحمل على المقيد.
ثم قال رحمه الله: (فَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الآخِرَةِ وَالأُولَى). حق أن يصلى عليه ﷺ ؛لما ميزه الله به من الفضائل والمناقب.
ومعنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: الثناء عليه في الملأ الأعلى، هكذا قال أبو العالية في صحيح البخاري([225]).
وذهب شيخنا رحمه الله إلى أنه لا يقال شيء في الصلاة على النبي، إنما يقال: هو ثناء ومرتبة وفضل يدعى به للنبي ﷺ دون أن يقيد بمعنى خاص؛ لأن هٰذا يحتاج إلى توقيف، يحتاج إلى نص.
والذي عليه الأكثرون هو ما ذكره أبو العالية من أن الصلاة عليه ﷺ هو ثناء الله عليه في الملأ الأعلى.
قوله: (فِي الآخِرَةِ وَالأُولَى) يعني في الدنيا والآخرة. وهو من أحق من يصلى عليه ﷺ ؛لعظيم ما منّ الله به علينا حيث أخرجنا به من الظلمات إلى النور صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
ثم قال:
(وَالْحَوْضُ الَّذِي أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ -غِيَاثًا لأُمَّتِهِ- حَقٌّ. وَالشَّفَاعَةُ الَّتِي ادَّخَرَهَا لَهُمْ حَقٌّ، كَمَا رُوِيَ فِي الأَخْبَارِ).
طيب، ذكر المؤلف رحمه الله في هاتين الجملتين أمرين من أمور الاعتقاد:
الأمر الأول: الحوض. قال رحمه الله: (وَالْحَوْضُ الَّذِي أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ -غِيَاثًا لأُمَّتِهِ- حَقٌّ). الحوض أخبر النبي ﷺ بأن الله ﷻ جعل له حوضاً في عرصات القيامة، أي في فناء القيامة، في أرض المحشر، وهٰذا الحوض من خصائص النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من حيث السعة وكثرة من يرد عليه، ولكنه جاء ما يدل على أن لكل نبي حوضاً، لكن الحوض الذي اختص به حوض لا يشبهه حوض.
وقد ثبت ذلك في قول الله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ ([226]). فإن الكوثر نهر في الجنة وهبه الله ﷻ لرسوله ﷺ ،منه ميزابان يصبان في الحوض الذي يكون في عرصات يوم القيامة، فهٰذه الآية بها يثبت ما ذكره أهل السنة والجماعة من أن النبي ﷺ له حوض يرده أهل الإسلام في عرصات القيامة، وهٰذا الحوض وصفه رسول الله ﷺ من حيث كثرة من يرد عليه، ومن حيث كثرة آنيته، ومن حيث طوله وعرضه، كل ذلك جاء مبيناً في سنة النبي ﷺ.
واعلم أن الحوض الذي وعده الله سبحانه وتعالى أهل الإسلام يكون قبل الصراط، بل هو أول ما يرد الناس في أرض المحشر؛ لأن الناس يخرجون يوم القيامة في هول عظيم وكرب شديد، وتدنو منهم الشمس فيصيبهم عطش عظيم، كما قال الله جل وعلا في وصف المجرمين: ﴿وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)﴾([227]) أي عطاشاً، بلغ بهم العطش منتهاه. قال شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله: والظاهر أنّ هٰذا الوصف لا يخصهم؛ لأن الجميع يعطشون في أرض الموقف، لكن أهل الإيمان يردون الحوض فيُطفأ ظمؤهم، فإنهم إذا شربوا من الماء لم يظمَؤوا بعده أبداً، بخلاف أهل الإجرام فإنهم يردون النار عطاشاً، إذ إنهم لا يسقون من حوضه ﷺ ولا من حوض غيره من الأنبياء، فيردون النار على هٰذه الحال التي ذكرها الله جل وعلا: ﴿وِرْدًا﴾ أي إيش؟ عطاشاً.
وما ورد من أن الحوض يكون بعد الصراط لا دليل عليه، بل ظاهر الأدلة في ذكر ما يكون في ذلك اليوم أن ورود الحوض يكون قبل الصراط، بل إن في السنة ما يدل على أنه لا يمكن أن يكون بعد الصراط؛ لأن النبي ﷺ يرى أقواماً من أمته يذادون عن الحوض –يُمنعون-، فيقول ﷺ: ((أصيحابي أصيحابي. فيقول الملائكة له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: سحقاً سحقاً))([228]). وهؤلاء هم الذين ارتدوا بعد النبي ﷺ.
وهٰذا لا يمكن أن يكون بعد الصراط، فإنه لا يجوز الصراط إلا مؤمن، نسأل الله أن نكون منهم.
المهم أن الحوض ثابت بالكتاب والسنة، وهو مما تواتر به الخبر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقول المؤلف رحمه الله: (أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ) أكرم به محمداً ﷺ (غِيَاثًا لأُمَّتِهِ) أي يُغيثهم من هول ذلك الموقف وشدة العطش والكرب في ذلك الموقف، وقوله: (لأُمَّتِهِ) هل هٰذا تخصيص؟ يحتمل أنه تخصيص فلا يكون الحوض إلا للنبي ﷺ، ويحتمل أن الحوض الذي أكرم الله به نبيه ﷺ خاص بأمته، فلا يرده غير الأمة، إذ إن كل أمة ترد حوض نبيها.
فقوله: (لأُمَّتِهِ):
· إما أنه تخصيص الحوض به ﷺ دون غيره من الأنبياء.
· وإما أن يكون تخصيص حوض النبي ﷺ لهٰذه الأمة.
والمعنى الثاني أظهر ؛لأنه جاء الحديث بأن لكل نبي حوضاً.
ثم قال رحمه الله: (وَالشَّفَاعَةُ الَّتِي ادَّخَرَهَا لَهُمْ حَقٌّ، كَمَا رُوِيَ فِي الأَخْبَارِ). الشفاعة تقدم تعريفها وهي إيش؟
الشفاعة أصلها من الشفع، وهو جعل الواحد زوجاً، جعل الفرد زوجاً، هٰذا أصلها في اللغة.
والمراد بها التوسط في جلب الخير أو دفع الضر، هٰذا معنى الشفاعة.
وهي كذلك في الآخرة: فإن الشفاعة التي في الآخرة توسط ممن يمنّ الله عليه بالتوسط في جلب خير أو دفع ضر، لكنها تختلف عن شفاعة الدنيا:
· في أن شفاعة الآخرة لا تكون إلا بإذن من الرب جل وعلا.
· ولا تكون إلا برضاه عن المشفوع له.
فلا بد من هذين الشرطين.
لابد من الإذن، فلا يشفع أحد إلا بإذنه: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾([229]).
ولابد من الرضا كما قال الله جل وعلا: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾([230]).
فلابد من الإذن والرضا في كل موارد الشفاعة، وليس فقط في مورد واحد، يعني في الشفاعة العظمى وما دونها، فإن الشفاعة العظمى لا تكون إلا بعد الاستئذان، ولذلك يذهب النبي ﷺ إلى ربه فيسجد، لا يبدأ بالشفاعة أولاً، بل يستأذن، فإذا أُذن له شفع ﷺ.
والشفاعة ثابتة للنبي ﷺ، وهي ثابتة يوم القيامة، وهي على درجات:
منها ما حصل الاتفاق بين الأمة على ثبوته.
ومنها ما جرى فيه الخلاف بين أهل السنة والجماعة وغيرهم من أهل البدع.
أما ما اتفقوا على ثبوته فهو ما أشار إليه في قوله: (وَالشَّفَاعَةُ الَّتِي ادَّخَرَهَا لَهُمْ حَقٌّ، كَمَا رُوِيَ فِي الأَخْبَارِ). وهي الشفاعة العظمى التي يشفع فيها الرسول ﷺ عند ربه أن يأتي جل وعلا لفصل القضاء بين الناس. وهٰذه الشفاعة عظمى لأن المنتفع بها هم الخلق جميعاً، ولأن الجميع يتخلون عنها، فلا يكون لها إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولذلك سُميت عظمى.
عظمى لأجل أي شيء؟
· لعظيم الانتفاع بها.
· ولكون الأنبياء، بل آدم وأولي العزم من الرسل يتخلون عنها، فكل منهم يعتذر.
فإن الناس إذا اشتد بهم الكرب يقول بعضهم لبعض -كما في الصحيحين وغيرهما، يقول بعضهم لبعضٍ-: ألا ترون ما قد حل بكم وبلغ بكم؟ فيذهبون إلى آدم ويعدّون عليه ما خصه الله به، فيعتذر، ويذهبون إلى نوح، فيعتذر، ويذهبون إلى إبراهيم، فيعتذر، ويذهبون إلى موسى، فيعتذر، ويذهبون إلى عيسى، فيعتذر، ويذهبون إلى النبي ﷺ.
وهؤلاء الذين يذهبون -هٰذه فائدة- الناس الذين يذهبون إلى الأنبياء هم أهل الإيمان فيما يظهر، كما قال شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله؛ لأنهم يعدّدون على الأنبياء ما لا يقر به الكفار.
فيقولون لنوح مثلاً: أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض.
ويقولون لآدم: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته.
ويقولون لموسى: أنت رسول الله الذي كتب الله لك التوراة بيده وكلمك.
وأيضاً يذكرون خصائص عيسى عليه السلام ([231]).
الشاهد أنهم ذكروا لكل نبي ما لا يثبته إلا أهل الإيمان، فهٰذا يدل على أن الناس المذكورين في الأحاديث هم من؟ هم أهل الإيمان الذين يصدقون بهٰذا، وهو القريب.
أما أهل الكفر فإنهم لا شأن لهم، هم مشغولون بأنفسهم من حيث ما ينالهم من سخط الله وعذابه، فإنهم يُحشرون يوم القيامة صاغرين، ومن كان صاغراً ليس أهلاً للطلب، ولا أهلاً للسعي في نفع الخلق.
على كل حالٍ هٰذه الشفاعة يثبتها أهل السنة والجماعة، ويثبتها غيرهم، يثبتها المعتزلة والخوارج وغيرهم من الفرق، وهي خاصة بنبينا ﷺ.
أما باقي الشفاعات فإنّ أهل السنة والجماعة أثبتوها وغيرهم من أهل البدعة نفاها، إلا مسألة الشفاعة في رفع الدرجات في الجنة فإنهم يثبتونها، لكن الشفاعة في أهل الكبائر، الشفاعة في قوم استحقوا النار ألا يدخلوها، الشفاعة في إخراج من دخل النار أن يخرج منها، هٰذه كلها ينكرها المعتزلة والخوارج، ويحملون ما ورد من النصوص في الشفاعة على الشفاعة العظمى وعلى الشفاعة في رفع الدرجات في الجنة.
نقف على هٰذا، ونكمل إن شاء الله تعالى في الدرس القادم.
¹
الدرس التاسع
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(وَالْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ حَقٌّ).
قوله رحمه الله: (وَالْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ حَقٌّ). الميثاق مأخوذ من الوثاق فهو اسم مصدر، وأصله الشد والربط، من وثّق الشيء أو وثَق الشيء إذا شد وربط.
فالميثاق هو ما عاقد الله جل وعلا الناس عليه.
وهٰذا الميثاق أخذه الله تعالى من آدم وذريته، وهو حق كما قال المؤلف رحمه الله، يدل على ذلك قول الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾([232]) في سورة الأعراف. هاتان الآيتان فيهما الإشارة إلى الميثاق الذي أخذه الله جل وعلا على الناس.
وقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في حقيقة الميثاق ما هو؟
هل هو ما جاء في بعض الأحاديث، كما في حديث ابن عباس ((أن الله I أخرج ذرية آدم من ظهر آدم، ونثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى))([233]). أي أقروا له بالربوبية I. على هٰذا حمل جماعة من العلماء الميثاق في هٰذه الآية وفسروه به، فقالوا: قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ هو ما أخذه الله في عالم الذر مما كان قبل خلقهم.
وهٰذا الميثاق هل يذكره الناس أو لا يذكرونه؟
الجواب: أنهم لا يذكرونه، لا إشكال في هٰذا، فإن أحداً لا يذكر هٰذا، لا يذكر أن الله سبحانه وتعالى أخذ عليه الميثاق في عالم الذر.
ولذلك ذهب جماعة من العلماء إلى أن الميثاق الذي أخذه الله I على بني آدم هو ميثاق الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
وهو المشار إليه في قوله تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾.([234])
وهو المشار إليه في قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة)) ([235]). فالفطرة هي الإقرار بالرب جل وعلا.
وهو المشار إليه فيما رواه الإمام مسلم من حديث عياض بن حمار t قال: قال النبي ﷺ: ((قال الله تعالى: خلقت عبادي حنفاء)) أي على التوحيد ((فاجتالتهم الشياطين)).([236]) أي صرفتهم.
وهٰذا أمر لا ينكره أحد، بل هو مما ركز في الفطر، ولذلك كان المشركون إذا سئلوا: من الخالق؟ من الرازق؟ من المالك؟ من المدبر؟ كانوا يجيبون: الله. وهٰذا إقرار منهم بمقتضى الميثاق الذي واثقهم الله عليه وفطرهم عليه.
وهٰذا الذي ذهب إليه جماعة من العلماء، منهم شيخ الإسلام رحمه الله، ومنهم ابن القيم، وأنّ الميثاق ليس ما جاء في الأحاديث، في بعض الأحاديث من أنه أخرجهم من ظهر أبيهم في عالم الذر وأخذ عليهم الميثاق. قالوا: ومما يدل على ذلك:
أولاً: أن الأحاديث الواردة فيها ضعيفة، وأن هٰذا الميثاق لا يذكره أحد، والله ﷻ قال في الآية ما يدل على أن هٰذا الميثاق حاضر في أذهانهم لا يغيب عنهم، فقال I: ﴿أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذا غَافِلِينَ﴾([237]) يعني: لئلا تقولوا، كراهة أن تقولوا: ﴿إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذا غَافِلِينَ﴾، ومعنى الآية: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا﴾ ([238]) يعني: لئلا تقولوا، هٰذا الأخذ من ظهور بني آدم علته، سببه ألا يقول الناس يوم القيامة: إنا كنا عن هٰذا غافلين. وهل يذكر الناس هٰذا الميثاق؟ الجواب: لا.
فإذا كانوا لا يذكرونه في الدنيا فهم أغفل عن ذكره في الآخرة من باب أولى.
وهٰذا مما يؤيد أن الميثاق الذي أخذه الله ﷻ هو ميثاق الفطرة وليس الميثاق الذي جاء في حديث ابن عباس لضعف الحديث([239]).
إذاً عندنا في الميثاق قولان:
القول الأول: أنه ما جاء في حديث ابن عباس من ((أن الله أخذ في عالم الذر على الناس الميثاق فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى)).
وهٰذا القول اختاره شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله وقال به جماعة، نسبه ابن القيم إلى جماعة وطائفة من السلف والخلف.
والقول الثاني: الذي اختاره شيخ الإسلام رحمه الله وابن القيم وابن كثير في تفسيره، وغيرهم من أنّ الميثاق هو ميثاق الفطرة؛لضعف الحديث،ولأن الآية ليس فيها ما يدل على ذلك، فإن الله ﷻ قال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ﴾ ولم يقل:من آدم، فالأخذ من بني آدم ليس من آدم، ولم يقل:من ظهره، بل قال: ﴿مِنْ ظُهُورِهِمْ﴾، ولم يقل: ذريته،بل قال: ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾، كل هٰذا يدل على أن الأخذ ليس ما جاء في حديث ابن عباس،وأن الأخذ هنا هو أخذ الميثاق عليهم،حيث فطَرهم جل وعلا منذ أوائل خلقهم، وهو خروجهم من ظهور آبائهم نطفاً إلى بطون أمهاتهم وأرحام أمهاتهم،من تلك اللحظة أخذ الله جل وعلا الميثاق عليهم بالفطرة التي قارنت خلقهم.
ولذلك قال النبي ﷺ: ((كل مولود يولد على الفطرة))([240]).والفطرة التي وُلد عليها هي الإقرار بالتوحيد للرب جل وعلا، لو خُلّي من الموانع والشواغل والصوارف.
طيب، إذا كان كذلك فما الجواب على قوله: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ نقول: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ الشهادة على النفس في القرآن يُراد بها الإقرار، ولا يلزم في هٰذا النطق،بل الشهادة تكون حالاً ومقالاً، فالشهادة على النفس معناها الإقرار،أي:جعلهم مقرين بهٰذا الميثاق، ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ أي قررهم عليه.
والشهادة لا يلزم منها التكلم،بل قد تكون الشهادة بالحال لا بالمقال،ومن ذلك قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾([241]) وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر حالاً لا مقالاً ؛ لأنهم لم يشهدوا، لم يتكلموا، لم يقروا بأنهم كفار، إنما شهادتهم شهادة حالية لا شهادة مقالية.
وكذلك قوله: ﴿قَالُوا بَلَى﴾ القول قد يكون باللفظ وقد يكون بالحال. وقد أطال شيخ الإسلام رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل تقرير هٰذا المعنى، وكذلك نقله ابن القيم في أحكام أهل الذمة.
والمراد أن الآية ليس فيها دليل على ما ذكر من الميثاق السابق الذي جاء في حديث ابن عباس.
أما إخراج الذرية فقد جاءت فيه أحاديث كثيرة، لكن ليس منها صحيح يثبت أن الله كلمهم وخاطبهم، إنما فيها أن الله أخرجهم وميزهم إلى فريقين: إلى أهل السعادة، وأهل الشقاء، وهٰذا ليس فيه ذكر للميثاق، والأحاديث في هٰذا المعنى كثيرة، وهي ثابتة صحيحة، لكن الذي لم يصح هو تكليم الله لهم في ذلك الوقت، الإخراج وأخذه الميثاق عليهم.
فقول المؤلف رحمه الله: (وَالْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ حَقٌّ):
· يحتمل أن المؤلف رحمه الله أراد بالميثاق ما جاء في حديث ابن عباس.
· ويحتمل أنه يريد بالميثاق الفطرة.
وهما قولان لأهل العلم كما سمعتم.
ثم قال المؤلف رحمه الله بعد هٰذا:
(وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا لَمْ يَزَلْ عَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَعَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَلا يُزَادُ فِي ذَلِكَ الْعَدَدِ وَلا يُنْقُصُ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ أَفْعَالُهُمْ فِيمَا عَلِمَ مِنْهُمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ، وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ.
وَالأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ بِقَضَاءِ اللَّهِ).
نعم، هٰذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله هو بداية بحث مسألة القدر، وبدأه المؤلف رحمه الله بإثبات علم الله جل وعلا السابق لكل شيء.
وبدأ بالعلم لأن العلم أقوى ما يرد به على نفاة القدر، قال الإمام الشافعي رحمه الله: ناظروهم بالعلم -أي القدرية- فإن أقروا به خُصموا، وإن أنكروه كفروا. وهٰذه كلمة عظيمة من الإمام الشافعي رحمه الله فيها بيان طريق إثبات القدر، والمؤلف سلك ذلك حيث قرر في أول تقرير مسائل القدر، قرر علم الله جل وعلا السابق لكل شيء.
قال رحمه الله: (وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا لَمْ يَزَلْ عَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَعَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَلا يُزَادُ فِي ذَلِكَ الْعَدَدِ وَلا يُنْقُصُ مِنْهُ). هٰذا دل عليه أحاديث كثيرة.
أولاً إثبات علم الله السابق للأشياء أدلته أكثر من أن تحصر، فإن الله جل وعلا قد خلق كل شيء بقدر، ومن لازم تقديره العلم كما قال الله جل وعلا: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾([242]). وكما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً﴾([243]). فإن من لازم إثبات القدر إثبات العلم، من لازم إثبات القدر إثبات العلم.
وأدلة إثبات العلم كثيرة كما تقدم شيء منها في الدروس السابقـة.
وأما علم الله ﷻ الخاص الذي ذكره المؤلف رحمه الله، وهو علمه سبحانه وتعالى بعدد أهل الجنة وعدد أهل النار، وأنه قد فُرغ من ذلك فلا يزاد في العدد ولا يُنقص، فقد جاء ذلك في أحاديث كثيرة:
منها ما رواه مسلم من حديث عائشة أن النبي ﷺ دُعي إلى جنازة صبي من الأنصار فقالت عائشة رضي الله عنها: طوبى له عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل سوءاً ولم يدركه. فقال لها رسول الله ﷺ: ((أو غير ذلك يا عائشة)). يعني أو غير هٰذا الكلام؟ ((فإن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاًَ وهم في أصلاب آبائهم))([244]). فدل ذلك على أن أهل الجنة وأهل النار قد فُرغ منهم، العلم بهم قد تم واستقر قبل أن يخلقهم.
وقد جاء في الحديث أن النبي ﷺ خرج على أصحابه بكتابين فقال: ((أتدرون ما هٰذان الكتابان؟)) فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال: ((هٰذا كتاب فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم، وهٰذا كتاب فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم)) ([245]).
وقد سأل النبي ﷺ الصحابة فقالوا: يا رسول الله أخبرنا كأنّا خُلقنا اليوم؟ يعني: أخبرنا عن هٰذا الأمر كأنّا خلقنا اليوم، عن العمل: أنعمل-أو العمل- فيما جرت به الأقلام وفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال: ((بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير)). ثم قال السائل: أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال ﷺ: ((اعملوا، فكل ميسر لما خلق له))([246]). وهٰذا يدل على أن أهل الجنة قد قُضي الأمر فيهم، وأهل النار كذلك، فقد سبق علم الله جل وعلا بما يكون من الخلق.
ثم بعد هٰذا التقرير قال رحمه الله: (وَكَذَلِكَ أَفْعَالُهُمْ فِيمَا عَلِمَ مِنْهُمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ). أفعالهم كذلك على هٰذه الحال، فإن الله جل وعلا قدّر الأشياء وقدّر أسبابها، قدّر أهل الجنة وقدّر أعمالهم، قدّر أهل النار وقدّر أعمالهم، علم أهل النار وعلم أعمالهم، فالجميع قد أحاط به علم الله جل وعلا.
ثم قال رحمه الله: (وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ). كل ميسر لما خُلق له من سعادة أو شقاء، لذلك قال الله جل وعلا: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8)وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(9)فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)﴾([247]). فكل أحد من أهل السعادة ومن أهل الشقاء ميسر لما خُلق له، أي لما خُلق أن يكون: إما من أهل الجنة، أو من أهل النار. (وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ). وهٰذا ليس فيه إلغاء اختيارهم -كما سيأتي-، بل فيه الإخبار بأن الله علم ما يكون عليه الخلق في المآل، وعلم الأعمال التي تُفضي إلي ذلك المآل، وأنه ييسر كل أحد إلى ما علمه في سابق علمه من كونه من أهل السعادة أو من أهل الشقاء، من أهل الجنة أو من أهل النار.
وقوله رحمه الله: (وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) هٰذا من أفضل الكلام؛ لأنه مأخوذ من قول النبي ﷺ: ((اعملوا، فكل ميسر لما خُلق له)). وهو أفضل من قول القائل: الإنسان مسير أو مخير؟ فالإنسان لا شك أنه مسيّر في بعض ما قُدِّر له؛ لكن هٰذا التسيير لا يُلغي اختياره.
ولفظ المؤلف رحمه الله أفضل من لفظ مُسيَّر، فإن التسيير يوحي بأن الإنسان لا اختيار له بالكلية، وهٰذا يخالف ما دلت عليه النصوص من إثبات المشيئة والاختيار للإنسان، كما قال الله جل وعلا: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾([248]). فأثبت للعبد مشيئة، لكن هٰذه المشيئة لا تخرج عن مشيئة الرب جل وعلا.
قال رحمه الله: (وَالأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ).أي الأعمال من حيث الثواب والعقاب، ومن حيث الفوز والنجاة بما يحصل به الختم والنهاية. (وَالأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ). أي بما يُختم للإنسان منها وبما تنتهي عليه.
وقد جاء في ذلك عن النبي ﷺ الحديث، ففي حديث سهل بن سعد في الصحيحين أنه قال ﷺ: ((إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة -فيما يرى الناس- فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار- فيما يرى الناس- فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة. وإنما الأعمـال بالخواتيم))([249]). فدل ذلك على أن العمل بالخاتمة وما يُختم للإنسان به، فالعبرة بالخواتيم والنهايات لا بالبدايات، فقد يكون الإنسان في بدايته كافراً معانداً لرب العالمين ثم يختم له بخير.
يقول رحمه الله: (وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ بِقَضَاءِ اللَّهِ). أي إن السعادة والشقاء بقَدَر، فكل مقدر، كل لا يخرج عن تقدير الله جل وعلا: طاعة الطائع بقدر الله جل وعلا، ومعصية العاصي بقدر الله سبحانه وتعالى، فإنه سبحانه وتعالى لا يكون في ملكه إلا ما يشاء، فالسعيد إنما يسعد بما سبق من قضاء الله، والشقي إنما يشقى بما سبق من قضاء الله ﷻ، فقضاء الله وقدره محيط بأعمال العباد، أهل السعادة وأهل الشقاء على حدٍ سواء، لا فرق بين هٰذا وهٰذا.
ثم بعد هٰذا قال رحمه الله في جواب إشكال قد يلقيه الشيطان في قلب الإنسان، فيقول: إذا كان الأمر كذلك ففيم العمل؟ فالجواب ما أجاب به النبي ﷺ: ((اعملوا، فكل ميسر لما خلق له))([250])،
الجواب أيضاً فيما قاله المؤلف رحمه الله:
(وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَالتَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةُ الْخُذْلانِ، وَسُلَّمُ الْحِرْمَانِ، وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ، فَالْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرًا وَفِكْرًا وَوَسْوَسَةً، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَوَى عِلْمَ الْقَدَرِ عَنْ أَنَامِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَرَامِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾([251]). فَمَنْ سَأَلَ: لِمَ فَعَلَ؟ فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، وَمَنْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ.
فَهٰذا جُمْلَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ مُنَوَّرٌ قَلْبُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ دَرَجَةُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ).
نعم، يقول رحمه الله: (وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ). (أَصْلُ الْقَدَرِ) أي قاعدته التي يُبنى عليها أنه (سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ) السر في الأصل هو ما خَفي وكُتم، فالقدر سر الله في خلقه، أي إنه أخفاه جل وعلا وكتمه فلم يظهره لخلقه.
يبين هٰذا رحمه الله : (لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ). فإذا عجزت عن إدراك وفهم هٰذا السر، أو فهمت القدر وما تضمن، فيجب عليك أن تُسلم لله سبحانه وتعالى. وأن تُوقن أصلاً ثابتاً لا يتزحزح أن الله جل وعلا حكم عدل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾([252])، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾ ([253]). فإذا أيقن العبد أن الله جل وعلا لا يظلم الناس شيئاً، وأنه ليس بظلام للعبيد، وأنه حرم على نفسه الظلم، قرّ قلبه واطمأن وزال ما فيه من الشوائب والكدر المتعلقة بهٰذا الباب.
فالواجب على المؤمن أن يسلِّم لله ﷻ كما تقدم في كلام المؤلف رحمه الله، فـ(أَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ الله). وهٰذه الكلمة نُقلت عن عيسى عليه السلام فيما نقل، وهي مأثورة عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وهي تفيد فائدتين:
الفائدة الأولى: قطع النظر والتعمق في هٰذا الباب، فإنه لا يصل إلى علم؛ لأنه سر، والسر خفي، والخفي لا سبيل إلى تحصيله.
تفيد فائدة ثانية: التسليم لله ﷻ؛ لأنه إذا كان سرّاً لا يمكن الاطلاع عليه، وأيقنت أن ربك حكم عدل جل وعلا، فإنك ستمتنع عن المعارضة والمناقشة والتعمق في هٰذا الباب.
قال رحمه الله: (لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَالتَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ) أي في باب القدر (ذَرِيعَةُ الْخُذْلانِ). (ذَرِيعَةُ) أي وسيلة، و(الْخُذْلانِ) هو عدم النصر، يعني: سبب لعدم نصر الله عز وجل لعبده، فالخذلان هو ترك النصر، فمن أراد أن يترك اللهُ جل وعلا نصره فلينظر في القدر، وليماحك فيه وليناقش وليتعمق.
قال رحمه الله: (وَسُلَّمُ الْحِرْمَانِ) أي إنه وسيلة تحصيل الحرمان، والحرمان أصله المنع، والمنع هنا منع طمأنينة القلب، ومنع اليقين والانشراح، فإنّ من شك في هٰذا الأمر وعمّق النظر فيه ألقى الشيطان في قلبه الوساوس التي تورثه حرمان لذة الإيمان.
قال: (وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ) أي يحصل للإنسان بها الطغيان، وهو مجاوزة الحد؛ لأنه إذا كان القدر سرّاً أخفاه الله على خلقه لم يُطْلِع عليه ملكاً مقرباً ولا نبيّاً مرسلاً، فالواجب التسليم والوقوف وعدم تجاوز ما أمر الله به وما أخبر الله به في هٰذا الشأن.
قال: (فَالْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرًا وَفِكْرًا وَوَسْوَسَةً). وقد نصح رحمه الله في هٰذا التحذير وفي التكرار للتنفير من النظر في هٰذا الباب.
(فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَوَى عِلْمَ الْقَدَرِ عَنْ أَنَامِهِ)، (طَوَى) أي أخفى (عِلْمَ الْقَدَرِ) أي حقيقته (عَنْ أَنَامِهِ) يعني عن الخلق، (وَنَهَاهُمْ عَنْ مَرَامِهِ) يعني عن النظر فيه وعن طلبه، وقد خرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أصحابه وهم يبحثون في القدر، فغضب -كما في حديث عبد الله بن عمرو y- فغضب غضباً شديداً كأنما تفقأ في وجهه حب الرمان، ونهاهم عن ذلك، وأمرهم بالاجتماع على ما في كتاب الله ﷻ وعدم ضرب بعضه ببعض، ثم قال: ((فإنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم على كتاب ربهم، اجتمعوا عليه ما ائتلفت قلوبكم، وقوموا عنه إذا اختلفتم))([254]). أو كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وقد قال النبي ﷺ: ((القدرية مجوس هٰذه الأمة))([255]). وهٰذا الحديث وإن كان في أفراد الأحاديث الواردة فيه مقال، لكن مجموع الأحاديث ثابت في ذم القدرية. وذلك لأنهم بحثوا وتنطعوا فيما نهوا عنه، وطلبوا تحصيل ما منعوا منه.
قال رحمه الله: (كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ :﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾([256])). فمن عارض الله في قدره فقد نازع الله ﷻ في حكمه، (فَمَنْ سَأَلَ: لِمَ فَعَلَ؟) يعني إذا قال الإنسان: لِم فعل كذا ولم يفعل كذا؟ فإنه (فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ) ما حكم الكتاب؟ ما هو حكم الكتاب الذي رده؟ النهي عن السؤال عن أفعال الله: لماذا فعل كذا ولماذا لم يفعل كذا؟ ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾. (وَمَنْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ). (وَمَنْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ) أي كتاب الله جل وعلا في هٰذا وفي غيره (كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) أي من جملتهم؛ لأن السؤال عن أفعال الله ﷻ على وجه الاعتراض كفر بالله ﷻ.
يقول رحمه الله: (فَهٰذا جُمْلَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ مُنَوَّرٌ قَلْبُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى). يعني غاية ما نحتاج إليه في مسألة القدر:
· أن نعلم أن الله جل وعلا قد أحاط بكل شيء علماً.
· وأن نعلم أنه I قد كتب ما علم.
· وأنه سبحانه وتعالى قد شاء ما قدر.
· وأنه جل وعلا قد خلق كل شيء.
وهٰذه الأربع المراتب بها يحصل للإنسان انتظام التوحيد؛ لأن القدر نظام التوحيد كما قال ابن عباس y، ومعنى نظام التوحيد أي إنه ينتظم التوحيد، ولا ينتقض، فمن أنكر القدر انتقض وانتفى توحيده. فنظام التوحيد الإيمان بالقدر، والقدر هو أن تؤمن بأن الله علم الأشياء وكتبها وشاءها وخلقها. كما سيأتي إن شاء الله تعالى في مراتب القدر.
هٰذا ما يحتاجه منوّر القلب. أما الذي يتمحك ويتنطع ويتعمق، فهٰذا قد ضرب طريقاً يحصل له به ما ذكر رحمه الله من الخذلان والحرمان والطغيان.
قال: (وَهِيَ دَرَجَةُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ) جعلنا الله وإياكم منهم وممن حصلها، هٰذه درجة الراسخين في العلم، الذين آمنوا بالقدر ولم يعارضوا قدر الله عز وجل أو يقعوا في شك أو ريب.
نقف على هٰذا ونكمل إن شاء الله تعالى في الدرس القادم.
¹
الدرس العاشر
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ مُنَوَّرٌ قَلْبُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ دَرَجَةُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ؛ لأَنَّ الْعِلْمَ عِلْمَانِ: عِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَوْجُودٌ، وَعِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَفْقُودٌ، فَإِنْكَارُ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ كُفْرٌ، وَادِّعَاءُ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ كُفْرٌ، وَلا يَثْبُتُ الإِيمَانُ إِلاَّ بِقَبُولِ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ، وَتَرْكِ طَلَبِ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ).
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فقال المؤلف رحمه الله في سياق كلامه عن القدر: (فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ مُنَوَّرٌ قَلْبُهُ). (هَذَا) يعني ما تقدم تقريره من المسائل فيما يتعلق بالقدر، والذي تقدم تقريره سبْق علم الله جل وعلا للأشياء، وتقدم أيضاً أن القدر سرّ الله في خلقه، وأنه قد منع الله جل وعلا من التعمق والنظر فيه، فإن ذلك من أسباب الخذلان والحرمان والطغيان.
ثم قال رحمه الله: (فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ مُنَوَّرٌ قَلْبُهُ). (مُنَوَّرٌ) وإنما يحصل النور في القلب من القرآن الكريم، فهو النّور الذي يَفْرقُ الله به بين الحق والباطل.
قال الله جل وعلا: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ﴾([257]). فالقرآن نور وروح، فكلّما عظُم في قلب العبد هٰذا النور تبددت الشّبهات، وانقشعت الظلمات، وزالت كل المكدرات. وكلما خَفي هٰذا النور التبس الأمر على الإنسان وضل وأُصيب بالحيرة والوسوسة والتيه والاضطراب والتناقض، كما قال الله جل وعلا: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ﴾([258]). والله I بعث محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، والنور الذي أخرجهم إليه هو نور النبوة والقرآن.
فمنوّر القلب وهو من اقتصر على ما في القرآن واكتفى بذلك.
منور القلب هو الذي لم يجاوز ما جاء في الكتاب والسنة في هٰذا الباب، ولم يدخل في هٰذا الأمر بعقله ولا برأيه الفاسد، بل اقتصر على ما جاءت به النصوص.
وقوله رحمه الله: (وَهِيَ دَرَجَةُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ). أي إدراك ما تقدم درجة الراسخين في العلم، فليس الرسوخ في العلم التعمق فيما منع الله ﷻ العباد من النظر فيه، بعض الناس يظن أن الرسوخ في العلم هو أن يتعمق الإنسان في مثل هٰذه الأمور، وأن يبحث وأن يطيل النظر وأن يكرر الكلام في ما حُظر ومنع من الكلام فيه، ويظن ذلك تحقيقاً ورسوخاً، وهو مزلة ومضلة: مزلة عن الطريق المستقيم، ومضلة يَضِلُّ بها عن سبيل الله القويم.
فالواجب على المؤمن، الواجب على من نصح نفسه أن يقتصر على ما في الكتاب والسنة من هٰذا الباب، وأن لا يجاوزه، فإنه نور القلب، وهو درجة الراسخين في العلم.
ثم قال رحمه الله في تعليل أن هٰذا هو المطلوب وهٰذا هو الكفاية وأنه لا حاجة بالناس إلىٰ طلب المزيد والنظر والتعمق في مسائل القدر، قال رحمه الله: (لأَنَّ الْعِلْمَ عِلْمَانِ: عِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَوْجُودٌ) وهو علم الشريعة، (عِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَوْجُودٌ) وهو علم الشريعة، وهو ما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في القرآن والسنة.
(وَعِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَفْقُودٌ) وهو علم الغيب، ومن جملته علم الأقدار، فإن الله جل وعلا غيّب عن الخلق الأقدار، فلم يطّلع على ما في اللوح المحفوظ، وهو ما رقم فيه وكتب ما كان وما يكون وما سيكون، لم يطّلع على ذلك أحد، لم يُطلع عليه ملكاً مقرباً ولا نبيّاً مرسلاً: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا(27)﴾([259]). كل هٰذا احتياط، يعني حتى ما يظهره الله جل وعلا للأنبياء من غيبه في غاية الاحتياط لهٰذا الغيب، حيث جعل من يرصد ما يقوله النبي ويُحصي ما يبلغه؛ لئلا يضل أو يزيد أو ينقص.
فعلم الغيب علم مفقود، وهو المشار إليه في قوله: (وَعِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَفْقُودٌ). ثم يقول رحمه الله: (فَإِنْكَارُ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ كُفْرٌ). إنكار علوم الشريعة كفر، فمن قال: إن الله لا يعلم ما الخلق عاملون، فإنه كافر بالله العظيم؛ لأن الله جل وعلا أخبر في كتابه أنه بكل شيء عليم، وأنه يعلم ما الخلق عاملون: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾([260])، ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ([261]) جل وعلا.
(وَادِّعَاءُ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ كُفْرٌ). ادعاء علم الغيب كفر: ﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَٰوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾([262]). يعني لا يعلمون متى يبعثون: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ﴾([263]). فالله جل وعلا أحاط بكل شيء علماً، فالعلم عنده I كما قال: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ﴾([264]) I. فمن ادعى علم الغيب كذّب القرآن، ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (وَادِّعَاءُ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ كُفْرٌ).
ثم قال رحمه الله: (وَلا يَثْبُتُ الإِيمَانُ إِلاَّ بِقَبُولِ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ). لا إشكال، لا يثبت الإيمان ولا تَقَرُّ القدم على الإسلام إلا بقبول العلم الموجود، قبولاً مجملاً، قال الله جل وعلا: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾([265]) وقوله: ﴿وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ هو القبول، فيقبل ذلك قبولاً لا منازعة فيه.
يقول رحمه الله: (وَلا يَثْبُتُ الإِيمَانُ إِلاَّ بِقَبُولِ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ، وَتَرْكِ طَلَبِ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ). لا إشكال؛ لأن العلم المفقود لا سبيل إلى تحصيله، فالغيب لا طريق إلى تحصيله إلا من طريق النبوة، فكل من زعم أن له طريقاً يوصله إلى ما غاب وخفي من علم الله ﷻ فقد كذّب بالقرآن، فالواجب عليه أن يترك ذلك، ولا يثبت إيمانه إلا بذلك.
ثم قال رحمه الله:
(وَنُؤْمِنُ بِاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ، وَبِجَمِيعِ مَا فِيهِ قَدْ رُقِمَ، فَلَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ كَتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ أَنَّهُ كَائِنٌ؛ لِيَجْعَلُوهُ غَيْرَ كَائِنٍ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ؛ لِيَجْعَلُوهُ كَائِنًا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَا أَخْطَأَ الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَمَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ).
يقول رحمه الله: (وَنُؤْمِنُ بِاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ، وَبِجَمِيعِ مَا فِيهِ قَدْ رُقِمَ). هٰذا من صلة وتمام البحث في مسائل القدر: الإيمان باللوح والقلم.
اللوح هو اللوح المحفوظ، وقد ذكره الله جل وعلا في كتابه في مواضع عديدة منها قول الله جل وعلا: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ ([266]). فذكره الله جل وعلا بهٰذا الاسم في كتابه، وسماه جل وعلا ذكراً: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)﴾([267]). فالذكر هو ما كتبه الله جل وعلا في اللوح المحفوظ، وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم -في جواب من سأله عن أول هٰذا الأمر، قال-: ((وكتب في الذكر كل شيء)). فالذكر هو اللوح المحفوظ، وقد كتب الله جل وعلا في هٰذا اللوح ما هو كائن إلى يوم القيامة، فقد حوى كل شيء من أفعال الرب ومن أفعال الخلق، ومن جملة ما في اللوح المحفوظ القرآن العظيم، فإن الله I ذكر ذلك في قوله: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾.
وأما القلم، فالقلم المراد به القلم الأعظم الأول الذي كتب الله به مقادير كل شيء، فإن الله I خلق القلم، وقال له في أول خلقه: اكتب. قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. فجرى القلم بأمر الله بكتابة ما هو كائن إلى يوم القيامة، كما جاء فيما رواه أصحاب السنن من حديث فيه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إن أول ما خلق الله القلمَ -بالنصب- قال له: أكتب. قال: ما أكتب؟ قال: أكتب مقادير كل شيء، أو: أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)).([268]) وقد ثبت سبْق الكتابة في أحاديث كثيرة، بل في آيات من الكتاب الحكيم: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا﴾ ([269]). أي من قبل أن نخلقها، هٰذا من القرآن.
وأما السنة، ففي الصحيح قال النبي ﷺ: ((كتب الله مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)).([270]) فالله I كتب مقادير كل شيء، وهٰذه الكتابة هي الكتابة العامة الشاملة، ثم تلاها كتابات دون هٰذه الكتابة في المنزلة والمكانة والعظم، وهي متنوعة، ولها أقلام، كل كتابة لها قلم، وقد قال النبي ﷺ فيما أخبر به مما جرى ليلة المعراج أنه بلغ مكاناً سمع فيه صريف الأقلام، وصريف الأقلام صوت جريها وكتابتها، وهٰذه الأقلام هي التي تكتب قدر الله اليومي، كما قال الله جل وعلا: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)﴾([271]) . يعز من يشاء ويذل من يشاء، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، يرفع من يشاء ويضع من يشاء، يحيي ويميت، يدبر أمر مملكته جل وعلا لا إله إلا هو، فقول المؤلف رحمه الله: (وَنُؤْمِنُ بِاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ). اللوح هو الذي كُتب فيه المقادير، والقلم هو الذي كتب بأمر الله ما يكون .
قال: (وَبِجَمِيعِ مَا فِيهِ قَدْ رُقِمَ) أي كُتِب. وهٰذا إيمان مجمل، وهو من مقتضيات ومن لوازم القدر؛ لأن من لوازم الإيمان بالقدر الإيمان بأن الله كتب كل شيء، ولا يتم إيمان أحد إلا بالإيمان بهٰذه المرتبة.
يقول رحمه الله: (فَلَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ). الخلق ليسوا خلق زمانه، بل هم الخلق كلهم منذ أن خلق الله الخلق إلى آخر من يخلق الله جل وعلا، لو اجتمع هؤلاء كلهم على شيء كتبه الله تعالى أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، لا إله إلا الله.
وهٰذا يبين لك عظيم قدرة الرب سبحانه وتعالى، وأنه لا مبدل لخلقه ولا راد لأمره ولا معقب لحكمه سبحانه وتعالى، فلو اجتمع الخلق كلهم على أن ينفعوك بأمر لم يكتبه الله لك ما نفعوك، ولو اجتمعوا كلهم على أن يردوا عنك قضاء الله في أمر كتبه الله عليك ما ردوه، وهٰذا قد ضمنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الوصية العظيمة، في وصيته لابن عباس :((احفظ الله يحفظك))، كان من جملة ذلك أن قال له: ((واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك. ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)).([272]) رفعت الأقلام أي فرغ من التقدير السابق، وجفت الصحف، الصحف المقصود بها ما رقم في اللوح المحفوظ، أو ما استنسخته الملائكة من اللوح المحفوظ، فإن الملائكة تكتب من اللوح المحفوظ ما يكون بالنسبة لكل مخلوق، قال الله جل وعلا: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (29)﴾([273]). والاستنساخ هنا هو الكتابة قبل الوقوع، فإن الاستنساخ نسخ، والنسخ يكون من منسوخ، والمنسوخ هو ما في اللوح المحفوظ تكتبه الملائكة، ثم يُجري الله جل وعلا قضاءه وقدره، ثم يقابل ما وقع مما قدره الله من فعل المخلوق على ما في هٰذه النسخ، ثم يثبت ما فيها من خير ومن شر، فقوله: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (29)﴾ المراد به الكتابة، كتابة الملائكة من اللوح المحفوظ، لا الكتابة التي يكتبها الملائكة على الإنسان كقوله تعالىٰ: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)﴾([274]). فهٰذه كتابة سابقة.
ثم قال رحمه الله بعد أن قرر هٰذا الكلام: (جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). القلم الذي جف ما هو؟ القلم الأول السابق الذي كتب الله به مقادير كل شيء. (جفّ) أي انقطعت كتابته، وقد ذَكَّرَ النبي ﷺ هٰذا أصحابه في مواضع عديدة، فلما استأذنه أبو هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في الاختصاء أعرض عنه، ثم كرر مرة ثانية وثالثة قال: ((جف القلم بما أنت لاقٍ))([275]) كما في صحيح البخاري. أي إن الأمر قد فرغ منه سواء فعلت هٰذا أو لم تفعل، فما كتبه الله عليك لا محالة أنه سيدركك.
قال المؤلف رحمه الله: (جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَا أَخْطَأَ الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ). ما أخطأ العبد يعني ما تجاوزه إلى غيره، (وَمَا أَصَابَهُ) أي ما ناله ونزل به (لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ) أي لم يكن ليتجاوزه إلى غيره.وهٰذا من كلام الصحابة y، وورد مرفوعاً، ونُقل عن جماعة منهم: إنك لو أنفقت مثل جبل أحد ذهباً في سبيل الله لم يتقبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. نُقل هٰذا عن عبادة بن الصامت وعن غيره من الصحابة y. وهٰذا فيه عظيم منزلة القدر وصدق ما قاله ابن عباس: القدر نظام التوحيد، فمن كذب بالقدر نقض توحيده.
ثم قال رحمه الله:
(وَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ سَبَقَ عِلْمُهُ فِي كُلِّ كَائِنٍ مِنْ خَلْقِهِ، فَقَدَّرَ ذَلِكَ تَقْدِيرًا مُحْكَمًا مُبْرَمًا، لَيْسَ فِيهِ نَاقِضٌ وَلا مُعَقِّبٌ، وَلا مُزِيلٌ وَلا مُغَيِّرٌ، وَلا نَاقِصٌ وَلا زَائِدٌ مِنْ خَلْقِهِ فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، وَذَلِكَ مِنْ عَقْدِ الإِيمَانِ، وَأُصُولِ الْمَعْرِفَةِ، وَالاعْتِرَافِ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُبُوبِيَّتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾([276])، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾([277])).
يقول رحمه الله فيما يجب عقده في مسائل القدر،يقول: (وَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ سَبَقَ عِلْمُهُ فِي كُلِّ كَائِنٍ مِنْ خَلْقِهِ). سبق تقرير هٰذا بأدلته، وأن الله جل وعلا تقدّم علمه الخلق، وأنه علم بهم قبل أن يخلقهم I، ثم قال: (فَقَدَّرَ ذَلِكَ تَقْدِيرًا مُحْكَمًا) أي قدر ما علمه (تَقْدِيرًا مُحْكَمًا) أي متقناً، فالإحكام يطلق على الإتقان، قال الله جل وعلا: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)﴾([278]). أحكمت أي أتقنت، فالله جل وعلا أتقن هٰذا القدر إتقاناً عظيماً يدل على عظيم قدره جل وعلا وعظيم قدرته، ولذلك لما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن تعريف القدر قال: القدر قدرة الله؛ لأن من كذب بالقدر فقد كذب بقدرة الله جل وعلا، القدر قدرة الله I.
يقول رحمه الله: (فَقَدَّرَ ذَلِكَ تَقْدِيرًا مُحْكَمًا) أي متقناً (مُبْرَمًا) أي لا ناقض له، فما أبرم هو الشيء الذي أحكم وعقد بما لا نقض له، ولذلك قال رحمه الله بعد أن وصف حكم الله وتقديره بالإبرام: (لَيْسَ فِيهِ نَاقِضٌ وَلا مُعَقِّبٌ) أي يزيل الحكم بالكلية، فلا أحد يقدر أن يرد قدر الله جل وعلا، بل قدر الله نافذ؛ لنفوذ قدرته ومشيئته I، فهو ذو القدرة البالغة والمشيئة النافذة سبحانه وبحمده لا إله إلا هو.
(لَيْسَ فِيهِ نَاقِضٌ وَلا مُعَقِّبٌ) أي لا مؤخر، فلا يؤخر قدر الله، فإذا جاء أجل الله لا تأخير ولا تقديم، لكل أجل كتاب، أي مكتوب لا يتجاوز هٰذا ولا يتعداه: ﴿وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا ﴾([279]) .فالله I لا يؤخر ما قضى وقدر، ولا يستطيع أحد أن يؤخر ما قدره الله جل وعلا وقضاه.
(وَلا مُزِيلٌ وَلا مُغَيِّرٌ). (لا مُزِيلٌ) أي لا رافع، فهو في معنى لا ناقض (وَلا مُغَيِّرٌ) أي مبدل، ويشمل التبديل التخفيف، ويشمل التبديل التحويل، ويشمل التغيير التأخير، فهو أعم من قوله: (وَلا مُعَقِّبٌ). يعني: لا يمكن أن يحول ولا يزول، فهم -أي الخلق- لا يملكون كشف الضر ولا تحويله، لا يملكون كشف ما قدره الله ولا تحويله.
قال رحمه الله: (وَلا نَاقِصٌ وَلا زَائِدٌ ). أي لا ناقص عما كتب في اللوح المحفوظ وما سبق به العلم، ولا زائد، بل كل ذلك بتقدير محكم مطابق ،كما قال الله I: ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ﴾([280]). فكل زيادة في الأعمار،ر وكل نقص فيها،سواء في أعمار العموم أي جنس بني آدم أو أعمار الخصوص، يعني عمر الفرد من حيث الزيادة والنقص إلا في كتاب، فإنه لا مبدل لحكمه جل وعلا، ولا معقب ولا مزيل ولا مغير.
قال رحمه الله: (مِنْ خَلْقِهِ فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ)، (لَيْسَ فِيهِ) أي في حكمه وقدره (نَاقِضٌ وَلا مُعَقِّبٌ، وَلا مُزِيلٌ وَلا مُغَيِّرٌ، وَلا نَاقِصٌ وَلا زَائِدٌ مِنْ خَلْقِهِ فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ).
ثم قال رحمه الله: (وَذَلِكَ) أي ما تقدم من وجوب الاعتقاد والعلم بأن الله I علم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم، وقدّر ذلك قبل خلقهم، وكتب ذلك قبل خلقهم، يقول رحمه الله: (وَذَلِكَ مِنْ عَقْدِ الإِيمَانِ، وَأُصُولِ الْمَعْرِفَةِ). أي من أصول الإيمان والمعرفة بالله I، فبهما يكمل للعبد الإيمان، قال رحمه الله: (وَالاعْتِرَافِ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُبُوبِيَّتِهِ). أي ذلك من الاعتراف بتوحيد الله وربوبيته .
ومن هٰذا نعلم يا أخي أن من تمام التوحيد -توحيد الربوبية- أن يؤمن الإنسان بالقدر، فمن ضل في مسألة القدر فإنه لم يحقق الإيمان بتوحيد الربوبية؛ لأنه من توحيد الربوبية الإيمان بأن الله خالق، وأنه مالك، ولابد للخلق والملك من قدرة ومشيئة وعلم.
قال رحمه الله: (كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾([281])). خلق كل شيء فقدره تقديراً محكماً، وتأكيد التقدير هنا بالمصدر توكيد للمعنى وأنه بقدر، وأنه ما من شيء مخلوق إلا بقدر الله جل وعلا، قال I: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾([282]). أمر الله ما معناه؟ أمر الله هل هو قوله أو خلقه؟ أمر الله خلقه، أي مأموره I وهنا فائدة: أن المصادر التي تضاف إلى الله ﷻ قد تضاف على جهة الصفة ويقصد مسمى الصفة، وقد يرد المصدر ويراد به المفعول، مفعول تلك الصفة. فقول الله عز وجل: ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ﴾([283]). المشار إليه هل هو خلق الله الذي هو صفته، أو خلق الله الذي هو مخلوقه؟ المخلوق، فأطلق المصدر على مفعول الصفة، فيطلق المصدر في لغة العرب كثيراً ويراد به المعمول، المفعول لتلك الصفة، كما قال تعالىٰ: ﴿أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ﴾([284]). هل الذي أتى هو صفة الله ﷻ، أو مفعول الصفة؟ مفعول الصفة ﴿أَتَى أَمْرُ اللّهِ﴾ أي أتى مأمور الله، أي مخلوق الله الذي قضاه I، ومن ذلك هٰذا الذي في هٰذه الآية قوله تعالىٰ: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾([285]). أي كان مأمور الله I، أي ما أمر به I، وقضى بخلقه قدراً مقدوراً، أي قدراً محدداً لا يتجاوز ما حُدد ولا يتعدى ما قضى I.
وبهٰذا ينتهي ما ذكره المؤلف رحمه الله في هٰذا المقطع من كون الإيمان بالقدر من لوازم الإيمان وأصول المعرفة، ومن لوام الاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته.
ثم قال رحمه الله:
(فَوَيْلٌ لِمَنْ صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْقَدَرِ خَصِيمًا، وَأَحْضَرَ لِلنَّظَرِ فِيهِ قَلْبًا سَقِيمًا، لَقَدِ الْتَمَسَ بِوَهْمِهِ فِي فَحْصِ الْغَيْبِ سِرًّا كَتِيمًا، وَعَادَ بِمَا قَالَ فِيهِ أَفَّاكًا أَثِيمًا).
نعم،ذكر رحمه الله في ختام مبحث القدر في هٰذا المقطع -وهو سيعيد بعض ما يتعلق بالقدر- يقول: (فَوَيْلٌ لِمَنْ صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْقَدَرِ خَصِيمًا). (خَصِيمًا) فعيل بمعنى فاعل، يعني مخاصم، فويل له، ويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً، فخاصم قدر الله كما فعل إبليس عليه من الله ما يستحق من اللعن، حيث قال: ﴿رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي﴾([286]). فخاصم الله جل وعلا في قدره، فهؤلاء الذين خاصموا الله في قدره بأن أنكروه أو كذبوه أو جعلوه حجة على ترك الشريعة ومخالفة الأمر، (فَوَيْلٌ لِمَنْ صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْقَدَرِ خَصِيمًا).
(ويل) كلمة وعيد، قيل: إنها واد في جهنم، وهٰذا ليس بصحيح، لا يثبت هٰذا بسند صحيح، وإنما (ويل) كلمة عذاب فهي كلمة إنشاء وإخبار:
إنشاء أي دعاء، فإذا قلت: ويل. أنت تدعو بالويل على هـٰذا.
وإخبار أي إنك تخبر بأنه استحق الويل.
وهٰذا ليس بغريب في اللغة أن تأتي كلمة وتفيد معنيي الجملة؛ لأن الجمل إما أن تكون إنشائية أو خبرية، ويل تضمنت هذين المعنيين: المعنى الإنشائي والمعنى الخبري. طيب.
قال: (وَأَحْضَرَ لِلنَّظَرِ فِيهِ) يعني في القدر (قَلْبًا سَقِيمًا). وهٰذا فيه أنه لا يسلم الإنسان من غوائل البحث في القدر إذا كان صاحب قلب سقيم ملئ بالمعارضة وعدم التعظيم للنصوص. ثم قال: (لَقَدِ الْتَمَسَ بِوَهَمِهِ ) أي ظنه الكاذب وتوهمه الفاسد (فِي فَحْصِ الْغَيْبِ سِرًّا كَتِيمًا) ولا يمكن أن يصل إلى شيء، سرّاً كتيماً، كتيماً فعيل بمعنى مفعول، أي سرّاً مكتوماً لم يظهره الله I لأحد، كما قال I: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26)﴾([287]).
ثم قال: (وَعَادَ بِمَا قَالَ فِيهِ) أي بما قال فيه وقد استصحب القلب السقيم والنظر الكليل والوهم الفاسد (وَعَادَ بِمَا قَالَ فِيهِ ) يعني في القدر (أَفَّاكًا) أي كذاباً (أَثِيمًا) أي مأثوماً، فأثيم فعيل بمعنى مفعول، أي مأثوم، أي قد حصّل الإثم من رب العالمين.
ثم قال رحمه الله: (وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ حَقٌّ). هٰذا إن شاء الله تعالى نقرؤه في الدرس القادم.
¹
الدرس الحادي عشر
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ حَقٌّ. وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ وَمَا دُونَهُ. مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ، وَقَدْ أَعْجَزَ عَنِ الإِحَاطَةِ خَلْقَهُ. وَنقُولُ: إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا، إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا وَتَسْلِيمًا. وَنُؤْمِنُ بِالْمَلائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ، وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَنَشْهَدُ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ).
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فقال المؤلف رحمه الله: (وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ حَقٌّ) كما جاء بذلك الكتاب والسنة، والعرش والكرسي خلقان عظيمان من خلق الله جل وعلا.
أما العرش فهو سرير المُلك، هكذا هو معنى العرش في لغة العرب، وهو من أعظم خلق الله جل وعلا، اصطفاه الله I وخصه دون سائر الخلق بأن أضاف إليه الاستواء، فقال الله جل وعلا: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾([288]) في عدة مواضع من الكتاب الحكيم. ووصف العرش بأنه عظيم، ووصفه بأنه مجيد، ففي قراءة: ﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ (15)﴾([289]) وصف للعرش، والقراءة الثانية: ﴿ذُو الْعَرْشُ الْمَجِيدُ (15)﴾ وصف للرب جل وعلا. فاللهI عظم شأن هٰذا العرش، وخصه بما خصه به من أنه استوى عليه جل وعلا استواءً يليق بذاته، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل.
وهٰذا العرش هو أول ما خلق الله جل وعلا؛ لأنه سابق على خلق السمٰوات والأرض، وسابق لكتب القلم الذي كتب الله جل وعلا به مقادير كل شيء، فإنه دلت السنة على أن العرش سابق للتقدير، والتقدير إنما كان وقت خلق القلم، فإن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب. فهو منذ خلقه ابتدأ الكتابة، والعرش سابق لذلك ،كما في حديث عمران بن حصين، حيث ذكر الخلق -خلق السمٰوات والأرض- وذكر فيه قال: ((وكتب في الذكر كل شيء، ثم استوى على العرش)).([290]) فدل ذلك على أن العرش موجود قبل خلق السمٰوات والأرض، وقبل أن يكتب في الذكر كل شيء، وهٰذا الذي عليه جمهور أهل العلم.
وقد ذهب بعض أهل السنة والجماعة إلى أن أول الخلق القلم.
ولكن الصحيح ما عليه الأكثرون من أن خلق العرش سابق على خلق القلم، والعرش أعظم المخلوقات، أعظم خلق الله فيما نعلم العرش.
ثم قال رحمه الله: (وَالْكُرْسِيُّ). والكرسي جاء ذكره في القرآن الحكيم في قول الله تعالىٰ: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَٰوَاتِ وَالأَرْضَ﴾([291]). واختلف العلماء في حقيقة الكرسي:
فمنهم من قال: إن الكرسي هو العرش.
والصحيح أنه ليس العرش، بل هو شيء غير العرش؛ لورود التفريق بين الكرسي والعرش في عدة نصوص من الكتاب والسنة.
أيضاً قال آخرون في الكرسي: إنه موضع قدمي الرب جل وعلا، فهو بين يدي العرش، وجاء هٰذا عن ابن عباس موقوفاً، ومعلوم أن مثل هٰذا لا يقال بالرأي، ولذلك قبله جماعة من العلماء وأثبتوا له حكم الرفع، ما لم يكن نقله عن أهل الكتاب، فإن ابن عباس له رواية عن أهل الكتاب وإن كان ينكر الأخذ عنهم t ،كما في صحيح البخاري، لكن المشهور أنه أخذ عنهم، فلعل ما أنكره هو الإقبال على ما عندهم والأخذ بما يقولون واعتماد ما يقولون.
على كل حال من قال: إن العرش موضع القدمين. استند في هٰذا إلى أثر ابن عباس.
وقال آخرون: إن الكرسي خلق عظيم من خلق الله عز وجل غير العرش، ولم يقيدوه بأنه موضع القدمين ولا بغير ذلك.
وهٰذا القول الأخير هو قول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وذلك لأن الأثر الوارد عن ابن عباس ضعيف.
فمن صححه عمل بما جاء في الأثر من أن الكرسي موضع القدمين، كما ذكر ابن القيم رحمه الله في نونيته.
ومن رأى ضعف الأثر لم يستند إليه في إثبات هٰذا الوصف، وقال: الكرسي خلق من خلق الله عظيم الله أعلم به، واقتصر على هٰذا.
ولاشك على كل حال أن العرش والكرسي حق -كما قال المؤلف رحمه الله- لثبوت ذلك بالنصوص.
ثم قال رحمه الله: (وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ وَمَا دُونَهُ). يشير بهٰذا رحمه الله إلى استواء الله ﷻ على العرش، فإن الله I استوى على العرش، واستواؤه ثابت بالكتاب والسنة ثبوتاً لا ريب فيه ولاشك، فإن الله I أخبر باستوائه على العرش في مواضع عديدة من كتابه الحكيم: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾([292]). تكررت في ستة أو سبعة مواضع من الكتاب الحكيم،([293]) وجاء ذلك أيضاً في حديث عمران: ((ثم استوى على العرش)). وهو في الصحيحين. ([294])
فاستواء الله على العرش ثابت لا مرية فيه ولا شك، وأهل السنة والجماعة أثبتوا الاستواء على ما جاء في الكتاب والسنة، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فقالوا: الرحمـن على العرش استوى كما قال الرب جل وعلا.
وأنكر هٰذا من أنكره من المتكلمين، على رأسهم الجهمية الذين أنكروا استواء الله ﷻ على عرشه، وتبعهم على هٰذا جماعة من مثبتة الصفات كالأشاعرة، فأنكروا الاستواء الذي يثبته أهل السنة والجماعة، وأثبتوا الاستواء بمعنى الاستيلاء، قالوا: استوى على العرش أي استولى عليه، فحرفوا الكلم عن مواضعه، وتركوا المعنى المتبادر الذي فسره السلف وبينوه إلى معنى غير ثابت في اللغة، بل في ثبوته في اللغة خلاف: هل يطلق استوى على استولى أو بمعنى استولى؟ فإن العلماء مختلفون في ذلك.
والصحيح أن الاستواء معناه العلو والارتفاع، وقد جمع ابن القيم رحمه الله في نونيته كلام أهل العلم في تفسير الاستواء فقال:
قد حُصلت للفارس الطعان
ولهم عبارات عليه أربع
تفع الذي ما فيه من نكران
وهي استقر وقد علا وكذلك ار
.......................................
وكذاك قد صعد الذي هو رابع
أي رابع المعاني، فالمعاني أربعة: ارتفع وعلا وصعد واستقر.
ثم اعلم أن الاستواء الذي يثبته أهل السنة والجماعة لا يلزم عليه نقص؛ لأن كلام الله حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وما كان حقّاً فلا يمكن أن يلزم عليه لازم باطل مهما كان وكيف ما كان، وإنما اللوازم الباطلة التي يلزم بها أهل الباطل أهل السنة والجماعة إنما جاءت من الأفهام السقيمة والآراء الباطلة والأقوال المنحرفة والآراء الضالة، فلما كان أهل السنة والجماعة، لما كان سلف الأمة من الصحابة y سالمين من هٰذه البدع كانوا على الصراط المستقيم، يعملون بما في الكتاب من الهدى والحق ويقبلون به فكانوا في روح ونور: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء﴾([295]). فالقرآن روح ونور، وأعظم الروح والنور ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم لم تدخلهم هٰذه البدع التي حصل بها التحريف والتضليل والانحراف عن الصراط المستقيم، وكل من سار على طريقهم فله من الروح وهو الحياة والنور وهو الهداية بقدر ما يستمسك بالكتاب المبين.
والمؤمن إذا عمل بهٰذا وفق إلى خير كثير، وصرف عنه شر كثير، أما إذا تبع هٰذه الأقوال الباطلة والآراء المنحرفة خفت صوت الحق في قلبه، وخبا نور الهدى من فؤاده، ووقع في أنواع الضلال والردى.
ثم قال رحمه الله -في الجواب عما ألزم به أهل الباطل أهل الحق من إثبات صفة الاستواء، قال-: (وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ) سبحانه وبحمده، فهو الغني الحميد، لا حاجة به إلى شيء من خلقه، وإنما استواؤه تعظيم واصطفاء ، فهو دال على عظمتهI، وهو المتصف بصفات الكمال: لله المثل الأعلى، وهو اصطفاء واختيار لهٰذا المخلوق من سائر الخلق حيث أضاف الاستواء إليه، والله جل وعلا لا معقب لحكمه يخلق ما يشاء ويختار، فمن جملة ما اختاره هٰذا العرش، اختاره وخصه بهٰذه الخاصية العظيمة أن الرحمن جل وعلا استوى عليه، لكن لا تتوهم أنه محتاج إلى العرش، بل هو الغني عن كل شيء، فالغنى وصف له ذاتي I، كل شيء مفتقر إليه، لا غنى بالخلق عنه I، وهو الغني الحميد جل وعلا، ولذلك قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَٰوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ﴾([296]). فكل خلقه مفتقرون إليه، هو الصمد سبحانه وتعالى الذي تذل له الرقاب وتنزل به الحوائج، مع كمال غناه سبحانه وتعالى، فقول المؤلف: (وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ وَمَا دُونَهُ). أي من سائر الخلق؛ لئلا يتوهم متوهم من إثبات صفة الاستواء افتقار الله جل وعلا للعرش، ولله المثل الأعلى، الآن السماء فوق الأرض، هل هي محتاجة في استقرارها إلىٰ الأرض؟ لا، فلا، يلزم من علو الشيء على الشيء في خلق الله أو استوائه عليه أن يكون محتاجاً إليه، فاقطع هٰذه الأوهام الباطلة، وإياك أن تصغي إلى شبه المشبهين، فإنهم يوقعون في الردى.
قال رحمه الله: (مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ). هٰذا بيان لاستغنائه I، فإنه محيط بكل شيء، محيط بكل شيء لعظمه وسعته وكبره I، فهو الكبير المتعال، وهو الذي أحاط بكل شيء، بل قال I: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) ﴾([297]) .فأحاط بخلقه علماً، وأحاط بخلقه قدرةً I، فهو الأول الآخر الظاهر الباطن. الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء.
وبهٰذا ثبت له جل وعلا الإحاطة الزمنية والإحاطة المكانية سبحانه وبحمده، فالله جل وعلا (مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ). أي وهو عليه، مستعلٍ على كل شيء سبحانه وتعالى، عالٍ على كل شيء، ولاشك أنه هو العلي العظيم سبحانه وبحمده، ولذلك ختمت أعظم آية في كتاب الله بهذين الوصفين بإثبات:
· صفة العلو.
· والعظمة.
فعلو الله ثابت على كل شيء.
وفوقيته I ثابتة على كل شيء.
والعلو والفوقية الثابتة له I هي علو الذات وعلو القدر وعلو القهر، كل هٰذه المعاني الثلاثة ثابتة للرب جل وعلا.
وأهل التحريف والانحراف لم يثبتوا علو الذات، بل قالوا في كل ما جاء في الكتاب والسنة من إثبات العلو لله عز وجل: إنه علو القدر أو علو القهر. وهٰذا ثابت للرب جل وعلا، لكن لا نعطل المعنى الثالث، وهو صفة كمال للرب I.
قال رحمه الله: (وَقَدْ أَعْجَزَ عَنِ الإِحَاطَةِ خَلْقَهُ). صحيح أعجز عن الإحاطة خلقه، فخلقه مهما بلغت قُدَرُهم وقدراتهم لا يتمكنون من الإحاطة بالرب جل وعلا، لا الملائكة ولا غيرهم، كلهم لا يتمكنون من الإحاطة به سبحانه وبحمده، فهو الكبير المتعال، وهو المحيط بكل شيء، قال الله جل وعلا: ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء﴾([298]). وهٰذا في شيء مما اتصف به وهو العلم، لا يتمكنون من الإحاطة بشيء من ذلك. وقال جل وعلا: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)﴾([299]). أي لا يتمكنون من الإحاطة بعلمه I، فنفى الله ﷻ الإحاطة بشيء من صفاته والإحاطة به جل وعلا، وأيضاً نفى الإحاطة الحسية، وذلك بإدراك البصر فقال I: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)﴾([300]). لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار سبحانه وبحمده، فنفى الله جل وعلا أن تدركه الأبصار، وذلك لعظمه وكماله وأنّ خلقه لا يتمكنون من الإحاطة به.
وعلى هٰذا يحمل ما جاء في الأثر من حديث أبي سعيد الخدري y في تفسير الآية، قال رضي الله عنه: لو أن الخلق كلهم الملائكة والإنس والجن والشياطين صفوا صفّاً واحداً منذ خلقهم الله ﷻ إلى آخرهم ما أحاطوا بالله جل وعلا، مع تعددهم واختلاف قدراتهم وكثرتهم لا يحيطون بالرب جل وعلا، وقد ورد هٰذا الأثر مرفوعاً، إلا أنه لا يصح مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
المراد أن الخلق عاجزون عن أن يحيطوا بالرب I، وإذا كان كذلك فالواجب عليهم أن ينزهوا الله جل وعلا عن أن يتوهموا الإحاطة به، أو العلم بحقائق ما أخبر به عن نفسه سبحانه وتعالى.
ثم قال رحمه الله: (وَنقُولُ: إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا، إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا وَتَسْلِيمًا). يقول رحمه الله: (نقُولُ) أي في عقدنا وما ندين الله به وما نتعبد له I به: (إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً). اتخذ أي اصطفى وصير إبراهيم خليلاً له I، وفي هٰذا إثبات صفة المحبة لله I، إثبات أنه يحب وأنه يحَب؛ لأنه إنما اصطفاه وصيره خليلاً له لكونه يحبه، ففي هٰذا إثبات أنه I يحب عباده وعباده يحبونه.
وقد أنكر الجهمية أن يحب الله ﷻ عباده أو أن يحبوه، فقالوا: لا يُحِب ولا يُحَب، الله لا يحرمنا فضله، لا يُحِب ولا يُحَب قالوا: لماذا قلتم كذا ؟ قالوا: لأنه لا مناسبة بين الخالق والمخلوق، وإنما يحب الإنسان ما يناسبه، فالمحبة تكون بين المتناسبين ولا مناسبة بين الخالق والمخلوق، ضلوا ضلالاً مبيناً حيث أنكروا ما أثبته الله في كتابه، فإن الله أثبت أنه يُحِب من عباده وأنه يُحَب منهم، قال سبحانه وتعالى: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾([301]). وفي غير ما آية قال الله I:يحب: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ ([302])، ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ ([303])، ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾([304]). والآيات في إثبات المحبة كثيرة، في محبة الله لعباده.
وأما محبتهم، محبة العباد لله فهي ثابتة أيضاً في قوله: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾، وفي قوله: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾([305]). وهٰذا فيه إثبات المحبة من الله لعباده ومن العباد للرب جل وعلا.
فيقال لهؤلاء الضالين: أي مناسبة أعظم من مناسبة الذي خلقك ورزقك ومن كل خير أمدك؟ فما بك من نعمة فمنه I، إن مناسبة الخلق أعظم مناسبة؛ لأنه من أعظم النعم التي ينعم بها على الإنسان أن الله خلقه وأوجده من العدم ورزقه وأمده بالخيرات وعافاه وأصلح شأنه وتولى أمره، فهو الرب جل وعلا الذي بلغ بالإنسان غاية الكمال، فتدرج به في مدارج الفضل والإحسان إلى أن بلغه درجة الكمال في الخلق ودرجة الكمال في الاهتداء، حيث دله وهداه الصراط المستقيم، كما قال I: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)﴾([306]). فمن ضل فإنما يضل على نفسه، لكن الله جل وعلا دل الناس على سبيل النجاة، فأعظم مناسبة هي ما بين الخالق والمخلوق، لكن ﴿فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)﴾([307]) نعوذ بالله من الخذلان.
وضل في هٰذه الصفة -صفة المحبة- ضل فيها أيضاً مثبتة الصفات حيث قالوا: إن الله لا يحب المحبة التي يثبتها أهل السنة والجماعة، إنما محبة الله إرادته الثواب؛ لأنهم لا يثبتون الصفات الاختيارية، الصفات الفعلية لله جل وعلا، والمحبة صفة فعلية؛ لأنها معلقة بالمشيئة، فمن شاء الله أحبه ومن شاء لم يحبه. والصحيح ما عليه أهل السنة والجماعة من إثبات هٰذه الصفة العظيمة للرب I.
قال رحمه الله: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا). هٰذا فيه إثبات صفة الكلام لله ﷻ، وقد أثبت الله جل وعلا هٰذه الصفة إثباتاً واضحاً بيّناً حيث أكد ذلك بالمصدر: (تَكْلِيمًا) فهٰذا فيه تأكيد هٰذه الصفة، وقد ثبتت هٰذه الصفة بالكتاب والسنة والإجماع والعقل، ولذلك يثبت الكلام مثبتة الصفات الذين يخالفون أهل السنة والجماعة في إثبات الصفات، لكن إثباتهم للكلام فيه انحراف.
على كل حال هم في الجملة أثبتوا صفة الكلام، لكنه كلام غير الذي يثبته أهل السنة والجماعة للرب، فإنهم أثبتوا كلاماً نفسانيّاً، لا الكلام الذي يثبته أهل السنة والجماعة ويعقله أهل اللغة.
وقد تقدم شيء من الكلام على هٰذه الصفة.
المقصود أن الله I أخبر في كتابه أنه كلم موسىٰ، وهٰذا التكليم هو غاية ما خص الله I به بني البشر، فإن الله I ذكر مراتب الإيحاء فقال: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ﴾ هٰذا الذي جرى لموسى ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء﴾([308]). وهٰذه ثالثة المراتب التي يكون بها الوحي ويكون عليها الوحي، موسى u الذي جرى له هو أن الله I كلمه؛ ولذلك لم يذكر موسى بوجه التفضيل إلا وذكر الله امتنانه عليه بالكلام، فالذي خصّ الله به موسى وصف لم يدركه أكثر الخلق، بل ما حصل له من هٰذه الصفة لم يدركه أحد، فهو من خصائصه، قال الله تعالىٰ: ﴿وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)﴾([309]). فتأكيد التكليم بالمصدر فيه تأكيد الكلام، وفيه أنه تكليم عظيم اختص الله به موسى دون غيره من الرسل.
نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلمه الله في ليلة المعراج من غير رسول -أي من غير واسطة-، لكن مع هـٰذا الذي اختص به موسى فوق ذلك.
ومعلوم أن إثبات الفضل في شيء معين لا يلزم منه التفضيل من كل وجه، فثبوت هٰذه الفضيلة لموسى u لا يلزم منها أن يكون أفضل من النبي ﷺ، بل النبي ﷺ سيد ولد آدم، وهو أفضل الرسل صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو أفضل أولي العزم. فالذي اختص به موسى أمران:
الأمر الأول: أن الله ابتدأ الوحي إليه بالتكليم مباشرة، كما قال I: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)﴾([310]) فذكر المناداة، وقد جرت لغيره: ﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ﴾([311]) فقد جرت المناداة لغيره، لكن قال: ﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ وهٰذا لم يحصل لأحد، وهٰذا مما اختص الله به موسىٰ.
فالذي خص الله به موسى أنه ابتدأ الوحي إليه بالتكليم المباشر، بخلاف غيره من الرسل، فإن ابتداء الرسالة إليهم كان بالواسطة، بالرسول جبريل u.
الثاني مما اختص الله به موسىٰ u في التكليم: أنه أعطاه من التكليم ما لم يعط غيره، واذكر قوله تعالىٰ: ﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾. فإن هٰذا لم يذكر لغيره، فما خص الله به موسى من التكليم في صفة التكليم أمر لم يدركه أحد من النبيين، ولذلك قال الله جل وعلا: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)-ثم قال:- وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)﴾([312]). فبعد أن ذكر الله جل وعلا الإيحاء الذي اشترك فيه النبيون والمرسلون ذكر ما اختص به موسىٰ u، فقال بعد ذكر الإيحاء العام: ﴿وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾. فعلم من هٰذا أن ما خص الله به موسى مختلف عما أدركه أولئك حتى نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأنتم أدركتم أن ثبوت الفضيلة الخاصة لا يلزم منه التفضيل من كل وجه، فإن الله ﷻ يصطفي من خلقه ما يشاء: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ﴾([313]).
ثم قال:
(وَنُؤْمِنُ بِالْمَلائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ، وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَنَشْهَدُ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ. وَنُسَمِّي أَهْلَ قِبْلَتِنَا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ، مَا دَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مُعْتَرِفِينَ، وَلَهُ بِكُلِّ مَا قَالَ وَأَخْبَرَ مُصَدِّقِينَ).
يقول رحمه الله: (وَنُؤْمِنُ بِالْمَلائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ). الإيمان بالملائكة من أصول الإيمان، كما دل على ذلك الكتاب والسنة: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾([314]). فذكر الله جل وعلا بعد الإيمَان به وباليوم الآخر الإيمَان بالملائكة، فالإيمان بالملائكة من أصول الإيمان.
وقال النبي ﷺ لما سأله جبريل عن الإيمَان، قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته)). فالإيمان بالملائكة من أصول الإيمان. والذي يتضمنه الإيمان بالملائكة أن نؤمن بأنهم خلق من خلق الله، خلقهم جل وعلا من نور، وأن الله I اصطفاهم فأسكنهم السمٰوات كما قال جل وعلا: ﴿وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَٰوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا﴾([315]). فهم أهل السمٰوات، واصطفاهم الله جل وعلا بأن جعل منهم رسلاً بينه وبين الخلق من بني آدم، كما اصطفى جبريل u، واصطفى منهم أيضاً من أوكل إليه شؤون الخلق :كالمطر، وكرصد أحوال الناس وما إلى ذلك، عددهم لا يعلمه إلا الله. نؤمن بمن ذكره الله منهم تعييناً كجبريل وميكال وإسرافيل.
ونؤمن بمن ذكره الله جل وعلا منهم على وجه العمل والوظيفة، كقوله I: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)﴾([316]). وكملك الموت ومن يعينه في قبض الأرواح.
ونؤمن بمن ذكر على وجه الإجمال من أنه ما من موضع في السماء أربعة أصابع إلا وفيه ملك لله ساجد أو قائم.
ونؤمن بأنهم مخلوقون للعبادة، فالله جل وعلا خلقهم للعبادة: ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ (20)﴾.([317])
هٰذا كله من جملة الإيمان بالملائكة.
ثم قال رحمه الله: (وَالنَّبِيِّينَ). أي نؤمن بالنبيين: من أخبرنا بهم على وجه التعيين، ومن أخبرنا بهم على وجه الإجمال، فالنبيون منهم من عُين ومنهم من لم يعين، فنؤمن بأن الله اصطفى من البشر أنبياء، واصطفى منهم رسلاً، وهؤلاء خصهم الله ﷻ بالوحي وبالفضائل.
نؤمن بمن عين منهم، ونؤمن بمن لم يعين منهم.
كذلك الكتب: نؤمن أن الله أنزل كتباً، وأنه ما أرسل رسولاً إلا وأنزل إليه كتاباً، وأن الكتب كلام الله جل وعلا، فكل كتاب أنزله الله على رسول فقد تكلم به، حتى التوراة، فلا يمنع أن الله كتبها لموسى بيده، لا يمنع هـٰذا من أنه تكلم بها، بل تكلم بها سبحانه وبحمده.
قال رحمه الله: (وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ). أي نؤمن بها جميعاً، وجعل الكتب منزلة على المرسلين؛ لأن الأصل في إنزال الكتب للرسل، وأما الأنبياء فإنهم يكونون تابعين لكتب الرسل من قبلهم، ولا يخصون بكتب خاصة.
قال: (وَنَشْهَدُ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ). على الحق الواضح البين الذي لا خفاء فيه ولا التباس، ولاشك في هٰذا.
ثم قال رحمه الله-بعد ذكر هٰذه الأصول من أصول الإيمان، وهي الإيمَان بالملائكة والنبيين والكتب، قال-: (وَنُسَمِّي أَهْلَ قِبْلَتِنَا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ). (نُسَمِّي أَهْلَ قِبْلَتِنَا) أهل القبلة هم أهل الإسلام، وهٰذا اللفظ مستعمل في كلام العلماء في وصف كل مسلم؛ لقول النبي ﷺ: ((من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذاك المسلم)). ([318]) حيث جعل النبي ﷺ من قام بهٰذه الخصال مسلماً، فأثبت له وصف الإسلام بهٰذه الأمور الثلاثة، وإنما خصت القبلة بإضافة أهل الإسلام إليها؛ لأنهم يجتمعون عليها.
فأهل الإسلام حيثما كانوا يتوجهون في صلاتهم إلى القبلة، فلما كانت هي عنوان اجتماعهم نسبوا إليها، فحيثما وجدت في كلام العلماء (أهل القبلة) فهم أهل الإسلام.
وفي بعض المؤلفات يطلقون على أهل الإسلام (أهل الصلاة)؛ لأنه لا خلاف بينهم في وجوبها، فهي ثاني الأركان بعد التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
يقول رحمه الله: (وَنُسَمِّي أَهْلَ قِبْلَتِنَا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ). تسميتهم بالمسلمين لا شك في ذلك؛ لأن النبي ﷺ قال: ((فذاك المسلم)). فمن استقبل القبلة فهو مسلم، ومن هٰذا أخذ بعض أهل العلم أن الإسلام يثبت بفعل كل ما هو من خصائص أهل الإسلام، ولا يلزم أن ينطق بالشهادتين، لكنه يطالب به، لكن حكم الإسلام يجري عليه بأن يفعل ما يختص أهل الإسلام، وما يختص به المسلمون عن غيرهم.
فمن استقبل القبلة حُكم له بأنه مسلم، ثم نُظر هل يأتي بما بقي؟ فإن أتى بما بقي جرى عليه حكم الإسلام، وإن امتنع عما بقي مما يجب عليه كان مرتدّاً، ولذلك ذكر الفقهاء أن من صلى مع المسلمين فهو مسلم حكماً، أي يجري عليه حكم الإسلام.
طيب. قال رحمه الله: (مَا دَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مُعْتَرِفِينَ).معترفين أي مقرّين وقابلين، قال: (وَلَهُ بِكُلِّ مَا قَالَ وَأَخْبَرَ مُصَدِّقِينَ). ولا شك أن من كان منه ذلك فإنه مسلم؛ لأن الإسلام يثبت بالشهادتين، فمن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. فهو المسلم؛ لأن هاتين الشهادتين تتضمنان الاعتراف بما جاء به النبي ﷺ إجمالاً، والقبول له ، والتصديق لما جاء به من أن الله واحد، وأنه إله حق، وأن ما سواه من الآلهة باطل، وأنه رسول الله عنه يبلغ.
ففي قول المؤلف رحمه الله: (وَنُسَمِّي أَهْلَ قِبْلَتِنَا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ، مَا دَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مُعْتَرِفِينَ، وَلَهُ بِكُلِّ مَا قَالَ وَأَخْبَرَ مُصَدِّقِينَ). في قوله: (مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ) هٰذا فيمن حقق ما ذكر المؤلف رحمه الله، ولكن اعلم أن الإسلام والإيمان من الألفاظ والأسماء التي تختلف دلالتها باختلاف الاجتماع والافتراق:
فإذا اجتمع الإسلام مع الإيمان كان الإسلام مما يتعلق بالعمل الظاهر، والإيمان مما يتعلق بالعمل الباطن.
وأما إذا افترقا فإن معنى كل واحد منهما يشمل الآخر، ويدخل فيه الآخر.
وسيأتي تقرير هٰذا في بحث الإمام في كلام المؤلف رحمه الله.
فقوله رحمه الله: (مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ). لعله أراد من كَمّل الظاهر والباطن، أما من اقتصر فقط على الاعتراف بما جاء به النبي ﷺ، وصدق ما جاء به النبي ﷺ مجرد تصديق، فإن هٰذا لا يوصف بالإيمان، يعني من قال: أشهد لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأتى بأركان الإسلام لا يوصف بالإيمان حتى يباشر الإيمان قلبه، كما قال الله جل وعلا في الأعراب: ﴿قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾([319]). ﴿لَمَّا﴾ التي تفيد نفي الشيء مع قرب حصوله ووجوده، فدل هٰذا على الفرق بين مسمى الإيمان ومسمى الإسلام في حال الاجتماع.
فهٰذا لعله من جملة ما يلاحظ على كلام المؤلف رحمه الله.
ثم قال: (وَلا نَخُوضُ فِي اللَّهِ، وَلا نُمَارِي فِي دِينِ اللَّهِ).نقف على هٰذا ونكمل إن شاء الله تعالى في الدرس القادم. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد
الدرس الثاني عشر
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الطحاوي -رحمه الله تعالى-:
(وَلا نَخُوضُ فِي اللَّهِ، وَلا نُمَارِي فِي دِينِ اللَّهِ،وَلا نُجَادِلُ فِي الْقُرْآنِ، وَنَشْهَدُ أَنَّهُ كَلامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ، فَعَلَّمَهُ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وعلى آله أجمعين، وَهُوَ كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى لا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَلامِ الْمَخْلُوقِينَ، وَلا نَقُولُ بِخَلْقِهِ، وَلا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ.).
يقول رحمه الله: (وَلا نَخُوضُ فِي اللَّهِ). الخوض في أصل استعماله هو الوُلوج في الماء، ثم استعمل هٰذا اللفظ في كل دخول في شيء على وجه باطل، استعمل هٰذا اللفظ في الدخول في الشيء على وجه باطل، فمراد المؤلف رحمه الله في قوله: (وَلا نَخُوضُ فِي اللَّهِ) أي لا نتكلم فيما يتعلق بالله جل وعلا بالباطل وبغير الحق، وذلك:
إما أن يكون بسلوك طريق المتكلمين الذين سلكوا غير الصراط المستقيم فيما يتعلّق بالله جل وعلا وأسمائه وصفاته وأفعاله.
وإما أن يكون بالإعراض عما جاء في الكتاب والسنة من وصفه، فنقبل بعضاً ونرد بعضاً، فهٰذا أيضاً من الخوض.
ومن الخوض في الله جل وعلا والكلام الباطل فيه I تكييف صفاته وتمثيلها، والبحث عن حقائقها وكيفياتها، فإنّ هٰذا من الخوض بالباطل؛ لأنّ هٰذا مما لا يجوز طلبه ولا النظر إليه ولا بحثه؛ لأن الله جل وعلا نهانا عن طلب ذلك والنظر فيه في قوله تعالىٰ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)﴾([320]). وهٰذا خبر يتضمن معنى النهي عن طلب المثل، بل قال: ﴿فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ﴾([321])، قال: ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22)﴾([322]). وما أشبه ذلك مما يفيد النهي عن تمثيل الله عز وجل أو طلب الكيفيات لأفعاله وصفاته سبحانه وتعالى، كل هٰذا يدخل في قول المؤلف رحمه الله: (وَلا نَخُوضُ فِي اللَّهِ). ومن ذلك التفكّر في ذات الله، كيف هو؟ وما أشبه ذلك مما يوقع الإنسان في الشك والرّيب، ولا يصل معه إلى علم ولا يقين.
ولذلك جاء في الأثر: تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذات الله. وقد أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المؤمن بكفّ سلسلة الوساوس المتعلقة بالله جل وعلا، فأخبر أن الشّيطان يأتي لابن آدم فيقول: من خلق هٰذا؟ فيقول: الله. من خلق هٰذا؟ فيقول: الله. من خلق هـٰذا؟ فيقول: الله. حتى لا يزال به الشيطان حتى يقول: من خلق الله؟ وعند ذلك قال النبي ﷺ: ((فليستعذ بالله ولينته)). ([323]) فأمره بالاستعاذة؛ لأن هٰذا من الشيطان. والانتهاء أي قطع النظر والخوض في هٰذا الأمر، فإنه مما يوقع الإنسان في المهالك ويورده المعاطب.
فالواجب على المؤمن أن لا يخوض في هٰذه الأمور، وأن يقتصر على ما جاء في الكتاب والسنة فإن فيه الكفاية في معرفة الله جل وعلا والعلم به I، ومن رام زيادة على ما جاءت به النصوص في الكتاب والسنة فقد تكلف علم ما لم يكلف به، وزاد وغلا، وقد قال النبي ﷺ: ((هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون)).([324]) ويدخل في هٰذا الخبر والدعاء الذين يتعمقون في أسماء الله وصفاته.
ثم قال رحمه الله: (وَلا نُمَارِي فِي دِينِ اللَّهِ). (لا نُمَارِي) أي لا نجادل، والمقصود بالمجادلة هنا المجادلة بالباطل، أما المجادلة التي يُحَقُّ بها الحق ويُظهَر بها ما جاء به النبي ﷺ وما كان عليه السلف الصالح فإنها مطلوبة؛ لأن بها يُخصَم الخصم ويُكبَت المعاند.
فالرد على المخالفين في الأسماء والصفات، المخالفين لطريق أهل السنة والجماعة بالحجج، ومجادلتهم ومناقشتهم جرى عليه العلماء قديماً وحديثاً، وليس هٰذا من المراء في دين الله، المراء في دين الله أن يجعل الإنسان دينه عرضة للمجادلات والمناقشات، فإنه من أكثر المجادلة والمناقشة أكثر التنقل وضل.
ولذلك لما قال أحدهم للإمام مالك: تعال أناقشك أو أماريك. قال: أما أنا فقد عرفت ديني، وأما أنت فقد أضللته فابحث عنه. أو كلمة نحوها.
وهٰذا يدل على أن السلف -رحمهم الله- كانوا يوصدون الباب أمام كل هؤلاء المجادلين الذين يجادلون بالباطل، ويخوضون في دين الله بالظنون والأوهام والنيات الفاسدة.
ثم قال رحمه الله بعد ذلك: (وَلا نُجَادِلُ فِي الْقُرْآنِ، وَنَشْهَدُ أَنَّهُ كَلامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ). هٰذا من التكرار الذي اتصفت به هٰذه العقيدة، يقول رحمه الله: (وَلا نُجَادِلُ فِي الْقُرْآنِ). أي لا نخاصم في القرآن؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن المخاصمة في القرآن، ويشمل هٰذا المخاصمة في تأويله وتفسيره، والمخاصمة في ضرب بعض آياته ببعض، ويشمل هٰذا أيضاً المخاصمة في القراءات، ويشمل هٰذا أيضاً المخاصمة فيه بالباطل، بأن يقرّ به الإنسان باطلاً ويبطل به حقّاً، فإنّ هٰذا من المجادلة بالقرآن التي نُهي عنها،كأن يستدل بالقرآن على المعاني الباطلة التي يريد أن يقررها ويحتج لها بالقرآن.
وما من شخص يحتج بالقرآن على بدعة أو ضلالة قديمة أو حديثة إلا وفي القرآن ما يبطلها، فيما استدل به ما يبطله ويرد باطله.
إذاً قوله: (وَلا نُجَادِلُ فِي الْقُرْآنِ) يشمل كل هـٰذا، فالذين يختلفون في القراءات يدخلون في هـٰذا، الذين اختلفوا في المعاني وتخاصموا يدخلون في هـٰذا، الذين يضربون بعض القرآن ببعض يدخلون في هـٰذا، وأيضاً الذين يبحثون ويخالفون ما دل عليه القرآن من أن القرآن كلام الله جل وعلا يدخلون في هٰذا من باب أولى، كشأن كل المخالفين لأهل السنة والجماعة في مسألة القرآن وأنه كلام الله جل وعلا، ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (وَنَشْهَدُ أَنَّهُ كَلامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ). أي لا نجادل مجادلة أهل الباطل بنفي أن يكون القرآن كلام الله جل وعلا، بل نثبت بأن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى منه بدأ وإليه يعود، كما قال أهل السنة والجماعة، نشهد أنه كلام رب العالمين، والقرآن كلام رب العالمين لا إشكال في هـٰذا.
قال الله جل وعلا في وصف كلامه بالقرآن: ﴿فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ﴾([325]). فوصف القرآن بأنه كلامه سبحانه وتعالى، ومعلوم أن الكلام صفة لا تقوم إلا بموصوف، فلا يمكن أن يكون الكلام مخلوقاً كما زعمته الجهمية.
والإقرار بأن القرآن كلام رب العالمين من حيث اللفظ يوافق فيه المعتزلة ويوافق فيه الأشاعرة ومثبتة الصفات، لكنهم يختلفون في تفسير هٰذه الإضافة.
فالمعتزلة يقولون: الإضافة إضافة خلق، فمعنى كلام الله أي كلامه المخلوق كقول صالح: ناقة الله، فأضاف الناقة إلى الله، والإضافة هنا إضافة خلق وهي للتشريف.
ومعلوم أن القرآن ليس كالناقة؛ لأن الناقة مخلوق مستقل، أما الكلام فلابد أن يقوم بشيء، ليس عيناً قائمة بذاتها، فقولهم باطل، فهم يقولون: القرآن كلام الله ولا تتوهم أنهم يوافقون أهل السنة والجماعة، بل هم يقولون: كلام الله مخلوق.
وأما الأشاعرة والماتريدية والكلابية فإنهم يقولون: القرآن كلام الله، لكنهم يقولون: كلام نفساني، يعني معنى، بغير حرف ولا صوت.
وأهل السنة والجماعة يقولون: هو كلامه جل وعلا بحرف وصوت، تكلم به على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى بلا كيف، ومعنى بلا كيف أي لا نكيف، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل.
ثم قال رحمه الله: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ). هٰذا بيان أن وصف الكلام القرآن كلام الله، وأن الروح الأمين جبريل u تلقاه كلاماً من رب العالمين، ولم ينقله من اللوح المحفوظ كما زعمه من زعمه من المبطلين، فإنّ جبريل u تلقى القرآن من الله جل وعلا، ولا يعارض هٰذا أن القرآن في اللوح المحفوظ، فإن أهل السنة والجماعة مجمعون على أن القرآن في اللوح المحفوظ، كما قال I: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22)﴾([326]). فالقرآن في اللوح المحفوظ الذي كتب الله به كل شيء، لكن تكلم به وقت نزوله سبحانه وتعالى.
قال رحمه الله: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ). وهٰذا مما يثبت أنه من الله جل وعلا، و(الرُّوحُ الأَمِينُ) هو جبريل كما قال I: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ﴾([327])، وكما قال I: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194)﴾([328]). فلا ريب أن القرآن نزل به جبريل u ،وقد تلقاه من رب العالمين كلاماً سمعه فنقله.
يقول: (فَعَلَّمَهُ) الضمير يعود إلى من؟ يعود إلى جبريل. (فَعَلَّمَهُ) علم جبريل سيد المرسلين، علم من؟علم النبي ﷺ،جبريل علم النبيe، وهو يشير بهٰذا إلى قوله تعالىٰ: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6)﴾([329]). وهٰذا الوصف لا إشكال أنه لجبريل فإنه ﴿شَدِيدُ الْقُوَى﴾ أي شديد القوة ﴿ذُو مِرَّةٍ﴾ أي ذو هيئة حسنة، وقيل: إن الضمير في الآية يعود إلى الله، لكن الصحيح أن الضمير يعود إلى جبريل u.
يقول: (فَعَلَّمَهُ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم). فالقرآن متلقى من جبريل عن الله ﷻ.
يقول رحمه الله: (وَهُوَ) أي القرآن الكريم (كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى) إعادة لما تقدم، لكنها إعادة ليبني عليها، قال: (وَهُوَ كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى لا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَلامِ الْمَخْلُوقِينَ). وهٰذا فيه الرد على من قال: إن القرآن كلام جبريل، من كلام جبريل، وفيه الرد على من قال: إن القرآن من كلام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم،فإن الله سبحانه وتعالى أضاف القرآن إلى الرسول الملكي وإلى الرسول البشري، إلى جبريل وإلى النبي ﷺ.
أضافه إلى جبريل في قوله: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)﴾([330]). هٰذا الرسول من هو؟ جبريل u.
وأضافه إلى النبي ﷺ في قوله أيضاً في سورة الحاقة: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ﴾([331]). ومعلوم أن الذي اتهم بأنه شاعر من؟ جبريل أو النبي؟ النبي ﷺ، فالإضافة إلى النبي ﷺ في هٰذا الموضع والإضافة إلى جبريل في الموضع السابق إضافة تبليغ وليست إضافة إنشاء، وهٰذا الذي جعل المؤلف رحمه الله يقول: (لا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَلامِ الْمَخْلُوقِينَ). وقوله: (الْمَخْلُوقِينَ) يشمل الإنس والجن والملائكة، وكل مخلوق يتصور منه الكلام فإنه لا يأتي بمثله، فلو اجتمع الإنس والجن ومن في السماء والأرض على أن يأتوا بمثل القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، بل هو قول رب العالمين الذي لا مثل له ولا ند I.
ثم قال: (وَلا نَقُولُ بِخَلْقِهِ) رد بهٰذا على الجهمية الذين قالوا: إن القرآن كلام الله مخلوق. وهم الذين جرت منهم الفتنة لعلماء المسلمين ولأمة الإسلام في وقت الإمام أحمد رحمه الله، فالإمام أحمد ابتلي بالجهمية الذين كانوا يفتنون الناس في مسألة خلق القرآن. قال رحمه الله: (وَلا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ). يعني في جميع ما تقدم مما يتعلق بهٰذا وبغيره، لكن هنا المراد به (وَلا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ) في مسألة القول بأن القرآن كلام الله، ومن هٰذا نعلم أن جماعة المسلمين قديماً وحديثاً على أن القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود I، من قال بغير هٰذا فإنه خالف جماعة المسلمين.
ثم قال رحمه الله: (وَلا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ. وَلا نَقُولُ: لا يَضُرُّ مَعَ الإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ).
نعم، هٰذا المقطع انتقال من مسألة القرآن إلى بعض مسائل الإيمان، يقول رحمه الله: (وَلا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ) أهل القبلة من هم؟ أهل الصلاة، المسلمون، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذاك المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا)) كما في صحيح مسلم.([332]) ولهٰذا يسمى أهل الإسلام أهل الصلاة، ومنه ما يسميه كما سمى بعض أهل العلم مؤلفاتهم به مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، المقصود بالمصلين أهل القبلة، فأهل القبلة هم أهل الصلاة، وهٰذا شعار على أهل الإسلام، يشمل أهل الإسلام جميعهم مبتدعهم وسنيهم ،كلهم يشتركون في هـٰذا، إلا من خرج عن فرق أهل السنة والجماعة عن الثلاث والسبعين فرقة فإنه ليس منهم.
يقول: (وَلا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ) يعني من المسلمين (بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ). وهٰذه العبارة في الحقيقة فيها عدم اتساق؛ لأن فيها من الإطلاق ما لم يطو عليه أهل السنة والجماعة عقدهم، يقول رحمه الله: (وَلا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ). الذنب هنا يشمل كل ذنب،أسألكم: الشرك ذنب أو ليس ذنباً؟ الكفر ذنب أو ليس ذنباً؟ طيب، هل الشرك والكفر يشترط في تكفير صاحبه الاستحلال، أم أن المشرك إذا سجد للصنم مثلاً، أو الكافر الذي كفر بسب الله أو سب رسوله، هل يلزم أن يستحل ذلك، أو يكفر استحل أو لم يستحل؟ يكفر سواء استحل أو لم يستحل. فهٰذه العبارة فيها من الإطلاق ما يوهم، لكن مراد المؤلف بهٰذه العبارة الرد على الخوارج والوعيدية من المعتزلة الذين يكفرون أهل الإيمان بمطلق الكبائر وبمطلق المعاصي، ولاشك أن قولهم خطأ وضلال مبين، فإن بدعة الخوارج هي أول بدعة ظهرت في الإسلام، ولم يأت في السّنة من التحذير والتنفير والتشديد في البدع كما جاء في بدعة الخوارج، فإنها من البدع التي توافرت النصوص على ذمها وذم أهلها، وبيان سوء حالهم ومنقلبهم، فكانت أول بدعة ظهرت في المسلمين بدعة الخوارج، وهي بدعة التكفير، وهٰذه البدعة دائرة على أي شيء يا إخوان؟ دائرة على أنهم يكفرون الناس بمطلق الذنوب، بل بما يرونه ذنباً ولو لم يكن ذنباً، وهٰذه مسألة أشد، يعني لا يكفرون بالذنوب التي أجمعت الأمة عليها فقط، بل حتى بالذنوب التي هي محل خلاف، أو قد تكون في نظر شخص أنها ذنب وفي نظر آخر أنها ليست بذنب، فهم يكفرون بمطلق الذنوب، بل بما يرونه ذنوباً ولو لم تكن كذلك، بما يرونه ذنباً ولو لم يكن كذلك.
فقول المؤلف رحمه الله: (وَلا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ). رد على هٰذه الفرقة الضالة.
ومثلهم المعتزلة وهم الذين قالوا بأن مرتكب الكبيرة يخرج عن الإيمَان، لكنه لا يوصف بالكفر، فينزلونه منزلة بين المنزلتين. وهٰذا القول إنما هو في الدنيا، أما في الآخرة فهم يوافقون الخوارج في أن مرتكب الكبيرة في النار. المؤلف رحمه الله الآن يبحث في الأسماء أو في الأحكام؟ في الأسماء؛ لأنه الآن يقول: (وَلا نُكَفِّرُ). يعني لا نثبت اسم الكفر، الأسماء يعني كافر مسلم عاصي فاسق، هٰذه الأسماء وأما الأحكام يعني في الجنة أو في النار، الآن البحث في الأسماء أو في الأحكام؟ البحث في الأسماء، يقول: (وَلا نُكَفِّرُ أحداً) أي لا نثبت وصف الكفر واسم الكفر لأحد من أهل القبلة بذنب، أي بسبب ذنب، فالباء هنا للسببية (مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ). لكن هٰذه العبارة كما ذكرنا أن في إطلاقها نظراً فلابد أن تقيد، وأحسن منها ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في الواسطية حيث قال في بيان عقد أهل السنة والجماعة: "وَأَنَّ الإيمَانَ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ- يعني أهل السنة والجماعة -لا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ". وهٰذا يدل على عقد أهل السنة بالمطابقة، أما ما ذكره هنا ففيه من الإطلاق والإجمال ما يُدخِل في المعنى نقصاً.
وقد علق على هٰذا شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله بتعليق جيد: يقول: قوله: (ولا نُكَفِّرُ أَحَداً مِنْ أَهْلِ القِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ). مراده رحمه الله أن أهل السنة والجماعة لا يكفرون المسلم الموحد المؤمن بالله واليوم الآخر بذنب يرتكبه، كالزنى وشرب الخمر والربا وعقوق الوالدين وأمثال ذلك ما لم يستحل ذلك، فإن استحله كفر؛ لكونه بذلك مكذباً لله ولرسوله، خارجاً عن دينه، أما إذا لم يستحل ذلك فإنه لا يكفر عند أهل السنة والجماعة، بل يكون ضعيف الإيمان، وله حكم ما تعاطاه من المعاصي في التفسيق وإقامة الحدود وغير ذلك حسب ما جاء في الشرع المطهر، وهٰذا هو قول أهل السنة والجماعة، خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن سلك مسلكهم الباطل، فإن الخوارج يكفرون بالذنوب، والمعتزلة يجعلونه في منزلة بين المنزلتين، يعني بين الإسلام والكفر في الدنيا، وأما في الآخرة فيتفقون مع الخوارج بأنه مخلد في النار. وقول الطائفتين باطل بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وقد التبس أمرهما على بعض الناس؛ لقلة علمه، ولكن أمرهما بحمد الله واضح عند أهل الحق كما بينا. وبالله التوفيق.
نعم،هٰذا التعليق جيد يقيد ما في هٰذه العبارة من إطلاق، حيث إن الشيخ رحمه الله فسر معنى الذنب في قوله: (وَلا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ). فقال: بذنب يرتكبه كالزنى وشرب الخمر والربا وعقوق الوالدين، يعني من الذنوب المتفق عليها، من الذنوب التي هي أمثال هٰذه التي يقع تكفير الخوارج لأصحابها. أما الذنوب التي هي كفر أصلاً: كالشرك بالله، السجود للأصنام، سب الله، سب الرسول ﷺ، الاستهانة بالمصحف، الاستهزاء بآيات الله وبدين الله، فهٰذه كفر فعلها الإنسان مستحلاً أو غير مستحل، يكفر بفعلها لا فرق بين مستحل وغير مستحل.
أيضاً مما تقيد به هٰذه العبارة أن إطلاق العلماء لقولهم: (وَلا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ). المراد ما عدا الصلاة والزكاة والحج والصيام، فإنه قد وقع الخلاف بين العلماء في كفر تارك هٰذه الأركان.
أقوى ما في ذلك من الخلاف، الخلاف في ترك الصلاة، فإن من العلماء من يرى أن ترك الصلاة كفر ولو لم يجحد الإنسان وجوبها، مع أنه من جملة الذنوب لكنه كفر، فقوله رحمه الله: (بِذَنْبٍ) يشمل الذنوب التي هي مخالفات وارتكاب للمنهيات، ويشمل أيضاً الذنوب التي هي ترك للواجبات، لكن يستثنى من ترك الواجبات أركان الإسلام، فإنه قد وقع خلاف بين أهل العلم في ذلك، ولذلك شيخ الإسلام رحمه الله قيد العبارة هٰذه في بعض مؤلفاته وهي قوله: "وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَارَجُ". قيدها بما عدا الأصول، فإنهم مختلفون في كفر تارك الصلاة، مختلفون في كفر تارك الزكاة، مختلفون في كفر تارك الحج، مختلفون في كفر تارك الصيام.
فهٰذه العبارة فيها مأخذ.
أما قوله رحمه الله: (مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ) فهـٰذا قيد مهم في الذنوب كالزنى والخمر وما أشبه ذلك، فإن من استحل هٰذه الذنوب فهو كافر ولو لم يفعلها، يعني من استحل الزنى قال: الزنى حلال. فإنه كافر ولو لم يزن ولو كان أعف الناس، من قال: الخمر ليست بحرام فإنه كافر ولو لم يشربها، والمراد بقول المؤلف رحمه الله: (مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ). المراد ما لم يكن هناك تأويل، يعني: فإذا استحله بالتأويل هل يكفر أو لا يكفر؟ الجواب: لا يكفر، إذا استحل ذنباً من الذنوب بالتأويل كمن يستحل الربا يقول: الربا ليس بحرام، استحله بتأويل أن هٰذه الأوراق النقدية الآن لا يجري فيها الربا على مذهب المتقدمين من الفقهاء في جميع المذاهب: في مذهب الإمام أبي حنيفة، في مذهب مالك، في مذهب الشافعي، في مذهب أحمد، قال: هٰذه ليس فيها ربا. وعلى هٰذا فكل ما يجري من الربا ليس محرماً. هٰذا استحلال لصورة من صور الربا، لكن هل يكفر به صاحبه؟ الجواب: لا يكفر به صاحبه، لماذا؟ لأن هٰذا متأول، والمسألة فيها خلاف قديم، يعني من أول نشأة هٰذه الأوراق النقدية وقع فيها الخلاف بين العلماء: هل يجري فيها الربا؟ هل تأخذ حكم النقدين أو لا تأخذ حكم النقدين؟ ففي مثل هٰذه الأمور ينبغي للمؤمن أن يتروى وأن لا يستعجل، فالاستحلال إذا كان مقترناً بتأويل فإنه لا يكفر صاحبه.
طيب ما الواجب؟ الواجب أن يبين له الحق، ولا تعجب فإنه قد جاء أن قدامة بن مظعون وهو رَضِيَ اللهُ عَنْهُ من أهل بدر استحل الخمر في زمن عمر بالتأويل، حيث ظن أن قوله تعالىٰ: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَّآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَّآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا وَّأَحْسَنُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)﴾([333]). ظن أن هٰذه الآية تفيد إباحة الخمر، فشرب الخمر y هو وأصحابه أو جماعة معه، ظنّاً منهم أن هٰذا مباح، وأنه ليس عليهم حرج، فكتب إليه عمر وجمع الصحابة وشاورهم، فرأوا أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا.
الآن هؤلاء استحلوا محرماً لكنهم استحلوه بالتأويل، ومع ذلك لم يكفرهم عمر، بل y استتابهم وبين لهم تحريم الخمر، ثم جلدهم على شربه، فعظم الأمر على قدامة t واشتد عليه ما وقع منه من استحلال ما حرم الله ورسوله، حتى بلغ به الأمر أن يئس من رحمة الله، فكتب إليه عمر بن الخطاب y بأول سورة غافر: ﴿غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)﴾([334]). إلى آخر الآيات، قال: فلا أدري أي سوءتيك أعظم: استحلالك للخمر أو يأسك من رحمة الله؟ فبين له أن ما جرى منه خطأ والله جل وعلا يقبل التوبة، فتب ولا تيأس من رحمة الله فـ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)﴾([335]). فالمهم أن استحلال المحرم، استحلال الذنب بتأويل لا يكفر به صاحبه، هٰذا شاهد قائم من عهد الصحابة y في خلافة عمر الفاروق، ولذلك ينبغي يا إخواني في مسألة التكفير، ينبغي للمؤمن أن يتروى وأن لا يستعجل، وأن ينظر إلى الأمر بتؤدة، وأن لا يتجاسر عليه صغار الطلبة والمبتدئون في طريق الطلب، يجب أن يتحرى. الآن لو سألت بعض الناس عن مسألة من مسائل الطهارة التي يدركها العوام في المسح على الخفين أو ما أشبه ذلك أو التيمم قال: ما أدري اسأل العلماء، وإذا سألته في كفر فلان أو فلان البحر الذي لا ساحل له في التكفير والقول على الله بغير علم.
فالمسألة تحتاج إلى تؤدة وتروٍّ، والعلماء يؤكدون هٰذا في عقائدهم ويكررونه وهو ولله الحمد واضح في طريق أهل السنة والجماعة.
يقول: (وَلا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ). عرفنا أن قيد (مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ) هٰذا فيما لا يحصل الكفر فيه إلا بالاستحلال، أما ما يحصل الكفر بالاستحلال وبدون الاستحلال فلسنا بحاجة إلى هٰذا القيد، كالسجود للأصنام، وكدعاء غير الله وما أشبه ذلك.
الكفر ليس بمحصور، صور الكفر كثيرة، فيه ضوابط لكنه صوره كثيرة، فهٰذه لا تحل الإشكال، لكن ما قاله العلماء الحمد لله واضح، وهم مع ذلك لا يكفرون بمطلق المعصية، مطلق المعصية يعني بأي معصية والكبائر كما يفعله الخوارج.
يقول: (وَلا نَقُولُ: لا يَضُرُّ مَعَ الإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ). هٰذه العبارة من المؤلف رحمه الله فيها الرد على المرجئة، وهم من قابل الخوارج، وانظر يا أخي البدع ينشأ عنها بدع ويتولد عنها شرور، ومن الشرور التي تتولد عن البدع أن البدعة تسبب بدعة أخرى وتدعو إلى بدعة أخرى، فبدعة الخوارج الذين غلوا في التكفير فكفروا الزاني، وكفروا شارب الخمر، وكفروا المرابي، وكفروا كل من وقع في كبيرة، بل كفروا فيما يرون أنه ذنب وليس بذنب، حتى كفروا أفاضل الصحابة y قابلتهم بدعة المرجئة الذين قالوا: لا يضر مع الإيمَان ذنب لمن عمله مهما كان الذنب. يعني لو جاء -نعوذ بالله- ورمى المصحف وداسه ووطأه وبال عليه وتغوط أعوذ بالله ما يكفر؛ لأن هٰذا ذنب ما يحصل به الكفر عند هٰؤلاء، ما دام مصدقاً بقلبه فلا يضر ما يفعل من الأفعال، لو سب الله يمسي ويصبح على سب الله والرسول، ما يكفر؛ لأنه لا يضر مع الإيمان ذنب، والإيمان ما هو عندهم؟ الإيمَان مجرد المعرفة، فمن عرف الله فهو مؤمن ولو لم يركع لله ركعة، ولو لم يقم بعمل صالح، بل ولو قام بما قام به من الكفر، فلو سجد للصنم وهو مؤمن على زعمهم لا يضره مع الإيمان ذنب. وهٰذا قول خطير، ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (وَلا نَقُولُ: لا يَضُرُّ مَعَ الإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ). بل الذنوب تضر، وضررها متفاوت: منها ما يضاد الإيمان ويرفعه، وهٰذا في الاعتقاد والعمل، في الاعتقاد كأن يعتقد أن غير الله وينفع ويضر، أو أن يجحد ما تيقنا أنه جاء به النبي ﷺ. وفي العمل كأن يسجد للصنم، أو يدعو غير الله، أو ما أشبه ذلك من المكفرات العملية، فهٰذا يضر الإيمان ويرفعه.
إذاً من الذنوب ما يضاد الإيمان في الاعتقاد والعمل، ومنها ما ينقص الإيمان ولا يضاده، وهٰذا يشمل كل الذنوب صغيرها وكبيرها، فإن الذنوب صغيرها وكبيرها -على تفاوتها واختلافها- تضر صاحبها، وتنقص مرتبته، ولكنها لا ترفع عنه وصف الإيمان: فالزاني مؤمن بإيمانه وفاسق بكبيرته، ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وَلاَ يَسْلُبُونَ الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ اسْمَ الإيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ". يعني: من كان فاسقاً من أهل الملة لا يسلب عنه مطلق الإيمان، يعني الإيمان بالكلية، ولا يثبتون له الإيمان المطلق، فلا نقول: هو مؤمن كامل الإيمَان كما تقول المرجئة، ولا نقول: إنه لا إيمان معه كما تقول الخوارج، بل هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.
نقف على هٰذا ونكمل إن شاء الله البحث في هٰذه المسألة غداً بإذن الله.
¹
الدرس الثالث عشر
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
(وَلا نَقُولُ: لا يَضُرُّ مَعَ الإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ. نَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ، وَلا نَأْمَنُ عَلَيْهِمْ، وَلا نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَنَسْتَغْفِرُ لِمُسِيئِهِمْ، وَنَخَافُ عَلَيْهِمْ، وَلا نُقَنِّطُهُمْ. وَالأَمْنُ وَالإِيَاسُ يَنْقُلانِ عَنْ مِلَّةِ الإِسْلامِ، وَسَبِيلُ الْحَقِّ بَيْنَهُمَا لأَهْلِ الْقِبْلَةِ).
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فيقول رحمه الله: (وَلا نَقُولُ: لا يَضُرُّ مَعَ الإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ). تقدم أن هٰذا الكلام ينفي فيه المؤلف رحمه الله عقْد المرجئة الغلاة الذين يقولون: لا يضرّ مع الإيمان ذنب مهما كان. ويعرفون الإيمان بأنه المعرفة، ولاشك أن هٰذا من أردى الأقوال في تعريف الإيمان، وفي هٰذا تجرئة لكل صاحب عصيان أن يقع فيما شاء من مخالفة الملك الديان؛ لأنه إذا كان لا يضر مع الإيمان ذنب فالإيمان لا يتأثر ولا ينقص ولا يتغير بما يرتكب الإنسان من الذنوب وما يواقع من السيئات، فإن هٰذا يحمل العاصي على الاستمرار في عصيانه، والتمادي في خروجه عن الصّراط المستقيم، وتقدم الكلام على هٰذا.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (نَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) المحسنون من أهل الإيمان هم الذين عبدوا الله كأنهم يرونه، فإن قصروا فهم يعبدون الله جل وعلا موقنين بأنه يراهم، كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تعريف الإحسان: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).([336]) والمراد أنهم عملوا بالطاعات وانتهوا عن المعاصي والسيئات الظاهرة والباطنة، هؤلاء نرجو لهم (أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) أي أن يعفو الله جل وعلا عنهم ما يكون من التقصير والخطأ، فإنه مهما بلغ الإنسان في الإحسان فلا بد وأن يكون عنده تقصير وإخلال، مهما كان، حتى الأنبياء، حتى الرسل يكون منهم شيء من التقصير.
ولذلك لا يأمن أحد على نفسه، ولا يجوز أن يأمن من مكر الله I، كما سيأتي في كلام المؤلف رحمه الله، بل يجب عليه أن يلاحظ ما معه من التقصير، وأن يراقب الله جل وعلا، وأن يخاف أن يؤاخذه I بذنبه وسيئاته.
يقول رحمه الله: (نَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ). يعني الله جل وعلا، أن يعفو عنهم ما كان من التقصير، والعفو يتضمن الستر والتجاوز والصفح، فيسترها عليهم، يستر عليهم ما كان من الذنوب، ويعفو ويتجاوز ويصفح عما كان من الذنوب.
قال: (وَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ). يدخلهم الجنة برحمته لا بعملهم، فإن النبي ﷺ قال: ((واعلموا أنه لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة)) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)).([337]) وهٰذا يوجب للإنسان عدم الاغترار بما يكون معه من الأعمال، مهما زكت ومهما صلحت ومهما كثرت ومهما اجتهد في إتقانها، فإنه إن لم تدركه رحمة الله جل وعلا فلا فلاح له ولا نجاح، ومن توفيق الله ورحمته أن يوفّق الله جل وعلا العبدَ إلى العمل الصالح، فلا نجزم لأحد بفوز، ولا نقول: إنه من أهل الجنة، كما قال رحمه الله: (وَلا نَأْمَنُ عَلَيْهِمْ). أي لا نأمن أن يغير الله حالهم، ولا نأمن أن يعاقبهم الله جل وعلا، فقد يغير الله حال المحسن إلى الإساءة، وقد يؤاخذ الله جل وعلا من ظاهره الإحسان بسيئ عمله، فيوبق عمله، ومعلوم أن من أعمال القلوب ما لا يظهر للناس يكون سبباً لحبوط العمل مهما زكا وحسن، فينبغي لأهل السنة أن لا يأمنوا على أحد، ومن ذلك أن لا يأمنوا على أنفسهم، فإنه من أمن على نفسه مكر الله جل وعلا فإنه داخل في قوله: ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)﴾([338]). وهٰذا نفي الأمن إلا من الخاسرين: ﴿ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)﴾. أتى في تقرير ذلك بالنفي والإثبات الدال على أن كل من أمن من مكر الله فهو خاسر، ومكر الله جل وعلا يدرك العبد بسيئ عمله فـ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا﴾([339]). فإذا تمادى الإنسان في معاصيه ولو كانت صغيرة، أو أنه اغترّ بعمله الصالح وأعجب به ورأى لنفسه فضلاً على الناس وارتفاعاً وعلوّاً ما يأمن أن يؤاخذه الله بما في قلبه، فيفضحه ويسيء خاتمته، وهٰذا معنى قول ابن مسعود رضي الله عنه: فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة -في بعض الروايات: فيما يرى الناس- حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار. فالواجب على المؤمن أن يحذر من الأمن من مكر الله، وأن لا يغتر بحاله الحاضرة، بل يكون على وجل مما يستقبل.
قال: (وَلا نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ). أي لا نقول: إن فلاناً منهم في الجنة بعينه، (وَلا نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ) يعني: على وجه التعيين، أما على وجه الإجمال فإننا نشهد بأن المؤمنين في الجنة، فقوله: ولا نشهد لهم أي على وجه التعيين، أما على وجه الإجمال فإن أهل الإيمان وأهل الإحسان في جنات النعيم،كما جاء ذلك في آيات كثيرة، أثبت الله جل وعلا فيها الجنة لأهل الإيمان.
ومما يدخل في قول المؤلف رحمه الله: (وَلا نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ) الشُّهود لهم بموجب الجنة، فمن قُتل في سبيل الله لا نشهد له بأنه شهيد؛ لأننا إذا شهدنا بأنه شهيد فقد شهدنا له بالجنة، ولذلك عقد البخاري رحمه الله باباً في صحيحه فقال: باب لا يقال: فلان شهيد؛ لما في ذلك من الشهادة له بأنه من أهل الجنة، بل الواجب أن لا يُشهد له بموجب الجنة.
ومما يلاحظ على هٰذا العبارة وهي قول المؤلف: (وَلا نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ) أنه أطلقها، وهٰذا يشمل كل أحد، وهٰذا ليس بصحيح، فإننا نشهد لمن شهد له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالجنة، فنشهد للعشرة المبشرين بالجنة، ونشهد لكل من بشره النبي ﷺ بالجنة أنه من أهل الجنة، ولذلك كانت عبارة الإمام شيخ الإسلام أبي العباس بن تيمية رحمه الله أتقن من عبارة المؤلف هنا، فإنه قال: (وَيَشْهَدُونَ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ). وهٰذا معناه في مفهوم المخالفة أنهم لا يشهدون لمن لم يشهد له النبي ﷺ بالجنة، وهٰذا أحسن من قولنا: (وَلا نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ). والذين شهد لهم النبي ﷺ بالجنة كثر، وقد جمعهم بعض طلبة العلم من الأحاديث التي فيها الشهادة لهم بالجنة، ومن أبرز من شهد لهم بالجنة العشرة المبشرون بالجنة، وكذلك ثابت بن قيس بن شماس، وكذلك أمهات المؤمنين، وغيرهم كثير.
المراد أننا لا نشهد لأحد بالجنة إلا من شهد له رسول الله ﷺ، فيقيد هٰذا الإطلاق بهٰذا القيد.
ثم قال رحمه الله: (وَنَسْتَغْفِرُ لِمُسِيئِهِمْ). الضمير يعود إلى من؟ للمسيء من المؤمنين؛ لأنه قال: (نَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) والجملة معطوفة على ذاك، والمعنى: ونستغفر للمسيء من المؤمنين، والمسيء: إما بترك ما وجب عليه من الطاعات، أو بفعل ما نهاه الله عنه من المعاصي والسيئات، بهٰذا تكون الإساءة.
(وَنَسْتَغْفِرُ لِمُسِيئِهِمْ). أي نطلب من الله المغفرة لمسيئهم، (وَنَخَافُ عَلَيْهِمْ) أي نخاف أن يدركهم ما ذكره الله جل وعلا في حق العصاة والمسيئين. (وَلا نُقَنِّطُهُمْ) أي ولا نؤيِّسهم من رحمة الله، ولا نقطع طمعهم في فضله ورحمته، بل نقول كما قال الله جل وعلا: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾([340]). وهٰذا يشمل كل ذنب صغير أو كبير، الشرك فما دونه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ لكن الشرك لا بد فيه من التوبة، ولا بد فيه من الإقلاع، قال الله جل وعلا: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾([341]). فالشرك لا يغفره الله I إلا بالتوبة منه والإقلاع عنه، وأما ما عدا ذلك من الذنوب فإنه تحت المشيئة: إن شاء غفر الله لصاحبه، وإن شاء أخذه به. والمراد أننا نرجو لأهل الإحسان الخير، ونخاف على أهل الإساءة من المؤمنين أن يدركهم العذاب وما ذكره الله للمسيئين.
المؤلف رحمه الله لم يذكر الشهادة بالنار، والشهادة بالنار كالشهادة بالجنة: لا نشهد لأحد بعينه أنه في النار، إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه من أهل النار، كأبي جهل، وفرعون، وأبي لهب وغيرهم ممن شهد لهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنهم في النار.
ومن عدا ذلك من الناس ولو كان من الكافرين فإننا لا نشهد له بعينه أنه في النار، فإذا مات كافر من الكفار لم نشهد له بعينه أنه من أهل النار؛ لأننا ما ندري ما الذي ختم له، وهٰذا الذي يظهر من اعتقاد أهل السنة والجماعة.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الكافر إذا مات على الكفر، وأدركنا عدم إسلامه بأن استمر على كفره إلى موته فإنه يشهد عليه أنه من أهل النار، واستدلوا لذلك بحديث فيه أن النبي ﷺ قال: ((حيثما مررت بقبر عامري أو قرشي فبشره بالنار)). وفي رواية: ((حيثما مررت بقبر مشرك فبشره بالنار)) ([342]). وهٰذا الحديث في ثبوته نظر، وإذا نظرنا إلى الكتاب والسنة، نجد أنهما لم يشهدا بالنار في غالب الموارد إلا على الأوصاف لا على الأشخاص، فلا نشهد على أحد معين بالنار إلا من شهد له النبي ﷺ، لكن نقول: ظاهر حاله أنه في النار، الظاهر لا إشكال فيه، لكن الشهادة التي هي القطع والجزم لا تكون إلا عن علم، والعلم لا يكون إلا ممن لا ينطق عن الهوى، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ثم قال رحمه الله: (وَالأَمْنُ وَالإِيَاسُ يَنْقُلانِ عَنْ مِلَّةِ الإِسْلامِ). الأمن هو عدم الخوف والخشية، والإياس هو قطع الأمل، والقنوط من الرحمة.
وهٰذان داءان متقابلان:
الأمن يحمل على الاسترسال في المخالفة والمعصية، وعدم العمل بالطاعة.
والإياس يحمل على اليأس وقطع الرجاء، والقنوط من رحمة الله.
وكلا هذين مما جاء التحذير منه.
أما الأمن من مكر الله فقد قال الله جل وعلا في إنكار من أمن مكره، قال I: ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)﴾([343]). وحذر فقال: ﴿إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾([344]).متين أي شديد، وهٰذا يوجب الحذر من كيد الله ومكره.
وأما اليأس الذي أشار إليه المؤلف رحمه الله في قوله: (وَالإِيَاسُ) فقد جاء أيضاً ما يدل على النهي عنه، وذلك في قوله: ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (86)﴾([345]). وقال I: ﴿وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ (56)﴾([346]). فوصفهم الله ﷻ بالكفر، ووصفهم بالضلال، ونهى أهل الإيمان وأهل الإسلام أن ييأسوا من رحمته فقال: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ﴾([347]).والنهي يقتضي التحريم.
فالأمن والإياس محرمان في شريعة الإسلام، ولكن هل ينقلان عن ملة الإسلام بمعنى أنه ينتقل إلى الكفر؟ هٰذا فيه تفصيل، فليس كل أمن ينقل عن ملة الإسلام، ولا كل يأس ينقل عن ملة الإسلام، بل منه ما ينقل ومنه ما لا ينقل، فاليأس التام من رحمة الله هٰذا ينقل، وكذلك الأمن التام ينقل.
أما ما كان دون ذلك، كما يعرض لبعض أصحاب الذنوب، أو يعرض لأصحاب الشهوات، فإنه سيئة وخطيئة وذنب لكن لا ينقل.
ومما يدلك على أن اليأس من رحمة الله لا ينقل في كل أحواله وموارده أن قدامة بن مظعون رضي الله عنه كما ذكرنا لكم في الدرس السابق أصابه شدة يأس من جراء استباحته ما حرم الله من الخمر، فكتب له عمر رضي الله عنه ما كتب مما ذكر الله في أول سورة غافر، ثم قال: فلا أدري أي ذنبيك أعظم، استباحتك الخمر، أو يأسك من رحمة الله؟
فينبغي للمؤمن أن لا ييأس من رحمة الله مهما عظم ذنبه، فإنه جل وعلا تتلاشى في جانب مغفرته وعفوه ورحمته وكرمه وبره وإحسانه الذنوب،فينبغي للمؤمن أن لا يتعاظم ذنباً أن لا يغفره الله.
ولا يعني هٰذا أن يستسيغ المعاصي والسيئات وأن يهونها، فتكون كالذباب يقف ويقع على أنفه ويقول به هكذا ويطير، بل ينبغي أن تكون في خاطره وباله، ويكون منها على حذر ووجل، فإن الله إذا أدرك العبد بسيئته أهلكه، ولو كانت صغيرة.
ولذلك جاء التحذير من النبي ﷺ عن الذنوب الصغير والجليل، فقال: ((إياكم ومحقرات الذنوب)). محقرات أي ما يحقره الإنسان وما يراه سهلاً ((فإنهن يجتمعن على الرجل فيهلكنه)). ([348]) نعوذ بالله من الخذلان، ومن خلّى الله بينه وبين ذنوبه وأخذه بها فلا تسأل عنه، فإنه الهلاك الواضح المبين، لكن نسأل الله أن يعاملنا بعفوه، وأن يعيننا على طاعته.
إذاً هاتان السوءتان مما يحصل التأثيم للإنسان فيهما، وقد يصل إلى حد الكفر، وقد يكون دون الكفر.
والأمن هو أصل شبهة المرجئة، واليأس هو أصل شبهة الخوارج.
فالمرجئة لما أمنوا من مكر الله استرسلوا في المعاصي، وقالوا: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
وأما من قابلهم وهم الخوارج فرأوا أن أدنى ما يكون من الذنوب سبب للكفر والخروج عن الصراط المستقيم، فجعلوا الذّنوب مكفرة، وكفروا الناس بالزنى وشرب الخمر وسائر الكبائر، وهٰذا من قنوطهم، وانظر إلى ما تؤول إليه البدع القلبية: فإن الأمن واليأس من بدع القلوب وانحرافاتها، فتوقع الإنسان في أنواع من الضلال، لا يسلم إلا إن سلمه الله I واستمسك بالكتاب والسنة.
ثم قال رحمه الله: (وَسَبِيلُ الْحَقِّ بَيْنَهُمَا لأَهْلِ الْقِبْلَةِ). سبيل أي طريق، والحق ما جاء به النبي ﷺ، فإنه قد جاء بالهدى ودين الحق. (وَسَبِيل الْحَقِّ بَيْنَهُمَا) أي بين هاتين الضلالتين: بين الأمن واليأس، فإنه ينبغي للمؤمن أن يستصحب فضل الله ورحمته وواسع كرمه وعظيم جوده: ﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾([349]). وينبغي أيضاً أن يستصحب أنه شديد العقاب،كما قال الله جل وعلا: ﴿نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ (50)﴾([350]). فإذا أدرك العبد ذلك مجموعاً في قلبه حمله على الطاعة وترك المعصية، والتعبد لله ﷻ على أكمل حال؛ لأنه يرجو فضل الله بإحسانه، ويخاف عقابه في إساءته، وهٰذان لا يجتمعان للإنسان إلا بالرجاء والخوف، وهو ما يشير إليه المؤلف رحمه الله في قوله: (وَسَبِيل الْحَقِّ بَيْنَهُمَا) أي بين الرجاء والخوف، فإذا جمع الإنسان بين هذين وُفق إلى الخير، وسلم من الشر، ووقاه الله شر الاعتماد على هذين.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في الخوف والرجاء أيهما يغلب؟ على أقوال:
أصحها أنه يختلف هٰذا باختلاف حال الإنسان، وإن كان الأصل أن يستوي الخوف والرجاء.
إذاً عندنا الأصل أن يستوي الخوف والرجاء، كما قال I: ﴿نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ (50)﴾. وكما قال النبي ﷺ للرجل لما دخل عليه في حال الاحتضار، قال: ((كيف تجدك؟)) قال: أجدني أرجو رحمة الله وأخاف ذنبي. قال: ((ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هٰذا إلا أمنه الله مما يخاف، وأعطاه ما يرجو)).([351]) فدل ذلك على أن الأصل استواء هذين، ولكن قد يحتاج الإنسان إلى تغليب جانب من هذين لعارض، لحال أو لظرف اقترن، مثال ذلك قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)).([352]) وهٰذا يدل على تغليب جانب الرجاء، ولكن من إحسان الظن بالرب أن يعلم أن الرب يؤاخذ على السيئة، فإن من ظن أن الله لا يؤاخذ على السيئة لم يحسن الظن بربه، بل اغتر، كما قال الله جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)﴾([353]). قال أحد المستهترين لما قرئت عليه هٰذا الآية، قال: غرني به كرمه. ولا ينفعه، فإن الكريم أخبر بأنه شديد العقاب.
فالواجب على المؤمن أن يسير إلى الله ﷻ بهذين الجناحين: الخوف والرجاء، فإذا جاء ما يقتضي تغليب جانب منهما، كحال العاصي إذا غلب الرجاء استمر في عصيانه، نقول: غلب الخوف حتى تنتهي عن معاصيك. وكحال الطائع فإنه إذا غلب الخوف قد يبلغ درجة اليأس، فنقول: غلب الرجاء في هٰذا الحال، لكن الأصل هو استواء هذين في قلب العبد، ولذلك ورد عن بعض السلف كالإمام أحمد وغيره أن الخوف والرجاء بالنسبة للعبد كجناحي طائر، ومعلوم أن جناحي الطائر متقابلان تماماً، ولو حصل نقص في أحد الجناحين لاختل طير الطير، بل لسقط.
ثم قال رحمه الله: (وَلا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنَ الإِيمَانِ إِلاَّ بِجُحُودِ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ).
يقول رحمه الله: (وَلا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنَ الإِيمَانِ إِلاَّ بِجُحُودِ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ). (وَلا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنَ الإِيمَانِ) يعني من دائرة أهل الإسلام والإيمان (إِلاَّ بِجُحُودِ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ) وهٰذا الإطلاق فيه نظر؛ لأنه معلوم أن الكفر كفران: كفر اعتقادي، وكفر عملي.
الكفر الاعتقادي منه كفر الجحود.
نعم، نقول: الكفر كفران: كفر جحود، وكفر عمل.
وكفر الجحود هو أن يجحد الإنسان ما علم أن النبي ﷺ قد جاء به، فكل من جحد شيئاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه كافر، مهما كان هٰذا المجحود به، يعني من قال: إن السواك لم تأتِ به الشريعة، هٰذا جحد شيئاً مما جاء به النبي ﷺ، فإنه يكفر بهٰذا ولو كان المسواك لا يسقط من فيه.
فكفر الجحود هو جحود كل ما جاء عن النبي ﷺ، جحود أي شيء ثبت أو علم أنه قد جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الاعتقاد، في الخبر، في العمل، يعني في الخبر والعمل، اعتقاداً وعملاً.
والقسم الثاني: كفر العمل، وهٰذا على درجتين:
كفر يضاد الإيمان، ويخرج به صاحبه من دائرة أهل الإسلام.
وكفر دون ذلك لا يخرج صاحبه عن الإيمان.
مثال الأول: الاستهانة بالمصحف، الاستهزاء بآيات الله، السب لله ورسوله، الشرك الأكبر بأنواعه، كل هٰذا من الكفر العملي، فالإنسان يكفر به ولو لم يجحد، وهٰذا مما يدلك على أن العبارة هنا ليست مستقيمة؛ لأن قوله: (وَلا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنَ الإِيمَانِ إِلاَّ بِجُحُودِ) دل ذلك على أنه إذا لم يجحد لم يخرج، فإذا لم يجحد تحريم السجود للأصنام وسجد للصنم هل يكفر على هٰذا العبارة أو لا يكفر؟ لا يكفر؛ لأن المؤلف حصر الكفر في الجحود فقط، وهٰذا فيه نظر.
والقسم الثاني من كفر العمل وهو ما ينقص الإيمان، لكنه لا يخرج به صاحبه عن دائرة الإسلام، مثل قول النبي ﷺ: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)).([354]) لاحظ جعل السباب فسوقاً، والفسوق خروج عن الإيمان أو ليس بخروج؟ خروج؛ لأن الفاسق أصله الخارج، لكنه ليس خروجاً يحصل به الكفر للإنسان، يعني لا يخرج به عن ملة الإسلام، فلا يسلب الفاسق المِلي اسم الإيمان بالكلية. وكذلك القتال قتال أهل الإسلام كفر، لكنه هل هو الكفر المخرج عن الإسلام؟ الجواب: لا؛ لأن الله جل وعلا قال: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾([355]). فجعلهم من أهل الإيمان مع وجود الاقتتال، فقتال المسلم كفر، لكنه كفر دون كفر، كما ورد عن ابن عباس وغيره من سلف الأمة. والشاهد أن الكفر منه ما يضاد الإيمان فيخرج عن الإسلام، ومنه ما لا يضاد الإيمان فيكون صاحبه مسلماً معه إيمان، لكنه ناقص الإيمان، وإذا أدرك الإنسان هٰذا علم أن كلام المؤلف رحمه الله فيه خلل.
ولعل المؤلف قال هٰذا بناء على تعريف الإيمان الذي سار عليه المؤلف ومرجئة الفقهاء، فهٰذا العبارة فيها نظر بيّن.
أظن عندكم تعليق للشيخ عبد العزيز: قال رحمه الله تعالىٰ: هٰذا الحصر فيه نظر، فإن الكافر يدخل في الإسلام بالشهادتين إذا كان لا ينطق بهما، فإن كان ينطق بهما دخل في الإسلام بالتوبة مما أوجب كفره، وقد يخرج من الإسلام بغير الجحود لأسباب كثيرة بيَّنها أهل العلم في باب حكم المرتد، من ذلك طعنه في الإسلام، أو في النبي e، أو استهزاؤه بالله ورسوله أو بكتابه، أو بشيء من شرعه سبحانه؛ لقوله تعالىٰ: ﴿قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ(65)لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾([356]) الآية. ومن ذلك عبادته للأصنام أو الأوثان أو دعوته الأموات والاستغاثة بهم وطلبه منهم المدد والعون ونحو ذلك؛ لأن هٰذا يناقض قول: لا إله إلا الله؛ لأنها تدل على أن العبادة حق لله وحده، ومنها: الدعاء والاستغاثة والركوع والسجود والذبح والنذر ونحو ذلك، فمن صرف منها شيئاً لغير الله من الأصنام والأوثان والملائكة والجن وأصحاب القبور وغيرهم من المخلوقين؛ فقد أشرك بالله، ولم يحقق قول: لا إلـٰه إلا الله، وهٰذا المسائل كلها تخرجه من الإسلام بإجماع أهل العلم، وهي ليست من مسائل الجحود، وأدلتها معلومة من الكتاب والسنة، وهناك مسائل أخرى كثيرة يكفر بها المسلم، وهي لا تسمى جحوداً، وقد ذكرها العلماء في باب حكم المرتد، فراجعها إن شئت. وبالله التوفيق.
نعم، هٰذا مضمون ما تقدم من المؤاخذة على هٰذا العبارة.
¹
الدرس الرابع عشر
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(وَالإِيمَانُ: هُوَ الإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ. وَجَمِيعُ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الشَّرْعِ وَالْبَيَانِ كُلُّهُ حَقٌّ. وَالإِيمَانُ وَاحِدٌ وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ، وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلازَمَةِ الأَوْلَى. وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ، وَأَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَطْوَعُهُمْ وَأَتْبَعُهُمْ لِلْقُرْآنِ).
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله وغفر له: (وَالإِيمَانُ: هُوَ الإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ). هكذا عرّف المؤلف رحمه الله الإيمان.
والمؤلف أبو جعفر الطحاوي رحمه الله قال في أول عقيدته: إنه نسج هٰذه العقيدة وألّفها وفق ما يعتقده فقهاء الملة: الإمام أبو حنيفة، وصاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن.
والمشهور عن أبي حنيفة رحمه الله أنه خالف ما عليه أهل السنة والجماعة في تعريف الإيمان وفي بيان حقيقته، وهٰذه هي المسألة الوحيدة التي تعدّ من الأصول ووقع فيها الخلاف بين أئمة أهل السنة والجماعة، على أن العلماء مختلفون في حقيقة هٰذا الخلاف: هل هو خلاف حقيقي يترتّب عليه أحكام، أم أنه خلاف لفظي؟ فمن العلماء من جعل الخلاف بين أبي حنيفة ومن سلك سبيله من مرجئة الفقهاء –هكذا يسميهم العلماء- من مرجئة الفقهاء وبين ما عليه أهل السنة والجماعة في مسألة الإيمان، جعلوا الخلاف في ذلك خلافاً لفظيّاً لا يترتب عليه أثر، وقبل أن نخوض في حقيقة الخلاف هل هو خلاف لفظي أو خلاف معنوي؟ نفهم أولاً ما هو الخلاف.
عقد أهل السنة والجماعة الذي اشتهر عنهم واتفقوا عليه ولا خلاف بينهم في القرون المفضلة: أن الإيمان قول وعمل، وقد تواترت المقالات والأقوال عن أهل السنة والجماعة في هٰذا، فهم يجعلون الإيمان قولاً وعملاً: قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح.
فأهل السنة والجماعة عرّفوا الإيمان بهٰذا التعريف المفصل الذي يشمل كل ما هو من خلال الإيمان وشعبه وصفاته وأخلاق أهله:فمنها ما يكون في القلب،ومنها ما يكون في اللسان،ومنها ما يكون في الجوارح.
المؤلف رحمه الله هنا اقتصر في تعريف الإيمان على ذكر (الإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ). ولم يذكر دخول الأعمال في مسمّى الإيمان.
ومعلوم أن الإيمان اسم شرعي، والأسماء الشرعية قد جاء الكتاب والسنة ببيانها بياناً واضحاً، فلا يُتلقى تعريف هٰذه الأسماء، ولا الوقوف على حقيقتها إلا من الكتاب والسنة، وقد دلّ الكتاب والسنة على أن الإيمان يكون منه عقد، ويكون منه قول، ويكون منه عمل.
وأشمل ما ورد في الاستدلال حديث خصال الإيمان، وفيه قول النبي ﷺ في حديث أبي هريرة: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة -وفي رواية([357]): بضع وستون شعبة-، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)). وإذا تأملت هٰذه الأعمال وجدت أنها قول في قول النبي ﷺ: ((أعلاها لا إله إلا الله))، وعمل في قوله: ((وأدناها إماطة الأذى عن الطريق))([358])، فجعل إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان، وقال: ((والحياء شعبة من الإيمان))، والحياء عمل قلبي في الأصل من أعمال القلوب، فدل ذلك على أن الإيمان قول وعمل، وأن الأعمال داخلة في الإيمان، ومن طالع الكتاب والسنة، من طالع نصوص الكتاب والسنة النبوية أيقن إيقاناً جازماً أن العمل من الإيمان، وأنه يطلق في الشرع الإيمان على الأعمال، وأنها لا تخرج عن مسمى الإيمان، ومن أخرجها فقد خرج عما دلت عليه النصوص.
المؤلف رحمه الله ومرجئة الفقهاء أخرجوا العمل عن الإيمان، فليس عندهم العمل داخلاً في مسمى الإيمان، بل هو خارج عنه، ولذلك قال: (وَالإِيمَانُ: هُوَ الإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ) يعني أن يقرّ الإنسان بما هو من الإيمان، بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله (وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ). الجنان المراد به القلب، وسمي بهٰذا لأنه مستور مخفي، فهو مشتق من مادة جنّ، وهي دائرة على معنى الخفاء والستر، والصواب إضافة العمل بأن يقول: والعمل بالأركان. حتى يتم تعريف الإيمان.
وهل هٰذا الخلاف خلاف حقيقي -أي يترتب عليه أحكام- أم أنه خلاف لفظي؟
من العلماء من قال: إنه خلاف لفظي؛ لأن الجميع يتفق على أن مرتكب الكبيرة مذموم، وأنه مهدد بالعقوبة، وأن الله قد يدخله النار، وأن من أهل الكبائر من يدخل النار، فهم يوافقون أهل السنة والجماعة في هٰذا.
ومنهم من يقول: إن الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء خلاف حقيقي يترتب عليه اختلاف معنوي: فعلى قول مرجئة الفقهاء الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وعلى قول أهل السنة والجماعة الإيمان يزيد وينقص، وزيادته بالأعمال، وأما أولئك فليس عندهم زيادة ولا نقص، كما سيأتي، وهٰذا يدل على أن الخلاف حقيقي.
أهل السنة والجماعة يرون جواز الاستثناء في الإيمان، يعني أنا مؤمن إن شاء الله، وأما على قول مرجئة الفقهاء فلا يجوز الاستثناء.
وهٰذا من المسائل التي جعلت من العلماء من يقول: إن الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء خلاف حقيقي.
والصواب ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع من كلامه، ومن ذلك ما ذكره في شرح العقيدة الأصبهانية، وهو أن الخلاف بين أهل السنة والجماعة منه ما هو لفظي ومنه ما هو حقيقي. وبهٰذا يجتمع القولان: القول بأن الخلاف حقيقي، والقول الآخر بأن الخلاف لفظي، والنزاع بين أهل السنة والجماعة لفظي وبين مرجئة الفقهاء.
والصواب ما ذكره من تفصيل، وهو أنه لفظي في جوانب وحقيقي في جوانب.
ولذلك قال: هو لفظي في كثير من المسائل، أو كثير منه لفظي وكثير منه حقيقي، وقد قرر شيخنا رحمه الله الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله أن الخلاف حقيقي بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء، وأنه ليس لفظيّاً، في تعليقه على شرح الطحاوية لابن أبي العز، حيث قال ابن أبي العز: إن الخلاف لفظي كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في بعض المواضع، فإنه أطلق أن الخلاف لفظي في بعض المواضع، وأطلق أن الخلاف حقيقي في بعض المواضع، وفصل فقال وبين أنه خلاف كثير منه حقيقي وكثير منه لفظي، الإشارة إلى أنه يترتب عليه في بعض المسائل أثر،وفي بعض المسائل لا أثر له.
ثم قال رحمه الله: (وَجَمِيعُ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الشَّرْعِ وَالْبَيَانِ كُلُّهُ حَقٌّ). وهٰذا من تمام الإيمان، بل هو الإيمان المجمل الذي يجب على كل أحد، فالإيمان يا إخواني ينقسم إلى قسمين:
· إيمان مجمل.
· وإيمان مفصل.
المؤلف رحمه الله هنا أشار إلى الإيمان المجمل، وهو الإيمان بجميع ما صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: (وَجَمِيعُ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الشَّرْعِ وَالْبَيَانِ) يعني من العمل والخبر (كُلُّهُ حَقٌّ). أي ثابت لا مرية فيه نصدق به ونؤمن، ونقر بما جاء به ﷺ وننقاد، ولا يتم الإيمان إلا بهذين، فليس الإيمان مجرد التصديق للأخبار، بل لابد من الانقياد، فالإيمان إقرار مع انقياد، وليس إقراراً مجرداً ولا تصديقاً مجرداً، على أن من عرف الإيمان بالتصديق تعريفه منقوص وقاصر، فإن الإيمان ليس تصديقاً مجرداً، بل هو تصديق خاص، حتى إذا قلنا بأنه في اللغة يطلق الإيمان على التصديق فهو تصديق خاص، ولا نريد أن ندخل في هٰذا؛ لأنه في الحقيقة بحث يطول، إنما نشير إلى أن تعريف الإيمان، تعريف من عرف الإيمان بأنه التصديق غلط، والصواب أنه تصديق خاص، أو نقول والعبارة الأصح أن نقول: هو التصديق المستلزم للقبول والإذعان والانقياد.
يقول رحمه الله: (وَالإِيمَانُ وَاحِدٌ). هٰذا من ثمار ما تقدم، فبناء على ما قال من أن: (الإِيمَانُ: هُوَ الإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ). كل من حصل منه هٰذا فقد حقق الإيمان، فالإيمان عند مرجئة الفقهاء واحد، وهٰذا هو أصل إشكال المختلفين في مسألة الإيمان، المشكلة في مسألة الإيمان، في مسألة الأحكام والأسماء -يعني الأسماء مسلم كافر فاسق منافق، والأحكام كونه في الجنة وكونه في النار- المشكلة في هٰذا الباب هي نشأت عن الخطأ في تصور الإيمان، فكل الضلاّل في هٰذا الباب على اختلاف ضلالهم يعتقدون أن الإيمَان واحد، وإذا كان واحداً فإما أن يثبت جملة وإما أن ينخلع منه الإنسان جملة، لا يمكن أن يتبعض، وأهل السنة والجماعة عندهم الإيمان شعب وخلال،كما قال النبي ﷺ: الإيمَان بضع وسبعون شعبة، فليس شيئاً واحداً، ومن قال: إن الإيمان شيء واحد. خالف دلالة الكتاب والسنة، فإن النبي ﷺ ينفي الإيمان عن بعض أهل الإسلام، كقول النبي ﷺ: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)). ([359]) فهٰذا نفي للإيمان: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) ([360])، ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن))، قالوا: من؟ قال: ((من لا يأمن جاره بوائقه)).([361]) والأحاديث في هٰذا كثيرة تدل على انتفاء الإيمان بسبب الإخلال ببعض الأعمال، أو الوقوع ببعض المعاصي والسيئات.
فالنفي هنا ليس نفياً للإيمان بالكلية، ولو نفينا الإيمان بالكلية لخرج الإنسان عن دائرة الإسلام، وكان من أهل الكفر كما تقول الخوارج، أو كان في منزلة بين المنزلتين كما تقول المعتزلة، فليس بمؤمن وليس بكافر.
ولكن الإيمان ليس واحداً كما قال المؤلف، ولذلك المرجئة قابلوا بدعة أولئك الذين أخرجوا من أخرجوا من الإسلام بسبب ارتكاب بعض السيئات فقالوا: من كان مؤمناً مقرّاً بلسانه مصدقاً بجنانه فإنه مؤمن كامل الإيمان، إيمانه كإيمان جبريل ولو كان يزني صباح مساء، يسرق صباح مساء، قلبه ممتلئ بالكبر والحقد والحسد والغل وسائر الآفات، هٰذا مؤمن كامل الإيمان، لماذا؟ لأن الإيمان واحد، فإيمان أعصى العصاة من أهل الإسلام كإيمان جبريل. وهٰذا لا شك أنه كذب وخطأ فالإيمان يزيد وينقص، فليس واحداً كما قال المؤلف رحمه الله، بل الإيمان يزيد وينقص، ويقول: (وَأَهْلُهُ) أهل الإيمان (فِيه) في الإيمان (سَوَاءٌ) يعني مستوون، عندي: (فيه) - نسخة، وفي نسخة ثانية: (وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ) أي في ثبوته وحصوله، المقصود بأصله يعني في ثبوته وحصوله، فهم فيه سواء. وهٰذا كذب وضلال وخطأ، فإن الإيمان يزيد وينقص، ولذلك كان من عقد أهل السنة والجماعة أن الإيمَان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فإن هٰذا ما يعتقده أهل السنة والجماعة في مسألة الإيمان.
قال رحمه الله: (وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلازَمَةِ الأَوْلَى). (وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ) أي بين أهل الإيمان (بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى). الخشية هي الخوف المقترن بالمحبة والوجل، والخشية خوف مع علم، ولذلك لا يوصف به إلا أهل العلم، قال الله جل وعلا: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾([362]). بخلاف الخوف، فإن الخوف قد يكون ممن لا علم عنده، يخاف وليس عنده علم، أما الخشية فلا تكون إلا من أهل العلم. قال: (وَالتُّقَى) والمقصود بالتقى أي تقوى القلب لا تقوى الجوارح؛ لأن تقوى الجوارح ليست داخلة في الإيمان، فلا يكون فيها تفاضل بين أهل الإيمان، وهو يشير بهٰذا إلىٰ أن عمل القلب داخل في مسمى الإيمان، ولكن هٰذا قصر للعمل، فالعمل الذي يدخل في الإيمَان هو عمل القلب وعمل الجوارح، وهم عندهم أن أصل الإيمان وهو التصديق في أهله سواء، وهٰذا ليس بصحيح، حتى التصديق يختلف فيه الناس، الآن أنت تصدق بالخبر إذا جاءك من زيد، ويزيد تصديقك بالخبر إذا جاءك من عمرو، كلاهما تصديق أو ليس بتصديق؟ في الحالين أنت مصدق، لكن تصديقك لخبر زيد أقل من تصديقك لخبر عمرو؛ لما تعرف عن عمرو من الدقة والتحري والتثبت أكثر من زيد، فالتصديق يختلف، ولذلك قوله رحمه الله: (وَالإِيمَانُ وَاحِدٌ وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ) ليس بسديد، حتى لو سلمنا أن التصديق واحد في الجميع، لكنه واحد متفاضل، لا شك أنه من حيث أدنى المراتب التي يحصل بها الإيمان والإسلام الجميع فيه متفق، لكن هناك تفاوت وتفاضل بين تصديق هٰذا وتصديق ذاك، وبين إيمان هٰذا وإيمان ذاك، فالمؤلف رحمه الله قصر التفاضل في أعمال القلب، والواقع أن التفاضل بين أهل الإيمان يكون في أعمال القلوب وفي أعمال الجوارح.
وقوله رحمه الله: (وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى). أي مخالفة ما تهواه النفوس وتشتهيه، وسمي الهوى هوى؛ لأنه يهوي بصاحبه في المهلكات ويوقعه في المرديات، قال: (وَمُلازَمَةِ الأَوْلَى) أي ملازمة ما ينبغي أن يلازمه الإنسان.
والصحيح ما ذكرنا من أن التفاضل يكون بعمل القلب ويكون بعمل اللسان، فمن قال: سبحان الله. أفضل ممن لم يقل سبحان الله، من خشي بقلبه أفضل ممن لم يخش الله جل وعلا بقلبه، من زاد ركعة أو سجدة أفضل ممن نقص، ولذلك في أذكار الصباح والمساء ذكر النبي ﷺ فضل التسبيح، قول: سبحان الله وبحمده مائة مرة في اليوم، قال: ((ولا يفضله إلا من قال مثل ما قال أو زاد عليه)). ([363]) فدل ذلك على أن الزيادة في القول زيادة في الفضل، والأدلة في هٰذا كثيرة، الأدلة على زيادة الفضل بزيادة العمل كثيرة جدّاً، ولكن هؤلاء لما وقع عندهم الإشكال أخرجوا الأعمال حتى لا يحتج عليهم الخوارج وأشباههم من الوعيدية فيوقعون الكفر بمن لا يستحقه.
قال: (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ). ولاشك أن أهل الإيمان أولياء الرحمـٰن؛ لأن الله جل وعلا قال في ذكر الولاية: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63)﴾([364]). اللهم اجعلنا منهم. فهؤلاء هم أولياء الله، فقول المؤلف: (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ) لا إشكال في هـٰذا، ولكنهم في الولاية مختلفون، فولاية زيد تختلف عن ولاية عمرو، والاختلاف في الولاية باختلاف تحقيق الإيمان والتقوى، فبقدر ما يحقق الإنسان من الإيمان والتقوى بقدر ما يفوز بولاية الله ﷻ، والولاية أصلها دائر على القرب، والمعنى أنه كلما ازداد العبد طاعة لله جل وعلا ازداد منه قرباً، كما قال الله جل علا في الحديث الإلـٰهي: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)). فيبلغ القرب من رب العالمين ما ذكره في آخر هٰذا الحديث: ((حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن استعاذني لأعيذنه، ولئن استنصرني لأنصرنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه)).([365]) وهٰذا يدل على عظيم ما يبلغه المؤمن من الدرجة إذا حقق القيام بالفرائض وتقرب إلى الله ﷻ واستزاد بالنوافل، أن الله جل وعلا يكون معه ونصيره: ((فبي يبصر وبي يسمع وبي يمشي وبي يبطش)). أي إنه يمشي على نور من الله جل وعلا في كل فعل وترك، ويبلغ من المحبة أن الرب جل وعلا يتردد في إيصال ما يسوء العبد ويكرهه وهو الموت، ولكن لما كان لا بد منه فإنه لا محيص عنه: لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه.
(وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ، وَأَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَطْوَعُهُمْ) أي أكثرهم طاعة (وَأَتْبَعُهُمْ لِلْقُرْآنِ). ولاشك أن أتبع الناس للقرآن هو أقرب الناس إلى الرب جل وعلا، وأحقهم ولاية، وأكرمهم عند الله جل وعلا، ولذلك لما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خُلقه القرآن كان أتقى الناس لرب العالمين، وأكرم الخلق على الله جل وعلا، فإن النبي ﷺ كان خلقه القرآن، ومعنى أن القرآن خلق النبي ﷺ أي إنه) يعمل به وإنه يمتثله وإنه يترجمه ويعمل بما جاء فيه.
فيجب على المؤمن إذا أراد الكرامة أن يسلك هٰذا السبيل، وهو طاعة الله ﷻ واتباع القرآن، فإن أهل القرآن هم أهل الله وخاصته.
بعد هٰذا ذكر المؤلف رحمه الله الإيمان المجمل، فذكر أصول الإيمان، قال رحمه الله:
(وَالإِيمَانُ: هُوَ الإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَنَحْنُ مُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ كُلِّهِ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، وَنُصَدِّقُهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى مَا جَاؤُوا بِهِ).
يقول رحمه الله في بيان الإيمان الواجب: (وَالإِيمَانُ: هُوَ الإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى). هٰذه أصول الإيمان وهي ستة، لا يصلح إيمان أحد ولا يستقيم إلا بتحقيقها.
الإيمان بالله يشمل الإيمان بوجوده وبربوبيته وبإلهيته وبأسمائه وصفاته، ويمكن أن نقتصر على الثلاثة ولا نقول: الوجود؛ لأن من لازم الثلاثة إثبات الوجود، فنقول: الإيمان بربوبيته وأسمائه وصفاته وإلهيته.
الإيمان بالملائكة تقدم الكلام عليه، الإيمان بالكتب كذلك، الرسل كذلك، اليوم الآخر هو أن تؤمن بكل ما أخبر الله I به ورسوله ﷺ مما يكون بعد الموت، هٰذا هو الإيمان المجمل فيما يتعلق باليوم الآخر: أن تؤمن بجميع ما أخبر الله به ورسوله مما يكون بعد الموت، فإن الموت هو ابتداء مراحل الآخرة، فإن القبر أول منازل الآخرة، فإذا آمن العبد بما أخبر الله جل وعلا به أو أخبر به رسوله ﷺ مما يكون بعد الموت فإنه قد آمن باليوم الآخر، وهٰذا هو الإيمان المجمل.
أما الإيمان المفصل أن تؤمن بكل ما بلغك عن الله وعن رسوله ﷺ مما يكون في البرزخ، ومما يكون يوم القيامة، ومما يؤول إليه الناس من جنة أو نار.
قال رحمه الله: (وَالْقَدَرِ). تقدم الكلام على الإيمان بالقدر، والإيمان بالقدر أن تؤمن بأن الله جل وعلا:
· أولاً علم كل شيء.
· وكتبه.
· وشاءه.
· وخلقه.
هٰذه الأربع المراتب يكمل بها الإيمان بالقدر.
فالإيمان بالقدر هو أن تؤمن بأن الله عالم بكل شيء قبل وجوده.
وأنه كتبه في اللوح المحفوظ.
وأنه سبحانه وتعالى شاءه.
وأنه جل وعلا خلقه، فلا شيء يخرج عن تقدير الله جل وعلا.
والإيمان بالقدر هو أن تؤمن بأن كل ما وقع فهو بعلم الله وبكتابته وبخلقه ومشيئته سبحانه وتعالى، وقد تقدم الكلام على هٰذا.
يقول رحمه الله: (وَنَحْنُ مُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ كُلِّهِ). أي بهٰذه الأصول، ولا يحصل الإيمان لأحد إلا بالإيمان بهٰذه الأصول، فهٰذه الأركان هي أركان الإيمان وأصوله التي لا يقوم الإيمان إلا بها.
قال رحمه الله: (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ). والتفريق بين الرسل هو التفريق في الإيمان ببعضهم دون بعض، أو الإقرار بما جاء به بعضهم دون بعض، بل الواجب أن نؤمن بجميعهم، وأن لا نفرق بين أحد منهم، وليس من التفريق بين الرسل معرفة مراتبهم في الفضل، فإن الله جل وعلا فاضل بينهم، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، كما دلّ على ذلك الكتاب والسنة، أفضلهم نبينا محمد ﷺ،ثم أولو العزم من الرسل إبراهيم وموسى وعيسى ونوح، ثم بعد ذلك هم في الفضل على ما علم الله جل وعلا، هٰذا الذي علمناه، وبعد ذلك هم في الفضل كما علم الله جل وعلا.
يقول: (وَنُصَدِّقُهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى مَا جَاؤُوا بِهِ).
ثم قال رحمه الله:
(وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ فِي النَّارِ لا يُخَلَّدُونَ، إِذَا مَاتُوا وَهُمْ مُوَحِّدُونَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا تَائِبِينَ، بَعْدَ أَنْ لَقُوا اللَّهَ عَارِفِينَ مُؤْمِنِينَ، وَهُمْ فِي مَشِيئَتِهِ وَحُكْمِهِ: إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ، وَعَفَا عَنْهُمْ بِفَضْلِهِ، كَمَا ذَكَرَ ﷻ فِي كِتَابِهِ: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ ([366]). وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ فِي النَّارِ بِعَدْلِهِ، ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ).
طيب، يقول رحمه الله: (وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ فِي النَّارِ لا يُخَلَّدُونَ). أهل الكبائر أي أصحابها المقارفون لها، الواقعون فيها. والكبائر جمع كبيرة، والكبيرة هي الذنب الذي ورد في الشرع عليه حد، أو ذُكر له عقوبة في الآخرة، أو خُتم بغضب أو لعنة أو تبرؤ، يعني كل ما ورد فيه حد أو وعيد خاص فإنه من الكبائر.
فالزنى كبيرة، والسرقة كبيرة، والغيبة كبيرة، والنميمة كبيرة، والغش كبيرة، والحقد كبيرة، والحسد كبيرة، والكبر كبيرة، الكبائر كثيرة نسأل الله السلامة منها. (وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ) أهل هٰذه الذنوب المواقعون لها، المقارفون لها، الذين لم يتوبوا منها، الكلام فيمن لم يتب، أما من تابَ تاب الله عليه، التوبة ولله الحمد تجبّ ما قبلها، وتجعل الإنسان كما لو لم يقع في الذنب، فإنها تمحى ولا يسأل عنها، وهٰذا من فضل الله وعظيم كرمه وواسع إحسانه بعبده، أنه إذا تاب تابَ الله عليه، والتوبة ليس لها حد ولا منتهى، بل الله جل وعلا يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ما لم يبلغ الإنسان الغرغرة أو تخرج الشمس من مغربها، عند ذلك يوصد باب التوبة.
قال رحمه الله: (وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ فِي النَّارِ لا يُخَلَّدُونَ). أي لا يبقون فيها بقاءً أبديّاً، فالخلود المنفي هنا هو خلود البقاء الذي لا خروج معه.
واعلم أن الخلود نوعان:
خلود بمعنى طول البقاء في النار، وهٰذا قد يكون لبعض أهل الكبائر من أهل الإسلام.
والقسم الثاني من الخلود: الخلود الذي لا خروج منه، فهو بقاء أبدي سرمدي لا ينقطع، وهٰذا لا يكون إلا لأهل الكفر والشرك.
من الخلود الأول خلود قاتل النفس، فإن الله سبحانه وتعالى توعده بالخلود فقال: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾([367]). فالخلود في هٰذه الآية هو الخلود الذي بمعنى طول المكث، لا الخلود الذي لا خروج معه، فإن النصوص قد دلت على أن المسلم المؤمن الذي يقول: لا إله إلا الله مآله إلى الجنة مهما كان، إذا كان من أهل التوحيد، أهل الإخلاص، فلابد أن يخرج كما سيأتي في الشفاعات.
قال: (إِذَا مَاتُوا وَهُمْ مُوَحِّدُونَ). وهـٰذا شرط ليخرج به أهل الشرك، فإن أهل الشرك في النار خالدون فيها أبداً لا يخرجون منها، بل هي موصدة عليهم أبد الآباد.
قال رحمه الله: (وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا تَائِبِينَ). يعني وإن لم يتوبوا من هٰذه الكبائر فإنهم لا يخلدون في النار، بل غاية ما يكون أن يدخلهم الله جل وعلا هٰذه النار فيعاقبون بقدر ما معهم ويطهرون؛ لأن دخول النار لأهل الكبائر تطهير، يطهرون وينقون، فإذا نقوا من آثار الذنوب والمعاصي أخرجهم الله جل وعلا، يقول: (وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا تَائِبِينَ، بَعْدَ أَنْ لَقُوا اللَّهَ عَارِفِينَ مُؤْمِنِينَ).
والمقصود بالإيمان هنا هو الإيمان الذي تقدم في قوله: (وَالإِيمَانُ: هُوَ الإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى). فهؤلاء حققوا التوحيد، لكنه حصل معهم من الذنوب ما حصل به نقص هٰذا التوحيد، وإن كان أصله ثابتاً وباقياً فلوجود هٰذا الأصل وبقائه يخرجهم الله ﷻ.
يقول: (وَهُمْ فِي مَشِيئَتِهِ وَحُكْمِهِ). يعني إذا لم يتوبوا من ذنوبهم فهم في مشيئته وحكمه: إن شاء عاقبهم على ذنوبهم وآخذهم بها، وإن شاء عفا عنهم وغفر لهم،كما قال الله جل وعلا: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾([368]). قال رحمه الله: (إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ، وَعَفَا عَنْهُمْ بِفَضْلِهِ، كَمَا ذَكَرَ ﷻ فِي كِتَابِهِ: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ ([369]). وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ فِي النَّارِ بِعَدْلِهِ) فهم بين عدله وفضله I: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا﴾([370]).ولكن لابد أن يُعلم أنهم إلى الجنة صائرون مهما وقع عليهم من العذاب إذا كانوا من أهل التوحيد.
ثم قال رحمه الله: (ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ). هٰذا مبدأ ذكر الشفاعة، طيب، نقف على هٰذا إن شاء الله تعالىٰ، ونكمل غداً بإذن الله تعالىٰ.
¹
شرح
العقيدة الطحاوية
لفضيلة الشيخ
الدرس الخامس عشر
www.almosleh.com
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ، ثُمَّ يَبْعَثُهُمْ إِلَى جَنَّتِهِ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى أَهْلَ مَعْرِفَتِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ فِي الدَّارَيْنِ كَأَهْلِ نُكْرَتِهِ الَّذِينَ خَابُوا مِنْ هِدَايَتِهِ، وَلَمْ يَنَالُوا وَلايَتَهُ.
اللَّهُمَّ يَا وَلِيَّ الإِسْلامِ وَأَهْلِهِ ثَبِّتْنَا عَلَى الإِسْلامِ حَتَّى نَلْقَاكَ بِهِ).
آمين يا رب العالمين.
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
يقول المؤلف رحمه الله في تتمة ما تكلم به في مسائل الإيمان، يقول: (ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ). يخرجهم أي يخرج أهل الكبائر؛ لأنه قال رحمه الله: (وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ فِي النَّارِ لا يُخَلَّدُونَ، إِذَا مَاتُوا وَهُمْ مُوَحِّدُونَ). يقول: (ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا). أي من دخل من أهل القبلة من أمة محمد، والمقصود بالأمة هنا أمة الإجابة، من دخل منهم النار بذنبه فإنه لا يخلد فيها كما تقدم، بل مآله إلى الجنة، كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة الدالة على عدم خلود أهل الإسلام في النار، وأن الله يخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، وهٰذا يدل على أنه لا يبقى في النار من أهل التوحيد أحد، بل قضى الله جل وعلا أن لا يخلد فيها إلا أهل الكفر والشرك دون أهل المعصية من أهل التوحيد والإيمان. (ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا). خروجهم منها أي من النار برحمته وشفاعة الشافعين، ذكر المؤلف رحمه الله أسباب خروج أهل الكبائر من النار: برحمته التي وسعت كل شيء، وقدّم الرحمة، مع أن الحديث الذي ذكر فيه الشفاعة أخّر ذكرها، حيث يقول الرب جل وعلا بعد شفاعة من يشفع:((شفع النبيون، شفع الصالحون، شفعت الملائكة، ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين)).([371]) قدمها في الذكر لأن الشفاعة برحمته، فالشفاعة إنما هي بإذنه ورضاه: بإذنه للشافع، ورضاه عن المشفوع، وذلك من رحمته I بعباده، فرحمته سابقة لاحقة، بل لا يصل الإنسان من الخير إلا برحمة الله ﷻ، فإن الرحمة دائرة على إيصال الخير ودفع الضر، وهو جل وعلا الرحمـن الرحيم، كلا الاسمين مشتق من صفة الرحمة التي هي إيصال النفع ودفع الضر، فإيصال الخير ودفع الضر كله من رحمة الله جل وعلا، والشفاعة إيصال خير إلى المشفوع له، وهو خير للشافع؛ لأنه إكرام له وإظهار لمنزلته، فهو رحمة من الله جل وعلا لعباده الشافع والمشفوع له. (يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا) I (بِرَحْمَتِهِ وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ). والشفاعة هي التوسط في إيصال الخير ودفع الضر عن الغير، وقد تقدم الكلام عليها فيما مضى، وهي ثابتة يثبتها أهل السنة والجماعة بجميع أنواعها التي دلت النصوص من الكتاب والسنة عليها.
فالشفاعة العظمى ثابتة، وشفاعة للنبي ﷺ في رفع الدرجات، وفي دخول أهل الجنة، وفيمن استحق النار أن لا يدخلها، وفيمن دخلها أن يخرج منها، كل هٰذا مما جاءت به النصوص، ودلت عليه دلالة واضحة لا يمتري فيها إلا أهل التشبيه. يقول: (وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ). هٰذا بيان لمن هو مستحق لأن يشفع، فالشفاعة فضل وكرامة، وهي لا تكون إلا لأهل السبق والطاعة من الملائكة ومن الإنس ومن غيرهم ممن يقدر الله جل وعلا أنه يشفع.
قال رحمه الله: (ثُمَّ يَبْعَثُهُمْ إِلَى جَنَّتِهِ). البعث مضمن معنى الإثارة في اللغة، والمقصود (يَبْعَثُهُمْ إِلَى جَنَّتِهِ) أي يدخلهم في جنته، فإنهم يخرجون من النار، ويلقون في نهر الحياة فينبتون فيه، أي في هٰذا النهر ثم يمن الله جل وعلا عليهم بدخول الجنة، ولا تقل: كيف؟ أحوال الآخرة مختلفة عن أحوال الدنيا. يقول: (وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى أَهْلَ مَعْرِفَتِهِ). ذلك، المشار إليه ما منّ به على هٰذه الأمة من إخراج أهل الكبائر من النار، وعدم خلودهم فيها، فالمشار إليه هو عدم خلود أهل الكبائر في النار (وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى أَهْلَ مَعْرِفَتِهِ). والمؤلف رحمه الله استعمل هٰذا اللفظ وإن كان قد يدل دلالة فاسدة عند بعض المنحرفين ،كغلاة المرجئة الذين يقولون: يكفي في التوحيد المعرفة، وإن الإيمان هو معرفة الرب. لكن المؤلف لا يريد هٰذا، يقصد بـ (أَهْلَ مَعْرِفَتِهِ) أي أهل طاعته كما تقدم في كلامه؛ لأنهم أهل كبائر ولم يفقدوا الإيمان، ولم يخرجوا عن دائرة الإسلام، وهو مستفاد من قول النبي ﷺ: ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).([372]) والتعرف على الله في الرخاء هو أن يقوم الإنسان بما فرض الله عليه من العبادات الواجبة، وأن يسارع فيما شرع له وندب إليه من العبادات المستحبة. (تَوَلَّى أَهْلَ مَعْرِفَتِهِ) والولاية تقتضي القرب والمحبة والنصر، فإن الله جل وعلا تولّى أهل الإيمان، وتوليه لهم يكون بمحبته لهم وتقريبهم ودفع ما يضرهم، ونصرهم في المواطن التي يحبون النصر فيها.
يقول: (وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ فِي الدَّارَيْنِ) يعني في دار الدنيا وفي دار الآخرة (كَأَهْلِ نُكْرَتِهِ) يعني كأهل الكفر به من أهل الجحود، وغير ذلك مما يدخل به الإنسان في دائرة الكفر، ويخرج به عن دائرة الإسلام.
ولاشك أن الله جل وعلا فرق بين الفريقين، ولم يسوِّ بين أهل الجنة وأهل النار لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل أنكر التسوية بين الفريقين: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)﴾([373]). ﴿أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾([374]). فنفى الله جل وعلا التسوية بين هذين الفريقين في الدنيا والآخرة، وهم مفترقون في أحكام الدنيا، مفترقون أعظم الافتراق في أحكام الآخرة، فإن كان هناك شيء من الاتفاق بين أهل النعيم وأهل الإسلام والإيمان، وأهل الإجرام في الدنيا وأهل الكفر في الدنيا، لكنه في الحقيقة لا يستويان مثلاً، ولا يستويان في الأحكام، وفي الآخرة يكون الافتراق واضحاً بيناً يدركه كل أحد، فإن أهل الإسلام يعطون من النور في الموقف ما يتميزون به عن أهل الكفر والنفاق.
ثم إذا آل الأمر واستقر الفريقان عظم الافتراق وتبين تبيناً لا لبس فيه ولا امتراء فيه: فريق في الجنة وفريق في السعير. فلم يسوِّ الله جل وعلا بين الفريقين، بل فرق بينهما كما دلت على ذلك النصوص.
يقول رحمه الله: (وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ) أي يجعل أهل الإيمان ولو كانوا من أهل الكبائر وأهل التقصير والمعصية (وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ فِي الدَّارَيْنِ كَأَهْلِ نُكْرَتِهِ) أي أهل جحوده (الَّذِينَ خَابُوا مِنْ هِدَايَتِهِ) أي لم يحصّلوا هدايته، وخسروا سلوك هٰذا الصراط القويم الذي يحصل به للعبد الفضل والمنن.
قال (وَلَمْ يَنَالُوا مِنْ وَلايَتِهِ) أي لم يدركوا من ولايته، والولاية المنفية هنا هي ولاية النصر والتقريب؛ لأن الولاية في القرآن نوعان: ولاية عامة لا يخرج منها أحد، وولاية خاصة.
الولاية العامة هي التي يرزق الله جل وعلا بها كل أحد، ويدفع عنه السوء، كما قال النبي ﷺ: ((لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله جل وعلا: ينسبون له الولد وهو يرزقهم ويعافيهم)).([375]) فالرزق والمعافاة والإمداد بكل خير لأهل الكفر هٰذا من ولاية الله جل وعلا لهم، لكنها الولاية العامة وليست هي الولاية التي نفاها المؤلف رحمه الله، الولاية التي نفاها المؤلف رحمه الله في هٰذا الموطن وفي هٰذا المقطع هي الولاية الخاصة، التي يحصل بها نصر الله ﷻ لعبده وتقريره وإنجاؤه من مواطن الهلكة ومحبته سبحانه وتعالى، وهي المشار إليها في قول النبي ﷺ: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)) إلى آخر الحديث. ([376]) وفي الرواية الثانية المفسرة لهٰذا الحديث: ((فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يمشي، وبي يبطش)). هٰذه هي الولاية التي تنتفي عن هؤلاء.
ثم قال رحمه الله سائلاً الله جل وعلا: (اللَّهُمَّ يَا وَلِيَّ الإِسْلامِ وَأَهْلِهِ). فهو جل وعلا نعم المولى ونعم النصير، هو ولي الإسلام، صاحبه وناصره ومظهره ومحبه، وهو ولي أهل الإسلام، ناصرهم ومحبهم ومقربهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ، فتوسل إليه بما هو سبب للنصر والنجاة (ثَبِّتْنَا عَلَى الإِسْلامِ حَتَّى نَلْقَاكَ بِهِ) اللهم آمين. والثبات يكون باستقرار القدم على ما جاء في الكتاب والسنة، بلزوم ما تركه النبي ﷺ سبيلاً للنجاة: ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله)). ([377]) فكتاب الله جل وعلا من تمسك به هدي، والمؤلف رحمه الله قد ذكر قبل فقرات قريبة أن أكرم الخلق عند الله ﷻ قال: (وَأَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَطْوَعُهُمْ وَأَتْبَعُهُمْ لِلْقُرْآنِ) فكلما كان الإنسان أتبع للقرآن ثبتت قدمه على الإسلام، فالإسلام لا تثبت فيه القدم إلا بالعلم النافع والعمل الصالح، والعلم النافع والعمل الصالح هما اللذان جاء بهما النبي ﷺ، قال الله جل وعلا: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ ([378]). الهدى: العلم النافع، دين الحق: العمل الصالح، وبهما يحصل الثبات على الإسلام، نسأل الله ﷻ أن يتوفانا وإياكم مسلمين، وأن يلحقنا بعباده الصالحين.
(وَنَرَى الصَّلاةَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وعَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ.
وَلا نُنَزِّلُ أَحَدًا مِنْهُمْ جَنَّةً وَلا نَارًا، وَلا نَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرٍ وَلا بِشِرْكٍ وَلا بِنِفَاقٍ، مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَنَذَرُ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى).
يقول رحمه الله: (وَنَرَى الصَّلاةَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وعَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ). نرى أي نعتقد، والرؤية هنا رؤية العلم والاعتقاد (وَنَرَى الصَّلاةَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ). الصلاة هنا الصلاة المفروضة والصلاة التي يشرع لها الاجتماع من الصلوات المسنونة، يشمل هٰذا وهٰذا، المراد نرى ونعتقد وجوب الصلاة خلف كل بر وفاجر، بر أي صاحب طاعة، فاجر أي مسرف بالمعصية.
ولكن المؤلف رحمه الله قيد الفجور بقوله: (مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ). يعني من أهل الإسلام، وأهل القبلة تقدم لنا أنهم هم أهل الإسلام الذين قال فيهم النبي ﷺ فيما رواه البخاري منفرداً: ((من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذاك المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا)).([379]) فالمؤلف رحمه الله يقول: نصلي خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة. يدخل في هٰذا الكلام الصلاة خلف العصاة والفساق والفجار، فإننا نصلي خلفهم؛ لقول عثمان رضي الله عنه: إن الصلاة من أحسن ما عمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساؤوا فاجتنبهم. كما في صحيح البخاري. ولاشك أن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا صلى الإنسان خلف فاسق فإنه شاركه في خير وبر، لم يشاركه في إثم ومعصية.
وهٰذا الذي ذكره المؤلف رحمه الله هو عقد أهل السنة والجماعة، وأما ما ورد من الخلاف بين الفقهاء في جواز الصلاة خلف الفاسق فإنه خلاف موجود بين الفقهاء، لكن الصحيح ما ذكره المؤلف رحمه الله من أن السلف كانوا يصلون خلف كل بر وفاجر.
والإمام لا يخلو من أحوال:
الحال الأولى: أن يكون مستور الحال ما نعلم حاله، فهٰذا يجب الصلاة خلفه على كل حال، وترك الصلاة خلفه من البدع التي يخالف الإنسان بها طريق أهل السنة والجماعة، ولم يقل أحد من أهل العلم: إنه يجب أن يسأل عن عقيدة الإمام التي تصلي خلفه، أو أن تفتش عن باطنه، وأن تسأل عن حاله، فإن هٰذا لم يقله أحد من أهل العلم.
الحال الثانية: أن يكون من أهل الطاعة، وهٰذا لا إشكال في أن الصلاة خلفه من عمل أهل السنة والجماعة.
الحال الثالثة: أن يكون من أهل الفسق والمعصية، وهٰذا فيه الخلاف بين العلماء، لكن الصحيح أنه يصلى خلفه، لا سيما إذا كان إماماً، وعلى هٰذا يخرج البحث الذي ذكره الفقهاء في مسألة صحة إمامة الفاسق، فإن بحث الفقهاء في صحة إمامة الفاسق في غير الأئمة، أي غير الأمراء والمقدمين، فإن الصلاة خلفهم ديانة ولو كانوا على فسق؛ لأن الصحابة أحرص منا على الخير وأعلم منا بالشرع، ومع ذلك كانوا يصلون خلف الأمراء أبراراً أو فجاراً، بل نقل عنهم أنهم صلوا خلف الحجاج، والحجاج مشهور ظلمه ومعروف حاله عند الصحابة، صلى خلفه عبد الله بن عمر، وصلى خلفه أنس بن مالك، بل إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صلى خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان شرّاباً للخمر، حتى إنه صلى بهم صلاة الفجر أربع ركعات، فلما سلم قال: هل أزيدكم؟ قال عبد الله بن مسعود: ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة. ولم ير هجره وترك الصلاة خلفه؛ لأنه كان الأمير في الجهة التي فيها ابن مسعود رضي الله عنه، المهم أنه مسألة الخلاف في صلاة الفاسق يخرج عنها ما إذا كان النظر في الصلاة خلف من ولاه الله أمر المسلمين، فإنه يصلى خلفه ولو كان فاجراً، وهٰذا من عقد أهل السنة والجماعة الذي تميزوا به عن أهل البدعة.
الحال الرابعة من أحوال الإمام: أن يكون مبتدعاً، فسقه وفجوره في بدعة لا في معصية، وهٰذا يصلى خلفه أيضاً إذا كان لا يجد الإنسان غيره، وإذا كان هو المتولي للجمعة والجماعة ولو كان داعية إلى بدعته، فإن الصحابة والتابعين صلوا خلف ابن أبي عبيد وكان متهماً بالإلحاد والبدعة.
وكل هٰذا إنما هو لتحقيق معنى الجماعة وعدم الفرقة، وبه نعلم خطأ الذين يفرقون بين الناس، ويدعون إلى المنابذة والمخالفة والتحزب والتشرذم والتفرّق، فإن هٰذا خلاف ما كان عليه سلف الأمة.
ويشهد لهٰذا -أي للصلاة خلف المبتدع ولو كان داعية إلى بدعته- أن عثمان رضي الله عنه لما خرج عليه الخوارج وحاصروه في بيته، جاءه أحد السائلين فقال له: يا عثمان أنت إمام جماعة، وهٰذا الذي يصلي بنا إمام بدعة، فهل نصلي خلفه؟ فقال المقولة التي ذكرناها قبل قليل، قال: يا ابن أخي إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساؤوا فاجتنبهم. مع أنه رضي الله عنه محصور، والذي يصلي بالناس من أعدائه وخصومه الذين خرجوا عليه، ومع ذلك لم يقل: لا تصلِّ خلفه، بل قال: إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم- يعني صلِّ معهم- وإذا أساؤوا فاجتنبهم. وهٰذا يدل على كمال ورعه رضي الله عنه وعظيم منزلته، و إلا لو كان شخصاً من عموم الناس أو من غير عثمان، المتوقع أن يقول: لا تصلِّ خلفه، أقل الأحوال لأنه نازعه حقه وإمامته، مع ذلك قال: صلّ خلفه، إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس. وهٰذا يدل على كمال فقهه رضي الله عنه .
المراد أنه يصلى خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، لكن عند الاختيار إذا أردت أن تختار بين أن تصلي خلف إمام مبتدع وبين إمام من أهل السنة، فعند الاختيار لا إشكال أنه تذهب إلى إمام أهل السنة، لكن في بعض البلاد التي يظهر فيها قول من أقوال المبتدعة، ولا يكون في المكان الذي هو فيه أحد من أهل السنة، فنقول: صلّ مع الناس، لا تترك الجمعة والجماعة، فإن ترك الجمعة والجماعة هو البدعة، وهو المخالف لطريق أهل السنة والجماعة.
يقول: (وعَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ). أي من أهل القبلة، فإن أهل السنة والجماعة يرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة، سواء كان فاسقاً، مبتدعاً، مستور الحال، لا فرق، لكن إن رأى أصحاب المكانة والمنزلة أن يعتزلوا الصلاة على أهل الفجور وأهل البدعة ردعاً لبدعتهم، فهٰذا الأمر سائغ ولا بأس به، لكن من حيث العموم يصلي أهل السنة والجماعة على كل من مات من أهل القبلة، يعني ممن ينتسب إلى الإسلام، طيب ولو كان منتسباً إلىٰ الجهمية أو إلى القدرية أو إلى الرافضة؟ الجواب: نعم؛ لأن انتسابه إلى هٰذه البدع المغلظة لا يسوغ الحكم عليه بالكفر عيناً؛ لأنه فرق بين أن نقول: الجهمية كفار، وبين أن نقول: هٰذا كافر، فإن المسألة فيها تفريق واضح وبين عند أهل السنة والجماعة، فرق بين التكفير العام وبين الحكم بالكفر على المعين.
فيصلَّى على كل من كان من أهل الإسلام، ولو كان من أهل البدع.
يقول: (وَلا نُنَزِّلُ أَحَدًا مِنْهُمْ جَنَّةً وَلا نَارًا). لا ننزل أي لا نشهد ولا نحكم لأحد من أهل القبلة بأنه في جنة ولا نار، وتقدم تقييد هٰذا الإطلاق بأي شيء؟ إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بجنة أو نار، إلا من دلت النصوص على أنه من أهل الجنة فهو من أهل الجنة، أو من أهل النار فهو من أهل النار، من عدا من دلت عليه النصوص فإننا نمسك عن الشهادة له؛ لأن شهادتنا له بجنة أو نار لا تنفع.
وقوله: (وَلا نُنَزِّلُ أَحَدًا مِنْهُمْ) أي من أهل القبلة،طيب، غير أهل القبلة هل ننزلهم النار؟ الجواب: لا، ظاهر عقد أهل السنة والجماعة وما صرّح به بعضهم أنه لا يُشهد للكفار بالنار على وجه التعيين. انتبه! على وجه التعيين، أما على وجه العموم فكل كافر في النار، لكن على وجه التعيين لا نشهد لمعين بالنار، إلا من شهد له النبي ﷺ.
يقول: (وَلا نَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرٍ وَلا بِشِرْكٍ وَلا بِنِفَاقٍ)؛ لأن هٰذه أحكام مبنية على نصوص، فـ(لا نَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرٍ وَلا بِشِرْكٍ وَلا بِنِفَاقٍ، مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ) يعني من الشرك والكفر والنفاق، ويجب فيما إذا ظهر منهم شيء من ذلك أن نقيم عليهم الحجة، وأن نبين لهم الخطأ، فإن أصروا عليه ولم يرتدعوا عن الكفر أو عن الشرك أو عن النفاق، فعند ذلك حكمنا لهم بما تقتضيه أحوالهم وأفعالهم، لكن بعد إقامة الحجة، وبعد البيان والتوضيح.
يقول رحمه الله: (وَنَذَرُ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى). نذر أي نكل سرائرهم إلى الله تعالىٰ؛ لأن السرائر لا سبيل إلى معرفتها ولا إدراك ما فيها، فإنها خفايا مستورة لا يعلمها إلا الله جل وعلا، ولذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)﴾([380]).فالسر من علمه سبحانه وتعالى ليس من علم غيره، ما أكنته القلوب وأخفته الأفئدة وأسرته الضمائر علمه إلى الله جل وعلا، ولا يكشف ولا يتبين إلا يوم تبلى السرائر، فيجب ترك السرائر إلى الله، فالبحث في النيات، البحث في المقاصد أمره إلى الله جل وعلا، ليس إليك، لكن من ظهر منه أمر عاملناه وحكمنا عليه بما ظهر منه، لا بما أخفاه صدره، ما لم يعتذر بأمر يوجب رفع الحكم عنه.
بالنسبة للصلاة على المبتدع ذكرنا أن كلام المؤلف رحمه الله يشمل كل المبتدعة الذين لم نشهد بكفرهم، الذين لا نعتقد كفرهم، أما من كان كافراً فإنه لا يصلى عليه، في قوله: (وَنَرَى الصَّلاةَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وعَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ). هٰذا يشمل كل من لم يكفّر ببدعته، ولا فرق بين أن تكون البدعة مكفرة وبين أن لا تكون مكفرة، بمعنى أنه قد تكون البدعة مكفرة ويكون القول كفراً، لكن لا نحكم على القائل بأنه كافر، فهنا يدخل في عموم قوله رحمه الله: (وَنَرَى الصَّلاةَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وعَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ). وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في حكايته للصلاة خلف المبتدعة والتفصيل في ذلك، قال: ويدخل في هٰذا الجهمي والرافضي، وذكر... وذكر في موضع آخر أنه لا يصلى خلف من لا يرى الجمعة والجماعة كأئمة الرافضة.
فالمسألة على عمومها في كلام المؤلف رحمه الله في قوله: (وَنَرَى الصَّلاةَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وعَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ). ولا يعني هٰذا أن يتقصد الإنسان الصلاة على هؤلاء، أو يطلب الصلاة على هؤلاء، ولا يخالف هٰذا ما قرره أهل السنة والجماعة من هجر المبتدع، وقد نقل عن الإمام أحمد رحمه الله قال: لا أشهد جنازة جهمي ولا رافضي، ومن أحب أن يشهدهم فليشهد. وهٰذا يدل على أن المسألة فيها خيار، وأنه للإنسان أن يختار أن لا يصلي عليه من باب هجره، لكن فرق بين مسألة الصلاة خلف كل بر وفاجر وبين الصلاة عليه؛ لأن الصلاة عليه ليست لازمة، فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وأما الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة فإنه يصلى خلفهم، إذا كان لا يمكن أن تقام الجماعة والجمعة إلا بالصلاة خلفهم، بل ترك الجماعة والجمعة خلف أهل البدع من البدع.
قال رحمه الله:
(وَلا نَرَى السَّيْفَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ إِلاَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ السَّيْفُ).
(وَلا نَرَى السَّيْفَ) أي لا نرى القتل (عَلَى أَحَدٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ) وهم أمة الإسلام الذين عصم الله دماءهم وأموالهم وأعراضهم بكلمة الإسلام: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام)).([381]) فكل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهو معصوم الدم لا يجوز التعرض له بقتل، إلا إذا فعل ما يوجب القتل، ولذلك استثنى المؤلف بقوله: (إِلاَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ السَّيْفُ). ولا يلزم من وجوب السيف أن يخرج عن الأمة وعن الإسلام، بل هو في الأمة وفي الإسلام وإن وجب عليه السيف، كالذي يقتل بغير حق، يقتل نفساً بغير حق، وكالذي يزني وهو محصن، وما أشبه ذلك من موجبات القتل في شريعة الإسلام: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)).([382])
ثم قال رحمه الله:
(وَلا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلاةِ أُمُورِنَا وَإِنْ جَارُوا، وَلا نَدْعُو عَلَيْهِمْ، وَلا نَنْزِعُ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِمْ، وَنَرَى طَاعَتَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ ﷻ فَرِيضَةً، مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ، وَنَدْعُو لَهُمْ بِالصَّلاحِ وَالْمُعَافَاةِ).
يقول رحمه الله في بيان عقد أهل السنة والجماعة: (وَلا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلاةِ أُمُورِنَا). (لا نَرَى) أي لا نعتقد ولا نجيز الخروج على أئمتنا، الأئمة هنا هم ولاة الأمر، ولذلك قال في بيانهم: (وَوُلاةِ أُمُورِنَا). أي من ولاه الله أمر المسلمين من أهل الإسلام، فإنه لا يجوز الخروج عليه. يقول: (وَإِنْ جَارُوا). أي وإن ظلموا فإنه لا يجوز الخروج عليهم، وقد حذر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من ذلك، وأمر بالصبر على جور الولاة أصحابه، وأمر بالسمع والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين ولو ظهر منه ما يخالف، وهٰذا يدلّ على أن من عقائد أهل السنة والجماعة التزام الجماعة، ولذلك سُمّوا بالجماعة لأنهم يجتمعون على ولاة أمرهم، ولا تخلو عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة -فيما أدركت ونظرت- من ذكر هٰذا الأمر، وذلك أن فتنة الخروج من أول ما حصل من البدع في هٰذه الأمة، وهي من شر البدع؛ لأنه ترتب عليها من البدع الشيء الكثير، وقد ذكرنا فيما تقدم أن بدعة الخوارج من البدع التي جاء التحذير منها والتنفير منها في أحاديث النبي ﷺ ، ولم تحظ بدعة بالتحذير والتنفير كبدعة الخوارج؛ لشدة شرها، ولأنها تفسد ما جاءت به الشريعة، فالشريعة جاءت بالاجتماع والائتلاف والتعاون على البر والتقوى والتناهي عن الإثم والعدوان، والخروج يحصل به الفساد في هٰذا كله وانتفاء هٰذه المصالح كلها. (وَلا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلاةِ أُمُورِنَا وَإِنْ جَارُوا). أي وإن وقع منهم جور سواء بقصد أو بتأويل، لا فرق بين ذلك، يعني سواء كان الجور بتأويل أو بتعمد الظلم، فإنه لا يجوز، بل يجب الصبر والاحتساب على الله ﷻ ما جرى من جور، قال: (وَلا نَدْعُو عَلَيْهِمْ) أي لا يجوز أن ندعو عليهم؛ لأن الدعاء عليهم منابذة لهم، وهو من أوائل الخروج؛ لأنه خروج بالقول عليهم. وأما قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ذكر الولاة: ((خير ولاتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتدعون لهم ويدعون لكم، وشر ولاتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتدعون عليهم ويدعون عليكم)).([383]) فهٰذا ليس فيه تجويز الدعاء عليهم؛ لأن بعض الناس يحتج بمثل هٰذا، هٰذا ليس فيه تجويز الدعاء عليهم، إنما هو بيان لعلامة وأمارة وليس فيه أنه يجوز الدعاء عليهم، بل الواجب ما ذكر المؤلف رحمه الله في قوله: (وَنَدْعُو لَهُمْ بِالصَّلاحِ وَالْمُعَافَاةِ)؛ لأن في صلاحهم صلاح الأمة.
قال رحمه الله: (وَلا نَنْزِعُ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِمْ). يعني إذا وقع منهم الجور فلا ننزع يداً من طاعتهم، بل يجب الصبر والطاعة؛ لأن النبي ﷺ أوصى فيما أوصى أمته بذلك: ((عليكم بالسمع والطاعة ولو تأمر عليكم عبد حبشي)).([384]) ومعلوم أن العرب كان تولي مثل هٰذا عليهم من أعظم ما يكون في نفوسهم، ومن أعظم أسباب النفرة وعدم الطاعة، مع ذلك أمرهم بالطاعة ولو كان المتولي عليهم من كان بالأمس رقيقاً عندهم يتصرفون به تصرفهم في سائر أموالهم، ومع ذلك أمرهم بالسمع والطاعة، وهٰذا فيه بيان عظم هٰذا الأمر، وأنه لا يجوز الخروج مهما كان الأمر، مادام الحال لم يبلغ ما ذكر النبي ﷺ: ((إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه سلطان))([385]). يقول: (وَلا نَنْزِعُ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِمْ، وَنَرَى طَاعَتَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ ﷻ فَرِيضَةً، مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ). يعني طاعة ولي الأمر فريضة واجبة يؤجر عليها الإنسان ويأثم بالمخالفة، والطاعة هنا ليست فقط فيما إذا أمروا بالطاعة، بل فيما إذا أمروا بالطاعة وفيما إذا أمروا بما يرون أنه مصلحة وليس فيه معصية مما يحصل به تنظيم أمور الناس، ومن هٰذا نفهم خطأ الذين يقولون في بعض المسائل التي تتبع التنظيمات الإدارية والترتيبات، يقولون: علمنا هل هٰذا يجوز أو لا يجوز؟ إذا قلت لهم مثلاً: هٰذا لا يجوز؛ لأنه مخالف للنظام. قالوا: لا،هين اترك النظام، نريد الشرع. هٰذا جهل منهم؛ لأنهم ظنوا أن الطاعة في النظام الذي لا يخالف الشرع ليست من الشرع، وهٰذا خطأ، بل الطاعة في النظام الذي لا يخالف الشرع من الشرع يؤجر عليها الإنسان ويأثم بمخالفته، وهٰذا مما يدخل في كلامه رحمه الله: (وَنَرَى طَاعَتَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ ﷻ فَرِيضَةً، مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ). فإذا أمروا بالمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
والمعصية إما أن تكون معصية عند كل أحد، كأن يأمر مثلاً بالزنى فهنا لا يجوز أن تطيعه؛ لأن هٰذا معصية عند كل أحد، طيب إذا كان معصية عندك وليس معصية عند غيرك؟ يعني من مسائل الاجتهاد فهل تطيع أو لا تطيع؟ الجواب: تطيع؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف، فإذا كان حكم الحاكم القاضي في المحكمة يرفع الخلاف في قضية من القضايا، قد يقضي عليك القاضي بما ترى أنه خلاف الصواب، لكن قضاء القاضي يرفع الخلاف، فكيف بما هو حكم لمن هو أعلى من القاضي وهو ولي أمر المسلمين؟ فإذا حكم ولي أمر المسلمين بحكم ترى أنت أنه معصية والمسألة من مسائل الخلاف، فيجب عليك طاعته ولا إثم عليك؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف، وهٰذه من المسائل المهمة التي يقع السؤال عنها.
فقوله رحمه الله: (وَنَرَى طَاعَتَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ ﷻ فَرِيضَةً، مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ). إذا كانت المعصية عامة فلا إشكال في أنه لا طاعة لأحد في معصية الخالق.
أما إذا كانت المعصية مما فيه اجتهاد واختلاف فالواجب الطاعة، ويمكن أن يعتذر الإنسان ويترخص ممن أمره بالأمر بأنه لا يرى هٰذا، أو أنه يرى أنه معصية، فإن أُذِنَ له فالحمد لله، وإن لم يُؤْذَنْ له فوجب عليه أن يطيع.
يقول رحمه الله: (وَنَدْعُو لَهُمْ بِالصَّلاحِ وَالْمُعَافَاةِ)؛ لأن الدعاء بالصلاح والمعافاة ليس خيره خاصّاً بهؤلاء، بل خيره في هؤلاء الذين هم ولاة الأمر وللأمة؛ لأن صلاحهم من صلاح الأمة؛ ولذلك ورد عن السلف كالإمام أحمد رحمه الله قوله: لو علمت أن لي دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان؛ لما يترتب على صلاحه من صلاح الأمة، وبعض الناس يبخل بالدعاء على ولاة الأمر، ويظن أن هٰذا من الحكمة، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو جهل؛ لأن صلاحهم صلاح للأمة، ولذلك ينبغي للمؤمن أن يجتهد في الدعاء لهم، وليس هٰذا فقط في الأدعية العامة، يعني كالخطب وغيرها، بل حتى في الدعاء الخاص، فإنه من أسباب صلاح الأمة، ومن أسباب خروجها من البلايا.
نقف على هٰذا، والله تعالى أعلم.
¹
شرح
العقيدة الطحاوية
لفضيلة الشيخ
الدرس السادس عشر
www.almosleh.com
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى :
(وَنَتَّبِعُ السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَنَجْتَنِبُ الشُّذُوذَ وَالْخِلافَ وَالْفُرْقَةَ. وَنُحِبُّ أَهْلَ الْعَدْلِ وَالأَمَانَةِ، وَنُبْغِضُ أَهْلَ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ. وَنَقُولُ: اللَّهُ أَعْلَمُ فِيمَا اشْتَبَهَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ. وَنَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، كَمَا جَاءَ فِي الأَثَرِ. وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ مَاضِيَانِ مَعَ أُولِي الأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، لا يُبْطِلُهُمَا شَيْءٌ وَلا يَنْقُضُهُمَا).
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال المؤلف رحمه الله: (وَنَتَّبِعُ السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ). هٰذا عقد أهل السنة والجماعة وبيان مسلكهم العملي أنهم أهل اتباع للسنة، فهم يعظمون سنة النبي ﷺ :بها يستمسكون، وعنها يصدرون، وإليها يتحاكمون، وبها يفصلون ويقوّمون الأقوال والأعمال، فمصدرهم سنة رسول الله ﷺ ، ما صح منها وثبت فإنه حاكم على أقوالهم وأعمالهم وآرائهم وكل شأنهم، كما قال الله جل وعلا: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)﴾([386]). فأهل السنة من أخص الناس التزاماً بسنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لا يردونها ولا يعارضونها ولا يتأولونها تأويلات باطلة، بل يقبلون ما صح في سنة النبي ﷺ ، ويرجعون إليه، ولذلك وصفوا بهٰذا الوصف ولا يوصف به غيرهم.
قال: (وَالْجَمَاعَةَ). وهٰذا بيان خاصية أخرى من خصائص أهل السنة والجماعة أنهم أهل اجتماع، وسُموا بالجماعة لأنهم يتبعون الجماعة، والجماعة هي الحق ولو كان الإنسان وحده، وليس المقصود بالجماعة الكثرة، فإن الكثرة ليست دالة على الحق في كل الموارد، بل قد قال الله جل وعلا: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ﴾([387]). وقال جل وعلا: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (8)﴾([388]). وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)﴾([389]). فالمقصود بالجماعة جماعة أهل الحق، أنهم أهل إجماع فيعتدون بالإجماع، أهل اجتماع على من ولاه الله الأمر من المسلمين، فلا خروج عندهم ولا منابذة، أهل اجتماع على الحق وهو ما كان عليه سلف الأمة في القرون المفضلة، هم الجماعة الذين من انحاز إليهم انحاز إلى الحق واتصف بهٰذا الوصف، وليس الجماعة هم الأكثر في كل زمان، بل هو ما كان عليه أهل الصدر الأول والسلف الصالح: الصحابة أولاً، ثم تابعوهم، ثم تابعو تابعيهم، أهل القرون المفضلة الثلاثة الذين قال فيهم النبي ﷺ: ((خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)).([390]) هؤلاء هم أهل الجماعة، فمن اجتمع إليهم وانحاز لهم فهو على الحق ولو كان وحده، لا يضره التوحد في متابعة السلف الصالح.
المهم أن الجماعة يصدق عليها الأخذ بالإجماع، أو تصدق بالأخذ بالإجماع.
وأيضاً الاجتماع على ولاة الأمر وعدم الخروج عليهم.
الثالث: موافقة ما كان عليه سلف الأمة في القرون المفضلة.واضح هٰذا؟
طيب، يقول: (وَنَجْتَنِبُ الشُّذُوذَ وَالْخِلافَ وَالْفُرْقَةَ). وكل هٰذا ناشئ عن التفريط في اتباع السنة والجماعة، فكل من فرط في اتباع السنة وفي الأخذ بالجماعة، فإنه يقع في إحدى هٰذه الخلال الثلاث المذمومة: الشذوذ وهو الانفراد ولكنه ليس الانفراد بمعنى التوحد على الحق، لا، الشذوذ الخروج عن الصراط المستقيم. (وَالْخِلافَ وَالْفُرْقَةَ) والفرقة هي مفارقة الجماعة، وقد جعل النبي ﷺ مفارقة الجماعة سبباً مما يستباح به الدم، بل كل من سعى في تفريق المؤمنين فإنه يستحق أن يقتل، كما قال النبي ﷺ: ((إذا جاءكم أحد وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائناً من كان)).([391]) وهٰذا يدل على أن كل من سعى في الفرقة بين المسلمين وفي اختلال اجتماعهم فإنه من أهل الفرقة الذين يستحقون هٰذه العقوبة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولاشك أن الاختلاف وقع بعد الصحابة، بعد الصحابة رضي الله عنهم، الخلاف في العمليات واقع في زمنهم رضي الله عنهم، بل حتى في زمن النبي ﷺ بينهم فيما لم يعلموا فيه قولاً عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لكن الخلاف المذموم هو الاختلاف الذي فيه المخالفة لهدي السلف الصالح، ولما كان عليه هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الاعتقاد، هٰذا الذي يذم صاحبه، كذلك تقصد مخالفة النبي ﷺ فيما علم الإنسان أنه فعله أو قوله أو هديه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وقد حذر النبي ﷺ من الاختلاف، فقال في وصيته: ((فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)). ثم وجه إلى المخرج من هٰذا الاختلاف، فقال: ((فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)).([392]) ووصفهم بالوصفين الدالين على المسوغ للاتباع: الرشد والهداية، الرشد ضد الغي، والهداية ضد الضلال، وبهما يسلم الإنسان من الزيغ والانحراف.
ثم قال رحمه الله: (وَنُحِبُّ أَهْلَ الْعَدْلِ وَالأَمَانَةِ، وَنُبْغِضُ أَهْلَ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ). نحب المقصود بالمحبة هنا المحبة العبادية، بمعنى أننا نتعبد لله جل وعلا بمحبة أهل العدل والأمانة، وأهل العدل هم أهل الإسلام، أهل السنة والجماعة، الذين اجتمعوا على الحق. ويخرج بقوله: (أَهْلَ الْعَدْلِ) أهل البغي وأهل البدعة، أما أهل البغي فهم الذين يخرجون على الحكام، سواء كان خروجهم بمسوغ أو بغير مسوغ، فهؤلاء ليسوا أهل عدل، وكذلك يخرج من قوله رحمه الله: (وَنُحِبُّ أَهْلَ الْعَدْلِ ) أهل البدعة، فإن أهل البدعة ليسوا أهل عدل، ولو كانوا أهل عدل لما عدلوا بسنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم شيئاً.
قال رحمه الله: (وَنُبْغِضُ أَهْلَ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ). أي أهل الظلم، وقد يجتمع في الإنسان عدل وظلم، وهٰذا متصور وموجود، فالواجب في مثل هٰذا أن يحبّ الإنسان لما معه من العدل والاستقامة والأمانة، وأن يُبغض لما معه من الجور والخيانة، فيعامل الإنسان بما تقتضيه حاله من هذين الأمرين.
(وَنَقُولُ: اللَّهُ أَعْلَمُ فِيمَا اشْتَبَهَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ). وهٰذا فيه بيان ما عليه أهل السنة والجماعة من رد العلم إلى عالمه، وأنهم لا يقولون ولا يعتقدون إلا ما ظهر لهم من الكتاب والسنة وما فهموه، وما اشتبه عليهم علمه مما في الكتاب والسنة لم يدخلوا فيه بآرائهم وتأويلاتهم، لا سيما فيما يتعلق بالله ﷻ ، بل يردون العلم إلى عالمه، فيردون علم ما اشتبه واختلط ولم يتبين ولم يتضح، يردونه إلى عالمه وهو الله جل وعلا.
هٰذا هو سبيلهم، وهٰذه هي طريقهم، وهي طريق النجاة والسلامة.
ثم قال رحمه الله في بيان ما عليه أهل السنة والجماعة: (وَنَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ). (وَنَرَى) أي نعتقد (الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ) أي مشروعيته. والمسح على الخفين ليس من مسائل الاعتقاد، إنما هو من مسائل العمل، وإنما ذكره المؤلف رحمه الله لأن ترك المسح على الخفين صار علامة على فرقة من فرق المبتدعة، فارقوا بها أهل السنة والجماعة، وهم الرافضة، فإنهم لا يرون المسح على الخفين، مع أن الأحاديث في ذلك متواترة، والأدلة في ذلك مستفيضة.
فذكر المؤلف رحمه الله هٰذه المسألة الفقهية العملية في مسائل الاعتقاد لتمييز أهل السنة والجماعة عن غيرهم، فقال رحمه الله: (وَنَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ). يعني نرى مشروعية ذلك والعمل به في السفر والحضر؛ لثبوت ذلك عن النبي ﷺ كما قال المؤلف: (كَمَا جَاءَ فِي الأَثَرِ). والمراد بالأثر هنا معناه العام الذي يشمل الأحاديث النبوية، وإلا فالأثر يطلق في الغالب على غير قول النبي ﷺ بمفهومه الخاص، وأما مفهومه العام فيشمل كل ما جاء وأثر عن النبي ﷺ وعن غيره، وقد ثبت عن النبي ﷺ بما لا شك فيه أن المسح على الخفين مما يتعبد الله جل وعلا به، وقد جاء في القرآن ما يشير إلى ذلك في القراءة المتواترة في قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ﴾([393]). استدل بعض العلماء رحمهم الله بهٰذه القراءة على مشروعية المسح على الخفين -بقراءة الكسر-، فالمسح على الخفين ثابت وهو مما نقل نقلاً متواتراً، وعرفنا سبب إدخال هٰذا في كتب الاعتقاد: أنه شعار لبعض أهل البدعة المخالفين لأهل السنة والجماعة.
ثم قال رحمه الله: (وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ مَاضِيَانِ مَعَ أُولِي الأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ). فرغ مما يتعلق بالصلاة فيما مضى في قوله: (وَنَرَى الصَّلاةَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ). ثم ذكر ثاني ما يحصل به الاجتماع، وما لا يمكن أن يكون إلا باجتماع، فقال: (وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ مَاضِيَانِ). الحج أي فريضته، وهو الحج مع الأمراء والأئمة، والحج والجهاد كذلك أي مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، فأهل السنة وَالجماعة يَرَوْنَ إِقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْجُمَعِ وَالأَعْيَادِ مَعَ الأُمَرَاءِ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا. تقدم الكلام على الصلاة، وأتى المؤلف رحمه الله بما يتعلق بالحج والجهاد قال: (مَاضِيَانِ مَعَ أُولِي الأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ). يعني مع ولاة الأمر من المسلمين، ماضيان لا ينقطعان، ومن رأى أن الجهاد لا يكون وانتهى فإنه مخطئ، كما تقول الرافضة: لا يكون الجهاد إلا مع الإمام المعصوم، بل الجهاد ماضٍ مع كل ولي من ولاة أمر المسلمين، وكذلك الحج باق وماض مع كل ولي من ولاة أمر المسلمين، قال: (بَرِّهِمْ) أي مستقيمهم وعدلهم (وَفَاجِرِهِمْ) أي من لم يكن على صراط الاستقامة والهداية، قال: (إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ). قال: (لا يُبْطِلُهُمَا شَيْءٌ وَلا يَنْقُضُهُمَا) بل هما ماضيان كما قال رحمه الله إلى قيام الساعة.
ثم قال:
(وَنُؤْمِنُ بِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَهُمْ عَلَيْنَا حَافِظِينَ.
وَنُؤْمِنُ بِمَلَكِ الْمَوْتِ، الْمُوَكَّلِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ.
وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ لِمَنْ كَانَ لَهُ أَهْلاً،
وَسُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فِي قَبْرِهِ عَنْ رَبِّهِ وَدِينِهِ وَنَبِيِّهِ، عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
وَالْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ).
طيب، يقول رحمه الله: (وَنُؤْمِنُ بِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ). تقدم أن من الإيمان، الإيمان بالملائكة، فالإيمان بالملائكة من أركان الإيمان، تقدم الكلام في ذلك، المؤلف رحمه الله أعاد البحث في الإيمان بالملائكة، لكنه ليس بحثاً عامّاً، بل ذكر الإيمان ببعض الملائكة، ونحن ذكرنا أن الإيمان بالملائكة يكون الإيمان بأن الله جل وعلا خلقهم من نور، وأنه أوكل إليهم من المهام الشيء الكثير، وأنه سمى لنا بعضهم، وأنهم خلق من خلق الله عظيم، وأنهم أجسام، لكن الله جل وعلا أغناهم عن الأكل والشرب، وسخرهم للعبادة والخدمة، فهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون. وقولنا: إنهم أجسام المراد بذلك أنهم أعيان، وليسوا كما يقول الفلاسفة: إنهم خيالات لا حقيقة لها، ولكنهم أعيان الله أعلم بحقيقتها، أعيان خُلقت من نور.
يقول رحمه الله: (وَنُؤْمِنُ بِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ). هٰذا ذِكر الإيمان بنوع من الملائكة، وهٰذا النوع مما جاء وصفه في القرآن وفي السنة، والملائكة يذكرون في القرآن والسنة إما بالأعمال أو بالأشخاص.
ممن ذُكر بالأعمال- يعني ذُكر على وجه ذكر عمله لا على وجه ذكر عينه- الملائكة الكاتبون الحفظة، وهم المشار إليهم في قول المؤلف: (وَنُؤْمِنُ بِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ)كما قال الله جل وعلا: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11)﴾([394]). فهم كرام على الله جل وعلا: ﴿كَاتِبِينَ﴾ أي أعمال بني آدم، فهم يكتبون عنهم كل شيء، ومنه قول الله جل وعلا: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)﴾([395]) يسجل ويقيد ما يكون منه.
يقول: (فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَهُمْ عَلَيْنَا حَافِظِينَ). أي يحفظون أعمالنا، ويقيدون ما يكون منا، فكل ما يكون من الإنسان من قول أو عمل فإنه مرصد مقيد، له ملائكة يسجلونه ويحفظونه، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (29)﴾([396]). فالملائكة تكتب كل ما يكون من بني آدم، وهؤلاء ملائكة متعددون وليس ملكاً واحداً، كما قال النبي ﷺ: ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، يجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر)).([397]) هؤلاء الملائكة مهمتهم حفظ ما يكون من الإنسان. يقول: (وَنُؤْمِنُ بِمَلَكِ الْمَوْتِ، الْمُوَكَّلِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ). أيضاً هٰذا ذكر لجنس من الملائكة، وذكرهم بعملهم، ولم يصح في اسم الملك الموكل بالموت حديث، بل ما روي من أنه عزرائيل هٰذا مما ينقل في أحاديث ضعيفة وفي كلام بني إسرائيل، وليس في ذلك ما يستند إليه ويعتمد عليه في هٰذه التسمية.
وملك الموت ذكره الله جل وعلا في قوله: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾([398]).
وقال سبحانه وتعالى في توفي الملائكة: ﴿حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ (61)﴾([399]) .فأضاف التوفي إلى رسل، ومن هٰذا قال جماعة من العلماء: إن ملك الموت ليس واحداً، بل هو متعدد؛ لأن الله جل وعلا ذكر توفي الرسل: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾([400]). فجعل التوفي لمجموع وليس لواحد، فذهب بعض العلماء إلى أن ملك الموت ليس واحداً، بل هو عدد كما دلت عليه الآيات التي فيها أنّ التوفي يكون من جماعة.
وكذلك قالوا -أي في مسألة تعدد ملك الموت-، قال جماعة من العلماء: إن ملك الموت واحد وله أعوان.
وكلا القولين محتمل، وفي حديث البراء بن عازب ما يشير إلى أنه واحد له أعوان، وذلك أن النبي ﷺ لما ذكر الاحتضار -احتضار الإنسان- ذكر أن ((الملائكة ينزلون ويجلسون منه مد البصر))- هٰذا في حال الاحتضار- ((ثم يأتي ملك الموت فينزع روحه، فتأخذها الملائكة، لا تدعها في يد ملك الموت طرفة عين)).([401]) فدل هٰذا على أن الذي يباشر النزع واحد.
وقال آخرون: بل هم متعددون. كما قال أصحاب القول الأول، ويدل لذلك قول الله جل وعلا: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا﴾([402]). فـ﴿النَّازِعَاتِ﴾ هم جماعات الملائكة الذين ينزعون أرواح بني آدم، ونزع الروح حالان:
إما نزع بشدة، كحال أهل الفسق والكفر والشرك والمعصية.
أو بيسر كقوله تعالىٰ: ﴿وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا﴾. كما ذكر النبي ﷺ: ((فتخرج روحه كخروج القطرة من في السقاء))([403]) في وصف خروج روح المؤمن.
بخلاف روح المنافق فإن روحه تتفرق في بدنه، وتنزع من كل عضو كما ينزع السفّود من الصوف المبلول، في إخراجه عناء ومشقة.
المراد أن ملك الموت اختلف فيه العلماء على قولين:
القول الأول: أنه واحد له أعوان.
والقول الثاني: أن ملك الموت متعدد وليس واحداً.
ولكلا القولين ما يشهد له، وعلى كل حال التحقيق هل هو واحد أو متعدد يحتاج إلى تأمل وطول نظر، لكن ما تبين لي شيء في هٰذا.
ثم قال: (وَنُؤْمِنُ بِمَلَكِ الْمَوْتِ، الْمُوَكَّلِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ). (أَرْوَاحِ) جمع روح، والروح خلاف البدن، فالإنسان مكون من روح وجسد، الجسد هو ما يدركه النظر، وأما الروح فهي أمر خفي اختلف العلماء في تعيينه وبيان حقيقته، ولم يقفوا في كنه الروح على شيء، بل ليس فيما يتعلق بالروح أكثر مما دلت عليه النصوص من أن الروح عين تصعد وتهبط وتُقْبَض وتُبْسَط، هٰذا أكثر ما جاء في بيان حقيقة الروح، لكن الروح ليست كما يقول الفلاسفة عرضاً بل هي عين؛ لأن النبي ﷺ أخبر عنها بأخبار تدل على أنها تبصر وتقبض وتبسط ويعرج بها ولها تعلق بالبدن، أما كيفية تعلقها بالبدن فإننا لا نقف في ذلك على شيء، حقيقة كيفية الروح أيضاً لا نقف في ذلك على شيء، إلا ما ذكره الله جل وعلا في قوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾([404]). أي من مأمور ربي جل وعلا، فهي من الأمور التي قدرها الله جل وعلا، ليس فيها ما يعرف أكثر مما جاءت به النصوص، ومن طلب أكثر مما جاءت به النصوص فإنه لا يقف في حقيقة ذلك على شيء.
ثم قال رحمه الله: (وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ). أي ونؤمن بعذاب القبر (لِمَنْ كَانَ لَهُ أَهْلاً) أي لمن كان له مستحقّاً.
والقبر المقصود به ما يكون بعد الموت وقبل البعث من نعيم وعذاب، هٰذا المقصود بالقبر، وليس المقصود أن العذاب لا يكون إلا في القبر، بل يكون العذاب في القبر وفي غير القبر، فكل ميت يموت قُبر أو لم يقبر فإنه إما في نعيم أو عذاب، إما في تنعيم أو تعذيب، لا يخلو أحد من الموتى من هٰذا.
فقوله: (وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ). يعني العذاب الذي محله القبر والقبر هو مدفن الموتى، وأضيف العذاب إلى القبر لأنه محله في الغالب، ولكنه لا يقتصر عليه.
قال: (لِمَنْ كَانَ لَهُ أَهْلاً) أي مستحقّاً، ولم يبين المؤلف رحمه الله من هم أهل عذاب القبر، وذلك أن عذاب القبر له أسباب توجبه: من أسبابه الشرك والكفر، وهٰذا لا إشكال فيه، قال الله جل وعلا: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)﴾([405]). فذكر الله جل وعلا عذابهم في فترة قبل البعث وقبل يوم القيامة. وقال I: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ ﴾([406]). وقيل:إن العذاب الأدنى هو عذاب القبر، العذاب الذي يكون في البرزخ. وقال I: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾([407]). وهٰذا الإدخال بعد موتهم، ومعلوم أن الدخول الذي يكون مستقرّاً دائماً متوعداً به أهل الكفر لا يكون إلا بعد البعث، وهٰذا دخول مباشر بعد الإغراق، فهٰذا الذي يكون في البرزخ.
عذاب القبر غالبه على الروح، وقد يلحق البدن شيء من ذلك، لكن الغالب فيما يكون من عذاب القبر ومن نعيمه إنما هو للأرواح.
نقف على هٰذا، ونكمل إن شاء الله تعالى في الدرس القادم.
¹
شرح
العقيدة الطحاوية
لفضيلة الشيخ
الدرس السابع عشر
www.almosleh.com
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ لِمَنْ كَانَ لَهُ أَهْلاً، وَسُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فِي قَبْرِهِ عَنْ رَبِّهِ وَدِينِهِ وَنَبِيِّهِ، عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أجمعين.
وَالْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ).
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال المؤلف رحمه الله: (وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ لِمَنْ كَانَ لَهُ أَهْلاً) هٰذه معطوفة على قوله: (وَنُؤْمِنُ بِمَلَكِ الْمَوْتِ). وهٰذا المقطع من هٰذه الرسالة فيه ذكر ما يعتقده أهل السنة والجماعة فيما يتعلق باليوم الآخر، وتقدم لنا أن اليوم الآخر هو كل ما أخبر الله سبحانه وتعالى به ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما يكون بعد الموت، ومن أول ما يكون بعد الموت ما أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من العذاب والنعيم الذي يكون للناس في قبورهم، فإن الناس في قبورهم معذبون أو منعمون.
يقول رحمه الله: (وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ لِمَنْ كَانَ لَهُ أَهْلاً). أي نؤمن بعذاب القبر، (لِمَنْ كَانَ لَهُ أَهْلاً) أي لمن كان له مستحقّاً، واكتفى بذكر عذاب القبر؛ لأنه محلّ إنكار من أنكر من المعتزلة وأشباههم الذين أنكروا عذاب القبر، وعذاب القبر ثابت ثبوتاً لا مرية فيه، والكلام في العذاب والنعيم.
وقد دلت الأدلة على عذاب القبر ونعيمه.
أما الكتاب ففيه من الأدلة ما تقدم ذكر بعضها، من ذلك قول الله جل وعلا: ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ ثم قال: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾ فهم أنّ ما قبل وهو العرض قبل قيام الساعة ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)﴾([408]). وأما السنة فإن الأحاديث في عذاب القبر متواترة لا ينكرها إلا منكر، فأدلة ثبوت عذاب القبر في السنة مستفيضة، قد بلغت حد التواتر، واشتهر ذلك عند الصحابة اشتهاراً لا يمكن إنكاره، ففي كلامهم مما يدل على إيمانهم بأن القبر محل للعذاب والنعيم ما لا يمكن دفعه، ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ). فقول المؤلف رحمه الله: (وَعَنِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) ليس فيه أن ثبوت ذلك إنما كان عن طريق الصحابة؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كسائر الأمة يتلقون عن النبي ﷺ، وليس قولهم حجة، لكن إجماعهم حجة، أي ليس قول أحدهم حجة، إلا من جعل النبي ﷺ قوله متبعاً وجعل له سنة متبعة، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، الخلفاء الراشدين المهديين، فإن لهم من الخصوصية ما ليس لغيرهم، لكن قوله رحمه الله: (وَعَنِ الصَّحَابَةِ) أي إن هٰذا الأمر تُلُقِّيَ عن الصحابة تلقياً مستفيضاً حتى صار مجمعاً عليه عندهم، فهو كما لو قال: على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله ﷺ وأجمعت عليه الأمة، فإنه قد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على نعيم القبر وعذابه.
ومن ينكره إنما ينكره بعقله، ليس له دليل، وليس له مستند يعتمد عليه في نفي العذاب والنعيم في القبر.
واعلم أن العذاب والنعيم في القبر غالبه على الروح، وقد ينال البدن من ذلك شيء، دليل أن البدن يناله من التعذيب والتنعيم شيء ما جاء في ضمة القبر، وأن القبر ينضم على صاحبه حتى تختلف أضلاعه، فدلّ ذلك على أن البدن يناله مما ذُكر في القبر من نعيم وعذاب، وهٰذه الضمة كتبها الله على كل أحد: ((لو سلم منها أحد لسلم منها سعد بن معاذ)) ([409]) كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والعذاب في القبر ينقسم إلى قسمين: عذاب دائم لا انقطاع له، وهٰذا عذاب أهل الكفر والشرك، وقد يكون لبعض أهل المعاصي، وهم من عظمت ذنوبهم واشتدت خطاياهم، أما دليل دوامه فقول الله جل وعلا: ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ إلى متى؟ ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾([410]). فدل ذلك على أن هٰذا العرض وهٰذا العذاب مستمر بهم، ويدل له أيضاً حديث ابن عباس في الصحيحين في القبرين اللذين مر النبي ﷺ عليهما ثم قال: ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستنزه -في رواية:-لا يستتر من البول)) ([411]). وهٰذا في عقوبة أهل المعاصي، لأنه إنما ذكر معصيتين، ولو كان عندهما شرك أو كفر لاستقل بالذكر، ولما كانت هٰذه المعاصي موجبة لهٰذا العذاب الدائم، لكن فيما يظهر أنهما قبرا رجلين مسلمين. على كل حال الشاهد في الحديث أن النبي ﷺ أخذ جريدة رطبة فوضعها على القبر، ثم لما سئل عن ذلك قال: ((لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)). فدل ذلك على استمرار العذاب، وأن ما جرى ببركة وضع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هٰذه الجريدة الرطبة هو مجرد تخفيف لا رفع.
وأما القسم الثاني من العذاب فهو العذاب المنقطع الذي يكون لأهل السيئات والمعاصي، فيعذبون بقدر ما يكون معهم من السيئات.
ثم هٰذا التعذيب الذي يكون في القبر -نسأل الله السلامة منه- يخفف به عن أهل الإيمان وأهل التوحيد، فلا يؤاخذون بسيئاتهم يوم القيامة، ويكون ما نالهم من عذاب القبر مكفراً لهم حاطّاً لسيئاتهم وخطاياهم، كما أن التنعيم والتعذيب في القبر متفاوت تفاوتاً عظيماً لا يدرك حَدُّهُ، وذلك بتفاوت أعمال الناس في الصلاح والفساد، في الحسنة والسيئة.
ثم قال رحمه الله: (وَسُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فِي قَبْرِهِ عَنْ رَبِّهِ وَدِينِهِ وَنَبِيِّهِ). نؤمن بسؤال منكر ونكير، وهٰذه هي الفتنة التي تكون لأهل القبور، وهي فتنة عظيمة، ليست في السهولة كسهولة قراءتها ومطالعتها وسماعها، إنما هي فتنة عظيمة، ولذلك كان من السؤال المتردد: ((اللهم إني أعوذ بك من فتنة القبر)).([412]) فمن فتنة القبر ما يكون من سؤال منكر ونكير، وقد جاء ذلك -أي الدلالة على هٰذا السؤال- جاء في السنة مستفيضاً متواتراً، فسؤال منكر ونكير لصاحب القبر جاءت به السنة وبلغ حد التواتر، فلا سبيل لإنكاره، ومن ينكر عذاب القبر ينكر السؤال، وسؤال منكر ونكير بينه المؤلف رحمه الله: (عَنْ رَبِّهِ وَدِينِهِ وَنَبِيِّهِ). فالسؤال والفتنة مدارها على هٰذه الأشياء الثلاثة: يسأل عن ربه، وعن دينه، وعن نبيه.
وقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في هٰذه الفتنة: هل هي لكل الأمم، أو لهٰذه الأمة؟ والظاهر أنها لكل الأمم، وكل أمة تسأل عن نبيها.
واختلفوا في الأنبياء: هل تنالهم هٰذه الفتنة أو لا؟ والصحيح أنهم لا يسألون؛ لأنهم هم المسؤول عنهم.
واختلفوا فيمن لا عقل له، أو من لم يكلف كالصغار والمجانين: هل يسألون أو لا؟ على قولين لأهل العلم.
المراد أنه وقع الخلاف في بعض الناس، ولكن ثبوتها للمكلفين من غير الأنبياء والشهداء أمر متفق عليه.
ومما اختلف فيه أهل العلم تسمية الملكين، فالمؤلف رحمه الله ذكر اسمين لملكين كريمين: منكر ونكير، وقد اختلف العلماء في ثبوت هٰذه التسمية، مع اتفاقهم على الفتنة، وأن الذي يتولاها ملكان، والأمر في هٰذا سهل.
فمن العلماء من قال: إنه لم يثبت حديث يستند إليه في تسمية الملكين، فنؤمن بأنهما ملكان تجري على أيديهما الفتنة دون تعيين لاسميهما.
والصحيح أن هذين الاسمين ثابتان كما في الترمذي وفي صحيح ابن حبان بسند لا بأس به، فهٰذه التسمية ثابتة لهذين الملكين: منكر ونكير، ولا غرابة في هذين الاسمين، فهٰذان الاسمان لا يتضمنان قدحاً في الملكين؛لأن منكر ونكير باعتبار ما يفجأ الإنسان في قبره، فلهما من المنظر ولهما من المخبر في السؤال ما ينكره الإنسان ويزعج قلبه ويفزعه، فلذلك سميا بهذين الاسمين، وليس قدحاً لهما، ولا يتضمن هٰذا الاسم ذمّاً لهذين الملكين الكريمين.
وقوله رحمه الله: (وَسُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فِي قَبْرِهِ) كقوله: (بِعَذَابِ الْقَبْرِ) لا يختص هٰذا بالقبر، ولكن لما كان غالب ما يجري من سؤال منكر ونكير والعذاب في القبور التي هي مدافن الموتى أضيف العذاب والسؤال إليهما، لكن من لم يدفن أو من احترق أو من أكلته السباع أو من غرق في البحار، هل يجري له ما ذكر؟ الجواب: نعم، يجري له ما ذكر من العذاب إن كان مستحقّاً للعذاب، ومن النعيم إن كان مستحقّاً للنعيم، كذا يجري له ما ذكر من سؤال منكر ونكير.
ثم قال رحمه الله: (وَالْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ). هٰذا فيه انقسام الناس في القبور إلى منعم ومعذب، القبر أي مدفن الموتى (رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ) والروضة تطلق في لغة العرب على ما كثر ماؤه وحسنت خضرته واتسع مكانه، فالمكان الفسيح المتسع الذي يكثر ماؤه وخضرته يسمى في كلام العرب روضة، والقبر لا إشكال أنه منزل من منازل الآخرة، يكون فيه من التنعيم ما يصدق عليه أنه روضة من رياض الجنة؛ لأنه إذا مات الإنسان ودفن يرى مقعده من الجنة إن كان من أهل الجنة، ويرى مقعده من أهل النار إن كان من أهل النار، فلذلك كان ما يكون في القبر من التنعيم هو شيئاً مما وعده أهل الإيمان؛ لأنه يعرض له مكانه، وليس في هٰذا أن الجنة تكون في القبر، لكنه يعرض له ما يكون في الجنة من النعيم.
ثم إن الروح ليست ملازمة للبدن، بل هي في الجنة إن كانت من أرواح المؤمنين، وفي سجين إن كانت من أرواح أهل الجحيم نعوذ بالله من الخسران.
وكذلك (أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ) والنار فيها حفر؛ ولذلك قال الله جل وعلا: ﴿وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ﴾([413]) .فالنار فيها حفر، وهٰذا يدلك على أنها ليست مستوية، بل فيها من التنكيل والتنغيص وسوء المآل ما الله به عليم، فإن الطريق في الدنيا الطريق الذي فيه حفر يعافه الإنسان ويكرهه؛ لما فيه من المضار والمشاق، فكيف إذا كانت هٰذه الحفر تلتهب على أهلها؟ نعوذ بالله من الخسران.
والإنسان إذا نظر إلى ما أخبر الله به ورسوله مما يكون بعد الموت من النعيم والعذاب حمله ذلك على الاستكثار من الطاعات والتخفف من السيئات؛ لأنه لا بد أن يرد هٰذا المورد، فهٰذا المورد كل سيرده، ولكن نسأل الله أن يكون وروداً مستقيماً وصدوراً إلى جنة عدن.
ثم قال رحمه الله:
(وَنُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ وَجَزَاءِ الأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْعَرْضِ وَالْحِسَابِ، وَقِرَاءَةِ الْكِتَابِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ).
يقول رحمه الله: (وَنُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ وَجَزَاءِ الأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). (نُؤْمِنُ) نعتقد مقرين منقادين قابلين ما جاءت به النصوص من الخبر بالبعث، والبعث هو الإحياء بعد الإماتة، وهٰذا البعث لا ينكره مؤمن، بل من أنكره فهو كافر، وقد أقام الله جل وعلا من الأدلة في كتابه وفي سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما يدل عليه دلالة واضحة، وكل من أنكر البعث فإنه كافر بالله رب العالمين، ولم يذكره المؤلف رحمه الله، هٰذه العقائد ليست لتمييز عقائد أهل الإسلام عن أهل الكفر، فلماذا ذكر المؤلف رحمه الله البعث في جملة ما يعتقده أهل السنة والجماعة؟ ذكر ذلك ليرد على المنحرفين من الفلاسفة المنتسبين للإسلام الذين يقولون: إن البعث ليس بعثاً للأجساد، إنما هو بعث للأرواح فقط، وأما بعث الأجساد فليس كائناً ولا واقعاً.
إذاً ذكر البعث في جملة اعتقاد أهل السنة والجماعة ليرد على من أنكر بعث الأجساد وهم الفلاسفة الذين قالوا: إن ما أخبرت به الأنبياء إنما هو تخييل. يعني وهْم ليس له حقيقة، خيال، وإلا فالبعث لا يكون للأبدان، إنما يكون للأرواح، وعلى هٰذا ابن سينا ومن سار في طريقه من المتفلسفة المنتسبين للإسلام، فإنهم ينكرون البعث الذي أخبرت به الرسل من بعث الأرواح والأبدان، والذي تعاد فيه الأرواح إلى الأجسام، ويقوم فيه الناس لرب العالمين حفاةً عراةً غرلاً، وهٰذا يدل على أن البعث للجسد والروح، وبهٰذا البعث يكتمل اقتران الأرواح بالأبدان؛ لأن اقتران الأرواح بالأبدان متفاوت:
ففي الدنيا الحكم للبدن، والروح تابع.
وفي البرزخ الحكم للروح، والبدن تابع.
وفي الآخرة يكمل اقتران الروح بالبدن: فما يكون من نعيم للبدن ينال الروح منه نفس النصيب، وكذلك العكس؛ لكمال الاقتران بين الأرواح والأبدان يوم القيامة.
يقول: (وَنُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ) هٰذا البعث ما حكمته؟ ما غايته؟ ما المراد منه؟ ما ذكره رحمه الله في قوله: (وَجَزَاءِ الأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). أي ونؤمن بجزاء الأعمال؛ لأن البعث ليس لمجرد البعث، بل هو للجزاء؛ ليلقى الإنسان مقابل عمله، فقول المؤلف رحمه الله: (وَجَزَاءِ الأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). الجزاء في اللغة هو الغنى والكفاية، وهو ما يكون مقابل العمل، وقوله رحمه الله: (الأَعْمَالِ) جمع عمل، والعمل يطلق على العمل الصالح والعمل السيئ: ﴿مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾([414])، ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾([415]).فالعمل يطلق على العمل الصالح والعمل السيئ، والغالب في العمل أن يكون مقترناً بنية، خلافاً للفعل، فالفعل قد لا يكون بنية، ولذلك لم يذكر الله جل وعلا في كتابه الإثابة على الأفعال، إنما الإثابة للأعمال، والعمل يصدق على العمل الظاهر والعمل الباطن والقول وعمل الجوارح، كل هٰذا يصدق عليه أنه عمل. جزاء الأعمال أي ثوابها ومقابلها:الإساءة بمثلها،والإحسان بفضل الله الواسع العظيم. (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يعني يوم يقوم الناس لرب العالمين، سمي يوم القيامة بهٰذا الاسم لماذا؟ لأنه تقوم فيه الأبدان لرب العالمين، قال الله جل وعلا: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)﴾([416]).وأيضاً سمي بيوم القيامة لأنه يقوم فيه الأشهاد، فالأشهاد يقامون ويشهدون، ولأنه أيضاً تقام فيه الموازين، فيوزن فيها الأعمال والعمّال كما سيأتي.
إذاً (جَزَاءِ الأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ثم قال: (وَالْعَرْضِ). أي ونؤمن بالعرض، والعرض هنا فسره بعض العلماء بالعرض على رب العالمين، كما قال الله جل وعلا: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ(18)﴾([417]). وكقوله تعالىٰ: ﴿وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا﴾([418]). فالناس يعرضون على الله جل وعلا؛ بل الخلق كلهم يعرضون يحشرون إلى رب العالمين، فيقضي الله جل وعلا فيهم ما يشاء.
وقيل: العرض هنا هو ما يكون لأهل الإيمان من عرض أعمالهم عليه دون محاسبتهم عليها، فيعرض على المؤمن ما يكون من عمله، ولا يؤاخذ على السيئات، بل يقرر بما كان منه من عمل دون مؤاخذة، ومنه قول النبي ﷺ: ((من نوقش الحساب عذب)). فقالت عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها مستشكلة قوله تعالىٰ: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)﴾([419]): كيف هٰذا وقد قلت: من نوقش الحساب عُذب؟ فقال لها النبي ﷺ : ((إنما ذلك العرض)).([420]) يعني يعرض عليه عمله الصالح فيسر به، ويعرض عليه عمله السيئ الذي لم يتب منه، أما ما تاب منه فإن التوبة تهدم ما كان قبلها -وهٰذا من فضل الله ورحمته-؛ لأنه إذا وقع الإنسان في سيئة ثم تاب منها لم تعرض عليه وكأنه لم يفعلها، تمحى من كتابه، فضل الله واسع، لكن ما لم يتب منه من الذنوب يعرض عليه، فيقول له الرب جل وعلا، والعرض عرض خفي، ليس عرضاً معلناً، بل ((يدنيه الله جل وعلا)) كما في صحيح مسلم ((ويضع عليه كنفه -أي ستره- ويقرره بذنوبه، ثم يقول: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم)).([421]) وهٰذا فضل الله، نسأل الله من فضله.
يقابل هـٰذا حال الكافر الذي يشاد بعمله، يشاد أي يعلن وينادى بعمله السيئ على رؤوس الخلائق، فقوله: العرض يحتمل هٰذا ويحتمل هٰذا. ثم قال: (وَالْحِسَابِ). يعني ونؤمن بالحساب، والحساب هو المحاسبة مأخوذ من المحاسبة، والمحاسبة أصلها مأخوذ من العد والإحصاء، والمراد بالمحاسبة ما يكون من المناقشة وما يكون من العرض، فإن العرض يطلق عليه الحساب ،كما قال الله جل وعلا: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)﴾([422]).فإذا قلنا: نؤمن بالعرض أي العرض الذي يكون لجميع الخلائق على رب العالمين: ﴿وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا﴾([423]) وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على عرض الخلق على الله عز وجل.
فيكون الحساب هنا شاملاًُ لنوعين:
الحساب الذي هو الموازنة بين الحسنات والسيئات.
والحساب الذي هو العرض للسيئات دون المؤاخذة بها.
والحساب الذي بمعنى الموازنة لا يكون إلا لأهل الإسلام،أما أهل الكفر فإنه لا توزن حسناتهم، بمعنى أنها لا توزن أعمالهم كموازنة الأعمال التي فيها حسن وسيئ؛ لأنه لا حسنات لهم. قال الله جل وعلا: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا (23)﴾([424]). وإنما الحساب المضاف إلى أهل الكفر حساب العرض لأعمالهم السيئة وتوبيخهم عليها وتقريرهم بها وتقريعهم بها، هٰذا الذي يكون من الحساب للكفار.
أما حساب الموازنة بين الحسنات والسيئات فلا يكون لأهل الكفر؛ لأنه لا حسنات لهم فتوزن، بل قال الله جل وعلا: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا (23)﴾.([425])
الحساب نؤمن به بمعنى الموازنة بين الحسنات والسيئات، وهٰذا لأهل الإسلام، ونؤمن به أيضاً بمعنى العرض، وهٰذا يكون لأهل الإحسان، وبمعنى عرض التوبيخ والتقريع، وهٰذا لأهل الكفر.
ثم قال رحمه الله: (وَقِرَاءَةِ الْكِتَابِ). أي نؤمن بقراءة الكتاب، فكل إنسان يقرأ كتابه يوم القيامة، قال الله جل وعلا: ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)﴾([426]). وقد ذكر الله جل وعلا انقسام الناس في قراءة الكتاب: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤوا كِتَابِيهْ (19)﴾،([427]) ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ (26)﴾([428]) لما فيه من السوء والعذاب الذي يسوؤه يوم القيامة، نسأل الله السلامة.
نؤمن بقراءة الكتاب؛ لدلالة الكتاب والسنة على ذلك.
قال: (وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ). وهٰذا يعقب ما تقدم، الثواب والعقاب مرتب على العرض والحساب وقراءة الكتاب، ولذلك أهل اليمين -نسأل الله أن نكون منهم- إذا أخذوا كتبهم فرحوا بذلك فرحاً عظيماً حتى أن أحدهم يقول: ﴿هَاؤُمُ اقْرَؤوا كِتَابِيهْ﴾([429]). أي خذوا أو هلموا اقرؤوا كتابي، وهٰذا يا إخواني له نظير في الدنيا: ما يحصله الناس من الشهادات على دراساتهم وأعمالهم، إذا كانت الشهادة حسنة والتفوق فيها ظاهراً تجده يبرزها عند كل أحد، يرغب أن يقرأ كتابه، وإذا كانت الأخرى أخفاها وسترها، نسأل الله فوز الآخرة.
(وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ). أي يوم القيامة، ويكمل الثواب والعقاب بالاستقرار في الجنة أو النار.
ثم قال رحمه الله: (وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ). أي نؤمن بالصراط والميزان، والصراط فِعال كَكِتاب، فعال بمعنى مفعول، وهو ما ضربه الله جل وعلا من الجسر على جهنم، فالصراط هو الجسر المضروب على متن جهنم، متن جهنم يعني ظهرها، ومن هٰذا نعلم أن المرور على الصراط لا يلزم منه دخول النار، بل هو ورود كما قال الله جل وعلا في قوله: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾([430]) لكن الورود لا يلزم منه الدخول.
وهٰذا الصراط ورد في وصفه أنه أدق من الشعر وأحد من السيف وأحر من الجمر، وورد في وصفه أنه دحض مزلّة.
والأصل في الصراط أنه الطريق المتّسع، وعلى كل حال هو جسر على متن جهنم لا يضرّ دقته وحِدَّتُه أهل الإيمان، كما أنه لا ينفع سعته -إذا قيل بسعته- أهل العصيان؛ لأن الناس سيرهم في ذلك الموقف وفي هٰذا الاجتياز على حسب الأعمال، ليس على حسب سعة الطريق وضيقه.
والناس متفاوتون في اجتيازهم هٰذا الصراط: فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح الشديدة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً،ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم من تخطفه الكلاليب، نسأل الله السلامة والعافية.
وهٰذا التفاوت العظيم في السير هو بتفاوت الناس في سيرهم إلى الله جل وعلا في هٰذه الدنيا، فبقدر ما مع الإنسان من العلم النافع والعمل الصالح بقدر ما يحصل له من السرعة، فمطايا الناس يوم القيامة أعمالهم: ((من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)).([431]) فمن أخره عمله لم ينفعه شيء، وإنما ذكر النسب لأن النسب يمشي مع الإنسان،يكون معه يوم القيامة، فإنه ينسب إلى أبيه حتى في القيامة، أما المال والمنصب والجاه فكله يزول، فذكر النسب في الحديث: ((من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه))؛ لأن النسب باقٍ مع الإنسان حتى وهو في النار-نسأل الله السلامة والعافية- بمعنى أنه ينسب إلى أبيه، فهٰذا الذي بقي معه يوم القيامة وهو نسبته إلى قبيلته أو إلى أهله أو إلى أبيه أو إلى عشيرته لا تنفعه يوم القيامة، إذا لم يكن له عمل صالح يجوز به. ثم قال: (وَالْمِيزَانِ). أي ونؤمن بالميزان، والميزان اختلف العلماء -رحمهم الله- هل هو واحد أو متعدد؟ بعد اتفاق أهل السنة والجماعة على أن الميزان ميزان حقيقي له كفتان يزن الله بهما الأعمال، ودلت الأدلة أنه توزن السجلات، وأنه يوزن العمال، فالوزن ورد أنه للعمل وهٰذا هو الأصل، وورد أنه للسجلات الحاوية للأعمال، وورد أنه للعمال أي للعاملين، كما قال النبي ﷺ في ابن مسعود لما ضحك الصحابة من دقة ساقيه، قال: ((إنهما أثقل في الميزان من جبل أحد)).([432]) وهٰذا الثقل ثقل الأعمال، وأما الكفار فقال الله جل وعلا عنهم: ﴿فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)﴾([433]). فيأتي الرجل العظيم من أهل الكفر وزناً وثقلاً في الدنيا لا يقيم الله له وزناً في ذلك الموقف؛ لأن الوزن في حقيقته للعمل.
وقد أنكر الميزان المعتزلة وأشباههم حيث قالوا: الميزان كناية عن العدل، فالمراد بالميزان في قوله تعالىٰ: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾([434]) الميزان هو العدل، وهم في هٰذا كاذبون محرفون للقرآن.
نقف على هٰذا، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
¹
شرح
العقيدة الطحاوية
لفضيلة الشيخ
الدرس الثامن عشر
www.almosleh.com
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ، لا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلا تَبِيدَانِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ قَبْلَ الْخَلْقِ، وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلاً، فَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ فَضْلاً مِنْهُ، وَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ عَدْلاً مِنْهُ).
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فقول المؤلف رحمه الله في بيان عقد أهل السنة والجماعة: (وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ). (الْجَنَّةُ) هي دار النعيم الكامل، التي أعدها الله جل وعلا لعباده المتقين، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. (وَالنَّارُ) هي دار العذاب التي أعدّها الله جل وعلا للكفار والمشركين، والعصاة من أهل التوحيد.
(الْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ) أي إنهما مخلوقتان الآن، وهٰذا ما عليه أهل السنة والجماعة، لا خلاف بينهم في ذلك، دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، كما أنه يدل على ذلك العقل، فإن في خلقهما وإعدادهما من الحِكَم ما تقتضيه العقول.
وقد جرى على هٰذا أهل السنة والجماعة وأهل هٰذه الملة، حتى تكلم في ذلك أهل الاعتزال والقدرية الذين قالوا: إنه ليس من الحكمة خلق الجنة والنار؛ لأنه يجب على الله جل وعلا فعل الأصلح، وليس في خلقهما الآن قبل الدخول وقبل مجيء الوقت الذي يصير فيه أهل كل دار إليها حكمة، بل هو عبث، تعالى الله عما يقولون، فأوجبوا عدم خلق الجنة والنار ونفوا أنهما مخلوقتان.
خلق الجنة والنار أمر كما ذكرنا مستقر وظاهر لكل من قرأ الكتاب أو سمع قول النبي ﷺ.
فالله جل وعلا أعد الجنة للمتقين كما قال I: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾.([435])
وأعدّ النار للكافرين كما قال جل وعلا: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)﴾([436]). والإعداد يقتضي التهيئة والوجود.
أما الأحاديث في السنة فهي مستفيضة لا إشكال فيها، والإنسان إذا كان الأمر واضحاً ظاهراً لا يحتاج إلى الإسهاب أو التطويل في ذكر الدليل؛ لظهور ذلك.
ومما يدل على وجودهما في السنة أن النبي ﷺ دخل الجنة ورأى النار صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأُري الجنة والنار وهو في صلاة الكسوف مع أصحابه رضي الله عنهم، ولا يمكن أن يَرى ما لا وجود له، وما قيل: إنه رأى خيالاً ومثالاً، ليس بصحيح؛ لأن الأصل فيما أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه حق على حقيقته، لا مجاز فيه.
المهم أنّ الجنة والنار مخلوقتان معدتان، ولا يلزم من قولنا: إنهما مخلوقتان أن يكون قد تم خلقهما من كل وجه، فإن الله يُحدث فيهما ما يشاء، ولذلك كان قول: (سبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ولا إله إلا الله) غرس الجنة، فدل ذلك على أنها تُهيَّأ وينشئ فيها الله جل وعلا ما يشاء، لكن من حيث الوجود هما موجودتان، وقد يكمل الله سبحانه وتعالى خلقهما على وجه الاستمرار، إلى أن يقضي الله جل وعلا بدخول أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، لكنهما موجودتان، قبل أن يخلق الله جل وعلا الخلق، قبل أن يخلق الإنس والجن، يدلّ لذلك حديث عائشة في صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال لها: ((إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم)) ([437]). فدلّ ذلك على تقدّم خلق الجنة والنار.
ثم إنّ قول المعتزلة: لا فائدة من خلق الجنة والنار، كذب؛ لأنّه وإن كان الدخول دخول الأبدان وتنعّم الأرواح على وجه الكمال لا يكون إلى الجنة إلا في الدار الآخرة وكذلك النار، إلا أنّ الأرواح تدخل الجنة، فإنّ أرواح المؤمنين في الجنة تسرح وتتنعم، وكذلك أرواح كذلك الكافرين في سجين.
فقولهم: (لا معنى) هو من التحكم، والله جل وعلا الحكيم الخبير فعال لما يريد: ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾.([438])
يقول رحمه الله: (لا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلا تَبِيدَانِ). هٰذا أيضاً من عقد أهل السنة والجماعة، أن الجنة والنار لا تفنيان، بل هما باقيتان بقاءً أبديّاً (وَلا تَبِيدَانِ) أي ولا تزولان ولا تهلكان، ولا يجري عليهما زوال أو فناء، بل هما باقيتان بقاءً أبديّاً سرمديّاً، لا خلاف في أن الجنة باقية، فإن هٰذا عقد أهل السنة والجماعة، ولا خلاف بينهم في ذلك.
فإن الله جل وعلا ذكر تأبيد النعيم في آيات كثيرة.
وأما النار فقد ذهب جماعة من السلف من الصحابة ومن بعدهم إلى أن النار تفنى، ولكن الذي عليه جمهور السلف، والذي عليه الأئمة على تعاقب العصور والدهور أنّ النار باقية كالجنة لا تفنى.
وما ورد مما ظاهره عدم تأبيد النار تقضي عليه النصوص التي ذكر فيها التأبيد، فإن الذين قالوا: إنها لا تبقى بل تبيد وتفنى، من أهل السنة والجماعة استدلوا بأدلة، من ذلك قوله تعالىٰ: ﴿لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً﴾([439]) أي مُدداً طويلة. واستدلوا بمثل قوله تعالىٰ في أهل النار:﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾([440]). في حين أنه قال في الجنة: ﴿إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾([441]) أي غير مقطوع، فهٰذا دل على استمراره وبقائه.
لكن هٰذا وأمثاله مما استدل به من استدل من أهل السنة على أن النار تفنى، لا يتم الاستدلال به، بل هو مفسر بالآيات التي فيها الإخبار بتأبيد النار، وأنها باقية بقاءً لا زوال له.
وقد ذكر الله جل وعلا تأبيد تعذيب النار في ثلاثة مواضع من كتابه: في سورة النساء حيث قال الله جل وعلا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا (169)﴾([442]) فذكر التأبيد: ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا﴾.
وذكر الله جل وعلا التأبيد أيضاً في سورة الأحزاب في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لاَّ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (65)﴾([443]).
وذكر ذلك أيضاً في سورة الجن في قوله تعالىٰ: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً﴾([444]).
فهٰذه ثلاث آيات في القرآن الحكيم تدل على أن النار مؤبدة، فهٰذا التوضيح والتبيين يقضي على ما يوهمه قوله تعالىٰ: ﴿إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾([445])، وعلى قوله: ﴿لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً﴾([446]). ولذلك كان جمهور أهل السنة والجماعة على أن النار لا تفنى ولا تبيد، بل أهلها فيها إلى أبد الآباد.
وأما الجهمية فإنهم قالوا بفناء الجنة والنار، وقالوا: إن الله يُفني الجنة ويفني النار.
وهؤلاء كذّبوا بما دلت عليه النصوص، ولم يوفّقوا إلى خير.
وهناك أقوال أخرى لا داعي للإسهاب بذكرها، ذكرها أهل العلم رحمهم الله في شرحهم وبيانهم لأقوال المخالفين لأهل السنة والجماعة في هٰذه المسألة.
إذاً الذي استقر عليه الأمر من دلالة الكتاب والسنة أن (الْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ، لا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلا تَبِيدَانِ).
ثم قال رحمه الله: (وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ قَبْلَ الْخَلْقِ). المراد قبل الخلق قبل خلق الإنس والجن، وليس أن الجنة والنار هي أول ما خلق الله I، بل الذي دلت عليه النصوص أن الجنة والنار مخلوقتان قبل خلق الإنس والجن.
يقول: (وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلاً). لا إشكال أنه خلق لهما أهلاً من الجن والإنس، ويُنشئ الله جل وعلا يوم القيامة خلقاً فيدخلهم الجنة، أما النار فإنه لا يدخلها إلا من استحق.
قال: (فَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ) من شاء الله جل وعلا (مِنْهُمْ) أي من الخلق (إِلَى الْجَنَّةِ فَضْلاً مِنْهُ). وهٰذا من أحسن ما ذكر المؤلف رحمه الله في هٰذه المسألة، حيث بيّن أن دخول الجنة ليس بعمل الإنسان، بل هو فضل الله جل وعلا، وهٰذا معنى قول النبي ﷺ: ((واعلموا أنه لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة))([447]). فالعمل لا يستقل بدخول الجنة، إنما فضل الله السابق واللاحق هو الذي يؤهل الإنسان لدخول الجنة.
(وَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ) أي من الخلق (إِلَى النَّارِ عَدْلاً مِنْهُ). فالنار لا يدخلها إلا من استحقها: ﴿إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾([448])، ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا﴾ ([449])، ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾([450])، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾([451]). والنصوص الدالة على نفي الظلم تدل على أنه لا يمكن أن يدخل النار أحد إلا ممن استحقها، ويرى أن الله جل وعلا لم يظلمه شيئاً، فهو إذا دخل يؤمن باستحقاقه، وأنه مستحق لأن يكون من أهل النار ومستحق لهٰذا العقاب الذي هو فيه، وإنما يطلبون التخفيف والرحمة: ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ﴾([452]). وأيضاً يستجيرون بالملائكة، ويسألونهم أن يشفعوا لله ﷻ فيقولون: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ﴾([453]). لكنهم لا يقولون: لسنا مستحقين، ظلمنا ربنا بدخولنا، بل يقولون: ﴿غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ﴾([454]). فهم يشهدون على أنفسهم بالدخول واستحقاق الدخول، فلا يدخل أحد النار أبداً إلا وهو من أهلها، نسأل الله ﷻ السلامة منها، ولذلك لا يهلك على الله إلا هالك.
قال رحمه الله: (وَكُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا قَدْ فُرِغَ لَهُ، وَصَائِرٌ إِلَى مَا خُلِقَ لَهُ).
هٰذا من صلة ما تقدّم أن الخَلق يعملون لما فُرغ له بشأنهم، فهم يعملون وفق ما قُدّر لهم كما قال النبي ﷺ لما سئل: ففيم العمل؟ قال: ((اعملوا، فكل ميسر لما خُلق له))([455]). فالله جل وعلا سبق علمه بأهل الجنة وبأهل النار على وجه الكمال، لا نقص ولا زيادة. والناس والخلق كلهم ميسّرون لما خلقوا له، ولذلك قال النبي ﷺ: ((اعملوا، فكل ميسر لما خُلق له)). وقد ذكر الله جل وعلا تيسير الناس إلى ما قُدر لهم في قوله: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾([456]) أي مختلف متنوع: ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)﴾([457]). وهٰذا فيه دعاء الناس إلىٰ العمل، وعدم الاتكال والاعتماد على سابق الكتابة والعلم، فإنه لا علم لأحد ما الذي كُتب له هل هو من أهل الجنة أو من أهل النار؟ فلا حجة لأحد في سابق العلم والتقدير، إنما الحجة لله ﷻ على خلقه، حيث أمرهم ونهاهم، وسهل لهم ومكنهم من الاختيار والعمل.
وهٰذا صلة ما تقدم فيما يتعلق بالجنة والنار، ومدخل لما سيبحثه في المقاطع التالية من الكلام على بعض مسائل القدر.
يقول رحمه الله: (وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مُقَدَّرَانِ عَلَى الْعِبَادِ. وَالاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْمَخْلُوقُ بِهِ، فَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ، وَأَمَّا الاسْتِطَاعَةُ مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْوُسْعِ وَالتَّمَكُّنِ وَسَلامَةِ الآلاتِ فَهِيَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَبِهَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾([458])).
نعم،يقول رحمه الله: (وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مُقَدَّرَانِ عَلَى الْعِبَادِ). لا شك في هٰذا، وقد مرت الآيات الدالة على ذلك كقوله تعالىٰ: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾([459]). فكل شيء في الكون مخلوق لله جل وعلا من خير أو شر، لا يخرج عن تقدير الله جل وعلا شيء من شؤون الخلق، بل الجميع تحت قهره وقدرته وخلقه سبحانه وتعالى.
وهٰذا الذي ذكره من تمام الإيمان بالقضاء والقدر؛ لأن النبي ﷺ ذكر في أصول الإيمان لما سُئل عن الإيمان قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره))([460]). والقدر لا شك أن فيه خيراً وفيه شراً، لكن إعلم أن الشر الذي في القدر ليس هو فعل الرب جل وعلا، بل فعل الله جل وعلا خير لا شر فيه، إنما هو في المقدور المقضي المخلوق.
ثم إن الشر في المقدور المقضي المخلوق شر نسبي ليس شرّاً محضاً.
يقول رحمه الله بعد ذلك: (وَالاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ ). هٰذا من فروع ومسائل القدر، الاستطاعة، يقول: (وَالاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْمَخْلُوقُ بِهِ، فَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ، وَأَمَّا الاسْتِطَاعَةُ مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْوُسْعِ وَالتَّمَكُّنِ وَسَلامَةِ الآلاتِ فَهِيَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَبِهَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ). يشير المؤلف رحمه الله إلى اختلاف الناس في الاستطاعة، والاختلاف هنا بين فريقين- بين المعتزلة القدرية وبين الجبرية الجهمية- في تعريف الاستطاعة، وهٰذا له صلة بمسألة هل يكلف الله جل وعلا الخلق بما لا يطيقون أو لا؟
ننظر إلى الاستطاعة ما هي؟ يقول رحمه الله: (الاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْمَخْلُوقُ بِهِ، فَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ، وَأَمَّا الاسْتِطَاعَةُ) ثم ذكر النوع الثاني من الاستطاعة، فالاستطاعة نوعان:
· استطاعة سابقة للفعل.
· واستطاعة مقارنة للفعل.
الاستطاعة السابقة للفعل هي التي أناط الله جل وعلا بها التكليف. وتعريفها: هي ما يحصل به التكليف أو القدرة على الفعل دون ضرر راجح. كالقيام في الصلاة، والصيام الواجب، الاستطاعة عليه هي أن يقدر الإنسان على فعل هٰذا دون أن يلحقه ضرر راجح، فإن لحقه ضرر راجح فهو غير مستطيع.
هٰذه الاستطاعة، هل هي سابقة للفعل أو ليست سابقة له؟ سابقة للفعل، لا إشكال، ولذلك هٰذا النوع من الاستطاعة لولا هو لما حصل التكليف، فهو مناط التكليف، وهو الذي أشار إليه المؤلف رحمه الله في قوله: (وَأَمَّا الاسْتِطَاعَةُ مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْوُسْعِ وَالتَّمَكُّنِ وَسَلامَةِ الآلاتِ فَهِيَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَبِهَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ). يعني بها يتعلق الأمر والنهي، (الْخِطَابُ) خطاب الشارع بالأمر والنهي. فهٰذا النوع به يتعلق أمر الله ونهيه، وهو المذكور في قول الله تعالىٰ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾([461]).ومنه قول النبي ﷺ لعمران بن حصين: ((صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب))([462]). فهٰذا النوع من الاستطاعة سابق للفعل، وبه يصح الأمر والنهي، وهو الذي يقر به القدرية، وينكره الجبرية، الجبرية ينكرون هٰذا النوع من الاستطاعة، لماذا؟ يقولون: لأنه لا قدرة للعبد على فعل شيء إلا ما أقدره الله عليه، فهم ينفون الاستطاعة. ولذلك هم –الجبرية- وقعوا في أي خلل؟
وقعوا في الخلل في باب الأمر والنهي، فعطلوا الأمر والنهي؛ لأنه لا قدرة للعبد ولا استطاعة، إنما الفعل كله لله، والعبد حركاته إنما هي كحركات المرتعش وكحركات الشجر وكنبض العروق، لا اختيار له فيها ولا أثر.
فهم أنكروا الاستطاعة السابقة للفعل، والذي أقر بها من؟ القدرية الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه.
النوع الثاني من الاستطاعة هو الاستطاعة المقارنة للفعل، وهي بمعنى القدرة عليه، وهٰذا النوع يثبته الجبرية، وينفيه القدرية، فعندهم أن هٰذه القدرة لا تدخل في تقدير الله جل وعلا ولم يعلق الله بها شيئاً عند القدرية.
وأما الجبرية فإنهم يثبتون هٰذا النوع من الاستطاعة.
والذي عليه جمهور السلف والخلف ممن تبع الكتاب والسنة إثبات النوعين من القدرة:
إثبات القدرة السابقة للفعل، وهي المصحّحة للأمر والنهي، وهي التي يتعلق بها الخطاب أمراً ونهياً.
والاستطاعة المقارنة للفعل.
وبهٰذا تجتمع النصوص، ويبطل قول القدرية نفاة خلق الله لأفعال العباد، وقول الجبرية الذين قالوا: لا فعل للعبد ولا قدرة ولا مشيئة، وإنما هو كالريشة في مهب الريح، لا اختيار له ولا قدرة.
قول الله تعالىٰ: ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ﴾([463])، وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا﴾([464]) في سورة الكهف، فهٰذه الآية والتي قبلها نفى الله جل وعلا فيهما الاستطاعة، فما هي الاستطاعة المنفية؟ هل الاستطاعة المنفية هي التي بمعنى القدرة على الفعل السابقة لوجوده؟ الجواب: لا، على قول من فصل القدرة بالسابقة والقدرة المقارنة، فتكون الاستطاعة المنفية هنا هي القدرة المقارنة للفعل: ﴿وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا﴾([465]). والآية الأخرى: ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ﴾([466]). فالاستطاعة المنفية هي القدرة، يعني: ما كانوا يقدرون سمعاً وقت وجوب الاستماع، وما كانوا يستطيعون سمعاً أيضاً وقت الاستماع، فنفى القدرة، لا القدرة التي يحصل بها التكليف، هٰذا على قول من فصّل في القدرة.
وأما قول جمهور السلف، وهو التفسير المشهور عند الأئمة أنّ النفي في الآيتين هو نفي.. ليست القدرة التي يحصل بها التكليف ولا القدرة المقارنة، إنما فيه إثبات مشقة ذلك عليهم؛ لفساد قصودهم وإراداتهم، وانحراف قلوبهم، فأصبحوا -لما في نفوسهم من الفساد، ولما في إراداتهم من الانحراف- لا يستطيعون سماع الحق ولا إبصاره ولا الأخذ به.
أما على قول من يقول بالقدرة المقارنة فإنه يُفسِّر بها قوله تعالىٰ: ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ﴾ ([467]).
ثم اعلم -بارك الله فيك- أن الأدلة دلت على إثبات هذين النوعين من الاستطاعة، وأن الاستطاعة التي تسبق الفعل هي التي يقترن بها التكليف، وهي مناطه، ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (وَبِهَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ) أي التكليف.
نرجع ونقرأ الكلام يقول: (وَالاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْمَخْلُوقُ بِهِ) لأنها ليست منه، إنما من الله ﷻ الذي وفقه إليها (فَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ) يعني مقارنة له، وهي المنفية في قوله: ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ﴾([468]).
(وَأَمَّا الاسْتِطَاعَةُ مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْوُسْعِ) يعني والقدرة (وَالتَّمَكُّنِ وَسَلامَةِ الآلاتِ فَهِيَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَبِهَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ). وأهل السنة والجماعة يثبتون هٰذا وهٰذا.
ثم قال: (وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾([469])). أي إلا ما تسعه وتقدره، وتطيقه، فالتكليف المنفي هنا هو التكليف السابق للفعل، وليس المقارن له.نعم.
ثم قال:
(وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقُ اللَّهِ، وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ.وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلاَّ مَا يُطِيقُونَ، وَلا يُطِيقُونَ إِلاَّ مَا كَلَّفَهُمْ).
طيب. (وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقُ اللَّهِ). تقدمت أدلة هٰذا، وأن أفعال العباد خلق له جل وعلا، لا يخرج عن خلقه شيء، ومع كونها خلقه I فهي كسب العباد، أي مضافة إليهم، وقد أضاف الله جل وعلا الأفعال إلى فاعليها: ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾([470]) وما إلى ذلك من الآيات الكثيرة في القرآن التي يضيف الله جل وعلا فيها الفعل للعبد، فالفعل خلق الله جل وعلا وهو كسب للعبد، له عليه قدرة وله مشيئة، فالعباد فاعلون لأفعالهم حقيقة، وخالقون لأفعالهم حقيقة، وهم وأفعالهم خلق الله جل وعلا، فالعبد ذاته وفعله وصفته كلها خلق لله جل وعلا، وأفعال العبد كسبه، فهو الذي خلقها؛ أي هو الذي فعلها وباشرها بمشيئته وإرادته، تضاف إليه وتنسب حقيقة.
فالعباد فاعلون لأفعالهم حقيقة تُضاف إليهم، لا على وجه المجاز كما يقوله من يقوله، وهي خلق الله جل وعلا لا تخرج عن خلقه، كما قال الله جل وعلا: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾([471]). فأثبت في هٰذه الآية للعبد مشيئةً وفعلاً، فقال: ﴿لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28)﴾([472]). فأثبت مشيئة للعبد وفعلاً للعبد، ثم أخبر أن مشيئة العبد لا تخرج عن إرادة الله ﷻ، بل مشيئته I محيطة بفعل العبد ومشيئته، لا خروج للعبد عن مشيئة الله عز وجل كما قال I: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)﴾. ([473])
وقوله رحمه الله: (وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ) رد على الأشاعرة وعلى الجبرية.
الأشاعرة يقولون قولاً عجيباً في هٰذا الأمر، يقولون: الأفعال خلق للرب كسب للعبد، قيل لهم: ما معنى الكسب؟ قالوا:معنى الكسب أنها تضاف إليه مجازاً، وإلا فإن العبد لا قدرة له على فعله. فهم أثبتوا أنها كسب العبد، ونفوا قدرة العبد على فعل نفسه، فأتوا بقول من أعجب الأقوال.
ولذلك عُدّ هٰذا القول من محالات الأقوال، التي تحيلها العقول، وهي ثلاثة: كسب الأشعري، وطفرة النظام، وأحوال أبي هاشم([474]).
ثم قال رحمه الله: (وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلاَّ مَا يُطِيقُونَ). أي:لم يكلف الله جل وعلا الخلق إلا ما يستطيعون، كما قال الله جل وعلا: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾([475])، وكما قال: ﴿لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا﴾([476]). فأخبر الله جل وعلا بأنه لا يكلف الناس ما لا يطيقون، كما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ: ﴿رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾([477]) ((قال الله جل وعلا: قد فعلت)). كما في صحيح مسلم([478]). فإن الله فعل ما دعا به المؤمنون: ﴿رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾. فدل ذلك على أن الله جل وعلالم يكلف عباده إلا ما يطيقون، يعني إلا ما يستطيعونه ويطيقون حمله.
قال: (وَلا يُطِيقُونَ إِلاَّ مَا كَلَّفَهُمْ). هٰذه الجملة فيها إشكال؛ لأن مفهومها أنهم لا يطيقون إلا ما جرى به التكليف، فالتكليف مساوٍ وموازٍ وقد بلغ المنتهى في الطاقة، وهٰذا ليس بصحيح، بل التكليف دون الطاقة، ويدل لذلك قول الله تعالىٰ: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾([479]). انظر في قوله تعالى: ﴿إِلاَّ وُسْعَهَا﴾. وهٰذا يفيد معنى السَّعة، وأنه ليس في التكليف ما يحصل به على الإنسان ضيق أو حرج، بل التكليف فيه سعة وانشراح، ولا يلحق المكلَّف به ضيق أو حرج، ولذلك نفى الله جل وعلا الحرج في الدين فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾([480]). فنفى الله جل وعلا الحرج، بل أثبت التخفيف في قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾([481])، ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾([482])، ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾([483]). والأدلة في هٰذا كثيرة، بل من أصول الدين نفي الحرج.
ولا يمكن مع هٰذا أن نقول: (وَلا يُطِيقُونَ إِلاَّ مَا كَلَّفَهُمْ). بمعنى أنه لو زاد قليلاً لخرج عن الطاقة، ثم إنه في الواقع أن الإنسان يكلف ما يطيقه، لكن يلحقه به مشقة وهٰذا ليس في الشريعة منه شيء، فمثلاً لو قيل لك: احمل هٰذا الدولاب، تطيق أن تحمله، لكن فيه عليك مشقة وحرج، فهٰذا لا يخرج عن الطاقة، وتكاليف الشريعة في الجملة ليست كهٰذا، إنما تكاليف الشريعة في الجملة هي مما يطيقه الإنسان ولا يلحقه بفعله حرج أو ضيق. وانتبه للسر في قوله تعالىٰ: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾([484]). والوُسع يقتضي السعة والراحة والانشراح.
فهٰذه الجملة المؤلف رحمه الله لعله أراد تأكيد معنى (وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلاَّ مَا يُطِيقُونَ)، لكنه لم يحرّر العبارة، فالعبارة فيها إشكال.
على أن بعضهم قال: (وَلا يُطِيقُونَ إِلاَّ مَا كَلَّفَهُمْ) فسر الطاقة هنا بالقدرة المقارنة للفعل، لكن هٰذا فيه تكلف.
وقد علق شيخنا الشيخ عبد العزيز رحمه الله على هٰذه العبارة بأن فيها نظراً، والنظر ما بيناه وفسرناه.
ثم قال رحمه الله: (وَهُوَ تَفْسِيرُ: "لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ". نَقُولُ: لا حِيلَةَ لأَحَدٍ، وَلا حَرَكَةَ لأَحَدٍ، وَلا تَحَوُّلَ لأَحَدٍ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلاَّ بِمَعُونَةِ اللَّهِ، وَلا قُوَّةَ لأَحَدٍ عَلَى إِقَامَةِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا إِلاَّ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى).
قال رحمه الله: (وَهُوَ تَفْسِيرُ: "لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ"). المشار إليه ما تقدم من تقرير مسائل القدر، ولا شك أن قول: (لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ) من أعظم الأدلة على إثبات القدر، ومن أعظم الأدلة في الرد على القدرية الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه.
لأن معنى قوله: (لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ) ما قاله المؤلف: (نَقُولُ: لا حِيلَةَ لأَحَدٍ). فالحول اسم للتحوّل وهو الانتقال من حال إلى حال، وهٰذا يشمل كل الأحوال: الظاهرة، الباطنة، العامة، الخاصة، لا تحوّل لأحد من حال إلى حال، ولا قوة له على ذلك التحول إلا بالله العلي العظيم، فكل حركة وسكون، كل انتقال وتغيّر، كل تحول فإنه بمشيئة الله وقدرته. لا قدرة للعبد على ذلك مهما أُوتي من القدرة والمكنة والاستطاعة إلا بتقدير الله جل وعلا، لا حيلة لأحد.
يقول: (وَلا حَرَكَةَ لأَحَدٍ، وَلا تَحَوُّلَ لأَحَدٍ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلاَّ بِمَعُونَةِ اللَّهِ، وَلا قُوَّةَ لأَحَدٍ عَلَى إِقَامَةِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا إِلاَّ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ). وهٰذا فيه كمال التفويض لله جل وعلا، وهٰذه الجملة من الجمل التي لا تخصيص لها، العموم فيها على إطلاقه، لا مخصص له. وقد جاء عن النبي ﷺ في فضلها أنها كنز من كنوز الجنة، وذلك لما تتضمنه من تمام الإخلاص والتفويض والإيمان بالله جل وعلا، ولما فيها من الخير العظيم لمن اعتقد معناها، وقرّ في قلبه مقتضاها ومفادُها.
فإنه مما يعين الإنسان على الانتقال من حال إلى حال استحضار هٰذا، ولذلك لها تأثير عجيب في تحمل المشاق، وفي ركوب الأهوال، وفي تحصيل المطالب، ومن لزمها وفِّق إلىٰ خير كثير، ويكفي في فضلها أن النبي ﷺ سماها كنزاً، فقال لأبي موسى: ((ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟))([485]) والكنز اسم لنفيس المال الذي يخفى على الناس نفعه، وهٰذا هو المطابق لهٰذه الكلمة، فإنّ الكنز لا يطلق على المال الظاهر الذي يدركه كل أحد، إنما ما خفي من المال وليس فقط ما خفي، ما خفي وكان نفيساً، فملازمة هٰذه الكلمة من أنفع ما يكون للعبد.
والمقصود من سياق المؤلف رحمه الله لهٰذه الكلمة في هٰذا الموضع هو بيان ما يدل على قوله رحمه الله: (وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقُ اللَّهِ، وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ). فهي مقررة لإثبات القدر.
ثم يقول رحمه الله: (وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، غَلَبَتْ مَشِيئَتُهُ الْمَشِيئَاتِ كُلَّهَا، وَغَلَبَ قَضَاؤُهُ الْحِيَلَ كُلَّهَا، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ أَبَدًا، تَقَدَّسَ عَنْ كُلِّ سُوءٍ وَحَيْنٍ، وَتَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَشَيْنٍ، ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾([486])).
هٰذا فيه تقرير ما تقدم من الإيمان بالقدر، قال رحمه الله: (وَكُلُّ شَيْءٍ) في الكون (يَجْرِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ). ولا يؤمن أحد بالقدر إلا بذلك: أن يؤمن بأن كل شيء بعلم الله وكتابته وخلقه ومشيئته، فلا شيء خارج عن هٰذا.
(غَلَبَتْ مَشِيئَتُهُ الْمَشِيئَاتِ كُلَّهَا). ولا إشكال، قال الله جل وعلا: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ﴾([487]). فمشيئة الله محيطة بمشيئة الخلق.
(وَغَلَبَ قَضَاؤُهُ الْحِيَلَ كُلَّهَا). فإذا لم يقض الله جل وعلا الأمر فمهما احتال عليه المرء فإنه لا يحصّله، لا حول ولا قوة إلا بالله.
(يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ، تقدست أسماؤه (وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ أَبَدًا): ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا﴾([488])، ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً)).([489])
(تَقَدَّسَ) أي تنزه وتطهر وتعالى جل وعلا (عَنْ كُلِّ سُوءٍ) أي عن كل عيب، وعن كل شر (وَحَيْنٍ) وهو في معنى السوء والشر والعيب والظلم.
(وَتَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَشَيْنٍ) فلا شيء مثله تقدست أسماؤه، سبحانه وبحمده، ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾. بل من سأل الله: لم فعلت كذا؟ فقد اعترض على الرب جل وعلا: ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾.
وإذا اجتمع في قلب العبد هٰذه المعاني سَلِم من كل ما يمكن أن يعرض له في باب القدر، وأحسن المؤلف رحمه الله حيث ختم ما يتعلق بمسائل القدر في هٰذا المقطع بنفي الظلم عن الرّب جل وعلا، ونفي لحوق العيب والسوء والشين والحين له سبحانه وتعالى، ثم قال: ﴿لا يُسْأَلُ﴾ حتى يقطع اعتراض المعترضين ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾.
وقد جاء رجل إلى أبيّ بن كعب t فقال: في نفسي شيء من القدر، فحدثني حديثاً يذهب الله به عني ذلك. فقال t مقولة عظيمة تبين عظيم فقه الصحابة y، قال له: إن الله لو عذّب أهل سماواته وأرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، واعلم أنه لو كان لك مثل أحد ذهباً فأنفقته في سبيل الله لم ينفعك حتى تؤمن بالقدر، وأنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك . قال ابن الديلمي -وهو الذي سأل أبي بن كعب-: فسألت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت، كلهم أجابني بمثل ما أجابني أبيّ. وهٰذا الأثر حسن كما قال شيخ الإسلام رحمه الله. ([490])
يدلّ على عظيم فقه الصحابة، وأنه لا سلامة للعبد من لوثات ما يعْلق في قلبه ويلقيه الشيطان مما يتعلق بالقدر إلا باعتقاد كمال عدل الله جل وعلا، وأنه سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئاً.
ومع هٰذا يؤمن بالقدر، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنه جل وعلا لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
ويكفي في هٰذا ما قاله رحمه الله في أول كلامه في القدر: (وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ).
نقف على هٰذا ونكمل إن شاء الله تعالى في الدرس القادم. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، لا حول ولا قوة إلا بالله.
¹
شرح
العقيدة الطحاوية
لفضيلة الشيخ
الدرس التاسع عشر
www.almosleh.com
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(وَفِي دُعَاءِ الأَحْيَاءِ وَصَدَقَاتِهِمْ مَنْفَعَةٌ لِلأَمْوَاتِ. وَاللَّهُ تَعَالَى يَسْتَجِيبُ الدَّعَوَاتِ وَيَقْضِي الْحَاجَاتِ. وَيَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ وَلا يَمْلِكُهُ شَيْءٌ، وَلا غِنَى عَنِ اللَّهِ تَعَالَى طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَمَنِ اسْتَغْنَى عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَقَدْ كَفَرَ، وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الْحَيْنِ. وَاللَّهُ يَغْضَبُ وَيَرْضَى، لا كَأَحَدٍ مِنَ الْوَرَى).
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين،وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فقال المؤلف رحمه الله: (وَفِي دُعَاءِ الأَحْيَاءِ وَصَدَقَاتِهِمْ مَنْفَعَةٌ لِلأَمْوَاتِ).
أولاً بالنسبة لما تقدم من تقسيم الاستطاعة إلى قسمين، نسأل: ما هما القسمان؟ لأن بعض الإخوان تساءل أمس سؤالاً مستشكلاً بعد الخروج، عبد العزيز، نعم وهٰذه([491])هي مناط التكليف في مثل قوله تعالىٰ: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾([492]) وأيضاً الآية التي ذكرت تدل لكن تلك أوضح، أيضاً.
الاستطاعة المقارنة للفعل، وهي التي يوجد بها الفعل.
فمثلاً أمر الله جل وعلا بإقامة الصلاة في قوله: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾. هٰذا الأمر هل يوجه لغير المستطيع؟ في الأصل: لا؛ لأن التكاليف كلها مناطها الاستطاعة: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾([493])، ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾([494]). هٰذه الاستطاعة الأمر متوجّه إلى المستطيع، وهي التي أناط الله بها التكليف، الاستطاعة المقارنة هي التي يسهلها الله للعبد وقت امتثال الأمر، عند صلاته، وقد فسر جماعة من العلماء قول الله تعالىٰ: ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ﴾([495]) بهٰذا النوع، أي الاستطاعة التي يوجد بها الفعل، استطاعة التنفيذ التي يحصل بها الفعل، وذكرنا لكم أن عامة المفسرين من السلف والخلف على أن الاستطاعة المنفية في هٰذه الآية وأشباهها هي عدم قدرتهم على سماع الآيات؛ لما في نفوسهم من الفساد، وهٰذه القدرة ليست القدرة التي يحصل بها التكليف، إنما أن نفوسهم تأبّت عليهم مع أنهم قادرون عليها، والإنسان قد يريد الشيء ويقدر عليه لكن تمنعه نفسه من فعله، فيكون غير مستطيع من جهة امتناع النفس لا من جهة عدم التحمل والقدرة على الفعل، وهٰذا تفسير عامة المفسرين لقول الله تعالىٰ: ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ﴾([496]). ويمكن أن يفسر بالتفسير الثاني الذي ذكرنا، وهو أنهم لم يوفقوا للسماع الذي ينتفعون به.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (وَفِي دُعَاءِ الأَحْيَاءِ وَصَدَقَاتِهِمْ مَنْفَعَةٌ لِلأَمْوَاتِ). هٰذه المسألة صلتها بكتب الفروع أوثق منها بكتب الاعتقاد، لكن ذكرها المؤلف رحمه الله ردّاً على من قال بـأنه لا ينتفع الأموات من عمل الأحياء بشيء، وهٰذا تكذيب لما أجمعت عليه الأمة من وصول نفع بعض الأعمال إلى الأموات، فإن الأمة أجمعت على أن الدعاء ينتفع به المدعو له حيّاً أو ميتاً وهو ليس من سعيه ولا من عمله، إنما من عمل غيره، وقد وقع الخلاف في بعض الأعمال هل ينتفع بها الأموات أو لا؟ كالصدقات وأشباهها، فذكر المؤلف لهٰذه المسألة في كتب الاعتقاد لبيان ما يعتقده أهل السنة والجماعة من انتفاع الأموات بدعاء الأحياء وصدقاتهم، ردّاً على من نفى ذلك مطلقاً من القدرية وغيرهم، حيث قالوا: لا ينتفع الإنسان بعمل غيره مطلقاً، وهٰذا تكذيب لما دلت عليه النصوص من ثبوت أصل الانتفاع.
أما تفاصيل الانتفاع فإن في ذلك خلافاً بين أهل العلم:
فمنهم من يرى أن الميت لا ينتفع بغير الدعاء، وأما العمل فإنه لا ينتفع منه الميت، بل هو لصاحبه؛لقول الله تعالىٰ: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (39)﴾([497])، وما أشبه ذلك من الآيات التي فيها نفي ملك الإنسان لعمل غيره.
ولكن الصحيح في هٰذه المسألة الفروعية أن الإنسان ينتفع بعمل غيره دعاءً وصلاةً وزكاةً وحجّاً وغير ذلك من أعمال البر، وليس في الآية ما يدل على امتناع النفع، وقد جاء ما يدل على انتفاع الإنسان بصدقة غيره وبحجه وبصومه، وكذلك بقية العبادات؛ لعدم المانع؛ لأن النبي ﷺ في هٰذه المسائل كلها سئل فأجاب بالانتفاع والجواز، فدل ذلك على أن كل الأعمال -أعمال البر- كذلك، فإنه ينتفع بها الميت وتصل إليه.
وأما آية ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (39)﴾([498]). فإنها لا تدل على عدم انتفاع الإنسان بسعي غيره، إنما تدل على أن الإنسان لا يملك إلا سعي نفسه، ثم إذا ملك سعي نفسه فإن له أن يتصرف فيه بما شاء من هبته لغيره، فالآية ليس فيها قطع انتفاع الإنسان بعمل غيره، بل فيها أنه لا يملك إلا سعي نفسه: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾ له ملكاً وانتفاعاً، فإذا وهب ملكه ونفعه لغيره فهو له، ولا يمنع من ذلك، ودلت الأدلة على جواز هٰذا.
قال رحمه الله: (وَفِي دُعَاءِ الأَحْيَاءِ وَصَدَقَاتِهِمْ مَنْفَعَةٌ لِلأَمْوَاتِ) خصّ الأموات بالانتفاع مع أن الانتفاع في الدعاء يكون حتى للأحياء؛ لأن الغالب في ذلك يكون للأموات، ولأن الصدقات تكون في الغالب للأموات، والسؤال الذي وجه للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورد عن الصدقة للميت وكذلك الحج وكذلك الصوم، فالنصوص وردت في الأموات، ولا يمنع أن ينتفع الأحياء من ذلك، لكن ذكر ذلك لأنه محل الخلاف.
ثم إن الخلاف في الأحياء أشدّ بين أهل العلم، فإن من العلماء من يرى أن الحي لا ينتفع بعمل غيره مطلقاً، وإن كان يجيز أن ينتفع الميت بذلك.
والصحيح أن كل عمل صالح يفعله الإنسان يهديه إلى حي أو ميت فإنه يصل إليه، وليس في النصوص ما يدلّ على منع ذلك، وأما قول النبي ﷺ: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث)). فهٰذا أيضاً ليس فيه الدليل على ما ذهب إليه بعض العلماء، بعض الناس من أن العمل لا يصل إلى الميت من المتقدمين وغيرهم، ومن أهل السنة وغيرهم؛ لأن الحديث فيه انقطاع عمل الإنسان نفسه، وليس فيه قطع انتفاعه بعمل غيره، بل في الحديث ما يشير إلى انتفاعه بعمل غيره في قوله: ((أو ولد صالح يدعو له)).([499]) فدلّ ذلك على أنه ينتفع بعمل غيره، لكن هل يوجه الناس إلى إهداء الأعمال وهبة ثوابها إلى الأموات أو الأحياء؟ الجواب: لا، الأصل في العمل أن يكون للإنسان ما عدا الدعاء، فإن الدعاء ينتفع منه الطرفان: ينتفع منه الداعي، وينتفع منه المدعو له، ولذلك وجه النبي ﷺ إلى الدعاء في قوله: ((أو ولد صالح يدعو له)). أما العمل من الحج أو العمرة أو الصدقة أو غير ذلك فالأولى بها الإنسان، ولا يعني هٰذا أنه لا تجوز الهبة، بل يجوز لكن الجواز مسألة غير الأفضل والذي يوجه إليه الناس، فالذي يوجه إليه الناس أن يعملوا لأنفسهم، وأن يدعوا لغيرهم كما قال النبي ﷺ: ((أو ولد صالح يدعو له)).
ثم قال رحمه الله: (وَاللَّهُ تَعَالَى يَسْتَجِيبُ الدَّعَوَاتِ، وَيَقْضِي الْحَاجَاتِ) جل وعلا. فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وما من داعٍ يدعو الله جل وعلا إلا وهو موعود بالخير، قال الله جل وعلا: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾([500]). فأمر الله جل وعلا بدعائه ووعد بالإجابة، وهٰذا وجه قول المؤلف رحمه الله: (وَاللَّهُ تَعَالَى يَسْتَجِيبُ الدَّعَوَاتِ). لكن تنبه إلى أنه لا يلزم من الاستجابة حصول ما طلبت وما دعوت، فالله جل وعلا عليم خبير وهو سبحانه وتعالى يعلم ما يصلح العبد، فقد يدعو العبد بما يرى صلاحه فيه ويكون صلاحه في عدم حصول مطلوبه، فيكون من الخير والبر والإحسان والفضل من رب العالمين إلى هٰذا العبد أن لا يُحَقق مطلوبه، حتى وإن كان يظن أنه خير ويعتقد أنه صلاح له، فالله عليم خبير لا يقدم لعبده إلا الخير.
ولذلك ما من داعٍ يدعو إلا ويرجع بالثواب والأجر من رب العالمين، هٰذا أولاً.
أما تحصيل مطلوبه وتحقيق دعائه وطلبه فإن هٰذا ليس بلازم، فإن الله سبحانه وتعالى قد يجيبه إلى ما دعا ويعطيه ما سأل، وقد يمنعه ذلك، لكن إن منعه ذلك فإنه لا يخلو من أمرين:
إما أن يدفع عنه من السوء نظير ما دعا.
وإما أن يدخرها له في الآخرة.
ولاشك أنه إن ادخرها له في الآخرة فهو أعظم إحساناً؛ لأن الإنسان في الآخرة أحوج ما يكون إلى الخير، وأحوج ما يكون إلىٰ ما ينفعه.
ولذلك ينبغي للمؤمن أن يحسن الظن بربه، وأن لا يظن بربه إلا الخير، أجيب أو لم يجب، أعطي أو لم يعط، فإن الله سبحانه وتعالى إذا عامله العبد بهٰذا كان الله جل وعلا إليه سريعاً في الخيرات، قريباً في تحقيق المطالب، وهٰذا من تمام التسليم لرب العالمين، أن يسلم العبد لله ﷻ الأمر، وأن يفوض إليه الاختيار جل وعلا في تحقيق الطلب أو عدم تحقيقه، ولا يمنع هٰذا من أن يلح العبد في دعائه وسؤاله وضراعته، وتكرار المسألة، فإن الله I أكثر من العبد، كما قال النبي ﷺ لما ذكر: ما من داعٍ يدعو الله ﷻ إلا كان له إحدى ثلاث خصال:
الخصلة الأولى: أن يعطيه ما سأل.
الثانية: أن يدفع عنه من الشر نظير ما سأل.
الثالثة: أن يدخرها له في الآخرة.
قال الصحابة: إذن نكثر يا رسول الله؟ فقال النبي ﷺ: ((الله أكثر)). أكثر من العبد، شأن الله يا إخواني يختلف، شأن الله أعظم، يتعرض لعباده في المسألة، فينزل جل وعلا -وهو الغني الكريم، وهو المتفضل المحسن على عباده في نزوله، الذي لا حاجة به إلىٰ أحد، هو القيوم الصمد الذي تُنزل به الحوائج: ﴿وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء﴾([501])،((ينزل- إلى السماء الدنيا كل ليلة يقول: هل من داع فأجيبه؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟)). وانظر إلى هٰذا التدرج: حيث يبدأ بالدعاء الذي يشمل كل سائل، كل منادٍ، كل متكلم مع الله جل وعلا، سواء كان بسؤال أو بغير سؤال. ((هل من داع فأجيبه؟)) ثم ما هو أخص ((هل من سائل فأعطيه؟))، ثم ما هو أخص في المسألة ((هل من مستغفر فأغفر له؟)).([502]) وهٰذا كله لبيان سعة الفضل وعظيم المن، وعظيم العناية من رب العالمين بعباده، الله تعالى يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات، لكن ذلك وفق ما تقتضيه رحمته وحكمته، فقد يكون من الحكمة والرحمة أن يمنع الله جل وعلا العبد ما سأل لا بخلاً منه، فالله جل وعلا يداه سحاوان بالخير، ينفق الليل والنهار لا تغيض النفقة ما في يديه شيئاً، فإذا منعك فإنه يمنعك لا بخلاً فهو الغني الحميد، إنما يمنعك إصلاحاً وتربيةً، إذا عامل العبد ربه بهٰذا فإنه سينشرح صدره لما يقع من إجابة أو عدمها، ثم يعلم أن ربه سبحانه وتعالى المقدم المؤخر الذي لا يقدم له إلا الخير ولا يمنع عنه إلا الشر.
قال رحمه الله: (وَيَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ، وَلا يَمْلِكُهُ شَيْءٌ). وهٰذا كالجواب على من دعا فلم يعط، وقطع شبهة البخل التي اتهم اليهود ربَّ العالمين بها، وهو جل وعلا الغني الحميد: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)﴾([503])، ﴿وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ﴾([504]). قال الله جل وعلا: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ﴾ ثم قال: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء﴾([505]) جل وعلا. فالمنع ليس لأنه لا يملك ما تسأل، إنما المنع لحكمة ورحمة، وليس فقط لحكمة، إنما لرحمة أيضاً بالعبد، فإن الله يرحم العبد بمنعه كما أنك ترحم الصغير -ولله المثل الأعلى- بمنعه من الرضاع وهو يبكي ويصيح يريد الرضاع ،لكن ترى أن مصلحته في منعه من الرضاع، فتمنعه لأنه إن شب على الرضاع لم تنفطم نفسه، بل سيبقى على هٰذا الذي لا يقيم بدنه، فإن الرضاع في السنتين الأوليين يقوم به البدن،لكن بعد ذلك إذا استقل بالرضاع واستمر عليه لا يمكن أن يقوم بدنه بمجرد الحليب، فكان من الرحمة أن تمنعه هٰذا، كذلك حال العبد مع ربه، بل الشأن أعظم، فالله جل وعلا أرحم بعبده من رحمة الوالد بولده.
يقول رحمه الله: (وَيَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ). والأدلة على ملك الله ﷻ كثيرة: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾([506])، ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾([507])،﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)﴾([508])،والآيات في هـٰذا كثيرة ﴿لَّهُ مَا فِي السَّمَٰوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾([509]). والآيات في ذكر ملك الله جل وعلا لكل شيء كثيرة.
(وَلا يَمْلِكُهُ شَيْءٌ). لا إشكال، لا يملكه شيء I، بل هو المالك لكل شيء.
قال: (وَلا غِنَى عَنِ اللَّهِ تَعَالَى طَرْفَةَ عَيْنٍ). هٰذا أيضاً فيه الرد على من قال: دعوت فلم يُستجَب لي، فيترك الدعاء ويستحسر كما قال النبي ﷺ: ((يستجاب للمسلم ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)). ([510]) يستجاب أي يحصل له جواب سؤاله: إما بتحقيق المطلوب، أو غير ذلك مما جاءت به النصوص من أوجه الإجابة، فإن من دفع عنه من الشر نظير ما دعا أجيب، ومن ادخر له أجر ما دعا أجيب، فالداعي لا يرجع من رب العالمين إلا بخير، فهو الحيي الكريم الذي يستحيي أن يرد عبده إذا رفع يديه صفراً أي خالياً من الخير، بل لابد أن يرجع بخير .
فقوله: (وَلا غِنَى عَنِ اللَّهِ تَعَالَى طَرْفَةَ عَيْنٍ). لا غنى للعبد مهما كان، حتى إذا لم يجب فإنه لا غنى به عن ربه، يلجأ إليه ويتوسل إليه ويتضرع بين يديه، ويسأله I، ولا أعظم ولا أيسر سبيلاً في الوصول إلى رب العالمين وإلى فضله وإحسانه من باب الافتقار إلى الله جل وعلا، فإن العبد إذا افتقر إلى الله جل وعلا، وأظهر افتقاره إلى ربه، وأيقن أنه ما من ذرة في بدنه إلا وهي مفتقرة إلى الله جل وعلا، كان ذلك من أسباب الخير له.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله كلاماً جيداً في هٰذا أن أحد العبّاد أو العلماء، يقول: أقبلت على الله جل وعلا من أبواب الطاعات كلها، فوجدت على الأبواب الزحام. يعني كثرة من يقبل على الله من هٰذه الأبواب. فلم أسلم من المزاحمة، فولجت باب الافتقار، فوجدت قرب حصول المطلوب مع عدم المزاحمة. فإن كثيراً من الناس يغفلون عن هـٰذا الوصف الذاتي لهم، وهو افتقارهم إلى الله ﷻ.
يقول الشيخ ابن القيم رحمه الله: وكما قال شيخ الإسلام: من رغب في السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية.
السعادة الأبدية الدائمة التي لا تنقطع في الدنيا والآخرة في لزوم عتبة العبودية، نقل عن ذلك عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولزوم عتبة العبودية يحصل للعبد بأي شيء يا إخواني؟ يحصل بكمال الذل لله جل وعلا وغاية الحب له I.
(وَلا غِنَى عَنِ اللَّهِ تَعَالَى طَرْفَةَ عَيْنٍ). لا في ليل ولا في نهار، لا في يقظة ولا في منام، لا في صحة ولا في مرض واعتلال، لا في غنى ولا في افتقار، فالعبد مفتقر إلى الله جل وعلا فقراً ذاتيّاً لا يمكن أن ينفك منه، لكن الناس يغفلون ويظنون أنهم أغنياء عن الله ﷻ بما مكّنهم، والإنسان إذا بُلي بداء الاغتناء وشعر أنه غني عن الله ﷻ حصل منه شر عظيم: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6)﴾ متى؟ ﴿أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (7)﴾([511]) يعني إذا رأى غنى نفسه عن الله، لكن ما دام يرى فقر نفسه إلى ربه جل وعلا فإنه لا يمكن أن يصيبه الطغيان والخروج عن مقتضى العبودية.
يقول رحمه الله: (وَمَنِ اسْتَغْنَى عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَقَدْ كَفَرَ)، والكفر هنا يشمل الكفر الأصغر والكفر الأكبر، لكن الكفر الأكبر يحصل بأن يظن الإنسان ويعتقد أنه لا حاجة به إلى ربه، لاشك أن هٰذا كفر، وهو أعظم الكفر؛ لأنه جحد للربوبية؛ لأن مقتضى الربوبية أن توقن أن كل خير يصل إليك إنما هو من الله جل وعلا. (وَمَنِ اسْتَغْنَى عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَقَدْ كَفَرَ، وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الْحَيْنِ) يعني من أهل الهلاك.
قال رحمه الله: (وَاللَّهُ يَغْضَبُ وَيَرْضَى، لا كَأَحَدٍ مِنَ الْوَرَى). هٰذا فيه إثبات صفات الاختيار، الفعل للرب جل وعلا، وصفات الفعل ثابتة لله سبحانه وتعالى بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، قال الله جل وعلا في وصف نفسه: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾([512]).والله يفعل ما يريد، وأما أفراد الفعل فالأدلة عليها كثيرة:﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء﴾([513]) (يحب من يشاء) يغضب جل وعلا، يعفو، فالأفعال التي أضافها الله لنفسه كثيرة في كتابه:والله يحب المتقين، يحب المحسنين، الآيات التي فيها إثبات صفات الفعل أكثر من أن تحصى،هٰذا الذي فيه التصريح بالفعل، أما ما دلّ على الفعل فهو كثير جدّاً، وكذلك في السنة.
فالله جل وعلا موصوف بصفات الفعل، وضابط صفات الفعل: هي الصفات التي تتعلق بالمشيئة، متى شاء فعل، ومتى شاء لم يفعل، من ذلك الغضب والرضا، الغضب صفة كمال لله ﷻ لا نقص فيها، بل هي من كماله سبحانه وتعالى، فإن من الكمال أن يغضب القادر على من يستحق الغضب، وقد دل عليها قول الله تعالىٰ: ﴿وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ﴾([514]). في حق من قتل مؤمناً متعمداً، ومن أدلة إثبات الغضب قول الله تعالىٰ: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾([515]).
وأما الرضا فالآيات فيه كثيرة، منها قول الله جل وعلا: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾([516]) في حق السابقين الأولين والذين اتبعوهم بإحسان، وقال I: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ﴾([517]) ،والآيات في إثبات رضا الله جل وعلا عن عباده كثيرة :﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾([518]).
(وَاللَّهُ يَغْضَبُ وَيَرْضَى). الغضب والرضا أنكرهما المؤولة المنحرفون عن طريق أهل السنة والجماعة بجميع أصنافهم من أهل الكلام: أنكرهما المعتزلة، وأنكرهما الأشاعرة، فأولوا الغضب والرضا إما بإرادة الثواب والعقاب، وإما بالثواب والعقاب نفسه، فمثبتة الصفات من الأشاعرة ونحوهم قالوا: الغضب والرضا هو إرادة الإثابة وإرادة العقوبة.
وأما المعتزلة فأولوا الغضب والرضا بالثواب والعقاب نفسه، لماذا؟ لأنهم لا يثبتون صفة الإرادة للرب جل وعلا.
قال رحمه الله:
(وَنُحِبُّ أَصْحَابَ رسُولِ الله ﷺ، وَلاَ نُفْرِطُ في حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُم، وَلاَ نَتَبَرَّأَ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُم، وَنُبْغِضُ مَنْ يُبْغِضُهُم، وَبِغَيْرِ الحَقِّ يَذْكُرُهُم، ولا نَذْكُرُهُم إِلاَّ بِخَيْرٍ، وَحُبُّهُم دِينٌ وإيمَانٌ وإحْسَانٌ، وَبُغْضُهُم كُفْرٌ ونِفَاقٌ وطُغْيَانٌ).
يقول رحمه الله: (وَنُحِبُّ أَصْحَابَ رسُولِ الله ﷺ).
س/ يقول هـٰذا: باسم الله، شيخنا لو قال قائل معترضاً على قول هٰذا الذي وجد مزاحمة في باب الطاعات: إن الله لا يشغله شيء عن شيء، وكأن في العبارة نوع إشكال؟
ج/ لا ما فيه إشكال، المزاحمة لا باعتبار انشغال الله بهم، فالله جل وعلا شأنه أعظم من هـٰذا، لا يشغله شيء عن شيء سبحانه وتعالى، كل يوم هو في شأن، لكن الكلام في كثرة المقبلين على الله في عمل الطاعة، ثم إن هٰذا ضرب مثال لقلة المتوجهين إلى الله ﷻ من هٰذا الباب، قد لا يكون قد رأى باباً وزحاماً عليه، فالله جل وعلا شأنه أعظم من ذلك.
يقول رحمه الله: (وَنُحِبُّ أَصْحَابَ رسُولِ الله ﷺ). نحب، أي أهل السنة والجماعة يحبون أصحاب النبي ﷺ، والمحبة هنا محبة قلبية، نحبهم محبة قلبية؛ لأنهم الذين نقلوا إلينا الخير، ولأنهم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولأن الله اصطفاهم وخصهم بهٰذه الخاصية والميزة، حيث جعلهم أصحاب رسوله وجعلهم حملة الشرع، ونحبهم لما جرى منهم من الخير للأمة، فإنهم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم لنشر هٰذا الدين، فما من خير وصلنا إلا من طريقهم رضي الله عنهم.
وقول المؤلف رحمه الله: (أَصْحَابَ رسُولِ) أصحاب جمع صاحب، والصحبة تثبت لكل من لقي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، ولو ساعة من نهار. لكن اعلم أن المحبة المذكورة في قوله: (وَنُحِبُّ أَصْحَابَ رسُولِ الله ﷺ) محبة لوصف وهي الصحبة،الوصف هو الصحبة، فكل من تحقق فيه هٰذا الوصف أكثر ازداد نصيباً من المحبة؛ لأن كل الأعمال والأحكام، كل الأحكام والأدلة المعلقة على أوصاف تزداد وتستقر وتثبت بزيادة هٰذا الوصف، فمحبتنا لأبي بكر رضي الله عنه ليست كمحبتنا لبلال، بل محبتنا لأبي بكر أعظم؛ لتحقق الصحبة فيه أكثر من غيره، فمن صحب النبي ﷺ شهراً محبتنا له أعظم ممن صحبه يوماً، ومن صحبه يوماً محبتنا له ممن صحبه ساعةً، فتزداد المحبة بازدياد الوصف وهو الصحبة.
ثم الصحبة تعم كل من صحب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قليلاً أو كثيراً، فليست خاصة بطول المدة، بل هي عامة لكل من صاحب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. (نُحِبُّ أَصْحَابَ رسُولِ الله ﷺ) لأن الله جل وعلا أثنى عليهم في كتابه ثناءً بالغاً في مواضع عديدة، قال الله جل وعلا: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)﴾([519]) .قال الله جل وعلا في ثنائه عليهم: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾([520]) ثم ذكر من وصفهم ما يوجب محبتهم. كذلك قال الله جل وعلا: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾([521]). فأثبت الله جل وعلا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الرضا مطلقاً، وأما تابعوهم فإن الرضا عنهم مقيد بالإحسان، وتأمل الآية، قال الله جل وعلا: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ﴾ ما قيد بإحسان، كفاهم فضلاً سابقتهم، ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾. فجعل الرضا للتابع مقيداً بالإحسان، وأما السابق من المهاجرين والأنصار فإنه قد أثبت لهم الرضا، ويكفي في فضلهم أن الله جل وعلا اطلع على أهل بدر فقال: ((اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)).([522]) وقول النبي ﷺ في أهل بيعة الرضوان: ((لا يدخل النار رجل بايع تحت الشجرة)).([523]) ففضلهم رضي الله عنهم ظاهر، ولذلك استحقوا ما استحقوه من المحبة.
وقول المؤلف رحمه الله: (نُحِبُّ أَصْحَابَ رسُولِ الله ﷺ) يردّ على جميع المنحرفين في صحابة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم -المنحرفين بزيادة أو نقص، بغلو أو جفاء-، فإن أصحاب النبي ﷺ وقع فيهم إفراط وتفريط، غلو وجفاء، ولذلك قال المؤلف رحمه الله في ضبط وتحرير عقد أهل السنة والجماعة، قال: (وَلاَ نُفْرِطُ في حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُم). رد على من؟ على الرافضة الذين غلوا في محبة علي حتى ألّهوه أو ألهه بعضهم.
وقوله رحمه الله: (وَلاَ نَتَبَرَّأُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُم) أيضاً رد على الرافضة الذين تبرؤوا من أبي بكر وعمر، ومن عقائدهم أنه لا ولاء إلا ببراء، لا ولاء لعلي وأهل البيت إلا ببراء ممن؟ من أبي بكر وعمر، بل أهل السنة والجماعة يحبون الصحابة جميعاً بلا استثناء، مع التفاوت في المحبة على ما فصلنا وذكرنا في السابق، لكن المحبة ثابتة للجميع، بخلاف الرافضة الذين سبوا أبا بكر وعمر وسائر الصحابة، وبخلاف النواصب الذين ناصبوا عليّاً العداء، فإن النواصب من الخوارج وممن ناصر بني أمية سبّوا عليّاً وقدحوا فيه رضي الله عنه .
يقول: (وَنُبْغِضُ مَنْ يُبْغِضُهُم). ولا إشكال في هٰذا، فإن من حقهم رضي الله عنهم بغض من أبغضهم وكراهة من كرههم (وَبِغَيْرِ الخَيْرِ يَذْكُرُهُم) كالرافضة وأشباههم، (ولا نَذْكُرُهُم إِلاَّ بِخَيْرٍ). وهٰذا فيه قاعدة فيما يتعلق بالصحابة رضي الله عنهم أنا لا نذكرهم إلا بخير، ومن جملة هٰذا أن لا نتكلم فيما شجر بينهم من الخلاف، فإن ذكر ما شجر بينهم من الخلاف يفضي إلى الوقيعة في بعضهم، وإلى إيغار الصدور عليهم رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وإلى نزول مقامهم ومكانتهم، فقوله: (ولا نَذْكُرُهُم إِلاَّ بِخَيْرٍ) يشمل حفظ اللسان من الكلام فيهم، والكلام فيما وقع منهم من أخطاء، والكلام فيما وقع فيهم من شجار وخلاف، فإنهم رضي الله عنهم إما معذورون فيما ثبت، وإما مجتهدون متأولون.
وأما غالب ما يُنقل فهو كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: فغالب ما يضاف إليهم كذب، وفيه ما زِيد فيه ونُقِص وغُيِّر عن وجهه. يعني صُرف عن الوجه الذي جرى عليه.
فإن من أصول أهل السنة والجماعة سلامة ألسنتهم وقلوبهم على أصحاب رسول الله ﷺ، ومن تمام السلامة أن لا نذكرهم إلا بخير، وقد وقع الكلام في الصحابة منذ العهد الأول، فإن عائشة -رضي الله عنها- نقل إليها أن أقواماً يتكلمون في أصحاب النبي ﷺ، حتى في أبي بكر، فقالت: لا عجب، فإنه قد انقطع عملهم بالموت وأحب الله وصل عملهم بعد موتهم بمن يقع فيهم. فإن الإنسان إذا وقع فيه بغير حق كان ذلك حطّاً لسيئاته وتخفيفاً ورفعاً لدرجاته، ولابد من هٰذا.
يقول رحمه الله: (وَحُبُّهُم دِينٌ وإيمَانٌ وإحْسَانٌ، وَبُغْضُهُم كُفْرٌ ونِفَاقٌ وطُغْيَانٌ). (حُبُّهُم دِينٌ) أي عبادة يتعبد الإنسان بها لله ﷻ (وإيمَانٌ وإحْسَانٌ) أي من خلال الإيمان ومن أعماله، وهو من الإحسان الذي يجازى به أهل الإحسان، فإن إحسان الصحابة إلينا من أعظم الإحسان، حيث إنهم نقلوا لنا الأخبار، وحفظوا لنا سنة المختار صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ونصروا دين رب العالمين. (وَبُغْضُهُم) أي بغض الصحابة في الجملة (كُفْرٌ ونِفَاقٌ وطُغْيَانٌ). ما فيه إشكال أن بغضهم في الجملة كفر؛ لأنه قدح في الشريعة وتكذيب للقرآن (ونِفَاقٌ وطُغْيَانٌ) لأنه إنما وقع هٰذا من أهل النفاق، فإن أول ما جرى هٰذا من المنافقين المندسين في صفوف أهل الإسلام الداعين إلى البدعة والفرقة والشر، كعبد الله بن سبأ (وطُغْيَانٌ) أي تجاوز للحق.
ثم قال رحمه الله: (وَنُثْبِتُ الْخِلافَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَوَّلاً لأَبِي بَكْرٍ). بعد أن فرغ مما يجب لمجموعهم انتقل إلى ذكر ما يتعلق ببعض أفرادهم يقول:
(وَنُثْبِتُ الْخِلافَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَوَّلاً لأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ t تَفْضِيلاً لَهُ وَتَقْدِيمًا عَلَى جَمِيعِ الأُمَّةِ، ثُمَّ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ t، ثُمَّ لِعُثْمَانَ t، ثُمَّ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ t، وَهُمُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالأَئِمَّةُ الْمُهْتَدُونَ([524])).
يقول رحمه الله: (وَنُثْبِتُ الْخِلافَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَوَّلاً لأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ). أبو بكر t هو عبد الله بن أبي قحافة، وهو خير الأمة بعد رسولها صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثبتت له الخلافة بإجماع المسلمين، وقد اختلف العلماء في خلافة أبي بكر t: هل كانت بالنص الجلي، أو بالنص الخفي، أو بالاختيار؟ ولكن من تأمل وجد من النصوص ما يدل على أنه الخليفة بعد رسول الله ﷺ، لكنها ليست نصوصاً صريحة، بل هي نصوص بجموعها تدل على أنه الخليفة بعد رسول الله ﷺ ، بعهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقد أجمعت الأمة على فضله وتقدمه، وأنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأبو بكر ورد له من الفضائل والخصائص ما لم يشركه فيه غيره، بخلاف الفضائل التي ثبتت لغيره، فإنها فضائل يشارك المفضَّل فيها غيره، لا سيما ما يذكره الرافضة في فضائل علي بن أبي طالبt ، فإن الفضائل الثابتة لعلي tليست من الأمور التي يختص بها دون غيره، بخلاف أكثر فضائل أبي بكر، وهٰذه مسألة مفيدة: أن الفضائل التي ثبتت لأبي بكر في غالبها خاصة به، لا يشركه فيها غيره، وكذلك عمر t، لكن نصيب أبي بكر t من ذلك أعظم وأكبر وأكثر.
الخليفة بعد النبي ﷺ أبو بكر الصديق، يقول المؤلف: (أَوَّلاً لأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ t، تَفْضِيلاً لَهُ وَتَقْدِيمًا عَلَى جَمِيعِ الأُمَّةِ). لا إشكال في هٰذا، فهو خير الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(ثُمَّ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ t). وله من الفضائل والخصائص ما لم يشركه فيه غيره،لكن فضائل أبي بكر أعظم وأجل.
(ثُمَّ لِعُثْمَانَ t، ثُمَّ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ t). وترتيب هؤلاء في الفضل ترتيبهم في الخلافة، هكذا استقر عقد أهل السنة والجماعة. ولا خلاف بين أهل السنة والجماعة في تفضيل أبي بكر وعمر، وأن أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما، وقد اشتهر بين الصحابة فضل عثمان- كما ذكر ذلك عبد الله بن عمر في المفاضلة- ولم يذكروا بعد عثمان أحداً. وقد سئل علي بن أبي طالب t كما في صحيح البخاري، سأله ابنه محمد بن الحنفية عن أفضل الأمة بعد نبيها، فقال: أَوَ لاَ تعلم؟ استنكاراً لهٰذا السؤال. قال: لا. قال: أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر. قال: قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر. يقول محمد بن الحنفية: قلت: ثم أنت؟ خشية أن يقول: عثمان. قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين. ([525])
ففضل أبي بكرt وفضل عمر وتقديمهما على سائر الأمة مما حصل عليه الإجماع، ولا خلاف بين أهل السنة والجماعة فيه. الذي وقع فيه الخلاف هو المفاضلة بين عثمان وعلي، لكن الخلاف في المفاضلة لا في الخلافة، بل الخلافة لعثمان بعد عمر t.
وقد نقل عن الإمام أحمد وأيوب السختياني وغيرهما أن من قدّم عليّاً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار؛ لأن المهاجرين والأنصار قدموا من؟ قدموا عثمان t في الخلافة، وتقديم عثمان في الخلافة دليل على تقديمه في الفضل؛ لأنهم أجمعوا على الأفضل، والأفضل هو عثمان t، لكن مسألة المفاضلة يحتمل فيها الخلاف وقد ورد فيها الخلاف.
فالعلماء منهم من فضل عثمان، وهٰذا الذي عليه أهل السنة والجماعة واستقر عليه الأمر.
ومنهم من توقف في التفضيل بينهما.
ومنهم من قدم عليّاً t.
ومنهم من فضل أبا بكر وعمر وتوقف بعد ذلك. ومسألة التفضيل لا تضليل فيها ولا تبديع على الصحيح من أقوال أهل العلم. أما مسألة الخلافة فإن من شك أو طعن في خلافة هؤلاء أو في ترتيب هٰذه الخلافة فهو أضل من حمار أهله كما قال الإمام أحمد رحمه الله ونقل ذلك شيخ الإسلام رحمه الله.
قال: (وَهُمُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ). أي هم الذين قال النبي ﷺ فيهم: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)).([526]) قال: (وَهُمُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالأَئِمَّةُ الْمُهْتَدُونَ). ولو أنه قال: المهديون. لكان أوفق لما وصفهم به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ووصف الرشد والهداية هل هو وصف واحد أو وصفان؟ وصفان: الرشد ضد الغي، والهداية ضد الضلال. والرشد يكون في العمل، والهدى يكون في العلم. كما قال الله جل وعلا: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)﴾([527]). فأثبت له الهداية وأثبت له الرشد؛ لأن نفي الضلال إثبات لأي شيء؟ للهدى، ونفي الغي إثبات لأي شيء؟ للرشد؛ لأن الذي يقابل الرشد الغي، والذي يقابل الهدى الضلال.
ثم قال: (وَإِنَّ الْعَشَرَةَ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ) هٰذه إن شاء الله تعالى نتكلم عليها غداً.
¹
شرح
العقيدة الطحاوية
لفضيلة الشيخ
الدرس العشرون
www.almosleh.com
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(وَإِنَّ الْعَشَرَةَ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَبَشَّرَهُمْ بِالْجَنَّةِ، نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ عَلَى مَا شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَقَوْلُهُ الْحَقُّ، وَهُمْ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدٌ، وَسَعِيدٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَهُوَ أَمِينُ هٰذه الأُمَّةِ y أَجْمَعِينَ.
وَمَنْ أَحْسَنَ الْقَوْلَ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ، وَذُرِّيَّاتِهِ الْمُقَدَّسِينَ مِنْ كُلِّ رِجْسٍ؛ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ).
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين،وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال المؤلف رحمه الله في صلة ما ذكره من عقد أهل السنة والجماعة في أصحاب النبي ﷺ، قال: (وَإِنَّ الْعَشَرَةَ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَبَشَّرَهُمْ بِالْجَنَّةِ، نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ عَلَى مَا شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَقَوْلُهُ الْحَقُّ). أي إن من بشرهم النبي ﷺ بالجنة، وذكر المؤلف رحمه الله واقتصر على العشرة لأنهم أشرف وأعلى وأعظم من بشر بالجنة من هٰذه الأمة، وإلا فالمبشرون بالجنة من هٰذه الأمة الذين بشرهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كثيرون، والبشارة بالجنة جاءت على نوعين:
· بشارة جنس.
· وبشارة عين.
بشارة الجنس هٰذه كثيرة، وهي التي بشر الله بها أهل الإيمان وأهل الإحسان وأهل التقوى.
وأما البشارة الخاصة بمعينين فهي المقصودة بهٰذا المقطع.
فنشهد أن الصحابة y منهم من شهد له النبي ﷺ بالجنة وبشره بها، وأشهر هؤلاء وأعظمهم هم العشرة الذين بشّرهم رسول الله ﷺ بالجنة حيث قال: ((أبو بكر في الجنة، عمر في الجنة، عثمان في الجنة، علي في الجنة، طلحة في الجنة))([528]) إلى بقية العشرة. وهٰذا من أعظم ما خصّ الله به هؤلاء أن عجّل لهم البشرى بالجنة في هٰذه الدنيا، وهٰذا يوجب محبتهم وتوليهم، واعتقاد أنّ الله جل وعلا رضي عنهم، فمن قال: إن أحد هؤلاء في النار فهو كافر؛ لأنه مكذب لما أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
يقول رحمه الله: (وَقَوْلُهُ الْحَقُّ). أي الذي يجب قبوله واعتقاده والتسليم له، فإن الحق ينقاد له المؤمن ولا يرده ولا يعارضه، يقول في بيان هؤلاء العشرة:(وَهُمْ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ). وهؤلاء هم الخلفاء الرّاشدون، الأئمة المهديّون، وجاء في فضائلهم ومناقبهم الشيء الكثير، (وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدٌ، وَسَعِيدٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ). هؤلاء شهد لهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالجنة، وشهد أيضاً ﷺ لغيرهم: كثابت بن قيس بن شماس، وكبلال وغيره. وممن شهد لهم بالجنة أزواجه ﷺ، فإن أزواجه في الدنيا أزواجه في الآخرة، وهو في الجنة فهن في الجنة رضي الله عنهن.
قال رحمه الله: (وَهُوَ أَمِينُ هٰذه الأُمَّةِ). يشير إلى أبي عبيدة بن الجراحt، وخصه بذكر هٰذه الخاصية لأن النبي ﷺ قال: ((لأبعثن عليكم أميناً حق أمين)). يريد أبا عبيدة([529])، وقال: ((أبو عبيدة أمين هٰذه الأمة)). ([530]) ولعل المؤلف ذكر هٰذه الخاصية له إشارة إلى أن هؤلاء قد ورد في فضائلهم ما اختص به كل واحد، أي قد ورد الفضل خاصّاً في كل واحد من هؤلاء، لعله أراد ذلك، ولعله ختمهم بذكر خاصية آخرهم y أجمعين.
قال رحمه الله: (وَمَنْ أَحْسَنَ الْقَوْلَ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ) جميعهم، أي في كل من ثبتت له الصحبة ولو كانت لحظة (وَأَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ) أي وأحسن القول في أزواجه، ووصفهن بالطاهرات؛ لأن الله جل وعلا طهرهن، قال جل وعلا: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)﴾([531]). ولا خلاف بين أهل العلم أن المراد بهٰذه الآية أزواج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهن المقصودات بقوله: ﴿أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ في قوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)﴾. ولا يمنع هٰذا أن يدخل غيرهن، فإن علي بن أبي طالب لا إشكال ولاشك أنه من أهل البيت، كذلك زوجته فاطمة، كذلك الحسن والحسين، فإنهم من أهل البيت بلا ريب ولا شك، ولكن هٰذا لا ينفي أن يكون أزواج النبي ﷺ أيضاً ممن وصف بهٰذا الوصف، بل وصفهن بهٰذا الوصف جاء في القرآن، وأما وصف علي t وفاطمة وغيرهم من أهل البيت بهٰذا الوصف فجاء في السنة.
يقول: (وَذُرِّيَّاتِهِ الْمُقَدَّسِينَ مِنْ كُلِّ رِجْسٍ). وهٰذا ليس ثابتاً لكل ذرية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إنما المقصود من عرف منهم بالتقوى والإيمان، فإنه هو الذي يحسن فيه القول، وأما من استوجب القول السيئ فإنه يثبت له، لكن دون أن ينال من نسبه ولا من اتصاله بالنبي ﷺ، (فَقَدْ بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ). أي سلم من النفاق، وذلك أن من علامات النفاق ودلائله بغض من أحبه الله ورسوله، وبغض الصحابةy ، فهم أعظم هٰذه الأمة وأجلها قدراً وأرفعها مكانة، فمن أبغضهم فإنه منافق، وبالنظر إلى كل من وقع في قلبه بغض لصحابة رسول الله ﷺ يُعلم أن قلبه غير سالم، بل قلبه مشوب بالنفاق.
يقول رحمه الله بعد ذلك: (وَعُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ السَّابِقِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ -أَهْلُ الْخَيْرِ وَالأَثَرِ، وَأَهْلُ الْفِقْهِ وَالنَّظَرِ-، لا يُذْكَرُونَ إِلاَّ بِالْجَمِيلِ، وَمَنْ ذَكَرَهُمْ بِسُوءٍ فَهُوَ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ).
هٰذا من عقد أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم على ورثة الأنبياء، وهٰذا من تمام سلامة قلوب أهل السنة والجماعة، فإن المؤلف رحمه الله ذكر سلامة قلوب أهل السنة والجماعة لأصحاب النبي ﷺ بذكر محبتهم وما لهم من الفضل، ثم ثنّى ذلك بمن لهم الفضل بعدهم وهم علماء السلف (مِنَ السَّابِقِينَ) أي المتقدمين (وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ) أي ومن سلك سبيلهم من التابعين. هؤلاء حقهم أن لا يذكروا إلا بالجميل، لا يذكرون بسوء، بل لا يذكرون إلا بالجميل، فلا تذكر سقطاتهم ولا زلاتهم، بل يذكر خيرهم وإحسانهم وفضلهم، وكل من وقع في هؤلاء بسوء -وذلك بالتنقيب عن أخطائهم، والتفتيش عن زلاتهم، والإشاعة لما خالفوا فيه الدليل- فإنه على غير السبيل، كما قال رحمه الله: (فَهُوَ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ)؛ لأن من كان قاصداًُ الحق عاملاً به داعياً إليه مجتهداً في إصابته، فإنه لا وجه للوقيعة فيه حتى لو أخطأ، فإن الخطأ لا يسلم منه أحد: كل بن آدم خطاء، فالخطأ في الاجتهاد واقع، وقد وقع من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فوقوع الخطأ في الاجتهاد فيما يسوغ فيه الاجتهاد ليس مسوغاً لإيغار الصدور ولا لإطلاق الألسنة في هؤلاء، بل الواجب الشفقة والرحمة، وهٰذا من سمات أهل السنة والجماعة، فإنهم يعظمون الحق ويرحمون الخلق، يعظمون الحق بالدعوة إليه وبيانه وتوضيحه والذبّ عنه ورد الشبه فيه، لكنهم مع هٰذا ليسوا ممن يظلم الخلق، بل هم يرحمون الخلق: فيتطلبون للمخطئ العفو، ويبحثون عن الستر، ويطلبون العذر، ولا يطلقون ألسنتهم ولا أقلامهم في أهل الخير الذين عُرفوا بالخير ولو كان منهم خطأ، لكن لا يعني هٰذا أن لا ينبه على خطأ المخطئ، بل خطأ المخطئ من إنكار المنكر الذي يجب، لا سيما إذا كان الخطأ مما يحصل به إضلال للخلق، أما الأخطاء الخاصة- بأن يخالف أو يقع في معصية صغيرة أو كبيرة- فإن هٰذا ينصح فيما بين الإنسان والمخطئ، أما ما يتعلق بالخطأ العام :كالخطأ في العلم، في التأليف، في القول، فإنه ينبغي أن يناصح، فإن رجع وإلا بُيِّن خطؤه بأسلوب ليس فيه شدة ولا غلظة، بل بأسلوب مليء بالشفقة والرحمة، وهٰذا من دواعي القبول. (وَعُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ السَّابِقِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ) ثم ذكر أصنافهم: (أَهْلُ الْخَيْرِ وَالأَثَرِ، وَأَهْلُ الْفِقْهِ وَالنَّظَرِ). وهم المشتغلون بعلم الحديث والمشتغلون بعلم الفقه (لا يُذْكَرُونَ إِلاَّ بِالْجَمِيلِ). أي بالجميل الحسن الذي يجمل به من ذُكر (وَمَنْ ذَكَرَهُمْ بِسُوءٍ فَهُوَ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ).
ثم قال رحمه الله: (وَلا نُفَضِّلُ أَحَدًا مِنَ الأَوْلِيَاءِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلام، وَنَقُولُ: نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الأَوْلِيَاءِ).
المؤلف رحمه الله في هٰذا المقطع يرد على غلاة الصوفية الذين رفعوا مرتبة الولاية على النبوة، فيقول رحمه الله: (وَلا نُفَضِّلُ أَحَدًا مِنَ الأَوْلِيَاءِ). والأولياء جمع ولي، والولي هو من تولاه الله سبحانه وتعالى ووفقه إلى الإيمان والتقوى، قال الله جل وعلا: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63)﴾([532]).فأولياء الله هم المؤمنون المتقون، فكل من حقق الإيمان والتقوى نال شرف وفضل الولاية. (لا نُفَضِّلُ أَحَدًا مِنَ الأَوْلِيَاءِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ). مهما بلغ في الولاية والتقوى؛ لأن الولاية درجة دون النبوة، فالنبوة درجة عالية يقصر دونها كل ولي، يقول: (وَنَقُولُ: نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الأَوْلِيَاءِ). لا إشكال أن النبي أفضل من جميع الأولياء؛ لأن الله I رفع هؤلاء الأنبياء وخصّهم من الخصائص والفضائل ما لم يحصل للأولياء.وأول من أحدث بدعة رُقِيِّ الولي على النبي ابن عربي وأشباهه الذين قالوا:
فويق الرسول ودون الولي
مقام النبوة في منزل
فجعلوا الولاية فوق هٰذه المنازل كلها، وهم في هٰذا كاذبون، وإنما أرادوا هٰذا لأنهم قُطع عنهم النظر في النبوة، فإن الله جل وعلا قد ذكر في كتابه ختم النبوة فقال سبحانه وتعالى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾([533]). فلما انقطع رجاؤهم ونظرهم في حصول النبوة لهم طلبوا سبيلاً آخر يحصل لهم به الارتفاع على الخلق، ويحصل لهم به ما يزعمونه من سقوط التكاليف، فاخترعوا هٰذا المقام، وجعلوه فوق النبوة؛ ليحصّلوا به مآربهم من التسلط على الخلق وإفساد الشرائع والأديان، هٰذا هو سبب هٰذا القول.
ثم قال رحمه الله: (وَنُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ مِنْ كَرَامَاتِهِمْ، وَصَحَّ عَنِ الثِّقَاتِ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ).
نعم، هٰذا أيضاً مما يتعلق بالأولياء (وَنُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ مِنْ كَرَامَاتِهِمْ) أي من كرامات الأولياء. وكرامات الأولياء، الكرامات جمع كرامة، والكرامة هي كل خارق للعادة يجري على يدي متقٍ مؤمن، هٰذا تعريف الكرامة: كل خارق للعادة، يعني كل ما يخرق العادة ويخرج عنها مما يجريه الله ﷻ على يد من؟ على يد تقي مؤمن، وقيّدنا هٰذا بهٰذا حتى نخرج ما يكون من خوارق العادات التي تجري على أيدي السحرة والكهان والمشعوذين والمبطلين، فإنها ليست كرامات، إنما هي خوارق للعادات، لكنها لا يمكن أن توصف أو تسمى بالكرامات، وكذلك نُخرج ما يجريه الله ﷻ على أيدي الرسل، فإنها لا تسمى كرامات، إنما هي آيات، وهي أعلى مما يجريه الله ﷻ على أيدي الأولياء من الكرامات.
(وَنُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ مِنْ كَرَامَاتِهِمْ) أي بما صح من إثبات ذلك، ولا يلزم الإيمان بكل كرامة ثبتت لكل شخص؛ لأن هٰذا فرع عن ثبوت هٰذه الكرامة، وقد لا تثبت عنه، لكن نؤمن في الجملة بأن لهم كرامات يكرمهم الله سبحانه وتعالى بها، وهٰذه الكرامات تنقسم إلى أنواع:
منها ما هو من جنس العلم، يعني كرامات في العلوم، وهو ما يسمى بالمكاشفات، وذلك بأن يرى ما لا يراه غيره، أو يسمع ما لا يسمعه غيره، أو يفتح له في العلم ما لا يفتح لغيره، أو يوفق إلى فراسة صادقة لا يوفق إليها غيره.
القسم الثاني من الكرامات ما هو من جنس القدرة، أي ما يكون في القدرة، بأن يمكن مما يتمكن منه غيره، وهٰذا كثير جدّاً، والغالب في الكرامات هو من هٰذا النوع، وقد جرى للصحابة y والتابعين من هٰذا شيء كثير، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله كثيراً من هٰذا في كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
من ذلك أيضاً القسم الثالث من أنواع الكرامات، ما هو من جنس الاستغناء، الغَناء،يعني يستغني عما يحتاج الإنسان عادة في المأكل والمشرب وما أشبه ذلك، وهٰذا يندرج في الحقيقة في النوع الثاني.
على كل حال الكرامات هي كل خارق للعادة يجريه الله ﷻ على يد الولي. ومما يحصل به الفرق بين الكرامات وشعوذة المشعوذين وإبطال السحرة والكهنة والدجالين أنهما يفترقان في السبب والغاية، يعني فرق بين ما يجريه الله على أيدي أوليائه الصالحين وبين ما يكون على أيدي الفسقة من السحرة والدجالين والكهان والمشعوذين، الفرق بينهما السبب والغاية.
فالسبب في الكرامة طاعة الله ﷻ وطاعة رسوله.
السبب فيما يجري على أيدي الكهان والسحرة والمشعوذين تكذيب الله ورسوله، معصية الله ورسوله، فبقدر ما يكون معهم من المعصية لله ورسوله بقدر ما يكون معهم من الخارق للعادة.
أيضاً في الغاية والمقصد.
المقصود من الكرامات إقامة الحجة أو دفع الحاجة، فهي مقصودها تحقيق العبودية لله ﷻ، والطاعة، والنصر للحق، ومقصودها إظهار دين الله، وما جاء به الرسول ﷺ.
أما ما يجري على أيدي الكهان والمشعوذين والسحرة فمقصوده وغرضه الباطل من الفساد في الأرض، وانتهاك الحرمات، وكسب الأموال.
هٰذا أبرز ما يفرّق به بين كرامات الأولياء وخوارق السحرة والمشعوذين.
أيضاً مما يفرق به بين الصنفين:
أن كرامات الأولياء تزداد بذكر الله ﷻ، وتقوى بذكر الله جل وعلا.
أما ما يجري من الخوارق على أيدي السحرة والمشعوذين فتبطل عند ذكر الله جل وعلا، فإذا ذُكر الله عند هؤلاء المشعوذين بطل ما عندهم من الخارق للعادة.
رابع الفروق أنّ الكرامات لا يمكن أن تعارَض، ولا أن يؤتى بأقوى منها، بخلاف ما يكون على أيدي السحرة والمشعوذين، فمعارضته ممكنة بمثلها أو بما هو أقوى منها.
هٰذه أربعة فروق بين ما يكون من كرامات الأولياء، وبين ما يجري من شعوذة المشعوذين.
(وَنُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ مِنْ كَرَامَاتِهِمْ، وَصَحَّ عَنِ الثِّقَاتِ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ). أي رواياتهم في العلم أو رواياتهم في الكرامات. نعم.
يقول رحمه الله: (وَنُؤْمِنُ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ: مِنْ خُرُوجِ الدَّجَّال، ونُزُولِ عِيسَى ابنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ السَّماءِ، وَنُؤْمِنُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجِ دَابَّةِ الأرْضِ مِنْ مَوْضِعِهَا).
نعم،أشار المؤلف رحمه الله في هٰذا المقطع إلى أشراط الساعة، قال: (وَنُؤْمِنُ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ). أشراط الساعة علاماتها، وقد ذكر الله جل وعلا ذلك في قوله: ﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا﴾([534]) أي علاماتها. والساعة المراد بها هنا القيامة الكبرى، وليست الساعة الخاصة وهي موت كل إنسان، فإن الله جل وعلا قد جعل للساعة الكبرى التي يقوم فيها الناس لرب العالمين، وهي إيذان بانتهاء الدنيا، لكل أحد علامات، وهٰذه العلامات أبرزها بعث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن بعثة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من علامات الساعة، قال الله جل وعلا: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ (1)﴾([535]). وانشقاق القمر جرى على وقت النبي e آية له، فإن مشركي مكة طلبوا منه آية فشق الله له القمر فرقتين، في منى شهدها الناس، لكنهم كذبوا وقالوا: سحر مستمر، سحر ذاهب باطل، وقالوا، قال بعضهم لبعض: سلوا السُّفار يعني أهل الأسفار، إن كانوا قد رأوا ما رأيتم من انشقاق القمر فإنه حق، وإن كانوا لم يروا ذلك فإنه ليس بحق، وإنما هو سحر، سحركم. فسألوا السفار من كل وجه، كلهم أثبت رؤية الانشقاق، ومما يدل على أن الانشقاق وقع أن النبي ﷺ كان يقرأ في صلاة العيد بـ(ق) و(اقتربت الساعة)، والناس يسمعون هٰذا ويسمعون قوله تعالى: (وانشق القمر) ولم يقم واحد منهم ينكر ويكذب انشقاق القمر.
فالمهم نرجع: من علامات الساعة بعثة النبي ﷺ. والعلامات تنقسم إلى قسمين:
· علامات قريبة وكبيرة وعظيمة.
· وعلامات صغرى دون ذلك.
العلامات الصغرى كثيرة جدّاً، وأما العلامات الكبرى فهي التي إذا ظهرت آذن ذلك باختلال العالم، وأول هٰذه الآيات الكبرى العظيمة خروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها، فإنها أول الآيات العظمى، خروج الدجال، خروج يأجوج ومأجوج، نزول عيسى ابن مريم من السماء، هٰذا ليس من الآيات الكبرى؛ لأنها من جنس ما يدركه البشر: الدجال من بني آدم من البشر، ويأجوج ومأجوج من البشر، عيسى ابن مريم من البشر، هي آيات كبرى لكنها ليست كالآيات التي تؤذن بخروج العالم عن المألوف، ولذلك إذا طلعت الشمس من مغربها انقطعت التوبة، انتهى الأمر، وكذلك الدابة تخرج وتميّز المسلم عن الكافر، فالأمر منتهٍ.
ولذلك جاء في صحيح مسلم: ((إن أول الآيات طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، أيهما خرجت أولاً فالأخرى في أثرها)).([536]) والمراد بهٰذا الحديث أول الآيات التي تخرج عن المألوف والمعتاد، وليس أنها أول ما يجري، لا، المقصود أول الآيات خروجاً عن المألوف والمعتاد هٰذا، ثم بعد ذلك تتتابع الآيات التي أخبر النبي ﷺ بها.
يقول المؤلف رحمه الله: (وَنُؤْمِنُ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ: مِنْ خُرُوجِ الدَّجَّال). وهو شر غائب ينتظر كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإنه أشد الفتن على بني آدم، ولذلك ما من نبي إلا أنذره قومه.
والدجال رجل يبتلي الله سبحانه وتعالى به الناس، يدعي أول الأمر الصلاح، ثم النبوة، ثم الإلهية والربوبية، ويكذبه الله جل وعلا، وآيات كذبه منقولة معه، فإنه أعور والله جل وعلا ليس بأعور، ولو كان رب العالمين لدفع عن نفسه النقص، لكنه لا يملك أن يدفع عن نفسه النقص، فهو مربوب مخلوق نسأل الله أن يكفينا شر فتنته، لكن يعطيه الله من القدرة ما يحصل به الفتنة، ولكن هٰذا التمكين ليس دائماً، بل هو زائل مضمحل، فإنه يظهر كذبه لكل مؤمن.
يقول: (ونُزُولِ عِيسَى ابنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ السَّماءِ). أي إنزال عيسى ابن مريم من السماء، كما جاء ذلك في قوله تعالىٰ: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ﴾([537]). ﴿لَعِلْمٌ﴾ أي عَلَم من أعلام الساعة، وذلك نزوله في آخر الزمان، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بنزول عيسى ابن مريم، وأنه ينزل ويحكم بشريعة النبي ﷺ: يكسر الصليب، ويقتل الخنزير. يكسر الصليب إشارة إلى إبطال ما اعتقدته النصارى واليهود في أنه قد قتل، ويقتل الخنزير إشارة إلى إبطال ما استباحه النصارى ونسبوه إليه، فإن الخنزير لم يبحه عيسى ابن مريم عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، وهٰذا الفعل منه إيذان بأنه قد انتهى كل دين غير دين الإسلام، ولذلك لا يقبل من أحد إلا الإسلام، ويضع الجزية، أي لا يقبل من أحد الجزية.
يقول: (وَنُؤْمِنُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجِ دَابَّةِ الأرْضِ مِنْ مَوْضِعِهَا). خروج الشمس من مغربها جاء في قوله تعالىٰ: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ﴾([538]). والمشار إليه في هٰذه الآية خروج الشمس من مغربها. وأما الدابة ففي قوله: ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ (82)﴾([539]) .وقد تواترت في ذلك الآثار عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وينبغي لأهل الإيمان أن يتحروا في مسائل أشراط الساعة، وأن لا يتعجلوا في إثبات ما جاءت به الأحاديث، أو في تنزيل ما جاءت به الأحاديث على الواقع، فإن هٰذه من الفتن التي طارت في الناس وخاض فيها من لا علم له، فتجده يحدد ما صحت به الأحاديث من الأخبار على أعيان ووقائع وأعيان ومناطق، وهٰذا ليس بصحيح؛ لأن هٰذا يحتاج إلى علم وبصيرة وتأمل ونظر، وهٰذا في الغالب يفقده من يشتغلون بهٰذه الأمور.
نعم، يقول رحمه الله:(وَلاَ نُصَدِّقُ كَاهِناً وَلاَ عَرَّافاً، وَلاَ مَنْ يَدَّعِي شَيْئاً يُخَالِفُ الكِتَابَ والسُّنَّةَ وإجْمَاعَ الأُمَّةِ).
يقول رحمه الله: (وَلاَ نُصَدِّقُ كَاهِناً وَلاَ عَرَّافاً)؛ لأن تصديق الكهان والعرافين مما نهى عنه رسول الله ﷺ، قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من أتى كاهناً أو عرافاً فسأله فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد)). ([540]) وفي الرواية الثانية: ((من أتى كاهناً أو عرافاً فسأله لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)).([541]) فدلّ ذلك على تحريم تصديق هؤلاء. تصديقهم في الإخبار بالمستقبل كفر بالله العظيم، تصديقهم في الإخبار بالغيب النسبي مهدد بقول النبي ﷺ: لا تقبل له صلاة أربعين ليلة. فتصديقهم على درجات: منه ما يكون كفراً، وذلك تصديقهم بكل ما يكون من الغيب المستقبل، كأن يقول الكاهن: سيجري لك غداً كذا، ستتزوج فلانة ولا توفق معها، سيأتيك ولد، من صدقه في هٰذا فهو كافر بالله العظيم، قال الله جل وعلا: ﴿قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)﴾([542]).
فمن صدق الكاهن في الخبر المستقبل فهو كافر،لماذا؟ لأنه مكذب للقرآن الذي فيه أن الغيب لا يعلمه إلا الله جل وعلا.
نعم، وأما من صدقه في الخبر النسبي- يعني في الغيب النسبي الذي يخفى على أحد ويعلمه أحد:كالإخبار عن مكان الضالة، وكالإخبار عن مكان المسروق وما أشبه ذلك- فإن هٰذا لا يكفر، لكنه على خطر عظيم، ويكفي في التحذير أن النبي ﷺ قال: ((لا تقبل له صلاة أربعين ليلة)). ثم من صدقه في هٰذا يوشك أن يصدقه في الخبر المستقبل، فيجب الحذر من هٰذا.
يقول رحمه الله: (وَلاَ نُصَدِّقُ كَاهِناً وَلاَ عَرَّافاً). الفرق بين الكاهن والعراف:
الكاهن هو من يخبر عن الغيب في المستقبل.
والعراف من يخبر عن المغيبات في أمور يستدل بها.
وذهب شيخ الإسلام رحمه الله إلى أن الكاهن والعراف اسمان لمسمى واحد، وهو: كل من يخبر بالغيب، لكن الفرق بين الكاهن والعراف هو الطريق التي يتوصل بها إلى معرفة الغيب. نعم.
ثم قال: (وَلاَ مَنْ يَدَّعِي شَيْئاً يُخَالِفُ الكِتَابَ والسُّنَّةَ وإجْمَاعَ الأُمَّةِ). لا إشكال أنه لا يجوز تصديق هٰذا، والجامع بين هٰذا والذي قبله في قوله: (وَلاَ نُصَدِّقُ كَاهِناً وَلاَ عَرَّافاً، وَلاَ مَنْ يَدَّعِي شَيْئاً يُخَالِفُ الكِتَابَ والسُّنَّةَ وإجْمَاعَ الأُمَّةِ)؛ لأن الجميع مبطل، فالكاهن والعراف مبطل، ومن ادعى شيئاً يخالف ما جاء في الكتاب والسنة فهو مبطل أيضاً، ولا يجوز تصديقه ولا قبول خبره، ولكن ما الذي لا يصدق؟ ما خالف الكتاب، ما خالف السنة، ما خالف إجماع الأمة.
ثم قال رحمه الله: (وَنَرَى الجَمَاعَةَ حَقًّا وَصَوَاباً، والفُرْقَةَ زَيْغاً وَعَذَاباً).
هٰذا عقد أهل السنة والجماعة: أنهم يرون الاجتماع على الحق، الاجتماع مع أهل الحق، الاجتماع على من ولي أمر المسلمين، فهم ليسوا أهل فرقة وخلاف بل هم أهل ألفة واجتماع، قال الله جل وعلا: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾([543]). فالآيات التي أمر الله جل وعلا فيها بالائتلاف والاتفاق والاجتماع كثيرة، والتي ذم فيها أهل الفرقة والخلاف كثيرة جدّاً، بل جعل من الشرع الذي أوصى به هٰذه الأمة: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾([544]).وهو ليس خاصّاً بهٰذه الأمة بل عام لجميع الأمم: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾([545]). فالاجتماع على الدين والحق والهدى مما توافرت فيه النصوص، وقد نهى الله جل وعلا عن الفرقة في قوله: ﴿وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)﴾([546]). والآيات والأحاديث في هٰذا كثيرة، والمراد بالاجتماع على الحق ومع أهل الحق، وأما الاختلاف فالاختلاف هو الخروج عن الحق وعن أهل الحق.
يقول رحمه الله: (نَرَى الجَمَاعَةَ) أي الاجتماع والقبول بالإجماع والاجتماع على ولاة الأمر من المسلمين (حَقًّا وَصَوَاباً، والفُرْقَةَ) وهي صادقة على مخالفة الكتاب والسنة وعلى مخالفة أهل الحق وعلى مخالفة ولاة الأمور من المسلمين (زَيْغاً وَعَذَاباً). أما الزيغ فلأنه مخالف للسنة، مخالف لما أمر الله به ورسوله، وأما قوله: (عَذَاباً) فهٰذا فيه بيان ما يؤول إليه الافتراق أنه عذاب، وإن كان في نظر صاحبه أنه إصلاح، لكنه في الحقيقة عذاب. نعم.
(وَدِينُ الله في الأرضِ وَالسَّماءِ وَاحِدٌ، وهُو دينُ الإسْلاَمِ، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾([547])، وقال تعالى: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا﴾([548]).
وَهُوَ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ، وَبَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، وَبَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، وَبَيْنَ الأَمْنِ وَالإيَاسِ).
يقول رحمه الله في ختم هٰذه الرسالة المباركة: (وَدِينُ الله في الأرضِ وَالسَّماءِ وَاحِدٌ). ما فيه إشكال أن دين الله في الأرض والسماء واحد (وهُو دينُ الإسْلاَمِ، كما قال الله جل وعلا: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾). والإسلام المقصود به الاستسلام لله جل وعلا بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، هٰذا هو الدين الذي جاءت به جميع الرسل: هٰذا دين آدم، دين نوح، دين موسىٰ، دين إبراهيم، دين عيسىٰ، دين جميع الرسل: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ دين أشرفهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هٰذا الدين واحد لا خلاف فيه ولا افتراق: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾، ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ ([549]).
قال رحمه الله: (قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾). يعني الدين المقبول الذي يحصل به للعبد النجاة والفوز، وحصول الرضا والجنة الإسلام، قال: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا﴾. فقد رضي الله جل وعلا لهٰذه الأمة ما رضيه للأمم السابقة، مع مزيد تخصيص وتفضيل لهٰذه الأمة بتكميل الشرائع: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا﴾. ثم المؤلف رحمه الله بين دين الإسلام، واقتصر في البيان على دين الإسلام لأنه دين أهل السنة والجماعة، فأهل السنة والجماعة هم أهل الإسلام الحق الصافي، هم كمال قال شيخ الإسلام: هم نقاوة المسلمين، هم الصفوة، وهم الخيار، هم الذين قال الله جل وعلا فيهم: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾([550]).وهم الذين قال الله فيهم: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾([551]). ذكر المؤلف رحمه الله وسطية هٰذا الدين، وهو يثبت بذلك وسطية أهل السنة والجماعة؛ لأن أهل السنة والجماعة وسط في الفرق الإسلامية كما أن دين الإسلام وسط بين الأديان. والوسطية ليست في جانب واحد، بل هي في جميع الجوانب: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ في كل شيء، ليس فقط في الاعتقاد، بل في الاعتقاد والعمل والقول،و... في كل أمر من أمور هٰذه الأمة.
يقول: (وَهُوَ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ). الإسلام، عقد أهل السنة والجماعة بين الغلو والتقصير، الغلو الزيادة والتقصير النقص، فأهل السنة والجماعة طريق وسط لا غلو فيه ولا نقص، وقد نهى الله جل وعلا عن الزيادة كما نهى عن النقص، كما قال تعالىٰ: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ﴾([552]). وكما قال النبي ﷺ : ((إياكم والغلو، إياكم والغلو، إياكم والغلو))،([553]) ((هلك المتنطعون، هلك المتنطعون))([554]) الأحاديث والآثار في النهي عن الغلو كثيرة، وكذلك عن التقصير، كذلك كثيرة في نهيه عن المعاصي، فإن كل معصية في عقد أو قول وعمل هي من التقصير الذي نهى الله عنه.
قال: (وَبَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ). أهل الإسلام سالمون من هاتين الآفتين، أهل السنة والجماعة سالمون من هاتين البدعتين، التشبيه: التمثيل، والتعطيل: نفي ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إما نفياً كليّاً أو نفياً جزئيّاً، ويجمع نفي هاتين البدعتين قول الله تعالىٰ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)﴾([555]). قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ نفي لأي شيء؟ التمثيل، وقوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ نفي لبدعة التعطيل.
قال: (وَبَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ). يعني بين الذين يقولون بأن الإنسان لا مشيئة له ولا اختيار، وهم الجبرية، وبين الذين يقولون: الإنسان يخلق فعل نفسه، العبد يخلق فعل نفسه، ليس لله ﷻ مشيئة ولا اختيار في فعل العبد، ولا قدرة على فعل العبد، أهل السنة والجماعة يقولون كما قال الله جل وعلا: ﴿لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)﴾([556]). فيثبتون للعبد قدرةً وكسباً ومشيئةً، ويثبتون أن هٰذه القدرة وهٰذه المشيئة وهٰذا الكسب لا يخرج عن تقدير الله جل وعلا ومشيئته، بل الله محيط بالعبد ومشيئته وقدرته، والعبد مخلوق للرب كما أن ذاته وصفاته مخلوقة للرب جل وعلا. نعم.
(وَبَيْنَ الأَمْنِ وَالإياسِ). هٰذا فيه بيان توسط أهل السنة والجماعة بين فريقين ضالين، وهم من عبد الله بالمحبة وحدها، ومن عبد الله بالخوف وحده، فأهل السنة والجماعة يعبدون الله جل وعلا بالمحبة والرجاء والخوف، وتقدم تقرير ذلك. ثم قال رحمه الله:
(فَهٰذا دِينُنَا وَاعْتِقَادُنَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَنَحْنُ بُرَءاءُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ مَنْ خَالَفَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَبَيَّنَّاهُ).
هٰذا المشار إليه ما تقدم من العقائد (دِينُنَا وَاعْتِقَادُنَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا). يعني الذي ندين الله سبحانه وتعالى به. (دِينُنَا) أي الذي نتعبد الله جل وعلا به (وَاعْتِقَادُنَا) أي ما طوينا عليه قلوبنا وربطنا عليه قلوبنا ظاهراً وباطناً، يعني ليس عندنا ظاهر وباطن كحال الباطنية الذين لهم ظاهر وباطن.
ثم قال: (وَنَحْنُ بُرَءاءُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ مَنْ خَالَفَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَبَيَّنَّاهُ). (بُرَءاءُ) أي نتبرأ من كل خالف الذي ذكرناه وبيناه، وهٰذا هو الواجب أن يتبرأ الإنسان من كل من خالف عقد أهل السنة والجماعة، لكن هٰذه البراءة كالمحبة والبغض، كالمحبة في الله والبغض في الله، البراءة تتفاوت بتفاوت المخالفة: فمن كانت مخالفته عظيمة كان حقه من البراءة عظيماً، ومن كانت مخالفته يسيرة كان حقه من البراءة يسيراً. على أن المؤلف رحمه الله ذكر في هٰذه العقيدة ما خرج به عن عقد أهل السنة والجماعة، لا سيما في مسألة الإيمان. نعم.
(وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الإِيمَانِ، وَيَخْتِمَ لَنَا بِهِ، وَيَعْصِمَنَا مِنَ الأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالآرَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَالْمَذَاهِبِ الرَّدِيَّةِ، مِثْلَ الْمُشَبِّهَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الَّذِينَ خَالَفُوا السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَحَالَفُوا الضَّلالَةَ، وَنَحْنُ مِنْهُمْ بُرَءاءُ، وَهُمْ عِنْدَنَا ضُلاَّلٌ وَأَرْدِيَاءُ. وَبِاللَّهِ الْعِصْمَةُ وَالتَّوْفِيقُ).
يقول رحمه الله في ختم هٰذه العقيدة: (وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الإِيمَانِ، وَيَخْتِمَ لَنَا بِهِ، وَيَعْصِمَنَا مِنَ الأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالآرَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَالْمَذَاهِبِ الرَّدِيَّةِ) آمين. بعد أن ذكر رحمه الله: (فَهٰذا دِينُنَا وَاعْتِقَادُنَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا) لجأ إلى الله جل وعلا في التثبيت على الحق، وهٰذا هو حال المؤمن التقي الذي يرجو ما عند الله ﷻ، لا يعتمد على نفسه في الثبات، بل يقرر الحق ويسأل الله ﷻ الثبات عليه، ولذلك قال رحمه الله: (وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الإِيمَانِ، وَيَخْتِمَ لَنَا بِهِ). الثبات هو الاستمرار، والختم هو أن يكون منتهى ما نعمل به ونغادر هٰذه الدنيا به هو الإيمان، (وَيَعْصِمَنَا مِنَ الأَهْوَاءِ) أي يحفظنا ويبعد عنا الأهواء المختلفة والآراء المتفرقة والمذاهب الرديئة. الأهواء جمع هوى وهو ما تهواه الأنفس، ويطلق هٰذا على ما تهواه الأنفس في الأعمال وفي العقائد. والآراء المتفرقة، ولا شك أن الآراء المتفرقة هي الآراء المخالفة لأهل السنة والجماعة، وأما من وافق أهل السنة والجماعة فإنه لا يفترق ولا يتفرق، بل عقد أهل السّنة والجماعة الاجتماع ،كما قال قبل قليل رحمه الله. (وَالْمَذَاهِبِ الرَّدِيَّةِ) أي المسالك الرديئة المخالفة. ثم مثل ذلك: (مِثْلَ الْمُشَبِّهَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ). بدأ بالمشبهة ويريد بالمشبهة الممثلة؛ لأن النفوس ترفض هٰذه البدعة، فإن كل نفس مفطورة على أن الخالق ليس كالمخلوق، وأنه لا مماثلة بين الخالق والمخلوق، بل الله جل وعلا ليس كمثله شيء. (وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ) هٰذه الفرق كلها من الفرق الضالة، وأنواع الضلال فيها مختلفة: منها ما هو في الأسماء والصفات، منها ما هو في القدر، منها ما هو في اليوم الآخر، أنواع وأشكال.
يقول: (وَغَيْرِهِمْ مِنَ الَّذِينَ خَالَفُوا السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَحَالَفُوا الضَّلالَةَ) أي صالحوا الضلالة والتزموها والتحفوها وكانت مرافقة لهم.
(وَنَحْنُ مِنْهُمْ بُرَءاءُ). هـٰذا فيه التبرؤ من كل من خالف أهل السنة والجماعة. (وَهُمْ عِنْدَنَا ضُلاَّلٌ وَأَرْدِيَاءُ ). ولاشك في ذلك، فإن هٰذه الفرق من الفرق الضالة الرديئة المخالفة للكتاب والسنة.
ثم قال رحمه الله: (وَبِاللَّهِ الْعِصْمَةُ وَالتَّوْفِيقُ). أي به جل وعلا تحصل العصمة للعبد من الوقوع في شيء من الضلال، والتوفيق إلى طريق أهل السنة والجماعة. وهٰذا ختم بديع؛ لأنه به يحصل للإنسان سعادة الدارين: أن يعصمه الله من أهل الشر والشر، وأن يوفقه إلى الخير والعمل به.
نسأل الله ﷻ أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا هداة مهتدين.
وبهٰذا تكون قد انتهت هٰذه العقيدة المباركة التي نسأل الله ﷻ أن يثيب مؤلفها خيراً، وأن يغفر له ما كان فيها من خطأ، وأن ينفعنا بما فيها من علوم نافعة.
¹
([1]) المسند المستخرج على مسلم حديث رقم (2347) .
([2]) سورة: الفاتحة (5).
([3]) البخاري: كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، حديث رقم (2697).
مسلم: كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، حديث رقم (1718).
([4]) سورة : الشورى (13).
([5]) سنن الترمذي: كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، حديث رقم (2621).
سنن ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، حديث رقم (1079).
سنن النسائي: كتاب الصلاة، باب المحاسبة على الصلاة، حديث رقم (463).
قال الشيخ الألباني: صحيح.
([6]) سورة: الشورى (11).
([7]) سورة: مريم (65).
([8]) سورة : البقرة (22).
([9]) سورة : النحل (74).
([10]) سورة : الإخلاص (4).
([11]) سورة : الشورى (11).
([12]) سورة : الشورى (11).
([13]) سورة : مريم (65).
([14]) سورة : الإخلاص (4).
([15]) سورة : قّ (38).
([16]) سورة : المائدة (64).
([17]) سورة : المائدة (64).
([18]) سورة : البقرة (255).
([19]) البخاري: كتاب الإيمان، باب ﴿فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم﴾[التوبة:5]، حديث رقم (25).
مسلم: كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إلـٰه إلا الله محمد رسول الله..، حديث رقم (22).
([20]) سنن أبي داوود: كتاب الجنائز، باب في التلقين، حديث رقم (3116). قال الشيخ الألباني صحيح.
([21]) سورة : الذاريات (56).
([22]) سورة : الحج:(6).، وأيضا في ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ(62)﴾[الحج:62]، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ(30)﴾[لقمان:30].
([23]) سورة : يونس (32).
([24]) سورة : الحديد ( 3 ).
([25]) البخاري: كتاب التفسير، باب ﴿وأنذرهم يوم الحسرة﴾، حديث رقم (4730).
مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، حديث رقم (2849).
([26]) مسلم: كتاب الذكر والدعاء التوبة، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، حديث رقم (2713).
([27]) سورة : الحديد (3).
([28]) سورة: الفرقان: (58).
([29]) سورة: القصص (88).
([30]) سورة: الرحمـٰن (26-27).
([31]) سورة: البقرة (255).
([32]) سورة : الذاريات (56).
([33]) سورة : البقرة (185).
([34]) سورة : النساء (26).
([35]) سورة : النساء (28).
([36]) سورة : الأنعام (125).
([37]) سورة : هود (34 ).
([38]) سورة : الإنسان (30) والتكوير (29).
([39]) سورة : الشورى (11).
([40]) سورة : البقرة (255).
([41]) سورة : طـه (110).
([42]) سورة : الأنعام (103).
([43]) سورة : الملك (4).
([44]) سورة : الشورى (11).
([45]) سورة : طـه (110).
([46]) سورة : البقرة (255).
([47]) سورة : الأنعام (103).
([48]) سورة : الأنعام (103).
([49]) (مَؤونَةٍ) يصلح مؤنة لكن المسموع والمشهور عن مشايخنا (مؤُونَةٍ).
([50]) سورة : الشورى (11).
([51]) سورة : الشورى (11).
([52]) سورة : الفرقان (58).
([53]) سورة : البقرة (255).
([54]) سورة : فاطر (15).
([55]) سورة : فاطر (41).
([56]) سورة : الذاريات (56- 58).
([57]) سورة : البقرة (255).
([58]) مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، حديث رقم (2577).
([59]) سورة : الأنبياء (35).
([60]) سورة : الحشر (24).
([61]) سورة : الذاريات (58).
([62]) سورة : يـس (79).
([63]) سورة : لقمان (28).
([64]) سورة : الروم (27).
([65]) سورة : هود (107).
([66]) سورة : الحشر (24).
([67]) سورة : المطففين (6).
([68]) سورة : البقرة (284).
([69]) سورة : فاطر (15).
([70]) سورة : فاطر (41).
([71]) سورة : البقرة (255).
([72]) سورة: يس (82).
([73]) سورة : لقمان (28).
([74]) سورة : فاطر (15).
([75]) سورة : الشورى (11).
([76]) سورة : الشورى (11).
([77]) سورة : فصلت (42).
([78]) سورة : البقرة (282).
([79]) سورة : الأنبياء (22).
([80]) سورة : الأنعام (28).
([81]) سورة : الملك (14).
([82]) سورة : القمر (49).
([83]) سورة : القمر (49).
([84]) سورة : الرعد (8).
([85]) سورة : الطلاق (3).
([86]) سورة : الرعد (38).
([87]) مسلم: كتاب القدر ، باب حجاج آدم موسىٰ عليهما السلام، حديث رقم (2653).
([88]) سورة : القمر (49).
([89]) سورة : الأنعام (148).
([90]) سورة : يّـس (47 ).
([91]) سورة : الأعراف (16).
([92]) سورة : الإنسان (30).
([93]) سورة : التكوير (29).
([94]) سورة : القصص (56).
([95]) سورة : الأنعام (124 ).
([96]) سورة : الأنعام (117).
([97]) سورة : يونس (44).
([98]) سورة : الصف (5).
([99]) سورة : يونس (44).
([100]) سورة : الصف (5).
([101]) سورة : يونس (44).
([102]) مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، حديث رقم (2577).
([103]) سورة : البقرة (22).
([104]) سورة : الشورى (11 ).
([105]) سورة : مريم (35).
([106]) سورة : الإسراء (23).
([107]) سورة : الأعراف (34).
([108]) سورة : الرعد (41).
([109]) يقصد الآية: ﴿وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21)﴾[يوسف:21].
([110]) سورة : الإسراء (1).
([111]) سورة : الجن (19).
([112]) سورة : البقرة (23).
([113]) سورة : النجم (10).
([114]) وقد ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة العبودية.
([115]) اصطلم يعني استأصل، يقال: اصطلمهم الدهر يعني استأصلهم.
([116]) سورة : القصص (68 ).
([117]) سورة : القصص (68).
([118]) سورة : الحج (75).
([119]) سورة : الحج (75).
([120]) البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله: ﴿واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها﴾، حديث رقم (3445).
([121]) مسلم: كتاب الفضائل، باب فضل نسب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، حديث رقم (2276).
([122]) سورة : الأحزاب (40 ).
([123]) البخاري: كتاب المناقب، باب خاتم النبيين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حديث رقم (3535).
مسلم: كتاب الفضائل، باب ذكر كونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم الأنبياء، حديث رقم (2286).
([124]) سنن الترمذي: كتاب الفتن، باب ما جاء لا تقوم الساعة حتى يخرج كذابون، حديث رقم (2219)، قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
سنن أبي داوود: كتاب الفتن والملاحم، باب ذكر الفتن و دلائلها، حديث رقم (4252).
سنن ابن ماجه: كتاب الفتن، باب ما يكون من الفتن، حديث رقم (3952).
قال الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (4/252): أخرجه أبو داوود وابن ماجه وأحمد بسند على شرط مسلم.. وكذلك أخرجه الترمذي.
([125]) مسلم: كتاب الفضائل، باب في أسمائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حديث رقم (2354).
([126]) البخاري: كتاب الصلاة، باب قول النبي: ((جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا))، حديث رقم (438).
مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم (521).
([127]) مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم (523). ولفظه ((فضلت على الأنبياء بست... وختم بي النبيون)).
([128]) البخاري: كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، حديث رقم (5063).
([129]) سورة : الأحزاب (21 ).
([130]) سورة : آل عمران (31 ).
([131]) مسلم: كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حديث رقم (2278).
([132]) سنن ابن ماجه: كتاب الزهد، باب ذكر الشفاعة، حديث رقم (4308). قال الشيخ الألباني: صحيح.
([133]) مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المسجد على القبور واتخاذ الصور فيا والنهي عن اتخاذ القبور مساجد، حديث رقم (532).
([134]) قال شيخ الإسلام في رسالة العبودية: والخلة هي كمال المحبة المستلزمة من العبد كمال العبودية لله، ومن الرب –سبحانه- كمال الربوبية لعباده الذين يحبهم ويحبونه.
([135]) سنن الترمذي: كتاب المناقب، باب في فضل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حديث رقم (3616). قال الشيخ الألباني: ضعيف.
([136]) سبق تخريجه في الصفحة (2).
([137]) سورة : آل عمران (64).
([138]) سورة : التوبة (30).
([139]) سورة : الأحقاف (29).
([140]) سورة : الأحقاف (30).
([141]) سورة : الأحقاف (30-31).
([142]) سورة : التوبة (33).
([143]) سورة : الشورى (52).
([144]) سورة : الحج (67).
([145])سورة : الحج (67).
([146]) سورة : الأنعام (122).
([147]) سورة : يونس (5).
([148]) سورة : المدثر (26).
([149]) سورة : المدثر (25).
([150]) سورة : الكهف (109).
([151]) سورة : الأنبياء (63).
([152]) سورة : طه (89).
([153]) السلسلة الصحيحة برقم (840)، وقال: هو عند أحمد (3/319)، وابن السني (631)، والإسناد صحيح.
([154]) سورة : الزمر (23).
([155]) سورة : المدثر (26).
([156]) سورة : المدثر (25).
([157]) سورة : التوبة (6).
([158]) سورة : الرعد (16).
([159]) سورة : الأحقاف (25).
([160]) سورة : الرعد (16).
([161]) سورة : الشورى (11).
([162]) سورة : الشورى (11).
([163]) سورة : الزمر (1).
([164]) سورة : فصلت (42).
([165]) سورة : الشورى (51).
([166]) سورة : الشورى (51).
([167]) سورة : الشورى (51).
([168]) سورة : المائدة (111).
([169]) سورة : القصص (7).
([170]) سورة : النحل (68).
([171]) سورة : النساء (164).
([172]) سورة : النجم (5).
([173]) سورة : النحل ( 102).
([174]) سورة : الشورى (51).
([175]) سورة : آل عمران (41).
([176]) سورة : مريم (11).
([177]) سورة : المدثر (26).
([178]) سورة : المدثر (25).
([179]) سورة : الشورى (11).
([180]) سورة : الشورى (11).
([181]) سورة : القيامة (22-23).
([182]) سورة : المطففين (15).
([183]) سورة : الأعراف ( 143).
([184]) مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد، حديث رقم (169).
([185]) سورة : الأنعام (103).
([186]) سورة : الأنعام ( 103).
([187]) قال الشيخ صالح آل الشيخ في الرد على من استدلوا بنفي الإحاطة على نفي الرؤية في شرحه على الطحاوية: وكما قال جل وعلا: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا﴾[الشعراء:61-62]. ووجه الدلالة أنه نفى الإدراك، ومع نفي الإدراك أثبت الله جل وعلا الترائي وهو رؤية كل جمع للآخر، فقال: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَ الْجَمْعَانِ﴾ هٰذا الجمع رأى ذاك الجمع، وذاك الجمع رأى هٰذا الجمع، ومع ذلك ﴿قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ فقال موسى: ﴿كَلَّا﴾. يعني لن ندرك، يعني لن يحاط بنا، فنفي الإحاطة لا يستلزم أن تنفى الرؤية.
([188]) سورة : القيامة (22-23).
([189]) سورة : النجم (3- 4).
([190]) سورة : الحديد (13).
([191]) سورة : المطففين (23).
([192]) سورة : يونس ( 26).
([193]) مسلم برقم / 266.
([194]) سورة : ق (35).
([195]) سورة : القيامة (23).
([196]) البخاري:كتاب الأذان، باب فضل السجود، حديث رقم (806)، بلفظ (تمارون).
مسلم: كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، حديث رقم (182).
([197]) سورة : الشورى ( 11).
([198]) سورة : الإسراء (36).
([199]) سورة : النساء (65).
([200]) سورة : ق (5).
([201]) وأكثر.
([202]) سورة : الشورى (11).
([203]) سورة : الأنعام (103).
([204]) سورة : النحل (22).
([205]) سورة : الإخلاص (1).
([206]) سورة : الإخلاص ( 2).
([207]) سورة : الإخلاص ( 3).
([208]) سورة : الرحمـٰن (27 )
([209]) سورة : ص (75 ).
([210]) سورة : المائدة (64).
([211]) سورة : طه (110).
([212]) سورة : الذاريات (56-57).
([213]) سورة : النجم (11).
([214]) سورة : النجم (13-14).
([215]) سورة : الإسراء (1).
([216]) سورة : الرحمن (29).
([217]) سورة : النجم (18).
([218]) قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى السمٰوات وفرض الصلوات، حديث رقم (162): ((ثم ذهب بي إلى السدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال. قال: فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها.))
([219]) سورة : النجم (18).
([220]) سورة : النجم (11).
([221]) سورة : النجم (14- 16).
([222]) سورة : النجم (11).
([223]) سورة : الأعراف (143).
([224]) مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد، حديث رقم (169).
([225])صحيح البخاري: كتاب التفسير، باب قوله ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[الأحزاب:56]، قال أبو العالية: صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة وصلاة الملائكة الدعاء..
([226]) سورة : الكوثر (1).
([227]) سورة : مريم (86).
([228]) البخاري: كتاب الرقاق، باب في الحوض، حديث رقم (6584)، وليس فيه (أصيحابي).
مسلم: كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفاته، حديث رقم (2290، 2304).
([229]) سورة : البقرة (255).
([230]) سورة : النجم (26).
([231]) البخاري برقم / 3092 ـ ومسلم برقم / 287 .
([232]) سورة : الأعراف (172-173).
([233]) السلسلة الصحيحة للشيخ الألباني برقم (1623)، وقال: أخرجه أحمد وابن جرير في التفسير وابن أبي عاصم في السنة والحاكم والبيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عباس، قال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وقال الشيخ الألباني: وحقهما أن يقيداه بأنه على شرط مسلم. وأنظر أيضا صحيح الجامع برقم (1701).
([234]) سورة : الروم (30).
([235]) البخاري: كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه..، خديث رقم (1358، 1359).
مسلم: كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة..، حديث رقم (2658).
([236]) مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، حديث رقم (2865).
([237]) سورة : الأعراف (172).
([238]) سورة : الأعراف (172).
([239]) ومن الذين ضعفوه ابن كثير في تفسيره وابن القيم رحمهما الله.
([240]) سبق تخريجه في الصفحة (235).
([241]) سورة : التوبة (17).
([242]) سورة : القمر (49).
([243]) سورة : الفرقان (2).
([244]) مسلم: كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين، حديث رقم (2662).
([245]) سنن الترمذي: كتاب القدر، باب ما جاء في أن الله كتب كتابا لأهل الجنة وأهل النار، حديث رقم (2141، ). قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، وحسنه الشيخ الألباني، وهو في السلسلة الصحيحة برقم (848)، وقال الشيخ الألباني: أخرجه الترمذي وأحمد وابن أبي عاصم في السنة وأبو نعيم في الحلية.
([246]) البخاري: كتاب التفسير، باب ﴿فسنيسره للعسرى﴾[الليل:10]، حديث رقم (4949).
مسلم: كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه ..حديث رقم (2647).
([247]) سورة : الليل (5-10).
([248]) سورة : الإنسان (30)، و التكوير (29).
([249]) البخاري: كتاب القدر، باب في القدر، حديث رقم (6594).
مسلم: كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، حديث رقم (2643).
([250]) سبق تخريجه في الصفحة (2).
([251]) سورة : الأنبياء (23).
([252]) سورة : يونس (44).
([253]) سورة : فصلت (46).
([254]) البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، حديث رقم (5060، 5061).
مسلم: كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن والتحذير من متبعيه والنهي عن الاختلاف في القرآن، حديث رقم (2667).
([255]) سنن أبي داوود: كتاب السنة، باب في القدر، حديث رقم (4691)، قال الشيخ الألباني: حسن.
([256]) سورة : الأنبياء (23).
([257]) سورة : الأنعام (122).
([258]) سورة : ق (5).
([259]) سورة : الجن (26-27).
([260]) سورة : الصافات (96).
([261]) سورة : البقرة (29).
([262]) سورة : النمل (65).
([263]) سورة لقمان (34).
([264]) سورة : الأنعام (59).
([265]) سورة : النساء (65).
([266]) سورة : البروج (21-22).
([267]) سورة : الأنبياء (105).
([268]) سنن أبي داوود: كتاب السنة، باب في القدر، حديث رقم (4700).
سنن الترمذي: كتاب القدر، باب (17)، حديث رقم (2155)، وقال الترمذي: هـٰذا حديث غريب من هـٰذا الوجه.
قال الشيخ الألباني: صحيح، وأورده في السلسلة الصحيحة برقم (133).
([269]) سورة : الحديد (22).
([270]) مسلم: كتاب القدر ، باب حجاج آدم موسىٰ عليهما السلام، حديث رقم (2653).
([271]) سورة : الرحمـٰن (29).
([272]) سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب رقم (59)، حديث رقم (2516). قال الترمذي: هٰذا حديث حسن صحيح، قال الشيخ الألباني: صحيح.
([273]) سورة : الجاثية (29).
([274]) سورة : ق (18).
([275]) البخاري: كتاب النكاح، باب ما يكره من التبتل والخصاء، حديث رقم (5076).
([276]) سورة : الفرقان (2).
([277]) سورة : الأحزاب (38).
([278]) سورة : هود (1).
([279]) سورة : المنافقون (11).
([280]) سورة : فاطر (11).
([281]) سورة : الفرقان (2).
([282]) سورة : الأحزاب (38).
([283]) سورة : لقمان (11).
([284]) سورة : النحل (1).
([285]) سورة : الأحزاب (38).
([286]) سورة : الحجر (39).
([287]) سورة : الجن (26).
([288]) سورة : طه (5).
([289]) سورة : البروج (15).
([290]) البخاري: كتاب التوحيد، باب ﴿وكان عرشه على الماء﴾، حديث رقم (7418). وليس فيه ((ثم استوى على العرش)).
([291]) سورة : البقرة (255).
([292]) سورة : طه (5).
([293])ورد هٰذا المعنى بلفظ:﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ في القرآن في ستّة مواضع: الأعراف:54، يونس:3، الرعد:2، الفرقان:59، السجدة:4، الحديد:4.بالإضافة إلى ما ذكره الشيخ في سورة طه.
([294]) أنظر الصفحة (2).
([295]) سورة : الشورى (52).
([296]) سورة : فاطر (41).
([297]) سورة : الطلاق (12).
([298]) سورة : البقرة (255).
([299]) سورة : طه (110).
([300]) سورة : الأنعام (103).
([301]) سورة : المائدة (54).
([302]) سورة : التوبة (4، 7).
([303]) سورة : البقرة (195)، المائدة (13).
([304]) سورة : البقرة (222).
([305]) سورة : آل عمران (31).
([306]) سورة : البلد (10).
([307]) سورة : الحج (46).
([308]) سورة : الشورى (51).
([309]) سورة : النساء (164).
([310]) سورة : مريم (52).
([311]) سورة : الأعراف (22).
([312]) سورة : النساء (163-164).
([313]) سورة : القصص (68).
([314]) سورة : البقرة (177).
([315]) سورة : النجم (26).
([316]) سورة : ق (18).
([317]) سورة : الأنبياء (20).
([318]) البخاري: كتاب الصلاة، باب فضل استقبال القبلة، حديث رقم (391).
([319]) سورة : الحجرات (14).
([320]) سورة : الشورى (11).
([321]) سورة : النحل (74).
([322]) سورة : البقرة (22).
([323]) البخاري: كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، حديث رقم (3276).
مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، حديث رقم (134).
([324]) مسلم: كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، حديث رقم (2670).
([325]) سورة : التوبة (6).
([326]) سورة : البروج (21-22).
([327]) سورة : النحل (102).
([328]) سورة : الشعراء (193-194).
([329]) سورة : النجم (5-6).
([330]) سورة : التكوير (19-20).
([331]) سورة : الحاقة (40-41).
([332]) هو عند البخاري: كتاب الصلاة، باب فضل استقبال القبلة، حديث رقم (391). وقد استدرك الشيخ ذلك حفظه الله في الدرس الذي شرح فيه (وَنَرَى الصَّلاةَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ) فقال: (رواه البخاري منفرداً).
([333]) سورة : المائدة (93).
([334]) سورة : غافر (3).
([335]) سورة : يوسف (87).
([336]) مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان.. حديث رقم (08).
([337]) اليخاري: كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة علىٰ العمل، حديث رقم (6464)
مسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لم يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تَعَالىٰ، حديث رقم (2816، 2817، 2818).
([338]) سورة : الأعراف (99).
([339]) سورة : يونس (44).
([340]) سورة : الزمر (53).
([341]) سورة : النساء (48، 116).
([342]) سنن ابن ماجه: كتاب الجنائز، باب ما جاء في زيارة قبور المشركين، حديث رقم (1573)، قال الشيخ الألباني: صحيح، وهو في السلسلة الصحيحة برقم (18).
([343]) سورة : الأعراف (99).
([344]) سورة : الأعراف (183)، والقلم (45).
([345]) سورة : يوسف (87).
([346]) سورة : الحجر (56).
([347]) سورة : الزمر (53).
([348]) صحيح الجامع الصغير برقم (2687).
([349]) سورة : النجم (32).
([350]) سورة : الحجر (49-50).
([351]) سنن الترمذي: كتاب الجنائز، باب (11)، حديث رقم (983)، قال الترمذي: هٰذا حديث حسن غريب.
سنن ابن ماجه: كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، حديث رقم (4261).
قال الشيخ الألباني: حسن، وهو في السلسلة الصحيحة برقم (1051).
([352]) مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث رقم (2877).
([353]) سورة : الانفطار (6).
([354]) البخاري: الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، حديث رقم (48).
مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر))، حديث رقم (64).
([355]) سورة : الحجرات (9).
([356]) سورة : التوبة (65-66).
([357]) أنظر أيضا البخاري: كتاب الإيمان، باب أمور من الإيمان، حديث رقم (09).
([358]) مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان، حديث رقم (35).
([359]) البخاري: كتاب الأشربة، باب وقول الله تعالىٰ: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ.. ﴾ حديث رقم (5578).
مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ..، حديث رقم (57).
([360]) البخاري: كتاب الإيمان: باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، حديث رقم (13).
مسلم: كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير، حديث رقم (45).
([361]) البخاري: كتاب الأدب، باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه، حديث رقم (6016).
مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان تحريم إيذاء الجار، حديث رقم (46).
([362]) سورة : فاطر (28).
([363]) مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، حديث رقم (2692). والحديث فيه أنه يقولها حين يصبح مائة وحين يمسي مائة.
([364]) سورة : يونس (62-63).
([365]) البخاري: كتاب الرقاق، باب التواضع، حديث رقم (6502).
([366]) سورة : النساء (48، 116).
([367]) سورة : النساء (93).
([368]) سورة : النساء (48، 116).
([369]) سورة : النساء (48، 116).
([370]) سورة : يونس (44).
([371]) البخاري: كتاب التوحيد، باب قول الله تَعَالىٰ: ﴿وجوه يومئذ ناضرة﴾، حديث رقم (7435).
مسلم: كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، حديث رقم (183).
([372]) مسند أحمد (بتحقيق أحمد شاكر): حديث رقم (2804)، قال أحمد شاكر: رواه أحمد عن شيخه عبد الله بن يزيد المقرئ بثلاثة أسانيد أحدها صحيح والآخران منقطعان، ودخل حديث بعضهم في بعض.
([373]) سورة : القلم (35-36).
([374]) سورة : الجاثية (21).
([375]) البخاري: كتاب الأدب، باب الصبر على الأذى، حديث رقم (6099).
مسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لا أحد أصبر على أذى من الله عز وجل، حديث رقم (2804).
([376]) البخاري: كتاب الرقاق، باب التواضع، حديث رقم (6502).
([377]) مسلم: كتاب الحج، باب حجة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حديث رقم (1218).
([378]) سورة : الفتح (28).
([379]) البخاري: كتاب الصلاة، باب فضل استقبال القبلة، حديث رقم (391).
([380]) سورة : طه (7).
([381]) البخاري: كتاب الإيمان، باب ﴿فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم﴾[التوبة:5]، حديث رقم (25).
مسلم: كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إلـٰه إلا الله محمد رسول الله..، حديث رقم (22).
([382]) البخاري: كتاب الديات، باب قول الله تعالىٰ: ﴿أنّ النفس بالنفس..﴾، حديث رقم (6878).
مسلم: كتاب القسامة والمحاربين، باب ما يباح به دم المسلم، حديث رقم (1676).
([383]) مسلم: كتاب الإمارة، خيار الأئمة وشرارهم، حديث رقم (1855).
([384]) البخاري: كتاب الأذان، باب إمامة العبد والمولى، حديث رقم (693).
([385]) البخاري: كتاب الفتن، باب قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((سترون بعدي أمورا تنكرونها))، حديث رقم (7056).
مسلم: كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير المعصية وتحريمها في المعصية، حديث رقم (1709).
([386]) سورة : النساء (65).
([387]) سورة : الأنعام (116).
([388]) سورة : الشعراء (8).
([389]) سورة : سبأ (13).
([390]) البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حديث رقم (3651). عن ابن مسعود.
مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة رَضِيَ اللهُ تعالىٰ عَنْهُم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، حديث رقم (2533). عن عمران بن حصين.
([391]) مسلم: كتاب الإمارة، باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع، حديث رقم (1852).
([392]) سنن الترمذي: كتاب العلم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، حديث رقم (2676). وقال: حسن صحيح.
سنن أبو داود: كتاب السنة، باب في لزوم السنة، حديث رقم (4607) .
سنن ابن ماجه: باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، حديث رقم (42، 43).
قال الشيخ الألباني: صحيح.
مسند أحمد (تحقيق أحمد شاكر وحمزة الزين): حديث العرباض بن سارية، حديث رقم (17079).
([393]) سورة : المائدة (6).
([394]) سورة : الانفطار (10-11).
([395]) سورة : ق (18).
([396]) سورة : الجاثية (29).
([397]) البخاري: كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، حديث رقم (3223).
مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، حديث رقم (632).
([398])سورة : السجدة (11).
([399]) سورة : الأنعام (61).
([400]) سورة : الأنفال (50).
([401]) أوره الشيخ الألباني مطولا في أحكام الجنائز (156)، مسألة رقم (108)، وقال: أخرجه أبوداوود والحاكم والطيالسي وأحمد والسياق له. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي، وهو كما قالا وصححه ابن القيم في إعلام الموقعين وتهذيب السنن.
([402]) سورة : النازعات (1-2).
([403]) وهو جزء من الحديث السابق.
([404]) سورة : الإسراء (85).
([405]) سورة : غافر (46).
([406]) سورة : السجدة (21).
([407]) سورة : نوح (25).
([408]) سورة : غافر (45-46).
([409]) أورده الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1695)، وقال: رواه البغوي والطحاوي وأخرجه أحمد، ورجال إسناده ثقات غير امرأة ابن عمر لم أعرفها والظن بها حسن. وقال بعد أن سرد الطرق والشواهد: وجملة القول أن الحديث بمجموع طرقه وشواهده صحيح بلا ريب، فنسأل الله تَعَالىٰ أن يهون علينا ضغطة القبر إنه نعم المجيب.
([410]) سورة : غافر (45-46).
([411]) البخاري: كتاب الوضوء، باب ما جاء في غسل البول، حديث رقم (218).
مسلم: كتاب الطهارة، باب الدليل على النجاسة البول ووجوب الاستبراء، حديث رقم (292).
([412]) البخاري: كتاب الدعوات، باب الاستعاذة من فتنة الغنى، حديث رقم (6376).
([413]) سورة : آل عمران (103).
([414]) سورة : النساء (123).
([415]) سورة : طه (112).
([416]) سورة : المطففين (6).
([417]) سورة : الحاقة (18).
([418]) سورة : الكهف (48).
([419]) سورة : الانشقاق (8).
([420]) البخاري: كتاب العلم، باب من سمع شيئا فراجع حتى يعرفه، حديث رقم (103).
مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إثبات الحساب، حديث رقم (2876).
([421]) البخاري: كتاب التفسير، باب قوله: ﴿ويقول الأشهاد هٰؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الكاذبين﴾، حديث رقم (4685).
مسلم: كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله، حديث رقم (2768).
([422]) سورة : الانشقاق (8).
([423]) سورة : الكهف (48).
([424]) سورة : الفرقان (23).
([425]) سورة : الفرقان (23).
([426]) سورة : الإسراء (13-14).
([427]) سورة : الحاقة (19).
([428]) سورة : الحاقة (25-26).
([429]) سورة : الحاقة (19).
([430]) سورة : مريم (71).
([431]) مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، حديث رقم (2699).
([432]) مسند أحمد (تحقيق أحمد شاكر): مسند عبد الله بن مسعود، حديث رقم (3991). قال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
أورده الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2750، 3192).
([433]) سورة : الكهف (105).
([434]) سورة : الأنبياء (47).
([435]) سورة : آل عمران (133).
([436]) سورة : البقرة (24).
([437]) مسلم: كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين، حديث رقم (2662).
([438]) سورة : الأنبياء (23).
([439]) سورة : النبأ (23).
([440]) سورة : هود (107).
([441]) سورة : هود (108).
([442]) سورة : النساء (168-169).
([443]) سورة : الأحزاب (64-65).
([444]) سورة : الجـن (23).
([445]) سورة : هود (107).
([446]) سورة : النبأ (23).
([447]) البخاري: كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة علىٰ العمل، حديث رقم (6464)
مسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لم يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تَعَالىٰ، حديث رقم (2816، 2817، 2818).
([448]) سورة : الأنعام (128).
([449]) سورة : يونس (44).
([450]) سورة : النحل (118).
([451]) سورة : فصلت (46).
([452]) سورة : الزخرف (77).
([453]) سورة : غافر (49).
([454]) سورة : المؤمنون (106).
([455]) البخاري: كتاب التفسير، باب ﴿فسنيسره للعسرى﴾[الليل:10]، حديث رقم (4949).
مسلم: كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه ..حديث رقم (2647).
([456]) سورة : الليل (4).
([457]) سورة : الليل (5-10).
([458]) سورة : البقرة (286).
([459]) سورة : القمر (49).
([460]) مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان.. حديث رقم (08).
([461]) سورة : آل عمران (97).
([462]) البخاري: كتاب تقصير الصلاة، باب إذا لم يطق قاعدا صلى على جنب، حديث رقم (1117).
([463]) سورة : هود (20).
([464]) سورة : الكهف (101).
([465]) سورة : الكهف (101).
([466]) سورة : هود (20).
([467]) سورة : هود (20).
([468]) سورة : هود (20).
([469]) سورة : البقرة (286).
([470]) سورة : السجدة (17)، والأحقاف (14)، والواقعة (24).
([471]) سورة : التكوير (28-29).
([472]) سورة : التكوير (28).
([473]) سورة : الإنسان (30).
([474])قال بعض أهل العلم:
مَعْقُولَـةٌ تَدْنُو لِذِي الأَفْهَامِ
مِمّا يُقال ولاَ حقيقـةَ تَحْـتَهُ
دَ البَهْشَمِي وَطَفْرَةُ النَّظَّامِ
الكَسْبُ عِنْدَ الأَشْعَرِي وَالحَالُ عنْ
([475]) سورة : البقرة (286).
([476]) سورة : البقرة (233).
([477]) سورة : البقرة (286).
([478]) مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق، حديث رقم (125).
([479]) سورة : البقرة (286).
([480]) سورة : الحج (78).
([481]) سورة : النساء (28).
([482]) سورة : البقرة (185).
([483]) سورة : الحج (78).
([484]) سورة : البقرة (286).
([485]) البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، حديث رقم (4205).
مسلم: كتاب الذكر والدعاء التوبة، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، حديث رقم (2704).
([486]) سورة : الأنبياء (23).
([487]) سورة : الإنسان (30)، التكوير (29).
([488]) سورة : يونس (44).
([489]) مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، حديث رقم (2577).
([490]) سنن أبي داوود: كتاب السنة، باب في القدر حديث رقم (4699).
سنن ابن ماجه: المقدمة، باب في القدر، حديث قم (77).
قال الشيخ الألباني: صحيح.
([491]) وهي السابقة للفعل.
([492]) سورة : آل عمران (97).
([493]) سورة : التغابن (16).
([494]) سورة : البقرة (286).
([495]) سورة : هود (20).
([496])سورة : هود (20).
([497]) سورة : النجم (39).
([498]) سورة : النجم (39).
([499]) مسلم: كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، حديث رقم (1631).
([500]) سورة : غافر (60).
([501]) سورة : محمد (38).
([502]) البخاري: كتاب التهجد، باب الدعاء في الصلاة في آخر الليل، حديث رقم (1145).
مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه، حديث رقم (758).
([503]) سورة : فاطر (15).
([504]) سورة : محمد (38).
([505]) سورة : المائدة (64).
([506]) سورة : الملك (01).
([507]) سورة : البقرة (107)، المائدة (40)، الأعراف (158)، التوبة (116)، الفرقان (2)، الزمر (44)، الزخرف (85)، الحديد (2، 5)، البروج (9).
([508]) سورة : آل عمران (26).
([509]) سورة : البقرة (255).
([510]) مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل، حديث رقم (2735).
([511]) سورة : العلق (6-7).
([512]) سورة : هود (107)، البروج (16).
([513]) سورة : آل عمران (129)، المائدة (18)، الفتح (14).
([514]) سورة : النساء (93).
([515]) سورة : الزخرف (55).
([516]) سورة : التوبة (100).
([517]) سورة : التوبة (72).
([518]) سورة : الفتح (18).
([519]) سورة : الفتح (18).
([520]) سورة : الفتح (29).
([521]) سورة : التوبة (100).
([522]) البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب الجاسوس، حديث رقم (3007).
مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وقصة حاطب بن أبي بلتعة، حديث رقم (2494).
([523]) سنن الترمذي: كتاب المناقب، باب في فضل من بايع تحت الشجرة، حديث رقم (3860). قال الشيخ الألباني: صحيح.
([524]) في نسخة: الْمَهْدِيُّونَ.
([525]) البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لو كنت متخذا خليلا))، حديث رقم 3671).
([526]) سنن الترمذي: كتاب العلم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، حديث رقم (2676). وقال: حسن صحيح.
سنن أبو داود: كتاب السنة، باب في لزوم السنة، حديث رقم (4607) .
سنن ابن ماجه: باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، حديث رقم (42، 43).
قال الشيخ الألباني: صحيح.
مسند أحمد (تحقيق أحمد شاكر وحمزة الزين): حديث العرباض بن سارية، حديث رقم (17079).
([527]) سورة : النجم (2).
([528]) سنن أبي داوود: كتاب السنة، باب في الخلفاء، حديث رقم (4649، 4650).
سنن الترمذي: كتاب الناقب، باب مناقب عبد الرحمـٰن بن عوف الزهري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، حديث رقم (3747، 3748).
سنن ابن ماجه: باب في فضائل أصحاب رسول الله، فضل العشرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، حديث رقم (133).
قال الشيخ الألباني: صحيح.
([529]) البخاري: كتاب المغازي، باب قصة أهل نجران، حديث رقم (4380، 4381).
مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي عبيدة بن الجراح، حديث رقم (2420).
([530]) البخاري: كتاب المغازي، باب قصة أهل نجران، حديث رقم (4382).
مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي عبيدة بن الجراح، حديث رقم (2419).
([531]) سورة : الأحزاب (33).
([532]) سورة : يونس (62-63).
([533]) سورة : الأحزاب (40).
([534]) سورة : محمد (18).
([535]) سورة : القمر (1).
([536]) مسلم: كتاب الفتن واشراط الساعة، باب في خروج الدجال ومكثه في الأرض.. حديث رقم (2941).
([537]) سورة : الزخرف (61).
([538]) سورة : الأنعام (158).
([539]) سورة : النمل (82).
([540]) مسند أحمد، عن أبي هريرة حديث رقم (9536)، وقال الشيخ الألباني في الإرواء (7/69): رواه الحارث بن أبي أساة في مسنده ورواه أبو بكر بن خلاد في الفوائد والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وهو كم قالا.
([541]) مسلم: كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، حديث رقم (2230)، وليس فيه (كاهنا).
([542]) سورة : النمل (65).
([543]) سورة : آل عمران (103).
([544]) سورة : الشورى (13).
([545]) سورة : الشورى (13).
([546]) سورة : آل عمران (105).
([547]) سورة : آل عمران (19).
([548]) سورة : المائدة (3).
([549]) سورة : آل عمران (85).
([550]) سورة : آل عمران (110).
([551]) سورة : البقرة (143).
([552]) سورة النساء (171).
([553]) سنن ابن ماجه: كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، حديث رقم (3028). قال الشيخ الألباني: حسن، والحديث بلفظ ((يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم بالغلو في الدين))، وأنظر أيضا السلسلة الصحيحة حديث رقم (1283).
([554]) مسلم: كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، حديث رقم (2670).
([555]) سورة : الشورى (11).
([556]) سورة : التكوير (28-29).
التصانيف العلمية: