البدع وخطورتها
الكاتب : علي بن عبد الرحمن الحذيفي
نبذة مختصرة
البدع وخطورتها: خطبةٌ ألقاها فضيلة الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي - حفظه الله - في المسجد النبوي يوم الجمعة 26/ 3/ 1431 هـ، وتحدَّث فيها عن البدع، وأنها تهدم الدين وتُفسِد ذات البَيْن، وتُوجِبُ غضب الله - عز وجل - وأليم عقابه في الآخرة، وتعم بها العقوبات في الدنيا، وتتنافر بها القلوب، وتتضرَّر بها مصالح الناس، وتُورث الذل والهوان، وتُضعف الأمة، وتُطمع أعداء الأمة الإسلامية فيها.
- 1
PDF 4.8 MB 2019-05-02
- 2
DOC 1.1 MB 2019-05-02
تفاصيل
البدع وخطورتها
الخطبة الأولى
الحمد لله ذي العزة والجبروت، والكبرياء والعظمة والملكوت، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحيُّ الذي لا يموت، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله أحيا الله به القلوب، وأنار به البصائر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه أعلام الهدى، وأنوار الدجى.
أما بعد:
فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه؛ فقد جمع الله - عز وجل - الخيرَ كله في طاعته، وجمع الشر كله في معصيته.
عباد الله:
خذوا أنفسكم بحقائق الدين الإسلامي، وألزِموا أنفسكم بكتاب ربكم وسنة نبيكم محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وتمسَّكوا بالهَدْي النبوي العظيم، فأنتم ترون كثرة المسلمين في هذا الزمان زادهم الله كثرةً، وزادهم الله صلاحًا وبركة، ولكن مع هذه الكثرة فرَّقتهم البدع والأهواء، وأضعفهمُ الاختلاف، وضعفت القلوب بإيثار الدنيا على الآخرة، ومقارفةِ الشهوات إلا من حفظ الله.
ألا وإن الدين يهدمُه ويُضعفُه في القلوب: البدعُ المُضِلَّة، والشهواتُ المحرَّمة؛ فأما البدعُ فهي الداء العُضال، والسم القتَّال، تُعمِي وتُصم، وتُهلِك صاحبها، وتضر الدين والدنيا، والبدع ما أُحْدِث في الدين مما لا أصلَ له في الشريعة يدل عليه كتابُ الله - عز وجل - وسنة نبيه، فـ«البدع ما أُحدِث في الدين مما لا أصل له في شريعة الإسلام»؛ قاله أهل العلم.
ويُعْرَف المبتدعُ بمخالفته لجماعة المسلمين وإمامهم وأهل العلم بالقرآن والسنة، وأما من انتسب للعلم وهو مُعْرِض عن كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - جاهلٌ بذلك فليس من ذوي العلم، وإنما هو داعيةٌ إلى ضلال وفتنة.
وأولُ البدع في الإسلام بدعةُ الخوارج، ثم ظهرت بقية البدع بعد ذلك، وحارب الصحابةُ البدعَ التي ظهرت في زمانهم، وردُّوها وأطفأوها وبيَّنوا للناس سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والهدى والحق، بيَّنوها بالكتاب والسنة، فكشف الله بهم الغمة، وقمع بهم البدع، وقام بالأمانة بعدهم التابعون وتابعوهم بإحسان إلى آخر الدهر، والله حافظٌ دينَه وناصرٌ كلمتَه.
قال الله - تعالى -: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9 ]، وقال - تعالى -: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40 ].
وقد حَذَّرنَا اللهُ - تعالى - من البدع، وبيَّن لنا عواقبها الوَخيمة في الدين والدنيا والآخرة، فقال - عز وجل -: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 105- 106 ]، وهذه الآية في أهل البدع التي فرَّقت بين الأمة وأضعفتها.
قال ابن كثير في تفسيره: «يعني: يوم القيامة حين تبيضُّ وجوه أهل السنة والجماعة، وتسودُّ وجوه أهل البدعة والفُرْقة. قاله ابن عباس - رضي الله عنهما»، وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «عليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة».
وعن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين مِلةً، وإن هذه الأمةَ ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني: الأهواء - كلُّها في النار إلا واحدةً وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوامٌ تتجارى بهمُ الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه لا يبقى عِرق ولا مفصل إلا دخله»؛ رواه أحمد، وأبو داود، والحاكم في «المستدرك».
والكَلَب داءٌ يعرض للإنسان من عضة الكَلْب، تتغيَّر به طبائع الإنسان وعقله، ويدخل كل مفصل فيه وكل عرق، وتزداد حالة الإنسان سوءًا كل يوم حتى يهلك.
وعن أبي برزة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن مما أخشى عليكم شهواتِ الغي في بطونكم وفروجكم، ومُضِلاتِ الهوى»؛ رواه أحمد بإسناد صحيح.
وعن العِرباضِ بن سارِيَةَ - رضي الله عنه - قال: وَعَظَنَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - موعظةً وجِلَت منها القلوب، وذَرَفَت منها العيون، فقلنا: يا رسولَ الله! كأنها موعظة مُودِّع فأوصِنا، قال: «أُوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبدٌ؛ فإنه مَنْ يعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدثاتِ الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة»؛ رواه الترمذي، وقال: «حديث حسن صحيح».
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: «إنكم قد أصبحتم اليوم على الفطرة، وإنكم ستحدثون ويحْدَث لكم، فإذا رأيتم مُحْدثةً فعليكم بالهدي الأول»؛ رواه محمد بن نصر المروزي بإسناد صحيح.
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: «إنكم لتعملون أعمالًا هي في أعينكم أدقُّ من الشَّعْر، كنا نراها من العظائم على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم».
فالبدعُ تهدم الدين، وتُفسِد ذات البَيْن، وتوجب غضب الله - عز وجل - وأليمَ عقابه في الآخرة، وتعم بها العقوبات في الدنيا، وتتنافر بها القلوب، وتتضرر بها مصالح الناس، وتورث الذُّل والهوان، وتضعف الأمة، وتُطمع أعداءَ الأمة الإسلامية فيها، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وجُعِلتِ الذلةُ والصَّغَار على من خالف أمري».
وأما الشهوات المحرمة فتضر دين المسلم من حيث إنها: تفسد قلبه وتُقسِّيه، وتُورِثُ الغفلة الضارة، وإذا تمادى فيها الإنسان واسترسل فيها رانت على القلب، فطُبِع عليه، وأعمَت البصيرة فأحب الإنسانُ ما أبغض الله، وأبغض ما أحب الله، وجرَّت عليه المعاصي الخُسرانَ والحرمان والعقوباتِ المتنوعة، وما يلاقيه في الآخرة منها أدهى وأمرُّ.
والمسلم يتحكم في نفسه ويقودها بزمام التقوى إلى كل عملٍ صالحٍ رشيد، وكل نافعٍ مفيد؛ حتى لا تَرْتعَ نفسه في المعاصي، فإنه إذا داوم الإصرار عليها، واستمر على ما يأمره به هواه، استعصت عليه نفسه وصعب قيادُها فقادته إلى كل شر وبلاء، فوقع في شرِّ جزاء، قال الله - تعالى -: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59 ].
رُويَِ عن ابن مسعود في قوله: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قال: «وادٍ في جهنمَ بعيد القعر، خبيث الطعم».
وعن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لَيكونَنَّ من أمتي أقوامٌ يستحِلُّون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف»؛ رواه البخاري. ومعنى «يستحلون الحر»: أي: يستحلون الفرج، ويرتكبون الفواحش.
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه - قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «صِنْفان من أهل النار لم أَرَهما: قومٌ معهم سِياطٌ كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساءٌ كاسياتٌ عاريات مُميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجدُ من مسيرة كذا وكذا»؛ رواه مسلم.
ومعنى «كاسيات عاريات»: أي: عليهن لباسٌ لا يستر مفاتنهن؛ لأنهن يظهرن من مفاتنهن ما يفتنَّ به أنفسهن وغيرهن، «مُميلات مائلات» معنى ذلك: أنهن مُميلات لأمثالهن من النساء إلى الشر، ومُميلاتٌ للرجال إلى الشر والقباحة والفاحشة، مائلات في أنفسن إلى ذلك، «رؤوسهن كأسنمة البخت»: مخالفات لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم.
وعن عمرانَ بن حصينٍ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «في هذه الأمة خَسْفٌ ومسخٌ وقذف»، فقال رجل: يا رسول الله! ومتى ذلك؟ قال: «إذا ظهرت القِيان والمعازف وشُربتِ الخمورُ»؛ رواه الترمذي.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا يُبالي المرء بم أخذ المال، أمِن حلالٍ أم من حرام؟»؛ رواه أحمد، والبخاري.
فيا أيها المسلم:
تفكَّر وتدبَّر واحذر دخول هذين البابين: بابِ الفتن والمبتدعات، وباب الشهوات والمحرمات؛ فهما اللذان أضرَّا بالإسلام والمسلمين، ولا يعصِم وينجِي من البدع والمحرمات إلا العلمُ النافع، والعمل الصالح؛ فالجهلُ سببُ كل شر؛ قال الله - تعالى -: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} [الأنعام: 119 ]، وقال - تعالى -: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116 ]، وقال - تعالى -: {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111 ]، وقال - عز وجل -: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9 ].
والمسلم مأمور بمعرفة دين الإسلام بأدلته من الكتاب والسنة، قال - عز وجل -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [محمد: 19 ].
وعن معاوية - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من يُردِ الله به خيرًا يُفقِّهْهُ في الدين»؛ رواه البخاري، ومسلم.
وقال ابن رجب - رحمه الله تعالى -: «وما دام العلمُ باقيًا في الأرض فالناسُ في هدى، وبقاء العلم بقاءُ حمَلته، فإذا ذهب حملته ومن يقوم به وقع الناس في الضلال»؛ انتهى كلامه.
فالعصمة والنجاة من البدع المحدثة الاعتصامُ بالكتاب والسنة؛ قال - عز وجل -: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران: 103 ]، وقال النبي - عليه الصلاة والسلام -: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي»، ويتفاضل الناس بهذا التمسك والاعتصام، ويعظم نفع المسلم ووزنه عند ربه بهذا العمل الصالح، ولزوم منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
وأما من انتسب للإسلام من غير تحقيق لأعماله وعقيدته الصحيحة التي كان عليها السلف الصالح، فهم غثاءٌ كغثاء السيل كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم.
فحاسِب نفسك - أيها المسلم - وطبِّقْ تعاليم الإسلام على نفسك لتفوز بوعد الله الحق لمن اتبع ولم يبتدع، في قوله - عز وجل -: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100 ].
والعصمةُ من البدع المُحدَثة - أيضًا - فهمُ القرآن والسنة وتفسيرهما على فهم السلف الصالح؛ فهم الذين رضي الله عنهم في تفسيرهم للقرآن الكريم والحديث الشريف، ورضي عنهم في عقيدتهم وأعمالهم، ورضي عنهم في تطبيقهم للإسلام في مثل قول الله - تبارك وتعالى -: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18 ]، ومن خالفهم توعَّده الله بقوله: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء: 115 ].
والعصمةُ من البدع المحدثة - أيضًا -: لزوم جماعة المسلمين وإمامهم بعدم الخروج عن ذلك؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم: «تلزمُ جماعةَ المسلمين وإمامَهم»؛ رواه مسلم من حديث حذيفة - رضي الله عنه.
والعصمة من البدع – أيضًا: سؤال العلماء بالكتاب والسنة والأخذ عنهم؛ قال - عز وجل -: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43 ].
والعصمة من البدع - أيضًا - سلامة الصدر من الغش، والبغي، والغِلِّ، والحسد للمسلمين الأولين والآخرين؛ لقوله - تبارك وتعالى -: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10 ]، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الدينُ النصيحةُ، الدينُ النصيحةُ، الدينُ النصيحةُ»؛ رواه مسلم من حديث تميمٍ الداريِّ.
وأما ما يعصِم وينجي من الشهوات المحرمة والمعاصي فخوفُ الله وخشيته؛ بأن يعلمَ العبد أن الله يراه، ويعلم سرَّه وعلانيته، ويُحصِي على العبد أعماله في الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، وتذكُّرُ الموت الذي يشتدُّ به الألم العظيم في كل عِرقٍ ومِفصل، وتذكُّر القبر وما بعده من الأهوال الكبار، والاعتبار بمن نالوا اللذات والشهوات، ثم حالَ الموتُ بينهم وبين ما يشتهون، فذهبَت اللذات، وبَقِيَت الحسرات والتبِعات؛ فإن الأمل والاغترار بالحياة، وإن الصحة والفراغ إن ذلك كله يُجرِّئ على معصية الله - عز وجل.
قال الله - تعالى -: {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37- 41 ].
وإذا أيقَنَ العبد بعظيم ثواب الله على ترك المعاصي حَذِرها وأبغَضَها وابتعد عنها، قال - عز وجل -: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46 ].
بسم الله الرحمن الرحيم: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153 ].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفَعَنا بهديِ سيد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم وللمسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه.
الخطبة الثانية
الحمد لله علَّام الغيوب، فارج الهمِّ وكاشف الغمِّ والكروب، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له غفَّار الذنوب، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالهدى واليقين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله - تعالى - حقَّ التقوى، وتقرَّبوا إليه بما يُحبُّه ويرضاه، واحذروا معاصيه فإنها مُردِيةً للعبد في دنياه وأخراه.
أيها المسلمون:
حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، ولْيعتنِ المسلم وليهتم بتحقيق النية الخالصة لله - تعالى - في أعماله الظاهرة والباطنة، ولتكن أعماله كلها الظاهرة والباطنة على هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُطابقةً للسنة النبوية المحمدية.
قال أهل العلم: «إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ عمِل عملًا ليس عليه أمْرنَا فهو رَد» قالوا: هذا الحديث ميزانٌ للأعمال الظاهرة، وأصلٌ عظيمٌ من أصول الإسلام، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّما الأعمالُ بالنِّيات» ميزانٌ للأعمال الباطنة».
ولْتكُنْ عنايتك - أيها المسلم - بالنية الصالحة قبل العمل أعظم من العمل، واجتهادك في القيام بالعمل وفق السنة أعظمُ من الاستكثار من الأعمال، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبه: «إنَّ خيْر الحدِيث كتابُ الله، وخيرُ الهدي هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وشرُّ الأمورِ مُحدَثاتُها، وكلُّ بدعةٍ ضلالة»؛ رواه مسلم من حديث جابر - رضي الله تعالى عنه.
وكان يُكرِّر هذا الحديث في مقامه لوعظ الأمة؛ فهو بهذا يُؤسِّس ويؤكِّد الأمر باتباع الهدي المحمدي، والتحذير من المخالفات المبتدعة، قال الله - تعالى -: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7 ]، وقال - عز وجل -: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69 ].
عباد الله:
إن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، فقال - جل وعلا -: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56 ].
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليْهِ بها عشْرًا».
فصلُّوا وسلِّمُوا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيدٌ، اللهم بارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيدٌ، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم وارضَ عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، اللهم وارضَ عن الصحب أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسان يا رب العالمين، وعنَّا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك يا قوي يا عزيز.
اللهم أذِلَّ البدع إلى يوم الدين يا رب العالمين، اللهم أذِلَّ البدع إلى يوم الدين يا رب العالمين، اللهم اجعلنا وذرياتنا والمسلمين من المتمسكين بسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - المحبين لها يا رب العالمين، اجعلنا من أتباعه ومن المقربين إليك وإلى نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - يا أكرم الأكرمين، اللهم أذِلَّ البدع يا رب العالمين إلى يوم الدين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك يا قوي يا عزيز.
اللهم ألِّف بين قلوب المسلمين، وأصلح ذات بينهم، واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم أبطِل كيد أعداء الإسلام يا رب العالمين، اللهم أبطِل مكر أعداء الإسلام يا رب العالمين يا قوي يا متين، اللهم أبطِل مُخطَّطات أعداء الإسلام التي يريدون أن يكيدوا بها الإسلام إنك على كل شيء قدير.
اللهم أظهر أنوار سنة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - في كل زمانٍ ومكانٍ يا رب العالمين يا قوي يا متين.
اللهم اجعل هذه البلاد آمنةً مطمئنةً رخاءً سخاءً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين، اللهم احفظ بلادنا من كل شر ومكروه إنك على كل شيء قدير.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا إمامنا لما تحب وترضى، اللهم وفِّقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، اللهم انصر به دينك، وأعلِ به كلمتك، واجمع به - يا رب العالمين - كلمة المسلمين، اللهم وفِّق وليَّ عهده لما تحب وترضى ولما فيه خير الإسلام يا رب العالمين، اللهم وفِّق النائب الثاني لما فيه رضاك ولما فيه الخير والصلاح للعباد - يا رب العالمين - والبلاد.
اللهم اجعل ولاة أمور المسلمين عَمَلَهم خيرًا لشعوبهم وأوطانهم يا رب العالمين ويا أكرم الأكرمين.
ربنا آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذاب النار.
اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا، اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا، وما أسرَرنا وما أعلنَّا، وما أنت أعلم به منَّا، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت، اللهم أغِثنا يا أرحم الراحمين، اللهم لا تكِلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك.
اللهم أعِذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأعِذنا من شر كل ذي شرٍ إنك أنت الله تُجير ولا يُجَار عليك يا رب العالمين.
عباد الله:
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 90، 91 ].
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه يزِدْكم، ولذِكر الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنعون.
التصانيف العلمية: