صفتي العلو والاستواء والمسائل العقدية المتعلقة بهما.
المقدمـــة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء 1].
} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد e، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وبعد:
فمن المتقرر شرعًا أن أعظم مسائل الاعتقاد هي مسائل التوحيد، والتوحيد في حقيقته يشتمل على أمرين هما:
· معرفة أسماء الله وصفاته وأفعاله.
· وعبادته وحده لا شريك له.
وعلى أساس العلم الصحيح بالله وبأسمائه وصفاته يقوم الإيمان الصحيح والتوحيد الخالص، وتنبني مطالب الرسالة جميعها؛ فهذا التوحيد هو أساس الهداية والإيمان، وهو أصل الدين الذي يقوم عليه، ولذلك فإنه لا يتصور إيمان صحيح ممن لا يعرف ربه، فهذه المعرفة لازمة لانعقاد أصل الإيمان، وهي مهمة جدًّا للمؤمن لشدة حاجته إليها؛ لسلامة قلبه، وصلاح معتقده، واستقامة عمله، فهذه المعرفة لأسماء الله وصفاته وأفعاله تُوجب للعبد التمييز بين الإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، والإقرار والتعطيل، وتنزيه الرب عما لا يَليق به، ووصفه بما هو أهله من الجلال والإكرام.
وذلك يتم بتدبر كلام الله تعالى، وما تعَرَّف به سبحانه إلى عباده على ألسنة رسله من أسمائه وصفاته وأفعاله، وما نَزَّه نفسه عنه مما لا ينبغي له ولا يليق به سبحانه.
والجدير ذِكره أن معرفة الله نوعان:
النوع الأول: المعرفة الإجمالية:
وهي التي تَلزم العبد المؤمن؛ لينعقد بها أصلُ الإيمان، وهي تتحقق بالقدر الذي يميز العبد به بين ربه وبين سائر الآلهة الباطلة، ويتحقق بها الإيمان المجمل، وتجعله في سلامة من الكفر والشرك المُخرجين من الإيمان، وتُخرجه من حدِّ الجهل بربه وما يجب له.
وهذه المعرفة يتحصل عليها من قراءة سورة الإخلاص وآية الكرسي وغيرها من الآيات، ومعرفة معانيها.
ولكن هذه المعرفة لا تُوجب قوة الإيمان والرسوخ فيه.
النوع الثاني: المعرفة التفصيلية:
وهذه تكون بمعرفة الأدلة التفصيلية الواردة في هذا الباب، وتعلمها واعتقاد اتصاف الله بها، ومعرفة معانيها، والعمل بمقتضياتها وأحكامها.
وهذه المعرفة هي التي يحصل بها زيادة الإيمان ورسوخه، فكلما ازداد العبد علمًا بالله زاد إيمانه وخشيته ومحبته لربِّه وتَعلقه به؛ قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، كما تجلب للعبد النور والبصيرة التي تُحَصِّنه من الشبهات المضللة والشهوات المحرمة.
«والعلم بالله يُراد به في الأصل نوعان:
أحدهما: العلم به نفسه، أي: بما هو متصف به مِن نُعوت الجلال والإكرام، وما دَلَّت عليه أسماؤه الحسنى.
وهذا العلم إذا رَسخ في القلب أوجب خشية الله لا محالة، فإنه لابد أن يعلم أن الله يُثيب على طاعته، ويعاقب على معصيته.
والنوع الثاني: يُراد بالعلم بالله: العلم بالأحكام الشرعية من الأوامر والنواهي والحلال والحرام.
ولهذا قال بعض السلف: العلماء ثلاثة:
1-عالم بالله ليس عالمًا بأمر الله.
2-عالم بأمر الله ليس عالمًا بالله.
3-عالم بالله وبأمر الله.
فالعالم بالله: الذي يخشى الله. والعالم بأمر الله: الذي يعرف الحلال والحرام» ([1]).
وإذا تأملت باب أسماء الله وصفاته وجدت أن أكبرُ مسألتين في باب الأسماء والصفات ركَّز عليها أعداءُ الإسلام تركيزاً شديداً
● مسألةُ العلو.
● ومسألةُ الكلام.
لأنهم إذا أبطلوا علوَّ الله تعالى أبطلوا وجوده، وإذا أبطلوا كونَ القرآن كلام الله أبطلوا حقيقةَ الوحي، فهذه غايتهم وهدفهم الذي يريدون أن يصلوا إليه.
لأن أعظم ركيزتين لدى الفلاسفة هما:
1. أن العلمَ مصدره الإنسان.
2. وأن المعلومات والعلوم محصورةٌ في المحسوس المشاهَد.
فلذلك وقفوا وقفةً خبيثة، وهجموا هجمةً شرسة ضد هاتين الصفتين، فإذا كانوا يزعمون أن العلوم مصدرها الإنسان، فإن هؤلاء يلغونَ أن الله تكلم حقيقة، ويشكَّكُّون في أن هناك وحي وقالوا: هذه عبارة محمد؛ أو عبارة جبريل، وأن الله ما تكلم حقيقة.
لأنهم إذا أسقطوا الوحي قطعوا طريق الوحي فسيتساوى قولُ محمد مع قولِ أي بشرٍ من الناس.
وإذا كانوا يزعمون إن العلوم هي المحسوسة المشاهَدة، وأعظمُ غيبٍ هو الله، فإذا أنكروا علوه؛ أنكروا وجوده، ولذلك لو سألت هؤلاء: ماذا تقولون في وجودِ الله؛ في علوِّه؟
إما أن يقولون: لا داخلَ العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، هذه عباراتهم.
وإما أن يقول: إن الله بذاته في كل مكان.
فهذا الكلام يعني أنه لا وجودَ له لأنك إذا قلت: لا داخل ولا خارج، فهذا تكذيب بوجود الله حقيقة.
فعندما يقول لك هذا القائل عن الله الذي هو أعظم الغيب؛ بأنه لا داخلَ العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، فهل أعطاك الجواب أو أعطاك النقائض؟
والجواب أنه أعطاك النقائض، وكما يقولون: جمعُ النقيضين مثلَ رفع النقيضين، هذا محال عقلاً، أن تقول موجود معدوم، فهذا لا يمكن، لأن الشيء إما موجود، وإما معدوم، أو تقول: لا موجود ولا معدوم، هذا أيضاً لا يمكن عقلاً.
أو يقول لك: إنه بذاته في كل مكان فما جعلَ له وجوداً يخصه.
فتسلَّط أعداءُ الله على باب الصفات من أجلِ أن يشكِّكُّوا في كلامِ الله ويشكِّكُّوا في وجودِ الله وذلك بإنكارهم بأن يكون القرآن كلامُ الله حقيقة، وإنكارهم لعلو الله عز وجل.
وأحببت أن أجمع في هذا المؤلف ما ورد في صفتي العلو والاستواء وما يتعلق بهما من مسائل، فإن من أغراض التأليف جمع ما تفرق وترتيب ما تفرق وتنظيم ما تناثر من أقوال ومسائل في بطون الكتب من أقوال العلماء في مسألة من المسائل وقد قسمت ذلك الكتاب إلى مقدمة وثلاثة أبواب على النحو الآتي:
الباب الأول: أقوال الناس في أسماء الله وصفاته.
وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته.
المبحث الأول: التعريف بأهل السنة والجماعة.
المبحث الثاني: معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته.
الفصل الثاني: أقوال المعطلة في أسماء الله وصفاته.
المبحث الأول: التعريف بالمعطلة.
تمهيد.
المطلب الأول: الفــلاسفة.
المطلب الثاني: أهـل الكـــلام.
المبحث الثاني: درجات تعطيلهم.
المطلب الأول: درجات التعطيل في باب الأسماء والصفات عموماً.
المطلب الثاني: درجات تعطيلهم في باب الأسماء الحسنى.
المطلب الثالث: درجات تعطيلهم في باب صفات الله تعالى.
الفصل الثالث: المشـبهــة.
المبحث الأول: التعريف بالتمثيل والتشبيه.
المبحث الثاني: التعريف بالمشبهة.
الباب الثاني: الأقوال في صفتي العلو والاستواء.
الفصل الأول: الأقوال في صفة العلو.
المبحث الأول: قول أهل السنة والجماعة ومن وافقهم.
المبحث الثاني: أقوال المخالفين.
الفصل الثاني: الأقوال في صفة الاستواء.
المبحث الأول: مذهب السلف في الاستواء.
المبحث الثاني: أقوال المخالفين.
الفريق الأول: نفاة الاستواء.
الفريق الثاني: القول بالتفويض.
الفريق الثالث: قول المشبهة.
الفصل الثالث: مسائل متعلقة بالعلو والاستواء.
المبحث الأول: هل يخلو العرش منه حال نزوله.
المبحث الثاني: مسائل الحد والمماسة.
المطلب الأول: حكم الألفاظ المجملة.
المطلب الثاني: مســألـة الحـــد.
المطلب الثالث: مسألة المماسة.
الباب الثالث: العرش وما يتعلق به من مسائل.
الفصل الأول: تعريف العرش.
المبحث الأول: المعنى اللغوي لكلمة العرش.
المبحث الثاني: المذاهب في تعريف العرش.
الفصل الثاني: الأدلة على إثبات العرش من الكتاب والسنة.
المبحث الأول: الأدلة القرآنية على إثبات العرش.
المبحث الثاني: الأدلة من السنة على إثبات العرش.
الفصل الثالث: صفة العرش وخصائصه.
المبحث الأول: خلق العرش وهيئته.
المبحث الثاني: مكان العرش.
المبحث الثالث: خصائص العرش.
الفصل الرابع: الكلام على حملة العرش وعلى الكرسي.
المبحث الأول: الكلام على حملة العرش.
المبحث الثاني: الكلام على الكرسي.
وبعد: فهذا جهد المقل، أضعه بين يدي القارئ الكريم، وقد بذلت فيه قصارى جهدي، وغاية وسعي، فما كان فيه من صواب وحق فالحمد لله على توفيقه، وذلك من فضله ومنّه، وما كان فيه من خطل، أو زلل، أو خلل، فأستغفر الله من كل ذنب وخطيئة. وأستسمح القارئ الكريم عذراً إذا ما وجد في عملي هذا تقصيراً، فهذا جهد البشر، فأرجو من كل من اطلع على خطأ أو قصور أن يبادرني النصيحة مشكوراً مأجوراً، والله أسأل أن ينفع بهذا العمل ويبارك فيه، وأن يجعله عملاً صالحاً ولوجهه خالصاً وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الباب الأول أقوال الناس في أسماء الله وصفاته
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول: معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته
الفصل الثاني: أقوال المعطلة في أسماء الله وصفاته
الفصل الثالث: أقوال المشبهة في أسماء الله وصفاته
الفصل الأول معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته
وفيه مبحثان
المبحث الأول: التعريف بأهل السنة والجماعة
المبحث الثاني: معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته
المبحث الأول: التعريف بأهل السنة والجماعة.
المقصود بأهل السنة والجماعة هم: الصحابة، والتابعون، وتابعوهم، ومن سلك سبيلهم، وسار على نهجهم، من أئمة الهدى، ومن اقتدى بهم من سائر الأمة أجمعين.
فيخرج بهذا المعنى كل طوائف المبتدعة وأهل الأهواء.
فالسنة هنا في مقابل البدعة، والجماعة هنا في مقابل الفُرقة.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} [آل عمران 106] قال: (تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة والفُرقة) ([2]).
والجدير بالذكر هنا أن نعرف أن العلماء يستعملون هذه العبارة لمعنيين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فلفظ أهل السنة يراد به:
1ـ من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة ([3]).
2ـ وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة، فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى ويقول: (إن القرآن غير مخلوق، وإن الله يرى في الآخرة، ويثبت القدر، وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة) ([4]).
فالمقصود بعبارة (أهل السنة) هو المعنى الثاني الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، ذلك أن لأهل السنة أصولهم التي اتفقوا عليها ونصوا عليها في كتب الاعتقاد المعروفة.
ولأهل السنة عدة مسميات منها: أهل الحديث، الفرقة الناجية، الجماعة، وغير ذلك.
ويمكن حصر قواعد منهج أهل السنة في النقاط التالية:
أولاً: ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها.
ثانياً: التقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث. وذلك يتم بـ:
أ-الاجتهاد في تمييز صحيحيه من سقيمه.
ب-الاجتهاد في الوقوف على معانيه وتفهمه ([5]).
ثالثاً: العمل بذلك والاستقامة عليه اعتقادًا، وتفكيرًا، وسلوكًا، وقولًا، والبعد عن كل ما يخالفه ويناقضه.
رابعاً: الدعوة إلى ذلك باللسان والبنان.
فمن التزم هذه القواعد في الاعتقاد، والعمل، فهو على نهج أهل السنة بإذن الله.
فعقيدة أهل السنة والجماعة هي عقيدة الطائفة المنصورة الباقية، كما أخبر بذلك الرسول e حيث قال: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة)) ([6]). وهي الفرقة الناجية التي قال عنها e: ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)) قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: ((من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)) ([7]).
فعلامتهم كما أخبر النبي e أنهم يكونون على ما كان عليه النبي e وأصحابه فتلك ميزة تميزت بها عقيدة أهل السنة والجماعة لا توجد عند غيرهم، فعقيدتهم تتميز بأصولها التي تُستمدُ منها كل مسائل هذا العلم.
فالقرآن الكريم الذي هو حبل الله المتين، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو الأصل الأول من أصول أهل السنة والجماعة. والأصل الثاني السنة النبوية الصحيحة الثابتة عن رسول الله e، فلقد أوجب الله على الناس اتباع رسوله e والاقتداء بسنته، قال تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر 7]، وقال تعالى {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب 21]. فأهل السنة والجماعة كان اعتصامهم بالكتاب والسنة (بخلاف أهل البدعة والفرقة، فإن عمدتهم في الباطن ليست على القرآن والسنة، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم عليها يعتمدون في التوحيد والصفات والقدر والإيمان بالرسول وغير ذلك، ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به، وما خالفها تأولوه؛ فلهذا تجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما، ولم يستقصوا ما في القرآن من ذلك المعنى؛ والآيات والأحاديث التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيف أمكن، فليس مقصودهم أن يفهموا مراد الله ومراد رسوله، بل أن يدفع منازعه عن الاحتجاج بها) ([8]).
وأما أهل السنة والجماعة فأصولهم التي اعتمدوا عليها هي الكتاب والسنة ومرادهم اتباع شرع الله الذي شرعه على لسان رسوله محمد e.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: (آمنت بما جاء عن الله، وبما جاء عن رسول الله e على مراد رسول الله) ([9]).
ولذلك لم يستقلوا بفهومهم وإنما اعتمدوا في فهم تلك الأصول على ما فهمه أصحاب النبي e، الذين عاشوا فترة نزول الوحي، وعلموا مراد الله ومراد رسوله e، وهذه ميزة ثانية، فإذا كانت أصول أهل السنة واحدة وهي الكتاب والسنة فكذلك أئمة أهل السنة هم السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم، فعلى علمهم وفهمهم يعولون وعن قولهم يصدرون.
قال الإمام أحمد رحمه الله: (أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله e، والاقتداء بهم وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات والجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين.
والسنة عندنا آثار رسول الله e، والسنة تفسر القرآن، وهي دلائل القرآن، وليس في السنة قياس، ولا تضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول والأهواء، إنما هي الاتباع وترك الهوى) ([10]).
قال الإمام أَحْمَد بن حَنْبَل: "إيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَك فِيهَا إمَامٌ، وَكَانَ فِي الْمِحْنَةِ يَقُولُ: كَيْفَ أَقُولُ مَا لَمْ يُقَلْ؟"[11]
فأمور هذا الدين ترجع إلى سند متصل إلى النبي e، فلذلك كان لأهل السنة سندهم المتصل، ولذلك يقال لأهل البدع هذه هي أصولنا وأسانيدنا ترجع إلى النبي e، فيا ترى أصول أهل البدع إلى أي شيء ترجع.
المبحث الثاني: معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته
معتقد أهل السنة في أسماء الله وصفاته، يقوم على أساس الإيمان بكل ما وردت به نصوص القرآن والسنة الصحيحة إثباتاً ونفياً، فهم بذلك:
1ـ يسمون الله بما سمى به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله e، لا يزيدون على ذلك ولا ينقصون منه.
2ـ ويثبتون لله عز وجل ويصفونه بما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله e من غير تحريف ([12])، ولا تعطيل ([13])، ومن غير تكييف ([14])، ولا تمثيل ([15]).
3ـ وينفون عن الله ما نفاه عن نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله محمد e، مع اعتقاد أن الله موصوف بكمال ضد ذلك الأمر المنفي.
فأهل السنة سلكوا في هذا الباب منهج القرآن والسنة الصحيحة، فكل اسم أو صفة لله سبحانه وتعالى وردت في الكتاب والسنة الصحيحة فهي من قبيل الإثبات فيجب بذلك إثباتها.
وأما النفي فهو أن ينفى عن الله عز وجل كل ما يضاد كماله من أنواع العيوب والنقائص مع وجوب اعتقاد ثبوت كمال ضد ذلك المنفي.
قال الإمام أحمد: (لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله e لا نتجاوز القرآن والسنة).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وطريقة سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله e، من غير تحريف، و لا تعطيل، ولا تكييف، و لا تمثيل، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل، إثبات الصفات ونفي مماثلة المخلوقات قال تعالى {ليس كمثله شيء} ([16]) فهذا رد على الممثلة {وهو السميع البصير} ([17]) رد على المعطلة.
وقولهم في الصفات مبني على أصلين:
أحدهما: أن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص مطلقاً كالسِنَةِ، والنوم، والعجز، والجهل، وغير ذلك.
والثاني: أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها، على وجه الاختصاص بما له من الصفات، فلا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات) ([18]).
ويمكن إجمال معتقد أهل السنة في أسماء الله في النقاط التالية:
1ـ الإيمان بثبوت الأسماء الحسنى الواردة في القرآن والسنة، من غير زيادة ولا نقصان.
2ـ الإيمان بأن الله هو الذي يسمي نفسه، ولا يسميه أحد من خلقه، فالله عز وجل هو الذي تكلم بهذه الأسماء، وأسماؤه منه، وليست محدثة مخلوقة كما يزعم الجهمية، والمعتزلة، والكلابية، والأشاعرة، والماتريدية.
3ـ الإيمان بأن هذه الأسماء دالة على معانٍ في غاية الكمال، فهي أعلام وأوصاف، وليست كالأعلام الجامدة التي لم توضع باعتبار معانيها، كما يزعم المعتزلة.
4ـ احترام معاني تلك الأسماء، وحفظ ما لها من حرمة في هذا الجانب، وعدم التعرض لتلك المعاني بالتحريف والتعطيل كما هو شأن أهل الكلام.
5ـ الإيمان بما تقتضيه تلك الأسماء من الآثار وما ترتب عليها من الأحكام ([19]).
(ويمكن إجمال معتقد أهل السنة في صفات الله في النقاط التالية:
1ـ إثبات تلك الصفات لله عز وجل حقيقةً على الوجه اللائق به، وأن لا تعامل بالنفي والإنكار.
2ـ أن لا يتعدى بها اسمها الخاص الذي سماها الله به، بل يحترم الاسم كما يحترم الصفة، فلا يعطل الصفة، ولا يغير اسمها ويعيرها اسماً آخر. كما تسمي الجهمية المعطلة سمعه، وبصره، وقدرته، وحياته، وكلامه أعراضاً. ويسمون وجهه ويديه وقدمه -سبحانه-جوارح وأبعاضاً، ويسمون حكمته وغاية فعله المطلوبة: عللاً وأعراضاً. ويسمون أفعاله القائمة به: حوادث. ويسمون علوه على خلقه واستواءه على عرشه: تحيزاً. ويتواصون بهذا المكر الكُبَّار إلى نفي ما دل عليه الوحي والعقل والفطرة، وآثار الصنعة من صفاته. فيسعون بهذه الأسماء التي سموها هم وأباؤهم على نفي صفاته وحقائق أسمائه.
3ـ عدم تشبيهها بما للمخلوق. فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
4ـ اليأس من إدراك كنهها وكيفيتها. فالعقل قد يئس من تعرف كنه الصفة وكيفيتها. فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله، وهذا معنى قول السلف (بلا كيف) أي بلا كيف يعقله البشر فإن من لا تعلم حقيقة ذاته وماهيته، كيف تعرف كيفية نعوته وصفاته؟ ولا يقدح ذلك في الإيمان بها، معروفة معانيها، فالكيفية وراء ذلك) ([20]).
5ـ الإيمان بما تقتضيه تلك الصفات من الآثار وما يترتب عليها من الأحكام.
وقد بسطت معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته كتاب معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات، فمن أراد الاستزادة والتوسع فليرجع إليه.
الفصل الثاني أقوال المعطلة في أسماء الله وصفاته
وفيه مبحثان
المبحث الأول: التعريف بالمعطلة
المبحث الثاني: درجات تعطيلهم
المبحث الأول التعريف بالمعطلة
وفيه تمهيد ومطلبان
المطلب الأول: الفلاسفة
المطلب الثاني: أهل الكلام
تمهيد
ينقسم المعطلة في باب الأسماء والصفات إلى
الفلاسفة | أهل الكلام | |||||||||
فلسفة محضة (كالفارابي) | فلسفة باطنية | الجهمية | المعتزلة | الكلابية | الأشاعرة | الماتريدية | ||||
رافضة إسماعيلية (كابن سينا وإخوان الصفا) | صوفية اتحادية (كابن عربي وابن سبعين) | المتقدمون | المتأخرون | |||||||
وتنقسم مسالك تعطيلهم إلى
مسلك التبديل (تبديل المعاني) | مسلك التجهيل (الجهل بمعانيها) | ||
مسلك الوهم والتخييل (الفلاسفة) | مسلك التحريف والتأويل (أهل التأويل) | من يزعم أن المراد خلاف مدلول الظاهر وينفي علم ذلك المراد عما سوى الله (مسلك ثاني عند الأشاعرة) | من يزعم أنها تجري على ظاهرها ومع ذلك لا يعلم تأويلها إلا الله (بعض المنتسبين إلى الأئمة الأربعة) |
وتنقسم درجات تعطيلهم إلى
غلاة المعطلة (الذين ينكرون جميع الأسماء والصفات) | من يثبت الأسماء وينفي جميع الصفات (وهم المعتزلة، الرافضة الإمامية، الزيدية، الإباضية من الخوارج) | من يثبت الأسماء والصفات الذاتية وينفي الاختيارية (الكلابية وقدماء الأشاعرة) | من يثبت الأسماء وسبع صفات هي (الحياة، العلم، القدرة، الإرادة، السمع، البصر، الكلام)، (وهم الأشاعرة المتأخرون والماتريدية) |
المكذبة النفاة الذين يقولون إن الله لا يوصف بإثبات ويجيزون النفي (الجهمية وابن سينا) | المتجاهلة الواقفة الذين يقولون إن الله لا يوصف بإثبات ولا نفي (القرامطة) | المتجاهلة الا أدرية الذين يقولون نسكت عن الأمرين (الإثبات والنفي)، (الحلاج) | الاتحادية الذين يقولون بالإثبات العام، والنفي العام |
وسيأتي تفصيل ذلك في المطالب المندرجة تحت هذا المبحث
المطلب الأول: الفــلاسفة
(الفلاسفة، اسم جنس لمن يُحِبُ الحكمة ويُؤثِرُها.
وقد صار هذا الاسم في عرف كثير من الناس مختصاً بمن خرج عن ديانات الأنبياء، ولم يذهب إلا إلى ما يقتضيه العقل في زعمه.
وأخص من ذلك أنه في عرف المتأخرين اسم لأتباع أرسطو، وهم المَشَّاؤُون خاصة وهم الذين هذب ابن سينا طريقتهم وبسطها وقررها. وهي التي يعرفها، بل لا يعرفُ سواها، المتأخرون من المتكلمين) ([21]).
أما الفلاسفة فإن إيمانهم بالله تبارك وتعالى لا يكاد يتعدى الإيمان بوجوده المطلق، -أي بوجوده في الذهن والخيال دون الحقيقة-، وأما ما عدا ذلك فلا يكادون يتفقون على شيء، فالمباحث العقدية عندهم من أسخف وأفسد ما قالوا به.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (أما الإلهيات فكلياتهم فيها أفسد من كليات الطبيعة، وغالب كلامهم فيها ظنون كاذبة فضلاً عن أن تكون قضايا صادقة) ([22]).
ويتجلى فساد معتقد الفلاسفة في الله أكثر عندما نعرض لك بعض أقوالهم في ذات الله وصفاته.
فالفلاسفة يطلقون على الله مسمى (واجب الوجود)، وتوحيد واجب الوجود عندهم يكفي مجرد تصوره للعلم الضروري بفساده.
فالتوحيد عندهم يقتضي تجريده من كل صفات الكمال اللازمة له، فهو ليس له حياة ولا علم ولا قدرة ولا كلام، ولا غير ذلك من الصفات، ويقولون بدلاً من ذلك: (إنه عاقل ومعقول وعقل، ولذيذ وملتذ ولذة، وعالم ومعلوم وعلم)، وجعلوا كل ذلك أموراً عدمية.
ودفعهم إلى ذلك زعمهم أن تعدد الصفات موجب للتركيب في حق الله، وفساد هذا القول جلي واضح، فالله وصف نفسه بالصفات، ووصفه بها رسوله e وثبت ذلك في الكتاب والسنة نقلاً.
كما أن العقل يشهد بفساد قولهم، فإن تعدد الصفات لم تقل لغة ولا شرع ولا عقل سليم إنه يوجب تركيب الموصوف إلا عند الفلاسفة ([23]).
ومن شنيع كلامهم كذلك زعمهم أن الله لا يعلم الجزئيات عندهم، فهو لا يعرف عين موسى، ولا عيسى، ولا محمداً عليهم الصلاة والسلام، فضلاً عن الوقائع التي قصها القرآن وغيرها من أمور المخلوقات. وفساد هذا القول واضح جلي في النقل والعقل. أما النقل فالله يقول {ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام 59] وكذا العقل أيضاً شاهد بفساد هذا المعتقد، فكيف يجهل الله أموراً سيرها بأمره وأجراها بقدره وأخبر عنها في كتابه ([24]).
ومن شنيع قولهم ما قالوه في قدرة الله من أنه فاعل بالطبع لا بالاختيار لأن الفاعل بالطبع يتحد فعله، والفاعل بالاختيار يتنوع فعله، وما دروا أنهم بهذا جعلوا الإنسان الفاعل بالاختيار أكمل من الله الفاعل بالطبع على حد زعمهم. وهذا القول مردود بقول الله {وربك يخلق ما يشاء ويختار} [القصص 28]، ومردود بالعقل لأن الله هو أكمل الفاعلين فكيف يُشبَّه فعله بفعل الجماد.
والفلاسفة يدأبون حتى يثبتوا واجب الوجود، ومع إثباتهم له فهو عندهم وجود مطلق، لا صفة له ولا نَعْتَ، ولا فعل يقوم به، لم يخلق السموات والأرض بعد عدمها، ولا له قدرة على فعل، ولا يعلم شيئاً. ولا شك أن الذي كان عند مشركي العرب من كفار قريش وغيرهم أهون من هذا، فعباد الأصنام كانوا يثبتون رباً خالقاً عالماً قادراً حياً، وإن كانوا يشركون معه في العبادة.
ففساد أقوال الفلاسفة في الله لا يضاهيه فساد، وسنعرض لأقوالهم في أسماء الله وصفاته فيما بعد إن شاء الله تعالى.
فهذا ما عند هؤلاء من خبر الإيمان بالله عز وجل.
(وأما الإيمان بالملائكة فهم لا يعرفون الملائكة، ولا يؤمنون بهم. وإنما الملائكة عندهم ما يتصوره النبيُّ بزعمهم في نفسه من أشكال نُورانِية، هي العقول عندهم، وهي مجرَّدات ليست داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوق السموات ولا تحتها، ولا هي أشخاص تتحرك، ولا تصعد، ولا تنزل، ولا تدبِّر شيئاً، ولا تتكلم، ولا تكتب أعمال العبد، ولا لها إحساس ولا حركة البتة، ولا تنتقل من مكان إلى مكان، ولا تّصُفُّ عند ربها، ولا تصلي، ولا لها تصرف في أمر العالم البتة، فلا تقبض نفس العبد، ولا تكتب رزقه وأجله وعمله، ولا عن اليمين وعن الشمال قعيد، كل هذا لا حقيقة له عندهم البتة.
وربما تقرب بعضهم إلى الإسلام، فقال: الملائكة هي القوى الخَيِّرة الفاضلة التي في العبد، والشياطين هي القوى الشريرة الرَّديئة، هذا إذا تقربوا إلى الإسلام وإلى الرسل.
وأما الكتب فليس لله عندهم كلام أنزله إلى الأرض بواسطة الملك، فإنه ما قال شيئاً، ولا يقول، ولا يجوز عليه الكلام. ومن تقرب إليهم من المسلمين يقول: الكتب المنزلة فَيْضٌ فاضَ من العقل الفَعَّال على النفس المستعدة الفاضلة الزكية، فتصورت تلك المعاني، وتشكلت في نفسه بحيث توهم أصواتاً تخاطبه، وربما قَوِيَ الوهم حتى يراها أشكالا نورانية تخاطبه، وربما قوي ذلك حتى يُخَيِّلها لبعض الحاضرين، فيرونها ويسمعون خطابها، ولا حقيقة لشيء من ذلك في الخارج.
وأما الرسل والأنبياء فللنبوة عندهم ثلاث خصائص، من استكملها فهو نبيُّ:
أحدها: قوة الحدس، بحيث يدرك الحد الأوسط بسرعة.
الثانية: قوة التخيل والتخييل، بحيث يتخيل في نفسه أشكالاً نورانية تخاطبه، ويسمع الخطاب منها، ويخيلها إلى غيره.
الثالثة: قوة التاثير بالتصرف في هيولى العالم. وهذا يكون عنده بتجرد النفس عن العلائق، وإتصالها بالمفارقات، من العقول والنفوس المجردة.
وهذه الخصائص تحصل بالاكتساب. ولهذا طلبَ النبوة من تصوف على مذهب هؤلاء كابن سبعين، وابن هود، وأضرابهم. والنبوة عند هؤلاء صنعةٌ من الصنائع، بل من أشرف الصنائع، كالسياسة، بل هي سياسة العامة، وكثير منهم لا يرضى بها، ويقول: الفلسفة نبوة الخاصة. والنبوة: فلسفة العامة.
وأما الإيمان باليوم الآخر فهم لا يقرون بانفطار السموات، وانتثار الكواكب، وقيامة الأبدان، ولا يقرون بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، وأوجد هذا العالم بعد عدمه.
فلا مبدأ عندهم، ولا معاد، ولا صانع، ولا نبوة، ولا كتب نزلت من السماء، تكلم الله بها، ولا ملائكة تنزلت بالوحي من الله تعالى.
فدين اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خير من دين هؤلاء.
وحَسبُكَ جهلاً بالله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، من يقول: إنه سبحانه لو علم الموجودات لحقه الكلال والتعب، واستكمل بغيره. وحسبك خذلاناً، وضلالاً وعمى: السير خلف هؤلاء، وإحسان الظن بهم، وأنهم أولو العقول) ([25]).
والذي ينبغي معرفته أن الفلاسفة لا يؤمنون بوجود الله حقيقة، ولا يؤمنون بوحي ولا نبوة ولا رسالة، وينكرون كل غيب، فالمبادئ الفلسفية جميعها تقوم على أصلين هما:
الأصل الأول: أن الأصل في العلوم هو عقل الإنسان، فهو عندهم مصدر العلم.
الأصل الثاني: أن العلوم محصورة في الأمور المحسوسة المشاهدة فقط.
فتحت الأصل الأول أبطلوا الوحي، وتحت الأصل الثاني أبطلوا الأمور الغيبية بما فيها الإيمان بالله واليوم الآخر.
وقد تسلط الفلاسفة على المسائل الاعتقادية وزعموا أنها مجرد أوهام وخيالات لا حقيقة لها ولا وجود لها في الخارج، فلا الله موجود حقيقة، ولا نبوة ولا نبي على التحقيق، ولا ملائكة، ولا جنة ولا نار، ولا بعث ولا نشور.
المطلب الثاني: أهـل الكـــلام
وأما أهل الكلام فقد شاركوا الفلاسفة في بعض أصولهم، وأخذوا عنهم القواعد المنطقية والمناهج الكلامية، وتأثروا بها إلى درجة كبيرة. وسلكوا في تقرير مسائل الاعتقاد المسلك العقلاني على حد زعمهم، وهم وإن كانوا يخالفون الفلاسفة في قولهم إن هذه الحقائق مجرد وهم وخيال، إلا أنهم شاركوهم في تشويه كثير من الحقائق الغيبية، فلا تجد في كتب أهل الكلام على اختلاف طوائفهم تقريراً لمسائل الاعتقاد كما جاءت بها النصوص الصحيحة، فبدل أن تسمع أو تقرأ قال الله أو قال رسوله e أو قال الصحابة، فإنك لا تجد في كتبهم إلا قال الفضلاء، قال العقلاء، قال الحكماء، ويعنون بهم فلاسفة اليونان من الوثنيين، فكيف جاز لهم ترك كلام الله وكلام رسوله e والأخذ بكلام من لا يعرف الله ولا يؤمن برسوله.
والمطلع على كتب أهل الكلام يدرك عظم الضرر الذي جَنَتْهُ على الأمة المسلمة، إذ تسببت تلك الكتب بحجب الناس عن المعرفة الصحيحة لله ورسوله ولدينه، وجُعِلَ بدل ذلك مقالات التعطيل والتجهيل والتخييل.
وأهل الكلام ليسوا صنفاً واحداً بل هم عدة أصناف، وهم:
1ـ الجهمية، 2ـ المعتزلة، 3ـ الكلابية، 4ـ الأشاعرة، 5ـ الماتريدية.
وهذه الأصناف الخمسة كل له قوله ورأيه بحسب الشبه العقلية التي استند إليها.
أولاً: فأما الجهمية فهم أتباع جهم بن صفوان الذي أخذ عن الجعد بن درهم مقالة التعطيل عندما التقى به بالكوفة ([26])، وقد نشر الجهم مقالة التعطيل وامتاز عن شيخه الجعد بمزية المغالبة في النفي وكثرة إظهار ذلك والدعوة إليه نظراً لما كان عليه من سلاطة اللسان وكثرة الجدال والمراء.
من أشهر معتقداتهم:
1ـ إنكارهم لجميع الأسماء والصفات كما سيأتي تفصيله.
2ـ أنهم في باب الإيمان مرجئة، يقولون: إن الإيمان يكفي فيه مجرد المعرفة القلبية، وهذا شر أقوال المرجئة.
3ـ أنهم في باب القدر جبرية، ينكرون قدرة العبد واختياره في فعله.
4ـ ينكرون رؤية الخلق لله يوم القيامة.
5ـ يقولون إن القرآن مخلوق.
6ـ يقولون بفناء الجنة والنار.
إلى غير ذلك من المعتقدات الباطلة التي قال بها الجهمية.
ثانياً: المعتزلة، وهم أتباع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وهم فرق كثيرة يجمعها ما يسمونه بأصولهم الخمسة وهي:
1ـالتوحيد، 2ـالعدل، 3ـالوعد والوعيد، 4ـالمنزلة بين المنزلتين، 5ـالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والاعتزال في حقيقته يحمل خليطاً من الأراء الباطلة التي كانت موجودة في ذلك العصر، فقد جمع المعتزلة بين أفكار الجهمية، والقدرية، والخوارج، والرافضة.
فقد شاركوا الجهمية في بعض أصولهم، فوافقوهم في إنكار الصفات، فزعموا أن ذات الله لا تقوم بها صفة ولا فعل، كما سيأتي تفصيله. وقالوا بإنكار رؤية الله يوم القيامة وقالوا إن القرآن مخلوق إلى غير ذلك.
كما شاركوا القدرية في إنكارهم لقدرة الله في أفعال العباد، وأخذوا عنهم القول بأن العباد يخلقون أفعالهم.
كما شاركوا الخوارج في مسألة الإيمان، وقالوا بقولهم إن الإيمان قول، واعتقاد، وعمل، لا يزيد ولا ينقص، وأنه إذا ذهب بعضه زال الإيمان.
وبناءً على ذلك شاركوهم في مسألة مرتكب الكبيرة، فالمعتزلة وإن قالوا بأن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين في الدنيا، إلا أنهم وافقوا الخوارج في قولهم بأن مرتكب الكبيرة في الآخرة خالد مخلد في النار.
وأخذوا كذلك عن الخوارج رأيهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
كما أنهم شاركوا الروافض في الطعن في أصحاب النبي e، فقد كان من كلام واصل بن عطاء في أهل صفين قوله: (إن كلاهما فاسق لا بعين) وقوله عن علي ومعاوية رضي الله عنهما: (لو أن كلاهما جاء عندي يشهد على حزمة بقل ما قبلت شهادتهما)، وأواخر المعتزلة كانوا أقرب إلى التشيع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقدماء الشيعة كانوا مخالفين للمعتزلة بذلك (يعني مسائل الصفات والقدر)، فأما متأخروهم من عهد بني بويه ونحوهم من أوائل المائة الرابعة ونحو ذلك، فإنهم صار فيهم من يوافق المعتزلة في توحيدهم وعدلهم، والمعتزلة شيوخ هؤلاء إلى ما يوجد في كلام ابن النعمان المفيد وصاحبيه أبي جعفر الطوسي، والملقب بالمرتضى ونحوهم هو من كلام المعتزلة، وصار حينئذ في المعتزلة من يميل إلى نوع من التشيع إما تسوية علي بالخليفتين، وإما تفضيله عليهما، وإما الطعن في عثمان، وإن كانت المعتزلة لم تختلف في إمامة أبي بكر وعمر. وقدماء المعتزلة كعمرو بن عبيد وذويه كانوا منحرفين عن علي حتى كانوا يقولون: لو شهد هو وواحد من مقاتليه شهادة لم نقبلها، لأنه قد فسق أحدهما لا بعينه. فهذا الذي عليه متأخرو الشيعة والمعتزلة خلاف ما عليه أئمة الطائفتين وقدماؤهم) ([27]).
كما أخذوا عن الشيعة الرافضة أكثر آرائهم الخاصة بالإمامة.
وعلى هذا فأفكار المعتزلة إنما هي خليط من آراء الفرق المخالفة في عصرهم.
وأفكار المعتزلة يحملها اليوم كل من: الرافضة الإمامية، والزيدية، والإباضية، وكذلك من يسمون بالعقلانيين.
ثالثاً: متكلمة الصفاتية (الكلابية -الأشاعرة -الماتريدية).
1ـ أما الكلابية، وهم أتباع أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان ([28]) (ت 243هـ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (كان الناس قبل أبي محمد بن كلاب صنفين:
فأهل السنة والجماعة يثبتون ما يقوم بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها.
والجهمية من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا وهذا.
فأثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به، ونفى أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها. ووافقه على ذلك أبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري وغيرهما.
وأما الحارث المحاسبي فكان ينتسب إلى قول ابن كلاب، ولهذا أمر أحمد بهجره، وكان أحمد يحذر عن ابن كلاب وأتباعه ثم قيل عن الحارث: إنه رجع عن قوله) ([29]).
فهذا النهج الذي أحدثه ابن كلاب هو ما صار يعرف فيما بعد بمنهج متكلمة الصفاتية لأن ابن كلاب كان في طريقته يميل إلى مذهب أهل الحديث والسنة، لكن كان في طريقته نوع من البدعة، لكونه أثبت قيام الصفات بذات الله، ولم يثبت قيام الأمور الاختيارية بذاته.
وقد كانت له جهود في الرد على الجهمية ([30]) ولكنه ناظرهم بطريق قياسية سلم لهم فيها أصولاً هم واضعوها من امتناع تكلمه تعالى بالحروف، وامتناع قيام الصفات الاختيارية بذاته مما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال والكلام وغير ذلك. ([31]) فأصبح بعد ذلك قدوة وإماماً لمن جاء بعده من هذا الصنف الذين أثبتوا الصفات وناقضوا نفاتها، لكن شاركوهم في بعض أصولهم الفاسدة التي أوجبت فساد بعض ما قالوه من جهة المعقول ومخالفته لسنة الرسول.) ([32])
فابن كلاب أحدث مذهباً جديداً، فيه ما يوافق السلف وفيه ما يوافق المعتزلة والجهمية. وبذلك يكون قد أسس مدرسة ثالثة وهي مدرسة «الصفاتية» التي اشتهرت بمذهب الإثبات، لكن في أقوالهم شيء من أصول الجهمية ([33])
وقد سار على هذا النهج القلانسي، والأشعري، والمحاسبي، وغيرهم، وهؤلاء هم سلف الأشعري والأشاعرة القدماء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكان أبو محمد بن كلاب هو الأستاذ الذي اقتدى به الأشعري في طريقه هو وأئمة أصحابه، كالحارث المحاسبي، وأبي العباس القلانسي، وأبي سليمان الدمشقي، وأبي حاتم البستي) ([34])
فابن كلاب هو إمام الأشعرية الأول، وكان أكثر مخالفة للجهمية، وأقرب إلى السلف من الأشعري ([35]).
ولكن هذا النهج الكلابي ابتعد شيئاً فشيئاً عن منهج السلف، وأصبح يقرب أكثر فأكثر إلى نهج المعتزلة وذلك على يد وارثيه من الأشاعرة.
فابن كلاب كما أسلفنا كان أقرب إلى السلف من أبي الحسن الأشعري، وأبو الحسن الأشعري أقرب إلى السلف من القاضي أبي بكر الباقلاني، والقاضي أبو بكر وأمثاله أقرب إلى السلف من أبي المعالي الجويني وأتباعه ([36]).
ولهذا يوجد في كلام الرازي والغزالي ونحوهما من الفلسفة مالا يوجد في كلام أبي المعالي الجويني وذويه، ويوجد في كلام الرازي والغزالي والجويني من مذهب النفاة المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي الحسن الأشعري وقدماء أصحابه، ويوجد في كلام أبي الحسن الأشعري من النفي الذي أخذه من المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي محمد بن كلاب الذي أخذ أبو الحسن طريقته.
ويوجد في كلام ابن كلاب من النفي الذي قارب فيه المعتزلة ما لا بوجد في كلام أهل الحديث والسنة والسلف والأئمة. وإذا كان الغلط شبراً صار في الأتباع ذراعاً ثم باعاً حتى آل إلى هذا المآل والسعيد من لزم السنة ([37]).
وقد تلاشت الكلابية كفرقة، لكن أفكارها حملت بواسطة الأشاعرة، فقد احتفظ الأشعري وقدماء أصحابه بأفكار الكلابية ونشروها، وبذلك اندرست المدرسة الكلابية الأقدم تاريخاً والأسبق ظهوراً في الأشعرية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والكلابية هم مشايخ الأشعرية، فإن أبا الحسن الأشعري إنما اقتدى بطريقة أبي محمد بن كلاب، وابن كلاب كان أقرب إلى السلف زمناً وطريقة. وقد جمع أبو بكر بن فورك (ت406هـ) كلام ابن كلاب والأشعري وبين اتفاقهما في الأصول) ([38]).
فالكلابية أسبق في الظهور من الأشاعرة والماتريدية، فقد نشأت الكلابية في منتصف القرن الثالث، وهي أول الفرق الكلامية بعد الجهمية والمعتزلة، فقد توفي ابن كلاب سنة (243هـ)، وفي أول القرن الرابع الهجري نشأت بقية فرق أهل الكلام وهم الأشاعرة المنتسبون إلى أبي الحسن الأشعري المتوفى سنة (324هـ) والماتريدية: أتباع أبي منصور الماتريدي المتوفى سنة (333هـ) وهي الفرق القائمة حتى زماننا هذا.
2ـ الأشعرية:
يعتبر أبو الحسن الأشعري امتداداً للمذهب الكلابي فأبو الحسن الأشعري الذي عاش في الفترة ما بين (260هـ -324هـ) كان معتزلياً إلى سن الأربعين، حيث عاش في بيت أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة في البصرة، ثم رجع عن مذهب المعتزلة وسلك طريقة ابن كلاب وتأثر بها لفترة طويلة، ولعل السبب في ذلك أنه وجد في كتب ابن كلاب وكلامه بغيته من الرد على المعتزلة وإظهار فضائحهم وهتك أستارهم، وكان ابن كلاب قد صنف مصنفات رد فيها على الجهمية والمعتزلة وغيرهم. ولكن فات الأشعري أن ابن كلاب وإن رد على المعتزلة وكشف باطلهم وأثبت لله تعالى الصفات اللازمة، إلا أنه وافقهم في إنكار الصفات الاختيارية التي تتعلق بمشيئته تعالى وقدرته، فنفى كما نفت المعتزلة أن الله يتكلم بمشيئته وقدرته. كما نفى أيضاً الصفات الاختيارية مثل الرضى، والغضب، والبغض، والسخط وغيرها.
وقد مضى الأشعري في هذا الطور نشيطاً يؤلف ويناظر ويلقى الدروس في الرد على المعتزلة سالكاً هذه الطريقة.
ثم التقى بزكريا بن يحي الساجي فأخذ عنه ما أخذ من أصول أهل السنة والحديث ([39])، وكان الساجي شيخ البصرة وحافظها ([40]) ثم لما قدم بغداد أخذ عن حنبلية بغداد أموراً أخرى وذلك بآخر أمره.
ولكن كانت خبرته بالكلام خبرة مفصلة، وخبرته بالسنة خبرة مجملة، فلذلك وافق المعتزلة في بعض أصولهم التي التزموا لأجلها خلاف السنة واعتقد أنه يمكنه الجمع بين تلك الأصول، وبين الانتصار للسنة، كما فعل في مسألة الرؤية والكلام، والصفات الخبرية وغير ذلك ([41]).
وقال عنه السجزي: (رجع في الفروع وثبت في الأصول) ([42]) أي أصول المعتزلة التي بنوا عليها نفي الصفات، مثل دليل الأعراض وغيره ([43]).
وقال ابن تيمية: (أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كُلاَّب البصري، وأبو الحسن الأشعري كانا يخالفان المعتزلة ويوافقان أهل السنة في جمل أصول السنة. ولكن لتقصيرهما في علم السنة وتسليمهما للمعتزلة أصولاً فاسدة، صار في مواضع من قوليهما مواضع فيها من قول المعتزلة ما خالفا به السنة، وإن كانا لم يوافقا المعتزلة مطلقاً) ([44]).
وقال أيضاً: (والذي كان أئمة السنة ينكرونه على ابن كلاب والأشعري بقايا من التجهم والاعتزال، مثل اعتقاد صحة طريقة الأعراض وتركيب الأجسام، وإنكار اتصاف الله بالأفعال القائمة التي يشاؤها ويختارها، وأمثال ذلك) ([45]) وقد مرت الأشعرية بأطوار ومراحل كان أولها زيادة المادة الكلامية، ثم الجنوح الكبير للمادة الاعتزالية، ثم خلط هذه العقيدة بالمادة الفلسفية.
فالأشعرية المتأخرة مالوا إلى نوع التجهم بل الفلسفة وفارقوا قول الأشعري وأئمة أصحابه) ([46]).
فقدماء الأشاعرة يثبتون الصفات الخبرية بالجملة، كأبي الحسن الأشعري وأبي عبد الله بن مجاهد وأبي الحسن الباهلي والقاضي أبي بكر الباقلاني، وأبي إسحاق الإسفرائيني، وأبي بكر بن فورك، وأبي محمد بن اللبان، وأبي علي بن شاذان، وأبي القاسم القشيري، وأبي بكر البيهقي وغير هؤلاء ([47]).
لكن المتأخرين من أتباع أبي الحسن الأشعري كأبي المعالي الجويني وغيره لا يثبتون إلا الصفات العقلية، وأما الخبرية فمنهم من ينفيها ومنهم من يتوقف فيها كالرازي والآمدي وغيرهما.
ونفاة الصفات الخبرية منهم من يتأول نصوصها ومنهم من يفوض معناها إلى الله تعالى.
وأما من أثبتها كالأشعري وأئمة أصحابه. فهؤلاء يقولون تأويلها بما يقتضي نفيها تأويل باطل، فلا يكتفون بالتفويض بل يبطلون تأويلات النفاة ([48]).
وهذا الاضطراب في العقيدة الأشعرية بين المتقدمين والمتأخرين سببه ما أسلفنا من ميل الأشاعرة بأشعريتهم إلى الاعتزال أكثر فأكثر بل إنهم خلطوا معها الفلسفة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فالأشعرية وافق بعضهم المعتزلة في الصفات الخبرية، وجمهورهم وافقهم في الصفات الحديثية، وأما الصفات القرآنية فلهم قولان:
فالأشعري والباقلاني وقدماؤهم يثبتونها، وبعضهم يقر ببعضها: وفيهم تجهم من جهة أخرى.
فإن الأشعري شرب كلام الجبائي شيخ المعتزلة، ونسبته في الكلام إليه متفق عليها عند أصحابه وغيرهم.
وابن الباقلاني أكثر إثباتاً بعد الأشعري، وبعد ابن الباقلاني ابن فورك، فإنه أثبت بعض ما في القرآن.
وأما الجويني ومن سلك طريقته فمالوا إلى مذهب المعتزلة فإن أبا المعالى كان كثير المطالعة لكتب أبي هاشم، قليل المعرفة بالآثار، فأثر فيه مجموع الأمرين ([49]).
فما إن جاء أبوبكر الباقلاني (ت403هـ)، فتصدى للإمامة في تلك الطريقة وهذبها ووضع لها المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة، وجعل هذه القواعد تبعاً للعقائد الإيمانية من حيث وجوب الإيمان بها ([50]) وأسهم إلى حد كبير في تنظير المذهب الأشعري الكلامي وتنظيمه مما أدى إلى تشابه منهجي بين المذهب الأشعري والمذهب المعتزلي فقد كان الأشعري يجعل النص هو الأساس والعقل عنده تابع، أما الباقلاني فالعقيدة كلها بجميع مسائلها تدخل في نطاق العقل ([51]) ويعتبر الباقلاني المؤسس الثاني للمذهب الأشعري ([52]).
ثم جاء بعده إمام الحرمين الجويني (ت478هـ) فاستخدم الأقيسة المنطقية في تأييد هذه العقيدة، وخالف الباقلاني في كثير من القواعد التي وضعها. وإن كان الجويني قد استفاد أكثر مادته الكلامية من كلام الباقلاني، لكنه مزج أشعريته بشيء من الاعتزال استمده من كلام أبي هاشم الجبائي المعتزلي على مختارات له، وبذلك خرج عن طريقة القاضي وذويه في مواضع إلى طريقة المعتزلة.
وأما كلام أبي الحسن الأشعري فلم يكن يستمد منه، وإنما ينقل كلامه مما يحكيه عنه الناس ([53]) وعلى طريقة الجويني اعتمد المتأخرون من الأشاعرة، كالغزالي (ت505هـ) وابن الخطيب الرازي (ت606هـ) وخلطوا مع المادة الاعتزالية التي أدخلها الجويني مادة فلسفية، وبذلك ازدادت الأشعرية بعداً وانحرافاً.
فالغزالي مادته الكلامية من كلام شيخه الجويني في "الإرشاد" و"الشامل" ونحوهما مضموماً إلى ما تلقاه من القاضي أبي بكر الباقلاني. ومادته الفلسفية من كلام ابن سينا، ولهذا يقال أبو حامد أمرضه الشفا، ومن كلام أصحاب رسائل إخوان الصفا ورسائل أبي حيان التوحيدي ونحو ذلك.
وأما الرازي فمادته الكلامية من كلام أبي المعالي والشهرستاني فإن الشهرستاني أخذه عن الأنصاري النيسابوري عن أبي المعالي، وله مادة اعتزالية قوية من كلام أبي الحسين البصري (ت436هـ). وفي الفلسفة مادته من كلام ابن سينا والشهرستاني ونحوهما ([54]) والأشعرية الأغلب عليهم أنهم مرجئة في باب الأسماء والأحكام وجبرية في باب القدر، وأما الصفات فليسوا جهمية محضة بل فيهم نوع من التجهم، ولا يرون الخروج على الأئمة بالسيف موافقة لأهل الحديث وهم في الجملة أقرب المتكلمين إلى أهل السنة والحديث ([55]).
وهناك عدة عوامل أدت إلى انتشار الأشعرية واشتهارها لعل من أبرزها ما يلي:
أولاً: نشأةُ المذهب في "بغداد" التي كانت حاضرة الخلافة العباسية ومحط أنظار طلاب العلم الذين كانوا يفدون إليها من شتى الأقطار، فهذا العامل أدى بدوره إلى تبني البعض للمذهب الأشعري والسعي لنشره في الأقطار الأخرى ([56]) بسبب تواجد كثير من أعيان المذهب الأشعري في بغداد في ذلك الحين.
ثانياً: التقارب الذي كان موجوداً بين الأشعرية والحنبلية وما نفقت الأشعرية وراجت إلا بتوالفها مع الحنبلية. ولولا ذلك لكان مصيرها مصير المعتزلة الذين كان للحنابلة دور كبير في مقاومتهم والرد عليهم. وقد كان بين الأشعرية والحنبلية شيء من التوالف والمسالمة وكانوا قديما متقاربين.
فإن أبا الحسن الأشعري ما كان ينتسب إلا إلى مذهب أهل الحديث، وإمامهم عنده أحمد بن حنبل، وكان عداده في متكلمي أهل الحديث.
والأشعرية فيما يثبتونه من السنة فرع على الحنبلية كما أن متكلمة الحنبلية فيما يحتجون به من القياس العقلي فرع عليهم.
وإنما وقعت الفرقة بسبب فتنة القشيري ([57]) وكان تلميذاً لابن فورك الذي كان من أشعرية خراسان الذين انحرفوا إلى التعطيل، فلما صنف القاضي أبو يعلى الحنبلي كتابه «إبطال التأويلات» رد فيه على ابن فورك شيخ القشيري وكان الخليفة وغيره مائلين إليه. فلما صار للقشيرية دولة بسبب السلاجقة جرت تلك الفتنة ([58]).
ثالثاً: انتساب بعض الأمراء والوزراء للمذهب الأشعري وتبنيهم له ومن أبرزهم:
أـ الوزير نظام الملك الذي تولى الوزارة لسلاطين السلاجقة فتولى الوزارة لألب أرسلان وملكشاه مدة ثلاثين سنة وذلك من سنة (455هـ-إلى 485هـ).
وفي عهده أنشئت المدارس النظامية نسبة إليه وذلك في عدة مدن منها البصرة، وأصفهان، وبلخ، وهراة، ومرو، والموصل، وأهمها وأكبرها المدرسة النظامية في نيسابور وبغداد.
وكان نظام الملك معظماً للصوفية والأشعرية، إذ كان هؤلاء الذين يلقون الدروس في هذه المدارس، فكان لذلك دوره الكبير في نشر أصول العقيدة الأشعرية ([59]).
ب-المهدي بن تومرت (524هـ) صاحب دولة الموحدين واسمه أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت، الذي تلقب بالمهدي، وكان قد ظهر في المغرب في أوائل المائة الخامسة، وكان قد دخل إلى بلاد العراق، وتعلم طرفاً من العلم، وكان فيه طرف من الزهد والعبادة، ولما رجع إلى المغرب صعد إلى جبال المغرب ونشر دعوته بين أناس من البربر وغيرهم من الجهال الذي لا يعرفون من دين الإسلام إلا ما شاء الله فعلمهم بعض شرائع الإسلام واستجاز أن يظهر لهم أنواعاً من المخاريق ليدعوهم بها إلى الدين، وادعى أنه المهدي الذي بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعظم اعتقاد أتباعه فيه، واستحلوا بسبب ما علمهم من المعتقد الأشعري والفلسفي دماء ألوف مؤلفة من أهل المغرب المالكية الذين كانوا على معتقد أهل السنة واتهموهم زوراً وبهتاناً أنهم مشبهة مجسمة ولم يكونوا من أهل هذه المقالة ([60]). فكان ابن تومرت هو السبب في إدخال العقيدة الأشعرية في بلاد المغرب التي كانت قبل ذلك سنية سلفية فحسبنا الله ونعم الوكيل.
جـ-صلاح الدين الأيوبي
وكان صلاح الدين الأيوبي أشعرياً، فقد حفظ في صباه عقيدة ألفها له قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري أحد أعلام الأشعرية وصار يحفظها صغار أولاده، ولذلك نشأ هو وأولاده على المعتقد الأشعري، فحمل صلاح الدين الكافة على عقيدة أبي الحسن الأشعري، وتمادى الحال على ذلك في جميع أيام ملوك بني أيوب، ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك ([61]).
وقد كان لذلك دوره الكبير في نشر الأشعرية في سائر انحاء العالم الإسلامي، فمصر التي كانت مقر الدولة الأيوبية كانت هي حاضرة العلم في تلك العصور وقد كان للأزهر دور كبير في نشر العقيدة الأشعرية التي ادخلها صلاح الدين في مصر بعد أن قضى على الدولة العبيدية الإسماعلية، ومنذ زمن صلاح الدين والأزهر يقرر عقيدة الأشاعرة إلى يومنا هذا.
والأشاعرة يخالفون أهل السنة في الكثير من مسائل الاعتقاد ومنها على سبيل المثال:
1ـ أن مصدر التلقي عندهم في قضايا الإلهيات (أي التوحيد) والنبوات هو العقل وحده، فهم يقسمون أبواب العقيدة إلى ثلاثة أبواب إلهيات، نبوات، سمعيات، ويقصدون بالسمعيات ما يتعلق بمسائل اليوم الآخر من البعث والحشر والجنة والنار وغير ذلك. وسموها سمعيات لأن مصدرها عندهم النصوص الشرعية وأما ما عداها أي الإلهيات والنبوات فمصدرهم فيها العقل.
2ـ زعمهم أن الإيمان هو مجرد التصديق، فأخرجوا العمل من مسمى الإيمان.
3ـ بناءً على تعريفهم للإيمان فقد أخرجوا توحيد الألوهية من تقسيمهم للتوحيد، فالتوحيد عندهم هو أن الله واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وواحد في صفاته لا نظير له. وهذا التعريف خلا من الإشارة إلى توحيد الألوهية، فلذلك فإن أي مجتمع أشعري تجد فيه توحيد الإلهية مختلاً، وسوق الشرك والبدعة رائجة لأن الناس لم يعلموا أن الله واحد في عبادته لا شريك له.
4ـ وبناءً كذلك على تعريفهم للإيمان فقد أخرجوا الاتباع من تعريفهم للإيمان بالنبي e فحصروا الإيمان بالنبي في الأمور التصديقية فقط، ومن أجل ذلك انتشرت البدع في المجتمعات الأشعرية.
5ـ خالفوا أهل السنة في أسماء الله وصفاته وهذا سيأتي بيانه.
6ـ خالفوا أهل السنة في باب القدر، فقولهم موافق لقول الجبرية.
7ـ خالفوا أهل السنة في مسألة رؤية الله من جهة كونهم يقولون يرى لا في مكان.
8ـ خالفوا أهل السنة في مسألة الكلام، فهم لا يثبتون صفة الكلام على حقيقتها بل يقولون بالكلام النفسي.
إلى غير ذلك من أنواع المخالفات.
3ـ الماتريدية:
تعد الماتريدية شقيقة الأشعرية، وذلك لما بينهما من الائتلاف والاتفاق حتى لكأنهما فرقة واحدة، ويصعب التفريق بينهما. ولذلك يصرح كل من الأشاعرة والماتريدية بأن كلاً من أبى الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي هما إماما أهل السنة على حد تعبيرهم ([62]).
ولعل هذا التوافق مع كونه يرجع في سببه الرئيسي إلى توافق أفكار الفرقتين وقلة المسائل الخلافية بينهما وبخاصة مع الأشعرية المتأخرة، إلا أن هناك أسباباً مهمة يجب اعتبارها وأخذها في الحسبان ولعل أهمها التزامن في نشأة الفرقتين مع كون كل فرقة استقلت بأماكن نفوذ لم تنازعها فيها الفرقة الأخرى. فالماتريدية انتشرت بين الأحناف الذين كانوا متواجدين في شرق العالم الإسلامي وشماله فقل أن تجد حنفياً على عقيدة الأشاعرة إلا ما ذكر من أن أبا جعفر السمناني -وهو حنفي-كان أشعرياً.
بينما نجد الأشعرية قد انتشرت بين الشافعية والمالكية وهم اليوم يتواجدون في وسط وغرب وجنوب وجنوب شرق العالم الإسلامي، فجل الشافعية والمالكية على الأشعرية. ولست أعني بذلك عوامهم وإنما الطبقة المثقفة منهم.
والماتريدية تنسب إلى أبي منصور محمد بن محمد بن محمود بن محمد الماتريدي المتوفى سنة (333هـ) ([63]) كان معدوداً في فقهاء الحنفية، وكان صاحب جدل وكلام ولم يكن له دراية بالسنن والآثار ([64])، وقد نهج منهجاً كلامياً في تقرير العقيدة يشابه إلى حد كبير منهج متأخري الأشاعرة، وعداده في أهل الكلام من الصفاتية من أمثال ابن كلاب وأبي الحسن الأشعري وأمثالهما.
وقد تابع الماتريدي ابن كلاب في مسائل متعددة من مسائل الصفات وما يتعلق بها ([65]).
ومن المعلوم أن الأحناف وأهل المشرق عموماً كانوا من أسبق الناس تأثراً بعلم الكلام، فقد كانت بداية الجهم من تلك الجهات، وفي هذا يقول الإمام أحمد في معرض كلامه عن الجهم: (وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة..) ([66]).
فبشر بن غياث المريسي (228هـ) والقاضي أحمد بن أبي دؤاد (240هـ) وغيرهما كانوا من الأحناف، فلا غرابة أن يكون الماتريدي الحنفي من أولئك الذين ناصروا علم الكلام وسعوا في تأسيسه وتقعيده، إلى أن أصبح علماً من أعلامه وصاحب إحدى مدارس الكلام التي صارت فيما بعد تعرف باسمه.
فالماتريدي لا يبعد كثيراً عن أبي الحسن الأشعري (في طوره الثاني) فهو خصم لدود للمعتزلة، إلا أنه كان متأثراً بالمنهج الكلامي على طريقة ابن كلاب من الاعتماد على المناهج الكلامية في تقرير المسائل الاعتقادية. شأنه في ذلك شأن أبي الحسن الأشعري، فكلاهما يعتبر امتداداً لمدرسة ابن كلاب التي عرفت كمدرسة ثالثة بعد أن كان الخلاف دائراً بين أهل السنة والجماعة من جهة والجهمية والمعتزلة من جهة أخرى، فجاء ابن كلاب وأحدث منهجاً ثالثاً حاول فيه التلفيق بين النصوص الشرعية والمناهج الكلامية كما سبق الإشارة إلى ذلك عند الحديث عن الكلابية.
فالمذهب الكلابي كان له وجوده في العراق والري وخراسان وكان له انتشار في بلاد ما وراء النهر التي كانت تغص بمختلف الطوائف والفرق ([67]).
ولم تتعرض الماتريدية للتطور الذي حصل على العقيدة الأشعرية والذي سبق بيانه في الحديث عن الأشعرية فالماتريدية بقيت على ما كانت عليه.
المبحث الثاني درجات تعطيلهم
وفيه ثلاثة مطالب
المطلب الأول: درجات تعطيلهم في باب الأسماء والصفات عموماً
المطلب الثاني: درجات تعطيلهم في باب الأسماء الحسنى
المطلب الثالث: درجات تعطيلهم في باب صفات الله تعالى
المطلب الأول: درجات التعطيل في باب الأسماء والصفات عموماً
من سبر أقوال أهل التعطيل يجدها من حيث العموم تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: نفي جميع الأسماء والصفات.
وهذا قول الجهمية أتباع جهم بن صفوان ([68])، والفلاسفة، سواء كانوا أصحاب فلسفة محضة كالفارابي ([69])، أو فلسفة باطنية إسماعيلية قرمطية كابن سينا ([70])، أو فلسفة صوفية اتحادية كابن عربي وابن سبعين وابن الفارض.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه: (والتحقيق أن التجهم المحض وهو نفي الأسماء والصفات، كما يُحكي عن جهم والغالية من الملاحدة ونحوهم من نفي أسماء الله الحسنى، كفر بين مخالف لما علم بالاضطرار من دين الرسول) ([71])
القسم الثاني: نفي الصفات دون الأسماء.
وهذا قول المعتزلة، ووافقهم عليه ابن حزم الظاهري ([72])، والزيدية، والرافضة الإمامية، والإباضية. فالمعتزلة يجمعون على تسمية الله بالاسم ونفي الصفة عنه.
يقول ابن المرتضى المعتزلي: (فقد أجمعت المعتزلة على أن للعالم مُحدثاً قديماً قادراً عالماً حياًّ لا لمعان.....) ([73]).
القسم الثالث: إثبات الأسماء وبعض الصفات ونفي البعض الآخر.
وهذا قول الكلابية والأشاعرة والماتريدية.
فالكلابية وقدماء الأشاعرة: يثبتون الأسماء والصفات ما عدا صفات الأفعال الاختيارية ([74]) (أي التي تتعلق بمشيئته واختياره) فهم إما يؤولونها أو يثبتونها على اعتبار أنها أزلية وذلك خوفاً منهم على حد زعمهم من حلول الحوادث بذات الله ([75]) أو يجعلونها من صفات الفعل المنفصلة عن الله التي لا تقوم به ([76]).
وأما الأشاعرة المتأخرون ومعهم الماتريدية، فهم يثبتون الأسماء وسبعاً من الصفات هي (الحياة، العلم، القدرة، السمع، البصر، الإرادة، الكلام) ويزيد بعض الماتريدية صفة ثامنة هي (التكوين) ([77]) وينفون باقي الصفات ويؤولون النصوص الواردة فيها ويحرفون معانيها.
المطلب الثاني: درجات تعطيلهم في باب الأسماء الحسنى.
القول الأول: من يقول إن الله لا يسمى بشيء.
وهذا قول الجهمية أتباع جهم بن صفوان، والغالية من الملاحدة كالقرامطة الباطنية والفلاسفة.
وهؤلاء المعطلة لهم في تعطيلهم لأسماء الله أربعة مسالك هي:
المسلك الأول: الاقتصار على نفي الإثبات فقالوا: لا يسمى بإثبات.
المسلك الثاني: أنه لا يسمى بإثبات ولا نفي.
المسلك الثالث: السكوت عن الأمرين الإثبات والنفي.
المسلك الرابع: تصويب جميع الأقوال بالرغم من تناقضها.
فهذا الصنف من المعطلة اتفقوا على إنكار الأسماء جميعها، ولكن تنوعت مسالكهم في الإنكار.
1ـ فأصحاب المسلك الأول: اقتصروا على قولهم: بأنه ليس له اسم كالحي والعليم ونحو ذلك. وشبهتهم في ذلك:
أ-أنه إذا كان له اسم من هذه الأسماء لزم أن يكون متصفا بمعنى الاسم كالحياة والعلم، فإن صدق المشتق -أي الاسم كالعليم-مستلزم لصدق المشتق منه -أي الصفة كالعلم-وذلك محال عندهم.
ب-ولأنه إذا سمي بهذه الأسماء فهي مما يسمى به غيره. والله منزه عن مشابهة الغير ([78]).
فهؤلاء المعطلة المحضة -نفاة الأسماء-يسمون من سمى الله بأسمائه الحسنى مشبهاً. فيقولون: إذا قلنا حي عليم فقد شبهناه بغيره من الأحياء العالمين وكذلك إذا قلنا هو سميع بصير فقد شبهناه بالإنسان السميع والبصير، وإذا قلنا رؤوف رحيم فقد شبهناه بالنبي الرؤوف الرحيم، بل قالوا إذا قلنا موجود فقد شبهناه بسائر الموجودات لاشتراكهما في مسمى الوجود) ([79]).
وهذا المسلك ينسب لجهم بن صفوان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (جهم كان ينكر أسماء الله تعالى فلا يسميه شيئاً لا حيا ولا غير ذلك إلا على سبيل المجاز) ([80]) وهو قول الباطنية من الفلاسفة والقرامطة فهم يقولون لا نسميه حيًّا ولا عالماً ولا قادراً ولا متكلماً إلا مجازاً بمعنى السلب والإضافة: أي هو ليس بجاهل ولا عاجز ([81]) وهذا كذلك قول ابن سينا وأمثاله ([82]).
2ـ وأما أصحاب المسلك الثاني: فقد زادوا في الغلو فقالوا: لا يسمى بإثبات ولا نفي، ولا يقال موجود ولا لا موجود ولا حي ولا لاحي. لأن في الإثبات تشبيهاً بالموجودات، وفي النفي تشبيهاً له بالمعدومات. وكل ذلك تشبيه. وهذا المسلك ينسب لغلاة المعطلة من القرامطة الباطنية والمتفلسفة ([83]).
3ـ وأما أصحاب المسلك الثالث فيقولون: نحن لا نقول ليس بموجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، فلا ننفي النقيضين، بل نسكت عن هذا وهذا، فنمتنع عن كل من المتناقضين، لا نحكم بهذا ولا بهذا، فلا نقول ليس بموجود ولا معدوم، ولكن لا نقول هو موجود ولا نقول هو معدوم.
ومن الناس من يحكى هذا عن الحلاج، وحقيقة هذا القول هو الجهل البسيط والكفر البسيط، الذي مضمونه الإعراض عن الإقرار بالله ومعرفته وحبه وذكره وعبادته ودعائه ([84]).
وأصحاب هذا المسلك هم المتجاهلة اللا أدرية.
وأصحاب المسلك الثاني هم المتجاهلة الواقفة الذين يقولون لا نثبت ولا ننفي.
وأصحاب المسلك الأول هم المكذبة النفاة.
والملاحظ أن كل فريق من هؤلاء يهدم ما بناه من قبله فلما اقتصر أصحاب المسلك الأول على النفي وامتنعوا عن الإثبات بحجة أن في الإثبات تشبيهاً له بالموجودات جاء أصحاب المسلك الثاني فزادوا في الغلو وزعموا أن في النفي كذلك تشبيهاً له بالجمادات فمنعوا النفي أيضا ثم جاء أصحاب المسلك الثالث فاتهموا أصحاب المسلك الثاني بأنهم شبهوه بالممتنعات لأن قولهم يقوم على نفي النقيضين وهذا ممتنع.
4ـ وهناك مسلك رابع: وهو مسلك أصحاب وحدة الوجود الذين يعطون أسماءه سبحانه لكل شيء في الوجود، إذ كان وجود الأشياء عندهم هو عين وجوده ما ثمت فرق إلا بالإطلاق والتقييد ([85]).
وهذا منتهى قول طوائف المعطلة ([86]) وغاية ما عندهم في الإثبات قولهم هو: (وجود مطلق) أي وجود خيالي في الذهن، أو وجود مقيد بالأمور السلبية ([87]).
القول الثاني: أن الله يسمى باسمين فقط هما: "الخالق" و "القادر".
وهذا القول منسوب للجهم بن صفوان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (كان الجهم وأمثاله يقولون: إن الله ليس بشيء، وروى عنه أنه قال: لا يسمى باسم يسمى به الخلق، فلم يسمه إلا "بالخالق" و"القادر" لأنه كان جبريا يرى أن العبد لا قدرة له) ([88]).
وقال رحمه الله: (ولهذا نقلوا عن جهم أنه لا يسمى الله بشيء، ونقلوا عنه أنه لا يسميه باسم من الأسماء التي يسمى بها الخلق: كالحي، والعالم، والسميع، والبصير، بل يسميه قادراً خالقاً، لأن العبد عنده ليس بقادر، إذ كان هو رأس الجهمية الجبرية) ([89]).
القول الثالث: إثبات الأسماء مجردة عن الصفات.
وهذا قول المعتزلة ووافقهم عليه ابن حزم الظاهري. وتبع المعتزلة على ذلك الزيدية، والرافضة الإمامية، وبعض الخوارج.
فالمعتزلة يجمعون على تسمية الله بالاسم ونفي الصفة عنه. يقول ابن المرتضى المعتزلي: (فقد أجمعت المعتزلة على أن للعالم مُحدثاً قديماً، قادراً، عالماً، حياًّ لا لمعان) ([90]).
وابن حزم وافق المعتزلة في ذلك فهو يرى أن الأسماء الحسنى كالحي، والعليم، والقدير، بمنزلة أسماء الأعلام التي لا تدل على حياة ولا علم، ولا قدرة، وقال: (لا فرق بين الحي وبين العليم في المعنى أصلاً) ([91]).
والمعتزلة لهم في نفيهم لتضمن الأسماء للصفات مسلكان:
المسلك الأول: من جعل الأسماء كالأعلام المحضة المترادفة التي لم توضع لمسماها باعتبار معنى قائم به. فهم بذلك ينظرون إلى هذه الأسماء على أنها أعلام محضة لا تدل على صفة. و (المحضة) الخاصة الخالية من الدلالة على شيء آخر، فهم يقولون: إن العليم والخبير والسميع ونحو ذلك أعلام لله ليست دالة على أوصاف، وهي بالنسبة إلى دلالتها على ذات واحدة هي مترادفة، وذلك مثل تسميتك ذاتاً واحدة (بزيد وعمرو ومحمد وعلي) فهذه الأسماء مترادفة وهي أعلام خالصة لا تدل على صفة لهذه الذات المسماة بها ([92]).
والمسلك الثاني: من يقول منهم إن كل علم منها مستقل، فالله يسمى عليماً وقديراً، وليست هذه الأسماء مترادفة، ولكن ليس معنى ذلك أن هناك حياة أو قدرة ([93]) ولذلك يقولون عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، سميع بلا سمع بصير بلا بصر.
القول الرابع: إثبات الأسماء الحسنى مع إثبات معاني البعض وتحريف معاني البعض الآخر.
وهذا قول الكلابية والأشاعرة والماتريدية.
فهؤلاء وإن كانوا يوافقون أهل السنة والجماعة في إثبات ألفاظ الأسماء الحسنى لكنهم يخالفونهم في إثبات بعض معاني تلك الأسماء.
فمن المعلوم أن كل اسم من أسماء الله متضمن لصفة. وللكلابية والأشاعرة والماتريدية قول في الصفات يخالف قول أهل السنة والجماعة. فالكلابية وقدماء الأشاعرة ينفون صفات الأفعال الاختيارية وبالتالي لا يثبتون الصفات التي تضمنتها الأسماء إذا كانت من هذا القبيل كالخالق والرزاق ونحوها، على تفصيل سيأتي ذكره عند الحديث عن موقفهم من الصفات.
وأما المتأخرون من الأشاعرة ومعهم الماتريدية، فإنهم لا يثبتون من الصفات سوى سبع صفات هي: (العلم، القدرة، الحياة، السمع، البصر، الإرادة، الكلام) ويزيد بعض الماتريدية صفة ثامنة هي: (التكوين). فالاسم عندهم إن دل على ما أثبتوه من الصفات، أثبتوا ما دل عليه من المعنى، وإن كان دالاً على خلاف ما أثبتوه صرفوه عن حقيقته وحرفوا معناه.
ومعلوم أنه لم يرد في باب الأسماء من تلك الصفات التي ذكروها إلا خمسة فقط وهي (العليم) و (القدير) و (الحي) و (السميع) و (البصير) فهذه الخمسة يثبتون معانيها وإن كان هناك من يرجع صفتي (السمع) و (البصر) إلى (العلم) ولكن جمهورهم على خلاف ذلك ([94]).
وأما بقية الأسماء التي لا تتفق مع ما أثبتوه من الصفات، فإنهم لا يثبتون ما دلت عليه من المعاني، بل يحرفونها كتحريفهم لمعنى (الرحمة) في اسمه (الرحمن) إلى إرادة الثواب أو إرادة (الإنعام) و (الود) في (الودود) بـ (إرادة إيصال الخير) ([95]).
المطلب الثالث: درجات تعطيلهم في باب صفات الله تعالى.
القول الأول: نفاة جميع الصفات
وهذا قول الغلاة من المعطلة، ومنهم الجهمية أتباع جهم والفلاسفة سواء كانوا أهل فلسفة محضة كالفارابي أو فلسفة باطنية رافضية إسماعيلية كابن سينا وإخوان الصفا أو فلسفة صوفية اتحادية كابن عربي وابن سبعين. وهذا القول بنفي الصفات هو قول المعتزلة ومن تبعهم كالزيدية والرافضة الإمامية والخوارج الإباضية وكذلك هو قول النجارية والضرارية.
فهؤلاء جميعاً لا يثبتون الصفات لله تعالى، وقد تنوعت أساليب تعطيلهم وطرق إنكارهم لها، ويمكن تصنيفهم إلى صنفين:
1ـ غلاة المعطلة 2ـ المعتزلة ومن وافقهم.
1ـ فغلاة المعطلة يمنعون الإثبات بأي حال من الأحوال ولهم في النفي درجات:
الدرجة الأولى: درجة المكذبة النفاة
وهي التي عليها الجهمية وطائفة من الفلاسفة ([96]) وهو كذلك قول ابن سينا وأمثاله ([97]).
فهم يصفون الله بالصفات السلبية على وجه التفصيل ولا يثبتون له إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان، يمتنع تحققه في الأعيان ([98]) فهؤلاء وصفوه بالسلوب والإضافات دون صفات الإثبات وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن، لا فيما خرج عنه من الموجودات ([99]).
الدرجة الثانية: المتجاهلة الواقفة
الذين يقولون لا نثبت ولا ننفي، وهذه الدرجة تنسب لغلاة المعطلة من القرامطة الباطنية المتفلسفة ([100]).
فهؤلاء هم غلاة الغلاة ([101]) لأنهم يسلبون عنه النقيضين فيقولون: لا موجود، ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات فسلبوا النقيضين، وهذا ممتنع في بداهة العقول؛ وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فوقعوا في شر مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين، كلاهما من الممتنعات ([102]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فالقرامطة الذين قالوا لا يوصف بأنه حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، بل قالوا لا يوصف بالإيجاب ولا بالسلب، فلا يقال حي عالم ولا ليس بحي عالم، ولا يقال هو عليم قدير ولا يقال ليس بقدير عليم، ولا يقال هو متكلم مريد، ولا يقال ليس بمتكلم مريد، قالوا لأن في الإثبات تشبيهاً بما تثبت له هذه الصفات، وفي النفي تشبيه له بما ينفي عنه هذه الصفات) ([103]).
الدرجة الثالثة: المتجاهلة اللا أدرية.
الذين يقولون: نحن لا نقول ليس بموجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت، فلا ننفي النقيضين، بل نسكت عن هذا وهذا، فنمتنع عن كل من المتناقضين، لا نحكم بهذا ولا بهذا، فلا نقول: ليس بموجود ولا معدوم ولكن لا نقول هو موجود ولا نقول هو معدوم.
ومن الناس من يحكي نحو هذا عن الحلاج، وحقيقة هذا القول هو الجهل البسيط والكفر البسيط، الذي مضمونه الإعراض عن الإقرار بالله ومعرفته وحبه وذكره وعبادته ودعائه ([104]).
الدرجة الرابعة: أهل وحدة الوجود
الذين لا يميزون الخالق بصفات تميزه عن المخلوق، ويقولون بأن وجود الخالق هو وجود المخلوق. فعلى سبيل المثال هم يقولون بأن الله هو المتكلم بكل ما يوجد من الكلام وفي ذلك يقول ابن عربي:
ألا كل قول في الوجود كلامه | ســواء علينا نثــــره ونظـامه |
يعم به أسمـــاع كل مكـــــون | فمـنه إليه بدؤه وختـــامه ([105]) |
فيزعمون أنه هو المتكلم على لسان كل قائل. ولا فرق عندهم بين قول فرعون: {أنا ربُّكم الأعلى} [النازعات 24] {وما علمت لكم من إله غيري} [القصص 28] وبين القول الذي يسمعه موسى {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} [طه 14]. بل يقولون: إنه الناطق في كل شيء، فلا يتكلم إلا هو، ولا يسمع إلا هو، حتى قول مسيلمة الكذاب، والدجال، وفرعون، يصرحون بأن أقوالهم هي قوله) ([106]).
وهذا قول أصحاب وحدة الوجود كابن عربي، وابن سبعين وابن الفارض، والعفيف التلمساني.
وأصل مذهبهم: أن كل واحد من وجود الحق، وثبوت الخلق يساوى الآخر ويفتقر إليه وفي هذا يقول ابن عربي:
فيعبــدنــي وأعبـــده | ويحمــــدنــي وأحمده ([107]) |
ويقول: إن الحق يتصف بجميع صفات العبد المحدثات، وإن المحدث يتصف بجميع صفات الرب، وإنهما شيء واحد إذ لا فرق في الحقيقة بين الوجود والثبوت ([108]) فهو الموصوف عندهم بجميع صفات النقص والذم والكفر والفواحش والكذب والجهل، كما هو الموصوف عندهم بصفات المجد والكمال فهو العالم والجاهل، والبصير والأعمى، والمؤمن والكافر، والناكح والمنكوح، والصحيح والمريض، والداعي والمجيب، والمتكلم والمستمع، وهو عندهم هوية العالم ليس له حقيقة مباينة للعالم، وقد يقولون لا هو العالم ولا غيره، وقد يقولون: هو العالم أيضا وهو غيره، وأمثال هذه المقالات التي يجمع فيها في المعنى بين النقيضين مع سلب النقيضين ([109]).
وهؤلاء الاتحادية يجمعون بين النفي العام والإثبات العام فعندهم أن ذاته لا يمكن أن ترى بحال وليس له اسم ولا صفة ولا نعت، إذ هو الوجود المطلق الذي لا يتعين، وهو من هذه الجهة لا يرى ولا اسم له.
ويقولون: إنه يظهر في الصور كلها، وهذا عندهم هو الوجود الاسمي لا الذاتي، ومن هذه الجهة فهو يرى في كل شيء، ويتجلى في كل موجود، لكنه لا يمكن أن ترى نفسه، بل تارة يقولون كما يقول ابن عربي: ترى الأشياء فيه، وتارة يقولون يرى هو في الأشياء وهو تجليه في الصور، وتارة يقولون كما يقول ابن سبعين:
عين ما ترى ذات لا ترى | وذات لا ترى عين ما ترى |
وهم مضطربون لأن ما جعلوه هو الذات عدم محض، إذ المطلق لا وجود له في الخارج مطلقاً بلا ريب، لم يبق إلا ما سموه مظاهر ومجالي، فيكون الخالق عين المخلوقات لا سواها، وهم معترفون بالحيرة والتناقض مع ما هم فيه من التعطيل والجحود ([110]).
وفي هذا يقول ابن عربي:
فإن قلت بالتنزيه كنت مقيــــــداً | وإن قلـت بالتشبيه كنـت محــدداً |
وإن قلت بالأمرين كنت مســــدداً | وكنت إماماً في المعارف سيــداً |
فمن قال بالإشفـاع كان مشــركاً | ومن قــل بالإفـــراد كان موحـــداً |
فإياك والتشبيه إن كـنت ثــانيــــاً | وإيــاك والتنــزيه إن كنت مفـــرداً |
فما أنت هو بل أنـت هــو وتـــراه | في عين الأمور مسرحا ومقيداً([111]) |
خلاصة أقوال غلاة المعطلة
كلام غلاة المعطلة المتقدم ذكره يدور على أحد أصلين:
1ـ الأصل الأول:
النفي والتعطيل الذي يقتضي عدمه، بأن جعلوا الحق لا وجود له، ولا حقيقة له في الخارج أصلاً وإنما هو أمر مطلق في الأذهان. وهذا الذي عليه المكذبة النفاة، والمتجاهلة الواقفة، والمتجاهلة اللا أدرية.
2ـ الأصل الثاني:
أن يجعلوا الحق عين وجود المخلوقات، فلا يكون للمخلوقات خالق غيرها أصلاً، ولا يكون رب كل شيء ولا مليكه. وهذا الذي عليه حال أهل وحدة الوجود الاتحادية في أحد حاليهم فهذا حقيقة قول القوم وإن كان بعضهم لا يشعر بذلك.
ولذلك كان الغلاة من القرامطة والباطنية والفلاسفة والاتحادية نسخة للجهمية الذين تكلم فيهم السلف والأئمة، مع كون أولئك كانوا أقرب إلى الإسلام. فقد كان كلام الجهمية يدور أيضاً على هذين الأصلين فهم يظهرون للناس والعامة أن الله بذاته موجود في كل مكان، أو يعتقدون ذلك.
وعند التحقيق يصفونه بالسلب الذي يستوجب عدمه كقولهم: ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له ولا محايث، ولا متصل به ولا منفصل عنه، وأشباه هذه السلوب.
فكلام أول الجهمية وآخرهم يدور على هذين الأصلين:
1ـ إما النفي والتعطيل الذي يقتضي عدمه.
2ـ وإما الإثبات الذي يقتضي أنه هو المخلوقات. أو جزء منها أو صفة لها.
وكثير منهم يجمع بين هذا النفي وهذا الإثبات المتناقضين، وإذا حوقق في ذلك قال: ذاك السلب مقتضى نظري. وهذا الإثبات مقتضى شهودي وذوقي. ومعلوم أن العقل والذوق إذا تناقضا لزم بطلانهما أو بطلان أحدهما ([112])
وهذا حال الجهمية دائماً يترددون بين هذا النفي العام المطلق، وهذا الإثبات العام المطلق، وهم في كليهما حائرون ضالون لا يعرفون الرب الذي أمروا بعبادته ([113]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والجهمية نفاة الصفات تارة يقولون بما يستلزم الحلول والاتحاد، أو يصرحون بذلك. وتارة بما يستلزم الجحود والتعطيل، فنفاتهم لا يعبدون شيئاً، ومثبتتهم يعبدون كل شيء). ([114]).
ولا ريب أن هؤلاء المعطلة بصنيعهم هذا قد أعرضوا عن أسمائه وصفاته وآياته وصاروا جهالاً به، كافرين به، غافلين عن ذكره، موتى القلوب عن معرفته ومحبته وعبادته، وهذا هو غاية القرامطة الباطنية والمعطلة الدهرية أنهم يبقون في ظلمة الجهل وضلال الكفر، لا يعرفون الله ولا يذكرونه ([115]).
2ـ المعتزلة ومن وافقهم:
المعتزلة ومعهم النجارية والضرارية والرافضة الإمامية والزيدية والإباضية وغيرهم. وهؤلاء مشتركون مع الجهمية والفلاسفة في نفي الصفات ([116]) وإن كان بين الفلاسفة والمعتزلة نوع فرق ([117]) فالمعتزلة تجمع على غاية واحدة وهي نفي إثبات الصفات حقيقة في الذات ومتميزة عنها. ولكنهم سلكوا طريقين في موقفهم من الصفات.
الطريق الأول: الذي عليه أغلبيتهم وهو نفيها صراحة فقالوا: إن الله عالم بذاته لا بعلم وهكذا في باقي الصفات.
والطريق الثاني: الذي عليه بعضهم وهو إثباتها اسماً ونفيها فعلاً فقالوا: إن الله عالم بعلم وعلمه ذاته وهكذا بقية الصفات، فكان مجتمعاً مع الرأي الأول في الغاية وهي نفي الصفات.
والمقصود بنفي الصفات عندهم: هو نفي إثباتها حقيقة في الذات ومتميزة عنها، وذلك أنهم يجعلونها عين الذات فالله عالم بذاته بدون علم أو عالم بعلم وعلمه ذاته ([118]).
وهناك آراء أخرى للمعتزلة لكنها تجتمع في الغاية مع الرأيين الأولين، وهو التخلص من إثبات الصفات حقيقة في الذات ومتميزة عنها ([119]).
وهذه الآراء للمعتزلة حملها عنهم الزيدية والرافضة الإمامية ([120]) والإباضية. وابن تومرت ([121])، وابن حزم ([122]).
فالمعتزلة يرون امتناع قيام الصفات به، لاعتقادهم أن الصفات أعراض، وأن قيام العرض به يقتضي حدوثه فقالوا حينئذ إن القرآن مخلوق، وإنه ليس لله مشيئة قائمة به، ولا حب ولا بغض ونحو ذلك.
وردوا جميع ما يضاف إلى الله إلى إضافة خلق، أو إضافة وصف من غير قيام معنى به ([123]).
النجارية:
وهم أتباع حسين بن محمد بن عبد الله النجار المتوفى سنة (220هجرية) تقريباً.
وكان يزعم أن الله سبحانه لم يزل جواداً بنفي البخل عنه، وأنه لم يزل متكلماً بمعنى أنه لم يزل غير عاجز عن الكلام، وأن كلام الله سبحانه محدث مخلوق، وكان يقول بقول المعتزلة في التوحيد، إلا في باب الإرادة والجود، وكان يخالفهم في القدر ويقول بالإرجاء ([124]).
الضرارية:
وهم أتباع ضرار بن عمرو الغطفاني المتوفى سنة (190هجرية) تقريباً وكان يزعم أن معنى أن الله عالم قادر أنه ليس بجاهل ولا عاجز وكذلك كان يقول في سائر صفات الباري لنفسه) ([125]).
فكل من النجارية والضرارية يحملون النصوص الثبوتية على المعاني السلبية، كما قال البغدادي عنهم: (من غير إثبات معنى أو فائدة سوى نفي الوصف بنقيض تلك الأوصاف عنه) ([126]).
وكان الجهمية والمعتزلة والنجارية والضرارية هم خصوم أهل السنة زمن فتنة القول بخلق القرآن ([127]).
القول الثاني: نفي الصفات الاختيارية المتعلقة بالمشيئة.
وهو قول الكلابية: أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، وقول الحارث المحاسبي ([128]) وأبي العباس القلانسي، وأبي الحسن الأشعري في طوره الثاني، وقدماء الأشاعرة كأبي الحسن الطبري والباقلاني وابن فورك، وأبي جعفر السمناني ومن تأثر بهم من الحنابلة كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني والتميميين وغيرهم ([129]).
وهؤلاء يسموْن الصفاتية لأنهم يثبتون صفات الله تعالى خلافاً للمعتزلة، لكنهم لم يثبتوا لله أفعالاً تقوم به تتعلق بمشيئته وقدرته، بل ولا غير الأفعال مما يتعلق بمشيئته وقدرته ([130]).
وأصلهم الذي أصلوه في هذا أن الله لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته ([131]) لا فعل ولا غير فعل ([132]).
والفرق بينهم وبين المعتزلة:
أن المعتزلة تقول: (لا تحله الأعراض والحوادث) فالمعتزلة لا يريدون [بالأعراض] الأمراض والآفات فقط، بل يريدون بذلك الصفات. ولا يريدون [بالحوادث] المخلوقات، ولا الأحداث المحيلة للمحل ونحو ذلك -مما يريده الناس بلفظ الحوادث-بل يريدون نفي ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها فلا يجوزون أن يقوم به خلق، ولا استواء، ولا إتيان، ولا مجيء، ولا تكليم، ولا مناداة، ولا مناجاة، ولا غير ذلك مما وصف بأنه مريد له قادر عليه.
ولكن ابن كلاب ومن وافقه خالفوا المعتزلة في قولهم: "لا تقوم به الأعراض" وقالوا: "تقوم به الصفات ولكن لا تسمى أعراضاً".
ووافقوا المعتزلة على ما أرادوا بقولهم: لا تقوم به الحوادث من أنه لا يقوم به أمر من الأمور المتعلقة بمشيئته ([133]).
ففرقوا بين الأعراض -أي الصفات-والحوادث -أي الأمور المتعلقة بالمشيئة ([134]) ([135]).
فالكلابية ومن تبعهم ينفون صفات أفعاله ([136])، ويقولون: "لو قامت به لكان محلاً للحوادث. والحادث إن أوجب له كمالاً فقد عدمه قبله وهو نقص، وإن لم يوجب له كمالاً لم يجز وصفه به ([137]).
ولتوضيح قولهم نقول: إن المضافات إلى الله سبحانه في الكتاب والسنة لا تخلو من ثلاثة أقسام:
أحدها: إضافة الصفة إلى الموصوف
كقوله تعالى: {ولا يحيطون بشيء مِن علمه} [البقرة 255]، وقوله: {إن الله هو الرَّزَّاق ذو القوَّة} [الذاريات 58]، فهذا القسم يثبته الكلابية ولا يخالفون فيه أهل السنة، وينكره المعتزلة.
والقسم الثاني: إضافة المخلوق.
كقوله تعالى: {ناقة الله وسقياها} [الشمس 13]، وقوله تعالى: {وطهر بيتي للطائفين} [الحج 26]، وهذا القسم لا خلاف بين المسلمين في أنه مخلوق.
والقسم الثالث: -وهو محل الكلام هنا-ما فيه معنى الصفة والفعل.
كقوله تعالى: {وكلَّم الله موسى تكليما} [النساء 164]، وقوله تعالى: {إن الله يحكم ما يريد} [المائدة 1]، وقوله تعالى: {فَبَاءُوا بغضب على غضب} [البقرة 90].
فهذا القسم الثالث لا يثبته الكلابية ومن وافقهم على زعم أن الحوادث لا تحل بذاته. فهو على هذا يلحق عندهم بأحد القسمين قبله فيكون:
1ـ إما قديماً قائماً به.
2ـ وإما مخلوقاً منفصلاً عنه.
ويمتنع عندهم أن يقوم به نعت أو حال أو فعل ليس بقديم ويسمون هذه المسألة: (مسألة حلول الحوادث بذاته) ([138]) وذلك مثل صفات الكلام، والرضا، والغضب، والفرح، والمجيء، والنزول والإتيان، وغيرها. وبالتالي هم يؤولون النصوص الواردة في ذلك على أحد الوجوه التالية:
1ـ إرجاعها إلى الصفات الذاتية واعتبارها منها، فيجعلون جميع تلك الصفات قديمة أزلية، ويقولون: نزوله، ومجيئه وإتيانه، وفرحه، وغضبه، ورضاه، ونحو ذلك: قديم أزلي ([139]) وهذه الصفات جميعها صفات ذاتية لله، وإنها قديمة أزلية لا تتعلق بمشيئته واختياره ([140]).
2ـ وإما أن يجعلوها من باب «النسب» و«الإضافة» المحضة بمعنى أن الله خلق العرش بصفة تحت فصار مستوياً عليه، وأنه يكشف الحجب التي بينه وبين خلقه فيصير جائياً إليهم ونحو ذلك. وأن التكليم إسماع المخاطب فقط ([141]).
فهذه الأمور من صفات الفعل منفصلة عن الله بائنة وهي مضافة إليه، لا أنها صفات قائمة به. ولهذا يقول كثير منهم: "إن هذه آيات الإضافات وأحاديث الإضافات، وينكرون على من يقول آيات الصفات وأحاديث الصفات ([142]).
3ـ أو يجعلوها «أفعالاً محضة» في المخلوقات من غير إضافة ولا نسبة ([143]).
مثل قولهم في الاستواء إنه فعل يفعله الرب في العرش بمعنى أنه يحدث في العرش قرباً فيصير مستوياً عليه من غير أن يقوم بالله فعل اختياري ([144]).
وكقولهم في النزول إنه يخلق أعراضاً في بعض المخلوقات يسميها نزولاً ([145]).
ونفاة الصفات الاختيارية يثبتون الصفات التي يسمونها عقلية وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام. واختلفوا في صفة البقاء.
ويثبتون في الجملة الصفات الخبرية كالوجه، واليدين، والعين ولكن إثباتهم لها مقتصر على بعض الصفات القرآنية، على أن بعضهم إثباته لها من باب التفويض.
وأما الصفات الخبرية الواردة في السنة كاليمين، والقبضة، والقدم، والأصابع فأغلب هؤلاء يـتأولها ([146]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (بل أئمة المتكلمين يثبتون الصفات الخبرية في الجملة، وإن كان لهم فيها طرق كأبي سعيد بن كلاب وأبي الحسن الأشعري، وأئمة أصحابه: كأبي عبد الله بن مجاهد وأبي الحسن الباهلي، والقاضي أبي بكر بن الباقلاني، وأبي إسحاق الإسفرائيني، وأبي بكر بن فورك، وأبي محمد بن اللبان، وأبي علي بن شاذان، وأبي القاسم القشيري، وأبي بكر البيهقي، وغير هؤلاء. فما من هؤلاء إلا من يثبت من الصفات الخبرية ما شاء الله تعالى. وعماد المذهب عندهم: إثبات كل صفة في القرآن.
وأما الصفات التي في الحديث فمنهم من يثبتها ومنهم من لا يثبتها ([147]).
القول الثالث: من يقول بإثبات سبع صفات فقط أو ثمان ونفي ما عداها.
وهذا قول المتأخرين من الأشاعرة والماتريدية الذين لم يثبتوا من الصفات إلا ما أثبته العقل فقط، وأما ما لا مجال للعقل فيه عندهم فتعرضوا له بالتأويل والتعطيل.
ولا يستدل هؤلاء بالسمع في إثبات الصفات، بل عارضوا مدلوله بما ادعوه من العقليات.
وهذا القول لمتأخري الأشاعرة إنما تلقوه عن المعتزلة، لما مالوا إلى نوع التجهم، بل الفلسفة، وفارقوا قول الأشعري وأئمة أصحابه، الذين لم يكونوا يقرون بمخالفة النقل للعقل، بل انتصبوا لإقامة أدلة عقلية توافق السمع، ولهذا أثبت الأشعري الصفات الخبرية بالسمع، وأثبت بالعقل الصفات العقلية التي تعلم بالعقل والسمع، فلم يثبت بالعقل ما جعله معارضاً للسمع، بل ما جعله معاضداً له، وأثبت بالسمع ما عجز عنه العقل.
وهؤلاء خالفوه وخالفوا أئمة أصحابه في هذا وهذا، فلم يستدلوا بالسمع في إثبات الصفات، وعارضوا مدلوله بما ادعوه من العقليات ([148]).
فالصفات الثبوتية عند متأخري الأشاعرة هي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام ([149]) وزاد الباقلاني وإمام الحرمين الجويني صفة ثامنة هي الإدراك ([150]).
والصفات الثبوتية عند الماتريدية ([151]) هي ثمان: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، والتكوين ([152]) وهم قد خصوا الإثبات بهذه الصفات دون غيرها، لأنها هي التي دل العقل عليها عندهم، وأما غيرها من الصفات فإنه لا دليل عليها من العقل عندهم، فلذا قالوا بنفيها ([153]).
وهؤلاء لا يجعلون السمع طريقاً إلى إثبات الصفات ولهم فيما لم يثبتوه طريقان.
1ـ منهم من نفاه.
2ـ ومنهم من توقف فيه فلم يحكم فيه بإثبات ولا نفي ويقولون بأن العقل دلّ على ما أثبتناه ولم يدل على ما توقفنا فيه ([154]).
والصفات السبع التي يثبتها هؤلاء يسمونها صفات المعاني وضابطها في اصطلاحهم هي: ما دل على معنى وجودي قائم بالذات ولم يقر هؤلاء إلا بسبعة منها هي، الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام. ونفوا ما عداها من صفات المعاني كالرأفة والرحمة والحلم ([155]).
وقد زاد بعضهم في عده للصفات فأوصلها إلى عشرين صفة وقسمها إلى أربعة أقسام:
1ـ صفات المعاني 2ـ الصفات المعنوية
3ـ الصفات السلبية 4ـ الصفة النفسية.
فصفات المعاني تقدم ضابطها وعدها. وهي القدر الذي عند هؤلاء من الإثبات، أما الأقسام الثلاثة الباقية ليس فيها إثبات على الحقيقة.
القسم الثاني: الصفات المعنوية
وهي الأحكام الثابتة للموصوف بها معللة بعلل قائمة بالموصوف وهي كونه «حياً، عليماً، قديراً، مريداً، سميعاً، بصيراً، متكلماً» وهذا العد لا وجه له لأنه في الحقيقة تكرار لصفات المعاني المتقدم ذكرها.
ثم إن من عدها من هؤلاء عدوها بناءً على ما يسمونه الحالة المعنوية التي يزعمون أنها واسطة ثبوتية لا معدومة ولا موجودة ([156]).
والتحقيق أن هذا خرافة وخيال. وأن العقل الصحيح لا يجعل بين الشيء ونقيضه واسطة البتة فكل ما ليس بموجود فهو معدوم قطعاً، وكل ما ليس بمعدوم فهو موجود قطعاً ولا واسطة البتة كما هو معروف عند العقلاء ([157]).
3ـ الصفات السلبية:
وضابطها عندهم: ما دل على سلب ما لا يليق بالله عن الله من غير أن يدل على معنى وجودي قائم بالذات.
والذين قالوا هذا جعلوا الصفات السلبية خمساً لا سادس لها ([158]) وهي عندهم: القدم، البقاء، والمخالفة للحوادث، والوحدانية، والغنى المطلق الذي يسمونه القيام بالنفس الذي يعنون به الاستغناء عن المخصص والمحل ([159]).
وعلى ضابطهم الذي ذكروه فإن هذه الخمس لا تتضمن معنى وجودي. وإنما تتضمن أمراً سلبياً فعلى سبيل المثال:
القدم: المقصود بها نفي الحدوث.
والبقاء: المقصود بها نفي الفناء.
والوحدانية: المقصود بها نفي النظير المساوي له.
والقيام بالنفس: عدم افتقاره للمحل وعدم افتقاره للمخصص: أي الموجد.
4ـ الصفة النفسية:
وضابطها هي: كل صفة إثبات لنفس لازمة ما بقيت النفس غير معللة بعلل قائمة بالموصوف.
وهي عندهم صفة واحدة هي: الوجود. وهي عندهم لا تدل على شيء زائد على الذات.
يقول شارح جوهرة التوحيد: (واعلم أن الوجود صفة نفسية وإنما نسبت للنفس أي الذات، لأنها لا تعقل إلا بها فلا تعقل نفس إلا بوجودها، والمراد بالصفة النفسية: صفة ثبوتية يدل الوصف بها على نفس الذات دون معنى زائد عليها.
فقولنا: (صفة) كالجنس.
وقولنا: (ثبوتية) يخرج السلبية كالقدم والبقاء.
وقولنا: (يدل الوصف بها على نفس الذات) معناه أنها لا تدل على شيء زائد على الذات.
وقولنا: (دون معنى زائد عليها) تفسير مراد لقولنا (على نفس الذات) ويخرج بذلك المعاني لأنها لا تدل على معنى زائد على الذات، وكذلك «المعنوية» فإنها تستلزم المعاني فهي تدل على معنى زائد على الذات لاستلزامها المعاني) ([160]).
وبهذا يعلم أنه ليس عند هؤلاء من الإثبات إلا الصفات السبع التي يسمونها صفات المعاني وهي، الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام وما عداها من الصفات الثبوتية لا يثبتونها ولهم في نصوصها أحد طريقين إما التأويل أو التفويض وفي هذا يقول قائلهم:
وكل نص أوهم التشبيها | أوله أو فوضه ورم تنزيها ([161]) |
فنصوص الصفات التي وردت في إثبات ما عدا الصفات السبع التي يثبتونها، يسمونها نصوص موهمة للتشبيه، فهم يصرفونها عن ظاهرها، ولكنهم تارة يعينون المراد كقولهم استوى: استولى، واليد: بمعنى النعمة والقدرة؛ وتارة يفوضون فلا يحددون المعنى المراد ويكلون علم ذلك إلى الله عز وجل. ولكنهم يتفقون على نفي الصفة لأن ناظمهم يقول: (ورم تنزيهاً) وشارح الجوهرة يقول: (أو فوض) أي بعد التأويل الإجمالي الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، فبعد هذا التأويل فوض المراد من النص الموهم إليه تعالى ([162]).
فهم بذلك متفقون على نفي تلك الصفات، ويخيرون في تحديد المعنى المراد أو السكوت عن ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأبو المعالي وأتباعه نفوا هذه الصفات -أي الصفات الخبرية-موافقة للمعتزلة والجهمية. ثم لهم قولان:
أحدهما: تأويل نصوصها، وهو أول قولي أبي المعالي، كما ذكره في الإرشاد.
والثاني: تفويض معانيها إلى الرب، وهو آخر قولي أبي المعالي كما ذكره في "الرسالة النظامية" وذكر ما يدل على أن السلف كانوا مجمعين على أن التأويل ليس بسائغ ولا واجب.
ثم هؤلاء منهم من ينفيها ويقول: إن العقل الصريح نفى هذه الصفات. ومنهم من يقف ويقول: ليس لنا دليل سمعي ولا عقلي، لا على إثباتها ولا على نفيها، وهي طريقة الرازي والآمدي) ([163]).
الفصل الثالث المشـبهــة
وفيه مبحثان
المبحث الأول: التعريف بالتمثيل والتشبيه
المبحث الثاني: التعريف بالمشبهة
المبحث الأول: التعريف بالتمثيل والتشبيه
التمثيل لغة: الند والنظير
والمماثلة: هي مساواة الشيء لغيره من كل وجه.
والمشابهة: هي مساواة الشيء لغيره من أغلب الوجوه.
والتمثيل: هو الاعتقاد في صفات الخالق أنها مثل صفات المخلوق.
وهو كقول الممثل: له يد كيدي، وسمع كسمعي، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
والتمثيل والتشبيه هنا بمعنى واحد وإن كان هناك فرق بينهما في أصل اللغة ([164]).
والمقصود بالتشبيه هنا: هو التمثيل في نفس الذوات أو بالصفات القائمة بالذوات.
وهذا التشبيه منتف عن الله، وإنما خالف فيه المشبهة الممثلة الذين وصفهم الأئمة وذموهم.
كما قال الإمام أحمد: (المشبه الذي يقول بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي، ومن قال هذا فقد شبه الله بخلقه) ([165]).
فكل قول يتضمن إثبات شيء من خصائص المخلوقين لله، فهذا هو التشبيه الممتنع على الله تعالى ([166]).
التمثيل والتكييف:
قيل إن التكييف هو: جعل الشيء على حقيقة معينة من غير أن يقيدها بمماثل ([167]).
كقول الهشامية: (طوله طول سبعة أشبار بشبر نفسه)، وقولهم: (طوله كعرضه) ([168]).
فالتكييف على هذا التعريف ليس فيه تقييد بمماثل.
وأما التمثيل: فهو اعتقاد أنها تماثل صفات المخلوقين.
ولعل الصواب أن التكييف أعم من التمثيل، فكل تمثيل تكييف لأن من مثل صفات الخالق بصفات المخلوقين فقد كيف تلك الصفة أي جعل لها حقيقة معينة مشاهدة.
وليس كل تكييف تمثيل لأن من التكييف ما ليس فيه تمثيل بصفات المخلوقين كقولهم: (طوله كعرضه).
معنى قول أهل السنة (من غير تمثيل ولا تكييف)
مقصود أهل السنة بنفي المماثلة: أن خصائص الرب تعالى لا يوصف بها شيء من المخلوقات، ولا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته وهذا ما دل عليه القرآن، قال تعالى {ليس كمثله شيء} فهذا رد على المشبهة.
فمن جعل صفات الخالق مثل صفات المخلوقين فهو المشبه المبطل المذموم، ومن جعل صفات المخلوق مثل صفات الخالق فهو نظير النصارى في كفرهم) ([169]).
ومعنى قول أهل السنة (من غير تكييف) أي من غير كيف يعقله البشر، وليس المراد من قولهم (من غير تكييف) أنهم ينفون الكيف مطلقاً، فإن كل شيء لابد أن يكون على كيفية ما، ولكن المراد أنهم ينفون علمهم بالكيف إذ لا يعلم كيفية ذاته وصفاته إلا هو سبحانه ([170]).
فمن المعلوم أنه لا علم لنا بكيفية صفاته عز وجل لأنه تعالى أخبرنا عن الصفات ولم يخبرنا عن كيفيتها، فيكون تعمقنا في أمر الكيفية قفواً لما ليس لنا به علم، وقولاً بما لا يمكننا الإحاطة به.
وقد أخذ العلماء من قول الإمام مالك: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) قاعدة ساروا عليها في هذا الباب.
مقصود المخالفين بنفي التشبيه:
التشبيه في اصطلاح المتكلمين وغيرهم هو التمثيل، والمتشبهان هما المتماثلان، وهما ما سد أحدهما مسد صاحبه وقام مقامه وناب منابه ([171]).
ومقصود المتكلمين بنفي التشبيه: أن يراد به أنه لا يثبت لله شيء من الصفات، فلا يقال له قدرة، ولا علم، ولا حياة، لأن العبد موصوف بهذه الصفات، ولازم هذا القول إنه لا يقال له حي، عليم، قدير، لأن العبد يسمى بهذه الأسماء وكذلك كلامه وسمعه وبصره وإرادته وغير ذلك ([172]).
وأصل الخطأ والغلط توهمهم أن هذه الأسماء العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلي هو بعينه ثابتاً في هذا المعين وليس كذلك، فإن ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقاً كلياً، بل لا يوجد إلا معيناً مختصاً، وهذه الأسماء إذا سمي الله بها كان مسماها معيناً مختصاً به.
فإذا سمي بها العبد كان مسماها مختصاً به، فوجود الله وحياته لا يشاركه فيها غيره، بل وجود هذا الموجود المعين لا يشاركه فيه غيره، فكيف بوجود الخالق.
وبهذا ومثله يتبين لك أن المشبهة أخذوا هذا المعنى فزادوا فيه على الحق فضلوا. وأن المعطلة أخذوا نفي المماثلة بوجه من الوجوه وزادوا فيه على الحق حتى ضلوا. وإن كتاب الله دل على الحق المحض الذي تعقله العقول السليمة الصحيحة، وهو الحق المعتدل الذي لا انحراف فيه ([173]).
أقسام التمثيل:
قال ابن القيم: (حقيقة الشرك هو:
1ـ التشبه بالخالق
2ـ التشبيه للمخلوق به
هذا هو التشبيه في الحقيقة) ([174]).
وإذا كان التشبيه هو حقيقة الشرك كما ذكر ابن القيم، فإنه يمكن توضيح صوره بناءً على أقسام التوحيد الثلاثة المعروفة وذلك على النحو التالي:
أولاً: التمثيل في جانب الربوبية
وينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: التشبيه للمخلوق به، ومثاله:
1ـ شرك القدرية القائلين بأن العبد هو الذي يخلق أفعال نفسه، وأنها تحدث بدون مشيئة الله وقدرته.
2ـ شرك غلاة عباد القبور الذين يعتقدون في أصحاب القبور أنهم يتصرفون وينفعون ويضرون من دون الله.
ولا شك أن من خصائص الرب التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء، والخوف، والرجاء، والتوكل به وحده. فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل ما لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، -فضلاً عن غيره-شبيهاً لمن له الأمر كله، فأزمة الأمور كلها بيده، ومرجعها إليه، فما شاء كان، ومالم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع.
فمن أقبح التشبيه: تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات، بالقادر الغني بالذات ([175]).
القسم الثاني: التشبه بالخالق ومن أمثلته:
1ـ من تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم ([176]).
ففي الصحيح عنه e قال: ((يقول الله عز وجل: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحداً منهما عذبته".
ثانياً: التمثيل في جانب الألوهية
وينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: التشبيه للمخلوق به، ومن أمثلة ذلك:
السجود لغير الله، والذبح لغير الله، والتوبة لغير الله، والحلف بغير الله.
فمن خصائص الإلهية، العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما:
1ـ غاية الحب
2ـ مع غاية الذل
هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين.
فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله فقد شبهه في خالص حقه.
فإذا عرف هذا، فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به.
ومنها التوكل، فمن توكل على غيره فقد شبهه به.
ومنها التوبة، فمن تاب لغيره فقد شبهه به.
ومنها الحلف باسمه تعظيماً وإجلالاً له، فمن حلف بغيره فقد شبهه به ([177]).
القسم الثاني: التشبه به ومثاله:
من دعا الناس إلى تعليق القلب به خوفاً، ورجاءً، وتوكلاً، والتجاءً، واستعانةً ([178])، كما يفعله بعض مشايخ طرق الصوفية مع مريديهم.
أقسام التمثيل في باب الأسماء والصفات
ينقسم التمثيل في باب الأسماء والصفات إلى قسمين:
القسم الأول: تمثيل المخلوق بالخالق
وهذا ما زعمه النصارى في شأن عيسى عليه السلام إذ أعطوه خصائص الخالق عز وجل وجعلوه إلهاً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والنصارى يصفون المخلوق بصفات الخالق التي يختص بها، ويشبهون المخلوق بالخالق، حيث قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم، وإن الله ثالث ثلاثة، وقالوا المسيح ابن الله) ([179]).
ومن هذا القسم كذلك السبيئة ([180]) من غلاة الروافض: الذين شبهوا علياً رضي الله عنه بالله، وجعلوه إلهاً، وقالوا: أنت الله حتى حرقهم، فإنه خرج ذات يوم فسجدوا له.
فقال لهم: ما هذا؟
فقالوا: أنت هو
قال: من أنا؟
قالوا: أنت الله الذي لا إله إلا هو
فقال: ويحكم هذا كفر، فارجعوا عنه، وإلا ضربت أعناقكم، فصنعوا به في اليوم الثاني والثالث كذلك، فأخرهم ثلاثة أيام -لأن المرتد يستتاب ثلاثة أيام-فلما لم يرجعوا، أمر بأخاديد من نار فخدت عند باب كندة، وقذفهم في تلك النار، وروي عنه أنه قال:
لما رأيت الأمر أمراً منكراً | أججت ناري ودعوت قنبراً) ([181]) |
القسم الثاني: تشبيه الخالق بالمخلوق
وهذا ما زعمه اليهود قاتلهم الله إذ وصفوا الخالق ببعض صفات المخلوقين، كما ذكر الله ذلك عنهم في كتابه العزيز حيث قال {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء}، وقال تعالى {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فاليهود تصف الرب بصفات النقص التي يتصف بها المخلوق، كما قالوا: إنه بخيل، وإنه فقير، وإنه لما خلق السموات والأرض تعب) ([182]).
وأنه رمد وعادته الملائكة وأنه بكى على طوفان نوح عليه السلام ([183]).
ويدخل في هذا القسم المشبهة الذين جعلوا ما ورد من صفات الله جل وعلا مماثلاً ومشابهاً لصفات المخلوقين كقولهم له يد كيدي، وسمع كسمعي، وبصر كبصري.
المبحث الثاني: التعريف بالمشبهة
توحيد الأسماء والصفات له ضدان هما:
1ـ التعطيل 2ـ التمثيل
ولذلك ذم السلف والأئمة، المعطلة النفاة للصفات، وذموا المشبهة أيضاً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن السلف والأئمة كثر كلامهم في ذم الجهمية النفاة للصفات، وذموا المشبهة أيضاً، وذلك في كلامهم أقل بكثير من ذم الجهمية، لأن مرض التعطيل أعظم من مرض التشبيه).
وتقوم عقيدة أهل التمثيل على دعواهم أن الله عز وجل لا يخاطبنا إلا بما نعقل، فإذا أخبرنا عن اليد فنحن لا نعقل إلا هذه اليد الجارحة، فشبهوا صفات الخالق بصفات المخلوقين، فقالوا له يد كيدي، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
لكن المشبهة لا يمثلون الخالق بالمخلوق من وجه وإنما قالوا بإثبات التماثل من وجه والاختلاف من وجه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (مع أن مقالة المشبهة الذين يقولون: يد كيدي، وقدم كقدمي، وبصر كبصري، مقالة معروفة، وقد ذكرها الأئمة كيزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم، وأنكروها وذموها، ونسبوها إلى مثل داود الجواربي البصري وأمثاله. ولكن مع هذا صاحب هذه المقالة لا يمثله بكل شيء من الأجسام، بل ببعضها، ولابد مع ذلك أن يثبتوا التماثل من وجه، لكن إذا أثبتوا من التماثل ما يختص بالمخلوقات كانوا مبطلين على كل حال) ([184]).
وأكثر من عرف بمقالة التشبيه
قدماء الرافضة:
فأول من تكلم في التشبيه هم طوائف من الشيعة ([185]) وإن التشبيه والتجسيم المخالف للعقل والنقل لا يُعرف في أحد من طوائف الأمة أكثر منهم في طوائف الشيعة.
وهذه كتب المقالات كلها تخبر عن أئمة الشيعة المتقدمين من المقالات المخالفة للعقل والنقل في التشبيه والتجسيم بما لا يعرف نظيره عن أحد من سائر الطوائف.
وقدماء الإمامية ومتأخروهم متناقضون في هذا الباب، فقدماؤهم غلو في التشبيه والتجسيم، ومتأخروهم غلو في النفي والتعطيل) ([186]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فهذه المقالات التي نقلت في التشبيه والتجسيم لم نر الناس نقلوها عن طائفة من المسلمين أعظم مما نقلوها عن قدماء الرافضة. ثم الرافضة حُرِموا الصواب في هذا الباب كما حُرِموه في غيره، فقدماؤهم يقولون بالتجسيم الذي هو قول غلاة المجسمة، ومتأخروهم يقولون بتعطيل الصفات موافقة لغلاة المعطلة من المعتزلة ونحوهم، فأقوال أئمتهم دائرة بين التعطيل والتمثيل، لم تعرف لهم مقالة متوسطة بين هذا وهذا) ([187]).
وأما قدماؤهم فهم:
1ـ البيانية: من غالية الشيعة وهم أتباع بيان بن سمعان التيمي الذي كان يقول: إن الله على صورة الإنسان وإنه يهلك كله إلا وجهه، وادعى بيان أنه يدعو الزُهَرَة فتجيبه، وأنه يفعل ذلك بالاسم الأعظم، فقتله خالد ابن عبد الله القسري ([188]).
2ـ المغيرية: وهم أصحاب المغيرة بن سعيد، ويزعمون أنه كان يقول إنه نبي وإنه اسم الله الأكبر وأن معبودهم رجل من نور على رأسه تاج، وله من الأعضاء والخلق مثل ما للرجل، وله جوف وقلب تنبع منه الحكمة، وأن حروف (أبي جاد) على عدد أعضائه، قالوا: والألف موضع قدمه لاعوجاجها، وذكر الهاء فقال: لو رأيتم موضعها منه لرأيتم أمراً عظيما، يعرِّض لهم بالعورة وبأنه قد رآه، لعنه الله وأخزاه ([189]).
3ـ الهشامية: ويسمون بالهشامية نسبة إلى هشام بن الحكم الرافضي وأحياناً تنسب إلى هشام بن سالم الجواليقي وكلاهما من الإمامية المشبهة والجدير بالذكر أن الرافضة الإمامية كان ينتشر فيهم التشبيه وهذا في أوائلهم ([190]).
4ـ الجواربية: أتباع داود الجواربي الذي وصف معبوده بأن له جميع أعضاء الإنسان إلا الفرج واللحية ([191]).
وقال: (اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك) ([192]). تعالى الله عما يقوله علواً كبيراً.
وقال الأشعري في المقالات: (وقال داود الجواربي: إن الله جسم، وأن له جُثةٌ وأنه على صورة الانسان له لحم ودم وشعر وعظم، له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين، وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره) ([193]).
وحكي عن داود الجواربي أنه كان يقول: إنه أجوف من فِيهِ إلى صدره، مُصْمَتٌ ما سوى ذلك ([194]).
قال أبو الحسن الأشعري في كتاب "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين": (اختلف الروافض وأصحاب الإمامة في التجسيم وهم ست فرق:
فالفرقة الأولى: (الهشامية)، أصحاب هشام بن الحكم الرافضي.
يزعمون أن معبودهم جسم، وله نهاية وحَدٌ، طويل، عريض، عميق، طوله مثل عرضه، وعرضه مثل عمقه، لا يُوفي بعضه على بعض، وزعموا أنه نور ساطع، له قدر من الأقدار، في مكان دون مكان، كالسبيكة الصافية، يتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها، ذو لون وطعم، ورائحة، ومجسَّة، لونه هو طعمه، وطعمه هو رائحته) وذكر كلاماً طويلاً.
وذكر عن هشام أنه قال في ربه في عام واحد خمسة أقاويل، زعم مرة أنه كالبلورة، وزعم مرة أنه كالسبيكة، وزعم مرة أنه غير صورة، وزعم مرة أنه بشبر نفسه سبعة أشبار ثم رجع عن ذلك وقال: هو جسم لا كالأجسام.
الفرقة الثانية: من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بصورة ولا كالأجسام، وإنما يذهبون في قولهم: إنه جسم، إلى أنه موجود، ولا يثبتون الباري ذا أجزاء مؤتلفة وأبعاض متلاصقة ويزعمون أن الله على العرش مستو بلا مماسة ولا كيف.
الفرقة الثالثة: من الرافضة يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان، ويمنعون أن يكون جسماً.
الفرقة الرابعة: من الرافضة (الهشامية) أصحاب هشام بن سالم الجواليقي يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان وينكرون أن يكون لحماً ودماً ويقولون هو نور ساطع يتلألأ بياضاً، وأنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان، له يد، ورجل، وأنف، وأذن، وعين، وفم، وأنه يسمع بغير ما يبصر به وكذلك سائر حواسه متغايرة عنده، وحكى أبو عيسى الوراق أن هشام بن سالم كان يزعم أن لربه وَفْرَة ([195]) سوداء وأن ذلك نور أسود.
الفرقة الخامسة: يزعمون أن لرب العالمين ضياءً خالصاً، ونوراً بحتاً، وهو كالمصباح الذي من حيث جئته يلقاك بأمر واحد، وليس بذي صورة ولا أعضاء، ولا اختلاف في الأجزاء، وأنكروا أن يكون على صورة الإنسان أو على صورة شيء من الحيوان.
الفرقة السادسة: من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بجسم ولا بصورة ولا يشبه الأشياء ولا يتحرك ولا يسكن ولا يماس، وقالوا في التوحيد بقول المعتزلة والخوارج، وهؤلاء قوم من متأخريهم، فأما أوائلهم فإنهم كانوا يقولون ما حكينا عنهم من التشبيه.
قال شيخ الإسلام: (وأما متأخريهم من عهد بني بويه ونحوهم من أوائل المائة الرابعة ونحو ذلك فإنهم صار فيهم من يوافق المعتزلة في توحيدهم وعدلهم) ([196]).
وقال أيضاً: (وكتب الشيعة مملوءة بالاعتماد في ذلك -يعنى مسائل الصفات والقدر-على طرق المعتزلة وهذا كان في أواخر المائة الثالثة، وكثر في المائة الرابعة لما صنف لهم المفيد وأتباعه كالموسوي والطوسي.
وأما قدماء الشيعة فالغالب عليهم ضد هذا القول، كما هو قول الهشامية وأمثالهما.
فالرافضة الإمامية وكذلك الزيدية على عقيدة المعتزلة في مسائل الصفات إلى يومنا هذا.
غلاة المتصوفة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (قال الأشعري: وفي الأمة قوم ينتحلون النسك، يزعمون أنه جائز على الله تعالى الحلول في الأجسام، وإذا رأوا شيئاً يستحسنونه قالوا: لا ندري، لعل، ربما، هو.
ومنهم من يقول: إنه يرى الله في الدنيا على قدر الأعمال، فمن كان عمله أحسن رأى معبوده أحسن.
ومنهم من يجوِّز على الله تعالى المعانقة والمملامسة والمجالسة في الدنيا، ومنهم من يزعم أن الله تعالى ذو أعضاء وجوارح وأبعاض: لحم ودم على صورة الإنسان له ما للإنسان من الجوارح.
وكان من الصوفية رجل يُعرف بأبي شعيب يزعم أن الله يسر ويفرح بطاعة أوليائه، ويغتم ويحزن إذا عَصَوْهُ.
وفي النسَّاك قوم يزعمون أن العبادة تبلغ بهم إلى منزلة تزول عنهم العبادات، وتكون الأشياء المحظورات على غيرهم -من الزنا وغيره-مباحات لهم. وفيهم من يزعم أن العبادة تبلغ بهم إلى أن يروا الله، ويأكلوا من ثمار الجنة، ويعانقوا الحور العين في الدنيا، ويحاربوا الشياطين.
ومنهم من يزعم أن العبادة تبلغ بهم إلى أن يكونوا أفضل من النبيين والملائكة المقربين.
وقلت هذه المقالات التي حكاها الأشعري -وذكروا أعظم منها-موجودة في الناس قبل هذا الزمان. وفي هذا الزمان منهم من يقول بحلوله في الصور الجميلة، ويقول إنه بمشاهدة الأمرد يشاهد معبوده أو صفات معبوده أو مظاهر جماله، ومن هؤلاء من يسجد للأمرد. ثم من هؤلاء من يقول بالحلول والاتحاد العام، لكنه يتعبد بمظاهر الجمال، لما في ذلك من اللذة له، فيتخذ إلهه هواه، وهذا موجود في كثير من المنتسبين إلى الفقر والتصوف. ومنهم من يقول إنه يرى الله مطلقاً ولا يعيِّن الصورة الجميلة، بل يقولون إنهم يرونه في صور مختلفة. ومنهم من يقول: إن المواضع المخضرَّة خطا عليها، وإنما اخضرت من وطئه عليها، وفي ذلك حكايات متعددة يطول وصفها. وأما القول بالإباحة وحل المحرمات -أو بعضها-للكاملين في العلم والعبادة فهذا أكثر من الأول، فإن هذا قول أئمة الباطنية القرامطة الإسماعيلية وغير الإسماعيلية وكثير من الفلاسفة، ولهذا يُضرب بهم المثل فيقال: فلان يستحل دمي كاستحلال الفلاسفة محظورات الشرائع، وقول كثير ممن ينتسب إلى التصوف والكلام، وكذلك من يفضل نفسه أو متبوعه على الأنبياء، موجود كثير في الباطنية والفلاسفة وغلاة المتصوفة وغيرهم، وبسط الكلام على هذا له موضع آخر.
ففي الجملة هذه مقالات منكرة باتفاق علماء السنة والجماعة، وهي -وأشنع منها-موجودة في الشيعة.
وكثير من النسَّاك يظنون أنهم يرون الله في الدنيا بأعينهم، وسبب ذلك أنه يحصل لأحدهم في قلبه بسبب ذكر الله تعالى وعبادته من الأنوار ما يغيب به عن حسه الظاهر، حتى يظن أن ذلك شيء يراه بعينه الظاهرة، وإنما هو موجود في قلبه.
ومن هؤلاء من تخاطبه تلك الصورة التي يراها خطاب الربوبية ويخاطبها أيضاً بذلك، ويظن أن ذلك كله موجود في الخارج عنه، وإنما هو موجود في نفسه، كما يحصل للنائم إذا رأى ربه في صورة بحسب حاله. فهذه الأمور تقع كثيراً في زماننا وقبله، ويقع الغلط منهم حيث يظنون أن ذلك موجود في الخارج.
وكثير من هؤلاء يتمثل له الشيطان، ويرى نوراً أو عرشاً أو نوراً على العرش، ويقول: أنا ربك. ومنهم من يقول: أنا نبيك، وهذا قد وقع لغير واحد. ومن هؤلاء من تخاطبه الهواتف بخطاب على لسان الإلهية أو غير ذلك، ويكون المخاطب له جنياًّ، كما قد وقع لغير واحد. لكن بسط الكلام على ما يُرى ويُسمع وما هو في النفس والخارج، وتمييز حقه من باطله ليس هذا موضعه، وقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع.
وكثير من الجهَّال أهل الحال وغيرهم يقولون: إنهم يرون الله عياناً في الدنيا، وأنه يخطو خطوات) ([197]).
فأدخلوا في ذلك من الأمور ما نفاه الله ورسوله، حتى قالوا: إنه يُرى في الدنيا بالأبصار، ويصافح، ويعانق، وينزل إلى الأرض، وينزل عشية عرفة راكباً على جمل أورق يعانق المشاة ويصافح الركبان، وقال بعضهم: إنه يندم ويبكي ويحزن، وعن بعضهم أنه لحم ودم، ونحو ذلك من المقالات التي تتضمن وصف الخالق جل جلاله بخصائص المخلوقين.
والله سبحانه منزه عن أن يوصف بشيء من الصفات المختصة بالمخلوقين، وكل ما اختص بالمخلوق فهو صفة نقص، والله تعالى منزَّه عن كل نقص ومستحق لغاية الكمال، وليس له مثل في شيء من صفات الكمال، فهو منزه عن النقص مطلقاً، ومنزه في الكمال أن يكون له مثل، كما قال تعالى {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يلد ولم يكن له كفواً أحد} [الإخلاص 1-4]، فبين أنه أحدٌ صمدٌ، واسمه الأحد يتضمن نفي المثل، واسمه الصمد يتضمن جميع صفات الكمال، كما قد بيَّنا ذلك في الكتاب المصنَّف في تفسير قل هو الله أحد) ([198]).
من نُسب إلى التشبيه
الكرامية:
الفرق بين التشبيه والتجسيم
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وفي الجملة الكلام في التمثيل والتشبيه ونفيه عن الله مقام، والكلام في التجسيم ونفيه مقام آخر.
فإن الأول دل على نفيه الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة، واستفاض عنهم الإنكار على المشبهة الذين يقولون: يد كيدي، وبصر كبصري، وقدم كقدمي.
وقد قال تعالى {ليس كمثله شيء} [الشورى 11]، وقال تعالى {ولم يكن له كفواً أحد} [الإخلاص 4]، وقال {هل تعلم له سميا} [مريم 65]، وقال تعالى {فلا تجعلوا لله أنداداً} [البقرة 22]، وأيضا فنفي ذلك معروف بالدلائل العقلية التي لا تقبل النقيض، وأما الكلام في الجسم والجوهر، ونفيهما أو إثباتهما، فبدعة ليس لها أصل في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا تكلم أحد من السلف والأئمة بذلك نفياً ولا إثباتاً.
والنزاع بين المتنازعين في ذلك: بعضه لفظي، وبعضه معنوي. أخطأ هؤلاء من وجه وأخطأ هؤلاء من وجه.
فإن كان النزاع مع من يقول: هو جسم أو جوهر، إذا قال: لا كالأجسام ولا كالجواهر، وإنما هو في اللفظ.
فمن قال: هو كالأجسام والجواهر، يكون الكلام معه بحسب ما يفسره من المعنى.
فإن كان فسر ذلك بالتشبيه الممتنع على الله تعالى، كان قوله مردوداً.
وذلك بأن يتضمن قوله إثبات شيء من خصائص المخلوقين لله، فكل قول تضمن هذا فهو باطل.
وإن فسر قوله: جسم لا كالأجسام بإثبات معنى آخر، مع تنزيه الرب عن خصائص المخلوقين، كان الكلام معه في ثبوت ذلك المعنى وانتفائه.
فلابد أن يلحظ في هذا إثبات شيء من خصائص المخلوقين للرب أولا، وذلك مثل أن يقول: أصفه بالقدر المشترك بين سائر الأجسام والجواهر، كما أصفه بالقدر المشترك بينه وبين سائر الموجودات، وبين كل حي عليم سميع بصير، وإن كنت لا أصفه بما تختص به المخلوقات، وإلا فلو قال الرجل: هو حي لا كالأحياء، وقادر لا كالقادرين، وعليم لا كالعلماء، وسميع لا كالسمعاء، وبصير لا كالبصراء، ونحو ذلك، وأراد بذلك نفي خصائص المخلوقين، فقد أصاب.
وإن أراد نفي الحقيقة التي للحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك، مثل أن يثبت الألفاظ وينفي المعنى الذي أثبته الله لنفسه، وهو من صفات كماله، فقد أخطأ.
إذا تبين هذا فالنزاع بين مثبتة الجوهر والجسم ونفاته، يقع من جهة المعنى في شيئين:
أحدهما: أنهم متنازعون في تماثل الأجسام والجواهر على قولين معروفين.
فمن قال بتماثلها، قال: كل من قال: إنه جسم لزمه التمثيل.
ومن قال إنها لا تتماثل، قال: إنه لا يلزمه التمثيل.
ولهذا كان أولئك يسمون المثبتين للجسم مشبهة، بحسب ما ظنوه لازماً لهم، كما يسمى نفاة الصفات لمثبتيها مشبهة ومجسمة، حتى سموا جميع المثبتة للصفات مشبهة ومجسمة وحشوية، وغثاء، وغثراء، ونحو ذلك، بحسب ما ظنوه لازماً لهم.
لكن إذا عرف أن صاحب القول لا يلتزم هذه اللوازم، لم يجز نسبتها إليه على أنها قول له، سواء كانت لازمة في نفس الأمر أو غير لازمة، بل إن كانت لازمة مع فسادها، دل على فساد قوله.
التعريف بالكرامية:
الكرامية ([199]) هم أتباع محمد بن كرام بن عراق بن حزبة السجستاني المتوفى سنة (255هـ).
وهم في باب الصفات يثبتونها ولكنهم خالفوا أهل السنة في مسألتين:
المسألة الأولى: أنهم يبالغون في الإثبات ويخوضون في شأن الكيفية، ودخل عليهم ذلك من جهة إطلاقهم لألفاظ مبتدعة كلفظ (الجسم)، و (المامسة).
ومن بدع الكرامية أنهم يقولون في المعبود إنه جسم لا كالأجسام ([200]).
ومن بدعهم قولهم: إن الأزلي الخالق جسم لم يزل ساكنا ([201]).
ويقولون: إن الله جسم قديم أزلي، وإنه لم يزل ساكناً ثم تحرك لما خلق العالم، ويحتجون على حدوث الأجسام المخلوقة بأنها مركبة من الجواهر المفردة، فهي تقبل الاجتماع والافتراق، ولا تخلوا من اجتماع وافتراق، وهي أعراض حادثة لا تخلو منها، ومالا يخلو من الحوادث فهو حادث.
وأما الرب فهو عندهم واحد لا يقبل الاجتماع والافتراق، ولكنه لم يزل ساكناً. والسكون عندهم أمر عدمي، وهو عدم الحركة عمَّا من شأنه أن يتحرك، كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة. وهؤلاء يقولون: إن الباري لم يزل خالياً من الحوادث حتى قامت به، بخلاف الأجسام المركَّبة من الجواهر المفردة، فإنها لا تخلو من الاجتماع والافتراق ([202]).
ويقولون: إن الصفات والأفعال لا تقوم إلا بجسم، ويجوزون وجود جسم ينفك من قيام الحوادث به ثم يحدث فتقوم به بعد ذلك ([203]).
ويقول ابن كرام: إن الله مماس للعرش من الصفحة العليا ([204]).
ويقول كذلك: له حد من الجانب الذي ينتهي إلى العرش ولا نهاية له ([205]).
وقد غالى أتباع ابن كرام في شأن الكيفية فزعم بعضهم أنه تعالى على بعض أجزاء العرش ([206]).
وادعى بعضهم أن العرش امتلأ به بحيث لا يزيد على عرشه من جهة المماسة، ولا يفضل منه شيء على العرش ([207]).
المسألة الثانية: إن الكرامية يثبتون الصفات بما فيها أن الله تعالى تقوم به الأمور التي تتعلق بمشيئته وقدرته، ولكن ذلك عندهم حادث بعد أن لم يكن، أنه يصير موصوفاً بما يحدث بقدرته ومشيئته بعد أن لم يكن كذلك، وقالوا: لا يجوز أن تتعاقب عليه الحوادث، ففرقوا في الحوادث بين تجددها ولزومها، فقالوا بنفي لزومها دون حدوثها.
فعندهم أن الله يتكلم بأصوات تتعلق بمشيئته وقدرته، وأنه تقوم به الحوادث المتعلقة بمشيئته وقدرته، لكن ذلك حادث بعد أن لم يكن، وأن الله في الأزل لم يكن متكلماً إلا بمعنى القدرة على الكلام، وأنه يصير موصوفاً بما يحدث بقدرته ومشيئته بعد أن لم يكن كذلك ([208]).
ومعلوم أن عقيدة السلف تقوم على إثبات جميع الصفات الذاتية منها والفعلية، وأثبتوا أن الله متصف بذلك أزلاً، وأن الصفات الناشئة عن الأفعال موصوف بها في القدم، وإن كانت المفعولات محدثة ([209]).
مقاتل بن سليمان ([210])
نُسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر أنه من المشبهة وذكروا أنه هو الذي قال فيه الإمام أبو حنيفة: (أتانا من المشرق رأيان خبيثان؛ جهم معطل، ومقاتل مشبه) ([211]).
وقال ابن حبان: (كان يأخذ من اليهود والنصارى من علم القرآن الذي وافق كتبهم، وكان يشبه الرب بالمخلوقات وكان يكذب في الحديث) ([212]).
وقال أبو الحسن الأشعري في "المقالات": (وقال داود الجواربي ومقاتل بن سليمان: أن الله جسم وأنه جثة على صورة الانسان لحمٌ ودمٌ وشعر وعظم، له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان وعينين وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه) ([213]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما مقاتل فالله أعلم بحقيقة حاله. والأشعري ينقل هذه المقالات من كتب المعتزلة، وفيهم انحراف على مقاتل بن سليمان، فلعلهم زادوا في النقل عنه، أو نقلو عنه، أو نقلوا عن غير ثقة، وإلا فما أظنه يصل إلى هذا الحد. وقد قال الشافعي: من أراد التفسير فهو عيال على مقاتل، ومن أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة. ومقاتل بن سليمان وإن لم يكن ممن يحتج به في الحديث -بخلاف مقاتل بن حيان فإنه ثقة-لكن لا ريب في علمه في التفسير وغيره واطلاعه، كما أن أبا حنيفة وإن كان الناس خالفوه في أشياء وأنكروها عليه، فلا يستريب أحد في فقهه وفهمه وعلمه، وقد نقلوا عنه أشياء يقصدون بها الشناعة عليه، وهي كذب عليه قطعاً، مثل مسألة الخنزير البري ونحوها، وما يبعد أن يكون النقل عن مقاتل من هذا الباب) ([214]).
وجاء في "وفيات الأعيان" في ترجمة مقاتل بن سليمان: (حكي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال: الناس كلهم عيال على ثلاثة، على مقاتل بن سليمان في التفسير، وعلى زهير بن أبي سلمى في الشعر، وعلى أبي حنيفة في الكلام) ([215]).
الباب الثاني الأقوال في صفتي العلو والاستواء
وفيه أربعة فصول
الفصل الأول: الأقوال في صفة العلو.
الفصل الثاني: الأقوال في صفة الاستواء.
الفصل الثالث: مسائل متعلقة بالعلو والاستواء.
الفصل الأول الأقوال في صفة العلو
وفيه مبحثان
المبحث الأول: قول أهل السنة والجماعة ومن وافقهم
المبحث الثاني: أقوال المخالفين
المبحث الأول: قول أهل السنة والجماعة ومن وافقهم.
يؤمن أهل السنة بعلو الله على خلقه واستوائه على عرشه، وأنه بائن من خلقه وهم بائنون منه.
وقد وافقهم على قولهم في إثبات العلو عامة الصفاتية، كأبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وأتباعه، وأبي العباس القلانسي ([216])، وأبي الحسن الأشعري والمتقدمين من أصحابه.
وهو قول الكرامية ومتقدمي الشيعة الإمامية ([217]).
وقد استدل أهل السنة والجماعة على إثبات صفة العلو بالقرآن، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة.
الأدلة من القرآن.
قال ابن تيمية: "قَدْ وَصَفَ اللَّهُ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ بِالْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَالْفَوْقِيَّةِ فِي كِتَابِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ حَتَّى قَالَ بَعْضُ كِبَارِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: فِي الْقُرْآنِ أَلْفُ دَلِيلٍ أَوْ أَزْيَدُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَالٍ عَلَى الْخَلْقِ وَأَنَّهُ فَوْقَ عِبَادِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: فِيهِ ثَلَاثُمِائَةِ دَلِيلٍ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ"[218]
وقال رحمه الله: "دَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى إثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَأَنَّهُ نَفْسُهُ فَوْقَ الْعَرْشِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ؛ كَقَوْلِهِ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وَقَوْلِهِ: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} وَقَوْلِهِ: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ} وَقَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ}. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ يَبْلُغُ ثَلَاثَمِائَةِ آيَةٍ وَهِيَ دَلَائِلُ جَلِيَّةٌ بَيِّنَةٌ مَفْهُومَةٌ: مِنْ الْقُرْآنِ مَعْقُولَةٌ: مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى."[219]
وقد تنوعت عبارات القرآن في إثبات صفة العلو.
فالقرآن الكريم من أوله إلى آخره مليء بما هو إما نص ظاهر في أن الله فوق كل شيء، وأنه عال على خلقه ومستو على عرشه، وقد تنوعت تلك الدلالات، فوردت بأصناف من العبارات، فقد أشار العلماء إلى ذلك التنوع في العبارة على إثبات هذه الصفة، ومن ذلك:
1-التصريح بالفوقية مقرونة بأداة (من) المعينة لفوقية الذات نحو: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل:50].
2-ذكرها مجردة عن الأداة، كقوله: {وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18].
3-التصريح بالعروج إليه، نحو {تَعْرُجُ المَلاَئِكَةُ وَالرُّوُحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4].
4-التصريح بالصعود إليه، كقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلكَلِمُ الطّيّبُ} [فاطر:10].
5-التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه، كقوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} [النساء:158]، وقوله: {إِنّي مُتَوفَيّكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55].
6-التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو، ذاتاً، وقدراً، وشرفاً، كقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}.
7-التصريح بتنزيل الكتاب منه كقوله: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1]، {تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل 102]. وهذا يدل على شيئين:
الأول: على أنَّ القرآنَ ظَهَر منه لا من غيره، وأَنَّهُ الذي تكلم به، لا غيره.
الثاني: على عُلُوِّهِ على خَلْقِهِ، وأنَّ كلامَه نزل به الرُّوح الأمين من عنده من أعلى مكان إلى رسوله.
8-التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، كقوله: {فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} [فصلت:38]، وقوله {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء:19]، ففرَّق بين من له عمومًا، ومن عنده من مماليكه وعبيده خصوصًا.
9-التَّصريح بأنه سبحانه في السَّماء، وهذا عند أَهْل السُّنَّة على أحد وجهين:
إما أن تكون «في» بمعنى «على».
وإما أن يراد بالسَّماء العلو، لا يختلفون في ذلك، ولا يجوز حملُ النَّصِّ على غيره.
10ـ التَّصريح بالاستواء مقرونًا بأداة «على» مختصًّا بالعرش، الذي هو أعلى المخلوقات، مصاحبًا في الأكثر لأداة «ثُمَّ» الدَّالَّة على الترتيب والمهلة، وهو بهذا السِّياق صريحٌ في معناه الذي لا يفهم المخاطبون غيره من العُلُوِّ والارتفاع، ولا يحتمل غيره البتَّة.
11-إخباره سبحانه عن فرعون أنه رَامَ الصُّعُودَ إلى السماء؛ لِيَطَّلِعَ إلى إله موسى، فيُكذبه فيما أخبر به من أنه فوق السماوات؛ فقال:} وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا{ [غافر: ٣٦ -٣٧]، فكذَّب فرعونُ موسى في إخباره إياَّه بأن ربَّه فوق السماء. ([220]).
وفي قوله سبحانه وتعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} فبيَّن أن الملائكة أقرب إليه من غيرهم من خلقه.
وكذلك قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، إلى غير ذلك من ألفاظ متنوعة ومتعددة تدل دلالة واضحة على أن الله عال على خلقه مُستو على عرشه.
الأدلة من السنة على إثبات صفة العلو.
السنة مليئة بالأحاديث الدالة على علو الله-سبحانه وتعالى-واستوائه على عرشه، وقد تكلم المصنف على إثبات ذلك في خلال الكثير من الأحاديث، كأحاديث المعراج، وأحاديث صعود الملائكة ونزولها من عند الله، وعروج الروح إليه، واستواء الخالق على عرشه، ونزوله إلى السماء الدنيا، ورؤيته في الآخرة، فالسُّنَّةُ قد دلَّت على عُلُوِّ الله بدلالاتها الثلاث: (القولية، والفعلية، والتقريرية).
أولاً: أما السُّنَّة القولية فمنها:
1 ـ حديث الخوارج: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحًا ومساءً» متفق عليه[221].
2 ـ وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها، فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها، حتى يرضى عنها". رواه مسلم[222].
3 ـ وعن ابن عباس حدثني رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ رمي بنجم فاستنار، فقال: "ما كنتم تقولون إذ رمي مثله؟" قالوا: كنا نقول: ولد الليلة عظيم، أو مات عظيم. فقال: "إنها لم ترم لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا إذا قضى أمراً سبحت حملة العرش، حتى يسبحوا أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهل السماء الدنيا، فيقول الذين يلون حملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيستخبر أهل السموات بعضهم بعضاً، حتى يبلغ الخبر أهل الدنيا، فيخطف الجن السمع فيلقونه إلى أوليائهم، فما جاءوا به على وجهه، فهو الحق، ولكنهم يفرقون ويزيدون". رواه مسلم[223].
4 ـ حديث الرقية الذي رواه أبو داود وغيره: «ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض» رواه أبو داود وغيره[224].
ثانياً: وأما أدلة السُّنَّة الفِعلية فمنها:
1-ما رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه في حديث حَجَّةِ الوَدَاعِ، وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ، فقال: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في شَهْرِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هَذَا...»، إلى أن قال جابر رضي الله عنه: «فقال بإصبعه السَّبَّابَة يَرْفَعُهَا إلى السَّماء وَيَنْكُتُهَا إلى الناس: اللهم اشْهَدْ، اللهُمَّ اشْهَدْ» ([225]).
قال العَلَّامة ابن القَيِّم رحمه الله مُعَلِّقًا على هذا الحديث: «ليشهد الجميعُ أن الرَّبَّ الذي أرسله ودعا إليه واستشهده هو الذي فوق سماواته على عرشه» ([226]).
2-ما في الصَّحيحين في رفعه صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء قائلًا: «اللهم اسقنا» ([227]). وهكذا رفعه يديه في الاستسقاء وغير ذلك.
ثالثاً: ومن أدلة السُّنَّة التقريريَّة وأشهرها:
ما رواه معاوية بن الحَكَم السُّلَمِي رضي الله عنه قال: «كانت لي جاريةٌ تَرْعَى غَنَمًا قِبَلَ أُحُدٍ والجوَّانيَّة، فاطَّلَعْتُ ذات يومٍ فإذا بالذئب قد ذهب بشاةٍ مِن غَنَمِهَا، وأنا رجلٌ من بني آدم، آسَفُ كما يَأْسَفُونَ لكني صَكَكْتُهَا، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظَّم ذلك عليَّ، قلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: «ائتني بها»، فأتيتُه بها، فقال لها: «أين الله؟»[228]. قالت: في السماء، قال: «ومَن أنا؟». قالت: رسول الله، قال: «أَعْتِقها؛ فإنَّها مؤمنة». هذا حديث صحيح؛ رواه مسلم،[229] وأبو داود،[230] والنسائي،[231] ومالك في الموطأ[232].
وقد تقدم ذكر موقف المعطلة عموماً من نصوص السنة ورفضهم الاحتجاج بها بزعم أنها أخبار آحاد، وأخبار الآحاد لا يحتج بها في باب الاعتقاد، مع وصفهم لها بأنها أحاديث التشبيه كقول الغزالي: "وظواهر أحاديث التشبيه أكثرها غير صحيحة" ([233]). وأحاديث التشبيه يقصد بها أحاديث الصفات، والحديث كلام المصطفى –صلى الله عليه وسلم-كيف يُنبز بهذا الوصف الذي ينفر السامع؟ ثم كيف تحكم عليها هكذا أنها غير صحيحة؟ ولا يتوهم السامع أن معنى أكثرها غير صحيحة أنها ضعيفة أو موضوعة، بل يقصدون بها أنها أخبار آحاد وعنده أن أخبار الآحاد لا صحة لها.
فشتان بين من يعظم السنة ويوقرها يحتج بها ويصدرها ويستدل بها، وبين من لا يقيم لها وزناً أو اعتباراً، بل ويتهكم بنصوصها وينفر منها بألقاب وأسماء تجعل السامع ينفر منها، بل ويقدم عليها زبالة الأفكار وأقوال من لم يعرف الله عز وجل حق المعرفة.
دليل الإجماع:
إجماع السلف من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم منعقد على إثبات علو الله، واستوائه على عرشه، وقد نقل غير واحد من السلف هذا الإجماع عنهم، ومن ذلك ما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن الأوزاعي أنه قال: "كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله-تعالى-ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت فيه السنة من صفاته"[234].
وقال أبو نصر السجزي: "فأئمتنا كسفيان الثوري، ومالك، وسفيان ابن عيينة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وعبد الله بن المبارك، وفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي: متفقون على أن الله-سبحانه-بذاته فوق العرش، وأن علمه بكل مكان، وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش"[235].
وقال أبو نعيم الأصبهاني في عقيدته المشهورة: "وطريقتنا طريقة السلف المتبعين للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، فما اعتقدوه اعتقدناه، فمما اعتقدوه أن الأحاديث التي تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش والاستواء عليه يقولون بها، ويثبتونها من غير تكييف ولا تشبيه، وأن الله بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم، ولا يمتزج بهم، وهو مستو على عرشه في سمواته من دون أرضه"[236].
وكلام السلف من الصحابة والتابعين، من تبعهم في إثبات العلو كثير جدا ولا يتسع المقام ههنا لذكره، وقد نقل ابن قدامة في كتاب "إثبات صفة العلو"، وكذلك نقل شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية وغيرها الكثير من تلك النصوص الواردة عنهم، وبين إجماعهم على إثبات ذلك[237]، وكذلك فعل تلميذه ابن القيم في كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية"، وكذلك الذهبي في كتابيه "العلو" و"العرش"،
الأدلة من العقل.
أما الأدلة العقلية فهي كثيرة وسأورد ههنا ثلاثة منها:
الدليل الأول: قول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: (إذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله تعالى حين زعم أنه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان
فقل له: أليس كان الله ولا شيء؟
فسيقول: نعم.
فقل له: حين خلق الشيء هل خلقه في نفسه؟ أم خارجاً عن نفسه؟
فإنه يصير إلى ثلاثة أقوال:
واحد منها: إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه، كفر حين زعم أنه خلق الجن والشياطين وإبليس في نفسه.
وإن قال: خلقهم خارجا عن نفسه ثم دخل فيهم، كان هذا أيضاً كفر حين زعم أنه في كل مكان وحش قذر رديء.
وإن قال: خلقهم خارجاً عن نفسه ثم لم يدخل فيهم، رجع عن قوله كله أجمع) ([238])
الدليل الثاني: قول ابن القيم: (إن كل من أقر بوجود رب للعالم مدبر له، لزمه الإقرار بمباينته لخلقه وعلوه عليهم.
فمن أقر بالرب، فإما أن يقر بأن له ذاتاً وماهية مخصوصة أو لا؟
فإن لم يقر بذلك، لم يقر بالرب، فإن رباً لا ذات له ولا ماهية له هو والعدم سواء، وإن أقر بأن له ذاتاً مخصوصة وماهية، فإما أن يقر بتعينها أو يقول إنها غير معينة؟
فإن قيل إنها غير معينة كانت خيالاً في الذهن لا في الخارج، فإنه لا يوجد في الخارج إلا معيناً، لا سيما وتلك الذات أولى من تعيين كل معين فإنه يستحيل وقوع الشركة فيها، وأن يوجد لها نظير، فتعيين ذاته سبحانه واجب.
وإذا أقر بأنها معينة لا كلية، والعالم مشهود معين لا كلي، لزم قطعاً مباينة أحد المتعينين للآخر، فإنه إذا لم يباينه لم يعقل تميزه عنه وتعينه.
فإن قيل: هو يتعين بكونه لا داخلاً فيه ولا خارجاً عنه.
قيل: هذا -والله أعلم-حقيقة قولكم، وهو عين المحال، وهو تصريح منكم بأنه لا ذات له ولا ماهية تخصه، فإنه لو كان له ماهية يختص بها لكان تعينها لماهيته وذاته المخصوصة، وأنتم إنما جعلتم تعيينه أمراً عدمياً محضاً ونفياً صرفاً وهو كونه لا داخل العالم ولا خارجا عنه، وهذا التعيين لا يقتضي وجوده مما به يصح على العدم المحض.
وأيضاً فالعدم المحض لا يعين المتعين، فإنه لا شيء وإنما يعينه ذاته المخصوصة وصفاته، فلزم قطعاً من إثبات ذاته تعيين تلك الذات، ومن تعيينها مباينتها للمخلوقات، ومن المباينة العلو عليها لما تقدم من تقريره) ([239]).
الدليل الثالث: أنه قد ثبت بصريح المعقول أن الأمرين المتقابلين إذا كان أحدهما صفة كمال والآخر صفة نقص، فإن الله يوصف بالكمال منهما دون النقص، فلما تقابل الموت والحياة، وصف بالحياة دون الموت، ولما تقابل العلم والجهل، وصف بالعلم دون الجهل، ولما تقابل القدرة والعجز، وصف بالقدرة دون العجز، ولما تقابل المباينة للعالم والمداخلة له، وصف بالمباينة دون المداخلة، وإذا كان مع المباينة لا يخلو إما أن يكون عالياً على العالم أو مسامتا له، وجب أن يوصف بالعلو دون المسامتة، فضلاً عن السفول.
والمنازع يسلم أنه موصوف بعلو المكانة وعلو القهر، وعلو القهر، وعلو المكانة معناه أنه أكمل من العالم، وعلو القهر مضمونة أنه قادر على العالم، فإذا كان مبايناً للعالم كان من تمام علوه أن يكون فوق العالم، ولا محاذياً له ولا سافلا عنه.
ولما كان العلو صفة كمال، وكان ذلك من لوازم ذاته، فلا يكون مع وجود غيره إلا عالياً عليه، ولا يكون قط غير عالٍ عليه ([240]).
وبهذه النماذج التي أوردناها عن الأدلة العقلية يتضح لنا مدى دلالة المعقول الصريح على إثبات علو الله ومباينته لخلقه وكذلك مدى مخالفة أقوال المعطلة والحلولية لصريح المعقول وصحيح المنقول.
أما دليل الفطرة:
فمن المعلوم أن الفطرة السليمة قد جبلت على الاعتراف بعلو الله سبحانه وتعالى، ويظهر هذا الأمر عندما يجد الإنسان نفسه مضطراً إلى أن يقصد جهة العلو ولو بالقلب حين الدعاء، وهذا الأمر لا يستطيع الإنسان دفعه عن نفسه فضلاً عن أن يرد على قائله وينكر هذا الأمر عليه.
ومن أجل ذلك لم يجد الجويني -إمام الحرمين-جواباً حين سأله الهمداني محتجاً عليه بها، فقد ذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس الاستاذ أبا المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين، وهو يتكلم في نفي صفة العلو ويقول: (كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان) فقال الشيخ أبو جعفر: (يا أستاذ دعنا من ذكر العرش -يعني لأن ذلك إنما جاء في السمع-أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط: يا ألله، إلا وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو لا يلتفت يمنه ولا يسره، فكيف تدفع هذه الضرورة على قلوبنا؟
قال: فطم أبو المعالي على رأسه، وقال: حيرني الهمداني، حيرني الهمداني) ([241]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (علو الخالق على المخلوق وأنه فوق العالم، أمر مستقر في فطر العباد، معلوم لهم بالضرورة، كما اتفق عليه جميع الأمم، إقراراً بذلك، وتصديقاً من غير أن يتواطؤوا على ذلك ويتشاعروا، وهم يخبرون عن أنفسهم أنهم يجدون التصديق بذلك في فطرهم.
وكذلك هم عندما يضطرون إلى قصد الله وإرادته، مثل قصده عند الدعاء والمسألة، يضطرون إلى توجه قلوبهم إلى العلو، فكما أنهم مضطرون إلى أن يوجهوا قلوبهم إلى العلو إليه، لا يجدون في قلوبهم توجهاً إلى جهة أخرى، ولا استواء الجهات كلها عندها وخلو القلب عن قصد جهة من الجهات بل يجدون قلوبهم مضطرة إلى أن تقصد جهة علوهم دون غيرها من الجهات.
فهذا يتضمن بيان اضطرارهم إلى قصده في العلو وتوجههم عند دعائه إلى العلو، كما يتضمن فطرتهم على الإقرار بأنه في العلو والتصديق بذلك) ([242]).
المبحث الثاني: أقوال المخالفين.
القول الأول:
قول المعطلة من الفلاسفة ([243])، والجهمية ([244])، والمعتزلة ([245])، ومتأخري الأشاعرة ([246])، والقرامطة الباطنية ([247]).
وهؤلاء جميعاً ينفون علو الله وارتفاعه فوق خلقه، وكل ذلك تحت دعوى التوحيد والتنزيه ونفي التشبيه، فهم يزعمون أن إثبات العلو لله تعالى فيه إثبات للجهة، والمحايثة، والحد، والحركة، والانتقال، وهذه الأمور على زعمهم تستلزم، الجسمية، والأجسام، حادثة، والله منزه عن الحوادث فمن أجل ذلك نفوا العلو، وأولوا النصوص الثابتة فيه بأن المراد بها علو القهر والغلبة.
وقد انقسم الجهمية المعطلة النافون لعلو الله إلى فريقين في هذه المسألة:
الفريق الأول:
وهم الذين يقولون إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا هو مباين له ولا محايث له.
وهذا القول هو ما يذهب إليه النظار والمتكلمون من هؤلاء المعطلة ([248])، وهم بقولهم هذا قد نفوا الوصفين المتقابلين اللذين لا يخلو موجود منهما، وذلك خشية منهم أن يشبهوا، فهم قالوا بهذه المقالة هرباً منهم -على حد زعمهم-من إثبات الجهة والمكان والحيز، لأن فيها كما يدعون تجسيماً وهو تشبيه، فقالوا: يلزمنا في الوجود ما يلزم مثبتي الصفات فنحن نسد الباب بالكلية.
وقد استند أصحاب هذا القول في قولهم هذا على حجج زعموا أنها عقلية أسسوها وابتدعوها وجعلوها مقدمة كل نص، وليس لهؤلاء أي دليل من القرآن أو السنة على صحة قولهم هذا، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وجميع أهل البدع قد يتمسكون بنصوص، كالخوارج والشيعة والقدرية والمرجئة وغيرهم إلا الجهمية، فإنهم ليس معهم عن الأنبياء كلمة واحدة توافق ما يقولونه في النفي) ([249]). وسنأتي بعد ذكر القول الثاني إلى ذكر بعض تلك الحجج التي زعمها هؤلاء.
القول الثاني:
وهم الذين يقولون بأن الله بذاته في كل مكان.
وهذا القول هو ما يذهب إليه النجارية ([250])، وكثير من الجهمية وبخاصة عبادهم وصوفيتهم وعوامهم وأهل المعرفة والتحقيق منهم ([251]).
ويحتج هؤلاء ببعض الحجج العقلية المزعومة بالإضافة إلى بعض الآيات القرآنية الدالة على المعية والقرب.
وقد يجمع كثير من هؤلاء المعطلة بين القولين، فهو في حالة نظره وبحثه يقول بسلب الوصفين المتقابلين كليهما، فيقول لا هو داخل العالم ولا خارجه.
وفي حالة تعبده وتألهه يقول بأنه في كل مكان ولا يخلو منه شيء ([252]).
شبهة المعطلة العقلية:
إن جل ما اعتمد عليه هؤلاء المعطلة من أدلة على نفي صفة العلو وغيرها من الصفات إنما هو عبارة عن حجج عقلية مزعومة ومبتدعة بناها هؤلاء المعطلة على أصول فلسفية كانوا قد تأثروا بها وليس لهؤلاء المعطلة في نفيهم هذا أساس من كتاب الله أو سنة رسول الله e.
وقد جعل هؤلاء المعطلة لتلك الحجج حكم الأمر المحكم الذي يجب اتباعه واعتقاد موجبه والتسليم به، وقد بلغ من تقديسهم لها أنهم جعلوها مقدمة على الكتاب والسنة فإذا ورد النص من الكتاب أو السنة عرضوه على تلك الأسس العقلية، فإن وافقها احتجوا به اعتضادا لا اعتمادا، وإن خالفها فهم يحرفون الكلم عن مواضعه فيؤولون نصوص القرآن ويطعنون في نصوص السنة، وكل ذلك تحت دعوى التنزيه والتوحيد ونفي التشبيه.
وقد أفرط هؤلاء المعطلة في هذا الجانب -أي جانب نفي التشبيه-فجعلوا من قوله تعالى {ليس كمثله شيء} [الشورى 11] جنة يتترسون بها لنفي علو الله سبحانه فوق عرشه وتكليمه لرسله وإثبات صفات كماله، وغير ذلك مما أخبر الله به عن نفسه، أو أخبر به رسوله e، حتى إنه قد آل ببعض هؤلاء المعطلة إلى نفي ذاته خشية التشبيه فقالوا: هو وجود محض لا ماهية له، ونفى آخرون وجوده بالكلية خشية التشبيه -على حد زعمهم-حيث قالوا: يلزمنا في الوجود ما يلزم مثبتي الصفات والكلام والعلو فنحن نسد الباب بالكلية ([253]).
وسوف نتعرض في هذا البحث لبعض أسس تلك الشبه العقلية المزعومة التي جعلها هؤلاء المعطلة مستندا لهم في نفي صفة العلو وغيرها من الصفات، ونبين ما فيها من مخالفة لكتاب الله وسنة نبيه محمد e مع بيان ما في تلك الأسس من تناقض وبخاصة من الناحية العقلية.
ونظراً لتعدد مذاهب المعطلة واختلاف بعضها عن بعض في القول والرأي، فسوف نعرض شبهة كل فرقة من الفرق السابقة الذكر على حدة فنبدأ أولاً بـ:
1ـ شبهة الفلاسفة ([254]):
الفلاسفة ينفون صفة العلو وباقي صفات الباري عز وجل -كما سبق وأن ذكرنا-تحت دعوى التوحيد والتنزيه عن مشابهة المخلوقين، فابن سينا يقول: (إن واجب الوجود بذاته واحد بسيط لا تكثر فيه بوجه من الوجوه فهو ليس بجسم ولا صورة جسم ولا مادة معقولة لصورة معقولة، ولا صورة معقولة في مادة معقولة، ولا له قسمة في الكلم ولا في المبادئ المقومة له، ولا في قول الشارح ولا غير ذلك مما ينافي وحدة واجب الوجود وبساطته المطلقة) ([255]).
والمتأمل لهذه العبارات التي أوردها ابن سينا يعرف أنها إنما هي مجرد اصطلاحات اصطلحها هو وأمثاله من الفلاسفة الذين تأثروا بفلسفة اليونان، فجعلوا من تلك العبارات المبتدعة ما أسموه بالتوحيد، وادعوا أن ما تضمنته هو التنزيه، مع أنها في الحقيقة متضمنة لنفي جميع الصفات بما فيها العلو والاستواء، فقوله: (إن واجب الوجود بذاته واحد بسيط لا تكثر فيه بوجه من الوجوه) يعني به أنه ليس لله تعالى صفة ولا قدر، لأن ذلك على رأيه يستلزم التجسيم والتجزئة والتركيب فيلزم نفيه، لأنه يلزم من ذلك الحدوث والافتقار وذلك ينافي واجب الوجود.
فابن سينا وأمثاله من الفلاسفة يعتمدون في نفي الصفات على حجة التركيب والتي هي: (أنه لو كان له صفة لكان مركباً والمركب يفتقر إلى جزئيه وجزءاه غيره والمفتقر إلى غيره لا يكون واجباً بنفسه) وهم بهذا الكلام تجدهم قد نفوا صفات الباري جميعها.
ولو توفقنا عند العبارة السابقة وهي قوله: (أن واجب الوجود بذاته واحد بسيط ...) من أجل بيان ما فيها من مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله e وحتى مخالفتها للعقل الذي يقدمه هؤلاء على كل شيء.
لوجدنا هذه العبارة هي تفسير للواحد بما لا أصل له في الكتاب أو السنة، بل هو تفسير باطل شرعاً وعقلاً ولغة.
أما في اللغة:
فإن أهل اللغة مطبقون على أن هذا القول ليس هو معنى الواحد في اللغة، إذ القرآن ونحوه من الكلام العربي متطابق على ما هو معلوم بالاضطرار في لغة العرب وسائر اللغات أنهم يصفون كثيراً من المخلوقات بأنه واحد ويكون ذلك جسماً، إذ المخلوقات إما أجسام وإما أعراض عند من يجعلها غيرها أو زائدة عليها.
وإذا كان أهل اللغة متفقين على تسمية الجسم الواحد واحداً، امتنع أن يكون في اللغة معنى الواحد الذي لا ينقسم إذا أريد بذلك أنه ليس بجسم وأنه لا يشار إلى شيء منه دون شيء، ولا يوجد في اللغة اسم الواحد الاعلى ذي صفة ومقدار لقوله تعالى {الذي خلقكم من نفس واحدة} [النساء 1]، ومعلوم أن النفس الواحدة المراد بها هنا آدم عليه السلام، وحواء خلقت من ضلع آدم، فمن جسده خلقت لا من روحه حتى لا يقول القائل: الوحدة هي باعتبار النفس الناطقة التي لا تركيب فيها، وإذا كانت حواء خلقت من جسد آدم، وجسد آدم جسم من الأجسام التي سماها الله نفساً واحدة علم أن الجسم قد يوصف بالوحدة، وأبلغ من ذلك ما ذكره الإمام أحمد وغيره من قوله تعالى {ذرني ومن خلقت وحيدا} [المدثر 11]، فإن الوحيد مبالغة في الواحد فإذا وصف البشر الواحد بأنه وحيد في صفة فإنه واحد من باب أولى، ومع هذا فهو جسم من الأجسام.
وأما في العقل:
فإن الواحد الذي وصفوه يقول لهم فيه أكثر العقلاء وأهل الفطر السليمة إنه أمر لا يعقل، ولا له وجود في الخارج، وإنما هو أمر مقدر في الذهن، فليس في الخارج شيء موجود لا يكون له صفات ولا قدر ولا يتميز من شيء عن شيء بحيث يمكن أن يرى ولا يدرك ولا يحاط به وإن سماه المسمى جسماً.
وأما في الشرع:
فنقول إن مقصود المسلمين أن الأسماء المذكورة في القرآن والسنة وكلام المؤمنين المتفق عليه بمدح أو ذم، تعرف مسميات تلك الأسماء حتى يعطوها حقها، ومن المعلوم بالاضطرار أن اسم (الواحد) في كلام الله لم يقصد به سلب الصفات وسلب إدراكه بالحواس ولا نفي الحد والقدر ونحو ذلك من المعاني التي ابتدعها هؤلاء ([256]).
وأما حجة التركيب التي اعتمد عليها هؤلاء الفلاسفة في نفي الصفات وهي قولهم: (إنه لو كان صفة لكان مركبا والمركب يفتقر إلى جزئية وجزءاه غيره، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجباً بنفسه) فهي تتكون من ألفاظ مجملة بمعنى أن كل لفظة منها تحتمل عدة معان فلا بد من توضيح المراد من كل لفظ أولاً حتى يتكلم فيه.
فلفظ (المركب) مثلاً: قد يراد به ما ركبه غيره، أو ما كان مفترقاً فاجتمع، أو ما يقبل التفريق، والله منزه عن هذه المعاني باتفاق.
وأما الذات الموصوفة بصفاتها اللازمة لها فإذا سميتم هذا تركيباً كان ذلك اصطلاحاً لكم، وليس هو المفهوم من لفظ المركب ولن تستطيعوا أيها الفلاسفة إقامة الدليل على نفيه.
وأما قولهم: (لكان مركباً) فإن أرادوا لكان غيره ركبه، أو لكان مجتمعاً بعد افتراقه، أو لكان قابلاً للتفريق. فاللازم باطل فإن الكلام إنما هو في الصفات اللازمة للموصوف الذي يمتنع وجوده بدونها.
وإن أراد بالمركب الموصوف أو ما يشبه ذلك فلِما قالوا إن ذلك يمتنع.
وأما قولهم (والمركب مفتقر إلى غيره) فالجواب عنه: أما المركب بالتفسير الأول فهو مفتقر إلى ما يباينه وهذا ممتنع على الله تعالى.
وأما الموصوف بصفات الكمال اللازمة لذاته الذي سميتموه أنتم مركباً فليس في اتصافه هذا ما يوجب كونه مفتقراً إلى مباين له.
وإن قالوا: هي غيره وهو لا يوجد إلا بها وهذا افتقار إليها، قيل لهم: إن أرادوا بقولهم هي غيره أنها مباينة له فذلك باطل.
وإن أرادوا أنها ليست إياه، قيل لهم: إذا لم تكن الصفة هي الموصوف فأي محذور في هذا.
وإذا قالوا: هو مفتقر إليها، قيل: أتريدون بالافتقار أنه مفتقر إلى فاعل يفعله أو محل يقبله، أم تريدون أنه مستلزم لها فلا يكون موجوداً إلا وهو متصف بها.
أما الثاني فأي محذور فيه، وأما الأول فباطل إذ الصفة اللازمة للموصوف لا يكون فاعلاً لها ([257]).
أما قولهم: (أنه لو كان صفة لكان مركباً والمركب مفتقر إلى جزئية)، فهذا القول لا يتم إلا عند من يثبت الجوهر الفرد، أما نفاته فعندهم أن الجسم في نفسه واحد بسيط ليس مركباً من الجواهر المنفردة، وهذه المسألة خلافية قد توقف فيها أذكى المتأخرين من الأشعرية وإمامهم أبو المعالي الجوني وكذلك أذكى متأخري المعتزلة أبو الحسين البصري وكذلك الرازي فهي مقدمة ممنوعة لا تصلح دليلا لوجود النزاع فيها حتى بين الفلاسفة أنفسهم ([258]).
2ـ شبهة المعتزلة:
وأما شبهة المعتزلة التي اعتمدوا عليها في نفي صفات الباري عز وجل بما فيها صفة العلو فهي ما تسمى بطريقة الأعراض، ذلك أنهم يزعمون أن الصفات إنما هي أعراض، والأعراض لا تقوم إلا بجسم، والأجسام حادثة، والله منزه عن الحوادث، ومن أجل ذلك كان قول المعتزلة في الله: إنه قديم واحد ليس معه في القدم غيره، فلو قامت به الصفات لكان معه غيره ([259]) ولكان جسماً إذ أن ثبوت الصفات يقتضي كثرة وتعدداً في ذاته ويقتضي أنه جسم وذلك خلاف التوحيد.
فهم يزعمون أن توحيد الله وتنزيهه متوقف على أنه ليس بجسم، وكونه ليس بجسم موقوف على عدم قيام الأعراض والحوادث به التي هي الصفات والأفعال، ونفي ذلك عندهم موقوف على ما يدل عليه حدوث الأجسام، والذي دلهم على حدوث الاجسام أنها لا تخلو من الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث لا يسبقها، وما لا يسبق الحوادث فهو حادث.
ويزعمون أيضاً أن الأجسام لا تخلو من الأعراض، والأعراض لا تبقى زمانين فهي حادثة، فإذا لم تخل الأجسام منها لزم حدوثها.
ويزعمون أيضاً أن الاجسام مركبة من الجواهر المفردة، والمركب مفتقر إلى جزئية وجزءاه غيره، وما افتقر إلى غيره لم يكن إلا حادثاً مخلوقاً، فالأجسام متماثلة فكل ما صح على بعضها صح على جميعها، وقد صح على بعضها التحليل والتركيب والاجتماع والافتراق فيجب أن يصح على جميعها ([260]).
والمعتزلة يقولون إننا بهذا الطريق أثبتنا حدوث العالم ونفي كون الصانع جسماً وإمكان المعاد.
الرد عليهم:
مما تقدم نعلم أن المعتزلة إنما بنوا دليلهم في نفي الصفات على أن القديم لا يكون محلا للصفات والحركات فلا يكون جسماً ولا محيزاً لأن الصفات أعراض وهم يستدلون على حدوث الجسم بحدوث الأعراض والحركات، وأن الجسم لا يخلو منها، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث.
فهم بهذا القول نفوا صفات الباري وجعلوا نفيها يتوقف عليه ثبوت الصانع وحدوث العالم، فإذا جاء في القرآن والسنة ما يدل على إثبات الصفات لم يمكن القول بموجبه.
والمتدبر لحجج المعتزلة يرى فيها الأمور التالية:
أولاً: أنهم يستدلون لأقوالهم بعبارات مبتدعة وفيها الكثير من الاشتباه والاجمال، وذلك كلفظ العرش والجسم والحيز والمركب وغير ذلك، فهم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ليخدعوا به جهال الناس بما يشبهون عليهم، وهذه الألفاظ المجملة تتضمن معاني باطلة ومعاني أخرى صحيحة فهم بهذا ينفون كلا المعنيين الحق والباطل.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-ما في هذه الألفاظ من معانٍ، وما تدل عليه من عبارات ([261])، وكيف استعملها هؤلاء المعطلة في نفي صفات الباري عز وجل حيث ادعوا أن هذه الأمور من مستلزمات الجسمية، والله منزه من ذلك، وقد بين شيخ الإسلام أن استعمال هذه الألفاظ نفياً وإثباتاً لم يرد عن السلف ولا جاء به أثر صحيح ولم يستعملها الأقدمون بالمعنى الاصطلاحي الذي اتفق عليه هؤلاء، بل جميعهم معترفون بأن العلو صفة كمال كما أن السفل صفة نقص، وما ثبت لله من العلو فهو العلو المناسب لكمال ذاته المنزهة عن اعتبارات المحدثين ومماثلتهم.
ومعلوم أن القول بأن العلو يستلزم هذه المعاني المبهمة إنما هو مأخوذ من قياس الغائب على الشاهد، ومحاولة تطبيق الاعتبارات الإنسانية على الصفات الإلهية، وهذا قياس خاطئ إذ ليس معنى كونه في السماء أن السماء تحويه وتحيط به وتحصره، أو هي محل وظرف له، بل هو سبحانه محيط بكل شيء وسع كرسيه السموات والأرض، وهو فوق كل شيء وعالٍ على كل شيء ([262]).
ثانيا: أن ما استدل به المعتزلة لا أصل له من الكتاب أو السنة بل هو مأخوذ من كلام الفلاسفة الذين يزعمون أن للعالم صانعاً ليس بعالم ولا قادر ولا حي ([263]).
كما أن مذهب المعتزلة في الذات قريب من مذهب اليونان القائلين بأن ذات الله واحدة لا كثرة فيها بوجه من الوجوه ([264]).
ثالثاً: أن أصل هذه القاعدة التي اعتمد عليها المعتزلة في نفي الصفات إنما هي مأخوذة من قولهم في دليل حدوث العالم ([265]) الذي أثبتوا فيه حدوث العالم بحدوث الأجسام، وهذا الدليل قد بين الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر: أنه دليل محرم في شرائع الأنبياء، ولم يستدل به أحد من الرسل ولا أتباعهم ([266])، فهي بهذا طريق يحرم سلوكها لما فيها من الخطر والتطويل وما يلزم عليها من لوازم باطلة لأنها مستلزمة لنفي الصانع بالكلية، وهي مستلزمة لنفي صفاته ونفي أفعاله ونفي المبدأ والمعاد، فهذه الطريق لا تتم إلا بنفي سمع الرب وبصره وقدرته وحياته وإرادته وكلامه فضلاً عن نفي علوه على خلقه ونفي الصفات الخبرية من أولها إلى آخرها، فلو صحت هذه الطريقة لنفت الصانع وأفعاله وصفاته وكلامه وخلقه للعالم وتدبيره له، وما يثبته أصحاب هذه الطريقة من ذلك لا حقيقة له بل هو لفظ لا معنى له، وأن الله بذاته في كل مكان، وقال إخوانهم إنه ليس داخل العالم ولا خارج العالم، وقالوا بخلق القرآن إلى غير ذلك من اللوازم الباطلة ([267]).
3ـ شبه متأخري الأشاعرة:
وهم أيضاً ينفون صفة العلو لأنها من الصفات الخبرية ([268])، ومعلوم أن مذهب متأخري الأشاعرة في الصفات أنهم يثبتون سبع صفات فقط وهي ما يسمونها بصفات المعاني وهي العلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر والكلام، وهم يثبتون لهذه الصفات أربعة أحكام هي:
1ـ أن هذه الصفات ليست هي الذات بل زائدة عليها فصانع العالم عندهم عالم بعلم وحي بحياة وقادر وهكذا.
2ـ أن هذه الصفات كلها قائمة بذات الله تعالى ولا يجوز أن يقوم شيء منها بغير ذاته لأن الدليل دل على أنه متصف بها ولا معنى لاتصافه بها إلا قيامها بذاته، حتى لو قلنا، إنه عالم كان هو بعينه مفهوم قولنا قام بذاته علم فلا تكون الصفة لشيء إلا إذا قامت به لا بغيره.
3ـ أن هذه الصفات كلها قديمة لأنها إن كانت حادثة كان القديم محلاً للحوادث وهذا محال، أو متصف بصفة لا تقوم به وذلك أظهر استحالة.
4ـ أن الأسماء المشتقة لله تعالى من هذه الصفات السبع صادقة عليه أزلاً وأبداً فهو في القدم كان حياً قادراً عليماً سميعاً بصيراً متكلماً ([269]).
فهم على قولهم هذا لا يثبتون سوى هذه الصفات السبع فقط لأنها قديمة.
أما باقي الصفات التي يسمونها الصفات الخبرية فهم ينفونها جميعها، بدعوى تنزيه ذات الله عن الحوادث.
ومتأخرو الأشاعرة هؤلاء وإن كانوا يخالفون المعتزلة في جعلهم الصفة غير الذات كما في الحكم الأول فيثبتون الصفات القديمة من هذا الباب، إلا أنهم قد وافقوا المعتزلة في دليلهم المسمى بدليل نفي الحوادث فنفوا باقي الصفات الأخرى، ذلك لأن قولهم في الحكم الثالث من الأحكام الأربعة التي أوردناها إنها لو كانت حادثة لكان القديم محلا للحوادث، هو بعينه ما استدل به المعتزلة على نفي الصفات ([270]).
ويقول متأخرو الأشاعرة في دليلهم العقلي على نفي العلو إن إثبات العلو يقتضي إثبات الجهة وإثبات الجهة، يقتضي كونه جسماً، وكونه جسماً يقتضي كونه مركباً، والمركب مفتقر إلى جزئيه، والمفتقر إلى جزئيه لا يكون إلا حادثا والله سبحانه منزه عن الحوادث ([271]).
فعلى قولهم هذا يكونون هم والمعتزلة على دليل واحد، وقد سبق وأن ذكرنا الرد على المعتزلة فيكون الرد على هؤلاء من جنس الرد على أولئك، ويضاف إلى ذلك أن القول في الصفات التي نفاها هؤلاء هو كالقول في الصفات التي أثبتوها فإن كان هذا تجسيماً وقولا باطلاً فهذا كذلك.
وإن قالوا: إن إثباتها على الوجه الذي يليق بالرب.
قيل لهم: وكذلك هذا.
فإن قالوا: نحن نثبت تلك الصفات وننفي التجسيم.
قيل لهم: وهذا كذلك، فليس لكم أن تفرقوا بين المتماثلين ([272]).
4ـ شبه النفاة السمعية في نفي صفة العلو:
لقد سبق وأن ذكرنا أن المعطلة قد انقسموا في هذه المسألة إلى فريقين:
فأما الفريق الأول: وهم القائلون بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته وهؤلاء كما سبق وأن ذكرنا ليس لهم دليل واحد من الكتاب أو السنة.
وأما الفريق الثاني: وهم القائلون بأن الله بذاته في كل مكان فقد احتجوا لقولهم هذا بنصوص "المعية" و"القرب" الواردة في القرآن الكريم مثل قوله تعالى {ألم ترى أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم} [المجادلة 7]، وقوله تعالى {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم} [النساء 108]، وقوله تعالى {هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير} [الحديد 4]، وقوله تعالى {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [التوبة 40]، وقوله تعالى {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} [ق 16]، وقوله تعالى {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} [الزخرف 84]، وقوله تعالى {وهو الله في السموات وفي الأرض} [الأنعام 3].
وقد زعم حلولية الجهمية أن المراد بهذه النصوص معية الذات وقرب الذات، فلذلك قالوا: إن الله بذاته في كل مكان.
الرد عليهم:
قد أبطل علماء السلف زعم هؤلاء الجهمية واستدلالهم بهذه الآيات ويبينوا أن كل نص يحتجون به هو في الحقيقة حجة عليهم، فنصوص المعية التي استدلوا بها لا تدل بأي حال من الأحوال على ما زعمه هؤلاء، وذلك لأن كلمة (مع) في لغة العرب لا تقتضي أن يكون أحد الشيئين مختلطاً بالآخر، وهي إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى.
ولفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع واقتضت في كل موضع أموراً لم تقتضيها في الموضع الآخر، وذلك بحسب اختلاف دلالتها في كل موضع وهي قد وردت في القرآن بمعنين هما:
المعنى الأول: المعية العامة
والمراد بها أن الله معنا بعلمه، فهو مطلع على خلقه شهيد عليهم، ومهيمن وعالم بهم، وهذه المعية هي المرادة بقوله تعالى {ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم}.
فالله سبحانه وتعالى قد افتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم ولذلك أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم تفسير القرآن على أن تفسير الآية هو أنه معهم بعلمه، وقد نقل هذا الإجماع ابن عبد البر ([273])، وأبو عمرو الطلمنكي، وابن تيمية ([274])، وابن القيم ([275]).
قال أبو عمر بن عبد البر: "إن علماء الصحابة والتابعين الذين حملت عنهم التأويل في القرآن قالوا في تأويل هذه الآية: هو على العرش وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله"[276].
وقال شيخ الإسلام بعد أن نقل كلام ابن عبد البر هذا وأقره-: "فهذا ما تلقاه الخلف عن السلف إذ لم ينقل عنهم غير ذلك، إذ هو الحق الظاهر الذي دلت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية" اهـ[277].
وقال-أيضا-: "وقد ثبت عن السلف أنهم قالوا: هو معهم بعلمه. وقد ذكر ابن عبد البر وغيره أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يخالفهم فيه أحد يعتد بقوله، وهو مأثور عن ابن عباس والضحاك ومقاتل بن حيان وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم.
ثم ذكر الشيخ ما رواه ابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عباس-رضي الله عنهما-في قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}، قال: هو على العرش، وعلمه معهم. وروى-أيضا-عن سفيان الثوري أنه قال: علمه معهم. وروى-أيضا-عن الضحاك بن مزاحم في قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُم} إلى قوله: {أَيْنَ مَا كَانُوا} قال: هو على العرش، وعلمه معهم.
وقال أبو عمرو الطلمنكي: وأجمعوا-يعني أهل السنة والجماعة-على أن لله عرشا، وعلى أنه مستو على عرشه، وعلمه وقدرته وتدبيره بكل ما خلقه قال: فأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ونحو ذلك في القرآن أن ذلك علمه وأن الله فوق السموات بذاته، مستو على عرشه كيف شاء"[278].
وعلى هذا فلا حجة للمخالفين في ظاهر هذه الآية.
وكذلك أيضاً ما جاء في قوله تعالى {هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير}.
فظاهر الآية دال على أن المراد بهذه المعية هو علم الله تبارك وتعالى واطلاعه على خلقه، فقد أخبر الله تعالى في هذه الآية بأنه فوق العرش يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا، فجمع تعالى في هذه الآية بين العلو والمعية، فليس بين الاثنين تناقض البتة، وهو كقوله e في حديث الأوعال: ((والله فوق العرش يعلم ما أنتم عليه"
المعنى الثاني: المعية الخاصة
وهي معية الاطلاع والنصرة والتأييد، وسميت خاصة لأنها تخص أنبياء الله وأولياءه مثل قوله تعالى {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}، وقوله تعالى {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل 128].
فهذه المعية على ظاهرها وحكمها في هذه المواطن النصر والتأييد.
ولفظ المعية على كلا الاستعمالين ليس مقتضاه أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق، ولو كان معنى المعية أنه بذاته في كل مكان لتناقض الخبر العام والخبر الخاص، ولكن المعنى أنه مع هؤلاء بنصره وتأييده دون أولئك ([279]).
وأما استدلالهم بقوله تعالى {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} ]ق: 16[، فقد أجاب عنه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (إن هذه الآية لا تخلوا من أن يراد بها قربه سبحانه أو قرب ملائكته كما قد اختلف الناس في ذلك
فإن أريد بها قرب الملائكة: فدليل ذلك من الآية قوله {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد} ]ق: 16-17[، ففسر ذلك القرب الذي هو حين يتلقى المتلقيان، فيكون الله سبحانه قد أخبر بعلمه هو سبحانه بما في نفس الإنسان، {ونعلم ما توسوس به نفسه} وأخبر بقرب الملائكة الكرام الكاتبين منه، {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} وعلى هذا التفسير تكون هذه الآية مثل قوله تعالى {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون} [الزخرف 80].
أما إذا كان المراد بالقرب في الآية قربه سبحانه، فإن ظاهر السياق في الآية دل على أن المراد بقربه هنا قربه بعلمه، وذلك لورود لفظ العلم في سياق الآية {ونعلم ما توسوس به نفسه}) ([280]).
وأما استدلالهم بقوله تعالى {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله}، فمعنى الآية: أي هو إله من في السموات وإله من في الأرض، قال ابن عبد البر: (فوجب حمل هذه الآية على المعنى الصحيح المجتمع عليه، وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء، وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض، وكذلك قال أهل العلم بالتفسير) ([281]).
وقال الآجري: (وقوله عز وجل {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} فمعناه: أنه جل ذكره إله من في السموات وإله من في الأرض، وهو الإله يعبد في السموات، وهو الإله يعبد في الأرض، هكذا فسره العلماء) ([282]).
وروى الآجري بسنده في تفسيره هذه الآية عن قتادة قوله: (هو إله يعبد في السماء، وإله يعبد في الأرض) ([283]).
وأما استدلالهم بقوله تعالى {هو الله في السموات وفي الأرض} فقد فسرها أئمة العلم كالإمام أحمد وغيره أنه المعبود في السموات والأرض ([284]).
وقال الآجري: (وعند أهل العلم من أهل الحق {وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون} هو كما قال الحق {يعلم سركم} فما جاءت به السنن أن الله عز وجل على عرشه، وعلمه محيط بجميع خلقه، يعلم ما تسرون وما تعلنون، ويعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون) ([285]).
القول الثاني:
وهو قول من يقول إن الله بذاته فوق العرش وهو بذاته في كل مكان.
هذا قول جماعة من أهل الكلام والتصوف كأبي معاذ التومني ([286])، وزهير الأثري ([287])، وأصحابهما ([288])، وهو موجود في كلام السالمية ([289]) كأبي طالب المكي ([290]) وأتباعه كأبي الحكم برجان ([291]) وأمثاله ما يشير إلى نحو هذا، كما يوجد في كلامهم ما يناقض هذا ([292]) فهم يقولون بأن الله في كل مكان، وأنه مع ذلك مستو على عرشه وأنه يرى بالأبصار بلا كيف، وأنه موجود الذات بكل مكان، وأنه ليس بجسم ولا محدود ولا يجوز عليه الحلول ولا المماسة، ويزعمون أنه يجيء يوم القيامة كما قال تعالى {وجاء ربك} [الفجر 22]، وقولهم هذا يشبه قول بعض مثبتة الجسم الذين يقولون إنه لا نهاية له ([293]).
والفرق بين هذا القول وقول الجهمية: بأن الله في كل مكان هو أن هؤلاء يثبتون العلو ونوعا من الحلول، أما الجهمية فلا يثبتون العلو على مقصود هؤلاء من الاستواء على العرش والمباينة.
ويزعم أصحاب هذا القول إنهم بقولهم هذا قد اتبعوا النصوص كلها سواء كانت نصوص علو أو معية أو قرب.
الرد عليهم:
إنهم بقولهم هذا جمعوا بين كلام أهل السنة وكلام الجهمية، ولذلك كان قولهم ظاهر الخطأ وغاية في التناقض.
أما بيان خطئه فيكمن في أن كل من قال بأن الله بذاته في كل مكان فهو مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الامة وأئمتها مع مخالفته لما فطر الله عليه عباده، ولصريح المعقول وللأدلة الكثيرة، فالقرآن الكريم مملوء بالآيات التي تنص على علو الله بذاته فوق خلقه واستوائه على عرشه وبينونته من خلقه، كما أن السنة قد تحدثت عن هذا المعنى في كثير من الأحاديث، كقصة المعراج وصعود الملائكة ونزولها من عند الله وعروج الروح إليه واستوائه على عرشه، ونزوله إلى السماء الدنيا، فكل هذه الأدلة تبين بطلان هذا القول ومخالفته.
وأما استدلال هؤلاء بنصوص المعية والقرب، فقد بينا خطأ هذا الاستدلال وبطلانه عند الرد على الأدلة السمعية لمذهب الجهمية، وقد بينا أنه ليس للمخالفين أي متمسك في جعلها لمعية الذات أو قرب الذات.
أما بيان تناقض هذا القول: فهو واضح من أقوالهم، فهم يجمعون بين أقوال متناقضة، فهم تارة يقولون إنه بذاته فوق العرش، وتارة يقولون إنه فوق العرش ونصيب العرش فيه كنصيب قلب العارف -كما يذكر ذلك أبو طالب المكي وغيره-، ومعلوم أن قلب العارف نصيبه منه المعرفة والإيمان وما يتبع ذلك، فإن قالوا: إن العرش كذلك فقد نقضوا قولهم بأنه بنفسه فوق العرش.
وإن قالوا بحلول ذاته في قلوب العارفين، كان ذلك قولا بالحلول الخاص، وهذا ما وقع فيه طائفة من الصوفية ومنهم صاحب منازل السائرين ([294]).
الفصل الثاني الأقوال في صفة الاستواء
وفيه مبحثان
المبحث الأول: مذهب السلف في الاستواء
المبحث الثاني: أقوال المخالفين
المبحث الأول: مذهب السلف في الاستواء
والمقصود بالسلف هم الصحابة والتابعون ومن سار على نهجهم.
ولقد كان قولهم في الاستواء كقولهم في سائر صفات الله فهم وسط بين طائفتين هم المعطلة والمشبهة.
فهم لا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، ولا ذاته بذوات خلقه كما يفعل المشبهة.
وكذلك لا ينفون عن الله ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله e، فيعطلون أسماءه وصفاته، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويلحدون في أسمائه وآياته كما فعل المعطلة.
بل كان مذهبهم في سائر الصفات -بما في ذلك الاستواء-أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان نبيه محمد e نفياً وإثباتاً.
وطريقتهم في الإثبات أنهم يثبتون ما أثبته الله من الصفات من غير تكييف لها، ولا تحريف، ولا تمثيل، ولا تعطيل.
وطريقتهم في النفي أنهم ينفون عن الله ما نفاه عن نفسه مع إثبات كمال ضد ذلك المنفي.
فطريقة السلف هي إثبات أسماء الله وصفاته مع نفي مماثلة المخلوقين، إثبات بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل كما قال تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى 11]، ففي قوله تعالى {ليس كمثله شيء} رد للتشبيه والتمثيل، وفي قوله {وهو السميع البصير} رد للإلحاد والتعطيل ([295]).
ولقد كانت هذه طريقة السلف في جميع الصفات دون تفريق بين صفة وصفة، وفي ذلك يقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: (لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله e لا نتجاوز القرآن والسنة) ([296]).
وبناءً على هذه القاعدة كان مذهب السلف في صفة الاستواء أنهم يثبتون استواء الله على عرشه استواءً يليق بجلاله وعظمته ويناسب كبريائه وهو بائن من خلقه وخلقه بائنون منه.
فأهل السنة والجماعة أثبتوا تلك الأسماء والصفات التي جاء ذكرها في كلام الله عز وجل وكلام رسوله ﷺ، فإذا قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، فإن هذا النص خبر، أخبر الله فيه أنه استوى على عرشه، فأهل السنة والجماعة يعتقدون: إن الله استوى على عرشه استواءً يليق بجلاله وكماله، لا يماثله فيه أحدٌ من خلقه والله أعلم بكيفيته.
وذلك الإيمان يتضمن ثلاثة أمور:
الأمر الأول: إثبات صفة الاستواء لله عز وجل.
الأمر الثاني: نفي مماثلة صفات الله عز وجل لصفات المخلوقين.
الأمر الثالث: عدم الخوض في كيفية صفات الله عز وجل.
فما أخبر الله به في هذه الآية يجب أن يُثبت لله تعالى، فإذا قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، فإن هذا يوجب على المؤمن أن يصدق به، لأن نصوص القرآن والسنة تدور حول حالين:
إما إخبارٌ أو أمر، إما أن يُخبر الله تعالى بشيء، وإما أن يأمر بشيء، فقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، هذا إخبارٌ، والأمر مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، فهنا أمر من الله لعباده بأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.
فالخبر يجب على المؤمن تجاهه التصديق، فإذا أخبرك الله تعالى بأنه استوى على عرشه، فإن عليك أن تصدق بأن الله تعالى استوى على عرشه، وإذا جاءك الأمر مثل: وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة، فيجب عليك الامتثال والانقياد، فإن كان أمر إيجاب يجب عليك أن تقوم به، وإن كان أمر نهيٍ فيجب عليك أن تنتهي.
فالواجب على الموحد إذا أخبر الله تعالى باستوائه على عرشه أن يعتقد ثلاثة أمور:
أولاً: يجب عليه أن يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه استواءً حقيقة كما أخبر في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: أن يثبت لله استواءً يليق بجلاله وكماله تعالى؛ لِأن الله تعالى قد قال في آية أخرى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، فمعنى هذا أن الله في استوائه على عرشه لا يماثله في ذلك أحدٌ من خلقه، نعني بذلك أن الله تعالى لا يحتاج إلى العرش ولا يفتقر إليه.
ثالثاً: يجب علينا ألا نخوض في كيفية استوائه، هذا أمرٌ لا ينبغي ولا يجوز للمسلم أن يخوض فيه.
فإذاً تُثبتُ ما أثبته الله لنفسه؛ لأن الله أخبر بذلك، ومع إثبات ذلك يجب أن تعتقد أن الله تعالى لا يماثله ولا يساويه في ذلك أحدٌ من خلقه، مع عدم الخوض في كيفية الاستواء.
فالمقصود والمراد من نفي المماثلة أن لله خصائص، أي أمورٌ يختص بها لا يماثله في ذلك أحدٌ من خلقه، ثم بعد ذلك فالله تعالى ما أطلعك ولا أخبرك ولا تعبدك بمعرفة كيفية استوائه، وكلنا يعلم جواب الإمام مالك –رحمه الله-إذ سأله السائل: الرحمن على العرش استوى، كيف استوى؟ فغضب الإمام مالك من سؤال السائل وقال: "الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة"([297]).
فإذاً الكيف مجهول، كيف استوى؟ كيف ينزل؟ كيف يداه؟ كيف قدماه؟ إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى لا نعلم كيفيتها وهذا سيأتي جوابه إن شاء الله تعالى.
والسلف يقولون إن معنى هذا الاستواء الوارد في الكتاب والسنة معلوم في اللغة العربية، كما قال ربيعة بن عبد الرحمن، والإمام مالك: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة). فقولهم: (الاستواء معلوم): أي أن معنى الاستواء معلوم في اللغة وهو ههنا بمعنى العلو والارتفاع.
قال ابن القيم رحمه الله: (إن لفظ الاستواء في كلام العرب الذي خاطبنا الله بلغتهم وأنزل به كلامه نوعان: مطلق، ومقيد.
فالمطلق مالم يوصل معناه بحرف مثل قوله تعالى {ولما بلغ أشده واستوى} [القصص 14]، وهذا معناه: كمل وتم، ويقال: استوى النبات، واستوى الطعام.
وأما المقيد فثلاثة أضرب:
أحدها: مقيد "بإلى" كقوله تعالى {ثم استوى إلى السماء}، واستوى فلان إلى السطح وإلى الغرفة، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى المعدى بإلى في موضعين من كتابه، الأول في سورة البقرة في قوله {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء} [البقرة 29]، والثاني في سورة فصلت {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} [فصلت 11]، وهذا بمعنى العلو والارتفاع بإجماع السلف.
الثاني: المقيد "بعلى" كقوله تعالى {لتستووا على ظهوره} [الزخرف 13]، وقوله {واستوت على الجودي} [هود 44]، وقوله {فاستوى على سوقه} [الفتح 29]، وهذا أيضاً معناه العلو والارتفاع والاعتدال بإجماع أهل اللغة.
الثالث: المقرون "بواو مع" التي تعدى الفعل إلى المفعول معه نحو استوى الماء والخشبة، بمعنى ساواها وهذه معاني الاستواء المعقولة في كلامهم ([298]).
ومما يؤكد أيضاً أن السلف يعلمون معنى الاستواء قول ابن عبد البر: (والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه).
قال أبو عبيدة في قوله {استوى} قال: علا، قال: وتقول العرب: استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت، وقال غيره: استوى أي انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد، والاستواء والاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله عز وجل فقال: {لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه}، وقال: {واستوت على الجودي}، وقال: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك} [المؤمنون 28].
وقال الشاعر:
فأوردتهم ماء بضبضاء قفرة | وقد حلق النجم اليماني فاستوى |
وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد: استولى لأن النجم لا يستولى.
وقد ذكر النضر بن شميل-وكان ثقة مأموناً جليلاً في علم الديانة واللغة-قال: (حدثني الخليل -وحسبك بالخليل-قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم من رأيت فغذا هو على سطح، فسلمنا فرد علينا السلام وقال لنا: استووا فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال؟ فقال لنا أعرابي إلى جنبه: إنه أمركم أن ترتفعوا، قال الخليل: هو من قول الله عز وجل {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} فصعدنا إليه) ([299]).
وقال ابن القيم: (إن ظاهر الاستواء وحقيقته هو العلو والارتفاع كما نص عليه جميع أهل اللغة والتفسير المقبول) ([300]).
ولما كان هذا هو معنى الاستواء في لغة العرب فقد تكلم السلف والمفسرون بهذا المعنى عند تفسير هذه الآية فقد روى عن مجاهد في تفسير قوله تعالى {ثم استوى على العرش} قال: علا على العرش ([301])، وقد روى ابن ابي حاتم في تفسيره بسنده عن أبي العالية في تفسير الآية السابقة الذكر قال: ارتفع ([302]).
وقد روى عن الحسن البصري والربيع بن أنس مثله ([303]).
وقد روى اللالكائي بسنده عن بشر بن عمر قال: (سمعت غير واحد من المفسرين يقولون: {الرحمن على العرش استوى}، قال: على العرش استوى: ارتفع) ([304]).
وفي هذا التفسير لمعنى الاستواء من قبل السلف رد على من زعم أن مذهب السلف هو التقيد باللفظ مع تفويض المعنى المراد وأنهم كانوا لا يفسرون الاستواء ولا يتكلمون فيه، فمن خلال ما تقدم من الأقوال التي نقلت عن السلف يتضح كذب هؤلاء وزيف ادعائهم.
ومما ينبغي معرفته أن السلف مع إثباتهم لمعنى الاستواء واعتقادهم بأن الله مستو على عرشه ومرتفع عليه، إلا أنهم يكلون علم كيفية ذلك الاستواء إلى الله عز وجل لأن أمره هو مما استأثر الله بعلمه وفي ذلك يقول القرطبي: (ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته كما قال الإمام مالك: (الاستواء معلوم -يعني في اللغة-والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة) ([305]).
وقال ابن القيم: (إن العقل قد يئس من تعرف كنه صفات الله وكيفيتها، فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله، وهذا معنى قول السلف (بلا كيف) أي بلا كيف يعقله البشر، فإنه من لا تعلم حقيقة ذاته وماهيته، كيف تعرف كيفية نعوته وصفاته؟ ولا يقدح ذلك في الإيمان بها، ومعرفة معانيها، فالكيفية وراء ذلك، كما أنا نعرف معاني ما أخبر الله به من حقائق ما في اليوم الآخر، ولا نعرف كيفيتها مع قرب ما بين المخلوق والمخلوق، فعجزنا من معرفة كيفية الخالق وصفاته أعظم وأعظم) ([306]).
واستواءه-سبحانه وتعالى-على العرش بعد أن خلق السموات والأرض في ستة أيام إنما هذا الاستواء هو-علو خاص-، ذلك لأن من المعلوم أن كل مستو على شيء هو عال عليه، وليس كل عال على شيء مستويا عليه، ولهذا لا يقال لكل ما كان عاليا على غيره أنه مستو عليه، ولكن كل ما قيل فيه: إنه استوى على غيره، فإنه عال عليه.
والذي أخبر الله أنه كان بعد خلق السموات والأرض "الاستواء" لا مطلق العلو، مع أنه يجوز أنه كان مستويا على العرش قبل خلق السموات والأرض لما كان عرشه على الماء، ثم لما خلق هذا العالم كان عاليا عليه ولم يكن مستويا عليه، وبعد الانتهاء من خلق هذا العالم استوى على العرش.
فالأصل أن علوه على المخلوقات وصف لازم له، كما أن عظمته وكبرياءه وقدرته كذلك، وأما الاستواء فهو فعل يفعله سبحانه وتعالى بمشيئته وقدرته، ولهذا قال فيها {ثُمَّ اسْتَوَى} ومن أجل ذلك كان الاستواء من الصفات السمعية المعلومة بالخبر، وأما علوه على المخلوقات فهو عند أئمة أهل الإثبات من الصفات العقلية المعلومة بالعقل مع السمع[307].
فالاستواء صفة ثابتة في القرآن والسنة وقد أجمع سلف الأمة على إثباتها.
أولاً: الأدلة من القرآن على إثبات صفة الاستواء.
جاء ذكر الاستواء في سبع آيات، وهذه الآيات السبع التي جاء فيه ذكر الاستواء على العرش قد جاءت مصحوبة بما يبهر العقول من صفات الله وجلاله وكماله[308]، وسنذكر تلك الآيات وما اقترن بها.
ا-الموضع الأول: فأول سورة ذكر الله فيها صفة الاستواء حسب ترتيب المصحف سورة الأعراف: قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بأمره أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[309].
فهل لأحد أن ينفي شيئا من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال[310].
2-والموضع الثاني: في سورة يونس قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِما كَانُوا يَكْفُرُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ}[311].
فهل لأحد أن ينفي شيئا من هذه الصفات الدالة على الكمال والجلال.
3-الموضع الثالث: في سورة الرعد في قوله جل وعلا: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِماءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[312].
فهل لأحد أن ينفي شيئا من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال.
4-الموضع الرابع: في سوره طه قال تعالى: {طه ما أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّماوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ ما فِي السَّماوَاتِ وَما فِي الأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرَى وَإِنْ تَجْهَرْ بالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لا إِلَهَ إلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْماءُ الْحُسْنَى}[313].
فهل لأحد أن ينفي شيئا من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال.
5-الموضع الخامس: في سورة الفرقان في قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً}[314].
فهل لأحد أن ينفي شيئا من هذه الصفات الدالة على الكمال والجلال.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: "إنه ينبغي للمؤولين أن يتأملوا هذه الآية من سورة الفرقان وهي قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} ويتأملوا معها قوله تعالى: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}[315]، فإن قوله في الفرقان: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} بعد قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} يدل دلالة واضحة أن الله الذي وصف نفسه بالاستواء خبير بما يصف به نفسه، ولا تخفى عليه الصفة اللائقة من غيرها ويفهم منه أن الذي ينفي عنه صفة الاستواء ليس بخبير، نعم هو والله ليس بخبير"[316].
6- الموضع السادس: في سورة السجدة في قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْما ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِما تَعُدُّونَ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ}[317].
فهل لأحد أن ينفي شيئا من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال.
7-الموضع السابع: في سورة الحديد في قوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْهَا وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[318].
فالله سبحانه وتعالى مع استوائه على عرشه لا يخفى عنه شيء من أمور مخلوقاته، فهو يعلم جميع ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وجميع ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، فسبحان من لا يعزب عن علمه مثقال حبة من خردل لا في السماء ولا في الأرض عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم.
فالشاهد من ذكر آيات الاستواء على العرش وذكر ما اقترن بها من صفات العظمة والجلال بيان أن هذه الصفة التي ظن الجاهلون أنها صفة نقص، ويتهجمون على رب السموات والأرض بأنه وصف نفسه بصفة نقص، ثم يسببون عن هذا أن ينفوها ويؤولوها، مع أن الله-جل وعلا-تمدح بها، وجعلها من صفات الجلال والكمال مقرونة بما يبهر العقول من صفات الجلال والكمال، وهذا يدل على جهل وهوس من ينفي بعض صفات الله جل وعلا بالتأويل[319].
الأدلة من السنة على إثبات صفة الاستواء.
كما أن السنة مليئة بالأحاديث الثابتة الصحيحة الدالة على استواء الله على عرشه.
عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه، إن رحمتي سبقت غضبي" متفق عليه[320].
وعن أبي رزين العقيلي قال: "قلت يا رسول الله: أين كان ربنا قبل أن يخلق السماء والأرض؟" قال: "كان في عما[321] ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثم خلق العرش ثم استوى عليه". وفي لفظ آخر "ثم كان على العرش فارتفع على عرشه"[322].
وعن جبير بن مطعم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي في حديث الاستسقاء: "ويحك أتدري ما الله؟ إن شأنه أعظم من أن يستشفع به على أحد، إنه لفوق عرشه على سمواته".
رواه أبو داود، وغيره، في الرد على الجهمية[323]، بإسناد حسن عنده من حديث محمد بن إسحاق بن يسار.
وعن العباس بن عبد المطلب قال: كنا بالبطحاء فمرت سحابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدرون بعد ما بين السماء والأرض؟" قالوا: لا، قال: "إما واحدة، وإما اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة" ثم عد سبع سموات، ثم قال: "فوق السابعة بحر بين أسفله، وأعلاه كما بين السماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال[324] بين أظلافهم، وركبهم كما بين سماء، إلى سماء ثم على ظهورهم العرش، ثم الله فوق ذلك، وهو يعلم ما أنتم عليه". رواه أبو داود بإسناد حسن وفوق الحسن[325].
وعن زينب بنت جحش أنها كانت تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: "زوجنيك الرحمن من فوق عرشه"[326].
وفي لفظ للبخاري كانت تقول: "إن الله أنكحني من فوق سبع سموات"[327].
دليل الإجماع على إثبات صفة الاستواء.
إجماع السلف من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم منعقد على إثبات علو الله، واستوائه على عرشه وقد نقل غير واحد من السلف هذا الإجماع عنهم، ومن ذلك ما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن الأوزاعي أنه قال: "كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله-تعالى-ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت فيه السنة من صفاته"[328].
وقال أبو نصر السجزي: "فأئمتنا كسفيان الثوري، ومالك، وسفيان ابن عيينة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وعبد الله بن المبارك، وفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي: متفقون على أن الله-سبحانه-بذاته فوق العرش، وأن علمه بكل مكان، وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش"[329].
وقال أبو نعيم الأصبهاني في عقيدته المشهورة: "وطريقتنا طريقة السلف المتبعين للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، فما اعتقدوه اعتقدناه، فمما اعتقدوه أن الأحاديث التي تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش والاستواء عليه يقولون بها، ويثبتونها من غير تكييف ولا تشبيه، وأن الله بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم، ولا يمتزج بهم، وهو مستو على عرشه في سمواته من دون أرضه"[330].
المبحث الثاني: أقوال المخالفين
الفريق الأول: نفاة الاستواء
سبق أن ذكرنا أن المعطلة من الفلاسفة، والجهمية، والأشاعرة، والماتريدية، على الرغم من أن لكل واحد منهم منهجاً مستقلاً في مسألة الصفات إلا أنهم يتفقون جميعاً على إنكار الصفات الاختبارية بما فيها صفة الاستواء، ويذهبون إلى تأويل الآيات القرآنية الواردة في إثباتها إلى ما أدت إليه عقولهم من المعاني الفاسدة التي يزعمون أن في ذلك تنزيهاً لله عن مشابهة المخلوقين.
وإن سبب ذلك التأويل الباطل هو اعتقاد هؤلاء المعطلة أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها النصوص، وذلك بسبب الشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الفلاسفة، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر -وكان مع ذلك لابد للنصوص من معنى-بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى، وهي التي يسميها هؤلاء المعطلة طريقة السلف، وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع من التكلف، وهي التي يسمونها طريقة الخلف. وبهذا يتبين لنا أن هذا الباطل الذي ذهب إليه هؤلاء المعطلة إنما هو مركب من فساد العقل والكفر بالسمع، وذلك لأنهم إنما اعتمدوا في نفي تلك الصفات على شبه عقلية ظنوها بينات وهي في الحقيقة شبهات.
وبناء على المسلك الثاني الذي سلكه هؤلاء المعطلة من تأويل تلك النصوص، فقد تعددت أقوالهم واختلفت في المعنى الذي يجب أن يؤول إليه لفظ الاستواء الوارد في الآيات إلى عدة أقوال منها:
القول الأول:
من هؤلاء المعطلة من يؤول معنى الاستواء في قوله تعالى {الرحمن على العرش استوى} على الاستيلاء والقهر والغلبة.
وهذا القول يذهب إليه كثير من الجهمية ([331])، والمعتزلة ([332])، والحرورية ([333])، وكثير من متأخري الأشاعرة ([334])، كسيف الدين الآمدي ([335])، والغزالي ([336])، والبغدادي ([337])، وغيرهم.
وقد استدل هؤلاء المعطلة على صحة زعمهم هذا بأن هذا التأويل الذي هو تأويل الاستواء بالاستيلاء هو أمر مشهور في لغة العرب من ذلك:
قول الشاعر:
قد استوى بشر على العــراق | من غير سيف ولا دم مهراق |
وقال الآخر:
هما استويا بفضلهما جميعاً | على عرش الملوك بغير زور |
وقال الآخر:
فلما علونا واستــوينا عليــهم | تركناهم صرعى لنسر كاسر |
وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر -رحمه الله تعالى-أن بعضهم قد احتج بما رواه عبد الله بن داود الواسطي عن إبراهيم بن عبد الصمد عن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى {الرحمن على العرش استوى}، قال: (استولى على جميع بريته فلا يخلو منه مكان) ([338]).
ومن هؤلاء المعطلة من يبقي كلمة العرش الواردة في الآية على معناها الحقيقي الثابت، ويقول إنما خصص العرش بالذكر من بين جميع المخلوقات لكونه أعظم المخلوقات وأرفعها وأوسطها فخصص بالذكر تنبيهاً على ما دونه.
ومنهم من يؤول العرش الوارد في الآية بمعنى الملك ([339])، ويزعم أن معنى الآية استولى واستعلى على الملك، ويقول أصحاب هذا القول إن الله قد عبر بالعرش كناية على الملك، لأنه يخاطب الناس على الوجه الذي ألفوه من ملوكهم، واستقر في قلوبهم، ذلك أن العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، فجعل العرش كناية عن نفس الملك، ويستدل هؤلاء بأن هذا الأمر مشهور في اللغة، وكذلك بقوله تعالى في سورة يونس {ثم استوى على العرش يدبر الأمر}، فقالوا: إن قوله يدبر الأمر جرى مجرى التفسير لقوله {استوى على العرش} ([340]).
الرد عليهم:
لقد أجمع السلف على أن هذا التأويل الذي ذهب إليه هؤلاء الجهمية، والمعتزلة، والخوارج، ومتأخرو الأشاعرة، هو تأويل باطل ترده نصوص القرآن والسنة وإجماع الأمة، وهو قول لا أصل له في لغة العرب، بل هو تفسير لكلام الله بالرأي المجرد، لم يذهب إليه صاحب ولا تابع، ولا قاله إمام من أئمة المسلمين، ولا أحد من أهل التفسير الذين يحكون قول السلف.
ولبيان فساد هذا القول على وجه التفصيل نقول:
أولاً: أنه من المعلوم أن لفظ الاستواء قد ورد في القرآن الكريم في سبعة مواضع، وهذه المواضع جميعها قد اطرد فيها لفظ الاستواء دون الاستيلاء، وكذلك الأمر بالنسبة لما ورد في السنة، فلو كان معناه استولى -كما يزعم هؤلاء-لكان استعماله في أكثر موارده كذلك، فإذا جاء في موضع أو موضعين بلفظ استوى حمل على معنى استولى لأنه المألوف المعهود.
أما أن يُأتى إلى لفظ قد اطرد استعماله في جميع موارده على معنى واحد فيدعى صرفه في الجميع إلى معنى لم يعهد استعماله فيه، فهذا أمر في غاية الفساد ولم يقصده ويفعله من قصد البيان، هذا لو لم يكن في السياق ما يأبى حمله على غير معناه الذي اطرد استعماله فيه، فكيف وفي السياق ما يأبى ذلك ([341]).
ثانياً: ومما يرد هذا التأويل الباطل أن كلمة استوى قد جاءت بعد "ثم" التي حقها الترتيب والمهلة، فلو كان المعنى القدرة على العرش والاستيلاء عليه لم يتأخر ذلك إلى ما بعد خلق السموات والأرض، فإن العرش كان موجوداً قبل خلق السموات والأرض بخمسين الف عام كما ثبت في صحيح مسلم عنه e أنه قال: (إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء) ([342]).
وقال تعالى {وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء}.
وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي e قال: ((كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض)) ([343]).
فالآيات والحديثان يدلان دلالة واضحة على أن العرش كان موجوداً قبل خلق السموات والأرض فكيف يجوز أن يكون غير قادر ولا مستولٍ على العرش إلى أن خلق السموات والأرض ([344]).
ثالثاً: أن الاستيلاء سواء كان بمعنى القدرة أو القهر أو نحو ذلك عام في المخلوقات كالربوبية.، والعرش وإن كان أعظم المخلوقات ونسبة الربوبية إليه لا تنفي نسبتها إلى غيره كما في قوله تعالى {قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم}، فلو كان استوى بمعنى استولى كما هو عام في المخلوقات كلها لجاز مع إضافته للعرش أن يقال: استوى على السماء وعلى الهواء وعلى البحار والأرض، وعليها ودونها ونحوها إذ هو مستو على العرش، فلما اتفق المسلمون على أن يقال: استوى على العرش، و لا يقال استوى على هذه الأشياء مع أنه يقال: استولى على العرش والأشياء، علم أن معنى استوى خاص بالعرش وليس عاما كعموم الأشياء ([345]).
رابعاً: أنه إذا فسر الاستواء بالغلبة والقهر عاد معنى الآيات كلها إلى أن الله تعالى أعلم عباده بأنه خلق السموات والأرض ثم غلب على العرش بعد ذلك وقهره وحكم عليه! أفلا يستحي من الله من في قلبه أدنى وقار لله ولكلامه أن ينسب ذلك إليه وأنه أراد بقوله {الرحمن على العرش استوى}: أي اعلموا يا عبادي أني بعد فراغي من خلق السموات والأرض غلبت عرشي وقهرته واستوليت عليه ([346]).
خامساً: أن ما يستند إليه هؤلاء المعطلة في زعمهم هذا من قولهم إن تفسير استوى باستولى أمر مشهور في اللغة، هو قول باطل مردود لأنه لم يثبت عند أحد من أهل اللغة أن لفظة استوى يصح استعمالها بمعنى استولى بل إن هذا القول منكر عند اللغويين.
فهذا ابن الأعرابي أحد علماء اللغة أتاه رجل فقال له: ما معنى قول الله عز وجل {الرحمن على العرش استوى}؟ فقال: (هو كما أخبر عز وجل)، فقال: يا أبا عبد الله ليس هذا معناه، إنما معناه استولى، قال: (اسكت ما أنت وهذا، لا يقال استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاداً فإذا غلب أحدهما قيل استولى، أما سمعت النابغة:
ألا لمثلك أو من أنت ســـابقة | سبق الجواد إذا استولى على الأمد ([347]) |
(وقد سئل الخليل بن أحمد: هل وجدت في اللغة استوى بمعنى استولى؟
فقال: "هذا ما لا تعرفه العرب ولا هو جائز في لغتها". والخليل إمام في اللغة على ما عرف من حاله، فحينئذ حمله على ما لا نعرف في اللغة هو قول باطل) ([348]).
وكذلك فإنه قد روي عن جماعة من أهل اللغة قالوا: لا يجوز استوى بمعنى استولى إلا في حق من كان عاجزاً ثم ظهر، والله سبحانه لا يعجزه شيء والعرش لا يغالبه في حال، فامتنع أن يكون بمعنى استولى.
وقد روي عن أبي العباس ثعلب أنه قال: (استوى: أقبل عليه وإن لم يكن معوجاً، {ثم استوى إلى السماء} [البقرة 29]، و{استوى على العرش}: علا، واستوى الوجه: اتصل، واستوى القمر: امتلأ، واستوى زيد وعمرو: تشابها واستوى فعلاهما وإن لم تتشابه شخوصهما، هذا الذي نعرفه من كلام العرب) ([349]).
فبما تقدم من أقوال علماء اللغة يتضح لنا فساد زعم هؤلاء المعطلة وكذب ادعائهم بأن هذا القول مشهور في اللغة.
وأما ما استدل به هؤلاء من أبيات، كقول الشاعر:
قد استوى بشر على العــراق | من غير سيف ولادم مهراق |
وقول آخر:
هما استويا بفضلهما جميعاً | على عرش الملوك بغير زور |
فهذان البيتان لم يثبت نقل صحيح على أنهما شعر عربي وكان غير واحد من أئمة اللغة أنكروهما.
قال ابن فارس: (هذان البيتان لا يعرف قائلهما) ([350]).
فهما على هذا بيتان مصنوعان، ومعلوم أنه لو احتج بحديث رسول الله e لاحتاج إلى صحته، فكيف ببيت من الشعر لا يعرف إسناده وقد طعن فيه أئمة اللغة.
قال أبو عمر بن عبد البر: (وأما ادعائهم المجاز في الاستواء وقولهم في تأويل استوى: استولى، فلا معنى له لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة المغالبة، والله لا يغالبه أحد ولا يعلوه أحد، وهو الواحد الصمد، ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى إتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله إلى الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبارات، وجل الله عز وجل أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطبتها، مما يصح معناه عند السامعين، والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه، قال أبو عبيدة في قوله تعالى {استوى} قال: وتقول العرب استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت، وقال غيره: استوى: أي انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد) ([351]).
وأما ما استدل به المعطلة من قول ابن عباس رضي الله عنهما فقد بين ابن عبد البر أنه مكذوب على ابن عباس ورواته مجهولون وضعفاء كما تقدم ذكره.
القول الثاني:
أن معنى استوى: أقبل على خلق العرش وعمد إلى خلقه كقوله تعالى {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} [فصلت 11]، أي عمد إلى خلق السماء.
وهذا هو قول بعض الجهمية ([352])، وإليه ذهب الفراء، والأشعري، وابن الضرير، واختاره الثعلبي ([353]).
الرد عليهم:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذا الوجه من أضعف الوجوه، فإنه قد أخبر أن العرش على الماء قبل خلق السموات والأرض.
وكذلك ثبت في صحيح البخاري عن عمران عن النبي e أنه قال: ((كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ..." فإذا كان العرش مخلوقاً قبل خلق السموات والأرض، فكيف يكون استواؤه عمده إلى خلقه له؟!
هذا لو كان يعرف في اللغة أن استوى على كذا، بمعنى أنه عمد إلى فعله، فكيف إذا كان لا يعرف قط في اللغة لا حقيقة ولا مجازاً ولا في نظم ولا في نثر.
ومن قال استوى بمعنى عمد ذكره في قوله {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} لأنه عدى بحرف الغاية، كما يقال: عمدت إلى كذا وقصدت إلى كذا، ولا يقال عمدت على كذا ولا قصدت عليه، مع أن ما ذكر في تلك الآية لا يعرف في اللغة أيضاً ولا هو قول أحد من مفسري السلف بل المفسرون من السلف بخلاف ذلك) ([354]).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: (إن قولهم هذا يتضمن أن يكون خلقه بعد خلق السموات والأرض، وهذ بخلاف إجماع الأمة، وخلاف ما دل عليه القرآن والسنة، وإن ادعى بعض الجهمية المتأخرين أنه خلق بعد خلق السموات والأرض وادعى الإجماع على ذلك، وليس العجيب من جهله، بل من إقدامه على حكاية الإجماع على ما لم يقله مسلم) ([355]).
القول الثالث:
أن استوى بمعنى علا في هذه الآية، ولكن ليس المراد علو المسافة والمكان، وإنما المراد علو المكانة والقهر، وقد ذهب إلى هذا القول جماعة من الأشاعرة منهم أبو بكر بن فورك ([356])، وهم بهذا القول جعلوا الاستواء صفة ذات وليست صفة فعل.
الرد عليهم:
أن الآيات والأحاديث قد أثبتت استواء الله على العرش حقيقة، ولو كان معنى الاستواء ههنا المراد به علو المكانة فإن الله لم يزل متعالياً على الأشياء قبل خلق العرش، فلما أضاف الاستواء على العرش فيجب على ذلك أن يكون لهذا التخصيص فائدة ([357]).
القول الرابع:
وهو قول من يثبت الاستواء على أنه صفة للعرش وليس صفة لله تعالى.
وأصحاب هذا القول يقولون: أن الاستواء فعل يفعله الرب في العرش بمعنى أنه يحدث في العرش قرباً فيصير مستوياً عليه من غير أن يقوم به -أي بالله-فعل اختياري.
وهذا القول هو ما يقول به ابن كلاب، والأشعري ([358])، وأئمة أصحابه المتقدمين كالباقلاني وغيره، وهو أيضاً قول القلانسي، ومن وافق هؤلاء من أتباع الأئمة وغيرهم من أصحاب الإمام أحمد كالقاضي أبي يعلى وابن الزاغوني وابن عقيل في كثير من أقواله ([359]).
والسبب الذي جعل هؤلاء القوم يمنعون جعل الاستواء صفة لله تعالى هو قولهم بنفي قيام الأفعال الاختيارية بذاته سبحانه وتعالى ولذلك يجعلون أفعاله اللازمة لذاته -كالنزول والاستواء-كأفعاله المتعدية -كالخلق والإحسان-، وقولهم في نفي الأفعال الاختيارية راجع إلى قولهم في صفات الله.
وهم يقولون: (إن الله هو الموصوف بالصفات، لكن ليست الصفات أعراضاً، إذ هي قديمة أزلية) ([360]).
وحجتهم في منع قيام الحوادث بذات الله تعالى أنهم يقولون: (إن كل ما صح قيامه بالباري تعالى فإما أن يكون صفة كمال أو لا يكون فإن كان صفة كمال استحال أن يكون حادثاً، وإلا كانت ذاته قبل اتصافه بتلك الصفة خالية من صفة الكمال، والخالي من الكمال الذي هو ممكن الاتصاف به ناقص، والنقص على الله محال بإجماع الأمة.
وإن لم يكن صفة كمال استحال اتصاف الباري بها لأن إجماع الأمة على أن صفات الباري بأسرها صفات كمال، فإثبات صفة لا من صفات الكمال خرق للإجماع وهو أمر غير جائز) ([361]).
الرد عليهم:
لقد اعتمد أصحاب هذا القول في منعهم كون الاستواء صفة لله تعالى على حجة منع قيام الحوادث بذاته تعالى، وهي حجة واهية وقد رد عليها شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (إن المقدمة التي اعتمد عليها هؤلاء وهي قولهم: إن الخالي من الكمال الذي يمكن الاتصاف به ناقص. فيقال لهم: معلوم أن الحوادث المتعاقبة لا يمكن الاتصاف بها في الأزل، كما لا يمكن وجودها في الأزل، وعلى هذا فالخلو عنه في الأزل لا يكون خلواً عما يمكن الاتصاف به في الأزل.
ثم إنه لم يثبت امتناع ما ذكر من النقص بدليل عقلي ولا بنص من كتاب ولا سنة، بل بما ادعوه من إجماع، وإذاً فمعلوم أن المنازعين في اتصافه بذلك هم من أهل الإجماع فكيف يحتج بالإجماع في مسألة النزاع.
وقولهم بإجماع الأمة على أن صفاته صفات كمال، فإن قصد بذلك صفاته اللازمة لم يكن في هذا حجة لهم، وإن قصد بذلك ما يحدث بمشيئته وقدرته لم يكن هذا إجماعاً فإن أهل الكلام يقولون إن صفة الفعل ليست صفة كمال ولا نقص والله موصوف بها بعد أن لم يكن موصوفاً.
ثم إن هذ الإجماع الذي ادعوه حجة عليهم فإنا إذا عرضنا على العقول موجودين: أحدهما يمكنه أن يتكلم ويفعل بمشيئته كلاماً وفعلاً، والآخر لا يمكنه ذلك، بل لا يكون كلامه إلا غير مقدور ولا مراد أو يكون بائناً عنه، لكانت العقول تقضي بأن الأول أكمل من الثاني.
وكذلك إذا عرضنا على العقول موجودين من المخلوقين أو مطلقاً أحدهما يقدر على الذهاب والمجيء والتصرف بنفسه والآخر لا يمكنه ذلك لكانت العقول تقصي بأن الأول أكمل
فنفس ما به يعلم أن اتصافه بالحياة والقدرة صفات كمال، به يعلم أن اتصافه بالأفعال والأقوال الاختيارية التي تقوم به والتي يفعل بها المفعولات المباينة له صفات كمال ([362]).
وكذلك مما يرد به على هذا القول ما قاله ابن القيم: (إنه لو كان الاستواء عائداً على العرش لكانت القراءة برفع العرش، ولم تكن بخفضه، فلما كانت بخفض العرش دل على أن الاستواء عائد إلى الله تعالى) ([363]).
الفريق الثاني: القول بالتفويض
ويذهب أصحاب هذا القول إلى إثبات لفظ الاستواء فقط مع التوقف في المعنى المراد، فهم يقولون: إن الاستواء ثابت في القرآن حيث إنه قد ورد في سبع آيات، وكذلك قد وردت به الأخبار الصحيحة وقبوله من جهة التوقف واجب، والبحث عنه وطلب الكيفية غير جائز وهو استواء لا نعلمه ([364]).
وقد ذهب إلى هذا القول البيهقي في كتابه الاعتقاد ([365]) وهو أحد قولي الرازي ([366]).
وهؤلاء في الحقيقة ينفون صفة الاستواء ولكن يتوقفون في المعنى الذي على زعمهم يجب تأويل اللفظ إليه.
وقد زعم كثير من الأشاعرة أن القول بالتفويض هو قول السلف ([367]).
ويستدلون على نسبة هذا القول إلى السلف بعبارات نقلت عن السلف ظنوا أنها ترمي إلى القول بالتفويض كقول الأوزاعي: (كنا والتابعون متوافرون نقول أن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته جل وعلا).
وقول ربيعة بن عبد الرحمن، والإمام مالك: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب).
والقول بالتفويض هو مقصود هؤلاء القوم في قولهم: (إن طريقة السلف أسلم)، حيث إنهم ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني} [البقرة 78].
الرد عليهم:
معلوم أن نسبة هذا القول إلى السلف إنما هي محض كذب وافتراء ومن نسب هذا القول إلى السلف فإنما هو جاهل بطريقة السلف الذين لم يقولوا بهذا القول، ولم يرد عن واحد منهم أنه فوض معنى الاستواء، بل أن الوارد عنهم جميعاً أنهم يفسرون الاستواء بالمعنى المراد وهو العلو والارتفاع على العرش ويؤمنون بأن الله مستو على العرش حقيقة.
قال شيخ الإسلام: (وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف، أما في كثير من الصفات فقطعاً مثل أن الله فوق العرش فإن من تأمل كلام السلف المنقول عنهم علم بالاضطرار أن القوم كانوا مصرحين بأن الله فوق العرش حقيقة، وأنهم ما قصدوا خلاف هذا قط، وكثير منهم صرح في كثير من الصفات بمثل ذلك) ([368]).
وقال في موضع آخر: (وقد فسر الإمام أحمد النصوص التي نسميها متشابهات فبين معانيها آية آية، وحديثاً حديثاً ولم يتوقف فيها هو والأئمة قبله مما يدل على أن التوقف عن بيان معاني آيات الصفات وصرف الألفاظ عن ظواهرها لم يكن مذهباً لأهل السنة وهم أعرف بمذهب السلف، وإنما مذهب السلف إجراء معاني آيات الصفات على ظاهرها بإثبات الصفات له حقيقة وعندهم قراءة الآية والحديث تفسيرها وتمر كما جاءت دالة على المعاني لا تحرف ولا يلحد فيها) ([369]).
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (تنازع الناس في كثير من الأحكام ولم يتنازعوا في آيات الصفات وأخبارها في موضع واحد، بل اتفق الصحابة والتابعون على إقرارها وإمرارها مع فهم معانيها وإثبات حقائقها، أعني فهم أصل المعنى لا فهم الكنة والكيفية) ([370]).
وأما بالنسبة إلى ما استدل به أصحاب هذا القول على أن القول بالتفويض هو مذهب السلف وذكرهم لقول الإمام مالك: (الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة)، فليس المراد ههنا تفويض معنى الاستواء ولا نفي حقيقة الصفة، ولو كان المراد الإيمان بمجرد اللفظ من غير فهم على ما يليق بالله لما قال (الكيف مجهول)، لأنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى ([371]).
والاستواء على هذا المعنى لا يكون معلوما بل هو مجهول بمنزلة حروف المعجم، لكن الأمر على عكس ذلك، فنفي علم الكيفية لأنه أثبت الصفة وأراد بقوله الاستواء معلوم معناه في اللغة التي نزل بها القرآن فعلى هذا يكون معلوماً في القرآن.
ومعلوم أن ادعاء هؤلاء أن مذهب السلف إنما هو القول بالتفويض سببه اعتقاد هؤلاء أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر -كان مع ذلك لا بد للنصوص من معنى-فبقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع من التكلف، وهذا التردد هو الذي وقع فيه من قال بالتفويض من هؤلاء كالبيهقي والرازي، فهم لم يلتزموا بهذا القول مطلقاً بل غالباً ما يخالفونه كما فعل الرازي في تأسيسه حيث جنح إلى التأويل وترك القول بالتفويض.
الفريق الثالث: قول المشبهة
والمقصود بهم الهشامية ([372]) من الروافض، والكرامية ([373])، وغيرهم.
وهؤلاء يثبتون استواء الله وارتفاعه فوق عرشه، إلا أنهم تعمقوا في الكلام على كيفية ذلك الاستواء.
فالهشامية مثلاً يقولون إن الله تعالى مماس لعرشه لا يفضل منه شيء في العرش ولا يفضل عن العرش شيء منه ([374]).
وأما الكرامية فقد تعددت أقوالهم في كيفية استوائه:
فمنهم من يقول: إنه على بعض أجزاء العرش.
ومنهم من يقول: إن العرش مكان له وأن العرش امتلأ به.
ومنهم من يقول: إنه لو خلق بإزاء العرش عروشاً موازية لعرشه لصارت العروش كلها مكاناً له لأنه أكبر منها كلها.
ومنهم من يقول: أن بينه وبين العرش من البعد والمسافة ما لو قدر مشغولا بالجواهر لاتصلت به ([375]).
وقول هؤلاء المشبهة إنما هو نتيجة لازمة لأقوالهم في صفات الله وكلامهم في ذاته.
فالهشامية يقولون: (إن الله جسم ذو أبعاض له قدر من الأقدار، ولكن لا يشبه شيئاً من المخلوقات، ولا يشبهه شيء).
ونقل عنهم أنهم قالوا إنه سبعة أشبار بشبر نفسه، وأن له مكاناً مخصوصاً ووجهة مخصوصة وأنه يتحرك وحركته فعله، وليست من مكان إلى مكان وهو متناه بالذات غير متناه بالقدرة، وأنه مماس لعرشه ولا يفضل منه شيء من العرش ولا يفضل عن العرش شيء منه) ([376]).
وأما الكرامية فيقول ابن كرام: (إن معبوده مستقر على العرش استقراراً وأنه بجهة فوقَ ذاتاً وأنه أُحدي الذات أُحدي الجوهر وأنه مماس للعرش من الصفحة العليا).
ولهم في معنى العظم خلاف فقال بعضهم: (إنه مع وحدته على جميع أجزاء العرش والعرش تحته وهو فوقه كله على الوجه الذي هو فوق جزء منه.
وقال بعضهم: أنه يلاقى مع وحدته من جهة واحدة أكثر من واحد، وهو يلاقى جميع أجزاء العرش وهو العلي العظيم.
وقالت المهاجرية منهم: إنه لا يزيد على عرشه في جهة المماسة ولا يفضل منه شيء على العرش، وهذا يقتضي أن يكون عرضه كعرض العرش.
وصار المتأخرون منهم إلى أنه تعالى بجهة فوق وأنه محاذ للعرش) ([377]).
الرد عليهم:
هذا القول للمشبهة يتضمن حقاً وباطلاً.
فالحق فيه هو: اعترافهم بعلو الله واستوائه على عرشه وأنه بائن من خلقه والخلق بائنون عنه.
وأما الباطل فهو: كلامهم في ذات الله والتعرض لكيفية استوائه، وهو كلام باطل وفاسد ليس لهم به دليل من القرآن أو السنة، بل هو قول على الله بغير علم فالله سبحانه وتعالى لم يطلعنا على كيفية ذاته فأنّى لنا أن نعلم كيفية صفاته، وأمر الكيفية هو مما استئثر الله بعلمه قال تعالى {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} [البقرة 255].
ومما يدلنا على فساد هذا القول وعدم وجود دليل لأصحابه على ما يقولون هو اختلاف أرائهم وأقوالهم عند الحديث عن ذات الله وكيفية استواءه، فمن خلال عرض أقوالهم يتضح اختلافهم وتناقضهم، وما ذاك إلا أنهم يفترون على الله الكذب قال تعالى {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء 82].
والسؤال الذي ينبغي أن يوجه إلى هؤلاء المشبهة في هذا المقام هو: أين الدليل من الكتاب أو السنة على ما تزعمون؟
والجواب معروف وهو أنه لا دليل لهم على ذلك لا من القرآن ولا من السنة.
ومما ينبغي معرفته أن الكلام على كيفية ذات الله أو كيفية استوائه أو غيرها من الصفات هو أمر غير جائز عند السلف ويحرم الخوض فيه بل يبدعون السائل عن ذلك ولذلك بدع الإمام مالك السائل الذي سأله عن كيفية استواء الباري عز وجل، حيث قال له: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب، وما أراك إلا رجل سوء، وأمر بإخراجه)، وما قاله الإمام مالك هو الذي جاءت به النصوص وهو الذي سار عليه السلف جميعاً.
الفصل الثالث مسائل متعلقة بالعلو والاستواء
وفيه مبحثان
المبحث الأول: خلو العرش حال النزول.
المبحث الثاني: مسائل الحد والمماسة.
المبحث الأول: هل يخلو العرش منه حال نزوله
لأهل السنة في المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول: ينزل ويخلو منه العرش ([378])
وهو قول طائفة من أهل الحديث ([379]).
القول الثاني: ينزل ولا يخلو منه العرش ([380])
وهو قول جمهور أهل الحديث ([381]).
ومنهم الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، وحماد بن زيد، وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم ([382]).
القول الثالث: نثبت نزولاً، ولا نعقل معناه هل هو بزوال أو بغير زوال.
وهذا قول ابن بطة، والحافظ عبد الغني المقدسي وغيرهما ([383]).
أما القول الأول: وهو أنه ينزل ويخلو منه العرش، فمن قال به: أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق بن منده ([384]) ([385]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد صنف أبو القاسم عبد الرحمن بن أبي عبد الله بن محمد بن منده، مصنفاً في الإنكار على من قال لا يخلو منه العرش وسماه “الرد على من زعم أن الله في كل مكان، وعلى من زعم أن الله ليس له مكان، وعلى من تأول النزول على غير النزول) ([386]).
وقد لخص شيخ الإسلام جملة ما احتج به أبو القاسم ابن منده وبين أنه احتج بأحاديث النزول، وببعض أقوال السلف العامة كقولهم (يفعل ما يشاء) وذكر بعض اعتراضاته على بعض النقول الواردة عن الأئمة ([387]).
وأوضح شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لم ينقل على أحد من الأئمة المعروفين بالسنة بإسناد صحيح ولا ضعيف أن العرش يخلو منه ([388]).
وذكر أن كلام أبو القاسم بن منده من جنس كلام طائفة تظن أنه لا يمكن إلا أحد القولين:
1ـ قول من يقول: إنه ينزل نزولاً يخلو منه العرش.
2ـ وقول من يقول: ما ثم نزول أصلاً، كقول من يقول: ليس له فعل يقوم بذاته واختياره.
وهاتان الطائفتان ليس عندهما نزول إلا النزول الذي يوصف به أجساد العباد الذي يقتضي تفريغ مكان وشغل آخر.
ثم منهم من ينفي النزول عنه، وينزهه عن مثل ذلك.
ومنهم من أثبت له نزولاً من هذا الجنس، يقتضي تفريغ مكان وشغل آخر ([389]).
والقول بخلو العرش حال نزوله مرتبط ([390]) بمسألة: هل يقال في النزول والإتيان والمجيء إنه بحركة وانتقال؟
وقد اختلف أصحاب الإمام أحمد وغيرهم من المنتسبين إلى السنة والحديث في المسألة على ثلاثة أقوال ذكرها القاضي أبو يعلى في كتاب "اختلاف الروايتين والوجهين" ([391])، وهذه الأقوال هي:
1ـ أنه نزول انتقال وهو قول أبي عبد الله بن حامد.
2ـ أنه نزول بغير انتقال وهو قول أبي الحسن التميمي وأهل بيته، وأن معناه: قدرته ([392]).
3ـ الإمساك عن القول في المسألة، وهو قول أبي عبد الله بن بطة ([393]) وغيره. ثم هؤلاء فيهم من يقف عن إثبات اللفظ مع الموافقة على المعنى وهو قول كثير منهم، ومنهم من يمسك عن إثبات المعنى وعن اللفظ ([394]).
والذي يخصنا من الأقوال الثلاثة قول ابن حامد الذي ذهب إلى أنه نزول انتقال وقال لأن هذا حقيقة النزول عند العرب، وهو نظير قوله في الاستواء بمعنى قعد.
قال القاضي أبو يعلى: (فذهب شيخنا أبو عبد الله -يعني ابن حامد-أنه نزول انتقال، وقال: لأن هذا حقيقة النزول عند العرب، وهذا نظير قوله في الاستواء، يعني قعد، وهذا على ظاهر حديث عبادة بن الصامت ([395])، ولأن أكثر ما في هذا أنه من صفات الحدث في حقنا، وهذا لا يوجب كونه في حقه محدثاً، كما الاستواء على العرش، هو موصوف به مع اختلافنا في صفته، وإن كان هذا الاستواء لم يكن موصوفاً به في القدم، وكذلك نقول تكلم بحرف وصوت، وإن كان هذا يوجب الحدث في صفاتنا، ولا يوجبه في حقه، كذلك النزول) ([396]).
وقال ابن القيم رحمه الله: (أما قول ابن حامد أنه نزول انتقال فهو موافق لقول من يقول يخلو منه العرش، والذي حمله على هذا إثبات النزول حقيقة، وأن حقيقته لا تثبت إلا بالانتقال، ورأى أنه ليس في العقل ولا في النقل ما يحيل الانتقال عليه، فإنه كالمجيء والإتيان والذهاب والهبوط، وهذه أنواع الفعل اللازم القائم به، كما أن الخلق، والرزق، والإماتة، والإحياء، والقبض، والبسط أنواع للفعل المتعدي، وهو سبحانه موصوف بالنوعين، وقد يجمعهما كقوله {خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} [الأعراف 54].
والانتقال جنس لأنواع المجيء، والإتيان، والنزول، والهبوط، والصعود، والدنو، والتدلي ونحوها؛ وإثبات النوع مع نفي جنسه جمع بين النقيضين.
قالوا: وليس في القول بلازم النزول والمجيء والإتيان والاستواء والصعود محذور ألبتة ولا يستلزم ذلك نقصاً، ولا سلب كمال، بل هو الكمال نفسه، وهذه الأفعال كمال ومدح، فهي حق دل عليه النقل ولازم الحق حق) ([397]).
القول الثاني: أنه ينزل ولا يخلو منه العرش
وهذا القول ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قول جمهور أهل الحديث ([398]).
وقال: (ونقل ذلك عن الإمام أحمد بن حنبل في رسالته إلى مسدد، وعن إسحاق بن راهويه، وحماد بن زيد، وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم) ([399]).
قال القاضي أبو يعلى: (وقد قال أحمد في رسالته إلى مسدد: إن الله عز وجل ينزل في كل ليلة إلى السماء الدنيا ولا يخلو من العرش. فقد صرح أحمد بالقول إن العرش لا يخلو منه) ([400]).
وسأل بشر بن السري حماد بن زيد، فقال: (يا أبا إسماعيل الحديث الذي جاء ((ينزل ربنا إلى السماء الدنيا)). يتحول من مكان إلى مكان؟ فسكت حماد بن زيد، ثم قال: هو في مكانه يقرب من خلقه كيف يشاء) ([401]).
وقال إسحاق بن راهويه: (دخلت على عبد الله بن طاهر، فقال: ما هذه الأحاديث التي تروونها؟
قلت: أي شيء أصلح الله الأمير؟
قال: تروون أن الله ينزل إلى السماء الدنيا.
قلت: نعم، رواه الثقات الذين يروون الأحكام.
قال: أينزل ويدع عرشه؟
قال: فقلت: يقدر أن ينزل من غير أن يخلو العرش منه؟
قال: نعم.
قلت: ولم تتكلم في هذا؟) ([402]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن قول إسحاق وقول حماد بن زيد: (وهذه والتي قبلها حكايتان صحيحتان رواتهما ثقات، فحماد بن زيد يقول: هو في مكانه، يقرب من خلقه كيف يشاء، فأثبت قربه مع كونه فوق عرشه.
وعبد الله بن طاهر وهو من خيار من ولي الأمر بخراسان كان يعرف أن الله فوق العرش، وأشكل عليه أنه ينزل، لتوهمه أن ذلك يقتضي أن يخلو منه العرش، فأقره الإمام إسحاق على أنه فوق العرش، وقال له: يقدر أن ينزل من غير أن يخلو منه العرش؟ فقال له الأمير: نعم. فقال له إسحاق: لم تتكلم في هذا؟
يقول: فإذا كان قادراً على ذلك لم يلزم من نزوله خلو العرش منه، فلا يجوز أن يعترض على النزول بأنه يلزم منه خلو العرش، وكان هذا أهون من اعتراض من يقول: ليس فوق العرش شيء، فينكر هذا وهذا) ([403]).
القول الثالث: من يقول نثبت نزولاً ولا نعقل معناه، هل هو بزوال أو بغير زوال.
وهذ القول قال به ابن بطة ([404])، وعبد الغني المقدسي ([405])، وغيرهما.
قال ابن بطة: (فنقول كما قال: ((ينزل ربنا عزو جل)). ولا نقول: إنه يزول، بل ينزل كيف يشاء، لا نصف نزوله ولا نحده، ولا نقول: إن نزوله زواله).
وروى بسنده عن حنبل بن إسحاق قال: (قلت لأبي عبد الله: ينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا؟
قال: نعم.
قلت: نزوله بعلمه أم بماذا؟
قال: فقال لي: اسكت عن هذا، وغضب غضباً شديداً، وقال: مالك ولهذا؟ أمض الحديث كما روي بلا كيف) ([406]).
وقال القاضي أبو يعلى: (وحكى شيخنا-يعني ابن حامد-عن طائفة أخرى من أصحابنا أنهم قالوا: نثبت نزولاً لا يعقل معناه هل هو زوال أو بغير زوال، كما جاء الخبر، ومثل هذا ليس يمتنع في صفاته، كما يثبت له ذاتاً ينفي عنها ماهيتها، وهذه الطريقة هي المذهب، وقد نص أحمد عليها في مواضع) ([407]). وذكر الأثر الذي ذكره ابن بطة عن حنبل.
قال ابن القيم رحمه الله: (وأما الذين أمسكوا عن الأمرين وقالوا: لا نقول يتحرك وينتقل، ولا ننفي ذلك عنه، فهم أسعد بالصواب والاتباع، فإنهم نطقوا بما نطق به النص، وسكتوا عما سكت عنه، وتظهر صحة هذه الطريقة ظهوراً تاماً فيما إذا كانت الألفاظ التي سكت عنها النص مجملة، محتملة المعنيين صحيح وفاسد، كلفظ (الحركة)، و (الانتقال)، و (الحوادث)، و (العلة)، و (التغير)، و (التركيب)، ونحو ذلك من الألفاظ التي تحتها حق وباطل.
فهذه لا تقبل مطلقاً، ولا ترد مطلقاً، فإن الله سبحانه لم يثبت لنفسه هذه المسميات، ولم ينفيها عنه، فمن أثبتها مطلقاً فقد أخطأ، ومن نفاها مطلقاً فقد أخطأ، فإن معانيها منقسمة إلى ما يمتنع إثباته لله، وما يجب إثباته له.
فإن الانتقال يراد به:
1ـ انتقال الجسم والعرض من مكان هو محتاج إليه إلى مكان آخر يحتاج إليه. وهو يمتنع إثباته للرب تبارك وتعالى، وكذلك الحركة إذا أريد بها هذا المعنى امتنع إثباتها لله تعالى.
2ـ ويراد بالحركة والانتقال حركة الفاعل من كونه غير فاعل إلى كونه فاعلاً، وانتقاله أيضاً من كونه غير فاعل إلى كونه فاعلاً، فهذا المعنى حق في نفسه لا يعقل كون الفاعل فاعلاً إلا به فنفيه عن الفاعل نفي لحقيقة الفعل وتعطيل له.
3ـ وقد يراد بالحركة والانتقال ما هو أعم من ذلك، وهو فعل يقوم بذات الفاعل يتعلق بالمكان الذي قصد له وأراد إيقاع الفعل بنفسه فيه.
وقد دل القرآن والسنة والإجماع على أنه سبحانه يجيء يوم القيامة، وينزل لفصل القضاء بين عباده، ويأتي في ظلل من الغمام والملائكة، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وينزل عشية عرفة، وينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة، وينزل إلى أهل الجنة، وهذه أفعال يفعلها بنفسه في هذه الأمكنة فلا يجوز نفيها عنه بنفي الحركة والنقلة المختصة بالمخلوقين، فإنها ليست من لوازم أفعاله المختصة به، فمن كان من لوازم أفعاله لم يجز نفيه عنه، وما كان من خصائص الخلق لم يجز إثباته له.
وحركة الحي من لوازم ذاته، ولا فرق بين الحي والميت إلا بالحركة والشعور، فكل حي متحرك بالإرادة وله شعور فنفي الحركة عنه كنفي الشعور، وذلك يستلزم نفي الحياة) ([408]).
المبحث الثاني مسائل الحد والمماسة
وفيه ثلاثة مطالب
المطلب الأول: حكم الألفاظ المجملة.
المطلب الثاني: مسألة الحد.
المطلب الثالث: مسألة المماسة.
المطلب الأول: حكم الألفاظ المجملة
قبل الحديث عن المسائل المتعلقة بالحد والمماسة والمباينة وغيرها من الألفاظ المجملة، يحسن توضيح بعض القواعد المتعلقة بذلك وهي على النحو التالي:
أولاً: يجب أن يعلم أن توحيد الأسماء والصفات يشتمل على ثلاثة أبواب:
الباب الأول: باب الأسماء.
الباب الثاني: باب الصفات.
الباب الثالث: باب الإخبار ([409]).
ثانياً: إن باب الأسماء هو أخص تلك الأبواب، فما صح اسماً، صح صفة وصح خبراً وليس العكس.
وباب الصفات أوسع من باب الأسماء، وأخص من باب الإخبار، فما صح صفة فليس شرطاً أن يصح اسماً، فقد يصح وقد لا يصح، مع أن الأسماء جميعها مشتقة من صفاته، وكل صفة يصح الإخبار بها وليس العكس.
وباب الإخبار أوسع من باب الصفات وباب الأسماء، فالله يخبر عنه بالاسم والصفة، وبما ليس باسم ولا صفة كألفاظ (الشيء) و (الموجود) و (القائم بنفسه) و (المعلوم)، فإنه يخبر بهذه الألفاظ عنه ولا تدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العلى، ولكن يشترط في اللفظ أن لا يكون معناه سيئاً ([410]).
ثالثاً: إن باب الأسماء والصفات توقيفيان.
فالأصل في إثبات الأسماء والصفات أو نفيهما عن الله تعالى هو كتاب الله وسنة نبيه e، فما ورد إثباته من الأسماء والصفات في القرآن والسنة الصحيحة فيجب إثباته، وما ورد نفيه فيهما فيجب نفيه.
وأما ما لم يرد إثباته ونفيه فلا يصح استعماله في باب الأسماء والصفات إطلاقاً ([411]).
قال الإمام أحمد رحمه الله: (لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله e لا نتجاوز القرآن والسنة).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وطريقة سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله e) ([412]).
رابعاً: أما باب الإخبار فالسلف لهم فيه قولان:
القول الأول: أن باب الإخبار توقيفي، فإن الله لا يخبر عنه إلا بما ورد به النص، وهذا يشمل الأسماء والصفات، وما ليس باسم ولا صفة مما ورد به النص كـ (الشيء) و (الصنع) ونحوها.
وأما مالم يرد به النص فإنهم يمنعون استعماله ([413]).
القول الثاني: إن باب الإخبار لا يشترط فيه التوقيف، فما يدخل في الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته، كـ (الشيء) و (الموجود) و (القائم بنفسه)، فإنه يخبر به عنه ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فالإخبار عنه قد يكون باسم حسن، أو باسم ليس بسيء، أي باسم لا ينافي الحسن، ولا يجب أن يكون حسناً، ولا يجوز أن يخبر عن الله باسم سيء ([414]) فيخبر عن الله بما لم يرد إثباته ونفيه بشرط أن يستفصل عن مراد المتكلم فيه، فإن أراد به حقاً يليق بالله تعالى فهو مقبول، وإن أراد به معنى لا يليق بالله عز وجل وجب رده ([415]).
وبناءً على ما تقدم يمكن تقسيم الألفاظ المجملة -أي التي يرد استعمالها في النصوص-على النحو التالي:
1ـ ألفاظ ورد استعمالها ابتدأ في بعض كلام السلف.
ومن أمثلة ذلك لفظ (الذات) و (بائن).
وهذه الألفاظ تحمل معان صحيحة دلت عليها النصوص.
وهذا النوع من الألفاظ يجيز جمهور أهل السنة استعمالها.
وهناك من يمنع ذلك بحجة أن باب الإخبار توقيفي كسائر الأبواب.
والصواب أنه ما دام المعنى المقصود من ذلك اللفظ يوافق ما دلت عليه النصوص، واستعمل اللفظ لتأكيد ذلك فلا مانع.
كقول أهل السنة: (إن الله استوى على العرش بذاته).
فلفظة (بذاته) مراد بها أن الله مستو على العرش حقيقة وأن الاستواء صفة له.
وكقولهم: (إن الله عالٍ على خلقه بائن منهم).
فلفظة (بائن) يراد بها إثبات العلو حقيقة، والرد على زعم من قال إن الله في كل مكان بذاته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والمقصود هنا أن الأئمة الكبار كانوا يمنعون من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة، لما فيها من لبس الحق بالباطل، مع ما تُوقعه من الاشتباه والاختلاف والفتنة، بخلاف الألفاظ المأثورة، والألفاظ التي بينت معانيها، فإن ما كان مأثوراً حصلت به الألفة، وما كان معروفاً حصلت به المعرفة) ([416]).
وقال أيضاً: (فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل.
ويراعون أيضاً الألفاظ الشرعية، فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلا.
ومن تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه.
ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقاً وباطلاً نسبوه إلى البدعة، وقالوا إنما قابل البدعة ببدعة ورد باطلاً بباطل) ([417]).
فيستفاد من كلام شيخ الإسلام المتقدم أن الألفاظ على أربعة أقسام:
القسم الأول: الألفاظ المأثورة وهي التي وردت بها النصوص.
القسم الثاني: الألفاظ المعروفة وهي التي بُيِّنَت معانيها.
القسم الثالث: الألفاظ المبتدعة التي تدل على معنى باطل.
القسم الرابع: الألفاظ المبتدعة التي تحتمل الحق والباطل.
فلفظ (الذات) و (بائن) هي من القسم الثاني.
وهذه الألفاظ كما أسلفنا إنما تستعمل في باب الإخبار ولا تستعمل في باب الأسماء والصفات، ولذلك لما اعترض الخطابي على استعمالها بقوله: (وزعم بعضهم أنه جائز أن يقال له تعالى حد لا كالحدود كما نقول يد لا كالأيدي فيقال له: إنما أُحْوِجْنَا إلى أن نقول يد لا كالأيدي لأن اليد قد جاء ذكرها في القرآن وفي السنة فلزم قبولها ولم يجز رَدُّها. فأين ذكر الحد في الكتاب والسنة حتى نقول حد لا كالحدود، كما نقول يد لا كالأيدي؟!) ([418]).
فرد شيخ الإسلام ابن تيمية على قول الخطابي من وجوه منها:
(أن هذا الكلام الذي ذكره إنما يتوجه لو قالوا: إن له صفة هي الحد، كما توهمه هذا الراد عليهم. وهذا لم يقله أحد، ولا يقوله عاقل؛ فإن هذا الكلام لا حقيقة له إذ ليس في الصفات التي يوصف بها شيء من الموصوفات -كما وصف باليد والعلم-صفة معينة يقال لها الحد، وإنما الحد ما يتميز به الشيء عن غيره من صفته وقدره) ([419]).
فأهل السنة لم يثبتوا بهذه الألفاظ صفة زائدة على ما في الكتاب والسنة، بل بينوا بها ما عطله المبطلون من وجود الرب تعالى ومباينته من خلقه وثبوت حقيقته) ([420]).
2ـ ألفاظ ورد استعمالها في كلام بعض السلف تارة لإثباتها وتارة لنفيها.
ومن أمثلة ذلك: لفظ (الحد) ولفظ (المماسة) وسيأتي بيان حكمها بالتفصيل.
3ـ ألفاظ ورد استعمالها في كلام بعض السلف وفي كلام خصومهم.
ومن أمثلة ذلك: لفظة (الجهة).
4ـ ألفاظ ورد استعمالها في كلام الخصوم ولم يرد استعمالها في كلام السلف.
ومن أمثلة ذلك: لفظ (الجسم) و (الحيز) و (واجب الوجود) و (الجوهر) و (العرض).
وأما النوع الثالث والرابع فالجواب عن ذلك أن نقول الأصل في هذا الباب أن الألفاظ نوعان:
النوع الأول: نوع مذكور في كتاب الله وسنة رسوله وكلام أهل الإجماع، فهذا يجب اعتبار معناه، وتعليق الحكم به، فإن كان المذكور به مدحاً استحق صاحبه المدح، وإن كان ذماً استحق الذم، وإن أثبت شيئاً وجب إثباته، وإن نفى شيئاً وجب نفيه، لأن كلام الله حق، وكلام رسوله حق، وكلام أهل الاجماع حق.
وهذا كقوله تعالى {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد} [الاخلاص 1-4]، وقوله تعالى {هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن} [الحشر 22-23]، ونحو ذلك من أسماء الله وصفاته.
وكذلك قوله تعالى {ليس كمثله شيء} [الشورى 11]، وقوله تعالى {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام 103]، وقوله تعالى {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [القيامة 22- 23]، وأمثال ذلك مما ذكره الله تعالى ورسوله e، فهذا كله حق.
النوع الثاني: الألفاظ التي ليس لها أصل في الشرع.
فتلك لا يجوز تعليق المدح والذم والإثبات والنفي على معناها، إلا أن يبين أنه يوافق الشرع، والألفاظ التي تعارض بها النصوص هي من هذا الضرب، كلفظ (الجسم) و (الحيز) و (الجهة) و (الجوهر) و (العرض)) ([421]). فإن هذه الألفاظ يدخلون في مسماها الذي ينفونه أموراً مما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله، فيدخلون فيها نفي علمه وقدرته وكلامه، ويقولون إن القرآن مخلوق، ولم يتكلم الله به، وينفون رؤيته لأن رؤيته على اصطلاحهم لا تكون إلا لمتحيز في جهة وهو جسم، ثم يقولون: والله منزه عن ذلك فلا تجوز رؤيته. وكذلك يقولون إن المتكلم لا يكون إلا جسماً متحيزاً، والله ليس بجسم متحيز فلا يكون متكلماً، ويقولون: لو كان فوق العرش لكان جسماً متحيزاً، والله ليس بجسم متحيز، فلا يكون متكلماً فوق العرش وأمثال ذلك) ([422]).
الموقف من هذا النوع:
(إذا كانت هذه الألفاظ مجملة -كما ذُكر-فالمخاطب لهم إما:
1ـ أن يفصل لهم ويقول: ما تريدون بهذه الألفاظ؟
فإن فسروها بالمعنى الذي يوافق القرآن قُبلت. وإن فسروها بخلاف ذلك رُدَّت.
2ـ وإما أن يمتنع عن موافقتهم في التكلم بهذه الألفاظ نفياً وإثباتاً. ولكن يلاحظ أن الإنسان إذا امتنع عن التكلم بها معهم فقد ينسبونه إلى الجهل والانقطاع.
وأن الإنسان إذا تكلم بها معهم نسبوه إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقاً وباطلاً، وأوهموا الجهال باصطلاحهم أن إطلاق تلك الألفاظ يتناول المعاني الباطلة التي ينزه الله عنها.
ولعل الراجح في المسألة أن الأمر يختلف باختلاف المصلحة.
1ـ فإن كان الخصم في مقام دعوة الناس إلى قوله وإلزام الناس بها أمكن أن يقال له: لا يجب على أحد أن يجيب داعياً إلا إلى ما دعا اليه رسول الله e، فما لم يثبت أن الرسول دعا الخلق إليه لم يكن على الناس إجابة من دعا إليه، ولا له دعوة الناس إلى ذلك، ولو قدر أن ذلك المعنى حق.
وهذه الطريق تكون أصلح إذا لبس ملبس منهم على ولاة الأمور، وأدخلوه في بدعتهم، كما فعلت الجهمية بمن لبسوا عليه من الخلفاء حتى أدخلوه في بدعتهم من القول بخلق القرآن وغير ذلك، فكان من أحسن مناظرتهم أن يقال: إئتونا بكتاب أو سنة حتى نجيبكم إلى ذلك وإلا فلسنا نجيبكم إلى ما لم يدل عليه الكتاب و السنة.
وهذا لأن الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزل من السماء، وإذا ردوا إلى عقولهم فلكل واحد منهم عقل، وهؤلاء المختلفون يدعي أحدهم أن العقل أدَّاه إلى علم ضروري ينازعه فيه الآخر، فلهذا لا يجوز أن يجعل الحاكم بين الأمة في موارد النزاع إلا الكتاب والسنة.
وبهذا ناظر الإمام أحمد الجهمية لما دعوه إلى المحنة، وصار يطالبهم بدلالة الكتاب والسنة على قولهم.
فلما ذكروا حججهم كقوله تعالى {خالق كل شيء} [الأنعام 102]، وقوله {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} [الأنبياء 2]، وقول النبي e: ((تجيء البقرة وآل عمران"، وأمثال ذلك من الأحاديث.
أجابهم عن هذه الحجج بما بين به أنها لا تدل على مطلوبهم.
ولما قالوا: ما تقول في القرآن أهو الله أو غير الله؟
عارضهم بالعلم فقال: ما تقولون في العلم أهو الله أو غير الله؟
ولما ناظره أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث -وكان من أحذقهم بالكلام-ألزمه التجسيم، وأنه إذا أثبت لله كلاماً غير مخلوق لزم أن يكون جسماً.
فأجابه الإمام أحمد: بأن هذا اللفظ لا يُدرى مقصود المتكلم به، وليس له أصل في الكتاب والسنة والاجماع، فليس لأحد أن يلزم الناس أن ينطقوا به ولا بمدلوله.
وأخبره أني أقول: هو أحد، صمد، لم يلد ولم يلد، ولم يكن له كفواً أحد، فبين أني لا أقول هو جسم ولا ليس بجسم، لأن كلا الأمرين بدعة محدثة في الاسلام، فليست هذه من الحجج الشرعية التي يجب على الناس إجابة من دعا إلى موجبها، فإن الناس إنما عليهم إجابة الرسول فيما دعاهم إليه وإجابة من دعاهم إليه رسول الله e، لا إجابة من دعاهم إلى قول مبتدع، ومقصود المتكلم بها مجمل لا يُعرف إلا بعد الاستفصال والاستفسار، فلا هي معروفة في الشرع، ولا معروفة بالعقل إن لم يستفسر المتكلم بها.
فهذه المناظرة ونحوها هي التي تصلح إذا كان المناظر داعياً.
2ـ وأما إذا كان المناظر معارضاً للشرع بما يذكره، أو ممن لا يمكن أن يرد إلى الشريعة.
مثل من لا يلتزم الاسلام ويدعو الناس إلى ما يزعمه من العقليات أو ممن يدَّعي أن الشرع خاطب الجمهور، وأن المعقول الصريح يدل على باطن يخالف الشرع، ونحو ذلك.
أو كان الرجل ممن عرضت له شبهة من كلام هؤلاء.
فهؤلاء لابد في مخاطبتهم من الكلام على المعاني التي يدّعونها إما:
1ـ بألفاظهم.
2ـ وإما بألفاظ يوافقون على أنها تقوم مقام ألفاظهم، وحينئذ يقال لهم الكلام إما:
أ-أن يكون في الألفاظ.
ب-وإما أن يكون في المعاني.
جـ-وإما أن يكون فيهما.
فإن كان الكلام في المعاني المجردة من غير تقييد بلفظ كما تسلكه المتفلسفة ونحوهم ممن لا يتقيد في أسماء الله وصفاته بالشرائع بل يسميه علة وعاشقاً ومعشوقاً ونحو ذلك.
فهؤلاء إن أمكن نقل معانيهم إلى العبارة الشرعية كان حسناً.
وإن لم يمكن مخاطبتهم إلا بلغتهم، فبيان ضلالهم ودفع صيالهم عن الإسلام بلغتهم أولى من الإمساك عن ذلك لأجل مجرد اللفظ. كما لو جاء جيش كفار ولا يمكن دفع شرهم عن المسلمين إلا بلبس ثيابهم، فدفعهم بلبس ثيابهم خير من ترك الكفار يجولون في خلال الديار خوفاً من التشبه بهم في الثياب.
وأما إذا كان الكلام مع من قد يتقيد بالشريعة.
فإنه يقال له: إطلاق هذه الألفاظ نفياً وإثباتاً بدعة، وفي كل منها تلبيس وإيهام، فلابد من الاستفسار والاستفصال. أو الامتناع عن إطلاق كلا الأمرين في النفي والإثبات.
وقد ظن طائفة من الناس أن ذم السلف والأئمة للكلام إنما لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المحدثة كلفظ (الجوهر) و (الجسم) و (العرض)، وقالوا: إن مثل هذا لا يقتضي الذم، كما لو أحدث الناس آنية يحتاجون إليها، أو سلاحاً يحتاجون إليه لمقاتلة العدو، وقد ذكر هذا صاحب الإحياء وغيره.
وليس الأمر كذلك: بل ذمهم للكلام لفساد معناه أعظم من ذمهم لحدوث الألفاظ، فذموه لاشتماله على معان باطلة مخالفة للكتاب والسنة، ومخالفته للعقل الصريح، ولكن علامة بطلانها مخالفتها للكتاب والسنة، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل قطعاً. ثم من الناس من يعلم بطلانه بعقله، ومنهم من لا يعلم ذلك.
وأيضاً: فإن المناظرة بالألفاظ المحدثة المجملة المبتدعة المحتملة للحق والباطل إذا أثبتها أحد المتناظرين ونفاها الآخر كان كلاهما مخطئاً، وأكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، وفي ذلك من فساد العقل والدين ما لا يعلمه إلا الله.
فإذا رد الناس ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة فالمعاني الصحيحة ثابتة فيهما، والمحق يمكنه بيان ما يقوله من الحق بالكتاب والسنة) ([423]).
المطلب الثاني: مســألـة الحـــد ([424])
(الحد في اللغة: الحاجز بين الشيئين، الذي يُمَيِزُ بينهما، لئلا يختلط أحدهما بالآخر، أو لئلا يتعدى أحدهما على الآخر، وهو مأخوذ من حد الشيء عن غيره يَحُدُهُ حَدًّا إذا ميزه) ([425]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الحد ما يتميز به الشيء عن غيره من صفته وقدره) ([426]).
سبق أن أسلفنا أن إطلاق السلف للحد ليس من باب الصفات وإنما هو من باب الإخبار ولهم فيه استعمالان:
الاستعمال الأول: في حال الإثبات.
ومن الآثار الواردة في ذلك ما رواه الخلال بسنده عن محمد بن إبراهيم القيسي، قال: (قلت لأحمد بن حنبل: يحكى عن ابن المبارك، وقيل له: كيف نعرف ربنا؟ قال: في السماء السابعة على عرشه بحد. فقال أحمد: هكذا هو عندنا) ([427]).
وعن حرب بن إسماعيل قال: (قلت لإسحاق -يعني ابن راهويه-: هو على العرش بحد؟ قال: نعم بحد).
وذكر عن ابن المبارك قال: (هو على عرشه بائن من خلقه بحد) ([428]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن كثيراً من أئمة السنة والحديث ([429]) أو أكثرهم يقولون إنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه بحد) ([430]).
الاستعمال الثاني: في حال النفي.
قال حنبل: (قلت لأبي عبد الله: ما معنى قوله {وهو معكم}، و{ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم}؟ قال: علمه محيط بالكل، وربنا على العرش بلا حد ولا صفة) ([431]).
وفي رسالة الإصطخري قال الإمام أحمد: (والله عز وجل على عرشه ليس له حد، والله أعلم بحده) ([432]).
"توضيح المسألة "
أما الاستعمال الأول: فهو استعماله في حال الإثبات فقد استعمل في مسألة إثبات علو الله على خلقه وتميزه وانفصاله عنهم وعدم اختلاطه بهم أو حلوله فيهم، فلما زعم الجهمية أن الخالق في كل مكان وأنه غير مباين لخلقه ولا متميز عنهم، قال بعض أئمة السلف: إن الله سبحانه عالٍ على خلقه، مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، وذكروا الحد، لأن الجهمية زعموا أنه ليس له حد وما لا حد له لا يباين المخلوقات ولا يكون فوق العالم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولما كان الجهمية يقولون ما مضمونه إن الخالق لا يتميز عن الخلق فيجحدون صفاته التي تميز بها، ويجحدون قَدْرَهُ؛ حتى يقول المعتزلة إذا عرفوا أنه حي، عالم، قدير، قد عرفنا حقيقته وماهيته، ويقولون إنه لا يباين غيره. بل إما أن يصفوه بصفة المعدوم؛ فيقولوا: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا كذا ولا كذا. أو يجعلوه حالاً في المخلوقات أو وجوده وجود المخلوقات.
فبين ابن المبارك أن الرب سبحانه وتعالى على عرشه مباين لخلقه منفصل عنه، وذكر الحد. لأن الجهمية كانوا يقولون ليس له حد، وما لا حد له لا يباين المخلوقات ولا يكون فوق العالم لأن ذلك مستلزم للحد) ([433]).
وبناءً على ما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية فقد أثبت السلف الحد لما في إثبات هذا اللفظ من رد على الجهمية فيما زعموا، ولما في معنى (الحد) من إثبات مباينة الله لخلقه، وعلوه عليهم، واستوائه على عرشه.
وإن كان السلف يقولون إنه حد لا يعلمه إلا الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن نقل الآثار الواردة عن السلف في إثبات الحد: (فهذا وأمثاله مما نقل عن الأئمة، كما قد بسط في غير هذا الموضع، وبينوا أن ما أثبتوه له من الحد لا يعلمه غيره، كما قال مالك وربيعة وغيرهما: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، فبين أن كيفية استوائه مجهولة للعباد، فلم ينفوا ثبوت ذلك في نفس الأمر، ولكن نفوا علم الخلق به، وكذلك مثل هذا في كلام عبد العزيز بن عبد الله بن الماجشون وغير واحد من السلف، والأئمة ينفون علم الخلق بقدره وكيفيته) ([434]).
الاستعمال الثاني: استعماله في حال النفي
وذلك في مسألة نفي الإحاطة بالله علماً وإدراكاً، فلا منازعة بين أهل السنة بأن الله تعالى غير مدرك الإحاطة والخلق عاجزون عن الإحاطة به، فهم لا يستطيعون أن يحدوا الخالق جل وعلا، أو يُقَدِرُوه، أو يبلغوا صفته، فمن نفى الحد على هذا المعنى فهو مصيب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (المحفوظ عن السلف والأئمة إثبات حد لله في نفسه، وقد بينوا مع ذلك أن العباد لا يحدونه ولا يدركونه، ولهذا لم يتناف كلامهم في ذلك كما يظنه بعض الناس، فإنهم نفو أن يَحُد أحدٌ الله) ([435]).
وقال أيضاً: ((وقوله بلا حد ولا صفة)) نَفَى به إحاطة علم الخلق به، وأن يحدوه أو يصفوه على ما هو عليه، إلا بما أخبر عن نفسه، ليبين أن عقول الخلق لا تحيط بصفاته، كما قال الشافعي في خطبة "الرسالة": ((الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه)) ([436]) ولهذا قال أحمد: ((لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية)) فنفى أن يدرك له حد أو غاية) ([437]).
وهذا المحفوظ عن السلف والأئمة من إثبات حد لله في نفسه قد بينوا مع ذلك أن العباد لا يحدونه ولا يدركونه؛ ولهذا لم يتناف كلامهم في ذلك كما يظنه بعض الناس، فإنهم نفوا أن يحد أحد الله كما ذكره حنبل عنه في كتاب السنة والمحنة، وقد رواه الخلال في "كتاب السنة" أخبرني عبد الله بن حنبل حدثني حنبل بن إسحاق، قال: قال عمي: (نحن نؤمن بالله عز وجل على عرشه كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد، فصفات الله عز وجل منه وله، وهو كما وصف نفسه، لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية، وهو يدرك الأبصار، وهو عالم الغيب والشهادة، علام الغيوب، ولا يدركه وصف واصف، وهو كما وصف نفسه، وليس من الله شيء محدود، ولا يبلغ علمه وقدرته أحد، غلب الأشياء كلها بعلمه وقدرته وسلطانه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وكان الله قبل أن يكون شيء، والله الأول، وهو الآخر، ولا يبلغ أحد حد صفاته، فالتسليم لأمر الله والرضا بقضائه، نسأل الله التوفيق والسداد، إنه على كل شيء قدير.
وذلك أن لفظ (الحد) عند كل من تكلم به يراد به شيئان:
يراد به حقيقة الشيء في نفسه
ويراد به الوجود العيني أو الوجود الذهني
فأخبر أبو عبد الله أنه على العرش بلا حد يحده أحد أو صفة يبلغها واصف، وأتبع ذلك بقوله {لا تدركه الأبصار} بحد ولا غاية، وهذا التفسير الصحيح للإدراك: أي لا تحيط الأبصار بحده ولا غايته؛ ثم قال: {وهو يدرك الأبصار} وهو عالم الغيب والشهادة، علام الغيوب، ليتبين أنه عالم بنفسه وبكل شيء.
وقال الخلال: (وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم، قال: سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى ((أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا)) و ((أن الله يضع قدمه)) وما أشبه هذه الأحاديث، فقال أبو عبد الله: نؤمن بها، ونصدق بها ولا كيف، ولا معنى، ولا نرد منها شيئاً، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق إذا كانت بأسانيد صحاح، ولا نرد على الله قوله، ولا يوصف بأكثر مما وصف به نفسه ولا حد ولا غاية، ليس كمثله شيء، قال: وقال حنبل في موضع آخر قال: ليس كمثله شيء في ذاته، كما وصف به نفسه، فقد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه فحد لنفسه صفة، ليس يشبهه شيء، فيعبد الله بصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف نفسه، قال تعالى {وهو السميع البصير}.
قال: وقال حنبل في موضع آخر: قال: فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير، ولا يبلغ الواصفون صفته، وصفاته منه وله، ولا يتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصفه كما وصف نفسه، ولا يتعدى ذلك، ولا تبلغه صفة الواصفين، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت، وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوه بعبده يوم القيامة ووضعه كنفه عليه، هذا كله يدل على أن الله يرى في الآخرة، والتحديد في هذا بدعة، والتسليم لله بأمره بغير صفة ولا حد إلا ما وصف به نفسه، سميع بصير، لم يزل متكلماً، عالماً غفوراً، عالم الغيب والشهادة، علام الغيوب، فهذه صفات وصف بها نفسه لا تدفع ولا ترد، وهو على العرش بلا حد، كما قال {ثم استوى على العرش} كيف شاء، المشيئة إليه عز وجل، والاستطاعة له {ليس كمثله شيء} وهو خالق كل شيء، وهو كما وصف نفسه، سميع بصير بلا حد ولا تقدير، قول إبراهيم لأبيه {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر} فثبت أن الله سميع بصير صفاته منه، لا تعدى القرآن والحديث والخبر، يضحك الله ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول e وتثبيت القرآن، ولا يصفه الواصفون، ولا يحده أحد، تعالى الله عما يقول الجهمية والمشبهة) ([438]).
قال ابن القيم: (أراد أحمـد بنفي الصفة نفي الكيفية والتشبيه، وبنفي الحد حد يدركه العباد ويحدونه) ([439]).
المطلب الثالث: مسألة المماسة ([440])
لهذا اللفظ في كلام الأئمة موقفان:
1ـ استعملوه على سبيل النفي في مسائل العلو
2ـ منعوه على سبيل الإثبات في مسائل الاستواء
أما الأول: فقد ورد في كلام الأئمة استعمال كلمة (مماسة) في باب النفي، ومن ذلك قول الإمام أحمد رحمه الله: (إن الله عز وجل على عرشه فوق السماء السابعة، يعلم ما تحت الأرض السفلى، وإنه غير مماس لشيء من خلقه، وهو تبارك وتعالى بائن من خلقه، وخلقه بائنون منه) ([441]).
وهذا الكلام ذكره الإمام أحمد في معرض تقرير علو الله على خلقه وأنه بائن من خلقه والخلق بائنون منه وأنه ليس بذاته في كل مكان كما هو زعم الجهمية، فمن المتقرر في عقيدة السلف الصالح إثبات علو الله تعالى على خلقه وأنه بائن منهم وليس بمماس لهم ولا محايث.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فإن الذين نقلوا إجماع السلف أو إجماع أهل السنة أو إجماع الصحابة والتابعين على أن الله فوق العرش بائن من خلقه لا يحصيهم إلا الله، وما زال علماء السلف يثبتون المباينة ويردون قول الجهمية بنفيها) ([442]).
ومن المعلوم أن طوائف المعطلة من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من متأخري الأشاعرة والماتريدية ينكرون المباينة بالجهة.
فبعضهم ينفي المباينة والمحايثة، فيقولون: لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوقه، ولا تحته، ولا مباين له، ولا محايث له. وهؤلاء هم نظارهم.
وبعضهم يثبت المحايثة فيقولون: إنه بذاته في كل مكان، وهذا قول طوائف من علمائهم وعبادهم.
والاتحادية من المعطلة قالوا إنه نفس وجود الأمكنة ([443]).
ورداً على مزاعم هؤلاء الباطلة أطلق من أطلق من علماء السلف لفظ المباينة وعدم المماسة تقريراً منهم لإثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه ومباينته من خلقه.
وقد افترق الناس في هذا المقام أربع فرق:
القسم الأول: الجهمية النفاة، الذين يقولون: ليس داخل العالم، ولا خارج العالم، ولا فوق ولا تحت، ولا يقولون بعلوه ولا بفوقيته.
القسم الثاني: يقولون إنه بذاته في كل مكان، كما يقولوه النجارية، وكثير من الجهمية، عبادهم، وصوفيتهم، وعوامهم.
القسم الثالث: من يقول هو فوق العرش وهو في كل مكان، ويقول أنا أقر بهذه النصوص، وهذه لا أصرف واحداً منها عن ظاهره.
وهذا قول طوائف ذكرهم الأشعري في مقالاته وهو موجود في كلام طائفة من السالمية والصوفية.
القسم الرابع: وهم سلف الأمة وأئمتها، أئمة العلم والدين من شيوخ العلم والعبادة، فإنهم أثبتوا أن الله فوق سمواته وأنه على عرشه بائن من خلقه وهم منه بائنون، وهو أيضاً مع العباد عموماً بعلمه، ومع أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد والكفاية وهو أيضاً قريب مجيب) ([444]).
ومن تقرير فهم السلف استعمل من استعمل من العلماء لفظ (المماسة) ليثبتوا أن الله بائن من الخلق وهم منه بائنون.
الموقف الثاني:
منعهم لاستعمال لفظ (المماسة) في مسألة الاستواء على العرش، وذلك رداً على الكرامية الذين خاضوا في شأن الكيفية وتعمقوا فيها.
وفي هذا يقول السجزي (واعتقاد أهل الحق أن الله سبحانه فوق العرش بذاته من غير مماسة، وأن الكرامية ومن تابعهم على قول المماسة ضُلال) ([445]).
وقال قوام السنة الأصبهاني: (قال أهل السنة: خلق الله السموات والأرض، وكان عرشه على الماء مخلوقاً قبل خلق السموات والأرض ثم استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض وليس معناه المماسة، بل هو مستو على العرش بلا كيف كما أخبر عن نفسه) ([446]).
وقال الإمام أبو القاسم عبد الله بن خلف المقري: (إن الله تعالى في السماء على العرش فوق سبع سموات من غير مماسة ولا تكييف) ([447]).
وقال الإمام سعد بن علي الزنجاني: (ليس معنى استواء الله على عرشه بأنه مستول عليه، ولا معناه بأنه مماس للعرش، فإن ذلك ممتنع في وصفه جل وعلا، ولكنه تعالى مستو على عرشه بلا كيف كما أخبر بذلك عن نفسه) ([448]).
فهذه النصوص تدل دلالة واضحة أن السبب في منع استعمال هذا اللفظ لما فيه من التعمق في شأن الكيفية، ومن عادة السلف أنهم عند تقريرهم لصفة الاستواء ولسائر الصفات لا يتعمقون في شأن الكيفية ويكلون علم ذلك لله عز وجل، وسأورد لك بعض النقول التي توضح مدى التزام السلف بالتقييد بهذا الضابط في تقريرهم لصفة الاستواء فمن ذلك:
1ـ ما جاء في عقيدة أبي حاتم وأبي زرعة الرازيين وفيها (أن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه بلا كيف) ([449]).
2ـ قول الطلمنكي (وأن الله تعالى فوق السموات بذاته مستو على عرشه كيف شاء) ([450]).
وبناءً على ما تقدم من أقوال الأئمة يتضح حرص السلف على عدم الخوض في شأن الكيفية، وبذلك منعوا استعمال لفظ (المماسة) في هذه المسألة لهذا السبب.
الباب الثالث العرش وما يتعلق به من مسائل
وفيه أربعة فصول
الفصل الأول: تعريف العرش.
الفصل الثاني: الأدلة على إثبات العرش من الكتاب والسنة.
الفصل الثالث: صفة العرش وخصائصه.
الفصل الرابع: الكلام على حملة العرش والكرسي.
الفصل الأول تعريف العرش
وفيه مبحثان
المبحث الأول: المعنى اللغوي لكلمة العرش.
المبحث الثاني: المذاهب في تعريف العرش.
المبحث الأول: المعنى اللغوي لكلمة العرش.
قال ابن فارس: ("عرش" العين، والراء، والشين أصل صحيح واحد، يدل على ارتفاع في شيء مبني، ثم يستعار في غير ذلك) ([451]).
والعرش في كلام العرب يطلق على عدة معاني:
1-سرير الملك:
قال الخليل: (العرش: السرير للملك) ([452]).
وقال الأزهري: (والعرش في كلام العرب: سرير الملك، يدلك على ذلك سرير ملكة سبأ، سماه الله جل وعز عرشاً فقال {إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم} [النمل 23]) ([453]).
2-سقف البيت:
قال الخليل والجوهري: (عرش البيت: سقفه) ([454]).
وقال الزبيدي: (والعرش من البيت سقفه ومنه الحديث ((أو كالقنديل المعلق بالعرش)) يعني: السقف، وفي حديث آخر: ))كنت أسمع قراءة رسول الله e على عرشي)) أي: سقف بيتي، وبه فسر قوله تعالى {وهي خاوية على عروشها} [البقرة 259]، أي: صارت على سقوفها كما قال عز من قائل: {فجعلنا عاليها سافلها} [الحجر 74]، أراد أن حيطانها قائمة وقد تهدمت سقوفها فصارت في قرارها وانقعرت الحيطان من قواعدها فتساقطت على السقوف المتهدمة قبلها، ومعنى الخاوية والمنقعرة واحد وهي المنقلعة من أصولها) ([455]).
3-ركن الشيء:
قال الزبيدي: (والعرش ركن الشيء، قاله الزجاج والكسائي، وبه فسر قوله تعالى {وهي خاوية على عروشها}، أي وخرت على أركانها) ([456]).
4-الملك:
قال الأزهري: (قال: والعرش الملك، يقال: ثل عرشه، أي زال ملكه وعزه.
قال زهير:
تداركتما الأحلاف قد ثل عرشها | وذبيان إذ زلت بأقدامها النعل) ([457]). |
قال الزبيدي: (قال ابن الأعرابي: العرش الملك، بضم الميم، وهو كناية ...) ([458]).
5-قوام أمر الرجل:
قال ابن فارس: (استعيرت كلمة عرش هنا، فقيل لأمر الرجل وقوامه: عرش، وإذا زال عنه ذلك، قيل: ثل عرشه.
قال زهير:
تداركتما الأحلاف قد ثل عرشها | وذبيان إذ زلت بأقدامها النعل) ([459]). |
قال الزبيدي: (قولهم: ثل عرشه أي: عدم ما هو عليه من قوام أمره، وقيل: وهي أمره، وقيل: ذهب عزه، ومنه حديث عمر رضي الله عنه أنه رُئي في المنام، فقيل له: ما فعل بك ربك؟ قال: لولا أن تداركني لثل عرشي) ([460]).
6-عرش السماك:
قال ابن فارس: (ويقال: أن عرش السماك، أربعة كواكب، أسفل من العواء على صورة النعش، ويقال: هي عجز الأسد، قال ابن أحمر:
باتت عليه ليلة عرشية | شربت وبات إلى نقا متهدم ([461]). |
7-عرش البئر:
قال الأزهري: (وقال أبو عبيد: قال أبو زيد: بئر معروشة، وهي التي تطوى قدر قامة من أسفلها بالحجارة ثم يطوى سائرها بالخشب وحده، فذلك الخشب هو العرش، يقال منه: عرشت البئر، أعرشها، فإذا كانت كلها بالحجارة فهي مطوية وليست بمعروشة.
وقال غيره: المثاب: مقام الساقي فوق العروش، ومنه قول الشاعر:
وما لم ثابات العــروش بقية | إذا استل من تحت العروش الدعائم |
وقال ابن الأعرابي: العرش بناء فوق البئر يقوم عليه الساقي، وأنشد -أكل يوم عرشها مقيل-) ([462]).
8-عرش القدم:
قال الخليل: (العرش في القدم، ما بين الحمار والأصابع من ظهر القدم، والحمار: المرتفع من ظهر القدم، وجمعه: عرشه وأعراش) ([463]).
وقال ابن الأعرابي: (ظهر القدم: العرش، وباطنه: الأخمص) ([464]).
قلت: ومن المعلوم أن معرفة كل معنى من تلك المعاني إنما يتحدد بحسب ما أضيف إلى الكلمة، والمعنى المقصود في عرش الرحمن من تلك المعاني السابقة، هو سرير الملك، ذلك لأن النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة قد جاءت معينة لهذا المعنى وحده دون غيره من المعاني، وهذا ما سيأتي بيانه.
أما زعم الجهمية بأن معنى العرش في قوله تعالى {الرحمن على العرش استوى} [طه 5]، يحتمل عدة معاني، فلا يعرف أي هذه المعاني هو المراد؟
فقد أجاب عنه ابن القيم بقوله: (هذا تلبيس منك على الجهال، وكذب ظاهر، فإنه ليس لعرش الرحمن الذي استوى عليه إلا معنى واحد، وإن كان للعرش من حيث الجملة عدة معانٍ، فاللام للعهد وقد صار بها العرش معيناً، وهو عرش الرب تعالى الذي هو سرير ملكه، التي اتفقت عليه الرسل، وأقرت به الأمم، إلا من نابذ الرسل ...) ([465]).
المبحث الثاني:المذاهب في تعريف العرش.
أولاً: مذهب السلف:
قال الطبري عند قوله تعالى: {وترى الملائكة حافين من حول العرش} [الزمر 75] (يعني بالعرش: السرير)، ثم ذكر بسنده عن السدي في تفسير هذه الآية قوله: (محدقين حول العرش قال: العرش: السرير) ([466]).
وقال الطبري في موضع آخر {ذو العرش} [غافر 15] يقول: (ذو السرير المحيط بما دونه) ([467]).
وقال البيهقي: (وأقاويل أهل التفسير على أن العرش هو السرير وأنه جسم مجسم خلقه الله وأمر ملائكته بحمله وتعبدهم بتعظيمه والطواف به كما خلق في الأرض بيتاً وأمر بني آدم بالطواف به واستقباله في الصلاة، وفي الآيات والأحاديث والأثار دلالة واضحة على ما ذهبوا إليه) ([468]).
وقال أيضاً: (العرش هو السرير المشهور فيما بين العقلاء) ([469]).
وقال ابن كثير: (هو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة وهو كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات) ([470]).
وقال الذهبي -بعد أن ذكر سرر أهل الجنة-: (فما الظن بالعرش العظيم الذي اتخذه العلي العظيم لنفسه في ارتفاعه وسعته، وقوائمه وماهيته وحملته، والكروبيين الحافين من حوله، وحسنه ورونقه وقيمته، فقد ورد أنه من ياقوتة حمراء) ([471]).
قلت: وهذا الذي ذكره الطبري والبيهقي وابن كثير والذهبي في تعريف العرش، هو الذي جاءت به الآيات والأحاديث والآثار، وهو ما ذهب إليه سلف الأمة وأئمتها في عرش الله، فهم يعتقدون أن عرش الرحمن هو:
¯ سرير:
قال ابن قتيبة: (وطلبوا للعرش معنى غير السرير، والعلماء في اللغة لا يعرفون للعرش معنى إلا السرير، وما عرش من السقوف وأشباهها، قال أمية بن أبي الصلت:
مجـدوا الله وهو للمجد أهــل | ربنــا في السماء أمسى كبيرا |
بالبناء الأعلى الذي سبق النـــ | ــاس وسوى فوق السماء سريرا |
شرجعــاً لا يناله بصـــر العيـــ | ـن ترى دونه الملائك صورا) ([472]) |
وقال ابن كثير: (العرش في اللغة عبارة عن السرير الذي للملك، كما قال تعالى {ولها عرش عظيم} [النمل 23]. وليس هو فلكاً ولا تفهم منه العرب ذلك، والقرآن إنما نزل بلغة العرب، فهو سرير ذو قوائم ...) ([473]).
¯ وأنه ذو قوائم:
قال شارح الطحاوية: (قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة، كما قال e: ((فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور)) ([474])). ([475]).
¯ وأنه مخلوق:
قال الحافظ ابن حجر: (قوله {وهو رب العرش العظيم} [التوبة 129]، إشارة إلى أن العرش مربوب، وكل مربوب مخلوق ... وفي إثبات القوائم للعرش دلالة على أنه جسم مركب له أبعاض وأجزاء، والجسم المؤلف محدث مخلوق) ([476]).
¯ وأن الله سبحانه قد أمر ملائكته بحمله وتعبدهم بتعظيمه:
قال تعالى: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم} [غافر 7]، وقال تعالى {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية} [الحاقة 17].
وعن جابر بن عبد الله عن النبي e أنه قال: ((أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)) ([477]).
¯ وهو أعلى المخلوقات، وأعظمها، وسقفها، وهو كالقبة على العالم وما تحته بالنسبة إليه كحلقة في فلاة:
قال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زمنين في كتابه "أصول السنة": (ومن قول أهل السنة أن الله عز وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق ...) ([478]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (واما العرش فإنه مقبب، لما روي في السنن لأبي داود عن جبير بن مطعم قال: ((أتى رسول الله e أعرابي فقال: يا رسول جهدت الأنفس، وجاع العيال -وذكر الحديث إلى أن قال رسول الله e -: إن الله على عرشه وإن عرشه على سمواته وأرضه كهكذا)) ([479]) وقال بأصابعه مثل القبة ... وفي علوه قوله e: ((إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة وأعلاها وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة" ([480]).
فقد تبين بهذه الأحاديث أنه أعلى المخلوقات، وسقفها، وأنه مقبب ...) ([481]).
وفي حديث أبي ذر المشهور قال: قلت يا رسول الله أيما أنزل عليك أعظم؟ قال: ((آية الكرسي، ثم قال: يا أبا ذر ما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة" ([482]).
وهذا القول للسلف في عرش الله هو ما جاءت به الآيات والأحاديث الصحيحة، وقد كان سلف الأمة وأئمتها دائماً يصرحون بذلك في كتبهم عند الحديث عن هذه المسألة.
وقد وافقهم في هذا القول في عرش الله الكلابية، والكرامية، ومتقدمو الأشاعرة، وبعض الجهمية، والمعتزلة ([483]).
ثانياً: أقوال المخالفين
القول الأول:
ما زعمه طائفة من الجهمية، والمعتزلة، والماتريدية ([484])، وعامة متأخري الأشاعرة ([485])، من أن معنى العرش في قوله تعالى {الرحمن على العرش استوى}، هو الملك.
قال الدارمي في كتابه "الرد على الجهمية": (باب الإيمان بالعرش وهو أحد ما أنكرته المعطلة. فادعت هذه العصابة أنهم يؤمنون بالعرش ويقرون به، فقلت لبعضهم: ما إيمانكم به إلا كإيمان {الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم} [المائدة 41]، وكالذين {إذا لقوا الذين ءامنوا قالوا آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون} [البقرة 14]، أتقرون أن لله عرشاً معلوماً، موصوفاً فوق السماء السابعة، تحمله الملائكة، والله فوقه كما وصف نفسه، بائن من خلقه! فأبى أن يقر به كذلك، وتردد في الجواب وخلط ولم يصرح.
قال أبو سعيد: فقال لي زعيم منهم كبير: لا، ولكن لما خلق الله الخلق يعني السموات والأرض وما فيهن سمى ذلك كله عرشاً له، واستوى على جميع ذلك كله) ([486]).
وقال ابن تيمية -في سياق كلامه على حملة العرش-: (ثم إن قوله تعالى {الذين يحملون العرش ومن حوله} [غافر 7]، وقوله {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} [الحاقة 17]، يوجب أن لله عرشاً يحمل، يوجب أن ذلك العرش ليس هو الملك، كما تقوله طائفة من الجهمية) ([487]).
وقال الزمخشري: (إنه لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك مما يرادف الملك جعلوه كناية عن الملك، فقالو: استوى فلان على العرش يريدون ملك، وإن لم يقعد على السرير البتة، وقالوه أيضاً في شهرته في ذلك المعنى ومساواته ملك في مؤداه، وإن كان أشرح، وأبسط، وأدل، على صورة الأمر) ([488]).
وقال البغدادي: (والصحيح عندنا تأويل العرش في هذه الآية على معنى الملك، كأنه أراد أن الملك ما استوى لأحد غيره، وهذا التأويل مأخوذ من قول العرب: ثُلَ عرش فلان، إذا ذهب ملكه، قال متمم بن نويرة في هذا المعنى:
عروشٌ تفانوا بعد عز وأمة | هووا بعد ما نالوا السلامة والبقا |
وأراد بالعروش، ملوكاً انقرضوا.
وقال سعيد بن زائدة الخزاعي في النعمان بن المنذر:
قد نال عرشاً لم ينله حائل | جـن ولا إنــس ولا ديـــار |
وأراد بالعرش، الملك والسلطان.
وقال النابغة:
بعد ابن جفنة وابن هاتك عرشه | والحـارثـيـن يـؤمـنـون فـلاحــا |
وأراد بهاتك عرش ابن جفنة سالب ملكه، فصح بهذا تأويل العرش على الملك في آية الاستواء على ما بيناه) ([489]).
الرد عليهم:
ما ذهب إليه هؤلاء المخالفون من تفسير معنى العرش الوارد في الآيات بمعنى الملك، إنما هو تأويل باطلٌ، وصرف للفظ عن معناه إلى معنى آخر لا يحتمله.
والمتأمل لهذا القول يرى ما فيه من التلبيس والمخالفة.
فقد سبق أن ذكرنا في المبحث اللغوي لكلمة (عرش)، أن لهذه الكلمة عدة معاني في اللغة العربية، ومن المعلوم أن معرفة المعنى المراد من تلك المعاني لهذه الكلمة أو غيرها، إنما يتحدد بحسب سياق الكلمة وبحسب ما أضيفت إليه، وليس في سياق الآيات ما يثبت صحة ما ذهبوا إليه، كما أن ما استدل به هؤلاء المخالفون من الأبيات الشعرية ليس إلا دليلا على أن الملك هو من المعاني اللغوية لكلمة (عرش)، وهذا أمر لا خلاف فيه، وهذا الاستدلال يماثل ما لو استدللنا على أن من معاني كلمة العرش: السقف، بقوله تعالى {وهي خاوية على عروشها} [البقرة 259]، فليس في هذه الأبيات أي إشارة لا من قريب ولا من بعيد على أن الملك هو المعنى المراد في الآيات الواردة في العرش، بل إن المتأمل للآيات والأحاديث الواردة في هذه المسألة يرى أنها تدل دلالة واضحة وصريحة على أن المراد بالعرش هو ذلك المخلوق العظيم الذي خلقه الله تعالى فوق العالم كله، ثم استوى عليه بعد أن خلق السموات والأرض، وكذلك ترد على هؤلاء المخالفين زعمهم الباطل الذي هو في الحقيقة تحريف لكلام الله.
فيا ترى ماذا يصنع ذلك المخالف الذي يزعم أن العرش إنما هو كناية عن الملك والسلطان بقوله تعالى {وكان عرشه على الماء} [هود 7]، هل يزعم أن الملك كان على الماء؟
وكذلك ماذا يصنع بقوله تعالى {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} [الحاقة 17]، أيقول: ويحمل ملكه يومئذ ثمانية؟
وقوله e: ((فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش" ([490]). أيقول آخذ بقائمة من قوائم الملك؟ وكذا قوله e: ((اهتز عرش الرحمن" ([491])، أيقول: اهتز ملكه وسلطانه؟
القول الثاني:
زعم طائفة من الفلاسفة أن العرش فلك مستدير من جميع الجوانب محيط بالعالم من كل جهة، وهو محدود الجهات، وربما سموه الفلك الأطلس، أو الفلك التاسع، أو الأثير، أو الفلك الأعلى ([492]).
وفي ذلك يقول ابن سينا في رسالته " إثبات النبوات وتأويل رموزهم وأمثالهم": (ومن السهل عليك أن تفهم كيف أن العرش بنص القرآن يحمله ثمانية، فهذه الثمانية هي: الثمانية أفلاك التي تحت هذا الفلك المحيط) ([493]).
الرد عليهم:
إن المتأمل لكلام هؤلاء الفلاسفة كابن سينا وأمثاله يرى مدى انحرافهم، حتى أنهم وصلوا إلى درجة اعتقادهم أنه لا موجود إلا ما علموه.
ولهذا كان هؤلاء الذين عرفوا ما عرفته الفلاسفة إذا سمعوا إخبار الأنبياء بالملائكة والعرش والكرسي والجنة والنار، صاروا حائرين ومتأولين لكلام الأنبياء على ما عرفوه وعلى ما تعلموه، وإن كان هذا التأويل لا دليل لهم عليه سوى ظنهم الفاسد بأنه لا موجود إلا ما عرفوه، فقالوا العرش هو: الفلك التاسع، والكرسي هو: الفلك الثامن، فنفوا ما ليس لهم به علم ([494]) فانطبق عليهم قوله تعالى {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله} [يونس 39].
وقد ثبت أنه ليس لهؤلاء دليل يتمسكون به لا من الشرع ولا من العقل، وأن الذي دفعهم إلى هذا القول هو أنهم نظروا في علم الهيئة وعلوم الفلسفة فرأوا أن الأفلاك تسعة، وأن التاسع وهو الأطلس محيط بها ومستدير كاستدارتها وهو الذي يحركها الحركة الشوقية، وأن لكل فلك حركة تخصه غير هذه الحركة العامة، ثم سمعوا في أخبار الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ذكر عرش الله، وذكر السموات السبع، فقالوا بطريق الظن أن العرش هو الفلك التاسع، لاعتقادهم أنه ليس وراء التاسع شيء، إما مطلقاً وإما أنه ليس وراءه مخلوق ([495]).
وهم معترفون بأنه لم يقم لديهم دليل عقلي على صحة قولهم هذا، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن أئمة الفلاسفة مصرحون بأنه لم يقم عندهم دليل على أن الأفلاك هي تسعة فقط، بل يجوز أن تكون أكثر من ذلك، ولكن دلتهم الحركات المختلفة والكسوفات ونحو ذلك على ما ذكروه، ومالم يكن لهم دليل على ثبوته فهم لا يعلمون ثبوته ولا انتفاءه.
مثال ذلك: أنهم علموا أن هذا الكوكب تحت هذا بأن السفلي يكسف العلوي من غير عكس، فاستدلوا بذلك على أنه من فلك فوقه، كما استدلوا بالحركات المختلفة على أن الأفلاك مختلفة حتى جعلوا في الفلك الواحد عدة أفلاك، كفلك التدوير وغيره، فأما ما كان موجوداً فوق هذا ولم يكن لهم ما يستدلون به على ثبوته، فهم لا يعلمون نفيه ولا إثباته بطريقهم ... وإذا كان هؤلاء ليس عندهم ما ينفي وجود شيء أخر فوق الأفلاك التسعة، كان الجزم بأن ما أخبرت به الرسل من أن العرش هو الفلك التاسع رجماً بالغيب وقولاً بلا علم) ([496]).
ومع عدم وجود الدليل العقلي عند هؤلاء على صحة زعمهم فكذلك الأدلة الشرعية ترد زعمهم هذا وتبطله.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض رده على هؤلاء الفلاسفة المتكلمين في رسالته العرشية أن الآيات والأحاديث قد دلت على أن العرش مباين لغيره من المخلوقات وأن الله قد اختصه وميزه بأمور كثيرة منها، أن له حملة يحملونه اليوم ويوم القيامة، وأن الله قد أخبر بوجوده قبل خلق السموات والأرض وقبل وجود الأفلاك وأن الله سبحانه تمدح نفسه بأنه ذو العرش، ووصف العرش بأنه مجيد، وعظيم، وكريم، فكل هذه الميزات والخصائص تبطل قول المنازع لأنه يقول بأن نسبة الفلك الأعلى إلى ما دونه كنسبة الآخر إلى ما دونه، ذلك لأنه لو كان العرش من جنس الأفلاك لكان إلى ما دونه كنسبة الآخر إلى ما دونه، وهذا لا يوجب خروجه عن الجنس وتخصيصه بالذكر ([497]).
كما أن مما يدل على فساد قولهم ما ثبت في الشرع من أن للعرش قوائم وأنه يهتز، ومعلوم أن الأفلاك مستديرة وليس لها قوائم، كما أنها متحركة دائماً بحركة متشابهة لا تتغير، كما ثبت أيضاً أن العرش أثقل الأوزان، وهم يقولون إن الفلك لا ثقيل ولا خفيف ([498]).
فعلم مما تقدم انتفاء الدليل العقلي عند هؤلاء كما علم مخالفتهم للأدلة الشرعية وإبطالها لأقوالهم، ويضاف إلى هذا مخالفتهم للغة العرب، فالعرب لا تفهم من كلمة العرش هذا المعنى ولا هو مستعمل في لغتها، والقرآن إنما نزل بما يفهمون.
وبعد هذا كله لا تبقى أدنى شبهة في فساد هذا القول وبطلانه والله أعلم.
الفصل الثاني الأدلة على إثبات العرش من الكتاب والسنة
وفيه مبحثان
المبحث الأول: الأدلة القرآنية على إثبات العرش.
المبحث الثاني: الأدلة من السنة على إثبات العرش.
المبحث الأول: الأدلة القرآنية على إثبات العرش.
لقد جاء ذكر عرش الرحمن في القرآن الكريم في واحد وعشرين موضعاً:
1-قال تعالى {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} [الأعراف 54]
2-وقال تعالى {فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم} [التوبة 129].
3-وقال تعالى {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون} [يونس 3].
4-وقال تعالى {وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام و كان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} [هود 7].
5-وقال تعالى {الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى} [الرعد 2].
6-وقال تعالى {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} [الإسراء 42].
7-وقال تعالى {الرحمن على العرش استوى} [طه 5].
8-وقال تعالى {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون} [الأنبياء 22].
9-وقال تعالى {قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم} [المؤمنون 86].
10-وقال تعالى {فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم} [المؤمنون 116].
11-وقال تعالى {الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا} [الفرقان 59].
12-وقال تعالى {الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم} [النمل 26].
13-وقال تعالى {الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش مالكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون} [السجدة 4].
14-وقال تعالى {وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} [الزمر 75].
15-وقال تعالى {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماُ فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم} [غافر 7].
16-وقال تعالى {رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق} [غافر 16].
17-وقال تعالى {سبحان رب السموات والأرض رب العرش عما يصفون} [الزخرف 82].
18-وقال تعالى {هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير} [الحديد 4].
19-وقال تعالى {والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} [الحاقة 17].
20-وقال تعالى {ذو قوة عن ذي العرش مكين} [التكوير 20].
21-وقال تعالى {ذو العرش المجيد} [البروج 15].
المبحث الثاني: الأدلة من السنة على إثبات العرش
أورد الذهبي -رحمه الله-في كتابه "العرش" جملة طيبة من الأحاديث والآثار الواردة في العرش وصفته، وفي هذا المبحث لن نذكر تلك الأحاديث والآثار التي أوردها لأنها ستأتي، وإنما سنورد ههنا بعض الأحاديث الصحيحة في العرش وصفته والتي لم يذكرها الذهبي في كتابه، وهذه الأحاديث كثيراً ما يوردها السلف في كتبهم ويستدلون بها لما فيها من الصحة والقوة ولما فيها من الصفات الدالة على عرش الخالق سبحانه وتعالى.
1-فقد جاء في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((بينا رسول الله e جالس، جاء يهودي فقال: يا أبا القاسم ضرب وجهي رجل من أصحابك، فقال: من؟ قال: رجل من الأنصار، قال: ادعوه، فقال: أضربته؟ فقال: سمعته بالسوق يحلف والذي اصطفى موسى على البشر، قلت: أي خبيث على محمد e، فأخذتني غضبة فضربت وجهه، فقال النبي e: لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان صعق أم حوسب بصعقته الأولى)) ([499]).
والشاهد لنا من هذا الحديث قوله: ((فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش))، حيث أن للعرش قوائم، ولم يرد في الشرع تحديد عدد لها، وهذا الحديث هو من أقوى الأدلة على أن العرش ليس المراد به الملك أو الفلك التاسع.
2-وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله e يقول: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء)) ([500]).
وفي الحديث دلالة واضحة على أن العرش كان مخلوقاً على الماء قبل خلق السموات.
3-وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي e يقول عن الكرب: ((لا إله إلا الله العليم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم" ([501]).
4-وعن ابن عباس عن جويرية أن النبي e خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: ((ما زلت على الحال التي فارقتك عليها))، قالت: نعم، قال النبي e: ((لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن، سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته)) ([502]).
قال ابن تيمية: (فهذا يبين أن زنة العرش أثقل الأوزان) ([503]).
5-وعن جابر بن عبد الله عن النبي e قال: ((أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام" ([504]).
6-وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي e قال: ((من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها، قالوا: يا رسول الله أفلا ننبئ الناس بذلك؟ قال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة)) ([505]).
7-وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله e: ((الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله)) ([506]).
8-وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله e لأبي ذر حين غربت الشمس: ((أتدري أين تذهب؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها: ارجعي من حيث جئتي فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى {والشمس تجري لمستقر لها، ذلك تقدير العزيز العليم})) ([507]).
9-وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله e: ((لما قضى الله الخلق كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي)) ([508]).
10-وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله e يقول: ((المتحابون في الله يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله)) ([509]).
الفصل الثالث صفة العرش وخصائصه
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: خلق العرش وهيئته.
المبحث الثاني: مكان العرش.
المبحث الثالث: خصائص العرش
المبحث الأول: خلق العرش وهيئته
إن أول صفة نذكرها لعرش البارئ سبحانه وتعالى كونه مخلوقاً من مخلوقات الله تعالى، ذلك لأن كل ما على الوجود هو مخلوق خلقه الله تعالى وأوجده، قال الله تعالى {ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء} [الأنعام 102]، فكل شيء في هذا الكون مخلوق والعرش من ضمن هذا الكون فهو مخلوق أيضاً.
وسلف الأمة وأئمتها يقولون إن القرآن والسنة قد دلا على أن العرش مخلوق من مخلوقات الله تعالى خلقه وأوجده، قال تعالى {وهو رب العرش العظيم} [التوبة 129]، فالعرش موصوف بأنه مربوب وكل مربوب مخلوق، فالعرش مخلوق من مخلوقات الله.
وقد دلت الآيات والأحاديث على أن خلق العرش متقدم على خلق السموات والأرض، قال تعالى {وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء} [هود 7]، فالآية تدل على أن العرش كان موجوداً على الماء قبل خلق السموات والأرض ويؤيد تفسير الآية بهذا المعنى حديث عمران بن حصين رضي الله عنه الذي جاء فيه أن النبي e قال: ((كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض)) ([510]).
وأما مسألة خلق العرش فقد جاء ذكرها في حديث أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: ((كان في عما ما تحته هواء وما فوقه هواء، ثم خلق عرشه على الماء)) ([511]).
هذه الأدلة التي استدل بها السلف على إثبات خلق العرش، فيها أبلغ الرد على من زعم من الفلاسفة أن العرش هو الخالق الصانع، أو أنه لم يزل مع الله تعالى.
ولقد خالف السلف في قولهم هذا بعض أهل الكلام الذين زعموا أن السموات والأرض كانتا مخلوقتين قبل العرش، وهم بزعمهم هذا الذي لا دليل لهم عليه إنما يحاولون به إخراج الاستواء عن حقيقته في قوله تعالى {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} [الأعراف 54]، ليكون معنى الاستواء في الآية على زعمهم بمعنى القدرة على العرش والاستيلاء عليه، ذلك لأنهم لو سلموا أن العرش مخلوق قبل السموات والأرض لقيل لهم إنكم تزعمون أن (استوى) بمعنى استولى، فلماذا تأخر الاستيلاء إلى ما بعد خلق السموات مع أنه كان موجوداً قبل ذلك، فهم فراراً من هذا الأمر ادعوا أن العرش مخلوق بعد السموات والأرض.
وقد رد ابن القيم رحمه الله على زعمهم هذا بقوله: (إن هذا لم يقله أحد من أهل العلم أصلاً، وهو مناقض لما دل عليه القرآن والسنة وإجماع المسلمين أظهر مناقضة، فإنه تعالى أخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وعرشه حينئذ على الماء، وهذه واو الحال، أي خلقها في هذه الحال، فدل على سبق العرش والماء للسموات والأراضين وفي الصحيح عنه e: ((قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء" ([512]) ([513]).
وكذلك فيما ذكرناه من أدلة على سبق خلق العرش للسموات والأرض فيه رد على زعم هؤلاء ومدى مخالفة قولهم للكتاب والسنة.
وبعد أن علمنا أسبقية خلق العرش على خلق السموات والأرض وإجماع سلف الأمة على ذلك، نود أن نتطرق في هذا البحث أيضاً إلى ترتيب خلق العرش مع غيره من المخلوقات من حيث الأولوية في الخلق.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على عدة أقوال:
القول الأول:
إن القلم أول المخلوقات، وأنه أسبق في الخلق من العرش، وهذا القول هو اختيار ابن جرير الطبري ([514]) وابن الجوزي ([515]) وهو ما يفهم في الظاهر من قول من صنف في الأوائل كابن أبي عروبة الحراني، وأبو القاسم الطبراني ([516]).
والدليل على هذا القول حديث عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله e يقول: ((إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: رب ماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ..." الحديث ([517]).
قال ابن جرير عند تخريج هذا القول: (وقول رسول الله e الذي رويناه عنه أولى قول في ذلك بالصواب لأنه كان أعلم قائل في ذلك قولاً بحقيقته وصحته من غير استثناء منه شيئاً من الأشياء أنه تقدم خلق الله إياه خلق القلم، بل عم بقوله e: ((إن أول شيء خلقه الله القلم"، كل شيء وأن القلم مخلوق قبله من غير استثنائه من ذلك عرشاً ولا ماء ولا شيئاً غير ذلك) ([518]).
القول الثاني:
إن الماء أول المخلوقات، وأنه مخلوق قبل العرش.
وهذا القول ذكره ابن جرير ونقله عنه ابن كثير ([519])، وذكره أيضاً ابن حجر ([520])، واستدل له بما رواه أحمد والترمذي وصححه من حديث أبي رزين العقيلي مرفوعاً ((أن الماء خلق قبل العرش)).
وقال ابن حجر: (وروى السدي في تفسيره بأسانيد متعددة ((أن الله لم يخلق شيئاً مما خلق قبل الماء)).)
القول الثالث:
أن أول شيء خلقه الله عز وجل من خلقه النور والظلمة.
وهذا القول ذكره ابن جرير وعزاه إلى ابن إسحاق ([521]).
القول الرابع:
أن العرش هو أول المخلوقات.
وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ([522])، وابن القيم ([523])، وابن كثير ([524])، وشارح العقيدة الطحاوية ([525])، ونسبه ابن كثير وابن حجر -نقلاً عن أبي العلاء الهمداني-إلى الجمهور، ومال إليه ابن حجر أيضاً ([526]).
واستدلوا على قولهم هذا بما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن عبد الله ابن عمرو بن العاص مرفوعاً قال: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء) ([527]).
ففي هذا الحديث تصريح بأن التقدير وقع بعد خلق العرش وحديث عبادة صريح بأن التقدير وقع عند أول خلق القلم، فدل ذلك على أن العرش سابق على القلم.
ومما يؤيد هذا القول أيضاً حديث عمران بن حصين: (كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض) ([528]).
فالحديث يدل على أن العرش كان موجوداً قبل كتابة المقادير.
وهذا هو الراجح من الأقوال.
وأما القول الثاني (أن الماء أول المخلوقات) واستدلال ابن حجر بحديث أبي رزين (أن الماء خلق قبل العرش) فغير صحيح، لأنه لم يرد في حديث أبي رزين هذا اللفظ، وإنما ورد فيه (ثم خلق عرشه على الماء) وليس في هذا ما يدل على أولية الماء.
وأما ما رواه السدي فهو أيضاً لا يصلح للاحتجاج لكونه أثراً ولم يثبت عن النبي e ما يدل على ذلك
وأما القول الثالث: وهو قول ابن اسحاق فهو أيضاً غير صحيح، ولعله أخذه من الإسرائيليات كما أخذ غيره من الأمور، وقد قال ابن جرير في هذا القول: (وأما ابن إسحاق فإنه لم يسند قوله الذي قاله في ذلك إلى أحد، وذلك من الأمور التي لا يدرك علمها إلا بخبر من الله عز وجل أو من خبر رسول الله e) ([529]).
أما القول الأول فقد أجاب الجمهور على استدلالهم بحديث عبادة بن الصامت بقولهم لا يخلو قوله (أول ما خلق الله القلم ... الخ) من أن يكون جملة أو جملتين، فإن كان جملة -وهو الصحيح-كان معناه أنه عند أول خلقه قال له (اكتب) كما في اللفظ، (أول ما خلق الله القلم قال له اكتب) بنصب (أول) و (القلم) فعلى هذا تكون الأولية راجعة إلى الكتابة لا إلى الخلق.
وإن كانت جملتين وهو مروي برفع (أول) و (القلم) فيتعين حمله على أنه أول المخلوقات من هذا العالم، فيتفق بهذا الحديثان، إذ حديث عبد الله بن عمرو صريح في أن العرش سابق على التقدير، والتقدير مقارن لخلق القلم ([530]).
أما هيئة العرش: فقد دلت الأحاديث على أنه مقبب الشكل وأنه على هذا العالم المكون من السموات والأرض وما فيهما كهيئة القبة وهذا ما يدل عليه حديث الأعرابي الذي جاء فيه أن النبي e قال: ((إن عرشه على سمواته وأراضيه هكذا)) وأشار بأصابعه مثل القبة، ويؤيد وصف هيئة العرش بهذه الصفة ما جاء في الحديث الآخر ((إذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلاها وفوقه عرش الرحمن" فالحديث يبين أن الفردوس أوسط الجنة وأعلاها كما جاء في الحديث الآخر: ((مائة درجة وما بين كل درجة ودرجة كما بين السموات والأرض)) فكون العرش سقفاً للفردوس الذي هو أوسط الجنة وأعلاها يدل على أنه مقبب لأن هذه الصفة لا تكون إلا في المستدير.
والعرش له قوائم كما جاء في الحديث الصحيح ((لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق، فإذا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش)) الحديث.
وفي إثبات كون العرش مقبباً وأن له قوائم تحمله، رد على من زعم من الفلاسفة أن العرش فلك من الأفلاك أو أنه الفلك التاسع، وقد تقدم الرد على زعم هؤلاء، وكذلك فيه رد على من زعم أن العرش بمعنى الملك لأنه لا يعقل أن يكون ماسكاً بقائمة من قوائم الملك، وقد ذكر ابن كثير والذهبي أن العرش من ياقوتة حمراء ([531]) وقد استدلوا لهذا القول بما رواه إسماعيل بن أبي خالد قال: سمعت سعداً الطائي يقول: (العرش ياقوتة حمراء) ([532]).
المبحث الثاني: مكان العرش
إن الآيات والأحاديث التي جاء فيها ذكر عرش الرحمن تبارك وتعالى لتدل دلالة واضحة على أن لعرش الرحمن مكاناً قبل وجود السموات والأرض وبعد خلقهما، فأما مكانه قبل خلق السموات والأرض فالآيات والأحاديث تبين لنا أن مكانه على الماء، فالله سبحانه يقول في كتابه الكريم {وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء}.
قال الطبري في تفسير هذه الآية: (وقوله {وكان عرشه على الماء} يقول وكان عرشه على الماء قبل أن يخلق السموات والأرض وما فيهن، وعن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله {وكان عرشه على الماء} قبل أن يخلق شيئاً) ([533]).
وأما الأدلة من السنة على ذلك فكثيرة منها حديث عمران بن حصين الذي جاء فيه: ((كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض)).
وكذلك ما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء)).
وكذلك حديث أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: ((كان في عما ما تحته هواء وما فوقه هواء ثم خلق عرشه على الماء)).
فكل من الآية والأحاديث تدل دلالة قاطعة على أن مكان العرش منذ خلقه على الماء، وليس مراد بالماء هنا ماء البحر لأن ماء البحر إنما وجد بعد خلق السموات والأرض، وإنما الماء المذكور هنا ماء آخر تحت العرش على ما شاء الله تعالى ([534]).
وقد سئل حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن قوله تعالى {وكان عرشه على الماء} على أي شيء كان الماء؟ قال: (كان على متن الريح) ([535]).
وعن سليمان التيمي أنه قال: (ولو سئلت أين الله؟ لقلت: في السماء، فإن قال: فأين كان عرشه قبل السماء؟ لقلت: على الماء، فإن قال: فأين كان عرشه قبل الماء؟ لقلت: لا أعلم، قال أبو عبد الله: وذلك لقوله تعالى {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} [البقرة 255]) ([536]).
هذا مكان العرش قبل خلق هذا الكون الذي هو عبارة عن السموات والأرض، أما مكانه بعد خلق السموات والأرض فالحديث عنه من جانبين:
الجانب الأول: مكانه بالنسبة إلى الله تعالى مع غيره من المخلوقات.
والجانب الثاني: مكانه بالنسبة إلى السموات والأرض بعد خلقهما.
أما مكان العرش بالنسبة إلى الله تعالى مع غيره من المخلوقات فهو أقربها إليه سبحانه، وذلك لأن الله سبحانه قد أخبر أنه مستو على عرشه في أكثر في موضع في القرآن الكريم، قال تعالى {الرحمن على العرش استوى} ففي إثبات الاستواء على العرش دليل على قربه إليه لأنه سبحانه مستو على أعلى مخلوقاته وأقربها إليه، وهذه ميزة امتاز بها العرش على ما سواه، ومما يؤيد كون العرش أقرب المخلوقات إلى الله ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي e قال: ((ولكن ربنا تبارك وتعالى اسمه إذا قضى أمراً سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا، ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ماذا قال)) ([537]).
فالحديث يدل على أن حملة العرش هم أول من يتلقى أمر الله، ثم يبلغونه للذين يلونهم من أهل السموات، فكونهم أقرب الخلق إلى الله دليل على أن العرش أقرب منهم إليه سبحانه لأنهم إنما يحملونه.
أما مكان العرش بالنسبة للسموات والأرض بعد خلقهما، وهل مازال على الماء؟
فالجواب ما يلي: إن العرش ما يزال على الماء المذكور في الآية والأحاديث بدليل ما جاء في أحاديث الأوعال، لقوله e: ((ثم فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه أسفله مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك كله ثمانية أملاك أوعال ما بين أظلافهم إلى ركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ظهورهم العرش".
فالحديث يشير كما أسلفنا إلى وجود ذلك الماء الذي تحت العرش، وإلى أنه ما زال موجوداً إلى ما بعد خلق السموات والأرض.
أما مكان العرش بالنسبة إلى السموات والأرض فهو أعلى منها وفوقها، وهو كالقبة عليها كما جاء في الحديث: ((إن عرشه على سمواته وأراضيه هكذا" وأشار بأصابعه مثل القبة، وكذلك ما جاء في حديث العباس بن عبد المطلب الذي يسمى بحديث الأوعال، فكلا الحديثين يدلان على أن العرش فوق السموات والأرض وأعلى منهما وهو كالسقف عليهما، بل هو سقف للجنة كما في حديث: ((إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن" ([538]).
فمكان العرش فوق السموات والأرض وفوق الجنة وهو أعلى المخلوقات وأرفعها، وجميع المخلوقات دونه في العلو والارتفاع. والله أعلم.
المبحث الثالث: خصائص العرش.
خص الخالق سبحانه وتعالى عرشه الكريم بخصائص عديدة ميزته على كثير من المخلوقات الأخرى، وذلك لما للعرش من المكانة الرفيعة عند البارئ عز وجل، وقد ذكر عرش الرحمن في واحد وعشرين موضعاً من القرآن الكريم، ومجيء ذكر العرش بهذا العدد يدل على ما له من مكانة ومنزلة عالية عند الخالق سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى قد مدح نفسه في أكثر من موضع من كتابه الكريم بأنه صاحب العرش العظيم والكريم والمجيد، قال تعالى {وهو رب العرش العظيم}، وقال تعالى {فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم}، وقال تعالى {ذو العرش المجيد}.
فالله سبحانه يصف لنا في هذه الآيات وغيرها العرش بأنه عظيم، وكريم، ومجيد، فهو عظيم لكونه أكبر المخلوقات وأعظمها وأعلاها، وذلك لما خص الله به هذا العرش من الاستواء عليه، ومجيد وكريم لما له من منزلة تميز بها عما سواه من المخلوقات، فهو إنما اتصف بهذه الصفات لجلالته وعظيم قدره، كما أن في قوله تعالى {رفيع الدرجات ذو العرش} إخبار منه تعالى عن عظمته وكبريائه وارتفاع عرشه العظيم العالي على جميع خلقه، ومما يدل أيضاً على عظمة هذا العرش اقترانه باسم (الرحمن) كثيراً في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى {الرحمن على العرش استوى}، وقوله تعالى {ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا} ففي هذا الاقتران بين اسم الرحمن والعرش حكمة وهي إخباره عز وجل بأنه قد استوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات، ذلك لأن العرش محيط بالمخلوقات وقد وسعها، والرحمة بالخلق واسعة لهم ([539])، كما قال تعالى {ورحمتي وسعت كل شيء} [الأعراف 156].
وسنذكر في هذا المبحث بعض الخصائص التي اختص بها العرش وكرم بها، والتي جعلته يوصف بهذا الوصف في القرآن الكريم ويجعل له تلك المنزلة الرفيعة.
أولاً: الاستواء عليه:
يعتبر استواء الله سبحانه وتعالى على العرش أعظم الخصائص التي اختص بها العرش، بل إن ما سواها من الخصائص الأخرى التي تميز بها العرش إنما جعلت له لأجل استواء الله عز وجل عليه، وذلك أن الله تعالى لما اختصه بهذا الأمر جعل له من الخصائص والصفات كارتفاعه وعظم خلقه وكبره وثقل وزنه لكي يتناسب مع ما ميز وشرف به من الاستواء عليه.
ومسألة الاستواء على العرش ثابتة في الكتاب والسنة، فقد جاء ذكر الاستواء في القرآن الكريم في سبعة مواضع، ومجيء ذكر الاستواء في القرآن بهذا العدد إنما هو ليؤكد عظم هذا الأمر وأهميته، وأما السنة فهي مليئة بالأحاديث والأثار التي تثبت الاستواء وتؤكده.
وإن مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين وغيرهم من أهل العلم رضوان الله عليهم أجمعين أنهم يقولون إن الله استوى على عرشه بلا تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل، فهو سبحانه مستو على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته، واستواؤه حقيقة لا مجاز كما يزعم الجهمية وأتباعهم الذين ينكرون العرش وأن يكون الله فوقه، وأما كيفية ذلك الاستواء فهي مجهولة لدينا والسؤال عن كيفية ذلك الاستواء بدعة، لأن الله سبحانه لم يطلعنا على كيفية ذاته فكيف يكون لنا أن نعرف كيفية استوائه، وهو سبحانه وتعالى يقول {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء}.
ثانياً: العرش أعلى المخلوقات أرفعها وسقفها.
إن مما اختص به الخالق سبحانه وتعالى العرش مع استوائه عليه كونه أعلى المخلوقات وأرفعها وأقربها إلى الله تعالى، فقد ثبت أن العرش أعلى من السموات والأرض والجنة وأنه كالسقف عليها، والأدلة على هذا الأمر كثيرة وقد سبق أن أوردنا جزءاً منها خلال حديثنا عن مكان العرش.
والقول بأن العرش أعلى المخلوقات هو قول السلف الذي قالوا به وذهبوا إليه، قال محمد بن عبد الله بن أبي زمنين في كتابه " أصول السنة ": (ومن قول أهل السنة أن الله عز وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه كيف شاء) ([540]).
وكون العرش أعلى المخلوقات يدل على أنه أقرب إلى الله تعالى وهذه ميزة أخرى تضاف إلى الخصائص التي انفرد بها العرش، ويدل على هذا الأمر ما جاء في حديث الأوعال: ((ثم فوق ظهورهم العرش بين أعلاه وأسفله مثل ما بين سماء إلى سماء والله تعالى فوق ذلك)) ([541]).
وكذلك ما جاء عن ابن مسعود: (بين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي إلى الماء خمسمائة عام، والعرش على الماء، والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه) ([542]).
ثالثاً: العرش أكبر المخلوقات وأعظمها وأثقلها.
إن عرش الرحمن تبارك وتعالى يعتبر أكبر مخلوقات الله وأوسعها وأعظمها على الإطلاق، فقد خص الله عز وجل العرش بهذه الميزة العظيمة وشرفه بها مع غيرها من الميزات لكي يتناسب مع ذلك الشرف العظيم ألا وهو استواء البارئ عز وجل عليه.
وعظم العرش وسعة خلقه قد دل عليهما القرآن والسنة، فالله سبحانه وتعالى يقول في محكم التنزيل {وهو رب العرش العظيم}، فالله سبحانه وصف العرش في هذه الآية وغيرها بكونه عظيماً في خلقه وسعته، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (أي هو مالك كل شيء وخالقه لأنه رب العرش العظيم الذي هو سقف المخلوقات، وجميع الخلائق من السموات والأرضين وما فيهما تحت العرش مقهورين بقدرة الله تعالى) ([543]).
ومما يشهد لعظم العرش وسعة خلقه الأحاديث والآثار التي تتحدث عن كبر حجمه وسعته، فقد جاء في الحديث أن النبي e قال: ((إن عرشه على سمواته وأرضه هكذا)) وأشار بأصابعه مثل القبة، فالنبي e يشبه العرش أنه كالقبة على هذا العالم المكون من السموات والأرض وما فيهما وكالسقف عليهما، وفي هذا بيان واضح على عظم العرش وكبر مساحته، وفي حديث أخر يبين لنا مدى عظم العرش وكبر مساحته، فليس العرش أكبر من السموات والأرض فقط، بل هو من الكبر وسعة الحجم بحيث لا تعدل السموات والأرض على سعة حجمهما بجانبه شيئاً يذكر، فعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله e قال: ((يا أبا ذر ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة))، وفي رواية ((ما السموات السبع والأراضون السبع وما بينهن وما فيهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن الكرسي بما فيه بالنسبة إلى العرش كتلك الحلقة في تلك الفلاة)).
فالحديث كما أسلفنا دليل واضح على سعة العرش وعظم خلقه، وأما مقدار ذلك الحجم وتلك السعة فلا يعلمها إلا الله تعالى.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى) ([544]).
والعرش يمتاز مع كبر حجمه وسعته، بكونه أثقل المخلوقات وزنته أثقل الأوزان، فقد جاء في الحديث أن النبي e قال لجويرية: ((لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن، سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته)).
قال ابن تيمية: (فهذا يبين أن زنة العرش أثقل الأوزان) ([545]).
رابعاً: العرش ليس داخلا فيما يقبض ويطوى.
لقد خص الله سبحانه وتعالى العرش بخصائص منها ما انفرد بها العرش عن غيره من المخلوقات، ومنها ما اشترك بها العرش مع بعض المخلوقات الأخرى، ولقد سبق الحديث عن بعض الخصائص التي انفرد بها العرش، وأود هاهنا أن أبين بعض ما اشترك به العرش مع غيره من المخلوقات من الخصائص.
فقد سبق أن علمنا أن العرش مخلوق قبل السموات والأرض فهو بهذا ليس داخلا فيما خلق في الأيام الستة، ومعلوم أن الله سبحانه قد أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه محمد e أنه يقبض يوم القيامة السموات والأرض ويطويها ويبدلها، قال تعالى {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمنه} [الزمر 67]، وقال تعالى {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات} [إبراهيم 48]، وقال تعالى {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين} [الأنبياء 104]، وقال تعالى {إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت} [الانشقاق 1-2]، وقال تعالى {إذا السماء انفطرت} [الانفطار 1]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله e: ((يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض)) ([546]).
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله e: ((يطوي الله السموات والأرض ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون)) ([547]).
فالآيات والأحاديث السابقة تدل على أن السموات والأرض وما فيهما تقبض وتطوى وتبدل.
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفنى كالجنة والنار والعرش ([548]).
فعلى هذا يكون العرش ليس داخلا فيما يقبض ويطوى ويبدل، والأدلة على بقاء العرش كثيرة في الكتاب والسنة، فالله سبحانه وتعالى يقول مخبرا عن بقاء عرشه يوم القيامة:
{وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} [الحاقة 14-17]، وكذلك ما جاء في سورة الزمر من إخباره تعالى بقبضه للأرض وطيه للسموات بيمينه وذكر نفخ الصور وصعق من في السموات والأرض إلا ما شاء الله، ثم ذكر النفخة الثانية التي يقومون بها، وأن الأرض تشرق بنور ربها وأن الكتاب يوضع، ويجاء بالنبيين والشهداء، وأنه توفى كل نفس ما عملت، وذكر سوق الكفار إلى النار وسوق المؤمنين إلى الجنة إلى أن قال تعالى {وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين، وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} [الزمر 74-75].
فالآيات فيها إخبار عن الموقف يوم القيامة وفيها شاهد على أن العرش باق حتى بعد انتهاء الحساب.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما العرش فلم يكن داخلا فيما خلقه في الأيام الستة ولا يشقه ويفطره، بل الأحاديث المشهورة دلت على ما دل عليه القرآن من بقاء العرش، فقد ثبت في الصحيح أن جنة عدن سقفها عرش الرحمن قال e: ((إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة وفوقه عرش الرحمن)).) ([549]).
الفصل الرابع الكلام على حملة العرش وعلى الكرسي
وفيه مبحثان
المبحث الأول: الكلام على حملة العرش
المبحث الثاني: الكلام على الكرسي
المبحث الأول: الكلام على حملة العرش
إن كون عرش الرحمن له حملة يحملونه هو أمر ثابت في الكتاب والسنة، فقد جاء ذكر حملة العرش في موضعين من القرآن الكريم قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} ]غافر: 7[، وقال تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} ]الحاقة: 17[.
فالآيتان تدلان على أن لعرش الله حملة يحملونه اليوم ويوم القيامة، قال شيخ الإسلام: (إن قوله: {الذين يحملون العرش ومن حوله}، وقوله: {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية}، يوجب أن لله عرشا يحمل، ويوجب أن ذلك العرش ليس هو الملك كما تقوله طائفة من الجهمية، فإن الملك هو مجموع الخلق فهنا دلت الآية على أن لله ملائكة من جملة خلقه يحملون عرشه، وآخرون يكونون حوله، وعلى أنه يوم القيامة يحمله ثمانية) ([550]).
وأما السنة فهي مليئة بالأحاديث والآثار الدالة على أن لعرش الرحمن حملة من الملائكة يحملونـه، فعن جابـر بن عبد الله قـال: قـال رسول الله e: ((أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)) ([551]).
وكذلك ما جاء في حديث الأوعال: ((ثم فوق ذلك ثمانية أملاك أوعال ما بين أظلافهم إلى ركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء ثم فوق ظهورهم العرش)).
والقول بأن حملة العرش هم من الملائكة هو قول السلف الذين يثبتون العرش على أنه جسم عظيم خلقه الله فوق العالم وأن الله استوى عليه بعد أن خلق السموات والأرض، وهذا ما جاء به القرآن والسنة وأجمع عليه السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم.
وأما الذين أنكروا استواء الله على عرشه وقالوا إن استوى بمعنى استولى وأن المراد بالعرش الملك فإنهم أنكروا أيضا كون حملة العرش هم من الملائـكـة فقالوا: إن قوله: {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية}، {يحمل} بالـجذب {عرش ربك} ملك ربك للأرض والسموات، {فوقهم} أي فوق الـملائكة الذيـن هم على أرجائها يوم القيامة، {ثمانية} أي السموات السبع والأرض ([552])، وقيل المراد بالثمانية: السموات والكرسي ([553]).
فقد أولوا هذه الآية كما أولوا آيات الاستواء والآيات التي جاء فيها ذكر عرش الرحمن تبارك وتعالى.
أما الصنف الآخر الذين زعموا أن العرش المذكور في الآيات المراد به الفلك التاسع وهم الفلاسفة فهم يقولون إن المراد بالحملة الثمانية في قوله تعالى: {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية}، الثمانية أفلاك التي تحت الفلك المحيط أو ما يسمونه الفلك التاسع ([554])، وقد تقدم الرد على كلا الفريقين أثناء الكلام على الأقوال في العرش.
فمما تقدم تقرر أن لعرش الله حملة من الملائكة يحملونه بقدرة الله، وقد أخبرنا الله تعالى أنهم يوم القيامة ثمانية، ولكن اختلف في هؤلاء الثمانية هل هم ثمانية أملاك أم ثمانية أصناف أم صفوف وهل هم اليوم ثمانية أم أقل على عدة أقوال:
القول الأول:
إن المراد بالثمانية: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله، وهذا القول مروي عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} قال: (ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله) ([555])، وهو أيضاً مروي عن سعيد بن جبير ([556])، والشعبي وعكرمة والضحاك وابن جرير ([557]).
القول الثاني:
إن المراد بالثمانية: أنهم ثمانية أجزاء من تسعة أجزاء من الملائكة، وهذا القول مروي عن ابن عباس ([558])، وقال به مقاتل ([559])، والكلبي ([560]).
القول الثالث:
إن حملة العرش هم اليوم ويوم القيامة ثمانية من الملائكة.
ويستدل لهذا القول بحديث العباس بن عبد المطلب الذي جاء فيه: ((ثم فوق ذلك ثمانية أملاك أوعال ما بين أظلافهم إلى ركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ظهورهم العرش))[561].
الحديث يدل على أن حملة العرش هم اليوم ثمانية.
وروي عن العباس بن عبد المطلب في قوله تعالى {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية}، قال: (ثمانية أملاك في صورة أوعال بين أظلافهم وركبهم مسيرة ثلاث وستين أو خمس وستين سنة) ([562]).
وكذلك ما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (حملة العرش ثمانية ما بين موق أحدهم إلى مؤخرة عينه مسيرة مائة عام) ([563]).
وعن الربيع بن أنس في قوله تعالى {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية}، قال: (ثمانية من الملائكة) ([564]).
وعن شهر بن حوشب قال: (حملة العرش ثمانية، أربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك، وأربعة يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك) ([565]).
القول الرابع:
إن حملة العرش اليوم أربعة من الملائكة ويوم القيامة ثمانية.
وهذا القول رجحه ابن كثير ([566])، وابن الجوزي ([567]) وقال هو قول الجمهور ([568]).
ويستدل لهذا القول بعدة أدلة منها ما رواه الطبري بسنده عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله e: ((يحمله اليوم أربعة ويوم القيامة ثمانية" ([569]).
وروى الطبري أيضاً بسنده عن ابن إسحاق قال: بلغنا أن رسول الله e قال: ((هم اليوم أربعة" يعني حملة العرش (وإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة آخرين فكانوا ثمانية" ([570]).
واستدلوا أيضاً بما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله e: ((صدق أمية بن أبي الصلت في شيء من شعره فقال:
رجل وثور تحت رجل يمينه | والنسر للأخرى وليث مرصد |
فقال النبي e: ((صدق)) ([571]).
واستدلوا أيضاً بما جاء في حديث الصور المشهور فقد جاء فيه: ((ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية، وهم اليوم أربعة، أقدامهم على تخوم الأرض السفلى والسموات إلى حجزهم، والعرش على مناكبهم)) ([572]).
ولعل هذا القول هو الأقرب إلى الصواب، ولكن ليس هناك نص صريح عن النبي e في المسألة. والله أعلم.
المبحث الثاني: الكلام على الكرسي.
لما كان موضوع البحث في الكلام على العرش وما يتعلق به، كان لزاماً عليَّ أن أتحدث عن الكرسي، وذلك لما بين الاثنين من علاقة، فالكرسي بالنسبة إلى العرش كالمرقاة إليه.
وقد جاء ذكر الكرسي في موضع واحد في القرآن الكريم وهو قوله تعالى {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم} [البقرة 255].
وهذه الآية هي أفضل الآي، وقد سميت بآية الكرسي، وقد تضمنت العديد من المعاني، قال ابن القيم في شرحها: (ففي آية الكرسي ذكر الحياة التي هي أصل جميع الصفات، وذكر معها قيوميته المقتضية لدوامه وبقائه وانتفاء الآفات جميعها عنه، ومنها النوم والسنة والعجز وغيرها، ثم ذكر كمال ملكه، ثم عقبه بذكر وحدانيته في ملكه وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ثم ذكر سعة علمه وإحاطته، ثم عقبه بأنه لا سبيل للخلق إلى علم شيء من الأشياء إلا بعد مشيئته لهم أن يعلموه، ثم ذكر سعة كرسيه منبهاً على سعته سبحانه وعظمته وعلوه، وذلك توطئة بين يدي علوه وعظمته، ثم أخبر عن كمال اقتداره وحفظه للعالم العلوي والسفلي من غير اكتراث ولا مشقة ولا تعب) ([573]).
وأما الأحاديث والآثار الواردة في الكرسي فهي كثيرة جداً.
وقد تعددت الأقوال واختلفت في الكرسي كما تعددت واختلفت من قبل في العرش. والأقوال في الكرسي هي:
القول الأول:
أن المراد بالكرسي: العلم.
وهذا القول هو قول الجهمية ([574])، فقد أولوا الكرسي بمعنى العلم كما أولوا العرش بمعنى الملك، وكل ذلك فراراً منهم عن إثبات علو الله واستوائه على عرشه وقد استدلوا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى {وسع كرسيه السموات والأرض}، قال: (كرسيه علمه) ([575]).
وهذا القول قد رجحه الطبري بقوله: (وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن، فقول ابن عباس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد ابن جبير عنه أنه قال: هو علمه) ([576]).
القول الثاني:
أن المراد بالكرسي هو العرش نفسه.
وهذا القول مروي عن الحسن البصري، فقد روى ابن جرير بسنده عن جويبر عن الضحاك قال: كان الحسن يقول: (الكرسي هو العرش)، وقد مال ابن جرير إلى هذا القول ([577])، واعتمد في ذلك على حديث عبد الله بن خليفة قال: أتت امرأة إلى النبي e فقالت: أدع الله أن يدخلني الجنة، فعظم الرب تعالى ذكره، ثم قال: ((إن كرسيه وسع السموات والأرض وإنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع، ثم قال بأصابعه فجمعها: وإن له أطيط كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله" ([578]).
القول الثالث:
أن المراد بالكرسي قدرته التي يمسك بها السموات والأرض ([579])، ويقول هؤلاء: أن العرب تسمي أصل كل شيء الكرسي، كقولك: اجعل لهذا الحائط كرسياً، أي اجعل له ما يعمده ويمسكه ([580]).
القول الرابع:
أن الكرسي هو الفلك الثامن، أو ما يسمونه فلك البروج، أو فلك الكواكب الثوابت ([581]).
وقد قال بهذا القول بعض المتكلمين في علم الهيئة من الفلاسفة المنسوبين للمسلمين كابن سينا وغيره وهؤلاء هم الذين قالوا أن العرش هو الفلك التاسع.
القول الخامس:
إن الكرسي جسم عظيم مخلوق بين يدي العرش، والعرش أعظم منه، وهو موضع القدمين للبارئ عز وجل ([582]).
وهذا القول هو مذهب السلف من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم واقتدى بسنتهم، وهذا هو ما دل عليه القرآن والسنة والإجماع ولغة العرب التي نزل القرآن بها.
فالأحاديث والآثار الثابتة على هذا وبينته بياناً واضحاً لا يدعو إلى الشك أو الارتياب، ومن تلك الأحاديث والآثار:
حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: دخلت المسجد الحرام فرأيت رسول الله e وحده فجلست إليه، فقلت يا رسول الله: أيما أنزل عليك أفضل؟ قال: ((آية الكرسي، وما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة" ([583]).
وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (رقم109) بعد أن سرد الطرق لهذا الحديث: (وجملة القول إن الحديث بهذه الطرق صحيح، والحديث خرج مخرج التفسير لقوله تعالى {وسع كرسيه السموات والأرض} وهو صريح في كون الكرسي أعظم المخلوقات بعد العرش، وأنه قائم بنفسه وليس شيئاً معنوياً وفيه رد على من تأوله بمعنى الملك وسعة السلطان).
وأيضاً ما جاء عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى {وسع كرسيه السموات والأرض}، قال: (الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره أحد) ([584]).
وهذا ثابت عن ابن عباس في تفسير معنى الكرسي الوارد في الآية، وهذا القول في الكرسي نقل عن كثير من الصحابة والتابعين منهم ابن مسعود ([585])، وأبو موسى الأشعري ([586])، ومجاهد ([587])، وغيرهم، ولذلك فقد ذكر كثير من العلماء أن هذا القول في الكرسي قد حصل عليه إجماع السلف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الكرسي ثابت بالكتاب والسنة وإجماع السلف) ([588])، وقال شارح العقيدة الطحاوية: (وإنما هو -الكرسي-كما قال غير واحد من السلف بين يدي العرش كالمرقاة إليه) ([589]).
وقال محمد بن عبد الله بن زمنين: (ومن قول أهل السنة أن الكرسي بين يدي العرش وأنه موضع القدمين) ([590]).
وقال القرطبي: (والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق بين يدي العرش، والعرش أعظم منه) ([591]).
كما أن أهل اللغة لا يعرفون معنى الكرسي غير هذا المعنى، قال الزجاج: (والذي نعرفه من الكرسي في اللغة: الشيء الذي يعتمد ويجلس عليه، فهذا يدل على أن الكرسي عظيم دونه السموات والأرض) ([592]).
وقال ثعلب: (الكرسي ما تعرفه العرب من كراسي الملوك) ([593]).
ومن هذا كله يتبين لنا مدى صحة هذا القول وموافقته للكتاب والسنة وإجماع الأمة ومطابقته لما جاء في لغة العرب وأما الأقوال الأخرى فهي أقوال باطلة ومخالفة لما عليه جمهور أهل السنة من سلف الأمة وخلفها.
وأما ما استدل به أهل القول الأول من قول ابن عباس، فهو غير صحيح كما بيناه في تخريجه، والصحيح عن ابن عباس هو قوله: (الكرسي موضع القدمين ....)، وهذه رواية اتفق أهل العلم على صحتها.
وأما القول الثاني: إن الكرسي هو العرش نفسه، فلم يثبت عن الحسن البصري، لأن في اسناده جوبير وهو متفق على ضعفه، وقال فيه الحافظ ابن حجر: (ضعيف جداً).
وقال ابن كثير: (رواه ابن جرير من طريق جوبير، وهو ضعيف، وهذا لا يصح عن الحسن بل الصحيح عنه وعن غيره من الصحابة والتابعين أنه غيره) ([594]).
وقال البيهقي عند الكلام على هذا القول: (هذا ليس بمرضي، والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق بين يدي العرش، والعرش أعظم منه) ([595]).
ومساندة ابن جرير الطبري لهذا القول غير صحيحة، لأن حديث عبد الله ابن خليفة ضعيف كما تقدم.
أما القول الثالث: فهو قول مخالف لما دلت عليه الأحاديث والآثار، ومخالف لما عليه الجمهور من أهل السنة والجماعة ومخالف للغة العربية، وهو تأويل باطل ترده الأحاديث، وهو أيضاً تكذيب بالكرسي، وتكذيب للأحاديث الصحيحة التي دلت على وجود الكرسي.
وأما القول الرابع: فيكفي في إثبات بطلانه أن جماعة من أنفسهم ردوا عليهم هذا القول كما ذكره ابن كثير وبالإضافة إلى ذلك فإن أصحاب هذا القول ليس لديهم أي دليل على قولهم هذا كما سبق وأن بيناه في قولهم في العرش.
([1]) «مجموع الفتاوى» (3/ 333) بتصرف بسير.
([2]) تفسير ابن كثير (1/390).
([3]) قال شيخ الإسلام: (ولا ريب أنهم (أي الرافضة) أبعد طوائف المبتدعة عن الكتاب والسنة، ولهذا كانوا هم المشهورين عند العامة بالمخالفة للسنة، فجمهور العامة لا تعرف ضد السني إلا الرافضي، فإذا قال أحدهم أنا سني فإنما معناه لست رافضي). مجموع الفتاوى (3/356).
([4]) منهاج السنة (2/221) ط: جامعة الإمام محمد بن سعود.
([5]) بيان فضل علم السلف على الخلف لابن رجب (ص150-152)، وأصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (1/9-10).
([6]) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب قوله e: (( لا تزال طائفة من أمتي ... الخ )). وانظر صحيح مسلم بشرح النووي (13/66).
([7]) أخرجه أبو داود (5/4) رقم (4596،4597).
والترمذي (5/25-26) رقم (2640،2641).
وابن ماجة (2/1321) رقم (3991-3993).
والإمام أحمد (2/332)، (3/120،145)، (4/120).
والحاكم في المستدرك (1/128) وقال: (صحيح على شرط مسلم، و(2/480) وقال: (صحيح الإسناد.
والدارمي (2/158) رقم (2521).
والطبراني في الكبير (8/321، رقم8035)، (8/327، رقم8051)، (8/178، رقم7659)، (10/271-272، رقم211،212)، وفي الصغير (1/224).
والآجري في الشريعة (1/304-315، رقم 21-29).
وابن أبي عاصم في السنة (1/32-35).
واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1/100-102).
والطبري (27/239).
ورواه ابن بطة في الإبانة (1/367-375، رقم263-275).
وأبو يعلى في مسنده (6/340-342، رقم3668).
وابن حبان في صحيحه (8/48، رقم6214).
وابن أبي شيبة في المصنف (15/308، رقم19738).
والمروزي في السنة (ص18،19).
وقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: (هو حديث صحيح مشهور). انظر المسائل (2/83)، والفتاوى (3/345).
واعتنى به الشاطبي في الاعتصام.
وأورده ابن كثير في تفسيره (1/390).
وأورده الشيخ الألباني في السلسة الصحيحة (3/480).
([8]) مجموع الفتاوى (13/58-59) بتصرف.
([9]) مجموع الفتاوى (4/2).
([10]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (1/156).
[11] مجموع الفتاوى ١٠/ ٣١٩.
([12]) التحريف لغة: التغير والتبديل. والتحريف في باب الأسماء والصفات هو: تغيير ألفاظ نصوص الأسماء والصفات أو معانيها عن مراد الله بها.
([13]) التعطيل لغة: مأخوذ من العطل الذي هو الخلو والفراغ والترك، والتعطيل في باب الأسماء والصفات هو: نفي أسماء الله وصفاته أو بعضها.
([14]) التكييف لغة: جعل الشيء على هيئة معينة معلومة، والتكييف في صفات الله هو: الخوض في كنه وهيئة الصفات التي أثبتها الله لنفسه.
([15]) التمثيل لغة: من المثيل وهو الند والنظير، والتمثيل في باب الأسماء والصفات هو: الاعتقاد في صفات الخالق أنها مثل صفات المخلوق.
راجع في معاني هذه الألفاظ ما ذكرته في كتاب "معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات" (ص70-81).
([16]) (2) الآية 11 من سورة الشورى.
([18]) منهاج السنة (2/523).
([19]) انظر تفاصيل هذه المسألة في كتاب "معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى".
([20]) انظر مدارج السالكين (3/358-359).
([21]) إغاثة اللهفان (2/257).
([22]) الرد على المنطقيين (ص114).
([23]) انظر الرد على المنطقيين ص314.
([24])انظر الرد على المنطقيين ص461.
([25]) إغاثة اللهفان (2/261-262).
([26]) مختصر تاريخ دمشق (6/50)، والبداية (9/350).
([27]) نقض تأسيس الجهمية (1/54-55).
([28]) مجموع الفتاوى (5/555).
([29]) درء تعارض العقل والنقل (2/1).
([30]) مجموع الفتاوى (12/366).
([31]) مجموع الفتاوى (12/376).
([32]) مجموع الفتاوى (12/366).
([33]) مجموع الفتاوى (12/206).
([34]) منهاج السنة (2/327).
([35]) مجموع الفتاوى (12/202،203).
([36]) مجموع الفتاوى (12/203).
([37]) بغية المرتاد (ص451).
([38]) الاستقامة (1/105).
([39]) مجموع الفتاوى (5/386)، تذكرة الحفاظ (2/907).
([40]) العلو (ص150)، تذكرة الحفاظ (2/907).
([41]) مجموع الفتاوى (12/204).
([42]) الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص168).
([43]) موقف ابن تيمية من الأشاعرة (1/367).
([44]) الاستقامة (1/212).
([45]) درء تعارض العقل والنقل (7/97).
([46]) درء تعارض العقل والنقل (7/97).
([47]) مجموع الفتاوى (4/147، 148).
([48]) منهاج السنة (2/223، 224).
([49]) منهاج السنة (2/223،224).
([50]) مقدمة ابن خلدون (ص465)، ط: مصطفى محمد.
([51]) مقدمة التمهيد للباقلاني (ص15)، بتحقيق الخضيري وأبو ريدة.
([52]) نشأة الأشعرية وتطورها (ص320).
([53]) بغية المرتاد (ص448، 451)، بتصرف.
([54]) بغية المرتاد (ص448)، بتصرف.
([55]) مجموع الفتاوى (6/55).
([56]) انظر كتاب موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من الأشاعرة (2/499).
([57]) مجموع الفتاوى (6/52-53).
([58]) مجموع الفتاوى (6/52-54).
([59]) انظر موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من الأشاعرة (2/500).
([60]) انظر مجموع الفتاوى (11/475).
([61]) الخطط للمقريزي (2/358).
([62]) مفتاح السعادة (2/151،152) تأليف: طاش كبرى زاده
([63]) انظر ترجمته في كتاب الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات (1/209) للدكتور شمس الدين الأفغاني.
([64]) العقيدة السلفية في كلام رب البرية (ص279) تأليف: عبد الله بن يوسف الجديع.
([65]) مجموع الفتاوى (7/433)، كتاب الإيمان (ص414)، منهاج السنة (2/362).
([66]) الرد على الجهمية (ص103-105).
([67]) انظر أحسن التقاسيم للمقدسي (ص323).
([68]) مجموع الفتاوى (6/135، 5/355، 13/131)، درء تعارض العقل والنقل (3/367).
([69]) منهاج السنة (2/523، 524).
([70]) شرح العقيدة الأصفهانية (ص76).
([71]) النبوات (ص198).
([72]) درء تعارض العقل والنقل (5/249، 250).
([73]) كتاب باب ذكر المعتزلة من كتاب المنية والأمل (ص6).
وانظر شرح الأصول الخمسة (ص151)، ومقالات الإسلاميين (ص164،165)، مجموع الفتاوى (5/355).
([74]) مجموع الفتاوى (13/131).
([75]) موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/506).
([76]) المصدر السابق (2/544).
([77]) انظر تحفة المريد (ص63)، وإشارات المرام (ص107، 114)، وكتاب الماتريدية دراسة وتقويم (ص239)، وكتاب الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات (2/430)، ومنهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله (ص401).
([78]) انظر مجموع الفتاوى (6/35، 3/100)، ودرء تعارض العقل والنقل (3/367)، وكتاب الصفدية (1/88-89، 96-97).
([79]) منهاج السنة (2/523، 534).
([80]) مجموع الفتاوى (12/311).
([81]) مجموع الفتاوى (5/355).
([82]) الصفدية (1/299-300).
([83]) مجموع الفتاوى (6/35، 3/100)، شرح الأصفهانية (ص76، 80).
([84]) كتاب الصفدية (1/96-98)، شرح الأصفهانية (ص84).
([85]) شرح القصيدة النونية للهراس (2/126).
([86]) الصفدية (1/98، 99).
([87]) الصفدية (1/116، 117).
([88]) منهاج السنة (2/526، 527)، وانظر الأنساب للسمعاني (2/133).
([89]) درء تعارض العقل والنقل (5/187)، مجموع الفتاوى (8/460).
([90]) كتاب ذكر المعتزلة (ص6)، وانظر شرح الأصول الخمسة (ص151)، مقالات الإسلاميين (ص164-165).
([91]) الفصل (2/161)، وانظر شرح الأصفهانية (ص76)، درء تعارض العقل والنقل (5/249-250).
([92]) التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية (1/46).
([93]) التحفة المهدية (1/46).
([94]) لباب العقول للمكلاتي (ص213،214)، شرح الأصفهانية (ص445)، المسايرة لابن الهمام ص67، الماتريدية دراسة وتقويم (ص264)، الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات (2/413)، منهج أهل السنة ومنهج الأشاعرة في التوحيد (ص409).
([95]) شرح الأسماء الحسنى للرازي (ص287).
([96]) مجموع الفتاوى (3/7-8).
([97]) الصفدية (1/299، 300).
([98]) مجموع الفتاوى (3/7)، شرح الأصفهانية (ص51،52).
([99]) مجموع الفتاوى (3/8).
([100]) شرح العقيدة الأصفهانية (ص76).
([101]) مجموع الفتاوى (3/100).
([102]) مجموع الفتاوى (3/7-8).
([103]) شرح العقيدة الأصفهانية (ص76).
([104]) الصفدية (1/96،98).
([105]) الفتوحات المكية (4/141) ط: دار صادر، بيروت.
([106]) بغية المرتاد (ص349).
([107]) فصوص الحكم (1/83).
([108]) بغية المرتاد (ص397، 398).
([109]) بغية المرتاد (ص408).
([110]) بغية المرتاد (ص473).
([111]) بغية المرتاد (ص527).
([112]) بغية المرتاد (ص410،411).
([113]) نقض تأسيس الجهمية (2/467).
([114]) مجموع الفتاوى (6/39).
([115]) مجموع الفتاوى (6/48) بتصرف.
([116]) مجموع الفتاوى (13/131).
([117]) مجموع الفتاوى (6/51).
([118]) المعتزلة وأصولهم الخمسة (ص100).
([119]) المصدر السابق (ص101).
([120]) لم يكن في قدماء الرافضة من يقول بنفي الصفات بل كان الغلو في التجسيم مشهوراً عن شيوخهم هشام بن الحكم وأمثاله، شرح الأصفهانية (ص68).
([121]) كان أبو عبد الله محمد بن تومرت على مذهب المعتزلة في نفي الصفات، شرح الأصفهانية (ص23).
([122]) درء تعارض العقل والنقل (5/249،250).
([123]) مجموع الفتاوى (6/147،148،359).
([124]) مقالات الإسلاميين (1/341-342)، وانظر الفرق بين الفرق (ص207)، والملل والنحل (1/89،90).
([125]) مقالات الإسلاميين 1(/339).
([126]) الفرق بين الفرق (ص215).
([127]) مجموع الفتاوى (14/351،352).
([128]) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكان الحارث المحاسبي يوافقه-أي يوافق ابن كلاب-ثم قيل إنه رجع عن موافقته؛ فإن أحمد بن حنبل أمر بهجر الحارث المحاسبي وغيره من أصحاب ابن كلاب لما أظهروا ذلك، كما أمر السري السقطي الجنيد أن يتقى بعض كلام الحارث؛ فذكروا أن الحارث رحمه الله تاب من ذلك. وكان له من العلم والفضل والزهد والكلام في الحقائق ما هو مشهور وحكى عنه أبوبكر الكلاباذي صاحب (مقالات الصوفية): (أنه كان يقول إن الله يتكلم بصوت)، وهذا يوافق قول من يقول: إنه رجع عن قول ابن كلاب). مجموع الفتاوى (6/521،522).
([129]) مجموع الفتاوى (5/411، 6/52،53، 4/147)، شرح الأصفهانية (ص 78).
([130]) مجموع الفتاوى (6/520).
([131]) مجموع الفتاوى (6/524).
([132]) مجموع الفتاوى (6/522).
([133]) مجموع الفتاوى (6/520،521).
([134]) مجموع الفتاوى (6/525).
([135]) تتميماً للفائدة فإن الخلاف في هذه المسألة على أربعة أقوال:
1ـ قول المعتزلة ومن وافقهم: أن الله لا يقوم به صفة ولا أمر يتعلق بمشيئته واختياره وهو قولهم: (لا تحله الأعراض ولا الحوادث).
2ـ قول الكلابية ومن وافقهم: التفريق بين الصفات والأفعال الاختيارية فأثبتوا الصفات، ومنعوا أن يقوم به أمر يتعلق بمشيئته وقدرته لا فعل ولا غير فعل.
3ـ قول الكرامية ومن وافقهم: يثبتون الصفات ويثبتون أن الله تقوم به الأمور التي تتعلق بمشيئته وقدرته، ولكن ذلك حادث بعد أن لم يكن، وأنه يصير موصوفا بما يحدث بقدرته ومشيئته بعد أن لم يكن كذلك، وقالوا لا يجوز أن تتعاقب عليه الحوادث، ففرقوا في الحوادث بين تجددها ولزومها فقالوا بنفي لزومها دون حدوثها.
4ـ قول أهل السنة والجماعة: أثبتوا الصفات والأفعال الاختيارية وأن الله متصف بذلك أزلاً، وأن الصفات الناشئة عن الأفعال موصوف بها في القدم، وإن كانت المفعولات محدثة. وهذا هو الصحيح. مجموع الفتاوى (6/520،525،149).
([136]) الصفات الفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته، أو التي تنفك عن الذات: كالاستواء، والنزول، والضحك، والإتيان، والمجيء، والغضب والفرح. مجموع الفتاوى (6/68، 5/410).
([137]) مجموع الفتاوى (6/69)، وانظر الرد على هذه الشبهة (6/105).
([138]) مجموع الفتاوى (6/144،147).
([139]) مجموع الفتاوى (5/412).
([140]) مجموع الفتاوى (5/410).
([141]) مجموع الفتاوى (6/149).
([142]) مجموع الفتاوى (5/411،412).
([143]) مجموع الفتاوى (6/149).
([144]) مجموع الفتاوى (5/437)، الأسماء والصفات للبيهقي (ص517).
([145]) مجموع الفتاوى (5/386).
([146]) مجموع الفتاوى (6/52)، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/1034،1036).
([147]) مجموع الفتاوى (4/147،148).
([148]) درء تعارض العقل والنقل (7/97).
([149]) مجموع الفتاوى (6/358، 359).
([150]) تحفة المريد (ص76)، وبعض الأشاعرة توقف فيها والبعض نفاها.
([151]) انظر إشارات المرام (ص107، 114)، جامع المتون (1208)، نظم الفرائد (ص24)، الماتريدية دراسة وتقويم (ص239).
([152]) أثبت الماتريدية صفة التكوين وعليه فهي صفة قديمة قائمة بذاته تعالى. وأما الأشاعرة فقد نفوها. انظر تحفة المريد (ص75).
([153]) الماتريدية دراسة وتقويم (ص239).
([154]) شرح الأصفهانية ص9، مجموع الفتاوى (6/359).
([155]) منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات (ص5).
([156]) تحفة المريد (ص77).
([157]) منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات (ص10).
([158]) يرى بعضهم أنها ليست منحصرة في هذه الخمسة، إلا أن ما عداها راجع إليها ولو بالإلتزام، أو أن هذه مهماتها. انظر تحفة المريد (ص54).
([159]) منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات (ص8).
([160]) تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد (ص54).
([161]) المصدر السابق (ص91).
([162]) تحفة المريد (ص91)
([163]) درء تعارض العقل والنقل (5/249).
([164]) القواعد المثلى (ص27).
([165]) نقض تأسيس الجهمية (1/476-477).
([166]) درء تعارض العقل والنقل (4/146).
([167]) القواعد المثلى (ص27).
([168]) مقالات الإسلاميين (ص31).
([169]) شرح الطحاوية (ص99).
([170]) شرح العقيدة الطحاوية (ص21).
([171]) نقض تأسيس الجهمية (1/476).
([172]) شرح العقيدة الطحاوية (ص99).
([173]) شرح الطحاوية (ص104) بتصرف.
([174]) الجواب الكافي (159).
([175]) الجواب الكافي (ص159-160).
([176]) المصدر السابق (ص161).
([177]) انظر الجواب الكافي (ص160-161).
([178]) المصدر السابق (ص161).
([179]) منهاج السنة (5/169).
([180]) السبيئة: نسبة إلى عبد الله بن سبأ اليهودي، الذي أظهر الإسلام، وكاد للمسلمين كيداً عظيماً، وهو الذي قال لعلي: أنت الله. انظر: الفرق بين الفرق (ص233)، والملل والنحل (1/174).
([181]) منهاج السنة (1/307).
([182]) منهاج السنة (5/168).
([183]) منهاج السنة (2/627).
([184]) درء تعارض العقل والنقل (4/145).
([185]) نقض تأسيس الجهمية (1/54)، ومنهاج السنة (2/217).
([186]) منهاج السنة (2/103).
([187]) منهاج السنة (2/242-243).
([188]) مقالات الإسلاميين (ص5)، منهاج السنة (2/502).
([189]) مقالات الإسلامين (ص7)، منهاج السنة (2/503-504).
([190]) شرح الأصفهانية (ص65).
([191]) الفرق بين الفرق (ص228)، مقالات الإسلاميين (1/183)، ودرء تعارض العقل والنقل (4/145).
([192]) الملل والنحل للشهرستاني (1/105).
([193]) المقالات (1/209).
([194]) منهاج السنة (2/618).
([195]) الوفرة، الشعر المجتمع على الرأس، أو ما سال على الأذنين، أو ما جاوز شحمة الأذن. القاموس المحيط.
([196]) نقض تأسيس الجهمية (1/54).
([197]) منهاج السنة (2/622-625).
([198]) منهاج السنة (2/528-530).
([199]) يبلغ عدد طوائف الكرامية اثنتا عشرة فرقة وأصولها ستة هي:
1-العابدية، 2-النونية، 3-الزرينية، 4-الإسحاقية، 5-الواحدية، 6-الهيصمية.
(وهم في باب الإيمان مرجئة يقولون: إن الإيمان هو القول فقط فمن تكلم به فهو مؤمن كامل الإيمان، لكن إن كان مقراً بقلبه كان من أهل الجنة، وإن كان مكذباً بقلبه كان منافقاً مؤمناً من أهل النار، وبعض الناس يجكي عنهم أنه من تكلم به بلسانه دون قلبه فهو من أهل الجنة، وهو غلط عليهم، بل يقولون إنه مؤمن كامل الإيمان وإنه من أهل النار). انظر مجموع الفتاوى (13/56).
وانظر الكلام عن الكرامية في الفصل لابن حزم (4/45،204-205)، لسان الميزان (5/353-356)، والفرق بين الفرق (ص130-137)، والملل والنحل (1/180-193).
([200]) لسان الميزان (5/354).
([201]) درء تعارض العقل والنقل (3/6).
([202]) درء تعارض العقل والنقل (7/227).
([203]) المصدر السابق (5/246).
([204]) الفرق بين الفرق (ص198)، والملل والنحل (1/108-109).
([205]) التبصير في الدين (ص112).
([206]) الملل والنحل (1/109).
([207]) الفرق بين الفرق (ص199)، وأصول الدين للبغدادي (ص73،112)، والملل والنحل (1/109).
([208]) انظر مجموع الفتاوى (6/524-525)، ودرء تعارض العقل والنقل (2/76).
([209]) انظر مجموع الفتاوى (6/149،520-525).
([210]) هو أبو الحسن مقاتل بن سليمان بن بشير، الأزدي بالولاء، البلخي، الخراساني، المروزي، أصله من بلخ وانتقل إلى البصرة ودخل بغداد وحدث بها. ذكره الذهبي في آخر ترجمة ابن حيان (تذكرة الحفاظ 1/174) وقال: (فأما مقاتل بن سليمان المفسر فكان في هذا الوقت، وهو متروك الحديث، وقد لطخ بالتجسيم مع أنه كان من أوعية العلم بحراً في التفسير). وقد توفي بالبصرة سنة (150هـ). وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب (10/279-285)، ميزان الاعتدال (3/196-197)، تاريخ بغداد (13/160-169)، وفيات الأعيان (4/341-343).
([211]) لسان الميزان (10/281).
([212]) ميزان الاعتدال (4/175).
([213]) المقالات (ص209).
([214]) منهاج السنة (2/618-620).
([215]) وفيات الأعيان (4/341).
([216]) قال عنه ابن عساكر في تبيين كذب المفتري (ص298): (أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن خالد القلانسي الرازي، من معاصري أبي الحسن الأشعري رحمه الله لا من تلاميذه، كما قال الأهوازي، وهو من جلة العلماء الكبار الأثبات، واعتقاده موافق لاعتقاده في الإثبات (أي موافق لاعتقاد الأشعري).).
([217]) انظر مجموع الفتاوى (2/297)، ونقض تأسيس الجهمية (1/127، 2/14).
[218] مجموع الفتاوى٥/ ٥٢٦
[219] مجموع الفتاوى 5 / 224
([220]) انظر: «إعلام الموقعين» (2/314-317).
[221] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي (5/326). وأخرجه مسلم في صحيحه (2/742) كتاب الزكاة.
[222] أخرجه مسلم في صحيحه (2/1436) كتاب النكاح.
[223] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان. انظر شرح النووي (14/225). والإمام أحمد في المسند (1/218). والترمذي في سننه، كتاب التفسير، باب سورة سبأ (5/362، برقم 2324). والدارمي في الرد على الجهمية (ص78). والطحاوي في المشكل (3/113).والبيهقي في الأسماء والصفات (1/512-513، ح436).وأبو نعيم في الحلية (3/143).
[224] أخرجه أحمد في مسنده (6/21). وأبو داود في سننه، كتاب الطب (4/218). والدارمي في الرد على الجهمية (ص18). والنسائي في عمل اليوم والليلة (1038). وابن حبان في الضعفاء (1/108). وابن عدي في الكامل (3/1054). والحاكم في المستدرك (1/343-344)، وصححه. واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/389). وأبو يعلى في إبطال التأويلات (ق153/ب). والبيهقي في الأسماء والصفات (2/327، ح892). وابن قدامة في إثبات صفة العلو (ص48، برقم 18). وأخرجه قوام السنة الأصبهاني في الحجة في بيان المحجة (2/105، برقم 59)، و(2/111-112، برقم 65). وأورده الذهبي في العلو (ص27)، وقال: "وزيادة لين الحديث". ورد الذهبي تصحيح الحاكم له بقوله: "زيادة، قال البخاري وغيره منكر الحديث"، وذكر في ترجمته في الميزان (2/98) أنه انفرد بهذا الحديث فالإسناد ضعيف.
([225]) أخرجه مسلم (1218).
([226]) «إعلام المُوقعين» (2/316).
([227]) أخرجه البخاري (1013) ومسلم (895).
[228] "من المعلوم أن مذهب عامة أهل السنة، وسلف الأمة، وأئمتها أنهم يرون إثبات السؤال عن الله تعالى (بأين)، ولا ينفون ذلك عنه مطلقاً، وذلك لثبوت النصوص الصريحة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك سؤالاً وجواباً.
والسلف يقولون: إن من نفى السؤال بأين، لا بد له من دليل يستدل به على انتفاء ذلك، ولا دليل لهم، ذلك لأنها مسألة إثبات الشرع، فمن أنكرها فإنما ينكر المصطفى".
وقد خالف السلف في قولهم هذا الجهمية، والمعتزلة، ومتأخرة الأشاعرة، الذين يزعمون أنه لا يجوز السؤال عن الله تعالى بأين؛ لأن في ذلك سؤالاً عن المكان، وهم يزعمون أن الله ليس في مكان، لأن المكان لا يكون إلا للجسم، والله ليس بجسم، لأن الجسم لا يكون إلا محدثاً ممكناً ويظهر توضيح هذا الرأي في قول ابن الأثير في النهاية (3/304) "ولا بد في قوله "أين كان ربنا؟ " من تقدير مضاف محذوف، كما حدث في قوله تعالى {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ} ونحوه فيكون التقدير: أين كان عرش ربنا؟ يدل عليه قوله {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ} ".
فقول ابن الأثير "أنه لا بد من تقدير مضاف محذوف" الذي دفعه إليه هو اعتقاده بأنه لا يجوز السؤال عن الله تعالى بأين، لأنه يترتب على ذلك إثبات الجهة والمكان لله تعالى، وهي منفية عنه كما هو مذهب الأشاعرة المتأخرين الذين يعد ابن الأثير واحداً منهم. ومما يجدر ذكره أن ما هرب إليه ابن الأثير من تقدير المضاف لا ينجيه مما هرب منه، لأنه إذا أثبت الجهة لعرشه سبحانه وتعالى ثبتت له أيضاً لكونه مستوياً عليه". انظر الاستقامة لابن تيمية (1/126-127).
وقال الذهبي في العلو (ص26) بعد ذكر حديث الجارية: "وهكذا رأينا في كل من يُسأل أين الله، يبادر بفطرته ويقول في السماء. في الخبر مسألتان
إحداهما: شرعية قول المسلم (أين الله)؟
وثانيهما: قول المسؤول (في السماء) فمن أنكر هاتين المسألتين فإنما ينكر على المصطفى صلى الله عليه وسلم" ا. هـ."
وقال القاضي أبو يعلى الفراء في كتاب "إبطال التأويل": قال بعد أن ذكر حديث الجارية: "اعلم أن الكلام في هذا الخبر في فصلين: أحدهما: في جواز السؤال عنه سبحانه بأين هو؟، وجواز الإخبار عنه بأنه في السماء"7.
وذكر أشياء، إلى أن قال: "وقد أطلق أحمد بذلك فيما أخرجه في "الرد على الجهمية" فقال: فقد أخبرنا بأنه في السماء فقال {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء}، وقال {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}، وقال {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} فقد أخبر الله عز وجل أنه في السماء وهو على عرشه".
وذكر كلاماً طويلاً ليس هذا موضعه" "انظر إبطال التأويلات (1/233)."
[229] أخرجه في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1/382).
[230] سنن أبي داود (1/572) كتاب الصلاة، "باب 171 تشميت العاطس في الصلاة" رقم (930).
[231] سنن النسائي (3/14-18).
[232] كتاب العتق، باب ما يجوز من العتق في الرقاب الواجبة (ص552-553، ح1464). وأخرجه الإمام أحمد في المسند (5/447). وابن أبي عاصم في السنة (1/215). وابن خزيمة في التوحيد (1/278-280، ح178). واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/392). والذهبي في العلو (ص16)، وانظر مختصر العلو للذهبي (ص81).
(1) انظر كتاب الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي صفحة (116).
[234] "الأسماء والصفات": ص 515.
[235] "درء تعارض العقل والنقل": (6/ 250).
[236] "درء تعارض العقل والنقل": (6/ 250).
[237] انظر: "مجموع الفتاوى": (5/ 6).
([238]) الرد على الزنادقة والجهمية (ص95-96).
([239]) مختصر الصواعق (1/279-280).
([240]) درء تعارض العقل والنقل (7/5-6).
([241]) مجموع الفتاوى (4/44، 61)، وشرح العقيدة الطحاوية (ص325-326).
([242]) انظر درء تعارض العقل والنقل (7/5) بتصرف.
([243]) النجاة لابن سينا (ص37).
([244]) (3) مجموع الفتاوى (2/297-298)، (5/122).
([246]) تأويل مشكل الحديث لابن فورك (ص63)، الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (29، 34).
([247]) درء تعارض العقل والنقل (5/178)، والقرامطة من الباطنية وهم ينتسبون إلى حمدان بن الأشعث الذي كان يلقب بقرمط لقرمطة في خطه أو خَطْوِه، انظر الفرق بين الفرق (281، 293)، المنتظم لابن الجوزي (5/110، 111).
([248]) الرسالة الأضحوية (نقلا عن مختصر الصواعق 1/237)، والاقتصاد في الاعتقاد (ص34)، تأويل مشكل الحديث (ص63-64)، مجموع الفتاوى (2/297-298، 5/122-124)، نقض التأسيس (1/6-7).
([249]) مجموع الفتاوى (5/122).
([250]) هم أتباع حسين بن محمد بن عبد الله بن النجار، وقد كان أكثر معتزلة الري ومن حولها على مذهبه، وقد نقل الشهرستاني في الملل والنحل (1/113-114) عن الكعبي قوله: (إن النجار كان يقول: إن الباري بكل مكان وجودا لا معنى العلم والقدرة).
وانظر مقالات الإسلاميين (1/135-137، 283-285)، والفرق بين الفرق (126-127)، وأصول الدين للبغدادي (ص334)، والتبصير في الدين (101، 102، 103).
([251]) انظر نقض التأسيس(1/7).
([252]) المصدر السابق.
([253]) مختصر الصواعق (1/285).
([254]) أقصد بهم فلاسفة المسلمين كابن سينا والفارابي.
([255]) النجاة لابن سينا (ص37).
([256]) انظر نقض التأسيس (1/482، 484، 488).
([257]) انظر منهاج السنة (1/188-190) بتصرف.
([258]) نقض التأسيس (1/495-496).
([259]) بالإضافة إلى زعم المعتزلة أن الصفات لا تقوم إلا بأجسام، فهم أيضاً يزعمون أن في إثبات الصفات قول بكثرة وتعدد ذات الله، لأنهم يقولون: (إن من أثبت لله صفة أزلية قديمة فقد أثبت إلهين)، كما اعتقدوا أن الصفات لو شاركته في القدم لشاركته في الألوهية.
انظر الملل للشهرستاني (1/44-46)، مقالات الإسلاميين (1/245)، منهاج السنة (2/169).
([260]) انظر مختصر الصواعق (1/254).
([261]) انظر شرح ابن تيمية لهذه العبارات في نقض التأسيس الجهمية (1/504، 511)، وفي مجموع الفتاوى (5/418-430).
([262]) انظر كتاب موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من قضية التأويل (381-385).
([263]) مقالات الإسلاميين (2/177)، وموقف المعتزلة من السنة النبوية (53).
([264]) موقف المعتزلة من السنة النبوية (53).
([265]) انظر الكلام على دليل حدوث العالم في مجموع الفتاوى (13/153).
([266]) انظر كتاب رسالة إلى أهل الثغر (ص164-172) تحقيق عبد الله شاكر الجنيدي، رسالة ماجستير من قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية.
([267]) مختصر الصواعق (1/256،257)، ودرء تعارض العقل والنقل (1/38-40).
([268]) الصفات الخبرية وتسمى الصفات السمعية وهي: ما كان الدليل عليها مجرد خبر الرسول دون استناد إلى نظر عقلي كالاستواء والنزول والمجيء وغير ذلك.
([269]) انظر الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص84-101)، بتصرف.
([270]) مختصر الصواعق (1/255).
([271]) نقض التأسيس (1/503).
([272]) مجموع الفتاوى (13/165).
([273]) التمهيد (7/138).
([274]) مجموع الفتاوى (5/193)، و(5/519)، و(11/249-250).
([275]) اجتماع الجيوش الإسلامية (ص44).
[276] كتاب "التمهيد" (138/7)
[277] "مجموع الفتاوى" (5/ 193)
[278] انظر: "مجموع الفتاوى": (5/519).
([279]) مجموع الفتاوى (11/250)، و(5/104).
([280]) الفتاوى (6/19-20).
([281]) التمهيد (7/134).
([282]) الشريعة (3/1104).
([283]) الشريعة (3/1104-1105).
([284]) الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد (ص92-93)، ومجموع الفتاوى (11/250).
([285]) الشريعة (3/1104).
([286]) أبو معاذ التومني من أئمة المرجئة ورأس فرقة التومنية منها.
انظر ترجمته ومذهبه في مقالات الأشعري (1/204، 326)، (2/232)، والملل والنحل (1/128).
([287]) زهير الأثري، لم أقف على ترجمته، وقد تكلم الأشعري عن آرائه بالتفصيل في المقالات (1/326).
([288]) انظر نقض تأسيس الجهمية (1/6)، والفتاوى (2/299)، ومقالات الإسلاميين (1/326).
([289]) هم أتباع أبي عبد الله محمد بن أحمد بن سالم المتوفى سنة (297هـ) وابنه أبي الحسن أحمد بن محمد بن سالم المتوفى سنة (350هـ)، وقد تتلمذ أحمد بن محمد بن سالم على سهل بن عبد الله التستري، ويجمع السالمية بين كلام أهل السنة وكلام المعتزلة مع ميل إلى التشبيه ونزعة صوفية اتحادية، انظر شذرات الذهب (3/36)، وطبقات الصوفية (ص414-416)، والفرق بين الفرق (ص157-202).
([290]) أبو طالب، محمد بن علي بن عطية الحارثي المكي، صوفي نشأ واشتهر بمكة، وهو صاحب كتاب "قوت القلوب" في التصوف وهو من أكبر رجال السالمية، قال عنه الخطيب البغدادي: (ذكر فيه أشياء مستشنعة في الصفات)، توفي سنة (386هـ).
انظر ترجمته في تاريخ بغداد (3/89)، وميزان الاعتدال (3/655)، ولسان الميزان (5/300).
([291]) أبو الحكم، عبد السلام بن عبد الرحمن بن محمد اللخمي الإشبيلي، متصوف، توفي سنة (536هـ) بمراكش.
انظر ترجمته في لسان الميزان (4/13-14)، فوات الوفيات (1/569)، الاعلام (4/129).
([292]) مجموع الفتاوى (2/299).
([293]) نقض تأسيس الجهمية (2/6).
([294]) مجموع الفتاوى (5/122-131).
([295]) انظر الرسالة التدمرية (ص4-7)، المطبعة السلفية، الفتوى الحموية الكبرى (16-17)، المطبعة السلفية.
([296]) مجموع الفتاوى (5/26).
(1) انظر الموطأ للإمام مالك الجزء الأول صفحة (253).
([298]) انظر مختصر الصواعق المرسلة (2/126-127).
([299]) التمهيد (7/131-132).
([300]) انظر مختصر الصواعق (2/145).
([301]) انظر فتح الباري (13/403).
([302]) (2) مجموع الفتاوى (5/519).
([304]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/397).
([305]) تفسير القرطبي.
([306]) مدارج السالكين (3/359).
[307] انظر: "الفتاوى": (5/ 521-523) بتصرف.
[308] "منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات": ص 15.
[309] سورة الأعراف، الآية: 54.
[310] "منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات": ص 15.
[311] سورة يونس، الآيات: 3-6.
[312] سورة الرعد، الآيات: 2-4.
[313] سورة طه، الآيات: 1-8.
[314] سورة الفرقان، الآيتان: 58-59.
[315] سورة فاطر، الآية: 14.
[316] "منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات": ص 26.
[317] سورة السجدة، الآيات: 3-9.
[318] سورة الحديد، الآيتان: 3-4.
[319] "كتاب منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات": ص 17.
[320] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب (15) (ح7404). وانظر (ح 3194، 7453، 7553، 7554). وأخرجه مسلم في صحيحه، التوبة، باب في سعة رحمة الله وأنها سبقت غضبه (8/95).
[321] العما: السحاب الأبيض، كذا فسره الأصمعي. انظر كتاب العظمة لأبي الشيخ (1/365-366)، والعرش لابن أبي شيبة(رقم8)، والحد للدشتي (ق15/ب).
[322] أخرجه الترمذي في سننه، كتاب التفسير، باب سورة هود (5/288، رقم3109). والإمام أحمد في مسنده (4/11-12). وابن أبي شيبة في العرش (ح7). وابن ماجه في سننه، المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية (1/64). وابن أبي عاصم في السنة (1/271). وابن جرير الطبري في تفسيره (12/4) وفي تاريخه (1/19). والحكيم الترمذي في الرد على المعطلة (ق106/ أ). وأبو الشيخ في كتاب العظمة (1/363-364، ح83). وابن بطة في الإبانة (تتمة الرد على الجهمية، 3/168، ح125). وابن أبي زمنين في أصول السنة (ص89، ح31). والبيهقي في الأسماء والصفات (2/235-236، ح801 و2/303، ح864). قال الترمذي: حديث حسن. وقال الذهبي في العلو (ص19) إسناده حسن. وقال في كتاب العرش حديث رقم (15) "وهذا حديث حسن رواه الترمذي وغيره"؛ وقال الألباني: "في تصحيحه نظر، فإن مداره على وكيع بن عدس ويقال حدس، وهو مجهول، لم يرو عنه غير يعلى بن عطاء، ولا وثقه غير ابن حبان".
التعليق: اختلف في لفظة "عما" من حيث الشكل ومن حيث المعنى المراد بها.
فالأصمعي، وأبو عبيد القاسم بن سلام، والأزهري وغيرهم يرون أن لفظة "عما" هي من حيث الشكل بالمد، وليست بالقصر، وأن معناها المراد في الحديث السحاب الأبيض، لأنه هذا هو معنى الكلمة في كلام العرب المنقول عنهم. ومما يشهد لذلك قول الحارث بن حلزة اليشكري:
وكأن المنون تردى بنا | أعصم ينجاب عنه العما |
ومعنى البيت: أن الشاعر يقول هو في ارتفاعه، قد بلغ السحاب ينشق عنه، ويقول نحن في عزنا مثل الأعصم، فالمنون إذا أرادتنا فكأنما تريد أعصم (أي الجبل الشاهق).
وقال الأزهري: "ولا يدرى كيف ذلك العما بصفة تحصره ولا نعت يحده، ويقوي هذا القول قول الله تعالى {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} الآية 210 من سورة البقرة، فالغمام معروف في كلام العرب، إلا أنا لا ندري كيف الغمام الذي يأتي الله ـ عز وجل ـ يوم القيامة في ظلل منه، فنحن نؤمن به ولا نكيف صفته، وكذلك سائر صفات الله عز وجل". تهذيب اللغة (3/246).
وهذا القول ليس فيه دليل، على قول الفلاسفة الدهرية القائلين بقدم العالم، وأن مادة السموات والأرض ليست مبتدعة، وذلك أن الله سبحانه أخبرنا في كتابه بابتداء الخلق الذي يعيده، وأخبر بخلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام في غير موضع، وجاءت بذلك الأحاديث الكثيرة، وأخبر أيضاً أنه يغير هذه المخلوقات.
ويرى يزيد بن هارون، وأقره على ذلك الترمذي أن لفظة "عما" هي من حيث الشكل بالمد، ولكن معناها في هذه الحديث هو: "أي ليس مع الله شيء" وعلى هذا يكون معنى الحديث أن الله كان ولم يكن شيء معه، ويشهد لهذا المعنى ما جاء في حديث عمران بن حصين من قوله صلى الله عليه وسلم: "كان الله ولم يكن شيء معه".
وهناك رأي ثالث في المسألة، يخالف القولين الأولين من حيث الشكل والمعنى: فمن حيث اللفظ يرى أنه بالقصر، وليس بالمد.
وعلى هذا يكون المعنى: أنه كان حيث لا تدركه عقول بني آدم، ولا يبلغ كنهه وصف، وذلك لأن كل أمر لا يدركه القلوب بالعقول فهو عمى.
انظر: غريب الحديث لأبي عبيد (2/8-9)، تهذيب اللغة (3/246)، نقص تأسيس الجهمية (1/591).
[323] سنن أبي داود (5/94-96، ح4726).
[324] الأوعال جمع وعل بكسر العين، وهو تيس الجبل. النهاية (5/207).
[325] أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/207). وأبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في الجهمية (5/93، برقم 4723). وأخرجه ابن ماجه في سننه، المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية (1/69). وأخرجه الترمذي في سننه، كتاب التفسير، باب سورة الحاقة (5/424-425، برقم 3320). والدارمي في الرد على بشر المريسي (ص448). وابن أبي عاصم في السنة (1/253). وابن خزيمة في كتاب التوحيد (1/234-235، ح144). والآجري في الشريعة (3/1089-1090، ح665). وابن منده في التوحيد (1/117). واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/390). والذهبي في العلو (ص49). ومدار الحديث من جميع طرقه على "عبد الله بن عميرة" وعبد الله فيه جهالة، ولذلك قال الألباني في تخريج السنة (1/254): "إسناده ضعيف، وعبد الله بن عميرة، قال الذهبي: فيه جهالة، وقال البخاري: لا نعلم له سماعاً من الأحنف بن قيس". انتهى كلامه. ولكن الجوزقاني صرح في الأباطيل (1/79) بصحة الحديث. وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (3/192) حيث قال: "إن هذا الحديث قد رواه إمام الأئمة ابن خزيمة في كتاب التوحيد الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه إلا بما نقله العدل عن العدل موصولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والإثبات مقدم على النفي، والبخاري إنما نفى معرفة سماعه من الأحنف، ولم ينف معرفة الناس بهذا، فإذا عرف غيره كإمام الأئمة ابن خزيمة ما ثبت به الإسناد، كانت معرفته وإثباته مقدماً على نفي غيره وعدم معرفته". انتهى كلامه. وكذلك مال تلميذه ابن القيم إلى تصحيحه. انظر تهذيب السنن (7/92-93).
[326] رواه الطبري بلفظ مقارب في التفسير (22/14). وأخرجه الحاكم في المستدرك (4/25). وابن قدامة في إثبات صفة العلو (ص61، برقم 31). وابن كثير في تفسيره (3/492). والذهبي في العلو(ص40) و(ص20)، وفي كتاب العرش برقم (26). وأورده ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية (1/125). وابن حجر في الفتح (13/412) وقال: "وفي مرسل الشعبي قالت زينب… فذكره، ثم قال: أخرجه الطبري وأبو القاسم الطحاوي في كتاب الحجة والتبيان له". وقال الذهبي: "وهذا مرسل" أي أنه منقطع بين الشعبي وزينب.
[327] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب(22) {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ} (ح7421، ص1555) ولفظه "إن الله أنكحني في السماء".
[328] الأسماء والصفات": ص 515.
[329] درء تعارض العقل والنقل": (6/ 250).
[330] درء تعارض العقل والنقل": (6/ 250).
([331]) انظر مجموع الفتاوى (5/96)، ومختصر الصواعق (2/144).
([332]) متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار (1/73، 351).
([333]) انظر مجموع الفتاوى (5/66)، ومختصر الصواعق (2/144).
([334]) انظر تحفة المريد على شرح جوهرة التوحيد (ص54).
([335]) انظر غاية المرام (ص141).
([336]) انظر الاقتصاد في الاعتقاد (ص104).
([337]) شرح الأصول الخمسة (ص226).
([338]) التمهيد (7/132).
وقد أجاب ابن عبد البر على استدلالهم هذا بقوله: (إن هذا الحديث منكر على ابن عباس رضي الله عنهما، ونقلته مجهولون وضعفاء، فأما عبد الله بن داود الواسطي وعبد الوهاب بن مجاهد فضعيفان، وإبراهيم بن عبد الصمد مجهول لا يعرف، وهم لا يقبلون أخبار الأحاد العدول، فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بمثل هذا الحديث لو عقلوا وأنصفوا) اهـ.
([339]) انظر شرح الأصول الخمسة (ص226)، تفسير الرازي (14/15)، وأصول الدين للبغدادي (ص112).
([340]) تفسير الرازي (14/115).
([341]) انظر مختصر الصواعق المرسلة (2/128-129).
([342]) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القدر (8/51).
([343]) أخرجه البخاري في صحيحة، كتاب التوحيد، }وكان عرشه على الماء{ (ح 7418).
([344]) مجموع الفتاوى (5/145).
([345]) المصدر السابق (5/144).
([346]) مختصر الصواعق (2/140-141).
([347]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (2/399).
([348]) مجموع الفتاوى (5/144، 149)
([349]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (2/399-400).
([350]) زاد المسير لابن الجوزي.
([351]) التمهيد (7/131).
([352]) مختصر الصواعق (2/126).
([353]) انظر الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (2/8-9).
([354]) مجموع الفتاوى (5/520-521).
([355]) مختصر الصواعق المرسلة (2/143).
([356]) كتاب مشكل الحديث لابن فورك (ص193)، والأسماء والصفات للبيهقي (ص518).
([357]) المعتمد في أصول الدين للقاضي أبي بعلى (ص54).
([358]) هذا القول لأبي الحسن الأشعري قاله عندما كان على قول ابن كلاب من نفي الأفعال الاختيارية عن الله تعالى.
([359]) مجموع الفتاوى (5/386،437،466)، (16/393).
الأسماء والصفات (517).
اجتماع الجيوش الإسلامية (ص64،65).
([360]) مجموع الفتاوى (6/36).
([361]) انظر كتاب ابن تيمية السلفي (ص130).
([362]) الموافقة بين صريح العقل وصحيح النقل (2/73-175)، ط: دار الكتب.
([363]) انظر اجتماع الجيوش الإسلامية (ص64-65).
([364]) الاعتقاد للبيهقي (ص115).
([365]) المصدر السابق.
([366]) تلخيص المحصل (ص114).
([367]) الاعتقاد للبيهقي (ص117)، الإتقان في علوم القرآن (2/6)، مناهل العرفان (2/183-183)، تحفة المريد (ص91-92)، شرح الخريدة البهية (ص75)، الأسماء والصفات (ص517).
([368]) الفتوى الحموية (ص64).
([369]) مجموع الفتاوى (17/414).
([370]) مختصر الصواعق (1/15).
([371]) الفتوى الحموية (ص25).
([372]) هم أصحاب هشام بن عبد الحكم الرافضي من الإمامية، وتنسب إليه وإلى هشام بن سالم الجواليقي أحيانا، من الإمامية المشبهة. انظر المقالات (1/31-34)، الملل والنحل (1/144-147).
([373]) هم أصحاب محمد بن كرام وهم طوائف يبلغ عددهم اثنتي عشرة فرقة وأصولها ستة هي: العابدية، والنونية، والزرينية، والإسحاقية، والواحدية، وأقربهم الهيصمية. انظر الملل والنحل (1/144-147).
([374]) الملل والنحل (2/22).
([375]) الملل والنحل (1/144-147).
([376]) المصدر السابق (2/22).
([377]) انظر كتاب التجسيم عند المسلمين (ص205).
([378]) شرح حديث النزول (ص161،201).
مختصر الصواعق (2/253).
([379]) شرح حديث النزول (ص201).
([380]) شرح حديث النزول (ص161،201).
مختصر الصواعق (2/253).
([381]) شرح حديث النزول (ص201)، ومنهاج السنة (2/638).
([382]) مجموع الفتاوى (5/375).
([383]) شرح حديث النزول (ص161).
مختصر الصواعق (2/254).
([384]) عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن منده العبدي الأصبهاني، قال عنه الذهبي: (الحافظ العالم المحدث)، وقال عنه إسماعيل التيمي كما في طبقات الحنابلة: (خالف أباه في مسائل وأعرض عنه مشايخ الوقت)، وقال شيخ الإسلام عبد الله بن محمد الأنصاري: (كانت مضرته في الإسلام أكثر من منفعته)، وقال ابن رجب: (وهذا ليس بقادح-إن صح-فإن الأنصاري والتيمي وأمثالهما يقدحون بأدنى شيء ينكرونه من مواضع النزاع، كما هجر التيمي عبد الجليل الحافظ على قوله: (ينزل بالذات)، وهو في الحقيقة يوافقه في اعتقاده، لكن أنكر إطلاق اللفظ لعدم ورود الأثر به) اهـ. توفي سنة (470هـ).
انظر تذكرة الحفاظ (3/1156)، وذيل طبقات الحنابلة (1/26).
([385]) شرح حديث النزول (ص201).
([386]) شرح حديث النزول (ص161-162).
([387]) شرح حديث النزول (ص161-201).
([388]) شرح حديث النزول (ص201).
([389]) شرح حديث النزول (ص201).
([390]) ربط شيخ الإسلام بين المسألتين في شرح حديث النزول (ص210-211)، وكذا ابن القيم كما في مختصر الصواعق (2/253).
([391]) قام الدكتور سعود بن عبد العزيز الخلف بتحقيق الجزء المتعلق بمسائل أصول الديانات من كتاب "الروايتين والوجهين"، وطبعته مكتبة أضواء السلف. وانظر المسألة (ص52-57) من الكتاب المذكور.
([392]) انظر الرد على هذا القول في مختصر الصواعق (2/259-262).
([393]) قال ابن بطة: (فنقول كما قال: (ينزل ربنا عز وجل) ولا نقول: إنه يزول، بل ينزل كيف يشاء، ولا نصف نزوله، ولا نحده، ولا نقول إن نزوله زواله). انظر المختار من الإبانة (ص240).
([394]) شرح حديث النزول (ص210-211).
مختصر الصواعق (2/253-254).
([395]) يعني بحديث عبادة بن الصامت الذي فيه ((ثم يعلو تبارك وتعالى على كرسيه)).
([396]) كتاب اختلاف الروايتين والوجهين-مسائل من أصول الديانات-(ص55).
([397]) مختصر الصواعق (2/254-255).
([398]) شرح حديث النزول (ص201)، ومنهاج السنة (2/638).
([399]) المصدر السابق (ص149).
([400]) إبطال التأويلات (1/261).
([401]) أخرجه العقيلي في الضعفاء (1/143).
وأخرجه ابن بطة في الإبانة، كما في المختار من الإبانة (ص203-204، برقم 158).
وأورده ابن تيمية في شرح حديث النزول (ص150-151)، وفي درء تعارض العقل والنقل (2/24)، وفي الأصفهانية (ص25)، وعزاه للخلال في السنة وابن بطة في الإبانة.
([402]) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (2/386) مختصراً.
وأخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/452).
وأورده ابن تيمية في شرح حديث النزول (ص152) وصحح إسناده.
([403]) شرح حديث النزول (ص153).
([404]) انظر المختار من الإبانة (ص240).
ومجموع الفتاوى (5/402).
([405]) شرح حديث النزول (ص161).
([406]) المختار من الإبانة (ص240-242).
([407]) كتاب الروايتين والوجهين (ص56-57).
([408]) مختصر الصواعق (2/257-258).
([409]) انظر في هذه المسألة ما كتبته في كتاب "معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى" (ص55-64).
([410]) انظر مجموع الفتاوى (6/142-143). وبدائع الفوائد (1/161).
([411]) رسالة في العقل والروح لشيخ الإسلام ابن تيمية، مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية (2/46-47).
([412]) منهاج السنة (2/523).
([413]) انظر رسالة في العقل والروح (2/46-47).
([414]) بدائع الفوائد (1/161)، مجموع الفتاوى (6/142-143).
([415]) رسالة في العقل والروح (2/46-47).
([416]) درء تعارض العقل والنقل (1/271).
([417]) درء تعارض العقل والنقل (1/254).
([418]) نقض تأسيس الجهمية (1/442).
([419]) نقض تأسيس الجهمية (1/442-443).
([420]) نقض تأسيس الجهمية (1/445).
([421]) درء تعارض العقل والنقل (1/241-241).
([422]) درء تعارض العقل والنقل (1/228).
([423]) درء تعارض العقل والنقل (1/228-233).
([424]) الأقوال في هذه المسألة على النحو التالي:
القول الأول: قول من يقول هو فوق العرش ولا يوصف بالتناهي ولا بعدمه إذ لا يقبل واحداً منهم فعندهم أن الله فوق العرش ولا يوصف بأن له قدراً وهذا يقوله بعض أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف من الكلابية والكرامية والأشعرية ومن وافقهم من أتباع الأئمة من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم.
القول الثاني: قول من يقول هو غير متناه إما من جانب وإما من جميع الجوانب، وهذا يقوله أيضاً طوائف من أهل الكلام والفقهاء وغيرهم وحكاه الأشعري في المقالات عن الطوائف.
القول الثالث: قول السلف والأئمة وأهل الحديث والكلام والفقه والتصوف الذين يقولون: له حد لا يعلمه غيره). انظر درء تعارض العقل والنقل (6/300-301).
([425]) انظر الصحاح للجوهري (2/462)، ولسان العرب (3/140).
([426]) نقض تأسيس الجهمية (1/443).
([427]) أخرجه القاضي أبو يعلى في إبطال التأويلات (ق151/ب)، وفي الروايتين والوجهين (ص49).
وابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (1/267).
وأورده شيخ الإسلام ابن تيمية في نقض تأسيس الجهمية (1/428).
([428]) نقض تأسيس الجهمية (2/34).
([429]) كعثمان بن سعيد الدارمي، وعبد الله بن المبارك، ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل، والخلال، وحرب الكرماني، وإسحاق بن راهويه، وابن بطة، وأبي إسماعيل الأنصاري الهروي، وأبي القاسم ابن منده، وقوام السنة الأصبهاني، وإسماعيل بن الفضل التيمي، والقاضي أبي يعلى، وأبي الحسن بن الزاغوني، والحافظ أبي العلاء الهمداني، وغير هؤلاء.
انظر الرد على بشر المريسي (ص23-24)، والرد على الجهمية له (ص5)، والتمهيد لابن عبد البر (7/142)، وإثبات الحد لله تعالى لمحمود بن أبي القاسم الدشتي (ق3-6)، ودرء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (2/33-34، 56-60)، ونقض تأسيس الجهمية (1/397،426-433) و(2/160،180).
([430]) نقض تأسيس الجهمية (1/397).
([431]) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/402، برقم 675).
وأورده ابن قدامة في إثبات صفة العلو (ص116، برقم 95).
وأورده الذهبي في العلو (ص130)، وفي الأربعين في صفات رب العالمين (ص65، برقم 50).
وأورده ابن تيمية في مجموع الفتاوى (5/496).
وأورده ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية (200) وعزاه للالكائي.
وانظر في مسألة الحد نقض تأسيس الجهمية (2/162).
([432]) طبقات الحنابلة (1/29).
([433]) نقض تأسيس الجهمية (1/442-443).
([434]) درء تعارض العقل والنقل (2/35).
([435]) نقض تأسيس الجهمية (2/162).
([436]) الرسالة للشافعي (ص8).
([437]) درء تعارض العقل والنقل (2/33)
([438]) انظر درء تعارض العقل والنقل (2/30-32)
([439]) انظر مختصر الصواعق (2/213).
([440]) الناس لهم في هذه المسألة أقوال:
القول الأول: منهم من يقول هو نفسه فوق العرش غير مماس ولا بينه ولا بين العرش فرجة، وهذا قول ابن كلاب، والحارث المحاسبي، وأبي العباس القلانسي، والأشعري، وابن الباقلاني، وغير واحد من هؤلاء وقد وافقهم على ذلك طوائف كثيرون من أصناف العلماء من أتباع الأئمة الأربعة وأهل الحديث والصوفية وغيرهم.
وهؤلاء يقولون: هو بذاته فوق العرش وليس بجسم، ولا هو محدود ولا متناه.
ومنهم من يقول: هو نفسه فوق العرش، وإن كان موصوفاً لقدر له لا يعلمه غيره. ثم من هؤلاء من لا يجوز عليه مماسة العرش، ومنهم من يجوز ذلك. وهذا قول أئمة أهل الحديث والسنة وكثير من أهل الفقه والصوفية والكلام غير الكرامية، فأما أئمة أهل السنة والحديث وأتباعهم فلا يطلقون لفظ الجسم نفياً ولا إثباتاً، وأما كثير من أهل الكلام فيطلقون لفظ الجسم كهشام بن الحكم، وهشام الجواليقي وأتباعهما). درء تعارض العقل والنقل (6/288-289).
([441]) أورده ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية (ص201).
([442]) نقض تأسيس الجهمية (2/531).
([443]) نقض تأسيس الجهمية (2/531) بتصرف.
([444]) نقض تأسيس الجهمية (1/555-556).
([445]) الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص126-127).
([446]) الحجة في بيان المحجة (2/113-114).
([447]) اجتماع الجيوش الإسلامية (ص55).
([448]) اجتماع الجيوش السلامية (ص74).
([449]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة برقم (321).
([450]) العلو للذهبي (ص178).
([451]) معجم مقاييس اللغة (4/264).
([452]) كتاب العين (1/291).
([453]) تهذيب اللغة (1/413).
([454]) كتاب العين (1/291)، الصحاح (ص722).
([455]) تاج العروس (4/321).
([456]) المصدر السابق.
([457]) تهذيب اللغة (1/414).
([458]) تاج العروس (4/321).
([459]) معجم مقاييس اللغة (4/264) -بتصرف-.
([460]) تاج العروس (4/321).
([461]) معجم مقاييس اللغة (4/267)
([462]) تهذيب اللغة (1/416).
([463]) كتاب العين (1/293).
([464]) لسان العرب (4/2882).
([465]) مختصر الصواعق المرسلة (1/17-18).
([466]) تفسير الطبري (24/37-38).
([467]) تفسير الطبري (24/49).
([468]) الأسماء والصفات (2/272).
([469]) الاعتقاد (112).
([470]) البداية (1/12).
([471]) العلو (ص57).
([472]) الاختلاف في اللفظ (ص240).
([473]) البداية (1/11-12).
([474]) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الخصومات، باب ما يذكر في الأشخاص والخصومة بين المسلم واليهودي. انظر فتح الباري (5/70).
ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل (4/101-102).
([475]) شرح العقيدة الطحاوية (ص310-311).
([476]) فتح الباري (13/405).
([477]) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في الجهمية (5/96، ح4727).
أورده ابن كثير في تفسير (4/414) وعزاه لابن أبي حاتم وقال: (إسناده جيد ورجاله كلهم ثقات).
([478]) أصول السنة (ص88).
([479]) الحديث أخرجه كذلك الدارمي في الرد على بشر المريسي (ص447). وابن أبي عاصم في السنة (1/252). وابن خزيمة في التوحيد (1/239-240، ح147). والطبراني في المعجم الكبير (2/132، برقم 1547). وأبو الشيخ في العظمة (2/554-556، ح198). والدارقطني في الصفات (ص51، ح38). وابن منده في التوحيد (1/188، برقم 643). واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/394). والبيهقي في الأسماء والصفات (2/317-318، ح883).
وقد تكلم بعض الأئمة على هذا الحديث: فقال الذهبي في العلو (ص39): "هذا الحديث غريب جداً فرد، وابن إسحاق حجة في المغازي إذا أسند، وله مناكير وعجائب، فالله أعلم أقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا أم لا؟ وأما الله فليس كمثله شيء جل جلاله، وتقدست أسماؤه ولا إله غيره" انتهى كلامه. واستغربه الحافظ ابن كثير في تفسير آية الكرسي من تفسيره (1/310). ثم إن في إسناده اختلافاً.
هذا وقد تكلم ابن القيم في تهذيب السنن (7/95-117) بكلام طويل نصر فيه تصحيح الحديث، ورد المطاعن التي طعن بها هذا الحديث، وبخاصة عن ابن إسحاق.
والصواب أن هذا الحديث بهذا الإسناد ضعيف، ولا سيما أن جبير بن محمد قال فيه الحافظ ابن حجر: "مقبول" يعني إذا توبع ولم يتابع هنا.
التعليق: منهج السلف في إيراد مثل هذه الأحاديث التي في إسنادها مقال إنما هو من باب التأكيد لا من باب التأييد، وهذا الحديث إنما ساقه الكثير من السلف لما فيه من تواتر علو الله تعالى فوق عرشه مما يوافق آيات القرآن والأحاديث الصحيحة".
([480]) أخرجه البخاري في صحيحيه، كتاب التوحيد، باب {وكان عرشه على الماء}. انظر فتح الباري (13/404).
([481]) الفتاوى (5/151).
([482]) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب العرش رقم (58).
وابن حبان في صحيحه (1/76-79).
وأبو الشيخ في العظمة (2/648-649، ح259).
وأبو نعيم في الحلية (1/166).
والبيهقي في الأسماء والصفات (2/300-301، ح862).
وللحديث أيضاً طرق أخرى ذكرها الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (109)، وقال: (وجملة القول إن الحديث بهذه الطرق صحيح)، وصححه أيضاً في تعليقه على شرح العقيدة الطحاوية (ص312)، وتخريجه لأحاديث كتاب "ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان" للألوسي (ص140).
وقد نقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13/411) عن ابن حبان تصحيح الحديث وقال: (وله شاهد عن مجاهد أخرجه سعيد بن منصور في تفسيره بسند صحيح عنه).
([483]) شرح أصول الخمسة (ص226)، أصول الدين للبغدادي (ص112)، الفرق بين الفرق (ص215-216)، شرح جوهرة التوحيد (ص181)، نقض التأسيس (1/396، 2/14-15).
([484]) هم أتباع أبو منصور، محمد بن محمد الماتريدي، السمرقندي.
انظر قولهم في هذه المسألة في "تأويلات أهل السنة" للماتريدي (1/85).
([485]) التبصير في الدين للإسفراييني (158).
([486]) الرد على الجهمية (ص12-13).
([487]) نقض تأسيس الجهمية
([488]) الكشاف (2/530).
([489]) أصول الدين (ص112). وانظر أيضاً التفسير الكبير للرازي (14/115)، وروح المعاني (11/65).
([490]) تقدم تخريجه في (ص7).
([491]) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2/371).
وأحمد في المسند (3/316)، وفي فضائل الصحابة (2/818).
والبخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب مناقب سعد بن معاذ رضي الله عنه، مثله. فتح الباري (7/122-123).
ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة (7/150).
وابن ماجة في سننه، المقدمة (1/56).
([492]) البداية (1/11)، الرسالة العرشية (ص2)، مفردات (ص329)، روح المعاني (24/45).
([493]) نقلاً عن كتاب "ابن سينا بين الدين والفلسفة" (ص137-139).
([494]) الفتاوى (17/335-336).
([495]) الرسالة العرشية (ص2-3).
([496]) الرسالة العرشية (ص2).
([497]) المصدر السابق (ص3-7).
([498]) جلاء العينين في محاكمة الأحمدين (ص363).
([499]) أخرجه البخاري في صحيحه (5/70 مع الفتح) كتاب الخصومات باب ما يذكر في الأشخاص والخصومة بين المسلم واليهودي.
ومسام في صحيحه (4/101-102) كتاب الفضائل.
([500]) أخرجه مسلم في القدر (8/51).
([501]) أخرجه البخاري في التوحيد، باب وكان عرشه على الماء، واللفظ له. فتح الباري (13/405).
ومسلم في الذكر والدعاء (8/85).
([502]) أخرجه مسلم في الذكر (8/83) واللفظ له.
وأخرجه أبو داود في تخريج أبواب الوتر، باب التسبيح بالحصى (2/171).
وأخرجه الترمذي في الدعوات، وقال: (حديث حسن صحيح). (5/556).
([503]) الرسالة العرشية (ص8).
([504]) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في الجهمية (5/96، ح4727).
أورده ابن كثير في تفسير (4/414) وعزاه لابن أبي حاتم وقال: (إسناده جيد ورجاله كلهم ثقات).
([505]) أخرجه البخاري في التوحيد، باب وكان عرشه على الماء. فتح الباري (13/404).
([506]) أخرجه مسلم في البر والصلة (8/7).
([507]) أخرجه البخاري في المغازي، باب صفة الشمس والقمر. فتح الباري (6/297).
([508]) أخرجه البخاري في بدء خلق، باب ما جاء في قوله تعالى {وهو يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه}. فتح الباري (6/287).
وأخرجه مسلم في التوبة، باب في سعة رحمة الله أنها سبقت غضبه. (8/95).
([509]) أخرجه أحمد في المسند (5/229، 236، 237).
وابن حبان (2510).
والحاكم (4/169-170).
وابن المبارك في الزهد (ص715) من طريقين صحيحين عنه.
([510]) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قوله تعالى {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه}. فتح الباري (6/286، رقم 3190).
([511]) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب التفسير، باب سورة هود (5/288، رقم3109). والإمام أحمد في مسنده (4/11-12). وابن أبي شيبة في العرش (ح7). وابن ماجه في سننه، المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية (1/64). وابن أبي عاصم في السنة (1/271). وابن جرير الطبري في تفسيره (12/4) وفي تاريخه (1/19). والحكيم الترمذي في الرد على المعطلة (ق106/ أ). وأبو الشيخ في كتاب العظمة (1/363-364، ح83). وابن بطة في الإبانة (تتمة الرد على الجهمية، 3/168، ح125). وابن أبي زمنين في أصول السنة (ص89، ح31). والبيهقي في الأسماء والصفات (2/235-236، ح801 و2/303، ح864). قال الترمذي: حديث حسن. وقال الذهبي في العلو (ص19) إسناده حسن. وقال الألباني: "في تصحيحه نظر، فإن مداره على وكيع بن عدس ويقال حدس، وهو مجهول، لم يرو عنه غير يعلى بن عطاء، ولا وثقه غير ابن حبان".
([512]) تقدم تخريجه ص 261.
([513]) مختصر الصواعق (2/131).
([514]) تاريخ الطبري (1/36).
([515]) البداية والنهاية (1/8).
([516]) توضيح المقاصد وتصحيح القواعد.
([517]) أخرجه أحمد في مسنده (5/317).
وأبو داود في سننه (5/76، رقم4700).
والترمذي في سننه (5/424، رقم3319).
([518]) تاريخ الطبري (1/35،36).
([519]) البداية والنهاية (1/9).
([520]) فتح الباري (6/289).
([521]) تاريخ الطبري (1/33).
([522]) مجموع الفتاوى (18/213).
([523]) اجتماع الجيوش الإسلامية (253-254).
وانظر مختصر الصواعق المرسلة (2/323).
([524]) البداية والنهاية (1/9).
([525]) شرح العقيدة الطحاوية (ص295).
([526]) فتح الباري (6/289).
([527]) تقدم تخريجه.
([528]) تقدم تخريجه.
([529]) تاريخ الطبري (1/33).
([530]) شرح العقيدة الطحاوية (ص295-296).
اجتماع الجيوش الإسلامية (ص253-254).
([531]) تفسير ابن كثير (4/74).
العلو للذهبي (ص57)
([532]) انظر العلو للذهبي (ص 57).
([533]) تفسير الطبري (12/4).
([534]) فتح الباري (13/411).
([535]) أخرجه ابن جرير في تفسيره (15/249).
والدارمي في الرد على بشر المريسي (ص445).
وابن أبي عاصم في السنة (1/258).
والحاكم في المستدرك (2/341).
والبيهقي في الأسماء والصفات (2/237، رقم802).
كلهم بإسنادهم عن سفيان عن الأعمش بنحوه.
قال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي.
وإسناده جيد موقوف.
([536]) خلق أفعال العباد (127).
([537]) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، (14/225).
والترمذي في سننه، كتاب التفسير، باب سورة سبأ، (5/362 رقم2324).
والإمام أحمد في مسنده (1/218).
والدارمي في الرد على الجهمية (ص78).
وابن منده في التوحيد (ق16/ب).
والبيهقي في الأسماء والصفات (1/512-513، رقم436).
والطحاوي في المشكل (3/113).
وأبو نعيم في الحلية (3/143).
كلهم بإسنادهم عن الزهري عن علي بن الحسين به، وبألفاظ متقاربة.
وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح).
([538]) تقدم تخريجه ص 245.
([539]) مدارج السالكين (1/33-34)
([540]) أصول السنة (ص88).
([541]) أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/207). وأبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في الجهمية (5/93، برقم 4723). وأخرجه ابن ماجه في سننه، المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية (1/69). وأخرجه الترمذي في سننه، كتاب التفسير، باب سورة الحاقة (5/424-425، برقم 3320). والدارمي في الرد على بشر المريسي (ص448). وابن أبي عاصم في السنة (1/253). وابن خزيمة في كتاب التوحيد (1/234-235، ح144). والآجري في الشريعة (3/1089-1090، ح665). وابن منده في التوحيد (1/117). واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/390). والذهبي في العلو (ص49). ومدار الحديث من جميع طرقه على "عبد الله بن عميرة" وعبد الله فيه جهالة، ولذلك قال الألباني في تخريج السنة (1/254): "إسناده ضعيف، وعبد الله بن عميرة، قال الذهبي: فيه جهالة، وقال البخاري: لا نعلم له سماعاً من الأحنف بن قيس". انتهى كلامه. ولكن الجوزقاني صرح في الأباطيل (1/79) بصحة الحديث. وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (3/192) حيث قال: "إن هذا الحديث قد رواه إمام الأئمة ابن خزيمة في كتاب التوحيد الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه إلا بما نقله العدل عن العدل موصولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والإثبات مقدم على النفي، والبخاري إنما نفى معرفة سماعه من الأحنف، ولم ينف معرفة الناس بهذا، فإذا عرف غيره كإمام الأئمة ابن خزيمة ما ثبت به الإسناد، كانت معرفته وإثباته مقدماً على نفي غيره وعدم معرفته". انتهى كلامه. وكذلك مال تلميذه ابن القيم إلى تصحيحه. انظر تهذيب السنن (7/92-93).
([542]) أخرجه الدارمي في الرد على الجهمية (ص26، 27).
واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/396).
وأورده ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية (ص100) وقال: (رواه سنيد بن داود بإسناد صحيح).
([543]) تفسير ابن كثير (2/404).
([544]) أخرجه الدارمي في الرد على بشر المريسي (ص71، 73، 74).
وعبد الله بن أحمد في السنة (ص70، 142)
وابن جرير في التفسير (3/10).
والطبراني في المعجم الكبير (12/39، برقم 12404).
والدارقطني في الصفات (ص30).
والحاكم في المستدرك (2/283).
والخطيب البغدادي في تاريخه (9/251-252) من أوجه.
والهروي في الأربعين (ص125).
كلهم من طريق سفيان الثوري عن عمار الذهني عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفاً.
قال الحاكم: (صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي.
وذكر ه الذهبي في العلو (ص61) وقال: (رواته ثقات).
وقال الألباني: (هذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات، وتابعه يوسف بن أبي إسحاق عن عمار الذهني) انظر مختصر العلو (ص102).
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/323): (رجاله رجال الصحيح).
([545]) الرسالة العرشية (ص8).
([546]) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، انظر فتح الباري (13/367).
ومسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، (8/126).
([547]) صحيح مسلم كتاب صفة القيامة (8/126).
([548]) الفتاوى (18/307).
([549]) نقض التأسيس (1/155).
([550]) نقض التأسيس (1/575).
([551]) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في الجهمية (5/96، ح4727). وأورده ابن كثير في تفسير (4/414) وعزاه لابن أبي حاتم وقال: (إسناده جيد ورجاله كلهم ثقات).
([552]) تفسير القاسمي (16/5915).
([553]) الفصل (2/126).
([554]) تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات (رسالة في النبوات) (87).
([555]) أخرجه ابن جرير في تفسيره (29/58).
وأورده الذهبي في العلو (ص88).
وأورده ابن كثير في تفسيره (4/414).
جميعهم من طريق الحكم بن ظهير عن السدي عن أبي مالك عن ابن عباس بمثله.
وأورده السيوطي في الدر المنثور (6/261)، وفي الحبائك (ص50)، عن ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس من طرق بمثله.
([556]) أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة (ص166) بسنده من طريق عبد الأعلى بن حماد عن يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير مثله.
وأورده الذهبي في العلو (ص88) عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير مثله.
وأورده ابن كثير في تفسيره (4/214) من طريق ابن أبي حاتم بسنده عن جرير عن أشعث عن جعفر بن سعيد بن جبير بمثله مقطوعاً، وإسناده جيد، ورجاله كلهم ثقات سوى جعفر بن أبي المغيرة فإنه صدوق يهم.
([557]) تفسير ابن كثير (4/414).
([558]) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب العرش (ح27).
([559]) زاد المسير (8/351).
([560]) فتح القدير (5/282).
[561] تقدم تخريجه.
([562]) أخرجه الدارمي في الرد على بشر المريسي (ص449)، ولفظه (ثمانية أملاك في صورة الأوعال) اهـ.
وأخرجه ابن خزيمة في التوحيد (ص109).
وأخرجه الحاكم في المستدرك (2/378) وقال: (حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي.
وجميعهم من طريق شريك بن سماك عن عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس عن العباس موقوفاً.
وأورده السيوطي في الحبائك (ص46) من طريق عبد بن حميد وعثمان بن سعيد الدارمي، وأبو يعلى، وابن المنذر، وابن خزيمة، وابن مردويه، والحاكم وصححه، وإسناده ضعيف لجهالة عبد الله بن عميرة.
([563]) ذكره ابن كثير في تفسيره عن ابن أبي حاتم (4/414).
([564]) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب العرش (ح31).
وأورده السيوطي في الدر المنثور (6/261) من طريق عبد بن حميد عن الربيع بن أنس مثله.
إسناده منقطع وفيه ضعف لسوء حفظ أبي جعفر الرازي.
([565]) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب العرش (ح24).
وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره (ق284/ب).
والطبري في تفسيره (19/7).
كلاهما من طريق جعفر بن سليمان عن هارون بن رباب عن شهر بن حوشب من قوله.
وعند عبد الرزاق زيادة في آخره (كلهم ينظرون إلى أعمال بني قدرتك) بدل قوله (كانوا يرون أنهم يرون ذنوب بني آدم).
أما في تفسير ابن جرير فوقف على قوله (على عفوك بعد قدرتك) وقد روى الحديث من وجه آخر عن هارون بن رباب.
وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (ق85/ب) بسنده عن رواد بن الجراح عن الأوزاعي عن هارون بن رباب نحوه.
والبيهقي في شعب الإيمان (1/1/91/ب، نسخة الشيخ حماد الأنصاري) بسنده عن العباس بن الوليد بن مزيد قال: أخبرني أبي قال: سمعت الأوزاعي قال: حدثني هارون بن رباب بنحوه.
وأورده السيوطي في الدر المنثور (5/346)، والحبائك (ص47)، وعزاه إلى ابن المنذر، وأبي الشيخ، والبيهقي في شعب الإيمان.
وجاء عندهم جميعاً زيادة (يتجاوبون بصوت حزين رخيم).
وروي أيضاً من وجه آخر عن حسان بن عطية.
أخرجه أبو نعيم في الحلية (6/74) عن أحمد بن إسحاق، ثنا عبد الله، ثنا عباس بن الوليد، أخبرني أبي، ثنا الأوزاعي، عن حسان بن عطية بنحوه.
وأورده الذهبي في العلو (ص58) قال: الوليد بن مزيد العذري، حدثنا الأوزاعي، عن حسان بن عطية، ثم ذكر نحوه، وقال: (إسناده قوي).
([566]) تفسير ابن كثير (4/71).
([567]) زاد المسير (7/208).
([568]) زاد المسير (8/350).
([569]) رواه الطبري من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن رسول الله e وهو خبر مقطوع (29/59)، وإسناده ضعيف.
([570]) انظر تفسير الطبري (29/59).
([571]) أخرجه أحمد في مسنده (1/256).
والدارمي في سننه كتاب الاستئذان (2/296).
والبيهقي في الأسماء والصفات (2/206-207، رقم771).
وأورده ابن كثير في النهاية (1/12)، وقال: (حديث صحيح الإسناد، ورجاله ثقات وهو يقتضي أن حملة العرش اليوم أربعة).
([572]) أخرجه ابن جرير في تفسيره (24/30).
وأورده ابن كثير في النهاية (1/172-176)، وعزاه للحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده، وقال: (رواه جماعة من الأئمة في كتبهم كابن جرير في تفسيره، والطبراني في المطولات وغيرها، والحافظ البيهقي في كتاب البعث والنشور، والحافظ أبي موسى المديني في المطولات أيضاً من طرق متعددة عن إسماعيل بن رافع قاص المدينة، وقد تكلم فيه بسببه، وفي بعض سياقاته نكارة واختلاف).
([573]) انظر مختصر الصواعق (1/288).
([574]) انظر التنبيه والرد (ص104)، والكشاف (1/385-386)، ومجموع الفتاوى (5/60)، والرد على بشر المريسي (ص71)، وتفسير روح المعاني (3/10).
([575]) أخرجه الطبري في تفسيره (3/9).
وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة (2/167).
وابن منده في الرد على الجهمية (ص45).
وأورده ابن كثير في تفسيره (1/309)، وعزاه إلى ابن أبي حاتم وجميعهم من طريق مطرف عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عنه، وهو حديث غير صحيح.
وقال الدارمي: (هو من رواية جعفر الأحمر، وليس جعفر ممن يعتمد على روايته إذا قد خالفه الرواة المتقنون).
وقال ابن منده: (لم يتابع عليه جعفر وليس هو بالقوي في سعيد بن جبير).
([576]) تفسير الطبري (3/11).
([577]) في كلام ابن جرير في هذه المسألة تناقض، فقد ذكر أولاً أن هذا القول هو أولى بتأويل الآية، ثم نقض كلامه فقال: (أما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن فقول ابن عباس أنه علم الله سبحانه)، وقد تكلم محمود شاكر في تعليقه على تفسير الطبري على هذا التناقض وبين عدم أرجحية كلا القولين. انظر تفسير الطبري (5/401) طبعة دار المعارف المصرية.
([578]) أخرجه الدارمي في الرد على المريسي (ص74)، مرسلا. وابن أبي عاصم في السنة (1/251-252، برقم 574). وعبد الله بن أحمد في السنة (1/301، ح585) موقوفا من قول عمر. وابن جرير في تفسيره (3/11) من طريق عبد الله بن أبي الزناد، قال: ثنا يحي بن أبي بكير، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة الهمداني، عن عمر. وقد أخرجه ابن خزيمة في كتاب التوحيد (1/244، 245 برقم 150) وقال: "وقد روى إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة أظنه عن عمر "-وذكره. وقال: حدثنا، يعقوب بن إبراهيم الدورقي، قال حدثنا يحي بن أبي بكير، قال: ثنا إسرائيل، قال أبو بكر: ما أدري، الشك والظن أنه عن عمر، هو من يحي بن أبي بكير، أم من إسرائيل. قد رواه وكيع بن الجراح مرسلاً ليس فيه ذكر عمر لا بيقين ولا ظن، وليس هذا الخبر من شرطنا، لأنه غير متصل الإسناد، لسنا نحتج في هذا الجنس من العلم بالمراسيل المنقطعات" اهـ. والبزار في مسنده (1/457، برقم 325). وأخرجه الدارقطني في الصفات (ص48) موقوفا. وابن بطة في الإبانة (كتاب الرد على الجهمية) (3/178-180). والخطيب في تاريخه (8/52) مرسلا. وأورده ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/5) وقال بعد سياقه للحديث: "هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسناده مضطرب جدًا، وعبد الله بن خليفة ليس من الصحابة، فتارة يرويه ابن خليفة عن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتارة يقفه على عمر، وتارة يوقف على ابن خليفة" اهـ. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1/84) وقال: "رواه البزار ورجاله رجال الصحيح". وأورده ابن كثير في تفسيره (1/310) وعزاه للبزار في مسنده، وعبد بن حميد، وابن جرير في تفسيرهما، والطبراني، وابن أبي عاصم في كتاب السنة لهما، والحافظ الضياء في كتاب المختارة. وقال ابن كثير: "من حديث أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الله بن خليفة وليس بذاك المشهور، وفي سماعه من عمر نظر، ثم منهم من يرويه عن عمر موقوفاً، ومنهم من يرويه عن عمر مرسلاً، ومنهم من يزيد في متنه زيادة غريبة ومنهم من يحذفها" اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "حديث عبد الله بن خليفة المشهور الذي يروى عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في "مختاره". وطائفة من أهل الحديث ترده لاضطرابه، كما فعل ذلك أبو بكر الإسماعيلي، وابن الجوزي، وغيرهم. لكن أكثر أهل السنة قبلوه. وفيه قال "إن عرشه" أو "كرسيه" "وسع السموات والأرض، وإنه يجلس عليه فما يفضل منه قدر أربع أصابع" أو "فما يفضل منه إلا قدر أربع أصابع" "وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد براكبه". ولفظ (الأطيط) قد جاء في حديث جبير بن مطعم. الذي رواه أبو داود في السنن. وابن عساكر عمل فيه جزءاً، وجعل عمدة الطعن في ابن إسحاق. والحديث قد رواه علماء السنة كأحمد، وأبي داود، وغيرهما، وليس فيه إلا ما له شاهد من رواية أخرى. ولفظ "الأطيط" قد جاء في غيره. وحديث ابن خليفة رواه الإمام أحمد وغيره مختصراً، وذكر أنه حدث به وكيع. لكن كثيراً ممن رواه رووه بقوله: "إنه ما يفضل منه إلا أربع أصابع"، فجعل العرش يفضل منه أربعة أصابع. واعتقد القاضي، وابن الزاغوني، ونحوهما، صحة هذا اللفظ، فأمروه وتكلموا على معناه بأن ذلك القدر لا يحصل عليه الاستواء. وذكر عن ابن العايذ أنه قال: "هو موضع جلوس محمد صلى الله عليه وسلم". والحديث قد رواه ابن جرير الطبري في تفسيره وغيره، ولفظه "وإنه ليجلس عليه، فما يفضل منه قدر أربع أصابع" بالنفي. فلو لم يكن في الحديث إلا اختلاف الروايتين -هذه تنفي ما أثبتت هذه-. ولا يمكن مع ذلك الجزم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الإثبات، وأنه يفضل من العرش أربع أصابع لا يستوي عليها الرب. وهذا معنى غريب ليس له قط شاهد في شيء من الروايات. بل هو يقتضي أن يكون العرش أعظم من الرب وأكبر. وهذا باطل، مخالف للكتاب والسنة، وللعقل. ويقتضي أيضاً أنه إنما عرف عظمة الرب بتعظيم العرش المخلوق وقد جعل العرش أعظم منه. فما عظم الرب إلا بالمقايسة بمخلوق وهو أعظم من الرب. وهذا معنى فاسد، مخالف لما علم من الكتاب والسنة والعقل. فإن طريقة القرآن في ذلك أن يبين عظمة الرب، فإنه أعظم من كل ما يعلم عظمته. فيذكر عظمة المخلوقات ويبين أن الرب أعظم منها. كما في الحديث الآخر الذي في سنن أبي داود، والترمذي، وغيرهما (حديث الأطيط) لما قال الأعرابي: "إنا نستشفع بالله عليك، ونستشفع بك على الله تعالى، فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال: "ويحك! أتدري ما تقول؟ أتدري ما الله؟ شأن الله أعظم من ذلك. إن عرشه على سمواته هكذا" -وقال بيده مثل القبة-"وإنه ليأط به أطيط الرحل الجديد براكبه". فبين عظمة العرش، وأنه فوق السموات مثل القبة. ثم بين تصاغره لعظمة الله، وأنه يأط به أطيط الرحل الجديد براكبه، فهذا فيه تعظيم العرش، وفيه أن الرب أعظم من ذلك كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتعجبون من غيرة سعد! لأنا أغير منه، والله أغير مني". وقال: "لا أحد أغير من الله. من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن". ومثل هذا كثير. وهذا وغيره يدل على أن الصواب في روايته النفي، وأنه ذكر عظمة العرش، وأنه مع هذه العظمة فالرب مستوٍ عليه كله لا يفضل منه قدر أربعة أصابع. وهذه غاية ما يقدر به في المساحة من أعضاء الإنسان، كما يقدر في الميزان قدره فيقال: (ما في السماء قدر كف سحاباً). فإن الناس يقدرون الممسوح بالباع والذراع، وأصغر ما عندهم الكف. فإذا أرادوا نفي القليل والكثير قدروا به، فقالوا: (ما في السماء قدر كف سحاباً)، كما يقولون في النفي العام {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَةٍ} و {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير}، ونحو ذلك. فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يفضل من العرش شيء ولا هذا القدر اليسير الذي هو أيسر ما يقدر به وهو أربعة أصابع. وهذا معنى صحيح موافق للغة العرب، وموافق لما دل عليه الكتاب والسنة، موافق لطريقة بيان الرسول صلى الله عليه وسلم، له شواهد. فهو الذي يجزم بأنه في الحديث. ومن قال: (ما يفضل إلا مقدار أربع أصابع) فما فهموا هذا المعنى، فظنوا أنه استثنى، فاستثنوا، فغلطوا. وإنما هو توكيد للنفي وتحقيق للنفي العام. وإلا فأي حكمة في كون العرش يبقى منه قدر أربع أصابع خالية، وتلك الأصابع أصابع من الناس، والمفهوم من هذا أصابع الإنسان. فما بال هذا القدر اليسير لم يستو الرب عليه؟ والعرش صغير في عظمة الله تعالى. وقد جاء حديث رواه ابن أبي حاتم في قوله
{لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارَُ} لمعناه شواهد تدل على هذا فينبغي أن نعتبر الحديث، فنطابق بين الكتاب والسنة. فهذا هذا والله أعلم. قال حدثنا أبو زرعة، ثنا منجاب بن الحارث، أنبأ بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}، قال: "لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا، صفوا صفاً واحداً ما أحاطوا بالله أبداً". وهذا له شواهد، مثل ما في الصحاح في تفسير قوله تعالى {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}، قال ابن عباس: "ما السموات السبع والأراضون السبع ومن فيهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم". ومعلوم أن العرش لا يبلغ هذا، فإن له حملة وله حول. قال تعالى {اَلذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} ". اهـ. مجموع الفتاوى (16/434-439). وانظر المسألة كذلك في منهاج السنة (2/628-631).
([579]) انظر تفسير القرطبي (3/276)، تهذيب اللغة (10/53)، أقاويل الثقات في تأويل آيات الأسماء والصفات (ص116)، لسان العرب (6/194).
([580]) تفسير القرطبي (3/276)، غرائب القرآن ورغائب الفرقان (3/18)
([581]) كتاب الكليات (4/122)، البداية والنهاية (1/14)، تفسير ابن كثير (1/310).
([582]) الفتاوى (5/54)، تفسير ابن كثير (1/309)، أقاويل الثقات (116)، الأسماء والصفات (510)، شرح العقيدة الطحاوية (ص313).
([583]) تقدم تخريجه ص246.
([584]) تقدم تخريجه قريباً.
([585]) تقدم تخريج الأثر الوارد عنه.
([586]) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب العرش برقم (60).
وعبد الله بن أحمد في السنة (ص70،143) عن أبيه.
وابن جرير في تفسيره (3/9) عن علي بن مسلم الطوسي.
وابن منده في الرد على الجهمية (ص46) عن علي بن مسلم.
والبيهقي في الأسماء والصفات (ص509-510) عن هارون بن عبد الله.
كلهم عن عبد الصمد بن عبد الوارث به.
وأورده الذهبي في العلو (ص84).
وقال الألباني في مختصر العلو (ص123-124): (رجاله كلهم ثقات معروفون).
([587]) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب العرش برقم (45).
والدارمي في الرد على بشر المريسي (ص74).
وعبد الله بن أحمد في السنة (ص71).
والبيهقي في الأسماء والصفات (ص511).
وأورده الذهبي في العلو (ص94).
وأورده ابن حجر في فتح الباري (13/411) وقال: (أخرجه سعيد بن منصور في تفسيره بسند صحيح عنه.
([588]) الفتاوى (6/584).
([589]) شرح العقيدة الطحاوية (ص313).
([590]) أصول السنة (ص96).
([591]) تفسير القرطبي (3/276).
([592]) تهذيب اللغة (10/53).
([593]) تهذيب اللغة (10/53).
([594]) البداية والنهاية (1/13).
([595]) الأسماء والصفات.