مسائل كتب العقيدة (⮫)


 مسائل كتب العقيدة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلّم على عبده ورسوله محمّدٍ خاتَمِ المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فإنّ العلم بالعقيدة والتوحيد وما يتعلق بهما من مسائل أمر ضروري لكل مسلم ومسلمة؛ فإن العبادة لا تقبل إلا مع صحة الإيمان، ولا نجاة للعبد في الدنيا والاخرة إلا بالعقيدة الصحيحة، قال الله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً  وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾‏‏

 [النحل: 97]، وقال سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾‏‏ [الكهف: 110].

 ولا يمكن للمسلم أن يفهم دينه وعقيدته ويعمل بها، إلا إذا عرفها وعلم معناها، وأولاها اهتمامه وعنايته، وبذل جهده وطاقته للإلمام بها، لتكون عبادته لربه مبنية على أساس صحيح ومتين، ومن وفقه الله لمعرفة العقيدة، والأخذ بها فقد هدي إلى صراط الله المستقيم، وحصل على خير كثير.

يقول الله سبحانه: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾‏‏ [البقرة:269]،  ويقول النبي  صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين»، متفق عليه.

ومن أجل ذلك حرص موقع دار الإسلام التابع لجمعية الدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات بحي الربوة- من ضمن مشاريعه لبناء البنية الأساسية للعلوم الشرعية والتي شملت موسوعة القرآن الكريم، وموسوعة السنة النبوية، وموسوعة الأسماء والصفات، وغيرها من الموسوعات- أن يكون ضمن مشاريعه: مشروع لتقريب المسائل العقدية لعموم المسلمين، فقام بإعداد كتاب (مسائل كتب العقيدة) الذي يشمل أهم مسائل العقيدة مستفادا من كتاب تسهيل العقيدة للشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن جبرين – رحمه الله- وغيره من الكتب.

نسأل الله عز وجل أن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح، كما نسأله سبحانه أن يجعله صالحاً ولوجهه خالصاً، وأن ينفع به ويبارك فيه، إنه سبحانه بكل جميلٌ كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


 العقيدة

 أهمية العقيدة:

العقيدة الإسلامية هي التي بعث الله بها رسله، وأنزل بها كتبه، وأوجبها على جميع خلقه الجن والإنس:

كما قال تعالى-: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾‏‏.

وقال تعالى-: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إلاّ إِيَّاهُ﴾‏‏.

وقال تعالى-: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾‏‏.

فكل الرسل جاؤوا بالدعوة إلى هذه العقيدة، وكل الكتب الإلهية نزلت لبيانها وبيان مايبطلها ويناقضها أو ينقضها، وكل المكلفين من الخلق أمروا بها، وإن ما كان هذا شأنه وأهميته لجديرٌ بالعناية والبحث والتعرف عليه قبل كل شيء، خصوصا وأن هذه العقيدة تتوقف عليها سعادة البشرية في الدنيا والآخرة:

قال تعالى-: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِالله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا﴾‏‏.

ومعنى ذلك: أن من أفلت يده من هذه العقيدة؛ فإنه يكون متمسكا بالأوهام والباطل؛ فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!

﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ﴾‏‏ ، وبالتالي؛ يكون مصيره إلى النار وبئس القرار.

 والعقيدة معناها:

ما يصدقه العبد ويدين الله به من الإيمان الجازم بالله تعالى،وبما يجبله من التوحيد، والإيمان بملائكته وكتبه،ورسله،واليوم الآخر،والقدرخيره وشرِّه، وبما يتفرع عن  هذه الأصول ويلحق بها مما هومن أصول الدين.

فإن كانت هذه العقيدة موافقة لما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه؛ فهي عقيدة صحيحة سليمة، وتحصل بها النجاة من عذاب الله والسعادة في الدنيا والآخرة، وإن كانت هذه العقيدة مخالفة لما أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه؛ فهي عقيدة توجب لأصحابها العذاب والشقاء في الدنيا والآخرة.

ولهذا فإننا حين نطلق عبارة العقيدة الإسلامية فإنا نعني بها عقيدة أهل السنة والجماعة إذ هو الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده وهي عقيدة القرون الثلاثة الفاضلة .

- العقيدة السليمة الصحيحة تعصم الدم والمال في الدنيا، وتحرم الاعتداء عليهما وانتهاكهما بغير حق؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها"، وقال صلى الله عليه وسلم: "من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل" رواه مسلم.

وهي- أيضا- تنجي من عذاب يوم القيامة؛ فقد روى مسلم عن جابر- رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئا؛ دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا؛ دخل النار"، وفي (الصحيحين) من حديث عتبان بن مالك- رضي الله عنه -: "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله؛ يبتغي بذلك وجه الله".

- والعقيدة الصحيحة السليمة يكفر الله بها الخطايا؛ فقد روى الترمذي وحسنه عن أنس- رضي الله عنه -: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا؛ لأتيتك بقرابها مغفرة".و (قراب الأرض): ملؤها أو ما يقارب ملأها.

فشرط لحصول هذه المغفرة سلامة العقيدة من الشرك؛ كثيره وقليله، صغيره وكبيره، ومن كان كذلك؛ فهو صاحب القلب السليم، قال الله فيه: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إلاّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾‏‏ .

قال العلامة ابن القيم- رحمه الله- في معنى حديث عتبان: "ويعفى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك، فلو لقي الموحد الذي لم يشرك بالله شيئا ألبتة ربه بقراب الأرض خطايا؛ أتاه بقرابها مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده؛ فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب؛ لأنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب، لو كانت قراب الأرض؛ فالنجاسة عارضة والدافع لها قويٌّ ... " انتهى.

- والعقيدة السليمة تُقبل معها الأعمال وتنفع صاحبها؛ قال تعالى-: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾‏‏ .

وعلى العكس من ذلك؛ فالعقيدة الفاسدة تحبط جميع الأعمال؛ قال تعالى-: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾‏‏، وقال تعالى-: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾‏‏ .

- والعقيدة الفاسدة بالشرك تحرم من الجنة والمغفرة، وتوجب العذاب والخلود في النار؛ قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾‏‏ ، وقال تعالى-: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾‏‏ ٦.

- والعقيدة الفاسدة تهدر الدم، وتبيح المال الذي يملكه صاحب تلك العقيدة؛ قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾‏‏ ، وقال تعالى-: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾‏‏. وبالتالي؛ فالعقيدة السليمة لها آثار طيبة في القلوب والسلوك الاجتماعي والنظام العمراني؛ فهناك فريقان كل منهما بنى مسجدًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: فريق بنى مسجده بنية صالحة وعقيدة خالصة لله عز وجل، وفريق بنى مسجده لهدف سيىء وعقيدة فاسدة؛ فأمر الله نبيه أن يصلي في المسجد أسس على التقوى، نهاه أن يصلي في المسجد الذي أسس على الكفر والمقاصد السيئة؛ قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاّ الْحُسْنَى وَالله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَالله يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ الله وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَالله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾‏‏.


 العقيدة - وجوب معرفة العقيدة الإسلامية

يجب على كل مسلم أن يتعلم العقيدة الإسلامية؛ ليعرف معناها وما تقوم عليه، ثم يعرف ما يضادها ويبطلها أو ينقصها من الشرك الأكبر والأصغر:

قال الله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إلاّ الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾‏‏ .

قال الإمام البخاري- رحمه الله -: (باب العلم قبل القول والعمل) ، واستشهد بهذه الآية الكريمة.

قال الحافظ ابن حجر: "قال ابن المنير: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل؛ فلا يعتبران إلا به؛ فهو متقدم عليهما؛ لأنه مصحح للنية المصححة للعمل ... " انتهى.

ومن هنا اتجهت همم أهل العلم إلى تعلم أحكام العقيدة وتعليمها، واعتبروا ذلك من أوليات العلوم، وألفوا فيها مؤلفات خاصة فصلوا فيها أحكامها وما يجب فيها، وبينوا ما يفسدها أو ينقضها من الشركيات والخرافات والبدع.

وهذا هو معنى لا إله إلا الله؛ فليست مجرد كلمة تقال باللسان، بل لها مدلول ومعنى ومقتضى، تجب معرفتها كلها، والعمل بها ظاهرًا وباطنا، ولها منقضات ومنقصات، ولا يتضح ذلك إلا بالتعلم، ولهذا؛ يجب أن يكون لعلم العقيدة الصدارة بين المقررات الدراسية في مختلف المراحل، وأن تعطى من الحصص اليومية العدد الكافي، ويختار لها المدرسون الأكفاء، وأن يركز عليها في النجاح والرسوب؛ خلاف ما عليه غالب واقع الدراسات المنهجية اليوم؛ فإن علم العقيدة في الغالب لا يحظى بالاهتمام في تلك الدراسات، ومما يخشى من ورائه أن ينشأ جيل يجهل العقيدة الصحيحة، فيستسيغ الشركيات والبدع والخرافات، ويعتبرها من العقيدة؛ لأنه وجد الناس عليها، ولم يعرف بطلانها.

ومن هنا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه -: "يوشك أن تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية".

هذا؛ ويجب اختيار الكتب الصحيحة السليمة، التي ألفت على مذهب السلف الصالح وأهل السنة والجماعة، والمطابقة للكتاب والسنة؛ فتقرر على الطلاب، وتستبعد الكتب المخالفة لمنهج السلف؛ ككتب الأشاعرة والمعتزلة والجهمية وسائر الفرق الضالة عن منهج السلف.

وإلى جانب الدراسة النظامية يجب أن يكون هناك دروس تعقد في المساجد، تدرس فيها العقيدة السلفية بالدرجة الأولى، وتقرأ فيها المتون والشروح؛ ليستفيد منها الطلاب وكل من حضر، ويكون هناك مختصرات مبسطة تلقى للعامة، وبذلك تنتشر العقيدة الإسلامية، إلى جانب ما يذاع في البرامج الدينية بواسطة الإذاعة، ويكون هناك برنامج مستمر تذاع من خلاله أحكام العقيدة الإسلامية.

ثم يجب أن يكون هناك اهتمام خاص بالعقيدة من جانب الأفراد؛ فيكون للمسلم مطالعات في كتب العقيدة، والتعرف على ما ألف فيها على منهج السلف، وما ألف على منهج المخالفين لهم، حتى يكون المسلم على بصيرة من أمره، وحتى يستطيع رد الشبه الموجهة إلى عقيدة أهل السنة.

أيها المسلم: إنك حينما تتأمل القرآن الكريم؛ تجد فيه كثيرًا من الآيات والسور تهتم بأمر العقيدة، بل إن السور المكية تكاد تكون مختصة ببيان العقيدة الإسلامية ورد الشبهات الموجهة إليها.

خذ مثلاً سورة الفاتحة:

قال الإمام العلامة ابن القيم- رحمه الله -: "اعلم أن هذه السورة اشتملت على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال، وتضمنتها أكمل تضمن؛ فاشتملت على التعريف بالمعبود تبارك وتعالى بثلاثة أسماء، مرجع الأسماء الحسنى والصفات العليا إليها، ومدارها عليها، وهي: (الله) ، و (الرب) ، و (الرحمن) ، وبنيت السورة على الإليهة والربوبية والرحمة: ف ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾‏‏ مبني على الإلهية، و ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾‏‏ على الربوبية، وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم يتعلق بصفة الرحمة، والحمد يتضمن الأمور الثلاثة؛ فهو المحمود في إلهيته وربوبيته ورحمته، والثناء والحمد كمالان لجده، وتضمنت إثبات المعاد، وجزاء العباد بأعمالهم حسنها وسيئها، وتفرد الرب تعالى بالحكم، إذ ذاك بين الخلائق، وكون حكمه بالعدل، كل هذا تحت قوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾‏‏ ، وتضمنت إثبات النبوات من جهات عديدة ... " ثم بينها رحمة الله بكلام مطول مفيد.

إلى أن قال: "فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم؛ ف ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾‏‏ توحيد، ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾‏‏ توحيد، ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾‏‏ توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد، ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾‏‏ الذين فارقوا التوحيد

وقال: "وغالب سور القرآن متضمنة لنوعي التوحيد؛ فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته، وهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وتوحيده وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه؛ فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته؛ فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرامه لأهل توحيده وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة، وهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما فعل بهم في العقبى من العذاب؛ فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد...." انتهى.

ومع اهتمام القرآن بشأن العقيدة الإسلامية؛ فإن أكثر الذين يقرؤونه لا يفهمون العقيدة فهما صحيحا، فصاروا يخلطون ويغلطون فيها؛ لأنهم يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم، ولا يقرؤون القرآن بتدبر؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله.


 العقيدة

 الدعوة إلى العقيدة الإسلامية

يجب على المسلم بعدما يمن الله عليه بمعرفة هذه العقيدة والتمسك بها أن يدعو الناس إليها لإخراجهم بها من الظلمات إلى النور؛ كما قال تعالى-: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِالله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾‏‏ .

والدعوة إلى العقيدة الإسلامية هي فاتحة دعوة الرسل جميعا؛ فلم يكونوا يبدؤون بشيء قبلها؛ كما قال الله تعالى عنهم: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾‏‏.

وكل رسول يقول لقومه أول ما يدعوهم: ﴿اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾‏‏ كما قالها نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وسائر عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين.

فيجب على من عرف هذه العقيدة وعمل بها أن لا يقتصر على نفسه، بل يدعو الناس إليها بالحكمة والموعظة الحسنة، كما هو سبيل المرسلين وأتباعهم.

وإن الدعوة إلى هذه العقيدة هو الأساس والمنطلق؛ فلا يدعى إلى شيء قبلها من فعل الواجبات وترك المحرمات حتى تقوم هذه العقيدة وتتحقق؛ لأنها هي الأساس المصحح لجميع الأعمال، وبدونها لا تصح الأعمال ولا تقبل ولا يثاب عليها.

ومن المعلوم بداهة أن أي بناء لا يقوم ولا يستقيم إلا بعد إقامة أساسه، ولهذا كان الرسل يهتمون بها قبل كل شيء، وكان النبي (عندما يبعث الدعاة يوصيهم بالبداءة بالدعوة إلى تصحيح العقيدة؛ فعن ابن عباس- رضي الله عنهما، أن رسول الله (لما بعث معاذًا إلى اليمن؛ قال له: "إنك تأتي قوما من أهل الكتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله " وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله، فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك؛ فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" رواه البخاري ومسلم.

فمن هذا الحديث الشريف، ومن استقراء دعوة الرسل في القرآن، ومن استقراء سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، يؤخذ الدعوة إلى الله، وأن أول ما يدعى الناس إليه هو العقيدة، المتمثلة بعبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه؛ كما هو معنى لا إله إلا الله.

وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة بعد البعثة، يدعو الناس إلى تصحيح العقيدة؛ بعبادة الله وحده، وترك عبادة الأصنام، قبل أن يأمر بالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد وترك المحرمات من الربا والزنا والخمر والميسر.

وهذا ما يدلنا دلالة واضحة على خطأ بعض الجماعات المعاصرة التي تنتمي للدعوة، وهي لا تهتم بالعقيدة، وإنما تركز على أمور جانبية أخلاقية وسلوكية، وهي ترى كثيرًا من الناس يمارسون الشرك الأكبر حول الأضرحة المبنية على القبور في بعض ديار الإسلام، ولا تنكر ذلك، ولا تنهى عنه؛ لا في كلمة، ولا في محاضرة، ولا في مؤلف؛ إلا قليلاً، بل قد يكون بين صفوف تلك الجماعات من يمارس الشرك والتصوف المنحرف ولا ينهونه ولا ينبهونه، مع أن البداءة بدعوة هؤلاء وإصلاح عقيدتهم أولى من دعوة الملاحدة والكفار المصرحين بكفرهم؛ لأن الملاحدة والكفار مصرحون بكفرهم، ومقرون أن ما هم عليه مخالف لما جاءت به الرسل، أما أولئك القبوريون والمتصوفة المنحرفون، فيظنون أنهم مسلمون، وأن ما هم عليه هو الإسلام، فيغترون ويغرون غيرهم.

والله جل وعلا أمرنا بالبداءة بالكفار الأقربين، وقال تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ الله مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾‏‏ ، فما لم تصف صفوف المسمين من الدخيل؛ فإنهم لن يستطيعوا الصمود في وجه عدوهم.

ويحكى أن قبوريا رأى رجلاً يعبد صنما أمامه، فأنكر عليه القبوري، فقال له عابد الصنم: أنت تعبد مخلوقا غائبا عنك، وأنا أعبد مخلوقا ماثلاً أمامي؛ فأينا أعجب؟ فانخصم القبوري.

هذا؛ وإن كان كل منهما مشركا ضالا لأنه يعبد ما لا يملك ضرًا ولا نفعا؛ إلا أن القبوري أغرق في الضلال وأبلغ في طلب المحال.

فيجب على الدعاة إلى الله أن يركزوا على جانب العقيدة أكثر من غيرها، ويقبلوا على دراستها وتفهمها أولاً، ثم يعلموها لغيرهم، ويدعوا إليها من انحرف عنها أو أخل بها؛ قال الله تعالى لنبيه: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾‏‏ .

قال الإمام ابن جرير- رحمه الله- في تفسير هذه الآية الكريمة: (يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿قُلْ﴾‏‏ يا محمد. ﴿هَذِهِ﴾‏‏ الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها من الدعاء إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأوثان، والانتهاء إلى طاعته، وترك معصيته. ﴿سَبِيلِي﴾‏‏ وطريقتي ودعوتي ﴿أَدْعُو إِلَى الله﴾‏‏ تعالى وحده لا شريك له. ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ﴾‏‏ بذلك ويقين علم مني. ﴿أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾‏‏؛ أي: ويدعو إليه على بصيرة- أيضا- من اتبعني وصدقني وآمن بي. ﴿وَسُبْحَانَ الله﴾‏‏؛ يقول له تعالى ذكره: وقل تنزيها لله تعالى وتعظيما له من أن يكون له شريك في ملكه أو معبود سواه في سلطانه. ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾‏‏؛ يقول: "وأنا بري من أهل الشرك به، لست منهم، ولا مني" انتهى كلام ابن جرير.

فالآية الكريمة تدل على أهمية معرفة العقيدة الإسلامية والدعوة إليها، وأن أتباع الرسول (هم من اقتدى به في ذلك، واتصف بالصفتين؛ العلم بالعقيدة والدعوة إليها، وأن من لم يتعلم أحكام العقيدة ويهتم بها ويدع إليها؛ فليس من أتباع الرسول على الحقيقة، وإن كان من أتباعه على سبيل الانتساب والدعوى.

وقال الإمام ابن القيم- رحمه الله- في معنى قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾‏‏

"ذكر سبحانه مراتب الدعوة، وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو: فإنه إما أن يكون طالبا للحق، مؤثرًا له على غيره إذا عرفه؛ فهذا يدعى بالحكمة، ولا يحتاج إلى موعظة وجدال. وإما أن يكون مشتغلاً بضد الحق، لكن لو عرفه؛ آثره واتبعه؛ فهذا يحتاج إلى الموعظة بالترغيب والترهيب.

وإما أن يكون معاندًا معارضا؛ فهذا يجادل بالتي هي أحسن، فإن رجع، وإلا؛ انتقل معه إلى غير الجدال إن أمكن ... " انتهى كلام ابن القيم.

وبهذا تبين منهج الدعوة وما ينبغي فيها، وتبين خطأ ما تنتهجه بعض الجماعات المنتمية إلى الدعوة، وهي تخالف المنهاج السليم الذي بينه الله ورسوله.


 العقيدة - أصول العقيدة الإسلامية

العقيدة الإسلامية التي هي عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة هي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره.

وهذه الأصول دلت عليها نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، وأجمعت عليها الأمة:

قال تعالى -: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾‏‏

وقال تعالى-: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾‏‏.

وقال تعالى-: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِالله وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾‏‏.

وقال تعالى-: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالله وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً﴾‏‏.

وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره".

وهذه الأصول العظيمة (وتسمى أركان الإيمان) قد اتفقت عليها الرسل والشرائع، ونزلت بها الكتب السماوية، ولم يجحدها أو شيئا منها إلا من خرج عن دائرة الإيمان وصار من الكافرين؛ كما قال تعالى -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ الله غَفُوراً رَحِيماً﴾‏‏ .

 أصول العقيدة الإيمان بالله:

 الأصل الأول: الإيمان بالله عز وجل:

وهو أساس العقيدة وأصلها، وهو يعني الاعتقاد الجازم بأن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه الخالق وحده، المدبر للكون كله، وأنه هو الذي يستحق العبادة وحده، لا شريك له، وأن كل معبود سواه فهو باطل وعبادته باطلة، قال تعالى -: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ الله هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾‏‏ ، وأنه سبحانه متصف بصفات الكمال ونعوت الجلال، منزه عن كل نقص وعيب، وهذا هو التوحيد بأنواعه الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.

 1- الإيمان بالله

 2- توحيد الربوبية

3- توحيد الربوبية؛ هو الإقرار بأن الله وحده الخالق للعالم، وهو المدبر، المحيي، المميت، وهو الرزاق، ذو القوة، المتين.

والإقرار بهذا النوع مركوز في الفطر، لا يكاد ينازع فيه أحد من الأمم؛ كما قال تعالى -: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله﴾‏‏، وقال تعالى -: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالآرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾‏‏ ، وقال تعالى -: ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾‏‏  ... وهذا في القرآن كثير، يذكر الله عن المشركين أنهم يعترفون لله بالربوبية والانفراد بالخلق والرزق والإحياء والإماتة.

ولم ينكر توحيد الربوبية ويجحد الرب إلا شواذ من المجموعة البشرية، تظاهروا بإنكار الرب، مع اعترافهم به في باطن أنفسهم وقرارة قلوبهم، وإنكارهم له إنما هو من باب المكابرة؛ كما ذكر الله عن فرعون أنه قال: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾‏‏،وقد خاطبه موسى عليه السلام بقوله: ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إلاّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالآرْضِ بَصَائِرَ﴾‏‏ ، وقال تعالى -: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾‏‏.

وهم لم يستندوا في جحودهم إلى حجة، وإنما ذلك مكابرة منهم؛ كما قال تعالى-: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلاّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إلاّ يَظُنُّونَ﴾‏‏ ، فهم لم ينكروا عن علم دلهم على إنكاره سمع ولا عقل ولا فطرة.

ولما كان هذا الكون وما يجري فيه من الحوادث شاهدًا على وحدانية الله وربوبيته؛ إذ المخلوق لا بد له من خالق، والحوادث لا بد لها من محدث؛ كما قال تعالى-: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالآرْضَ﴾‏‏.

وقال الشاعر:

وفي كل شيء له آية ...... تدل على أنه واحد

لما كان لا بد من جواب على هذه الحقيقة؛ اضطرب هؤلاء المنكرون لوجود الخالق في أجوبتهم:

- فتارة يقولون: هذا العلم وجد نتيجة للطبيعة التي هي عبارة عن ذات الأشياء من النبات والحيوان والجمادات؛ فهذه الكائنات عندهم هي الطبيعة، وهي التي أوجدت نفسها.

- أو يقولون: هي عبارة عن صفات الأشياء وخصائصها من حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة وخشونة، وهذه القابليات من حركة وسكون ونمو وتزاوج وتوالد، هذه الصفات وهذه القابليات هي الطبيعة بزعمهم، وهي التي أوجدت الأشياء.

وهذا قول باطل على كلا الاعتبارين؛ لأن الطبيعة بالاعتبار الأول- على حد قولهم- تكون خالقة ومخلوقة؛ فالأرض خلقت الأرض، والسماء خلقت السماء ... وهكذا، وهذا مستحيل، وإذا كان صدور الخلق عن الطبيعة بهذا الاعتبار مستحيلاً؛ فاستحالته بالاعتبار الثاني أشد استحالة؛ لأنه إذا عجزت ذات الشيء عن خلقه؛ فعجز صفته من باب أولى؛ لأن وجود الصفة مرتبط بالموصوف الذي تقوم به؛ فكيف تخلقه وهي مفتقرة إليه؟! وإذا ثبت بالبرهان حدوث الموصوف؛ لزم حدوث الصفة، وأيضا، فالطبيعة لا شعور لها؛ فهي آلة محضة؛ فكيف تصدر عنها الأفعال العظيمة التي هي في غاية الإبداع والإتقان، وفي نهاية الحكمة، وفي غاية الارتباط؟!

ومن هؤلاء الملاحدة من يقول: إن هذه الكائنات تنشأ عن طريق المصادفة؛ بمعنى أن تجميع الذرات والجزئيات عن طريق المصادفة يؤدي إلى ظهور الحياة بلا تدبير من خالق مدبر ولا حكمة.

وهذا قول باطل، ترده العقول والفطر؛ فإنك إذا نظرت إلى هذا الكون المنظم بأفلاكه وأرضه وسمائه وسير المخلوقات فيه بهذه الدقة والتنظيم العجيب؛ تبين لك أنه لا يمكن أن يصدر إلا عن خالق حكيم.

قال ابن القيم: "فسل المعطل الجاحد: ماذا تقول في دولاب دائر على نهر، وقد أحكمت آلاته، وأحكم تركيبه، وقدرت أدواته أحسن تقدير وأبلغه؛ بحيث لا يرى الناظر فيه خللاً في مادته ولا في صورته وقد جعل على حديقة عظيمة، فيها من كل أنواع الثمار والزروع، يسقيها حاجتها، وفي تلك الحديقة من يلم شعثها ويحسن مراعاتها وتعهدها والقيام بجميع مصالحها؛ فلا يختل منها شيء، ثم يقسمها قَيِّمها عند الجذاذ على سائر المحاويج بحسب حاجتهم وضروراتهم، فيقسم لكل صنف منهم ما يليق به، ويقسمه هكذا على الدوام؛ أترى هذا اتفاقا بلا صانع ولا مختار ولا مدبر؟! بل اتفق وجود ذلك الدولاب والحديقة وكل ذلك اتفاقا من غير فاعل ولا قيم ولا مدبر؟! أفترى ما يقول لك عقلك في ذلك لو كان؟! وما الذي يفتيك به؟! وما الذي يرشدك إليه؟! ولكن من حكمة العزيز الحكيم أن خلق قلوبا عميا لا بصائر لها؛ فلا ترى هذه الآيات الباهرة إلا رؤية الحيوانات البهيمية، كما خلق أعينا عميا لا إبصار لها" انتهى كلامه رحمه الله.

 الإيمان بالله:

  توحيد الألوهية:

هو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة؛ ف (الألوهية) معناها العبادة، و (الإله) معناه المعبود، ولهذا يسمى هذا النوع من التوحيد ب (توحيد العبادة) .

و(العبادة) في اللغة:

 الذل؛ يقال: طريق معبد: إذا كان مذللاً قد وطئته الأقدام.

وأما معنى العبادة شرعا:

 فقد اختلفت عبارات العلماء في ذلك مع اتفاقهم على المعنى: فعرفها طائفة منهم بأنها ما أمر به شرعا من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي. وعرفها بعضهم بأنها كمال الحب مع كمال الخضوع. وعرفها شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله – "بأنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة". وهذا التعريف أدق وأشمل؛ فالدين كله داخل في العبادة، ومن عرفها بالحب مع الخضوع؛ فلأن الحب التام مع الذل التام يتضمنان طاعة المحبوب والانقياد له؛ فالعبد هو الذي ذلله الحب والخضوع لمحبوبه؛ فبحسب محبة العبد لربه وذله له تكون طاعته؛ فمحبة العبد لربه وذله له يتضمنان عبادته له وحده لا شريك له.

فالعبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، وهي تتضمن ثلاثة أركان؛ هي: المحبة، والرجاء، والخوف، ولا بد من اجتماعها، فمن تعلق بواحد منها فقط؛ لم يكن عابدًا لله تمام العبادة؛ فعبادة الله بالحب فقط هي طريقة الصوفية، وعبادته بالرجاء وحده طريقة المرجئة، وعبادته بالخوف فقط طريقة الخوارج، والمحبة المنفردة عن الخضوع لا تكون عبادة، فمن أحب شيئا ولم يخضع له؛ لم يكن عابدًا؛ كما يحب الإنسان ولده وصديقه، كما أن الخضوع المنفرد عن المحبة لا يكون عبادة؛ كمن يخضع لسلطان أو ظالم اتقاء لشره، ولهذا لا يكفي أحدهما عن الآخر في عبادة الله- تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله عنده أعظم من كل شيء.

والعبادة هي الغاية المحبوبة لله والمرضية له، وهي التي خلق الخلق من أجلها؛ كما قال تعالى-: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ﴾‏‏، وبها أرسل جميع الرسل؛ كما قال تعالى-: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾‏‏ .

والعبادة لها أنواع كثيرة: فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الحيوان والأيتام والمساكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة ... كل ذلك من العبادة، وكذلك حب الله، وحب رسوله، وخشية الله، و الإنابة إليه ... كل ذلك من العبادة، وكذلك الذبح، والنذر، والاستعانة، والاستغاثة ...

فيجب صرف العبادة بجميع أنواعها لله وحده لا شريك له، فمن صرف منها شيئا لغير الله؛ كمن دعا غير الله، أو ذبح أو نذر لغير الله، أو استعان أو استغاث بميت أو غائب أو بحي حاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ فقد أشرك الشرك الأكبر، وأذنب الذنب الذي لا يغفر إلا بالتوبة، سواء صرف هذا النوع من العبادة لصنم أو لشجر أو لحجر أو لنبي من الأنبياء أو لولي من الأولياء حي أو ميت؛ كما يفعل اليوم عند الأضرحة المبنية على القبور؛ فإن الله لا يرضى أن يشرك معه في عبادته أحد؛ لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا ولي ولا غيرهم؛ قال تعالى-: ﴿إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾‏‏، وقال تعالى-: ﴿فَلا تَدْعُو مَعَ الله أَحَداً﴾‏‏ ، وقال تعالى-: ﴿وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً﴾‏‏.

ومع الأسف الشديد؛ فقد اتخذت القبور اليوم في بعض البلاد أوثانا تعبد من دون الله ممًّن يدَّعون الإسلام، وقد يدعو أحدهم غير الله في أي مكان، ولو لم يكن عند قبر؛ كمن يقول: يا رسول الله! عند قيامه أو مفاجأته بشيء غريب، أو يقول: المدد يا رسول الله (أو: يا فلان)! وإذا نهوا عن ذلك؛ قالوا: نحن نعلم أن هؤلاء ليس من الأمر شيء، ولكن هؤلاء أناس صالحون، لهم جاه عند الله، ونحن نطلب بجاههم وشفاعتهم، ونسي هؤلاء أو تناسوا وهم يقرؤون القرآن أن هذا بعينه قول المشركين كما ذكر الله في القرآن في قوله تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ الله قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الآرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾‏‏ ، وقوله تعالى: ﴿أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ الله لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾‏‏  فسماهم كفارًا كذبة، وهم يعتقدون أن هؤلاء الأولياء مجرد وسائط بينهم وبين الله في قضاء حوائجهم، وهذا ما يقوله عباد القبور اليوم، ﴿تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾‏‏.

فالواجب على علماء الإسلام أن ينكروا هذا الشرك الشنيع ويبينوه للناس، والواجب على حكام المسلمين هدم هذه الأوثان وتطهير المساجد منها.

وقد أنكر كثير من الأئمة المصلحين هذا الشرك، ونهوا عنه وحذروا، وأنذروا، ومن هؤلاء: شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، والشيخ محمد عبد الوهاب، والشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني، والشيخ محمد بن علي الشوكاني ... وكثير من الأئمة قديما وحديثا، وهذه مؤلفاتهم بين أيدينا.

وفي ذلك يقول الإمام الشوكاني في (نيل الأوطار): "وكم سرى من تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام، منها اعتقاد الجهلة كاعتقاد الكفار للأصنام وأعظم من ذلك، فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر، فجعلوها مقصدًا لطلب قضاء الحوائج، وملجأ المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحال، وتمسحوا بها، واستغاثوا، وبالجملة؛ إنهم لم يدعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون".

ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع لا نجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف؛ لا عالما، ولا متعلما، ولا أميرًا، ولا وزيرًا، ولا ملكا.

ولقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيرًا من هؤلاء القبورين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه؛ حلف بالله فاجرًا، وإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني؛ تلعثم، وتلكأ، وأبى، واعترف بالحق! وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال إنه ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة!.

فيا علماء الدين! ويا ملوك المسلمين! أي رزء للإسلام أشد من الكفر؟! وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله؟! وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة؟! وأي منكر يجب إنكاره لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجبا؟!

لقد أسمعت لو ناديت ....... حيا ولكن لا حياة لمن تنادي

ولو نارًا نفخت بها أضاءت ........ ولكن أنت تنفخ في رماد

انتهى كلام الشوكاني- رحمه الله، وقد زاد البلاء بعده، وصار أشد مما وصف، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

 الإيمان بالله:

 علاقة توحيد الإلهية بتوحيد الربوبية، والعكس:

- علاقة أحد النوعين بالآخر: أن توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الإلهية، بمعنى أن الإقرار بتوحيد الربوبية يوجب الإقرار بتوحيد الإلهية والقيام به، فمن عرف أن الله ربه وخالقه ومدبر أموره؛ وجب عليه أن يعبده وحده لا شريك له، وتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية؛ بمعنى أن توحيد الربوبية يدخل ضمن توحيد الألوهية، فمن عبد الله وحده ولم يشرك به شيئا؛ فلا بد أن يكون قد اعتقد أنه هو ربه وخالقه؛ كما قال إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: ﴿قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الآقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلاّ رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾‏‏ .

- والربوبية والألوهية تارة يذكران معا؛ فيفترقان في المعنى، ويكون أحدهما قسيمًا للآخر؛ كما قال في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ﴾‏‏؛ فيكون معنى الرب هو المالك المتصرف في الخلق، ويكون معنى الإلة أنه المعبود بحق المستحق للعبادة وحده، وتارة يذكر أحدهما مفردًا عن الآخر، فيجتمعان في المعنى؛ كما في قول الملكين للميت في القبر: من ربك؟ ومعناه: من إلهك وخالقك؟ وكما في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا الله﴾‏‏، وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً﴾‏‏ ، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾‏‏ ٤، فالربوبية في هذه الآيات هي الإلهية.

- والذي دعت إليه الرسل من النوعين هو توحيد الألوهية؛ لأن توحيد الربوبية يقر به جمهور الأمم، ولم ينكره إلا شواذ من الخليقة، أنكروه في الظاهر فقط، والإقرار به وحده لا يكفي؛ فقد أقر به إبليس ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾‏‏ ، وأقر به المشركون الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما دلت على ذلك الآيات البينات؛ كما قال تعالى-: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله﴾‏‏؛ فمن أقر بتوحيد الربوبية فقط؛ لم يكن مسلما، ولم يحرم دمه ولا ماله، حتى يقر بتوحيد الألوهية؛ فلا يعبد إلا الله.

- وبهذا يتبين بطلان ما يزعمه علماء الكلام والصوفية أن التوحيد المطلوب من العباد هو الإقرار بأن الله هو الخالق المدبر، ومن أقر بذلك؛ صار عندهم مسلما، ولهذا يعرفون التوحيد في الكتب التي ألفوها في العقائد يما ينطبق على توحيد الربوبية فقط؛ حيث يقولون مثلاً: التوحيد هو الإقرار بوجود الله وأنه الخالق الرازق ... إلخ، ثم يوردون أدلة توحيد الربوبية.

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله -: "فإن عامة المتكلمين الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع؛ فيقولون: هو واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث، وهو توحيد الأفعال، وهو أن خالق العالم واحد، وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها، ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب، وأن هذا هو معنى قولنا: لا إله إلا الله، حتى معنى الألوهية القدرة على الاختراع، ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم أولاً لم يكونوا يخالفونه في هذا، بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء، حتى إنهم كانوا يقرون بالقدر- أيضا، وهم مع هذا مشركون ... ".

- هذا كلام الشيخ- رحمه الله، وهو واضح في الرد على من اعتقد أن التوحيد المطلوب من الخلق هو الإقرار بتوحيد الربوبية فحسب .

ويؤيد هذا قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾‏‏؛ فالرسل لم يقولوا لأممهم: أقروا أن الله هو الخالق؛ لأنهم مقرون بهذا، وإنما قالوا لهم: اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت.

- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية- أيضا -: "التوحيد الذي جاءت به الرسل إنما يتضمن إثبات الإلهية لله وحده؛ بأن يشهد أن لا إله إلا الله، لا يعبد إلا إياه ... ".

- إلى أن قال: "وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية، وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، كما يظن ذلك من يظنه أهل الكلام والتصوف، ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل؛ فقد أثبتوا غاية التوحيد، وأنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه؛ فقد فنوا في غاية التوحيد".

- فإن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات، ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء؛ لم يكن موحدًا، حتى يشهد أن لا إله إلا الله وحده؛ فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة، ويلزم بعبادة الله وحده لا شريك له.

- والإله هو المألوه المعبود الذي يستحق العبادة، وليس الإله بمعنى القادر على الاختراع، فإذا فسر الإله بمعنى القادر على الاختراع، واعتقد أن هذا المعنى هو أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا هو الغاية في التوحيد، كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية ، وهو الذي ينقلونه عن أبي الحسن وأتباعه؛ لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع هذا مشركين، قال تعالى-: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾‏‏ ، قال طائفة من السلف: تسألهم: من خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله. وهم مع هذا يعبدون غيره!.

قال تعالى-: ﴿قُلْ لِمَنِ الآرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾‏‏.

- فليس كل من أقر بأن الله تعالى رب كل شيء وخالقه يكون عابدًا له دون ما سواه، داعيا له دون ما سواه، يوالي فيه ويعادي فيه ويطيع رسله.

- وعامة المشركين أقروا بأن الله خالق كل شيء، وأثبتوا الشفعاء الذين يشركونهم به، وجعلوا له أندادًا ... ".

- إلى أن قال- رحمه الله -: "ولهذا كان من أتباع هؤلاء من يسجد للشمس والقمر والكواكب، ويدعوها، ويصوم وينسك لها، ويتقرب إليها، ثم يقول: إن هذا ليس بشرك إذا اعتقدت أنها المدبرة لي، فإذا جعلتها سببا وواسطة؛ لم أكن مشركا، ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك ... " انتهى كلامه رحمه الله.

- قلت: وهذا ما يقوله عباد القبور اليوم؛ يتقربون إليها بأنواع العبادة، ويقولون: هذا ليس بشرك؛ لأننا لا نعتقد فيها أنها تخلق وتدبر، وإنما جعلناها وسائط نتوسل بأصحابها.

 توحيد الأولوهية:

 ‌أساليب القران في الدعوة إلى توحيد الإلهية:

لما كان توحيد الربوبية قد أقر به الناس بموجب فطرهم ونظرهم في الكون، وكان الإقرار به وحده لا يكفي للإيمان بالله ولا ينجي صاحبه من العذاب؛ ركزت دعوات الرسل على توحيد الإلهية، خصوصا دعوة خاتم الرسل نبينا محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام؛ فكان يطالب الناس بقول لا إله إلا الله، المتضمنة لعبادة الله وترك عبادة ما سواه، فكانوا ينفرون منه، ويقولون: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾‏‏ ، وحاولوا مع الرسول "أن يترك هذه الدعوة، ويخلي بينهم وبين عبادة الأصنام، وبذلوا في ذلك معه كل الوسائل؛ بالترغيب تارة، وبالترهيب تارة، وهو عليه الصلاة والسلام يقول: "والله؛ لو وضعوا الشمس بيميني، والقمر بشمالي، على أن أترك هذا الأمر؛ لا أتركه، حتى يظهره الله أو أهلك دونه"، [ رواه ابن اسحاق في المغازي 154 بسندٍ ضعيف مُعْضَل كما قال الشيخ الألباني رحمه الله ، والصواب في لفظه: ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك على أن تشعلوا لي منها شعلة كما في السلسلة الصحيحة 92] وكانت آيات الله تتنـزل عليه بالدعوة إلى هذا التوحيد، والرد على شبهات المشركين، وإقامة البراهين على بطلان ما هم عليه.

 - وقد تنوعت أساليب القرآن في الدعوة إلى توحيد الإلهية، وها نحن نذكر جملة منها؛ فمن ذلك:

1- أمره- سبحانه- بعبادته وترك عبادة ما سواه؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا الله وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً﴾‏‏ ، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ... ﴾‏‏ إلى قوله: ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾‏‏.

2- ومنها: إخباره- سبحانه- أنه خلق الخلق لعبادته؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ﴾‏‏.

3- ومنها: إخباره أنه أرسل جميع الرسل بالدعوة إلى عبادته والنهي عن عبادة ما سواه؛ كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا  الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾‏‏.

4- ومنها: الاستدلال على توحيد الإلهية بانفراده بالربوبية والخلق والتدبير؛ كما في قوله- سبحانه -: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ... ﴾‏‏ ، وقوله: ﴿لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ﴾‏‏، وقوله: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ﴾‏‏.

٥- ومنها الاستدلال على وجوب عبادته- سبحانه- بانفراده بصفات الكمال وانتفاء ذلك عن آلهة المشركين؛ كما في قوله تعالى: ﴿فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً﴾‏‏ ، وقوله: ﴿وَلِلَّهِ الآسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾‏‏، وقوله عن خليله إبراهيم عليه السلام؛ أنه قال لأبيه: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً﴾‏‏ ، وقوله: ﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ﴾‏‏ وقوله: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً﴾‏‏.

6- ومنها تعجيزه لآلهة المشركين؛ كقوله تعالى: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾‏‏ ٦، وقوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً﴾‏‏، وقوله تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالآرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ﴾‏‏، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾‏‏.

٧- ومنها: تسفيه المشركين الذين يعبدون غير الله؛ كقوله تعالى: ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾‏‏ ، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ الله مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ﴾‏‏ .

٨- ومنها: بيان عاقبة المشركين الذين يعبدون غير الله، وبيان مآلهم مع من عبدوهم؛ حيث تتبرأ منهم تلك المعبودات في أحرج المواقف؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ  لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ  الله شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾‏‏ ، وقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾‏‏، وقوله: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ الله مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾‏‏ ، وقال تعالى -: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾‏‏، وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾‏‏.

٩- ومنها رده- سبحانه- على المشركين في اتخاذهم الوسائط بينهم وبين  الله بأن الشفاعة ملك له- سبحانه، لا تطلب إلا منه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه بعد رضاه عن المشفوع له؛ قال- سبحانه -: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾‏‏، وقوله- سبحانه -: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاّ بِإِذْنِهِ﴾‏‏، وقوله: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إلاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ الله لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾‏‏.

فبين- سبحانه في هذه الآيات أن الشفاعة ملكه وحده، لا تطلب إلا منه، ولا تحصل إلا بعد إذنه للشافع ورضاه عن المشفوع له.

10- ومنها: أنه بين- سبحانه- أن هؤلاء المعبودين من دونه لا يحصل منهم نفع لمن عبدهم من جميع الوجوه، ومن هذا شأنه لا يصلح للعبادة؛ كما في قوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ الله لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾‏‏ .

11- ومنها: أنه- سبحانه- ضرب أمثلة كثيرة في القرآن يتضح بها بطلان الشرك، من ذلك قوله- سبحانه -: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾‏‏.

شَبَّه- سبحانه- التوحيد في علوه وارتفاعه وسعته وشرفه بالسماء، وشبه تارك التوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل السافلين؛ لأنه سقط من أوج الأيمان إلى حضيض الكفر، وشبه الشياطين التي تقلقه بالطير التي تمزق أعضاءه، وشبه هواه الذي يبعده عن الحق بالريح التي ترمي به في مكان بعيد.

هذا مثال واحد من أمثلة كثيرة في القرآن، ذكرها الله- سبحانه- لبيان بطلان الشرك وخسارة المشرك في الدنيا والآخرة.

وما سقناه في هذا البحث من أساليب القرآن في الدعوة إلى توحيد الألوهية وإبطال الشرك قليل من كثير، وما على المسلم إلا أن يقرأ القرآن بتدبر؛ ليجد الخير الكثير، والأدلة المقنعة، والبراهين الساطعة، التي ترسخ عقيدة التوحيد في قلب المؤمن، وتقتلع منه كل شبهة ...

 توحيد الألوهية:

 ‌حدوث الشرك في توحيد الإلهية:

مطلوب من المسلم بعدما يعرف الحق أن يعرف ما يضاده من الباطل ليجتنبه؛ كما قيل :

عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه

وكان حذيفة بن اليمان- رضي الله عنه- يقول: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن أقع فيه".

ويقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه -: "يوشك أن تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية".

وقبل ذلك قال الخليل عليه السلام: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ﴾‏‏ .

 فهذا مما يوجب شدة الخوف من الشرك ومعرفته ليجتنبه المسلم:

فالشرك هو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله؛ كالدعاء، والذبح، والنذر، والاستغاثة بغير الله فيما لا عليه إلا الله.

والتوحيد هو إفراد  الله تعالى بالعبادة، وهو أصيل في بني آدم، والشرك طارىء عليه، قال الله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾‏‏.

قال ابن عباس- رضي الله عنهما -: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام".

قال ابن القيم- رحمه الله -: "هذا القول هو الصحيح في الآية، وصحح هذا القول- أيضا- ابن كثير، وأول ما حدث الشرك في الأرض في قوم نوح، حين غلوا في الصالحين، ﴿وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً﴾‏‏.

قال البخاري في (صحيحه) عن ابن عباس – رضي الله عنهما -: " هذه أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ، أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ العِلْمُ عُبِدَتْ"

قال ابن القيم: "قال غير واحد من السلف: لما ماتوا؛ عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد، فعبدوهم".

ومن هذا الأثر الذي رواه البخاري عن عباس في غلو قوم نوح في الصالحين وتصويرهم إياهم والاحتفاظ بصورهم ونصبها على المجالس، منه ندرك خطورة التصوير، وخطورة تعليق الصور على الجدران، وخطورة نصب التماثيل في الميادين والشوارع، وأن ذلك يؤول بالناس إلى الشرك؛ بحيث يتطور تعظيم تلك الصور والتماثيل المنصوبة، فيؤدي ذلك إلى عبادتها كما حدث في قوم نوح.

ولهذا؛ جاء الإسلام بتحريم التصوير، ولعن المصورين، توعدهم بأشد الوعيد، وأنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة؛ سدًا لذريعة الشرك، وابتعادًا عن مضاهاة خلق الله- عز وجل.

قال صلى الله عليه وسلم :" أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله" [متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها فهذا الحديث يدل على أن المصورين يعذبون، وأنهم أشد الناس عذابا، وأن الحكمة من ذلك مضاهاتهم خلق الله عز وجل وليست الحكمة كما يدعيه كثير من الناس أنهم يصنعونها لتعبد من دون الله; فذلك شيء آخر، فمن صنع شيئا ليعبد من دون الله; فإنه حتى ولو لم يصور كما لو أتى بخشبة وقال: اعبدوها; فقد دخل في التحريم; لقوله تعالى: ﴿وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾‏‏لأنه أعان على الإثم والعدوان.

وندرك من هذه القصة مدى حرص الشيطان لعنه الله على إغواء بني آدم، ومكره بهم، وأنه قد يأتيهم من ناحية استغلال العواطف ودعوى الترغيب في الخير؛ فإنه لما رأى في قوم نوح ولوعهم بالصالحين ومحبتهم لهم؛ دعاهم إلى الغلو في هذه المحبة؛ بحيث أمرهم بنصب الصور التذكارية لهم، وهدفه من ذلك التدرج بهم في إخراجهم من الحق إلى الضلال، ولم يقتصر نظره على الحاضرين، بل امتد إلى أجيالهم اللاحقة، الذين قل فيهم العلم، وفشا فيهم الجهل؛ فزين لهم عبادة هذه الصور، وأوقعهم في الشرك الأكبر، وكابروا نبيهم بقولهم ﴿لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ﴾‏‏ .

قال الإمام ابن القيم- رحمه الله -: "وقد تلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام، بكل قوم على قدر عقولهم؛ فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صُوِّروا كما في قوم نوح، وهذا السبب هو الغالب على عوام المشركين، وأما خواصهم؛ فاتخذوا الأصنام على صور الكواكب المؤثرة في العالم بزعمهم، وجعلوا لهم بيوتا وسدنة وحجابا وقربانا، ولم يزل هذا في الدنيا قديما وحديثا، وأصل هذا المذهب من مشركي الصابئة، وهم قوم إبراهيم عليه السلام، والذين ناظرهم في بطلان الشرك، وكسر حجتهم بعلمه، وآلهتهم بيده، فطلبوا تحريفه، وطائفة أخرى اتخذت للقمر صنما، وزعموا أنه يستحق العبادة، وإليه تدبير هذا العالم السفلي، وطائفة تعبد النار، وهم المجوس، وطائفة تعبد الماء، وطائفة تعبد الحيوانات؛ فطائفة عبدت الخيل، وطائفة عبدت البقر، وطائفة عبدت البشر الأحياء والأموات، وطائفة تعبد الجن، وطائفة تعبد الشجر، وطائفة تعبد الملائكة" انتهى كلام ابن القيم- رحمه الله -.

وبه تعرف معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾‏‏ وقوله تعالى: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ الله بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إلاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إلاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾‏‏، وقوله تعالى: ﴿ضَرَبَ الله مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً﴾‏‏.

هؤلاء المشركون لما تركوا عبادة الله وحده لا شريك له، وهي التي خلقوا من أجلها، وبها سعادتهم؛ ابتلوا بعبادة الشياطين، وتفرقت بهم الأهواء والشهوات؛ كما قال الإمام ابن القيم- رحمه الله -: هربوا من الرق الذي خلقوا له فبلوا برق النفس والشيطان ، فلا اجتماع للقلوب، ولا صلاح للعالم؛ إلا بالتوحيد؛ كما قال تعالى-: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلاّ الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾‏‏ ، ولذلك إذا خلت الأرض من التوحيد؛ قامت القيامة؛ كما روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله".ومثل تفرق المشركين الأولين في عباداتهم ومعبوداتهم تفرق القبوريين اليوم في عبادة القبور؛ فكل منهم له ضريح خاص يتقرب إليه بأنواع العبادة، وكل طريقة من الطرق الصوفية لها شيخ اتخذه مريدوه ربا من دون الله؛ يشرع لهم من الدين ما لم يأذن به الله.

وهكذا تلاعب الشيطان ببني آدم، ولا نجاة من شره ومكره إلا يتوحيد الله والاعتصام بكتابه وسنة رسوله.

نسأل الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه؛ إنه هو مولانا؛ فنعم المولى ونعم النصير.

 الشرك:

 ‌خطر الشرك ووجوب الحذر منه بتجنب أسبابه:

- الشرك أعظم الذنوب؛ لأن الله تعالى أخبر أنه لا مغفرة لمن لم يتب منه، مع أنه سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وذلك يوجب للعبد شدة الحذر وشدة الخوف من الشرك الذي هذا شأنه، ويحمله على معرفته لتوقيه؛ لأنه أقبح القبيح، وأظلم الظلم؛ قال تعالى-: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾‏‏، وذلك لأنه تنقص لله عز وجل ومساواة لغيره به؛ كما قال تعالى-: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾‏‏ ، وقال تعالى-: ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾‏‏, ولأن الشرك مناقض للمقصود بالحلق والأمر من كل وجه؛ فمن أشرك بالله- عز وجل، فقد شبه المخلوق بالخالق، وأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات عن جميع المخلوقات.

وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الشرك، وسدَّ كل الطرق التي تفضي إليه؛ فقد بعث الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم وحالة العرب- بل وحالة أهل الأرض كلهم إلا بقايا من أهل الكتاب- كانت على أسوأ حالة؛ كما قال تعالى-: ﴿لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾‏‏.

- لقد كانت الخليقة في هذه الفترة بين حائرة تتخذ آلهتها من حجارة منحوتة وأصنام منصوبة تعكف عندها وتطوف حولها وتقرب لها الذبائح من أنفس أموالها بل وحتى من أولادها؛ كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ﴾‏‏.

- وفريق آخر- أهل الكتاب -: إما نصرانية حائرة ضلت عن سواء السبيل، فجعلت الآلهة ثلاثة، واتخذت من أحبارها وقديسيها أربابا من دون الله، وإما يهودية مدمرة، عاثت في الأرض فسادًا، وأشعلت نار الفتن، ونقضت عهد الله وميثاقه، وتلاعبت بنصوص كتابها حتى حرفتها عن مواضعها.

- وفريق ثالث هم المجوس الذين يعبدون النيران، ويتخذون إلهين: أحدهما خالق للخير، والثاني خالق للشر بزعمهم.

- وفريق رابع، وهم الصابئون الذين يعبدون الكواكب والنجوم، ويعتقدون تأثيرها في الأرض.- وفريق خامس، هم الدهرية الذين لا يدينون بدين، ولا يؤمنون ببعث ولا حساب.

هكذا كانت حالة أهل الأرض عند بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، جهالة جهلاء، وضلالة عمياء؛ فأنقذ الله به من قبل دعوته واستجاب له من الظلمات إلى النور، وأعاد الحنيفية السمحة ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهدم الأوثان، ونهى عن الشرك، وسد كل الوسائل الموصلة إليه.

الشرك الوسائل القولية والفعلية التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها تفضي إلى الشرك

 بيان الوسائل القولية والفعلية التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها تفضي إلى الشرك:

1- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التلفظ بالألفاظ التي فيها التسوية بين الله وبين خلقه؛ مثل: "ما شاء الله وشئت"، "لولا الله وأنت"، وأمر بأن يقال بدل ذلك: (ما شاء الله ثم شئت)؛ لأن الواو تقتضي التسوية و"ثم" تقتضي الترتيب، وهذه التسوية في اللفظ شرك أصغر، وهو وسيلة إلى الشرك الأكبر.

 2- نهى صلى الله عليه وسلم: عن الغلو في تعظيم القبور بالبناء عليها وإسراجها وتجصيصها والكتابة عليها.

٣- نهى عن اتخاذ القبور مساجد للصلاة عندها؛ لأن ذلك وسيلة لعبادتها.

٤- نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لما في ذلك من التشبه بالذين يسجدون لها في هذه الأوقات.

5- نهى عن السفر إلى أي مكان من الأمكنة بقصد التقرب إلى الله فيه بالعبادة؛ إلا إلى المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى.

٦- نهى صلى الله عليه وسلم عن الغلو في مدحه؛ فقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا: عبد الله ورسوله" [رواه البخاري] ، والإطراء هو المبالغة في المدح.

7- نهى صلى الله عليه وسلم: عن الوفاء بالنذر إذا كان في مكان يعبد فيه صنم أو يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية.

- كل هذا حذر منه؛ صيانة للتوحيد، وحفاظا عليه، وسدًا للوسائل والذرائع التي تفضي إليه.

ومع هذا البيان التام من النبي صلى الله عليه وسلم، والاحتياط الشديد الذي يبعد الأمة عن الشرك؛ خالف عباد القبور سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعصوا أمره، وارتكبوا ما نهاهم عنه؛ فشيدوا القباب على القبور، وبنوا عليها المساجد، وزينوها بأنواع الزخارف، وصرفوا لها أنواعا من العبادة من دون الله.

- قال الإمام العلامة ابن القيم- رحمه الله -: "ومن جمع بين سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به ونهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم؛ رأى أحدهما مضادًا للآخر، ومناقضا له؛ بحيث لا يجتمعان أبدًا؛ فنهى رسول الله (عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها وإليها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد؛ مضاهاة لبيوت الله، ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها، ونهى أن تتخذ عيدًا، وهؤلاء يتخذونها أعيادًا ومناسك يجتمعون لها كاجتماعهم للعيد وأكثر، وأمر بتسويتها؛ كما روى مسلم في (صحيحه) عن أبي الهياج الأسدي؛ قال: قال لي علي- رضي الله عنه -: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرًا مشرفا إلا سويته"، وهؤلاء يبالغون في مخالفة الحديث، ويرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب، ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه؛ كما روى مسلم عن جابر- رضي الله عنه -: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تجصيص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه"، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكتابة عليها؛ كما روى أبو دواد في (سننه) عن جابر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تجصيص القبور وأن يكتب عليها"، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره، ونهى أن يزاد عليها غير ترابها؛ كما روى أبو دواد عن جابر- أيضا -: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه، أو يزاد عليه"، وهؤلاء يزيدون عليها – سوى التراب- الآجر والجص والأحجار، وقال إبراهيم النخعي: "كانوا يكرهون الآجر على قبورهم"، والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور، المتخذين لها أعيادًا، الموقدين عليها السرج، الذين يبنون عليها المساجد والقباب؛ مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم محادون لما جاء به، وأعظم ذلك اتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها، وهو من الكبائر ... ".

- انتهى كلام ابن القيم- رحمه الله- في وصف ما أحدثه عباد القبور في زمانه، وقد زاد الأمر بعده وتطور إلى أشد وأشنع، واعتبر من ينكر ذلك شاذًا متشددًا متنقصا لحق الأولياء، ومن العجب أنهم يغارون لتنقص حق الأولياء حيث اعتبروا ترك عبادتهم تنقصا لهم، ولا يغارون لتنقص حق الله بالشرك الأكبر، ولا يغارون لتنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخالفة سنته؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

٨- الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم: لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في تعظيمه ومدحه، وغيره من باب أولى؛ لأن ذلك يؤدي إلى إشراك المخلوقين في حق الخالق- سبحانه تعالى -.

ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في مدحه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، وإنما أنا عبد؛ فقولوا: عبد الله ورسوله"، رواه البخاري ومسلم، والإطراء هو مجاوزة الحد في مدحه؛ أي: لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى ابن مريم عليه السلام، حتى ادعوا فيه الألوهية، " إتما أنا عبد؛ فقولوا: عبد الله ورسوله"؛ أي: صفوني بذلك، ولا تزيدوا عليه؛ فقولوا: عبد الله ورسوله؛ كما وصفني ربي بذلك؛ كما في قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ﴾‏‏ ، وقوله: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾‏‏، وقوله: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ﴾‏‏ ، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾‏‏ ، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾‏‏ .

- فأبى المشركون إلا مخالفة أمره، وارتكاب نهيه؛ فعظموه بما نهاهم عنه وحذرهم منه، وناقضوه أعظم مناقضة، وشابهوا النصارى في غلوهم وشركهم، وجرى منهم من الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم بما هو صريح الشرك في نثرهم وشعرهم؛ كقول البوصيري في (البردة) يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم

وما بعده من الأبيات التي مضمونها توجيه الدعاء والعياذ واللياذ إلى رسول صلى الله عليه وسلم، وطلب تفريج الكربات منه في أضيق الحالات وأشد الصعوبات، ونسي الله- عز وجل، وذلك أن الشيطان زين لهذا الناظم ولأمثاله سوء عملهم، فأظهر لهم هذا الغلو في مدحه- وإن كان شركا أكبر- في قالب حبه وتعظيمه صلى الله عليه وسلم، وأظهر لهم التزام السنة في عدم الغلو به "في قالب بغضه وتنقصه، وفي الحقيقة أن ارتكاب ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من الإفراط في مدحه وترك متابعته في أقواله وأفعاله وعدم الرضى بحكمه هو التنقص الحقيقي له صلى الله عليه وسلم، فلا يحصل تعظيمه ولا تتحقق محبته إلا باتباعه ونصرة دينه وسنته.

وقد جاء في حديث عبد الله بن الشخير- رضي الله عنه، قال: "انطلقت مع وفد بني عامر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقلنا: أنت سيدنا وابن سيدنا. فقال: " السيد الله تبارك تعالى. فقلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً. فقال: قولوا بقولكم أو: بعض قولكم) ، ولا يستجرينكم الشيطان"، رواه أبو دواد بسند جيد.

ففي هذا الحديث منع صلى الله عليه وسلم هؤلاء أن يقولوا له: أنت سيدنا، وقال: "السيد الله تبارك وتعالى"، ونهاهم أن يقولوا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً، وذلك لأنه خشي عليهم الغلو، وكره أن يواجهوه بالمدح فيفضي بهم إلى الغلو، وقال: "لا يستجرينكم الشيطان"، أي: يتخذكم جريا له، والجري الرسول والوكيل؛ فبين بهذا أن مواجهة المادح لممدوح بالمدح- ولو بما فيه- أنه من عمل الشيطان؛ لأن ذلك يسبب تعاظم الممدوح، وذلك مما ينافي كمال التوحيد، كما أنه قد يسبب غلو المادح حتى ينزل الممدوح منزلة لا يستحقها.

وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن إطرائه، والإطراء هو الزيادة في المدح حتى يفضي ذلك إلى الشرك به ووصفه بأوصاف الربوبية، كما حصل في كثير من المدائح النبوية، التي نظمها بعض الغالين، كصاحب (البردة) وغيره، مما جرهم إلى الشرك الأكبر؛ كقول صاحب (البردة) .

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم

وقوله:

فإن من جودك الدينا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم

والنبي صلى الله عليه وسلم لما أكمل الله له مقام العبودية؛ صار يكره أن يمدح؛ صيانة لمقام العبودية، وحماية للعقيدة، وأرشد الأمة إلى ترك ذلك؛ نصحا لها، وحماية لمقام التوحيد عن أن يدخله ما يفسده أو يضعفه من الشرك ووسائله، ومن ذلك نهيه لهؤلاء أن يقولوا له: أنت سيدنا، والسيد مأخوذ من السؤدد.

قال ابن الأثير في (النهاية): "والسيد يطلق على الرب، والمالك، والشريف، والفاضل، والكريم، والحليم، ومتحمل أذى قومه، والزوج، والرئيس، والمقدم، وقوله: "هذا الحديث الشريف: (السيد الله)؛ يريد أن السؤدد حقيقة لله عز وجل، وأن الخلق كلهم عبيد له، والسيد إذا أطلق على الله- تعالى، فهو بمعنى المالك والمولى والرب، وقال ابن عباس: ﴿الله الصَّمَدُ﴾‏‏؛ أي: السيد الذي كمل في جميع أنواع السؤدد".

قال ابن الأثير- رحمه الله -: "فيه أنه جاء رجل من قريش، فقال: أنت سيد قريش. فقال: (السيد الله) . أي: هو الذي تحق له السيادة، كأنه كره أن يحمد في وجهه، وأحب التواضع، وحديث: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"؛ قاله إخبارًا عما أكرمه الله به من الفضل والسؤدد، وتحدثا بنعمة الله تعالى عليه، وإعلاما لأمته؛ ليكون إيمانهم به على حسبه وموجبه، ولهذا أتبعه بقوله: (ولا فخر)؛ أي أن هذه الفضيلة التي نلتها كرامة من الله، ولم أنلها من قبل نفسي، ولا بلغتها بقوتي؛ فليس لي أن أفتخر بها ... " انتهى.

- فهو صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم كما أخبر بذلك، لكن لما واجهه هؤلاء بهذا اللفظ؛ نهاهم عنه؛ خوفا من الغلو، الذي يفضي بهم إلى الشرك.

- ومما يوضح هذا ما ورد عن أنس بن مالك- رضي الله عنه، أن ناسا قالوا: يا خيرنا وابن خيرنا! وسيدنا وابن سيدنا! فقال: "يا أيها الناس! قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، وأنا محمد، عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل" رواه النسائي بسند جيد.

- ففي هذا الحديث ما يبين أنه نهاهم أن يقولوا: يا سيدنا! خشية عليهم من الغلو في حقه؛ فسد هذا الطريق من أساسه، وأرشدهم أن يصفوه بصفتين هما أعلى مراتب العبودية، وقد وصفه الله بهما في مواضع من كتابه، وهما قوله: "عبد الله ورسوله"، ولم يحب أن يرفعوه فوق ما أنزله الله عز وجل؛ حماية للتوحيد.

وهذا كثير في السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، كقوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، وإنما أنا عبد؛ فقولوا: عبد الله ورسوله"، وقوله: " إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل"، ونهى عن التمادح، وشدد فيه؛ كقوله لمن مدح إنسانا: "ويلك! قطعت عنق صاحبك"، وقال: "إذا لقيتم المداحين؛ فاحثوا في وجههم التراب"، وذلك لما يخاف على المادح من الغلو، وعلى الممدوح من الإعجاب، وكلاهما يؤثران على العقيدة.

بقي أن يقال: هل يجوز أن يقال للمخلوق سيد؟.

- قال العلامة ابن القيم: "اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر فمنعه قوم، ونقل عن مالك، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: يا سيدنا! قال: "السيد الله تبارك وتعالى"، وجوزه قوم، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: "قوموا إلى سيدكم"، وهذا أصح من الحديث الأول ... " انتهى.

- قال الشارح: "وأما استدلالهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: "قوموا إلى سيدكم"؛ فالظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يواجه سعدًا به؛ فيكون في هذا المقام تفضيل" انتهى.

- وكأنه يقصد بالتفصيل أنه لا يجوز أن يواجه الإنسان ويقال له: يا سيد! من باب المدح، ويجوز أن يقال هذا في حقه إذا كان غائبا، وكان ممن يستحق هذا الوصف؛ جمعا بين الأدلة. والله أعلم.

٩- الغلو في الصالحين: إذا كان الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم ممنوعا؛ فالغلو في حق غيره من الصالحين من باب أولى.

والمراد بالغلو في الصالحين: رفعهم فوق منزلهم التي أنزلهم الله إلى ما لا يجوز إلا لله؛ من الاستغاثة بهم في الشدائد، والطواف بقبورهم، والتبرك بتربتهم، وذبح القرابين لأضرحتهم، وطلب المدد منهم ...

وقد أدخل الشيطان الشرك على قوم نوح من باب الغلو في الصالحين؛ فيجب الحذر من ذلك، وإن كان القصد حسنا.

وقد وقع في هذه الأمة مثل ما وقع لقوم نوح لما أظهر الشيطان لكثير من المفتونين الغلو والبدع في قالب تعظيم الصالحين ومحبتهم؛ ليوقعهم فيما أوقع به قوم نوح؛ فما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور ويلقي إليهم أن البناء والعكوف على قبور الصالحين يعد محبة لهم، وأن الدعاء عند قبورهم يستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء والتوسل بها، فإذا ألفوا ذلك؛ نقلهم منه إلى دعاء المقبورين وعبادتهم وسؤالهم الشفاعة من دون الله عز وجل، فتصبح قبورهم أوثانا، تعلق عليها القناديل، وتسدل عليها الستور، ويطاف بها، وتستلم، وتقبل ... فإذا ألفوا ذلك؛ نقلهم إلى أن يدعوا الناس إلى عبادة هذه القبور، واتخاذها أعيادًا ومناسك، فإذا ألفوا ذلك، وتقرر عندهم؛ نقلهم إلى اعتقاد أن من نهى عنه؛ فقد تنقص الأولياء وأبغضهم، وزعم أنه لا حرمه لهم ولا قدر لهم، وقد سرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين؛ حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم؛ فعلوا ذلك كله تحت ستار حب الصالحين وتعظيمهم، وقد كذبوا في ذلك؛ لأن محبة الصالحين على الحقيقة تكون على وفق الكتاب والسنة، وذلك بمعرفة فضلهم، والاقتداء بهم في الأعمال الصالحة، من غير إفراط ولا تفريط، ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾‏‏ .

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني أو أغنثني أو ارزقني أو أنا في حسبك ... ونحو هذه الأقوال؛ فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب، وإلا؛ قتل؛ فإن الله- سبحانه تعالى- إنما أرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده لا شريك له، ولا يدعى معه إله آخر، والذين يدعون مع الله إلها آخر مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو يعبدون صورهم ويقولون: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى﴾‏‏ ، ويقولون: ﴿هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ الله﴾‏‏، فبعث الله- سبحانه- رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه؛ لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة ... " انتهى كلام الشيخ- رحمه الله.

- وبه يتضح كشف شبهة هؤلاء القبوريين، الذين يسوغون فعلهم هذا بأنهم لا يعتقدون في الأولياء مشاركة الله في الخلق والرزق والإحياء والإماتة، وإنما يعتقدون فيهم أنهم وسائط بينهم وبين الله في قضاء حاجاتهم وتفريج كربتهم، وهي نفس الشبهة التي قالها مشركو الجاهلية كما ذكرها الله في كتابه وأبطلها.

- والواقع أن الشرك هؤلاء المتأخرين زاد على شرك الجاهلية؛ فصاروا يهتفون بأسماء هؤلاء الأموات في كل مناسبة، ولا يذكرون اسم الله إلا قليلاً، وإنما يجري على ألسنتهم اسم الولي دائما، والأولون كانوا يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة، وهؤلاء شركهم دائم في الرخاء والشدة؛ كما قال الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني- رحمه الله -:

- وكم هتفوا عند الشدائد باسمها كما يهتف المضطر بالصمد الفرد فيا علماء المسلمين! أنتم المسؤولون عن هذه القطعان الضائعة والتائهة في الضلال:

- لماذا لا تبينون لهم طريق الحق، وتنهونهم عن هذا الشرك العظيم، وأنتم تسكنون معهم وتخالطونهم؟!

- لماذا ضيعتم ما أوجب الله عليكم من الدعوة والبيان بقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ﴾‏‏ ؟!

- أليس العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء جاءوا بإنكار هذا الشرك وجهاد أهله حتى يكون الدين كله لله؟!

فاتقوا الله الذي حملكم هذه المسؤولية وسيسألكم عنها؛ فقد ورد في الحديث الصحيح أن العالم الذي لا يعمل بعلمه من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة.

إن كنتم ترون هذا شركا وتركتم الناس عليه؛ فالأمر خطير، وإن كنتم لا ترونه شركا؛ فالأمر أشد خطرًا؛ لأنكم جهلتم ما هو من أوضح الواضحات.

اللهم أصلح أحوال المسلمين، واهد ضلالهم؛ إنك على كل شيء قدير.

10- التصوير وسيلة إلى الشرك:

والتصوير معناه: نقل شكل وهيئته بواسطة الرسم أو الالتقاط بالآلة أو النحت، وإثبات هذا الشكل على لوحة أو ورقة أو تمثال.

وكان العلماء يتعرضون للتصوير في مواضيع العقيدة؛ لأن التصوير وسيلة من وسائل الشرك وادعاء المشاركة لله بالخلق أو المحاولة لذلك. وأول شرك حدث في الأرض كان بسبب التصوير، حينما أقدم قوم نوح على تصوير الصالحين ونصب صورهم على المجالس.

وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من التصوير بجميع أنواعه، ونهى عنه، وتوعد من فعله بأشد الوعيد، وأمر بطمس الصور وتغييرها؛ لأن التصوير فيه مضاهاة لخلق الله عز وجل، الذي انفرد بالخلق؛ فهذا الإنسان المصور يحاول أن يضاهي الله عز وجل فيما انفرد به من الخلق، ولأن التصوير وسيلة من وسائل الشرك؛ فأول حدوث الشرك في الأرض كان بسبب التصوير؛ لما زين الشيطان لقوم نوح تصوير الصالحين، ونصب صورهم على المجالس؛ لأجل تذكر أحوالهم، والاقتداء بهم في العبادة، حتى آل الأمر إلى عبادة تلك الصور، واعتقاد أنها تنفع وتضر من دون الله.

فالتصوير هو منشأ الوثنية؛ لأن تصوير المخلوق تعظيم له، وتعلق به في الغالب، خصوصا إذا كان المصور له شأن من سلطة أو علم أو صلاح، وخصوصا إذا عظمت الصورة بنصبها على حائط أو إقامتها في شارع أو ميدان؛ فإن ذلك يؤدي إلى التعلق بها من الجهال وأهل الضلال، ولو بعد حين، ثم هذا- أيضا- فيه فتح باب لنصب الأصنام والتماثيل التي تعبد من دون الله.

 وسأورد الأحاديث الصحيحة والصريحة في هذا الموضوع مع التعليق عليها بما تيسر.

1- عن أبي هريرة- رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟! فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة"، أخرجه البخاري ومسلم.

ومعناه: لا أحد أشد ظلما من المصور؛ لأنه لما صور الصورة على شكل ما خلقه الله من إنسان أو بهيمة أو غيرهما من ذوات الأرواح؛ صار مضاهيا لخلق الله، الذي هو خالق كل شيء، وهو رب كل شيء، وهو الذي صور جميع المخلوقات، وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها حياتها؛ كما قال تعالى-: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالآرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾‏‏ ، وقال تعالى-: ﴿هُوَ الله الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ﴾‏‏، ثم إن الله تحدى هؤلاء المصورين الذين يحاولون مضاهاة خلقه أن يوجدوا في تلك الصور التي صوروها أرواحا تحيا بها كما في المخلوق الذي صوروا، وهذا بيان لعجزهم وفشلهم في محاولاتهم ، وكما أنهم عاجزون عن إيجاد حيوان ذي روح؛ فهم عاجزون عن إيجاد الثمر والحب؛ (فليخلقوا حبة) .

 2- وروى البخاري ومسلم عن عائشة- رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله".

فهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بشدة عذاب المصورين يوم القيامة، وسوء عاقبتهم، وإن عاشوا في هذه الدنيا سالمين، وسموا فنانين، وشجعوا بأنواع التشجيع؛ فإن لهم مصيرًا ينتظرهم إذا لم يتوبوا؛ لأنهم بعملهم هذا يضاهون بخلق الله؛ أي: يشابهون بما يصنعونه من الصور ما صنعه الله من الخلق وتفرد به وهو الخلاق العليم، ﴿أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾‏‏.

قال الإمام النووي- رحمه الله- في هذا الحديث: "قيل هذا محمول على صانع الصورة لتعبد، وهو صانع الأصنام ونحوها؛ فهذا كافر، وهو أشد الناس عذابا، وقيل هو فيمن قصد هذا المعنى الذي في الحديث من مضاهاته خلقه، واعتقد ذلك؛ فهذا كافر- أيضا، وله من شدة العذاب ما للكافر، ويزيد عذابه بزيادة كفره، فأما من لم يقصد بها العبادة ولا المضاهاة؛ فهو فاسق، صاحب ذنب كبير، لا يكفر". قال شيخ عبد الرحمن بن حسن- رحمه الله -: "وإذا كان هذا فيمن صور صورة على مثال ما خلقه الله من الحيوان؛ فكيف بمن سوى المخلوق برب العالمين، وصرف له شيئا من العبادة؟! ".

3- وروى البخاري ومسلم- رحمهما الله- عن ابن عباس- رضي الله عنهما -: سمعت رسول الله يقول: "كل مصور يجعل له بكل صورة صوَّرها نفس يعذَّب بها في جهنم".

ومعناه: أنه في يوم القيامة تحضر الصور التي صورَّها في الدنيا، ويجعل في كل واحدة منه نفس يعذب بها في جهنم؛ قلَّت الصور أم كثرت، فيقاسي عذابها؛ بحيث يُكَوَّن من كل صورة شخص يعذب به في جهنم.

٤- وروى البخاري ومسلم- رحمهما الله- عن ابن عباس- أيضا -: "من صور صورة؛ كلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ".

وهذا نوع آخر من العذاب للمصور، ومعناه واضح، وهو أن المصور تحضر أمامه جميع الصور التي صورها في الدنيا، ثم يؤمر أن ينفخ في كل واحدة منها الروح، وأنَّى له ذلك والروح من أمر ربي؟! وإنما هذا تعذيب له وتعجيز له؛ لأنه يكلف ما لا يطيق، فيكون معذبا؛ فالحديث يدل على طول تعذيبه، وإظهار عجزه عما كان يتعاطاه في دنياه من مضاهاة خلق الله.

5- وروى مسلم- رحمه الله- عن أبي الهياج؛ قال: قال لي علي- رضي الله عنه -: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسوله الله صلى الله عليه وسلم؟. أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرًا مشرفا إلا سويته".

ففي هذا الحديث الأمر بطمس الصور، وهو تغييرها عن هيئتها حتى لا تبقى على حالها المشابهة لخلق الله، وفيه الأمر بهدم المباني المقامة على القبور من قباب ومساجد وغيرها من مظاهر الوثنية، ففي هذا الحديث الأمر بالقضاء على وسيلتين من أكبر وسائل الشرك وذرائعه المفضية إليه، وهما: التصوير والبناء على القبور، وهذا وأمثاله من أكبر مصالح الدين وحماية عقيدة المسلمين.

وقد كثر في زماننا هذا التصوير واستعماله ونصب الصور بتعليقها والاحتفاظ بالصور التذكارية( وإذا جاز التصوير في الحالات الضرورية؛ كالتصوير لحفيظة النفوس وجواز السفر ورخصة القيادة؛ فإنه يقتصر على تلك الحالات الضرورية، ولا يتوسع في غيرها؛ لأن الرخص تقدر بالضرورة)، وكثر- أيضا- في هذا الزمان البناء على القبور، حتى صار ذلك أمرًا مألوفا، وذلك بسب غربة الدين، وخفاء السنن، وظهور البدع، وسكوت كثير من العلماء، واستسلامهم للأمر الواقع، حتى أصبح المعروف منكرًا والمنكر معروفا في غالب البلدان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فالواجب التنبيه والنصيحة لله ولكتابه ولنبيه ولأئمة المسلمين وعامتهم، خصوصا وأن دعاة الضلال والمروجين للباطل كثيرون؛ فلا بد من كشف زيفهم، ورد ضلالهم، وتبصير المسلمين بشرهم حتى يحذرهم.

وفق الله المسلمين للعمل بكتابه وسنة رسوله.

 الشرك:

 نقض شبهات المشركين التي يتعلقون بها في تسويغ شركهم في توحد الإلهية.

إنه بسبب رواج الشبه والحكايات التي ضل بها أكثر الناس وعدوها أدلة يستندون إليها في تبرير ضلالتهم وشركهم؛ استمرؤوا ما هم عليه؛ فكان لا بد من كشف زيفها وبيان بطلانها؛ ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾‏‏.

وهذه الشُّبَه منها ما هو قديم أدلى به المشركون من الأمم السابقة، ومنها ما أدلى به مشركو هذه الأمة.

 ومن هذه الشبه:

أولاً: شبهة تكاد تكون مشتركة بين طوائف المشركين في مختلف الأمم، وهي: شبهة الاحتجاج بما كان عليه الآباء والأجداد، وأنهم ورثوا هذه العقيدة خلفا عن سلف.

كما قال- الله تعالى- عنهم: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾‏‏ .

وهذه حجة يلجأ إليها من يعجز عن إقامة الدليل على دعواه، وهي حجة داحضة، لا يقام لها وزن في سوق المناظرة؛ فإن هؤلاء الآباء الذين قلدوهم ليسوا على هدى، ومن كان كذلك؛ لا تجوز متابعته والاقتداء به؛ قال تعالى ردّاً عليهم: ﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ﴾‏‏، وقال تعالى: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ﴾‏‏، وقال: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ﴾‏‏.

وإنما يكون الاقتداء بالآباء محمودًا إذا كانوا على حق؛ كما قال تعالى عن يوسف عليه السلام؛ أنه قال: ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾‏‏ ، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾‏‏.

وشبهة الاحتجاج بما كان عليه الآباء الضالون متغلغلة في نفوس المشركين، يقابلون بها دعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: فقوم نوح لما قال لهم نوح: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأُوَّلِينَ﴾‏‏. فجعلوا ما عليه آباءهم حجة يعارضون بها ما جاءهم به نبيهم نوح عليه السلام‏.‏

وقوم صالح عليه السلام يقولون له‏:‏ ‏﴿‏أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا‏﴾‏‏‏،

وقوم إبراهيم يقولون له‏:‏ ‏﴿‏بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ‏﴾‏‏‏،

وفرعون يقول لموسى عليه السلام‏:‏ ‏﴿‏فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى‏﴾‏‏‏،

ومشركو العرب يقولون لمحمد صلى الله عليه وسلم لما قال لهم‏:‏ قولوا‏:‏ لا إله إلا الله‏!‏ قالوا‏:‏ ‏﴿‏مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ‏﴾‏‏‏.

 ثانيا‏:

ومن الشبه التي يدلي بها عباد القبور اليوم ظنهم أن مجرد النطق بلا إله إلا الله يكفي لدخول الجنة، ولو فعل الإنسان ما فعل؛ فإنه لا يكفر وهو يقول‏:‏ لا إله إلا الله، متمسكين بظواهر الأحاديث التي ورد فيها أن من نطق بالشهادتين حرم على النار‏.‏

والجواب عن هذه الشبهة‏:‏ أن هذه الأحاديث ليست على إطلاقها، وإنما هي مقيدة بأحاديث أخرى جاء فيها أنه لا بد لمن قال‏:‏ لا إله إلا الله‏:‏ أن يعتقد معناها بقلبه ويعمل بمقتضاها فيكفر بما يعبد من دون الله‏.‏

كما في حديث عتبان‏:‏ ‏(‏فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله‏). وإلا؛ فالمنافقون يقولون‏:‏ لا إله إلا الله بألسنتهم، وهم في الدرك الأسفل من النار، ولم ينفعهم النطق بلا إله إلا الله؛ لأنهم لا يعتقدون ما دلت عليه بقلوبهم‏.‏

وفي ‏"‏صحيح مسلم‏"‏‏:‏ ‏(‏من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه، وحسابه على الله‏). فعلق النبي صلى الله عليه وسلم حرمة المال والدم على أمرين‏:‏ الأول‏:‏ قول لا إله إلا الله، والثاني‏:‏ الكفر بما يعبد من دون الله، ولم يكتف بمجرد النطق بلا إله إلا الله، فدل على أن الذي يقول لا إله إلا الله ولا يترك عبادة الموتى والتعلق بالأضرحة؛ لا يحرم ماله ولا دمه‏.

 ثالثا:

ومن الشبه التي يدلون بها أيضا‏:‏ دعواهم أنه لا يقع في هذه الأمة المحمدية شرك وهم يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن هذا الذي يمارسونه عند الأضرحة من عبادة الموتى ودعائهم من دون الله لا يسمى شركا عندهم‏.‏

والجواب عن هذه الشبهة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون في هذه الأمة مشابهة لليهود والنصارى فيما هم عليه، ومن جملة ذلكم اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنها لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمته بالمشركين، وحتى تعبد فئات من أمته الأوثان، وقد حدث في هذه الأمة من الشرك والمبادئ الهدامة والنحل الضالة ما خرج به كثير من الناس عن دين الإسلام، وهم يقولون لا إله إلا الله‏.‏‏.‏‏.‏

 رابعا‏:

ومن الشبه التي تعلقوا بها قضية الشفاعة؛ حيث يقولون‏:‏ نحن لا نريد من الأولياء والصالحين قضاء الحاجات من دون الله، ولكن نريد منهم أن يشفعوا لنا عند الله، لأنهم أهل صلاح ومكانة عند الله؛ فنحن نريد بجاههم وشفاعتهم‏.‏

والجواب‏:‏ أن هذا هو عين ما قاله المشركون من قبل في تبرير ما هم عليه، وقد كفرهم الله وسماهم مشركين؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ‏﴾‏‏‏

والشفاعة حق، ولكنها ملك لله وحده؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا‏﴾‏‏‏؛ فهي تطلب من الله لا من الأموات؛ لأن الله لم يرخص في طلب الشفاعة من الملائكة ولا من الأنبياء ولا غيرهم؛ لأنها ملكه سبحانه، وتطلب منه؛ ليأذن للشافع أن يشفع، وليس الأمر كما هو عند المخلوقين من تقدم الشفعاء لديهم بدون إذنهم، ويضطرون إلى قبول الشفاعة لحاجتهم إليهم، وإن لم يرضوا عن المشفوع فيه؛ لأنهم يحتاجون إلى الأعوان والوزراء، أما الله سبحانه؛ فلا يشفع أحد إلا بإذنه ورضاه عن المشفوع فيه؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى‏﴾‏‏‏

 خامسا‏:

ومن شبه هؤلاء أنهم يقولون‏:‏ إن الأولياء والصالحين لهم مكانة عند الله، ونحن نسأل الله بجاههم ومكانتهم‏.‏

والجواب‏:‏ أن المؤمنين كلهم أولياء الله، ولكن الجزم بشخص معين أنه ولي لله يحتاج إلى دليل من الكتاب والسنة، ومن ثبت ولايته بالكتاب والسنة؛ لم يجز لنا الغلو فيه والتبرك به؛ لأن ذلك من وسائل الشرك، والله أمرنا بدعائه مباشرة دون اتخاذ وسائط بيننا وبينه، ولأن هذا هو التعليل الذي علل به المشركون من قبل أنهم اتخذوا هؤلاء شفعاء ووسائط بينهم وبين الله يسألون الله بجاههم وقربهم، فأنكر الله عليهم ذلك‏.‏

 الشرك:

 بيان أنواع من الشرك الأكبر:

الشرك نوعان‏:‏ شرك أكبر وشرك أصغر،

والشرك الأكبر ينافي التوحيد ويخرج من الملة، وله أنواع كثيرة سبق بيان بعضها بما يمارس حول الأضرحة، وهناك أنواع أخرى منها‏:

  1- الشرك في الخوف:

الخوف كما عرفه العلماء‏:‏ توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة، وهو أربعة أقسام‏:

الأول‏:‏ من أنواع الخوف: خوف السر، وهو أن يخاف من غير الله من وثن أو طاغوت أو ميت أو غائب من جن أو إنس أن يصيبه بما يكره؛ كما قال الله عن قوم هود عليه السلام‏:‏ إنهم قالوا له‏:‏ ‏﴿‏إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ‏﴾‏‏‏.

وقد خوف المشركون رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم من أوثانهم؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ‏﴾‏‏‏، وهذا الخوف من غير الله هو الواقع اليوم من عباد القبور وغيرها من الأوثان؛ يخافونها، ويخوفون بها أهل التوحيد إذا أنكروا عبادتها وأمروا بإخلاص العبادة لله‏.‏

وهذا النوع من الخوف من أهم أنواع العبادة، يجب إخلاصه لله وحده؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏﴾‏‏‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ‏﴾‏‏‏، وهذا الخوف من أعظم مقامات الدين وأجلها؛ وهو الخوف المقترن بالمحبة والتعظيم والتذلل لله تعالى فمن صرفه لغير الله؛ فقد أشرك بالله الشرك الأكبر والعياذ بالله‏.‏

 الثاني‏ من أنواع الخوف:

أن يترك الإنسان ما يجب عليه خوفا من بعض الناس؛ فهذا محرم، وهو شرك أصغر، وهذا هو المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏﴿ا‏لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏﴾‏‏‏.

وهذا أيضا هو الخوف المذكور في الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يحقر أحدكم نفسه‏!‏ قالوا يا رسول الله‏!‏ كيف يحقر أحدنا نفسه‏؟‏ قال يرى أمرا لله عليه فيه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة ما منعك أن تقول في كذا وكذا‏؟‏ فيقول خشية الناس فيقول الله عز وجل فإياي كنت أحق أن تخشى‏)‏ ‏

وقوله صلى الله عليه وسلم :" ‏ لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلًا مِنْكُمْ مَخَافَةُ النَّاسِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْحَقِّ إِذَا رَآهُ أَوْ عَلِمَهُ" ( رواه أحمد 11403 بسند صحيح كما في سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 168).

الثالث‏:‏ من أنواع الخوف‏:‏

الخوف الطبيعي ( أو الجِبِلِّي)، وهو الخوف من عدو أو سبع أو غير ذلك؛ فهذا ليس بمذموم؛ كما قال تعالى في قصة موسى عليه السلام‏:‏ ‏﴿‏فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ‏﴾‏‏.

 ‏الرابع من أنواع الخوف:

 الخوف الشركي: وهو أن يخاف من مخلوق خزفا مقترنًا بالتعظيم والخضوع والمحبة ، كمن يخاف من صنم أو ميت خوفا مقرونا بتعظيم ومحبة فيخاف أن يصيبه بمكروه بقدرته ومشيئته ، وهذا من الشرك الأكبر لأنه صرف عبادة الخوف والتعظيم لغير الله .

ومن ذلك أيضا أن يخاف من مخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله كأن يخاف من مخلوق أن يصيبه بمرض بمشيئته وقدرته .

فإن كان مع هذا الخوف تعظيما لهذا المخلوق فهو شرك في الألوهية ، وإن لم يصحبه تعظيم فهو شرك في الربوبية .

أما النوع الأول: الذي هو خوف السر؛ فهو من أعظم أنواع العبادة؛ فيجب إخلاصه لله عز وجل‏.‏ وكذلك النوع الثاني؛ فهو من حقوق العبادة ومكملاتها‏.‏

ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ‏﴾‏‏‏ ‏:‏ أن يخوفكم بأوليائه‏.‏ ‏﴿‏فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ‏﴾‏‏‏ ‏:‏ نهي من الله للمؤمنين أن يخافوا غيره، وأمر لهم أن يقصروا خوفهم عليه؛ فإذا أخلصوا الخوف وجميع أنواع العبادة؛ أعطاهم ما يريدون وأمنهم مما يخافون‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ‏﴾‏‏‏

- قال الإمام ابن القيم‏:‏ ‏"‏ومن كيد عدو الله أن يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه لئلا يجاهدوهم ولا يأمروهم بمعروف ولا ينهوهم عن منكر، وأخبر تعالى أن هذا من كيد الشيطان وتخويفه، ونهانا أن نخافهم، فكلما قوي إيمان العبد؛ زال منه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمانه؛ قوي خوفه منهم، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ‏﴾‏‏‏

فأخبر سبحانه أن مساجد الله لا يعمرها إلا أهل الإيمان بالله واليوم الآخر، الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا بجوارحهم وأخلصوا له الخشية دون سواه، فأثبت لهم عمارة المساجد بعد أن نفاها عن المشركين؛ لأن عمارة المسجد لا تكون إلا بالطاعة والعمل الصالح، والمشرك وإن عمل؛ فعمله ‏﴿‏كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا‏﴾‏‏‏ ، أو ‏﴿‏كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ‏﴾‏‏‏ وما كان كذلك؛ فالعدم خير منه؛ فلا تكون المساجد عامرة عمرانا صحيحا إلا بالعمل الصالح المؤسس على الإخلاص والتوحيد والعقيدة الصحيحة الخالية من الشرك والبدع والخرافات، وليس عمارتها بالطين والزخرفة وفخامة البناء فقط، أو إشادتها على القبور؛ فقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ‏﴾‏‏‏؛ قال ابن عطية‏:‏ ‏"‏يريد‏:‏ خشية التعظيم والعبادة والطاعة، ولا محالة أن الإنسان يخشى المحاذير الدنيوية‏"‏‏.‏

وقد كتب معاوية رضي الله عنه إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يطلب منها أن تكتب له كتابا توصيه فيه ولا تكثر عليه، فكتبت له عائشة رضي الله عنها ما نصه‏:‏ إلى معاوية، سلام عليك، أما بعد؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من التمس رضى الله بسخط الناس، كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله‏؟‏ وكله الله إلى الناس‏)‏ ‏.‏

والسلام‏.‏ رواه أبو نعيم في الحلية، ورواه ابن حبان في ‏"‏صحيحه‏"‏بلفظ‏:‏ ‏(‏من التمس رضى الله بسخط الناس؛ رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله؛ سخط الله عليه وأسخط عليه الناس‏)‏ ‏[ وهو في السلسلة الصحيحة 2311 ] .‏

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ ‏"‏وكتبت عائشة إلى معاوية، وروي أنها رفعته‏:‏ ‏(‏من أرضى الله بسخط الناس؛ كفاه مؤونة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله؛ لم يغنوا عنه من الله شيئا‏). هذا لفظ المرفوع‏.‏

ولفظ الموقوف‏:‏ ‏"‏من أرضى الله بسخط الناس؛ رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله؛ عاد حامده من الناس له ذاما ‏"‏‏.‏

- وهذا من أعظم الفقه في الدين؛ فإن من أرضى الله بسخطهم، كان قد اتقاه، وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، والله كاف عبده، ‏﴿‏وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ‏﴾‏‏‏ ، والله يكفيه مؤونة الناس بلا ريب، وأما كون الناس كلهم يرضون عنه؛ فقد لا يحصل ذلك، ولكن يرضون عنه إذا سلموا من الأغراض، وإذا تبين لهم العاقبة‏.‏ ومن أرضى الناس بسخط الله؛ لم يغنوا عنه من الله شيئا؛ كالظالم الذي يعض على يديه، وأما كون حامده ينقلب ذاما؛ فهذا يقع كثيرا، ويحصل في العاقبة؛ فإن العاقبة للتقوى، ولا تحصل ابتداء عند أهوائهم‏"‏‏.‏ انتهى كلامه رحمه الله‏.‏

ومن هذا الحديث برواياته يتبين أن الإنسان إذا كان يطلب بعمله إرضاء الله بما يسخط الناس؛ حصل على مصلحتين عظيمتين‏:‏ رضى الله تعالى ورضى الناس لأنه جعل نفسه من حزب الله ولا يخيب من التجأ إليه، ومن كان بالعكس يطلب بعمله إرضاء الناس بما يسخط الله عز وجل، حصل له مضرتان‏:‏ سخط الله وسخط الناس، فدل على أن إرضاء الله تعالى يجمع الخير كله، وأن إرضاء الناس بما يسخط الله يجمع الشر كله‏.‏ نسأل الله العافية والسلامة‏.‏

هذا ويجب أن نعلم أن الخوف من الله سبحانه يجب أن يكون مقرونا بالرجاء والمحبة؛ بحيث لا يكون خوفا باعثا على القنوط من رحمة الله؛ فالمؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء، بحيث لا يذهب مع الخوف فقط حتى يقنط من رحمة الله، ولا يذهب مع الرجاء فقط حتى يأمن من مكر الله؛ لأن القنوط من رحمة الله والأمن من مكره ينافيان التوحيد‏:‏ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ‏﴾‏‏‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ‏﴾‏‏‏

وقال‏:‏ ‏﴿‏وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ‏﴾‏‏‏

- قال إسماعيل بن رافع‏:‏ ‏"‏من الأمن من مكر الله إقامة العبد على الذنب يتمنى على الله المغفرة‏"‏‏.‏

- وقال العلماء‏:‏ القنوط‏:‏ استبعاد الفرج واليأس منه، وهو يقابل الأمن من مكر الله، وكلاهما ذنب عظيم‏.‏

فلا يجوز للمؤمن أن يعتمد على الخوف فقط حتى يقنط من رحمة الله، ولا على الرجاء فقط حتى يأمن من عذاب الله، بل يكون خائفا راجيا؛ يخاف ذنوبه، ويعمل بطاعة الله، ويرجو رحمته؛ كما قال تعالى عن أنبيائه‏:‏ ‏﴿‏إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ‏﴾‏‏‏ ، وقال‏:‏ ‏﴿‏أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا‏﴾‏‏‏.

وفي صحيح البخاري في الدعاء عند النوم:

اللهم انى أسلمت نفسى اليك ووجهت وجهى اليك وفوضت امرى اليك وألجأت ظهرى اليك رغبة ورهبة إليك " فلا تجد المؤمن أبدا الا راغبا وراهبا والرغبة والرهبة لا تقوم الا على ساق الصبر فرهبته تحمله على الصبر ورغبته تقوده إلى الشكركما قال ابن القيم رحمه الله .

والخوف والرجاء إذا اجتمعا؛ دفعا العبد إلى العمل وفعل الأسباب النافعة؛ فإنه مع الرجاء يعمل الطاعات رجاء ثوابها، ومع الخوف يترك المعاصي خوف عقابها‏.‏ أما إذا يئس من رحمة الله؛ فإنه يتوقف عن العمل الصالح، وإذا أمن من عذاب الله وعقوبته؛ فإنه يندفع إلى فعل المعاصي‏.‏

قال مكحول الشامي رحمه الله: "من عبد الله بالحب وحده؛ فهو صوفي، ومن عبده بالخوف وحده؛ فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده؛ فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء؛ فهو مؤمن"، كما وصف الله بذلك خيرة خلقه حيث يقول سبحانه‏:‏ ‏﴿‏أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ‏﴾‏‏‏

- وقد وصف الله الذين أهملوا جانب الخوف واندفعوا في المعاصي، وأمنوا من العقوبة بأنهم الخاسرون، فقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ‏﴾‏‏‏

ومعنى الآيات‏:‏ أن الله لما ذكر حال أهل القرى المكذبين للرسل المتمادين في الكفر والمعاصي؛ ذكر أن الذي حملهم على ذلك هو الأمن من مكر الله وعدم الخوف منه، ومكر الله هو أنه إذا عصاه العبد وأغضبه؛ أنعم عليه بأشياء يظن العبد أنها من رضى الله عنه، وهي استدراج له؛ فهؤلاء الكفرة أمنوا مكر الله بهم لما استدرجهم بالسراء والنعم وعصوا رسلهم وتمادوا في المعاصي حتى أهلكهم الله‏.‏

وحذر من جاء بعدهم أن يفعل مثل فعلهم فيصيبه ما أصابهم، فقال سبحانه‏:‏ ‏﴿‏أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ‏﴾‏‏‏

 قال بعض العلماء‏:‏ خوف العبد ينشأ من أمور هي‏:‏

* أولا‏:‏ معرفته بالجناية وقبحها‏.‏

* ثانيا‏:‏ تصديقه بالوعيد، وأن الله رتب على المعصية عقوبتها‏.‏

* ثالثا‏:‏ كونه لا يعلم لعله يمنع من التوبة ويحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب‏.‏

وبهذه الثلاثة يتم له الخوف قبل الذنب وبعده ويكون خوفه أشد‏.‏

وكان الأنبياء عليهم السلام لا ينقطع أملهم بالله أبدا، ولا ييأسون من رحمة الله في جميع الأحوال، مهما اشتد الخطب وضعفت الأسباب‏:

فهذا خليل الله إبراهيم لما بشرته الملائكة بالولد مع كبر سنه وحال زوجه التي يستبعد معها حصول الولد، قال عند ذلك‏:‏ ‏﴿‏قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ‏﴾‏‏‏؛ لأنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك وأعظم، لكنه قال للملائكة‏:‏ ‏﴿‏قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ‏﴾‏‏‏ ، قال ذلك على وجه التعجب والتفكر في عظيم قدرة الله ورحمته‏.‏

وهذا نبي الله يعقوب عليه السلام لما اشتد به الأمر وتأزم الحال بفراق بنيه؛ عظم رجاؤه بالله وطمعه برحمته، وقال لبنيه الحاضرين عنده‏:‏ ‏﴿‏يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأََسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ‏﴾‏‏‏ ، وقال‏:‏ ‏﴿‏فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا‏﴾‏‏‏

وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال الله عنه‏:‏ ‏﴿‏إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا‏﴾‏‏‏ ، فعظم رجاؤه عند الشدة، ويقول‏:‏ ‏(‏واعلم أن الفرج مع الكرب‏)‏ ‏.‏

والله سبحانه ينهى عباده الذين كثرت ذنوبهم وعظمت جرائمهم أن يحملهم ذلك على القنوط من رحمته وترك التوبة منها؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ‏﴾‏‏‏؛ فنهى سبحانه عباده أن تحملهم كثرة ذنوبهم على ترك التوبة واليأس من المغفرة‏.‏

قال ابن كثير :" هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر. ولا يصح حمل الآية على غير توبة؛ لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه".

- وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم اليأس من روح الله من الكبائر‏:

- فعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر‏؟‏ فقال الإشراك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله‏)‏ ‏.‏

 وعن ابن مسعود؛ قال‏:‏ أكبر الكبائر‏:‏ الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله‏.‏

 لأن القنوط من رحمة الله‏:‏ سوء ظن بالله، وجهل بسعة رحمته ومغفرته‏.‏ والأمن من مكر الله‏:‏ جهل بالله وبقدرته، وثقة بالنفس وإعجاب بها‏.‏

 وفي ذلك تنبيه على أن يكون العبد دائما بين الخوف والرجاء؛ فإذا خاف، فلا يقنط ولا ييأس، بل يرجو رحمة الله‏.‏ وإذا رجا؛ فلا يتمادى به الرجاء حتى يأمن العقوبة‏.‏

 وكان بعض السلف يستحبون للعبد أن يقوي في حال الصحة جانب الخوف، وفي حالة المرض وعند الموت يقوي جانب الرجاء‏.‏

فتوازن القلب بين الخوف والرجاء يدفع على العمل الصالح والبعد عن المعاصي والتوبة من الذنوب، أما إذا اختل توازن القلب فمال إلى جانب واحد، فإن هذا مما يعطل حركة العمل ويعرقل سبيل التوبة ويوقع في الهلاك‏.‏

وفيما قَصَّه الله عن الأمم السابقة التي عطلت جانب الخوف فحَلَّ بها عقاب الله خير مذكر لأهل الإيمان‏:‏

فها هم قوم هود يقولون له‏:‏ ‏﴿‏سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ‏﴾‏‏‏

والخوف والرجاء من أعظم أنواع العبادة؛ فيجب إخلاصهما لله عز وجل، والإخلال بهما إخلال بالتوحيد وإفساد للعقيدة‏.‏

   2- الشرك في المحبة:

قلنا فيما سبق‏:‏ إن الخوف من الله تعالى لا بد أن يكون مقرونا بمحبته سبحانه؛ لأن تعبده بالخوف فقط هو أصل دين الخوارج‏.‏

فالمحبة هي أصل دين الإسلام الذي تدور عليه رحاه؛ فبكمال محبة الله يكمل دين الإسلام، وبنقصها ينقص توحيد الإنسان‏.‏

 والمراد بالمحبة هنا‏:

‏ محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع وكمال الطاعة وإيثار المحبوب على غيره، فهذه المحبة خالصة لله، لا يجوز أن يشرك معه فيها أحد؛

  لأن المحبة قسمان‏:‏

والقسم الاول‏:‏ محبة مختصة‏‏ وهي محبة العبودية التي تستلزم كمال الذل والطاعة للمحبوب، وهذه خاصة بالله سبحانه وتعالى‏.‏

 والقسم الثاني‏:‏ محبة مشتركة، وهي ثلاثة أنواع‏:

النوع الأول‏:‏ محبة طبيعية؛ كمحبة الجائع للطعام‏.‏

النوع الثاني‏:‏ محبة إشفاق؛ كمحبة الوالد لولده‏.‏

النوع الثالث‏:‏ محبة أنس وإلف؛ كمحبة الشريك لشريكه والصديق لصديقه‏.‏

وهذه المحبة بأقسامها الثلاثة لا تستلزم التعظيم والذل، ولا يؤاخذ أحد بها، ولا تزاحم المحبة المختصة، فلا يكون وجودها شركا؛ لكن لا بد أن تكون المحبة المختصة مقدمة عليها‏.‏

والمحبة المختصة- وهي محبة العبودية- هي المذكورة في قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ‏﴾‏‏‏

قال الإمام ابن القيم رحمه الله على هذه الآية‏:‏ ‏"‏أخبر تعالى أن من أحب من دون الله شيئا كما يحب الله تعالى؛ فهو ممن اتخذ من دون الله أندادا فى الحب والتعظيم‏"‏‏.‏

وقال ابن كثير رحمه الله‏:‏ ‏"‏يذكر تعالى حال المشركين في الدنيا، وما لهم في الآخرة من العذاب والنكال؛ حيث جعلوا لله أندادا؛ أي‏:‏ أمثالا ونظراء‏.‏ ‏﴿‏يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ يساوونهم بالله في المحبة والتعظيم‏"‏‏.‏

وهذا الذي قاله ابن كثير رحمه الله هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ كما حكى الله هذه التسوية عنهم في قوله‏:‏ ‏﴿‏تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏﴾‏‏‏ ، وقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ‏﴾‏‏‏ ، وقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لله، وقيل‏:‏ أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم، فدلت الآية على أن من أحب شيئا كحب الله، فقد اتخذه ندا لله‏.‏

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله‏:‏ ‏"‏وفيه أن من اتخذ ندا تساوي محبته محبة الله؛ فهو الشرك الأكبر‏"‏‏.‏

وقلنا قريبا‏:‏ إن محبة الله التي هي محبة العبودية يجب أن تقدم على المحبة التي ليست عبودية، وهي المحبة المشتركة؛ كمحبة الآباء والأولاد والأزواج والأموال؛ لأن الله توعد من قدم هذه المحبة على محبة الله، قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏﴾‏‏‏؛ فتوعد سبحانه من قدم هذه المحبوبات الثمان على محبة الله ورسوله والأعمال التى يحبها، ولم يتوعد على مجرد حب هذه الأشياء؛ لأن هذا شيء جبل عليه الإنسان، ليس اختياريا، وإنما توعد من قدم محبتها على محبة الله ورسوله ومحبة ما يحبه الله ورسوله، فلا بد من إيثار ما أحبه الله من عبده وأراده على ما يحبه العبد ويريده‏.‏ فمحبة الله لها علامات تدل عليها‏:

منها‏:‏ أن من أحب الله تعالى؛ فإنه يقدم ما يحبه الله من الأعمال على ما تحبه نفسه من الشهوات والملذات والأموال والأولاد والأوطان‏.‏

ومنها‏:‏ أن من أحب الله تعالى؛ فإنه يتبع رسوله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، فيفعل ما أمر به، ويترك ما نهى عنه؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ‏﴾‏‏‏

قال بعض السلف‏:‏ ‏"‏ادعى قوم محبة الله، فأنزل الله تعالى آية المحنة‏:‏ ‏﴿‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ‏﴾‏‏‏ وهذه الآيه تسمى آية"المحنة"أو آية"الاختبار"فالذي يحب الله حقيقة يتبع ما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وينتهي عما نهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، قال بعض العلماء:"من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده فهو كاذب؛ ففي الآية بيان دليل محبة الله وثمرتها وفائدتها؛ فدليلها وعلامتها‏:‏ اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وفائدتها وثمرتها‏:‏ نيل محبة الله للعبد ومغفرته لذنوبه‏"‏‏.‏

ومن علامات صدق محبة العبد لله‏:‏ ما ذكره الله بقوله‏:‏ ‏﴿‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ‏﴾‏‏‏؛

 فذكر في هذه الآية الكريمة لمحبة الله أربع علامات:

العلامة الأولى:‏‏ أن المحبين لله يكونون أذلة على المؤمنين؛ بمعنى أنهم يشفقون عليهم ويرحمونهم ويعطفون عليهم‏.‏ قال عطاء‏:‏ ‏"‏يكونون للمؤمنين كالوالد لولده‏"‏‏.‏

العلامة الثانية‏: أنهم يكونون أعزة على الكافرين؛ أي‏:‏ يظهرون لهم الغلظة والشدة والترفع عليهم، ولا يظهرون لهم الخضوع والضعف‏.‏

العلامة الثالثة‏:‏ أنهم يجاهدون في سبيل الله بالنفس واليد والمال واللسان لإعزاز دين الله وقمع أعدائه بكل وسيلة‏.‏

العلامة الرابعة‏: أنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم، فلا يؤثر فيهم ازدراء الناس لهم ولومهم إياهم على ما يبذلون من أنفسهم وأموالهم لنصرة الحق؛ لقناعتهم بصحة ما هم عليه وقوة إيمانهم ويقينهم، فكل محب يؤثر فيه اللوم فيضعفه عن مناصرة حبيبه فليس بمحب على الحقيقة‏.‏

 والأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى عشرة أشياء ذكرها ابن القيم رحمه الله وهي‏:‏

أحدها‏‏: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به‏.‏

الثاني:‏‏ التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض‏.‏

الثالث‏: دوام ذكر الله على كل حال باللسان والقلب والعمل‏.‏

الرابع‏: إيثار ما يحبه الله على ما يحبه العبد عند تزاحم المحبتين‏.‏

الخامس‏:‏ التأمل في أسماء الله وصفاته وما تدل عليه من الكمال والجلال وما لها من الآثار الحميدة‏.‏

السادس‏:‏ التأمل في نعم الله الظاهرة والباطنة، ومشاهدة بره وإحسانه وإنعامه على عباده‏.‏

السابع‏:‏ انكسار القلب بين يدي الله وافتقاره إليه‏.‏

الثامن‏: الخلوة بالله وقت النزول الإلهي حين يبقى ثلث الليل الآخر، وتلاوة القرآن في هذا الوقت، وختم ذلك بالاستغفار والتوبة‏.‏

التاسع‏:‏ مجالسة أهل الخير والصلاح المحبين لله عز وجل والاستفادة من كلامهم‏.‏

العاشر‏:‏ الابتعاد عن كل سبب يحول بين القلب وبين الله من الشواغل‏.‏

ومن توابع محبة الله ولوازمها محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخرج البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين‏)‏؛ أي‏:‏ لا يؤمن الإيمان الكامل إلا من كان الرسول أحب إليه من نفسه وأقرب الناس إليه‏.‏

ومحبة الرسول تابعة لمحبة الله ملازمة لها، ومن أحب الرسول صلى الله عليه وسلم اتبعه؛ فمن ادعى محبته عليه الصلاة والسلام وهو يخالفه فيما جاء به فيطيع غيره من المنحرفين والمبتدعين والمخرفين فيحيي البدع ويترك السنن؛ فهو كاذب في دعواه أنه يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المحب يطيع محبوبه‏.

‏ كما قال الشاعر:

تعصي الإله وأنت تزعم حبه ..... هذا محال في القياس شنيع

لو كان حبك صادقاً لأطعته ..... إن المحب لمن يحب مطيع

فالذين يحدثون البدع المخالفة لسنة الرسول بإحياء الموالد وغيرها من البدع، أو يفعلون ما هو أعظم من ذلك من الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم، ودعائه من دون الله، وطلب المدد منه والاستغاثة به، ومع هذا يدعون أنهم يحبونه؛ فهذا من أعظم الكذب، وهم كالذين قال الله فيهم‏:‏ ‏﴿‏وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ‏﴾‏‏‏؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن هذه الأمور، وقد خالفوا نهيه وارتكبوا معصيته، وهم يدعون أنهم يحبونه، فكذبوا؛ نسأل الله العافية‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

 3- الشرك في التوكل:

التوكل في اللغة معناه‏:‏ الاعتماد والتفويض، وهو من عمل القلب، يقال‏:‏ توكل في الأمر‏:‏ إذا ضمن القيام به، ووكلت أمري إلى فلان‏:‏ إذا اعتمدت عليه‏.‏

والتوكل على الله من أعظم أنواع العبادة التي يجب إخلاصها لله؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏﴾‏‏‏

 والتوكل على غير الله تعالى أقسام‏:‏

أحدها‏:‏ التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله؛ كالتوكل على الأموات والغائبين ونحوهم من الطواغيت في تحقيق المطالب من النصر والحفظ والرزق أو الشفاعة؛ فهذا شرك أكبر‏.‏

الثاني‏:‏ التوكل في الأسباب الظاهرة؛ كمن يتوكل على سلطان أو أمير أو أي شخص حي قادر فيما أقدره الله من عطاء أو دفع أذى ونحو ذلك؛ فهذا شرك أصغر؛ لأنه اعتماد على الشخص‏.‏

الثالث‏:‏ التوكل الذي هو إنابة الإنسان من يقوم بعمل عنه مما يقدر عليه كبيع وشراء؛ فهذا جائز، ولكن ليس له أن يعتمد عليه في حصول ما وكل إليه فيه، بل يتوكل على الله في تيسير أموره التي يطلبها بنفسه أو نائبه؛ لأن توكيل الشخص في تحصيل الأمور الجائزة من جملة الأسباب، والأسباب لا يعتمد عليها، وإنما يعتمد على الله سبحانه الذي هو مسبب الأسباب وموجد السبب والمسبب‏.‏

والتوكل على الله في دفع المضار وتحصيل الأرزاق وما لا يقدر عليه إلا هو من أعظم أنواع العبادة، والتوكل على غيره في ذلك شرك أكبر؛ قال الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏﴾‏‏‏؛ فأمر الله سبحانه بالتوكل عليه وحده، لأن تقديم المعمول يفيد الحصر، وجعل التوكل عليه شرطا في الإيمان كما جعله شرطا في الإسلام في قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ‏﴾‏‏‏؛ فدل على انتفاء الإيمان والإسلام عمن لم يتوكل على الله أو توكل على غيره فيما لا يقدر عليه إلا هو من أصحاب القبور والأضرحة وسائر الأوثان‏.‏

فالتوكل على الله فريضة يجب إخلاصها لله، وهو أجمع أنواع العبادة، وأعلى مقامات التوحيد وأعظمها وأجلها؛ لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة؛ فإنه إذا اعتمد على الله في جميع أموره الدينية والدنيوية دون كل ما سواه؛ صح إخلاصه ومعاملته مع الله‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ ‏"‏وما رجا أحد مخلوقا ولا توكل عليه إلا خاب ظنه فيه‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏انتهى‏.‏

والتوكل على الله من أعظم منازل ‏﴿‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏﴾‏‏‏؛ فلا يحصل كمال التوحيد بأنواعه الثلاثة إلا بكمال التوكل على الله سبحانه؛ قال الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا‏﴾‏‏‏ ، والآيات في الأمر به كثيرة جدا، قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ‏﴾‏‏‏

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏﴾‏‏‏ ‏:‏ ‏"‏فجعل التوكل على الله شرطا في الإيمان، فدل على انتفاء الإيمان عند انتفائه، وكلما قوي إيمان العبد؛ كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان؛ ضعف التوكل، وإذا كان التوكل ضعيفا؛ كان دليلا على ضعف الإيمان ولا بد، والله تعالى في مواضع من كتابه يجمع بين التوكل والعبادة، وبين التوكل والإيمان، وبين التوكل والتقوى، وبين التوكل والإسلام، وبين التوكل والهداية؛ فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان لجميع أعمال الإسلام، وأن منزلته منها كمنزلة الرأس من الجسد؛ فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن؛ فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل ‏"‏‏.‏

وقد جعل الله التوكل عليه من أبرز صفات المؤمنين، فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏﴿‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ يعتمدون عليه بقلوبهم؛ فلا يرجون سواه‏.‏ وفي الآية وصف المؤمنين حقا بثلاثة مقامات من مقامات الإحسان، وهي‏:‏ الخوف، وزيادة الإيمان، والتوكل على الله وحده‏.‏

والتوكل على الله سبحانه لا ينافي السعي في الأسباب والأخذ بها؛ فإن الله سبحانه وتعالى قدر مقدورات مربوطة بأسباب، وقد أمر الله تبارك وتعالى بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل؛ فالأخذ بالأسباب طاعة لله؛ لأن الله أمر بذلك، وهو من عمل الجوارح، والتوكل من عمل القلب، وهو إيمان بالله‏:

قال الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ‏﴾‏‏‏ وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ‏﴾‏‏‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ‏﴾‏‏‏

قال بعض العلماء‏:‏ ‏"‏من طعن في الحركة- يعني‏:‏ في السعي والكسب والأخذ بالأسباب-؛ فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل؛ فقد طعن في الإيمان‏"‏‏.‏

 قال الإمام ابن رجب رحمه الله‏:‏ ‏"‏والأعمال التي يعملها العبد ثلاثة أقسام‏:‏

أحدها‏:‏ الطاعات التي أمر الله بها عباده وجعلها سببا للنجاة من النار ودخول الجنة؛ فهذا لا بد من فعله مع التوكل على الله فيه والاستعانة به عليه؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا به، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن؛ فمن قصر في شيء من ذلك؛ استحق العقوبة في الدنيا والآخرة قدرا وشرعا‏.‏ قال يوسف بن أسباط‏:‏ ‏"‏يقال‏:‏ اعمل عمل رجل لا ينجيه إلا عمله، وتوكل توكل رجل لا يصيبه إلا ما كتب له‏"‏‏.‏

والثاني‏:‏ ما أجرى الله العادة به في الدنيا وأمر عباده بتعاطيه؛ كالأكل عند الجوع، والشرب عند العطش، والاستظلال من الحر، والتدفئة من البرد‏.‏‏.‏‏.‏ ونحو ذلك؛ فهذا أيضا واجب على العبد تعاطي أسبابه، ومن قصر فيه حتى تضرر بتركه مع القدرة على استعماله؛ فهو مفرط يستحق العقوبة، لكن الله سبحانه وتعالى يقوي بعض عباده من ذلك على ما لا يقوي عليه غيره؛ فإذا عمل بمقتضى قوته التي اختص بها عن غيره؛ فلا حرج عليه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يواصل في صيامه، وينهى عن ذلك أصحابه، ويقول لهم‏:‏ ‏(‏إني لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى‏)‏ ، وقد كان كثير من السلف لهم من القوة على ترك الطعام والشراب ما ليس لغيرهم؛ فمن كان له قوة، فعمل بمقتضى قوته، ولم يضعفه ذلك عن طاعة الله؛ فلا حرج عليه، ومن كلف نفسه حتى أضعفها عن بعض الواجبات؛ فإنه ينكر عليه ذلك‏.‏

 الثالث‏:‏ ما أجرى الله العادة به في الدنيا في الأعم الأغلب‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏"‏وقد روي عن ابن عباس قال‏:‏ كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون‏:‏ نحن متوكلون‏!‏ فيحجون، فيأتون مكة، ويسألون الناس‏.‏‏.‏‏.‏ فأنزل الله هذه الآية‏:‏ ‏﴿‏وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى‏﴾‏‏‏ وقد سئل أحمد رحمه الله عمن يقعد ولا يكتسب ويقول‏:‏ توكلت على الله؛ فقال‏:‏ ينبغي للناس كلهم يتوكلون على الله، ولكن يعودون على أنفسهم بالكسب، وقد كان الأنبياء يؤجرون أنفسهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤجر نفسه وأبو بكر وعمر، ولم يقولوا نقعد حتى يرزقنا الله، وقال الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ‏﴾‏‏‏

وخرج الترمذي من حديث أنس؛ قال‏:‏ ‏(‏قال رجل يا رسول الله‏!‏ أعقلها وأتوكل‏؟‏ أو أطلقها وأتوكل‏؟‏ قال اعقلها وتوكل‏)‏ ‏.‏

وهذا كله إشارة إلى أن التوكل لا ينافي الإتيان بالأسباب المباحة، بل قد يكون جمعها أفضل، وقد لقي عمر بن الخطاب جماعة من أهل اليمن، فقال‏:‏ "من أنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ نحن المتوكلون‏.‏ قال‏:‏ بل أنتم المتكلون‏!‏ إنما المتوكل الذي يلقي حبه في الأرض ويتوكل على الله"‏.‏

 4- الشرك في الطاعة:

اعلموا- وفقني الله وإياكم- أن من الشرك طاعة العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله‏:

قال الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏﴾‏‏‏

وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية على عدي بن حاتم الطائي، فقال يا رسول الله‏!‏ لسنا نعبدهم قال أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه قال بلى قال النبى صلى الله عليه وسلم فتلك عبادتهم‏). رواه الترمذي وغيره‏[ وهو في سلسلة الأحاديث الصحيحة 3293 ]

وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم فيه اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله بأنه ليس معناه الركوع والسجود لهم، وإنما معناه طاعتهم في تغيير أحكام الله وتبديل شريعته بتحليلهم الحرام، وتحريمهم الحلال، وأن ذلك يعتبر عبادة لهم من دون الله؛ حيث نصبوا أنفسهم شركاء لله في التشريع، فمن أطاعهم في ذلك؛ فقد اتخذهم شركاء لله في التشريع والتحليل والتحريم، وهذا من الشرك الأكبر، لقوله تعالى في الآية‏:‏ ‏﴿‏وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏﴾‏‏‏

ومثل هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ‏﴾‏‏‏

ومن هذا طاعة الحكام والرؤساء في تحكيم القوانين الوضعية المخالفة للأحكام الشرعية في تحليل الحرام؛ كإباحة الربا والزنى وشرب الخمر ومساواة المرأة للرجل في الميراث وإباحة السفور والاختلاط، أو تحريم الحلال؛ كمنع تعدد الزوجات، وما أشبه ذلك من تغيير أحكام الله واستبدالها بالقوانين الشيطانية؛ فمن وافقهم على ذلك ورضي به واستحسنه، فهو مشرك كافر والعياذ بالله‏.‏

ومن ذلك تقليد الفقهاء باتباع أقوالهم المخالفة للأدلة إذا كانت توافق أهواء بعض الناس وما يشتهونه؛ كما يفعل بعض أنصاف المتعلمين من تلمس الرخص، والواجب أن يؤخذ من قول المجتهد ما وافق الدليل ويطرح ما خالفه‏.‏

قال الأئمة رحمهم الله‏:‏ ‏"‏كل يؤخذ من قوله ويترك؛ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏‏.‏

قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله‏:‏ ‏"‏إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة رضي الله عنهم، فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن التابعين؛ فهم رجال ونحن رجال ‏"‏؛ يريد رحمه الله أمثاله وأمثال الأئمة الكبار‏.‏

وقد استغل هذه الكلمة بعض أنصاف المتعلمين، الذين جعلوا أنفسهم في مصاف الأئمة المجتهدين، وهم لا يزالون جهالا، ولا شك أن الإمام أبا حنيفة لا يقصد مساواة العلماء بالجهال‏.‏

وقال مالك رحمه الله‏:‏ ‏"‏كلنا راد ومردود عليه؛ إلا صاحب هذا القبر -يعني‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم.‏

وقال الإمام الشافعي رحمه الله‏:‏ ‏"‏إذا صح الحديث؛ فهو مذهبي‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏إذا خالف قولي قول رسول الله؛ فاضربوا بقولي عرض الحائط‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد رحمه الله‏:‏ ‏"‏عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول‏:‏ ‏﴿‏فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏﴾‏‏‏

ويقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏"‏يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء‏!‏ أقول‏:‏ قال رسول الله‏!‏ وتقولون‏:‏ قال أبو بكر وعمر‏"‏‏.‏

قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في ‏"‏فتح المجيد‏"‏‏:‏ ‏"‏فالواجب على كل مكلف إذا بلغه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله وفهم معنى ذلك أن ينتهي إليه ويعمل به، وإن خالفه من خالفه‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏"‏فيجب على من نصح نفسه إذا قرأ كتب العلماء ونظر فيها وعرف أقوالهم أن يعرضها على ما في الكتاب والسنة؛ فإن كل مجتهد من العلماء ومن تبعه وانتسب إليه يذكر دليله، والحق في المسألة واحد، والأئمة مثابون على اجتهادهم؛ فالمنصف يجعل النظر في كلامهم وتأمله طريقا إلى معرفة المسائل واستحضارها، وتمييز الصواب من الخطأ بالأدلة التي يذكرها المستدلون، ويعرف بذلك من هو أسعد بالدليل من العلماء فيتبعه‏"‏‏.‏

وقال رحمه الله على قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ‏﴾‏‏‏ ‏:‏ ‏"‏وهذا وقع فيه كثير من الناس مع من قلدوهم، لعدم اعتبارهم الدليل إذا خالف المقلد- وهو من هذا الشرك‏‏، ومنهم من يغلو في ذلك ويعتقد أن الأخذ بالدليل والحالة هذه يكره أو يحرم فعظمت الفتنة‏!‏ ويقول‏:‏ هو أعلم منا بالأدلة‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏انتهى‏.‏

وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله‏:‏ ‏"‏المسألة الخامسة‏:‏ تغير الأحوال إلى هذه الغاية، حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال، وتسمى الولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه، ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من دون من ليس من الصالحين، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏انتهى‏.‏

ومن اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا طاعة علماء الضلال فيما أحدثوه في دين الله من البدع والخرافات والضلالات؛ كإحياء أعياد الموالد والطرق الصوفية والتوسل بالأموات ودعائهم من دون الله، حتى إن هؤلاء العلماء الضالين شرعوا ما لم يأذن به الله، وقلدهم فيه الجهال السذج، واعتبروه هو الدين، ومن أنكره ودعا إلى اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم اعتبروه خارجا من الدين‏!‏ أو أنه يبغض العلماء والصالحين‏!‏‏!‏ فعاد المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، حتى شب على ذلك الصغير وهرم عليه الكبير، وهذا من غربة الدين وقلة الدعاة المصلحين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

وإذا كان لا يجوز اتباع أئمة الفقه المجتهدين فيما أخطئوا فيه من الاجتهاد مع أنهم معذورون ومأجورون فيما أخطئوا فيه من غير قصد- إلا أنه يحرم اتباعهم على الخطأ-‏؟‏ فكيف لا يحرم تقليد هؤلاء المضللين والدجالين الذين أخطئوا فيما لا يجوز الاجتهاد فيه- وهو أمر العقيدة-؛ لأن العقيدة توقيفية، تتوقف على النصوص‏؟‏‏!‏ ولكن الأمر كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ‏﴾‏‏‏

وإلى جانب هؤلاء المغرقين في التقليد الأعمى في الأصول والفروع، إلى جانبهم جماعة أخرى على النقيض منهم، ترى وجوب الاجتهاد على كل أحد، ولو كان جاهلا لا يحسن قراءة القرآن ولا يعرف شيئا عن العلم، ويحرمون النظر في كتب الفقه، ويريدون من الجهال أن يستنبطوا الأحكام من الكتاب والسنة‏!‏‏!‏ وهذا تطرف شنيع، وخطر هؤلاء على الأمة الإسلامية لا يقل عن خطر الفريق الأول إن لم يزد عليه، وخير الأمور الوسط والاعتدال؛ بأن لا نقلد الفقهاء تقليدا أعمى، ولا نزهد بعلمهم ونترك أقوالهم الموافقة للكتاب والسنة، بل ننتفع بها ونستعين بها على فهم الكتاب والسنة؛ لأنها ثروة علمية ورصيد فقهي عظيم يؤخذ منه ما وافق الدليل ويترك ما خالف الدليل؛ كما كان السلف الصالح يفعلون ذلك، خصوصا في هذا الزمان، الذي تقاصرت فيه الهمم، وفشا فيه الجهل؛ فالواجب الاعتدال بلا إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا تساهل، ونسأل الله عز وجل أن يهدي ضال المسلمين ويثبت أئمتهم وقادتهم على الحق‏.‏‏.‏‏.‏ إنه سميع مجيب‏.‏

وكما لا تجوز طاعة العلماء في تحليل الحرام وتحريم الحلال، فكذلك لا تجوز طاعة الأمراء والرؤساء في الحكم بين الناس بغير الشريعة الإسلامية؛ لأنه يجب التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله في جميع المنازعات والخصومات وشئون الحياة؛ لأن هذا هو مقتضى العبودية والتوحيدة لأن التشريع حق لله وحده؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ هو الحكم وله الحكم‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ‏﴾‏‏‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا‏﴾‏‏‏

فالتحاكم إلى شرع الله ليس لطلب العدل فقط، وإنما هو في الدرجة الأولى تعبد لله وحق لله وحده وعقيدة؛ فمن احتكم إلى غير شرع الله من سائر الأنظمة والقوانين البشرية؛ فقد اتخذ واضعي تلك القوانين والحاكمين بها شركاء لله في تشريعه‏:

قال الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ‏﴾‏‏‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ‏﴾‏‏‏

وقد نفى الله الإيمان عمن تحاكم إلى غير شرعه، قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏‏.‏‏.‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا‏﴾‏‏‏

فمن دعا إلى تحكيم القوانين البشرية؛ فقد جعل لله شريكا في الطاعة والتشريع، ومن حكم بغير ما أنزل الله؛ يرى أنه أحسن أو مساو لما أنزله الله وشرعه أو أنه يجوز الحكم بهذا؛ فهو كافر بالله، وإن زعم أنه مؤمن؛ لأن الله أنكر على من يريد التحاكم إلى غير شرعه وكذبهم في زعمهم الإيمان؛ لأن قوله‏:‏ ‏﴿‏يَزْعُمُونَ‏﴾‏‏‏ متضمن لنفي إيمانهم؛ لأن هذه الكلمة تقال غالبا لمن يدعي دعوى هو فيها كاذب، ولأن تحكيم القوانين تحكيم للطاغوت، والله قد أمر بالكفر بالطاغوت، وجعل الكفر بالطاغوت ركن التوحيد؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى‏﴾‏‏‏؛ فمن حكم القوانين البشرية؛ لم يكن موحدا؛ لأنه اتخذ شريكا في التشريع والطاعة، ولم يكفر بالطاغوت الذي أمر أن يكفر به، وأطاع الشيطان؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا‏﴾‏‏‏

وقد أخبر الله أن المنافقين حينما يدعون إلى التحاكم إلى شرع الله يأبون ويعرضون، فقال سبحانه‏:‏ ‏﴿‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا‏﴾‏‏‏ كما أخبر أنهم يرون الفساد صلاحا؛ لانتكاس فطرهم وفساد قلوبهم، فقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ‏﴾‏‏‏  فالتحاكم إلى غير الله من أعمال المنافقين، وهو من أعظم الفساد في الأرض‏.‏‏.‏‏.‏

قال الإمام ابن القيم رحمه الله على هذه الآية‏:‏ ‏"‏قال أكثر المفسرين‏:‏ ولا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى طاعة غير الله بعد إصلاح الله لها ببعثة الرسل وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله؛ فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك ومخالفة أمره؛ فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره ومطاع متبع غير الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعظم فساد في الأرض، ولا صلاح لها ولأهلها إلا بأن يكون الله وحده هو المعبود المطاع والدعوة له لا لغيره، والطاعة والاتباع للرسول ليس إلا، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته؛ فلا سمع ولا طاعة، ومن تدبر أحوال العالم؛ وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله والدعوة إلى غير الله ورسوله‏"‏‏.‏

وقد سمى الله كل حكم يخالف حكمه بأنه حكم الجاهلية؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏﴾‏‏‏

قال ابن كثير رحمه الله‏:‏ ‏"‏ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله؛ كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الجهالات والضلالات، وكما تحكم به التتار من السياسات، المأخوذ عن جنكيز خان، الذي وضع لهم ‏"‏الياسق‏"‏، وهو عبارة عن كتاب أحكام اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها عن مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعا، يقدمونها على الحكم بالكتاب والسنة؛ فمن فعل ذلك؛ فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله؛ فلا يحكم بسواه في قليل أو كثير‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏ انتهى كلامه رحمه الله‏.‏

ومثل قانون التتار هذا القوانين الوضعية التي جعلت اليوم في كثير من الدول هي مصادر الأحكام وألغيت من أجلها الشريعة الإسلامية إلا فيما يسمونه بالأحوال الشخصية‏.‏‏.‏‏.‏

والدليل على كفر من فعل ذلك آيات كثيرة؛ منها‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ‏﴾‏‏‏ ، وقوله‏:‏ ‏﴿‏فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ‏﴾‏‏‏ ، وقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏﴾‏‏‏

وكما قلنا قريبا إنه يجب تحكيم الشريعة عقيدة ودينا يدان الله به لا من أجل طلب العدالة فقط‏.‏

هذا ولابد للعبد من قبول حكم الله، سواء كان له أم عليه، وسواء وافق هواه أم لا‏:‏ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا‏﴾‏‏‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ‏﴾‏‏‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ‏﴾‏‏‏

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به‏)‏ ‏[رواه ابن أبي عاصم في السنة وضعفه ابن رجب في جامع العلوم والألباني في ظلال الجنة 15]

قال ابن رجب رحمه الله‏:‏ ‏"‏معنى الحديث‏:‏ أن الإنسان لا يكون مؤمنا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وغيرها، فيحب ما أمر به، ويكره ما نهى عنه، وقد ورد القرآن بمثل هذا المعنى في غير موضع، وذم سبحانه من كره ما أحبه الله أو أحب ما كرهه الله؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ‏﴾‏‏‏

إلى أن قال‏:‏ ‏"‏وقد وصف المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه، فقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ‏﴾‏‏‏ ، وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع، ولهذا سمي أهلها أهل الأهواء، وكذلك المعاصي إنما تنشأ من تقديم الهوى على محبة الله ومحبة ما يحبه، وكذلك حب الأشخاص الواجب فيه أن يكون تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فيجب على المؤمن محبة من يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عموما‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏ انتهى كلامه رحمه الله‏.‏

 الشرك:

 أمور تنافي التوحيد:

 وهناك أشياء تنافي التوحيد وتقتضي الردة عن الإسلام منها‏:‏

  1- سوء الظن بالله:

فسوء الظن بالله خطير؛ لأن حسن الظن بالله من واجبات التوحيد، وسوء الظن به ينافي التوحيد‏.‏

وقد وصف الله المنافقين أنهم يظنون به غير الحق، فقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ‏﴾‏‏‏

وأخبر عنهم في الآية الأخرى أنهم يظنون به ظن السوء، فقال‏:‏ ‏﴿‏وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا‏﴾‏‏‏

قال الإمام ابن القيم في تفسير الآية الأولى‏:‏ ‏"‏فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله وأن أمره سيضمحل، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته؛ ففسر بإنكار الحكمة وإنكار القدر وإنكار أن يتم أمر رسوله، وأن يظهره على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظن المنافقون والمشركون في سورة الفتح، وإنما كان هذا ظن السوء؛ لأنه ظن لا يليق به سبحانه ولا بحكمته وحمده ووعده الصادق؛ فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستمرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة؛ فذلك ظن الذين كفروا؛ فويل للذين كفروا من النار‏.‏

وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده‏.‏

فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله، وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء‏.‏

ولو فتشت من فتشت؛ لرأيت عنده تعنتا على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا؛ فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم‏.‏

فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا أخالك ناجيا

وقال ابن القيم رحمه الله‏:‏ ‏"‏فمن ظن به أنه لا ينصر رسوله، ولا يتم أمره، ولا يؤيده ويؤيد حزبه ويعليهم ويظفرهم بأعدائهم ويظهرهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالا لا يقوم بعده أبدا؛ فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بجلاله وكماله وصفاته ونعوته؛ فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به؛ فمن ظن به ذلك؛ فما عرفه ولا عرف أسماءه ولا عرف صفاته وكماله‏.‏

وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه؛ فما عرفه ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته، وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحق عليها الحمد، وظن أن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمة وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فواتها، وأن تلك الأسباب المكروهة له المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة؛ لإفضائها إلى ما يحب، وإن كانت مكروهة له؛ فما قدرها سدى ولا شاءها عبثا ولا خلقها باطلا، ‏﴿‏ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ‏﴾‏‏‏

وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته، وعرف موجب حكمته وحمده‏.‏

فمن قنط من رحمته، وأيس من روحه؛ فقد ظن به ظن السوء‏.‏

ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم، ويسوي بينهم وبين أعدائه؛ فقد ظن به ظن السوء‏.‏

ومن ظن أنه يترك خلقه سدى معطلين عن الأمر والنهي، لا يرسل إليهم رسله، ولا ينزل عليهم كتبه، بل يتركهم هملا كالأنعام؛ فقد ظن به ظن السوء‏.‏

ومن ظن أنه لا يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار؛ يجازي المحسن فيها بإحسانه والمسيء بإساءته، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسوله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين؛ فقد ظن به ظن السوء‏.‏

ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصا لوجهه على امتثال أمره ويبطله بلا سبب من العبد، وأنه يعاقبه بما لا صنع له فيه ولا اختيار له ولا قدرة ولا إرادة له في حصوله، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به، أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله، ويجريها على أيديهم ليضلوا بها عباده، وأنه يحسن منه كل شيء حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته فيخلده في الجحيم في أسفل سافلين، وينعم من استنفذ عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين في الحسن عنده سواء، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق، وإلا؛ فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما وحسن الآخر؛ فقد ظن به ظن السوء‏.‏

ومن ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل، وترك الحق لم يخبر به، وإنما رمز إليه رموزا بعيدة، وأشار إليه إشارات ملغزة، ولم يصرح به، وصرح دائما بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه وتأويله على غير تأويله ويتطلبوا له الوجوه والاحتمالات المستكرهة والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه، بل أراد منهم أن لا يحملوا كلامه على ما يعرفونه من خطابهم ولغتهم، مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل، فلم يفعل، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان؛ فقد ظن به ظن السوء‏.‏

فإنه إن قال‏:‏ إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه؛ فقد ظن بقدرته العجز‏.‏ وإن قال‏:‏ إنه قادر ولم يبين وعدل عن البيان وعن التصريح بالحق إلى ما يوهم بل يوقع في الباطل المحال والاعتقاد الفاسد؛ فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء‏.‏

ومن ظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله، وأن الهدى والحق في كلامهم، وأما كلام الله؛ فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال، وظاهر كلام المشركين والحيارى هو الهدى والحق؛ فهذا من أسوأ الظن‏.‏

فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء، ومن الظانين بالله غير الحق ظن الجاهلية‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

انتهى كلام الإمام ابن القيم في بيان من هم الذين يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، ومن أراد استيفاءه؛ فليراجعه في ‏"‏زاد المعاد‏"‏‏.‏ والله والمستعان‏.‏

 وقال تقي الدين المقريزي :" واعلم أنك إذا تأملت جميع طوائف الضلال والبدع وجدت أصل ضلالهم راجعا إلى شيئين:

 أحدهما: الظن بالله ظن السوء.

 والثانى: أنهم لم يقدروا الرب حق قدره".

2- الاستهزاء بشيء فيه ذكر الله:

يجب على المسلم احترام كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين، وأن يعرف حكم من استهزأ بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول؛ ليكون المسلم على حذر من ذلك؛ فإن من استهزأ بذكر الله أو القرآن أو الرسول أو بشيء من السنة؛ فقد كفر بالله عز وجل؛ لاستخفافه بالربوبية والرسالة، وذلك مناف للتوحيد، وكفر بإجماع أهل العلم‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ‏﴾‏‏‏ الآية

وقد جاء بيان سبب نزول هاتين الآيتين الكريمتين أنه ما حصل من المنافقين في بعض الغزوات من سخرية بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏.‏

فقد روى ابن جرير وغيره عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة دخل حديث بعضهم في بعض‏:‏‏(‏أنه قال رجل في غزوة تبوك‏:‏ ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء -يعني‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء-‏.‏ فقال له عوف بن مالك‏:‏ كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب عوف إلى رسول الله 0 ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق‏.‏ قال ابن عمر‏:‏ كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الحجارة تنكب رجليه وهو يقول‏:‏ إنما كنا نخوض ونلعب‏.‏ فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏﴿‏أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ‏﴾‏‏‏‏)‏ ‏.‏

ففي هاتين الآيتين الكريمتين مع بيان سبب نزولهما دليل واضح على كفر من استهزأ بالله أو رسوله أو آيات الله أو سنة رسوله أو صحابة رسول الله؛ لأن من فعل ذلك؛ فهو مستخف بالربوبية والرسالة، وذلك مناف للتوحيد والعقيدة، ولو لم يقصد حقيقة الاستهزاء، ومن هذا الباب الاستهزاء بالعلم وأهله وعدم احترامهم أو الوقيعة فيهم من أجل العلم الذي يحملونه، وكون ذلك كفرا، ولو لم يقصد حقيقة الاستهزاء؛ لأن هؤلاء الذين نزلت فيهم الآيات جاءوا معترفين بما صدر منهم ومعتذرين بقولهم‏:‏ ‏﴿‏إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ‏﴾‏‏‏ أي‏:‏ لم نقصد الاستهزاء والتكذيب، وإنما قصدنا اللعب، واللعب ضد الجد، فأخبرهم الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن عذرهم هذا لا يغني من الله شيئا، وأنهم كفروا بعد إيمانهم بهذه المقالة التي استهزءوا بها، ولم يقبل اعتذارهم بأنهم لم يكونوا جادين في قولهم، وإنما قصدوا اللعب، ولم يزد صلى الله عليه وسلم في إجابتهم على تلاوة قول الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ‏﴾‏‏‏ لأن هذا لا يدخله المزح واللعب، وإنما الواجب أن تحترم هذه الأشياء وتعظم، وليخشع عند آيات الله إيمانا بالله ورسوله وتعظيما لآياته، والخائض اللاعب متنقص لها‏.‏

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب يرحمه الله‏:‏ ‏"‏القول الصريح في الاستهزاء هذا وما شابهه، وأما الفعل الصريح؛ فمثل مد الشفة وإخراج اللسان ورمز العين وما يفعله كثير من الناس عند الأمر بالصلاة والزكاة؛ فكيف بالتوحيد‏؟‏‏!‏‏"‏انتهى‏.‏

ومثل هذا الاستهزاء بالسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذي يستهزئ بإعفاء اللحى وقص الشوارب، أو يستهزئ بالسواك، أو غير ذلك، وكالاستهزاء بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ‏"‏وقد كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية بن زيد بن عمرو بن عوف ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشي بن حمير يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض‏:‏ أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا‏؟‏ والله؛ لكأنا بكم غبرا مقرنين في الحبال‏!‏ إرجافا وترهيبا للمؤمنين‏.‏ فقال مخشي بن حمير‏:‏ والله؛ لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مئة جلدة، وإنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه‏.‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني لعمار بن ياسر‏:‏ ‏"‏أدرك القوم؛ فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا؛ فإن أنكروا؛ فقل‏:‏ بلى؛ قلتم كذا وكذا‏"‏‏.‏ فانطلق إليهم عمار، فقال لهم ذلك، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على راحلته، فجعل يقول وهو آخذ بحقيها‏:‏ يا رسول الله‏!‏ إنما كنا نخوض ونلعب‏.‏ فقال مخشي بن حمير‏:‏ يا رسول الله‏!‏ قعد بي اسمي واسم أبي‏.‏ فكان الذي عناه- أي‏:‏ بقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ‏﴾‏‏

- في هذه الآية مخشي بن حمير، فسمي عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر‏"‏‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ ‏"‏فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم‏:‏ إنما تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل إنما كنا نخوض ونلعب، وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر، ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدرا بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه؛ لمنعه أن يتكلم بهذا الكلام، والقرآن يبين أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏﴾‏‏.

 نفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول، وأخبر أن المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم؛ سمعوا وأطاعوا؛ فبين أن هذا من لوازم الإيمان‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى‏.‏

وبه يعلم كفر من يتنقصون الشريعة الإسلامية ويصفونها بأنها لا تصلح لهذا الوقت الحاضر، وأن الحدود الشرعية فيها قسوة ووحشية، وأن الإسلام ظلم المرأة‏.‏‏.‏‏.‏ إلى غير ذلك من مقالات الكفر والإلحاد‏.‏ نسأل الله العافية والسلامة‏.‏

- أمور يفعلها بعض الناس وهي من الشرك أو من وسائله

 لبس الحلقة والخيط ونحوهما بقصد رفع البلاء أو دفعه

هناك أشياء مترددة بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر بحسب ما يقوم بقلب فاعلها وما يصدر عنه من الأفعال والأقوال، ويقع فيها بعض الناس، قد تتنافى مع العقيدة أو تعكر صفوها، وهي تمارس على المستوى العام، ويقع فيها بعض العوام تأثرا بالدجالين والمحتالين والمشعوذين، وقد حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم ومن هذه الأمور‏:

   1- لبس الحلقة والخيط ونحوهما بقصد رفع البلاء أو دفعه:

وذلك من فعل الجاهلية، وهو من الشرك الأصغر، وقد يترقى إلى درجة الشرك الأكبر بحسب ما يقوم بقلب لابسها من الاعتقاد بها‏.‏

فعن عمران بن حصين رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صُفْر ( أي من نحاس )، فقال ما هذا‏؟‏ قال من الواهنة فقال انزعها؛ فإنها لا تزيدك إلا وهنا؛ فإنك لو مت وهي عليك؛ ما أفلحت أبدا‏)‏ رواه أحمد بسند لا بأس به كما قال الشوكاني ، وصححه ابن حبان والحاكم وأقره الذهبي‏ ، بينما ضعفه الألباني والأرنؤوط.‏

- أمور يفعلها بعض الناس وهي من الشرك أو من وسائله

 2- تعليق التمائم:

وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادها يتقون بها العين، وكأنّهم سموها بهذا الاسم أنهم يريدون أن تكون تمام الدواء والشفاء المطلوب وأن يتم الله لهم مقصودهم‏.‏

وقد تكون التمائم من عظام ومن خرز ومن كتابة وغير ذلك، وهذا لا يجوز‏.‏

ومن ذلك تلك الحجب والرقى التي يكتبها بعض المشعوذين ويكتبون فيها طلاسم وكتابات لا يفهم معناها، وغالبها شرك، واستغاثات بالشياطين، وتعلق على الأطفال أو على البهائم، أو على بعض السلع أو أبواب البيوت يزعمون أنها سبب لدفع العين أو أنها سبب لشفاء المرضى من بني الإنسان أو من الحيوان، ومنها: الخلاخيل التي يجعلها بعض الجهّال على أولادهم يعتقدون أنها سبب لحفظهم من الموت، ومنها لبس خواتم لها فصوص معينة يعتقدون أنها تحفظ من الجن، ولبس أو تعليق خيوط عقد فيها شخص له اسم معين كـ"محمد " عقداً للعلاج من بعض الأمراض، ومنها الحروز وجلود الحيوانات والخيوط وغيرها مما يعلق على الأطفال أو على أبواب البيوت ونحو ذلك، والتي يزعمون أنها تدفع العين أو المرض أو الجن أو أنها سبب للشفاء من الأمراض.

وقد يكون المعلق من القرآن؛ فإذا كان من القرآن؛ فقد اختلف العلماء في جوازه وعدم جوازه، والراجح عدم جوازه؛ سدا للذريعة؛ فإنه يفضي إلى تعليق غير القرآن، ولأنه لا مخصص للنصوص المانعة من تعليق التمائم؛ كحديث ابن مسعود رضي الله عنه؛ قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الرقى والتمائم والتولة شرك‏). (رواه أحمد وأبو داود‏ وهو في الصحيحة 2972).‏

وعن عقبة بن عامر مرفوعا‏:‏ ‏(‏من علق تميمة؛ فقد أشرك‏)‏ ‏[رواه أحمد وصححه الألباني كما في الصحيحة 1/889 ] .‏

وثبت عن حذيفة رضي الله عنه قوله لرجل وجد على عضده خيطاً: ما هذا؟ قال: خيط رقي لي فيه. فقال حذيفة: "لو متَّ ما صليت عليك"، وبما ثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول: "تعليق التمائم شعبة من شعب الجاهلية"

وهذه نصوص عامة لا مخصص لها‏.

كما أن تعليق التمائم من القرآن والأدعية والأذكار المشروعة نوع من الاستعاذة والدعاء، فهي على هذا عبادة، وهي بهذه الصفة لم ترد في القرآن ولا في السنة، والأصل في العبادات التوقيف، فلا يجوز إحداث عبادة لا دليل عليها".

أضف إلى ذلك أن في تعليقها تعريضاً للقرآن وكلام الله تعالى وعموم الأذكار الشرعية للإهانة، إذ قد يدخل بالتميمة أماكن الخلاء، وقد ينام عليها الأطفال أو غيرهم، وقد تصيبها بعض النجاسات، وفي منع تعليقها صيانة للقرآن ولذكر الله تعالى عن الإهانة .

كما أنه من الحكمة وسدًا للذريعة يجب منع ذلك؛ لأن تعليق هذه التمائم يؤدي إلى تعلُّق القلوب بها من دون الله، ويؤدي إلى تعليق التمائم الأخرى المقطوع بتحريمها من التمائم الشركية وغير الشركية، كما هو الواقع عند كثير من المسلمين.

‏ وإنما اعتبرت تلك التمائم من الشرك، لأن فاعلها ظن أن لغير الله تأثيراً في الشفاء، وطلبوا دفع الأذى من غيره تعالى مع أنه لا يدفعه أحد سواه .

لكن إن اعتقد متخذ هذه التمائم أنها تنفع بذاتها من دون الله فهو شرك أكبر، وإن اعتقد أن الله هو النافع وحده، لكن تعلّق قلبه بها في دفع الضر، فهو شرك أصغر، لاعتماده على الأسباب، ولأنه جعل ما ليس بسبب سبباً، فهذه التمائم السابق ذكرها كلها ليس فيها نفع بوجه من الوجوه، وهي من خرافات الجاهلية التي ينشرها السحرة والمشعوذون، ويدجلون بها على السذج والجهلة من الناس.

- أمور يفعلها بعض الناس وهي من الشرك أو من وسائله

 3- التبرك بالأشجار والأحجار والآثار والبنايات:

والتبرك معناه‏:‏

 طلب البركة ورجاؤها واعتقادها في تلك الأشياء‏.‏

وحكمه‏:‏

 أنه شرك أكبر؛ لأنه تعلق على غير الله سبحانه في حصول البركة، وعباد الأوثان إنما كانوا يطلبون البركة منها؛ فالتبرك بقبور الصالحين كالتبرك باللات، والتبرك بالأشجار والأحجار كالتبرك بالعزى ومناة‏.‏

وعن أبي واقد الليثي؛ قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها‏:‏ ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا‏:‏ يا رسول الله‏!‏ اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏الله أكبر، إنها السنن، قلتم- والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى ‏﴿‏اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾‏‏‏ ، لتركبن سنن من كان قبلكم‏). رواه الترمذي وصححه‏.‏

 أمور يفعلها بعض الناس وهي من الشرك أو من وسائله:

 1- السحر:

وهو عبارة عما خفي ولطف سببه، سمي سحرا لأنه يحصل بأمور خفية لا تدرك بالأبصار، وهو عبارة عن عزائم ورقى وكلام يتكلم به وأدوية وتدخينات، ومنه ما يؤثر في القلوب والأبدان فيُمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه، وتأثيره بإذن الله الكوني القدري‏.‏

وهو عمل شيطاني، كثير منه لا يتوصل إليه إلا بالشرك والتقرب إلى الأرواح الخبيثة بشيء مما تحب والاستعانة بالتحيل على استخدامها بالإشراك بها، ولهذا يقرنه الشارع بالشرك، وهو داخل في الشرك من ناحيتين

الأولى‏:‏ ما فيه من استخدام الشياطين والتعلق بهم وربما تقرب إليهم بما يحبونه ليقوموا بخدمته‏.‏

الثانية‏:‏ ما فيه من دعوى علم الغيب ودعوى مشاركة الله في ذلك، وهذا كفر وضلال؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ‏﴾‏‏‏ وعن أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله‏!‏ وما هن‏؟‏ قال الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات‏)

[متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

‏ والاستعانة بالجن في العلاج أو رد المفقودات ونحو ذلك، محرم، لأنه شرك، أو ذريعة للشرك، ولو ادعى الجني أنه مسلم، مع أنه قد يكذب في هذا، وليس هذا من التعاون والتآخي؛ لأنه تعاون مع من لا يُرى، ولا يعرف حاله ولا مقصده، وقد يكون مريدا للإغواء والفتنة.

ثم لو كان هذا الطريق مشروعا، لدلّ عليه النبي صلى الله وعليه وسلم، ولاستعان الصحابة بالجن في المعارك، أو في العلاج، أو في جلب الدواء من البلاد البعيدة، أو معرفة أخبار الأعداء، أو غير ذلك؛ فعدم ورود شيء من ذلك بسند صحيح، يدل على أن هذا باب شر وجب عدم ولوجه

 أمور يفعلها بعض الناس وهي من الشرك أو من وسائله

 2- الكهانة:

وهي ادعاء علم الغيب؛ كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب هو استراق السمع؛ حيث يسترق الجني الكلمة من كلام الملائكة، فيلقيها في أذن الكاهن، فيكذب معها مئة كذبة، فيصدقه الناس بسبب تلك الكلمة‏.‏

والله هو المتفرد بعلم الغيب؛ فمن ادعى مشاركته في شيء من ذلك بكهانة أو غيرها أو صدق من يدعي ذلك؛ فقد جعل لله شريكا فيما هو من خصائصه، وهو مكذب لله ولرسوله‏.‏

وكثير من الكهانة المتعلقة بالشياطين لا تخلو من الشرك والتقرب إلى الوسائط التي يستعان بها على دعوى العلوم الغيبية‏.‏

فالكهانة شرك من جهة دعوى مشاركة الله في علمه الذي اختص به، ومن جهة التقرب إلى غير الله‏.‏

وفي ‏"‏صحيح مسلم‏"‏عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من أتى عرافا، فسأله عن شيء، فصدقه بما يقول؛ لم تقبل له صلاة أربعين يوما‏)‏‏.‏

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من أتى كاهنا، فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد‏). رواه أبو داود‏.‏

ومما يجب التنبيه عليه والتحذير منه أمر السحرة والكهان والمشعوذين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون؛ فبعضهم يظهر للناس بمظهر الطبيب الذي يداوي المرض، وهو في الحقيقة مفسد للعقائد؛ بحيث يأمر المريض أن يذبح لغير الله، أو يكتب له الطلاسم الشركية والتعاويذ الشيطانية‏.‏ والبعض الآخر منهم يظهر بمظهر المخبر عن المغيبات وأماكن الأشياء المفقودة؛ بحيث يأتيه الجهال يسألونه عن الأشياء الضائعة، فيخبرهم عن أماكن وجودها، أو يحضرها لهم بواسطة الشياطين‏.‏ والبعض الآخر منهم يظهر بمظهر الولي الذي له خوارق وكرامات؛ كدخول النار، وضرب نفسه بالسلاح، ومسك الحيات‏.‏‏.‏‏.‏ وغير ذلك، وهو في الحقيقة دجال مشعوذ وولي للشيطان، وكل هذه الأصناف تريد الاحتيال والنصب لأكل أموال الناس وإفساد عقائدهم‏.

‏ومثل الكاهن أو قريب منه " العرّاف "، و "الرمّال"، ونحوهم، فكل من ادعى أنه يعرف علم ما غاب عنه دون أن يخبره به مخبر، أو زعم أنه يعرف ما سيقع قبل وقوعه فهو مشرك شركاً أكبر، سواء ادّعى أنه يعرف ذلك عن طريق " الطَرْق بالحصى "، أم عن طريق حروف " أبا جاد ، أم عن طريق " الخط في الأرض "، أم عن طريق "قراءة الكف"، أم عن طريق "النظر في الفنجان"، أم غير ذلك، كل هذا من الشرك.

فيجب على المسلمين أن يحذروهم ويبتعدوا عنهم، ويجب على ولاة الأمور استتابة هؤلاء؛ فإن تابوا، وإلا قُتلوا لإراحة المسلمين من شرهم وفسادهم وتنفيذا لحكم الله فيهم‏.‏

ففي ‏"‏صحيح البخاري‏"‏عن بجالة بن عبدة؛ قال‏:‏ ‏"‏كتب عمر بن الخطاب‏:‏ أن اقتلوا كل ساحر وساحرة‏"‏‏.‏

وعن جندب رضي الله عنه قال ‏:‏ ‏(‏حد الساحر ضربة بالسيف‏). رواه الترمذي‏.‏[وهو صحيح من قول جندب موقوفا عليه]

 أمور يفعلها بعض الناس وهي من الشرك أو من وسائله:

 3- التطير:

وهو التشاؤم بالطيور والأسماء والألفاظ والبقاع والأشخاص وغير ذلك؛ فإذا عزم شخص على أمر من أمور الدين أو الدنيا، فرأى أو سمع ما يكره؛ أثر فيه لك أحد أمرين‏:‏ إما الرجوع عما كان عازما عليه تطيرا وتأثرا بما رأى أو سمع، فيعلق قلبه بذلك المكروه، ويؤثر ذلك على إيمانه، ويخل بتوحيده وتوكله على الله‏.‏ وإما أن لا يرجع عما عزم عليه، ولكن يبقى في قلبه أثر ذلك التطير من الحزن والألم والهم والوساوس والضعف‏.‏

ويلحق بالتطيُّر في الحكم: عكسه، بأن يرى أو يسمع أمراً يسر به، فيحمله على فعل أمر لم يكن عازماً على فعله

فيجب على من وجد شيئا من ذلك في نفسه أن يجاهدها على دفعه، ويستعين بالله، ويتوكل عليه، ويمضي في شأنه.

وعلاج ذلك أن يقول كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم :" اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ، ولا يدفع السيئات إلا أنت ، ولا حول ولا قوة إلا بك . [رواه أبو داود 3919 وصححه النووي ] .

وقال أيضا :" من ردّته الطيرة عن حاجته فقد أشرك ، قالوا: وما كفارة ذلك؟ قال: أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك ، ولا طير إلا طيرك ، ولا إله غيرك .[رواه أحمد وصححه الألباني في الصحيحة 1065] .

والتطير داء قديم ذكره الله عن الأمم الكافرة، وأنهم كانوا يتطيرون بخير الخلق، وهم الأنبياء وأتباعهم المؤمنين‏:

كما ذكر الله عن فرعون وقومه أنهم إذا أصابتهم سيئة‏:‏ ‏﴿‏يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وكما ذكر عن قوم صالح أنهم قالوا له‏:‏ ‏﴿‏اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وكما ذكر الله عن أصحاب القرية أنهم قالوا لرسل الله‏:‏ ‏﴿‏إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وكما ذكر الله عن المشركين أنهم تطيروا بمحمد صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وهكذا؛ دين المشركين واحد، حيث انتكست قلوبهم وعقولهم، فاعتقدوا الشر بمن هو مصدر الخير، وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام، وما ذلك إلا لتمكن الضلالة في نفوسهم وانتكاس فطرهم، وإلا؛ فالخير والشر كلاهما بقضاء الله وقدره، ويجريان حسب حكمته وعلمه تفضلا؛ فالخير تفضل منه وجزاء على فعل الطاعة، والشر عدل منه وجزاء وعقوبة على فعل المعصية‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

والتطير شرك؛ لكونه تعلق على غير الله، واعتقاد بحصول الضرر من مخلوق لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، ولكونه من إلقاء الشيطان ووسوسته، ولكونه يصدر عن القلب خوفا وخشية وهو ينافي التوكل‏.‏

وإليكم ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم محذرا من التطير؛ فقد روى الشيخان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر‏)‏ ‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل قالوا وما الفأل‏؟‏ قال الكلمة الطيبة‏). متفق عليه‏.‏

وعن ابن مسعود مرفوعا‏:‏ ‏(‏الطيرة شرك‏)‏ ‏. [رواه أحمد 3687 وأبوداود3910 والترمذي 1614 وإسناده صحيح. وقد صححه الترمذي، والحاكم، والذهبي والعراقي]

وفي ‏"‏صحيح مسلم‏"‏ ‏(‏عن معاوية بن الحكم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومنا أناس يتطيرون‏؟‏ قال ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه؛ فلا يصدنكم‏)‏ فأخبر صلى الله عليه وسلم أن تأذيه وتشاؤمه بالطيرة إنما هو في نفسه وعقيدته لا في المتطير به، فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده تأثرا بما رآه أو سمعه‏.‏

فأوضح صلى الله عليه وسلم لأمته، وبين فساد الطيرة؛ ليعلموا أن الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة، ولا فيها لهم دلالة، ولا نصبها سببا لما يخافونه ويحذرونه، ولتطمئن قلوبهم وتسكن نفوسهم إلى وحدانيته تعالى، التي أرسل بها رسله وأنزل بها كتبه وخلق لأجلها السماوات والأرض، فقطع علق الشرك من قلوبهم؛ فمن استمسك بعروة التوحيد الوثقى، واعتصم بحبله المتين، وتوكل على الله؛ قطع هاجس الطيرة من قبل استقرارها، وبادر خواطرها قبل استكمالها‏.‏

قال عكرمة‏:‏ كنا جلوسا عند ابن عباس، فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم‏:‏ خير، خير‏!‏ فقال ابن عباس‏:‏ لا خير ولا شر‏.‏ [أخرجه الدينوري في "المجالسة" (937)، وفي إسناده انقطاع، والطبري كما في "فتح الباري" (10/ 215)]فبادره بالإنكار عليه لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر،

وخرج طاووس رحمه الله مع صاحب له في سفر، فصاح غراب، فقال الرجل: خير، فقال طاووس: وأي خير عنده؟! والله لا تصحبني [رواه أبو نعيم في "الحلية (4/ 4).]

وكذلك سائر المخلوقات لا تجلب خيرا ولا تدفع شرا بذاتها‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ويعجبني الفأل‏)‏ ، ثم بينه بأنه الكلمة الطيبة، وإنما أعجبه الفأل لأنه حسن ظن بالله، والعبد مأمور أن يحسن الظن بالله، والطيرة سوء ظن بالله عز وجل وتوقع للبلاء، ومن هنا جاء الفرق بينهما في الحكم؛ لأن الناس إذا أملوا الخير من الله؛ علقوا قلوبهم به وتوكلوا عليه، وإذا قطعوا آمالهم ورجاءهم من الله؛ كان ذلك من الشرك والتعلق على غير الله‏.‏

قال الإمام ابن القيم رحمه الله‏:‏ ‏"‏ليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شيء من الشرك؛ بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة، وموجب الفطرة الإنسانية التي تميل إلى ما يوافقها ويلائمها؛ كما أخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه حبب إليه من الدنيا النساء والطيب، فكان يحب الحلواء والعسل، ويحب حسن الصوت بالقرآن والأذان ويستمع إليه، ويحب معالي الأخلاق ومكارم الشيم، وبالجملة يحب كل كمال وخير وما يفضي إليهما، والله سبحانه قد جعل في غرائز الناس الإعجاب لسماع الاسم الحسن ومحبته وميل النفوس إليه، وكذلك جعل فيها الارتياح والاستبشار والسرور باسم الفلاح والسلام والنجاح والتهنئة والبشرى والفوز والظفر؛ فإذا قرعت هذه الأسماء الأسماع؛ استبشرت بها النفس وانشرح لها الصدر وقوي بها القلب، وإذا سمعت أضدادها؛ أوجب لها ضد هذه الحال، فأحزنها ذلك، وأثار لها خوفا وطيرة وانكماشا وانقباضا عما قصدت وعزمت عليه، فأورث لها ضررا في الدنيا ونقصا في الإيمان ومقارفة للشرك‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى كلامه رحمه الله‏.‏

وفي الحديث عن ابن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏من ردته الطيرة عن حاجته؛ فقد أشرك قالوا فما كفارة ذلك‏؟‏ قال أن تقول اللهم‏!‏ لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك‏)[رواه أحمد 7045 وصححه الألباني كما في الصحيحة 3/54]

فتضمن هذا الحديث الشريف أن الطيرة لا تضر من كرهها ومضى في طريقه، وأما من لم يخلص توكله على الله، واسترسل مع الشيطان في ذلك؛ فقد يعاقب بالوقوع فيما يكره؛ لأنه أعرض عن واجب الإيمان بالله‏.‏‏.‏‏.‏

هذا ونسأل الله عز وجل أن يمن علينا بالإيمان والتوكل عليه ويجنبنا طريق الشر والشرك؛ إنه سميع مجيب‏.‏

 أمور يفعلها بعض الناس وهي من الشرك أو من وسائله:

 4- التنجيم:

وهو كما عرفه بعض المحققين بأنه الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية؛ كأوقات هبوب الرياح ومجيء المطر، وظهور الحر والبرد، وتغير الأسعار، أو حدوث الأمراض والوفيات، أو السعود والنحوس‏.‏ وهذا ما يسمى بعلم التأثير، وهو على نوعين‏:

النوع الأول‏:‏ أن يدعي المنجم أن الكواكب فاعلة مختارة، وأن الحوادث تجري بتأثيرها، وهذا كفر بإجماع المسلمين؛ لأنه اعتقاد أن هناك خالق غير الله، وأن أحدا يتصرف في ملكه بغير مشيئته وتقديره سبحانه وتعالى‏.‏

النوع الثاني‏:‏ الاستدلال بمسير الكواكب واجتماعها وافتراقها على حدوث الحوادث، وهذا لا شك في تحريمه؛ لأنه من ادعاء علم الغيب، وهو من السحر أيضا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من اقتبس شعبة من النجوم؛ فقد اقتبس شعبة من السحر؛ زاد ما زاد‏)‏ ‏.‏[رواه أبو داود، وإسناده صحيح، وصححه النووي والذهبي وهو في السلسلة الصحيحة 793 ]

والسحر محرم بالكتاب والسنة والإجماع‏.‏

والإخبار عن الحوادث المستقبلية عن طريق الاستدلال بالنجوم من ادعاء علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه؛ فهو ادعاء لمشاركته سبحانه بعلمه الذي انفرد به أو تصديق لمن ادعى ذلك، وهذا ينافي التوحيد؛ لما فيه من هذه الدعوى الباطلة‏.‏

قال الخطابي‏:‏ ‏"‏علم النجوم المنهي عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي ستقع في مستقبل الزمان؛ أوقات هبوب الرياح، ومجيء المطر، وتغير الأسعار، وما في معناها من الأمور التي يزعمون أنها تدرك معرفتها بسير الكواكب في مجاريها واجتماعها وافتراقها؛ يدعون أن لها تأثيرا في السفليات، وهذا منهم تحكم على الغيب، وتعاط لعلم قد استأثر به الله، ولا يعلم الغيب سواه‏"‏‏.‏

قال البخاري في ‏"‏صحيحه‏"‏‏:‏ ‏"‏قال قتادة‏:‏ خلق الله هذه النجوم لثلاث‏:‏ زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها؛ فمن تأول فيها غير ذلك؛ أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى‏.‏

وأخرج الخطيب عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏وإن أناسا جهلة بأمر الله قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة‏:‏ من أعرس بنجم كذا وكذا؛ كان كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا وكذا؛ كان كذا وكذا‏.‏‏.‏‏.‏ ولعمري؛ ما من نجم إلا يولد به الأحمر والأسود والطويل والقصير والحسن والذميم، وما علم هذه النجوم وهذه الدابة وهذا الطائر بشيء من هذا الغيب، ولو أن أحدا علم الغيب؛ لعلمه آدم الذي خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى‏.‏

أقول‏:‏ ومن الخرافات الباطلة ما يروجه الدجالون في بعض الصحف والمجلات من ذكر البخت والنحوس والسعود، ويعلقون ذلك بحسابات البروج والنجوم، ويصدق به بعض السذج‏.‏

قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في ‏"‏فتح المجيد‏"‏‏:‏ ‏"‏فإن قيل‏:‏ المنجم قد يصدق‏.‏ قيل‏:‏ صدقه كصدق الكاهن؛ يصدق في كلمة ويكذب في مئة، وصدقه ليس عن علم، بل قد يوافق قدرا فيكون فتنة في حق من صدقه‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏وقد جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بإبطال علم التنجيم؛ كقوله‏:‏ ‏(‏من اقتبس شعبة من النجوم؛ فقد اقتبس شعبة من السحر؛ زاد ما زاد‏). رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه‏.‏ وعن رجاء بن حيوة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن مما أخاف على أمتي التصديق بالنجوم والتكذيب بالقدر وحيف الأئمة‏). رواه ابن حميد‏.‏[رواه أبو يعلى بسند ضعيف لكن له شواهد تقويه وانظر السلسلة الصحيحة 1127].

وأما الاستدلال بالنجوم لمعرفة الاتجاه في الأسفار في البر والبحر؛ فهذا لا بأس به، وهو من نعمة الله عز وجل؛ حيث يقول سبحانه‏:‏ ‏﴿‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ لتعرفوا بها جهة قصدكم، وليس المراد أنه يهتدى بها في علم الغيب كما يعتقده المنجمون‏.

قال قتادة رحمه الله :"خلق الله هذه النجوم لثلاث، زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به" [علَّقه البخاري في صحيحه]

قال الخطابي‏:‏ وأما ما يستدل به من النجوم على جهة القبلة؛ فإنها كواكب رصدها أهل الخبرة من الأئمة، الذين لا نشك في عنايتهم بأمر الدين ومعرفتهم بها وصدقهم فيما أخبروا به عنها؛ مثل أن يشاهدها بحضرة الكعبة، ويشاهدها على حال الغيبة عنها، فكان إدراكهم الدلالة منها بالمعاينة، وإدراكنا ذلك بقبول خبرهم إذ كانوا عندنا غير متهمين في دينهم ولا مقصرين في معرفتهم‏.‏

وقال ابن رجب‏:‏ والمأذون في تعلمه علم التسيير لا علم التأثير؛ فإنه -أي‏:‏ علم التأثير- باطل محرم قليله وكثيره، وأما علم التسيير؛ فيتعلم ما يحتاج إليه من الاهتداء ومعرفة القبلة والطرق، وهو جائز عند الجمهور اهـ‏.‏

وكذلك تعلم منازل الشمس والقمر للاستدلال بذلك على القبلة وأوقات الصلوات والفصول ومعرفة الزوال‏:‏ قال الخطابي‏:‏ أما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والخبر الذي يعرف به الزوال وتعلم به جهة القبلة؛ فإنه غير داخل فيما نهي عنه، وذلك أن معرفة رصد الظل ليس شيئا أكثر من أن الظل ما دام متناقصا؛ فالشمس بعد صاعدة نحو وسط السماء من الأفق الشرقي، وإذا أخذ في الزيادة؛ فالشمس هابطة من وسط السماء نحو الأفق الغربي، وهذا علم يصلح إدراكه بالمشاهدة؛ إلا أن أهل هذه الصناعة قد دبروها بما اتخذوه من الآلات التي يستغني الناظر فيها عن مراعاة مدته ومراصدته‏.‏‏.‏‏.‏ انتهى‏.‏

وروى ابن المنذر عن مجاهد‏:‏ أنه كان لا يرى بأسا أن يتعلم الرجل منازل القمر‏.‏

وبعد؛ فإن عقيدة المسلم هي أعز شيء عنده؛ لأن بها نجاته وسعادته، فيجب عليه أن يحرص على تجنب ما يسيء إليها أو يمسها من الشركيات والخرافات والبدع؛ لتبقى صافية مضيئة، وذلك بالتزام الكتاب والسنة وما عليه السلف الصالح، ولا يتم ذلك إلا بتعلم هذه العقيدة، ومعرفة ما يضادها من العقائد المنحرفة، لا سيما وأنه قد كثر اليوم في صفوف المسلمين من يحترف التدجيل والشعوذة والتعلق بالقبور والأضرحة لطلب الحاجات وتفريج الكربات كما كان عليه المشركون الأولون أو أشد، إضافة إلى اتخاذ السادة وأصحاب الطرق الصوفية أربابا من دون الله يشرعون لأتباعهم من الدين ما لم يأذن به الله؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

 أمور يفعلها بعض الناس وهي من الشرك أو من وسائله:

 5- الاستسقاء بالأنواء:

وهو عبارة عن نسبة المطر إلى طلوع النجم أو غروبه على ما كانت الجاهلية تعتقده من أن طلوع النجم أو سقوطه في المغيب يؤثر في إنزال المطر، فيقولون‏:‏ مُطرنا بنوء كذا وكذا‏!‏ وهم يريدون بذلك النجم، ويعبرون عنه بالنوء، وهو طلوع النجم، من ناء ينوء‏:‏ إذا نهض وطلع، فيقولون‏:‏ إذا طلع النجم الفلاني؛ ينزل المطر‏.‏ والمراد بالأنواء عندهم؛ منازل القمر الثمانية والعشرون، في كل ثلاث عشرة ليلة؛ يغرب واحد منها عند طلوع الفجر ويطلع مقابله وتنقضي جميعها عند انقضاء السنة القمرية، وتزعم العرب في جاهليتها أنه عند طلوع ذلك النجم في الفجر ومغيب مقابله؛ ينزل المطر، ويسمى ذلك الاستسقاء بالأنواء، ومعنى ذلك نسبة السقيا إلى هذه الطوالع، وهذا من اعتقاد الجاهلية الذي جاء الإسلام بإبطاله والنهي عنه؛ لأن نزول المطر وانحباسه يرجع إلى إرادة الله وتقديره وحكمته، وليس لطلوع النجوم تأثير فيه‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ‏﴾‏‏‏

فقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ‏﴾‏‏‏ ‏:‏ معناه‏:‏ نسبة المطر الذي هو الرزق النازل من الله إلى النجم؛ بأن يقال‏:‏ مطرنا بنوء كذا وكذا، وهذا من أعظم الكذب والافتراء؛ كما روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه و ابن جرير وابن أبي حاتم والضياء في ‏"‏المختارة‏"‏ عن علي رضي الله عنه؛ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وتجعلون رزقكم يقول شكركم تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا‏) [وصححه ابن كثير وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: حسن لغيره].‏

قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله‏:‏ ‏"‏وهذا أولى ما فسرت به الآية، وروي ذلك عن علي وابن عباس وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني وغيرهم، وهو قول جمهور المفسرين‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏

وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة‏)[رواه مسلم 934] ‏.‏ والمراد بالجاهلية هنا‏:‏ ما قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما يخالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهو جاهلية‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معنى الحديث‏:‏ ‏"‏أخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذما لمن لم يتركه، وهذا يقتضي أن كل ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم؛ فهو مذموم‏.‏ في دين الإسلام، وإلا؛ لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها، ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى‏﴾‏‏‏؛ فإن ذلك ذم للتبرج وذم لحال الجاهلية الأولى، وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏ انتهى‏.‏

وقوله في هذا الحديث‏:‏ ‏"‏والاستسقاء بالنجوم‏"‏‏:‏ معناه نسبة المطر إلى النوء، وهو سقوط النجم؛ بأن يقول‏:‏ مطرنا بنجم كذا وكذا‏.

‏ وروى سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أمية أن النبي- صلى الله عليه وسلم- سمع رجُلاً في بعض أسْفارِ يقولُ: مُطرْنا بِبعض عثانين الأسد، وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((كذبت بل هو سقيا الله عز وجل ورزقُهُ)) قال سُفيانُ: عثانين الأسد: الذراعُ والجبهةُ.[رواه الطبري في التفسير 21/521].

ورُوِي عن الحسن البصري أنَّهُ سمع رجُلاً يقُولُ: طلع سهيلٌ وبرد الليلُ، فكرِه ذلِك وقال: إنّ سهيلاً لمْ يكُن قط بحر ولا برْدٍ.[ذكره ابن عبد البر في التمهيد 16/287]

وحكم الاستسقاء بالأنواء:

 أنه إن كان يعتقد أن له تأثيرا في إنزال المطر؛ فهذا شرك وكفر أكبر، وهو الذي يعتقده أهل الجاهلية‏.‏ وإن كان لا يعتقد للنجم تأثيرا، وأن المؤثر هو الله وحده، ولكنه أجرى العادة بوجود المطر عند سقوط ذلك النجم؛ فهذا لا يصل إلى الشرك الأكبر، ويكون من الشرك الأصغر؛ لأنه يحرم نسبة المطر إلى النجم، ولو على سبيل المجاز؛ سدا للذريعة‏.‏

وقد روى البخاري ومسلم عن زيد بن خالد رضي الله عنه؛ قال‏:‏ ‏(‏صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف؛ أقبل على الناس، فقال هل تدرون ماذا قال ربكم‏؟‏ قالوا الله ورسوله أعلم قال قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر؛ فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته؛ فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب‏)‏.‏

فقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر‏)‏ وفسر المؤمن بأنه الذي ينسب المطر إلى فضل الله ورحمته، وفسر الكافر بأنه الذي ينسب المطر إلى الكوكب، وهذا فيه دليل على أنه لا تجوز نسبة أفعال الله إلى غيره، وأن ذلك كفر؛ فإن اعتقد أن للكوكب تأثيرا في إنزال المطر؛ فهذا كفر أكبر؛ لأنه إشراك في الربوبية والمشرك كافر، وإن لم يعتقد أن للكواكب تأثيرا في إنزال المطر، وإنما نسبه إليها مجازا؛ فهذا محرم، وهو من الشرك الأصغر؛ لأنه نسب نعمة الله إلى غيره‏.‏

قال القرطبي رحمه الله: ‏"‏وكانت العرب إذا طلع نجم من المشرق وسقط آخر من المغرب، فحدث عند ذلك مطر أو ريح؛ فمنهم من ينسبه إلى الطالع، ومنهم من ينسبه إلى الغارب نسبة إيجاد واختراع، ويطلقون ذلك القول المذكور في الحديث، فنهى الشارع عن إطلاق ذلك؛ لئلا يعتقد أحد اعتقادهم ولا يتشبه بهم في نطقهم‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى‏.‏

وقد روى مسلم في ‏"‏صحيحه‏"‏في سبب نزول قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ‏﴾‏‏‏ الآيات عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ قال بعضهم‏:‏ لقد صدق نوء كذا وكذا‏.‏ فأنزل الله هذه الآيات‏:‏ ‏﴿‏فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ‏﴾‏‏‏ إلى قوله‏:‏ ‏﴿‏وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏[رواه مسلم 73]

فإنزال المطر من الله وبحوله وقوته لا دخل لمخلوق فيه؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ‏﴾‏‏‏؛ فمن نسب إنزال المطر إلى الكواكب أو إلى الظواهر الطبيعية كالانخفاض الجوي أو المناخ؛ فقد كذب وافترى، وهذا شرك أكبر، وإن كان يعتقد أن المنزل هو الله، ولكنه نسبه إلى هذه الأشياء من باب المجاز؛ فهذا حرام وكفر أصغر؛ لأنه نسب النعمة إلى غير الله؛ كالذي يقول‏:‏ مطرنا بنوء كذا وكذا‏.‏

وما أكثر التساهل في هذا الأمر على ألسنة بعض الصحفيين أو الإعلاميين‏!‏ فيجب على المسلم أن ينتبه لهذا، والله الموفق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

فعلى المسلم أن يحذر من التلفظ بمثل تلك الألفاظ الكفرية ، فإن أراد أن يعبر عن ذلك فإما أن يقول: "مطرنا بفضل الله ورحمته"، أو يقول: "هذه رحمة الله"، وهذا هو الذي ورد الثناء على من قاله، كما سبق في النصوص، فهو أولى من غيره، والقول بتحريم القول السابق قول قوي، لما يلي:

1- أنه قد جاء الحديث القدسي مطلقاً بعيب قائلي هذا اللفظ، وباعتبار قولهم كفراً بالله تعالى، وإيماناً بالكوكب.

2- أن هذا القول ذريعة إلى الوقوع في الاعتقاد الشركي، فاعتياد الناس عليه في عصر قد يُؤدي بجُهَّالهم أو بمن يأتي بعدهم إلى الوقوع في الاستسقاء الشركي بالأنواء.

3- أنه لفظ موهم لاعتقاد فاسد .

4- أن فيه استبدالاً للفظ المندوب إليه شرعاً في هذه الحال، وهو قول: " مطرنا بفضل الله ورحمته "بلفظ من ألفاظ المشركين، ففي هذا ترك للسنة وتشبّهٌ بالمشركين، وقد نُهينا عن التشبه بهم.

أمور يفعلها بعض الناس وهي من الشرك أو من وسائله

نسبة النعم إلى غير الله

إن الاعتراف بفضل الله وإنعامه والقيام بشكره من صميم العقيدة؛ لأن من نسب النعمة إلى غير موليها- وهو الله سبحانه -؛ فقد كفرها وأشرك بالله بنسبتها إلى غيره‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

قال بعض المفسرين‏:‏ يعرفون أن النعم من عند الله، وأن الله هو المنعم عليهم بذلك، ولكنهم ينكرون ذلك، فيزعمون أنهم ورثوها عن آبائهم، وبعضهم يقول‏:‏ لولا فلان؛ لم يكن كذا وكذا‏!‏ وبعضهم يقول‏:‏ هذا بشفاعة آلهتنا‏.‏‏.‏‏.‏ وهكذا كل ينسب النعمة إلى من يعظمه من الآباء والآلهة والأشخاص، متناسين مصدرها الصحيح والمنعم بها على الحقيقة، وهو الله سبحانه، كما أن بعضهم ينسب نعمة السير في البحر والسلامة من خطره إلى الريح وحذق الملاح، فيقول‏:‏ كانت الريح طيبة والملاح حاذقا‏!‏ ومثله اليوم ما يجري على ألسنة الكثير من نسبة حصول النعم واندفاع النقم إلى مجهود الحكومات أو الأفراد أو تقدم العلم التجريبي، فيقولون مثلا‏:‏ تقدم الطب تغلب على الأمراض أو قضى عليها‏!‏ والمجهودات الفلانية تقضي على الفقر والجهل‏!‏ وما أشبه ذلك من الألفاظ التي يجب على المسلم أن يبتعد عنها ويتحفظ منها غاية التحفظ، وأن ينسب النعم إلى الله وحده، ويشكره عليها، وما يجري على يد بعض المخلوقين أفرادا أو جماعات من المجهودات إنما هي أسباب قد تثمر وقد لا تثمر، وهم يشكرون على قدر ما بذلوه، ولكن لا يجوز نسبة حصول النتائج إلا إلى الله سبحانه‏.‏

وقد ذكر الله في كتابه الكريم عن أقوام أنكروا نعمة الله عليهم ونسبوا ما حصلوا عليه من المال والنعمة إلى غير الله‏:‏ إما إلى كونهم يستحقونها، أو إلى خبرتهم ومعرفتهم ومهارتهم‏.‏

قال تعالى عن الإنسان‏:‏ ‏﴿‏وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ‏﴾‏‏‏؛ فقوله‏:‏ ‏﴿‏هذا لي‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ حصلت على هذا بعلمي، وأنا محقوق به، لا أنه تفضل من الله ونعمة ليس بحول العبد ولا بقوته‏.‏

وقال تعالى عن قارون الذي آتاه الله الكنوز العظيمة فبغى على قومه وقد وعظه الناصحون وأمروه بالاعتراف بنعمة الله والقيام بشكرها فكابر عند ذلك وقال‏:‏ ‏﴿‏إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ حصلتُ على هذه الكنوز بسبب حذقي ومعرفتي بوجوه المكاسب، لا أنها تفضل من الله تعالى، فكانت عاقبته من أسوء العواقب، وعقوبته من أشد العقوبات، حيث خسف الله به وبداره الأرض لما جحد نعمة الله ونسبها إلى غيره وأنه حصل عليها بحوله وقوته‏.‏

وما أحرى هؤلاء الذين اغتروا في زماننا بما توصلوا إليه من مخترعات وقدرات أقدرهم الله عليها امتحانا لهم فلم يشكروا نعمة الله وصاروا يتشدقون ويتفاخرون بحولهم وقوتهم وبغوا في الأرض بغير الحق وتطاولوا على عباد الله؛ ما أحراهم بالعقوبة؛ فقد اغترت قبلهم عاد بقوتها كما قال الله تعالى عنهم‏:‏ ‏﴿‏فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وهاكم قصة قصها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جماعة ممن كان قبلنا ابتلاهم الله فأنعم عليهم؛ فمنهم من جحد نعمة الله ونسب ما حصل عليه من المال إلى وراثته عن آبائه فسخط الله عليه، ومنهم من اعترف بفضل الله وشكر نعمة الله فرضي الله عنه‏.‏

عن أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى، فأراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكا، فأتى الأبرص، فقال أي شيء أحب إليك‏؟‏ قال لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به قال فمسحه، فذهب عنه قذره، فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا قال فأي المال أحب إليك‏؟‏ قال الإبل -أو البقر؛ شك إسحاق-، فأعطي ناقة عشراء، وقال بارك الله لك فيها قال فأتى الأقرع، فقال أي شيء أحب إليك‏؟‏ قال شعر حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به فمسحه، فذهب عنه، وأعطي شعرا حسنا فقال أي المال أحب إليك‏؟‏ قال البقر -أو الإبل- فأعطي بقرة حاملا قال بارك الله لك فيها فأتى الأعمى، فقال أي شيء أحب إليك‏؟‏ قال أن يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس فمسحه، فرد الله إليه بصره قال فأي المال أحب إليك‏؟‏ قال الغنم فأعطي شاة والدا فأنتج هذان، وولد هذا، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم قال ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري؛ فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ به في سفري فقال الحقوق كثيرة فقال كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا فأعطاك الله عز وجل المال‏؟‏ فقال إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر فقال إن كنت كاذبا؛ فصيرك الله إلى ما كنت وأتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل هذا، فقال إن كنت كاذبا؛ فصيرك الله إلى ما كنت قال وأتى الأعمى في صورته، فقال رجل مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري؛ فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري فقال كنت أعمى فرد الله إلي بصري؛ فخذ ما شئت؛ فوالله؛ لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله فقال أمسك مالك؛ فإنما ابتليتم؛ فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك‏). رواه البخاري ومسلم‏.‏

وهذا حديث عظيم فيه معتبر؛ فإن الأولين جحدا نعمة الله، ولم ينسباها إليه، ومنعا حق الله في مالهما، فحل عليهما سخط الله، وسلبت منهما النعمة‏.‏ والآخر اعترف بنعمة الله، ونسبها إليه، وأدى حق الله فيها، فاستحق الرضى من الله، ووفر الله ماله لقيامه بشكر النعمة‏.‏

قال ابن القيم‏:‏ ‏"‏أصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة؛ فمن لم يعرف النعمة، بل كان جاهلا بها؛ لم يشكرها، ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها؛ لم يشكرها أيضا، ومن عرف النعمة والمنعم، لكن جحدها كما يجحد المنكر النعمة والمنعم عليه بها؛ فقد كفرها، ومن عرف النعمة والمنعم بها، وأقر بها ولم يجحدها، ولكن لم يخضع له ولم يحبه ويرض به وعنه؛ لم يشكره أيضا، ومن عرفها وعرف المنعم بها، وأقر بها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضي به وعنه، واستعملها في محبته وطاعته؛ فهذا هو الشاكر لها؛ فلابد في الشكر من علم القلب وعمل يتبع العلم، وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏ انتهى‏.‏

 الشرك:

 الشرك الأصغر: هو كل قول أو عمل بالقلب أو الجوارح جعل العبد فيه نداً لله تعالى، ولم تصل هذه الندية إلى إخراج صاحبها من الملة .

الشرك الأصغر ينقص التوحيد ويخل به، وهناك أشياء من الشرك الأصغر حذرنا منها الله ورسوله صيانة للعقيدة وحماية للتوحيد؛ لأنها تنقص التوحيد، وربما تجر إلى الشرك الأكبر‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

قال ابن عباس رضي الله عنهما في الآية‏:‏ ‏"‏الأنداد‏:‏ هو الشرك؛ أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول‏:‏ والله وحياتك يا فلان وحياتي‏!‏ وتقول‏:‏ لولا كليبة هذا؛ لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار؛ لأتانا اللصوص، وقول الرجل لصاحبه‏:‏ ما شاء الله وشئت، وقول الرجل‏:‏ لولا الله وفلان؛ لا تجعل فيها فلانا، هذا كله به شرك‏"‏‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

فقد بين ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الأشياء من الشرك، والمراد به الشرك الأصغر، والآية عامة تشمل الشرك الأكبر والشرك الأصغر‏.‏

فابن عباس رضي الله عنهما نبه بهذه الأشياء بالأدنى- وهو الشرك الأصغر- على الأعلى- وهو الشرك الأكبر -، ولأن هذه الألفاظ تجري على ألسنة الكثير من الناس إما جهلا أو تساهلا‏.‏

 الشرك الأصغر:

 1- الحلف بغير الله عز وجل:

وهو شرك؛ كما روى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏من حلف بغير الله؛ فقد كفر أو أشرك‏). رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم‏ ، ووافقه ابن باز والألباني .

وقوله‏:‏ ‏(‏فقد كفر أو أشرك‏)‏؛ يحتمل أن يكون هذا شكا من الراوي، ويحتمل أن يكون ‏"‏أو‏"‏ بمعنى الواو، فيكون قد كفر وأشرك، ويكون من الكفر الذي هو دون الكفر الأكبر، كما أنه من الشرك الأصغر‏.‏ وقد كثر من الناس اليوم من يحلف بغير الله؛ كمن يحلف بالأمانة، أو يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو يقول‏:‏ وحياتي، وحياتك يا فلان‏.‏‏.‏‏.‏ وما أشبه هذه الألفاظ، وقد سمعنا ما ورد في الأحاديث من النهي عن الحلف بغير الله عز وجل، واعتباره كفرا أو شركا.

والحلف بغير الله إنما نهي عنه لأن في الحلف تعظيماً للمحلوف به، وهو لا ينبغي إلا لله، ولأن فيه معنى إشهاد المحلوف به على صدق الحالف، وهذا لا يصح إلا بمن يعلم صدق المحلوف عليه أو كذبه، وهو الله تعالى، كما أن من يُحلف به يجب أن يكون يملك عقاب من حلف به والانتقام منه عند حلفه به كاذباً، وهو الله تعالى دون سواه.

قال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ "لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا"‏. [رواه الطبراني في الكبير بسند صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 2562]

ومن المعلوم أن الحلف بالله كاذبا كبيرة من الكبائر، لكن الشرك- وهو الحلف بغير الله- أكبر الكبائر- وإن كان شركا أصغر -‏.‏

فيجب على المسلم أن يتنبه لهذا ولا تأخذه العوائد الجاهلية‏.‏

قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من كان حالفا؛ فليحلف بالله أو ليصمت‏)‏ ‏.[متفق عليه]

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تحلفوا بآبائكم‏)‏ ‏[رواه مسلم]

إلى غير ذلك من النصوص التي تأمرنا إذا أردنا أن نحلف أن نقتصر على الحلف بالله وحده ولا نحلف بغيره‏.‏

ويجب على من حلف له بالله أن يرضى؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من حلف بالله؛ فليصدق، ومن حلف له بالله؛ فليرض، ومن لم يرض؛ فليس من الله‏)[رواه ابن ماجة بسند صحيح كما قال الشيخ الألباني في الإرواء 2698]

 الشرك الأصغر

 2- الشرك في الألفاظ:

ومن الشرك الأصغر الشرك في الألفاظ مثل قول‏:‏ ما شاء الله وشئت‏!‏

فقد روى الإمام أحمد والنسائي عن قتيلة‏:‏ (أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ إنكم تشركون؛ تقولون‏:‏ ما شاء الله وشئت‏!‏ وتقولون‏:‏ والكعبة‏!‏ فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا‏:‏ ورب الكعبة، وأن يقولوا‏:‏ ما شاء الله ثم شئت‏).[صححه الحافظ ابن حجر والألباني في الصحيحة 136]‏ .

وروى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما شاء الله وشئت‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏أجعلتني لله ندا‏؟‏ قل ما شاء الله وحده‏)‏ ‏.‏[صححه ابن القيم والألباني وشعيب الأرنؤوط ] فدل الحديثان وما جاء بمعناهما على منع قول‏:‏ ما شاء الله وشئت‏!‏ وما شابهه من الألفاظ؛ مثل‏:‏ لولا الله وأنت، ما لي إلا الله وأنت؛ لأن العطف بالواو يقتضي التسوية بين المتعاطفين، وهذا شرك؛ فالواجب أن يعطف بـ ‏"‏ثم‏"‏، فيقال‏:‏ ما شاء الله ثم شئت، أو‏:‏ ثم شاء فلان، لولا الله ثم أنت، أو‏:‏ ثم فلان، ما لي إلا الله ثم أنت؛ لأن العطف بـ ‏"‏ثم‏"‏ يقتضي الترتيب والتعقيب، وأن مشيئة العبد تأتي بعد مشيئة الله تعالى لا مساوية لها؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏﴾‏‏‏؛ فمشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى؛ فالعبد وإن كانت له مشيئة- خلافا للجبرية -؛ فمشيئته تابعة لمشيئة الله، ولا يقدر على أن يشاء شيئا إلا إذا كان الله قد شاءه؛ خلافا للقدرية من المعتزلة وغيرهم، الذين يثبتون للعبد مشيئة تخالف ما أراده الله، تعالى الله عما يقولون‏.‏

 2- الشرك في النيات والمقاصد:

ومن الشرك الأصغر الشرك في النيات والمقاصد وهو ما يسمى بالشرك الخفي؛ كالرياء، وهو نوعان‏:

أ- الرياء‏:

وهو مشتق من الرؤية، والمراد به أن يظهر الإنسان العمل الصالح للآخرين أو يحسنه عندهم، أو يَظهر عندهم بمظهر مندوب إليه ليمدحوه ويعظم في أنفسهم، والفرق بين الرياء وبين السمعة أن الرياء لما يرى من العمل؛ كالصلاة، والسمعة لما يسمع؛ كالقراءة والوعظ والذكر، ويدخل في ذلك تحدث الإنسان عن أعماله وإخباره بها، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا‏﴾‏‏. قال الإمام ابن القيم في معنى الآية‏:‏ ‏"‏أي‏:‏ كما أن الله واحد لا إله سواه؛ فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له؛ فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية؛ فالعمل الصالح هو الخالص من الرياء المقيد بالسنة‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى‏.‏

وقد توعد الله المرائين بالويل، فقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ‏﴾‏‏. وأخبر أن الرياء من صفات المنافقين، فقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ‏﴾‏‏. وعن أبي هريرة مرفوعا؛ قال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري؛ تركته وشركه‏). رواه مسلم؛ أي‏:‏ من قصد بعمله غيري من المخلوقين؛ تركته وشركه‏.‏ وفي رواية لابن ماجه‏:‏ ‏"‏فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك‏"‏‏.‏

فمن أراد وجه الله والرياء معاً فقد أشرك مع الله غيره في هذه العبادة، أما لو عمل العبادة وليس له مقصد في فعلها أصلاً سوى مدح الناس فإن صاحبه على خطر عظيم، وقد قال بعض أهل العلم: إنه قد وقع في النفاق والشرك المخرج من الملة .

قال ابن رجب رحمه الله‏:‏ ‏"‏اعلم أن العمل لغير الله أقسام‏:‏ فتارة يكون رياء محضا؛ كحال المنافقين؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ‏﴾‏‏‏ ، وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة أو الحج الواجب أو غيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدى نفعها؛ فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة‏.‏ وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء‏:‏ فإن شاركه من أصله؛ فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه‏.‏ وأما إن كان العمل لله، وطرأ عليه نية الرياء؛ فإن كان خاطرا ثم دفعه؛ فلا يضره بغير خلاف، وإن استرسل معه؛ فهل يحبط عمله أو لا فيجازى على أصل نيته؛ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يجازى بنيته الأولى، وهو مروي عن الحسن وغيره‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏ انتهى‏.‏

وقد وردت أدلة كثيرة تدل على تحريم الرياء وعظم عقوبة فاعله، وأنه يبطل العمل الذي يصاحبه ، منها حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه مرفوعاً: " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر "، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: " الرياء، يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، هل تجدون عندهم جزاءً؟ [رواه أحمد 23630 بسند حسن لغيره]

وحديث محمود بن لبيد رضي الله عنه الآخر، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أيها الناس! إياكم وشرك السرائر " قالوا: يا رسول الله، وما شرك السرائر؟. قال: " يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر الناس إليه، فذلك شرك السرائر". [رواه ابن خزيمة 937 بسند حسن كما قال الشيخ الألباني في صحيح الترغيب 31 ]

ومن أخطر الأحاديث التي وردت في الترهيب من ذلك ما حدث به أبو هريرة قال :

حَدَّثَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى العِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ، فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ القُرْآنَ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ: أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فُلاَنًا قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلاَنٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: فِي مَاذَا قُتِلْتَ؟ فَيَقُولُ: أُمِرْتُ بِالجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلاَنٌ جَرِيءٌ, فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أُولَئِكَ الثَّلاَثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ " [رواه مسلم]

فتحفظوا على أعمالكم من الشرك أعظم مما تتحفظون على أنفسكم من أعدائكم وأعظم مما تتحفظون على أموالكم من السراق؛ فإن خطر الشرك عظيم‏.‏

نسأل الله لنا ولكم السلامة والإخلاص في القول والعمل‏.‏

ب- إرادة الإنسان بعمله الدنيا‏:

إرادة الإنسان بعمله الدنيا نوع من أنواع الشرك في النية والقصد قد حذر الله منه في كتابه وحذر منه رسوله في سنته، وهو أن يريد الإنسان بالعمل الذي يبتغى به وجه الله طمعا من مطامع الدنيا، وهذا شرك ينافي كمال التوحيد ويحبط العمل‏.‏

قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏﴿‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

ومعنى الآيتين الكريمتين‏:‏ أن الله سبحانه يخبر أن من قصد بعمله الحصول على مطامع الدنيا فقط؛ فإن الله يوفر له ثواب عمله في الدنيا بالصحة والسرور وبالمال والأهل والولد، وهذا مقيد بالمشيئة؛ كما قال في قوله تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏﴿‏عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ‏﴾‏‏‏ ، وهؤلاء ليس لهم في الآخرة إلا النار؛ لأنهم لم يعملوا ما يخلصهم منها، وكان عملهم في الآخرة باطلا لا ثواب له؛ لأنهم لم يريدوها‏.‏

وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: " من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عَرْف الجنة " أي رائحتها .[رواه أبو داود 3664 بسند حسن]

قال قتادة‏:‏ يقول تعالى‏:‏ من كانت الدنيا همه وطلبته ونيته؛ جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء، وأما المؤمن؛ فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة‏.‏[تفسير ابن أبي حاتم 2/358]

 قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله‏:‏ ‏"‏ذكر عن السلف في معنى الآية أنواع مما يفعله الناس اليوم ولا يعرفون معناه‏ فمن ذلك‏:

‏النوع الاول: العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله من صدقة وصلاة وصلة وإحسان إلى الناس وترك ظلم ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصا لله، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة، إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته، أو حفظ أهله وعياله، أو إدامة النعمة عليهم، ولا همة له في طلب الجنة والهرب من النار؛ فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة نصيب‏ وهذا النوع ذكره ابن عباس‏.‏

النوع الثاني‏:‏ وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو الذي ذكره مجاهد في الآية أنها أنزلت فيه، وهو أن يعمل أعمالا صالحة ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة‏.‏

النوع الثالث‏:‏ أن يعمل أعمالا صالحة يقصد بها مالا؛ مثل أن يحج لمال يأخذه، أو يهاجر لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، أو يجاهد لأجل المغنم؛ فقد ذكر هذا النوع أيضا في تفسير الآية، وكما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهل أو مكسبهم أو رئاستهم، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد؛ كما هو واقع كثيرا‏.‏

النوع الرابع‏:‏ أن يعمل بطاعة الله مخلصا في ذلك لله وحده لا شريك له، لكنه على عمل يكفره كفرا يخرج عن الإسلام؛ مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله أو تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، والآيتان تتناولان هذه الأنواع الأربعة؛ لأن لفظهما عام؛ فالأمر خطير يوجب على المسلم الحذر من أن يطلب بعمل الآخرة طمع الدنيا‏.‏

وقد جاء في ‏"‏صحيح البخاري‏"‏أن من كان قصده الدنيا يجري وراءها بكل همه أنه يصير عبدا لها‏:‏ فعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة إن أعطي؛ رضي، وإن لم يعط؛ سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش‏)‏ ‏.‏

ومعنى ‏"‏تعس‏"‏ لغة‏:‏ سمط، والمراد هنا هلك، وسماه عبدا لهذه الأشياء لكونها هي المقصودة بعمله؛ فكل من توجه بقصده لغير الله؛ فقد جعله شريكا له في عبوديته؛ كما هو حال الأكثر، وقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث على من جعل الدنيا قصده وهمه بالتعاسة والانتكاسة وإصابته بالعجز عن انتقاش الشوك من جسده، ولابد أن يجد أثر هذه الدعوات كل من اتصف بهذه الصفات الذميمة فيقع فيما يضره في دنياه وآخرته‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ ‏"‏فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدينار والدرهم وعبد القطيفة وعبد الخميصة، وذكر فيها ما هو دعاء بلفظ الخبر، وهو قوله‏:‏ ‏"‏تعس وانتكس، وإذا شيك؛ فلا انتقش‏"‏، وهذا حال من إذا أصابه شر؛ لم يخرج منه ولم يفلح؛ لكونه تعس وانتكس؛ فلا نال المطلوب، ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عبد المال، وقد وصف ذلك بأنه إن أعطي رضي وإن منع سخط؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ‏﴾‏‏‏؛ رضاهم لغير الله وسخطهم لغير الله، وهكذا حال من كان متعلقا منها برئاسة أو صورة ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي وإن لم يحصل له سخط؛ فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له؛ إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته؛ فما استرق القلب واستعبده فهو عبده‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

 إلى أن قال‏:‏ ‏"‏وهكذا طالب المال؛ فإن ذلك يستعبده ويسترقه، وهذه الأمور نوعان‏:

الأول‏:‏ منها ما يحتاج العبد كما يحتاج إلى طعامه وشرابه ومنكحه ومسكنه ونحو ذلك؛ فهذا يطلب من الله ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده يستعمله في حاجته- بمنزلة حماره الذي يركبه وبساطه الذي يجلس عليه- من غير أن يستعبده فيكون هلوعا‏.‏

الثاني‏:‏ ومنها ما لا يحتاج إليه العبد؛ فهذا ينبغي أن لا يعلق قلبه به؛ فإذا علق قلبه؛ صار مستعبدا له، وربما صار مستعبدا ومعتمدا على غير الله، فلا يبقى معه حقيقة العبودية لله ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله، وشعبة من التوكل على غير الله‏.‏ وهذا أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة‏)‏ ، وهذا عبد لهذه الأمور، ولو طلبها من الله؛ فإن الله إذا أعطاه إياها؛ رضي، وإن منعه إياها؛ سخط، وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله؛ فهذا الذي استكمل الإيمان‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى كلامه رحمه الله‏.‏

قلت‏:‏ ومن عبيد المال اليوم الذين يقدمون على المعاملات المحرمة والمكاسب الخبيثة بدافع حب المادة؛ كالذين يتعاملون بالربا مع البنوك وغيرها، والذين يأخذون المال عن طريق الرشوة والقمار، وعن طريق الغش في المعاملات والفجور في المخاصمات، وهم يعلمون أن هذه مكاسب محرمة، لكن حبهم للمال أعمى بصائرهم، وجعلهم عبيدا لها، فصاروا يطلبونها من أي طريق‏.‏

نسأل الله العافية لنا ولإخواننا المسلمين من الشح المطاع والهوى المتبع وإعجاب كل ذي رأي برأيه‏.

 ‏ ولهذا ينبغي للمسلم البعد عن الرياء والحذر من الوقوع فيه، وهناك أمور تعين على البعد عنه، أهمها:

1- تقوية الإيمان في القلب، ليعظم رجاء العبد لربه، ويعرض عمن سواه، ولأن قوة الإيمان في القلب من أعظم الأسباب التي يعصم الله بها العبد من وساوس الشيطان.

2- التزود من العلم الشرعي، وبالأخص علم العقيدة الإسلامية، ليكون ذلك حرزاً له بإذن الله من فتن الشبهات، وليعرف عظمة ربه جل وعلا، وضعف المخلوقين وفقرهم، فيحمله ذلك كله على مقت الرياء واحتقاره والبعد عنه، وليعرف أيضاً مداخل الشيطان ووساوسه، فيحذرها.

3- كثرة اللُّجأ إلى الله تعالى ودعائه أن يعيذه من شر نفسه ومن شرور الشيطان ووساوسه، وأن يرزقه الإخلاص فيما يأتي وما يذر، والإكثار من الأذكار الشرعية الموظفة التي هي حصن من شرور النفس والشيطان.

4- تذكر العقوبات الأخروية العظيمة التي تحصل للمرائي، ومن أعظمها أنه من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة كما سبق ذكره.

5- التفكُّر في حقارة المرائي وأنه من السفهاء والسَّفَلة؛ لأنه يضيع ثواب عمله الذي هو سبب لفوزه بالجنة ونجاته من عذاب القبر وشدة القيامة وعذاب النار من أجل مدح الناس والحصول على منزلة عند المخلوقين، فهو يبحث عن رضا المخلوق بمعصية الخالق، ولهذا لما سُئل الإمام مالك رحمه الله: مَنِ السَّفَلة؟ قال: "من أكل بدينه.

 6- الحرص على إخفاء العبادات المستحبة، وبمدافعة الرياء عندما يخطر بالقلب، وبالبعد عن مجالسة المدّاحين وأهل الرياء، ونحو ذلك.

وفي ختام الكلام على مسألة الرياء يحسن التنبيه إلى أنه لا يجوز للمسلم أن يرمي مسلماً آخر بالرياء، فإن الرياء من أعمال القلوب ولا يعلمه إلا علاّم الغيوب، واتهام المسلمين بالرياء هو من أعمال المنافقين، والأصل في المسلم السلامة، وأنه إنما أراد وجه الله، وأيضاً فإن المسلم يندب له في بعض المواضع أن يظهر عمله للناس، إذا أمن على نفسه من الرياء، كما إذا أراد أن يُقتدى به في الخير، فليس كل من حرص على إظهار عمله للناس يعتبر مرائياً ، كما قال تعالى: إن تُبدوا الصدقات فنَعِمَّا هي .

نسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل وفي السر والعلن .

3- مسبة الدهر ونحوه:

ومن الأشياء التي يرتكبها بعض الناس بحكم العادة، وهي مما ينقص التوحيد أيضا ويسيء إلى العقيدة‏:‏ مسبة الدهر ومسبة الريح وما أشبه ذلك من إسناد الذم إلى المخلوقات فيما ليس لها فيه تصرف، فيكون هذا الذم في الحقيقة موجها إلى الله سبحانه؛ لأنه الخالق المتصرف‏.‏

قال الله تعالى عن المشركين‏:‏ ‏﴿‏وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ‏﴾‏‏‏؛ فقد كذبوا بالبعث، وقالوا‏:‏ ‏﴿‏مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا‏﴾‏‏‏ ‏:‏ التي نحن فيها، ليس هناك حياة سواها‏.‏ ‏﴿‏نموت ونحيا‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ يموت قوم ويعيش آخرون‏.‏ وهذا منهم إنكار لوجود الخالق المتصرف، ورد جريان الحوادث إلى الطبيعة، ولهذا قالوا‏:‏ ‏﴿‏وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ لا يفنينا إلا مرور الليالي والأيام، فنسبوا الإهلاك إلى الدهر على سبيل الذم له، وإنما قالوا هذا القول عن جهل وتخرص لا عن علم وبرهان؛ لأن البرهان يرد هذا القول ويبطله، ولهذا رد الله عليهم بقوله‏:‏ ‏﴿‏وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ‏﴾‏‏‏ ، وكل قول لا ينبني على علم وبرهان؛ فهو قول باطل مردود، والبراهين تدل على أن ما يجري في الكون لابد له من مدبر حكيم قادر، وهو الله سبحانه وتعالى؛ فكل من سب الدهر ونسب إليه شيئا من الحوادث؛ فقد شارك المشركين والدهرية في هذا الوصف الذميم، وإن لم يشاركهم في أصل الاعتقاد‏.‏

وفي ‏"‏الصحيحين‏"‏وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قال الله تعالى يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار‏). وفي رواية‏:‏ ‏(‏لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر‏)‏ ‏.‏

فدل الحديث على أن من سب الدهر؛ فقد آذى الله سبحانه؛ لأن السب يتجه إلى مدبر الحوادث والوقائع وخالقها، والدهر إنما هو ظرف ومحل وخلق مدبر ليس له شيء من التدبير، ولهذا قال الله‏:‏ ‏"‏وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار‏"‏‏.‏

فقوله سبحانه‏:‏ ‏"‏أقلب الليل والنهار‏"‏‏:‏ تفسير لقوله‏:‏ ‏"‏وأنا الدهر‏"‏، وكذا قوله‏:‏ ‏"‏فإن الله هو الدهر‏"‏‏:‏ معناه أن الله هو المتصرف الذي يصرف الدهر وغيره؛ فالذي يسب الدهر إنما يسب من خلقه، وهو الله تعالى وتقدس‏.‏

قال بعض السلف‏:‏ كانت العرب في جاهليتها من شأنها ذم الدهر؛ أي سبه عند النوازل، فكانوا إذا أصابتهم شدة أو بلاء؛ قالوا‏:‏ أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، وقالوا‏:‏ يا خيبة الدهر‏!‏ فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعل ذلك هو الله؛ فإذا أضافوا ما نالهم من الشدائد إلى الدهر؛ فإنما سبوا الله عز وجل؛ لأن الله هو الفاعل لذلك حقيقة‏.‏

قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله‏:‏ ‏"‏وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى أخذا بهذا الحديث، وقد بين معناه في الحديث بقوله‏:‏ ‏"‏أقلب الليل والنهار‏"‏، وتقليبه‏:‏ تصرفه تعالى فيه بما يحبه الناس ويكرهونه؛ فالذي يليق بالمسلم تجنب مثل هذه الألفاظ، وإن كان يعتقد أن الله هو المتصرف، لكن في تجنبها ابتعاد عن مشابهة الكفار ولو في الألفاظ، وفي ذلك حفاظ على العقيدة وتأدب مع الله سبحانه‏"‏‏.‏

 وفي فعل هذا ثلاث مفاسد عظيمة:

إحداها: سبه من ليس بأهل أن يُسب، فإن الدهر خَلْقٌ مُسخر من خلق الله، منقاد لأمره، مذلل لتسخيره، فسابُّه أولى بالذم والسب منه.

الثانية: أن سبه متضمن للشرك، فإنه إنما سبه لظنه أنه يضر وينفع، وأنه مع ذلك ظالم قد ضر من لا يستحق الضرر، وأعطى من لا يستحق العطاء، ورفع من لا يستحق الرفعة، وحرم من لا يستحق الحرمان .

الثالثة: أن السب منهم إنما يقع على من فعل هذه الأفعال التي لو اتبع الحق فيها أهواءهم لفسدت السماوات والأرض، وإذا وقعت أهواؤهم، حمدوا الدهر، وأثنوا عليه. وفي حقيقة الأمر، فرب الدهر تعالى هو المعطي المانع، الخافض الرافع، المعز المذل، والدهر ليس له من الأمر شيء، فمسبتهم للدهر مسبة لله عز وجل، ولهذا كانت مؤذية للرب تعالى.

ومن جنس مسبة الدهر مسبة الريح‏.‏

وقد ورد النهي عنها في الحديث الذي رواه أبي بن كعب رضي الله عنه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تسبوا الريح؛ فإذا رأيتم ما تكرهون؛ فقولوا اللهم‏!‏ إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به‏)‏ ‏. [رواه الترمذي 2252 بسند صحيح كما قال غير واحد من أهل العلم]

وذلك لأن الريح إنما تهب بأمر الله وتدبيره لأنه هو الذي أوجدها وأمرها؛ فمسبتها مسبة للفاعل، وهو الله سبحانه؛ والمأمور معذور كما تقدم في سب الدهر؛ لأن سب الريح وسب الدهر يرجعان إلى مسبة الخالق الذي دبر هذه الكائنات‏.‏

ثم أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم عندما يرون ما يكرهون مما يأتي مع الريح بأن يتوجهوا إلى خالقها وآمرها ليسألوه من خيرها وخير ما فيها ويستعيذوا من شرها وشر ما فيها؛ فما استجلبت نعمة إلا بطاعة الله وشكره، ولا استدفعت نقمة إلا بالالتجاء إلى الله والاستعاذة به، وأما سب هذه المخلوقات؛ ففيه مفاسد‏:

- منها‏:‏ أنه سب ما ليس أهلا للسب؛ فإنها مخلوقات مسخرة ومدبرة‏.‏

- ومنها‏:‏ أن سب هذه الأشياء متضمن للشرك؛ فإنه إنما سبها لظنه أنها تضر وتنفع من دون الله‏.‏

- ومنها‏:‏ أن السب إنما يقع على من فعل هذه الأفعال، وهو الله‏.‏

وإذا قال العبد عند هبوب الريح ما أرشده إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏إذا رأيتم ما تكرهون؛ فقولوا اللهم‏!‏ إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به‏)‏؛ فقد لجأ إلى خالق الريح ومدبرها ومصرفها، وهدا هو التوحيد والاعتقاد السليم الذي يخالف اعتقاد أهل الجاهلية‏.‏

وهكذا يكون المسلم دائما وأبدا مع الأحداث؛ يرجعها إلى خالقها، ويسأله من خيرها، وأن يدفع عنه شرها، ولا يلقي باللوم عليها ويسبها ويفسرها بغير تفسيرها الصحيح‏.‏

وليعلم أن ما أصابه من هذه الأحداث مما يكره إنما هو بتقدير من الله وتسليط لها عليه بسبب ذنوبه؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ‏﴾‏‏‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا‏﴾‏‏‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ‏﴾‏‏‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ‏﴾‏‏‏.

فالأمر كله راجع إلى الله؛ فالواجب حمده في الحالتين حالة السراء وحالة الضراء، وحسن الظن به، والرجوع إليه بالتوبة والإنابة؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏﴾‏‏‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ‏﴾‏‏‏ ‏هذا هو التفسير الصحيح لمجريات الأحداث؛ فالمؤمن يعلم أن ما أصابه مما يكره إنما هو بسبب ذنوبه، فيلقي باللوم على نفسه لا على الدهر ولا على الريح، فيتوب إلى الله، والكافر والفاسق أو الجاهل يلقي باللوم على هذه المخلوقات، ولا يحاسب نفسه، ولا يتوب من ذنبه؛ كما قال الشاعر‏ شرف الدين ابن عنين (ت 630هـ):‏

يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحدا ** إذ أنت والد سوء تأكل الولدا

وقال المتنبي :‏

قبحا لوجهك يا زمان فإنه ** وجه له في كل قبح برقع

نسأل الله العافية والبصيرة في دينه‏.‏

 الشرك الاصغر:

قول ‏"‏لو‏"‏ في بعض الحالات ومن الألفاظ التي لا ينبغي التلفظ بها لأنها تخل بالعقيدة، وقد ورد النهي عنها بخصوصها‏:‏ كلمة ‏"‏لو‏"‏ في بعض المقامات‏.‏

وذلك عندما يقع الإنسان في مكروه أو تصيبه مصيبة؛ فإنه لا يقول‏:‏ لو أني فعلت كذا؛ ما حصل علي هذا‏!‏ أو‏:‏ لو أني لم أفعل؛ لم يحصل كذا‏!‏ لما في ذلك من الإشعار بعدم الصبر على ما فات مما لا يمكن استدراكه، ولما يشعر به اللفظ من عدم الإيمان بالقضاء والقدر، ولما في ذلك من إيلام النفس وتسليط الشيطان على الإنسان بالوساوس والهموم‏.‏

والواجب بعد نزول المصائب التسليم للقدر، والصبر على ما أصاب الإنسان، مع عمل الأسباب الجالبة للخير والواقية من الشر والمكروه بدون تلوم‏.‏

وقد ذم الله الذين قالوا هذه الكلمة عند المصيبة التي حلت بالمسلمين في وقعة أحد، فقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا‏﴾‏‏‏ ‏:‏ هذه مقالة قالها بعض المنافقين يوم أحد لما حصل على المسلمين ما حصل من المصيبة، قالوها يعارضون القدر، ويعتبون على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين خروجهم إلى العدو، فرد الله عليهم بقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ هذا قدر مقدر من الله لابد أن يقع، ولا يمنع منه التحرز في البيوت والتلهف‏.‏

وقول ‏"‏لو‏"‏ بعد نزول المصيبة لا يفيد إلا التحسر والحزن وإيلام النفس والضعف مع تأثيره على العقيدة من حيث إنه يوحي بعدم التسليم للقدر‏.‏

ثم ذكر سبحانه عن هؤلاء المنافقين مقالة أخرى، وذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا‏﴾‏‏‏ ، وهذه من مقالات المنافقين يوم أحد أيضا، ويروى أن عبد الله بن أُبي  كان يعارض القدر ويقول‏:‏ لو سمعوا مشورتنا عليهم بالقعود وعدم الخروج؛ ما قتلوا مع من قتل‏.‏ فرد الله عليهم بقوله‏:‏ ‏﴿‏قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ إذا كان القعود وعدم الخروج يسلم به الشخص من القتل أو الموت؛ فينبغي أن لا تموتوا، والموت لابد أن يأتي إليكم في أي مكان؛ فادفعوه عن أنفسكم إن كنتم صادقين في دعواكم أن من أطاعكم سلم من القتل‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية لما ذكر مقالة ابن أُبي هذه؛ قال‏:‏ ‏"‏فلما انخزل يوم أحد، وقال‏:‏ يدع رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان -أو كما قال-؛ انخزل معه خلق كثير، كان كثير منهم لم ينافق قبل ذلك؛ فأولئك كانوا مسلمين، وكان معهم إيمان هو الضوء الذي ضرب الله به المثل؛ فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق؛ لماتوا على الإسلام، وهؤلاء لم يكونوا من المؤمنين حقا الذين امتحنوا فثبتوا على المحنة، ولا من المنافقين الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى‏.‏

والشاهد منه أن اللهج بكلمة ‏(‏لو‏)‏ عند حصول المصائب من سمات المنافقين الذين لا يؤمنون بالقضاء والقدر‏.‏

وإنما حُرِّم قول ذلك لأن قوله: لو كنت فعلت كذا وكذا لم يفتني ما فاتني، أو لم أقع فيما وقعت فيه، كلام لا يُجدي عليه فائدة البتة، فإنه غير مستقبل لما استدبر من أمره، وغير مستقيل عثرته بـ ((لو)) ، وفي ضمن ((لو)) ادعاء أن الأمر لو كان كما قدره في نفسه، لكان غير ما قضاه الله وقدَّره وشاءه، فإن ما وقع مما يتمنى خلافه إنما وقع بقضاء الله وقدره ومشيئته، فإذا قال: لو أني فعلت كذا لكان خلاف ما وقع، فهو مُحال، إذ خلاف المقدر المقضي مُحال، فقد تضمن كلامه كذباً وجهلاً ومحالاً، وإن سلِم من التكذيب بالقدر، لم يسلم من معارضته بقوله: لو أني فعلت كذا، لدفعت ما قدر الله عليَّ.

فيجب على المؤمن الابتعاد عن التلفظ بهذه الكلمة عندما تصيبه محنة أو مكروه، وأن يعدل إلى الألفاظ الطيبة التي فيها الرضى بما قدر الله والصبر والاحتساب، وهي الألفاظ التي وجه إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله فيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء؛ فلا تقل لو أني فعلت كذا؛ كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان‏)‏؛ فقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى فعل الأسباب التي تنفع العبد في دنياه وآخرته مما شرعه الله تعالى لعباده من الأسباب الواجبة والمستحبة والمباحة، ويكون العبد في حال فعله السبب مستعينا بالله؛ ليتم له سببه وينفعه؛ لأن الله تعالى هو الذي خلق السبب والمسبب، والجمع بين فعل السبب والتوكل على الله توحيد، ثم نهى عن العجز، وهو ترك فعل الأسباب النافعة، وهو ضد الحرص على ما ينفع؛ فإذا حرص على ما ينفعه، وبذل السبب، ثم وقع خلاف ما أراد أو أصابه ما يكره؛ فلا يقل‏:‏ لو أني فعلت كذا؛ لكان كذا وكذا؛ لأن هذه الكلمة لا تجدي شيئا، وإنما تفتح عمل الشيطان، وتبعث على التأسف ولوم القدر، وذلك ينافي الصبر والرضى، والصبر واجب، والإيمان بالقدر فرض، ثم أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى اللفظ النافع المتضمن للإيمان بالقدر، وهو أن يقول‏:‏ ‏"‏قدر الله وما شاء فعل‏"‏؛ لأن ما قدره الله لابد أن يكون، والواجب التسليم للمقدور، وما شاء الله فعل؛ لأن أفعاله لا تصدر إلا عن حكمة‏.‏

قال الإمام ابن القيم رحمه الله‏:‏ ‏"‏والعبد إذا فاته المقدور له حالتان‏:‏ حالة عجز‏:‏ وهي عمل الشيطان، فيلقيه العجز إلى ‏(‏لو‏)‏، ولا فائدة فيها، بل هي مفتاح اللوم‏.‏ والحالة الثانية‏:‏ النظر إلى المقدور وملاحظته وأنه لو قدر لم يفته ولم يغلبه عليه أحد‏.‏

فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما ينفعه حال حصول مطلوبه وحال فواته، ونهاه عن قول ‏(‏لو‏)‏، وأخبره أنها تفتح عمل الشيطان؛ لما فيها من التأسف على ما فات والتحسر والحزن ولوم القدر، فيأثم بذلك، وذلك من عمل الشيطان، وليس هذا لمجرد لفظ ‏(‏لو‏)‏؛ بل لما قارنها من الأمور القائمة بقلبه المنافية لكمال الإيمان الفاتحة لعمل الشيطان‏.‏

فإن قيل‏:‏ الرسول قد قال هذه الكلمة حينما أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة ولم يفسخ هو لأنه ساق الهدي‏.‏

فالجواب عن ذلك‏:‏ أن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي‏)‏ ‏:‏ خبر عن مستقبل لا اعتراض فيه على قدر، بل هو إخبار لأصحابه أنه لو استقبل الإحرام بالحج؛ ما ساق الهدي، ولأحرم بالعمرة، قال ذلك لهم لما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة؛ حثا وتطييبا لقلوبهم لما رآهم توقفوا في أمره؛ فليس هذا من المنهي عنه، بل هو إخبار لهم عما كان يفعل في المستقبل لو حصل، ولا خلاف في جواز ذلك، وإنما ينهى عن ذلك في معارضة القدر‏.‏ والله أعلم‏"‏‏.‏

فهذا الحديث الذي رواه أبو هريرة لا يستغني عنه العبد، وهو يتضمن إثبات القدر وإثبات الكسب والقيام بالعبودية‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معنى هذا الحديث‏:‏ ‏"‏لا تعجز عن مأمور، ولا تجزع من مقدور‏"‏‏.

 الشرك الأصغر:

 الصبر ومنزلته في العقيدة:

تقدم الكلام في النهي عن قول ‏(‏لو‏)‏ عندما يقع الإنسان في مصيبة وأن الواجب عليه الصبر والاحتساب‏.‏

قال الإمام أحمد رحمه الله‏:‏ ‏"‏ذكر الله تعالى الصبر في تسعين موضعا من كتابه‏"‏‏.‏

وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏الصبر ضياء‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم‏.‏

قال عمر رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏وجدنا خير عيشنا بالصبر‏"‏‏.‏ [رواه البخاري‏ معلقا في صحيحه وصححه الحافظ ابن حجر ]

وقال علي رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد‏"‏، ثم رفع صوته وقال‏:‏ ‏"‏ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له‏"‏‏. [ابن أبي شيبة في المصنف 30439]

وقد روى البخاري ومسلم مرفوعا‏:‏ ‏"‏ما أعطي أحد عطاء أوسع من الصبر‏"‏‏.‏

والصبر مشتق من صبر إذا حبس ومنع؛ فهو‏:‏ حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي والتسخط، وحبس الجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب‏.‏

وهو ثلاثة أنواع‏:‏

 صبر على فعل ما أمر الله به، وصبر على ترك ما نهى الله عنه، وصبر على ما قدره الله من المصائب‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ‏﴾‏‏‏ ‏:‏ قال علقمة‏:‏ ‏"‏هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم‏"‏‏.‏[البيهقي في شعب الإيمان 9976] وقال غيره في معنى الآية‏:‏ أي‏:‏ من أصابته مصيبة، فعلم أنها بقدر الله، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله؛ هدى الله قلبه وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه ويقينا صادقا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏﴿‏وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ‏﴾‏‏‏؛ يعني‏:‏ يسترجع ويقول‏:‏ ‏﴿‏إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وفي الآية الكريمة دليل على أن الأعمال من الإيمان، وعلى أن الصبر سبب لهداية القلوب، وأن المؤمن يحتاج إلى الصبر في كل المواقف‏:

يحتاج إليه مع نفسه أمام أوامر الله ونواهيه بإلزام نفسه بالتزامها‏.‏

ويحتاج إلى الصبر في مواقف الدعوة إلى الله تعالى على ما يناله في سبيلها من مشقة وأذى؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ‏﴾‏‏‏ إلى قوله‏:‏ ‏﴿‏وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

ويحتاج إلى الصبر في موقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما يلاقيه من أذى الناس؛ قال تعالى عن لقمان‏:‏ ‏﴿‏يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

المؤمن بحاجة إلى الصبر أمام مواجهته المصائب التي تجري عليه؛ بأن يعلم أنها من عند الله؛ فيرضى، ويسلم، ويحبس نفسه عن الجزع والتسخط الذي قد يظهر على اللسان والجوارح‏.‏

وهذا من صميم العقيدة؛ لأن الإيمان بالقدر هو أحد أركان الإيمان الستة، وثمرته الصبر على المصائب؛ فمن لم يصبر على المصائب؛ فهذا دليل على فقدان هذا الركن أو ضعفه لديه، ومن ثم سيقف أمام المصائب موقف الجزع والتسخط، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا كفر يخل بالعقيدة الإسلامية‏:

ففي ‏"‏صحيح مسلم‏"‏عن أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب، والنياحة على الميت‏)‏ ‏.‏

فهاتان الخصلتان من خصال الكفر؛ لأنهما من أعمال الجاهلية، ولكن ليس من قام بشعبة من شعب الكفر يصير كافرا الكفر المطلق، وفرق بين الكفر المعرف باللام- كما في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة‏)‏- وبين كفر منكرا كما في هذا الحديث‏.‏

وفي ‏"‏الصحيحين‏"‏‏:‏ ‏(‏ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية‏)‏ ‏.‏

وقوله في الحديث‏:‏ ‏"‏ودعا بدعوى الجاهلية‏"‏‏:‏ قال ابن القيم‏:‏ ‏"‏الدعاء بدعوى الجاهلية كالدعاء إلى القبائل والعصبية، ومثله التعصب إلى المذاهب والطوائف والمشايخ وتفضيل بعضهم على بعض؛ يدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي؛ فكل هذا من دعوى الجاهلية‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى‏.‏

والله سبحانه يجري المصائب على عباده لحكم عظيمة، منها أنه يكفر بها خطاياهم؛ كما في حديث أنس‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا أراد الله بعبده الخير؛ عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر؛ أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة‏). [رواه الترمذي وحسنه ، وصححه الألباني في الصحيحة 1220]

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ ‏"‏المصائب نعمة لأنها مكفرات للذنوب، وتدعو إلى الصبر فيثاب عليها، وتقتضي الإنابة إلى الله والذل له والإعراض عن الخلق‏.‏‏.‏‏.‏ إلى غير ذلك من المصالح العظيمة، فنفس البلاء يكفر الله به الذنوب والخطايا، وهذا من أعظم النعم، فالمصائب رحمة ونعمة في حق عموم الخلق؛ إلا أن يدخل صاحبها في معاص أعظم مما كان قبل ذلك، فيكون شرا عليه من جهة ما أصابه في دينه؛ فإن من الناس من إذا ابتلي بفقر أو مرض أو وجع؛ حصل له من النفاق والجزع ومرض القلب والكفر الظاهر وترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات ما يوجب له الضرر في دينه؛ فهذا كانت العافية خيرا له من جهة ما أورثته المصيبة، لا من جهة نفس المصيبة؛ كما أن من أوجبت له المصيبة صبرا وطاعة؛ كانت في حقه نعمة دينية؛ فهي بكونها فعل الرب عز وجل رحمة للخلق، والله تعالى محمود عليها، فمن ابتلي فرزق الصبر؛ كان الصبر عليه نعمة في دينه، وحصل له بعد ما كفر من خطاياه رحمة، وحصل له ثناء ربه عليه؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ‏﴾‏‏‏ ، وحصل له غفران السيئات ورفع الدرجات؛ فمن قام بالصبر الواجب؛ حصل له ذلك‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏

ومن الحكم الإلهية في إجراء المصائب ابتلاء العباد عند وقوعها؛ من يصبر ويرضى، ومن يجزع ويسخط؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم؛ فمن رضي؛ فله الرضى، ومن سخط؛ فله السخط‏). [رواه الترمذي2396 وحسنه‏‏ ووافقه الألباني في الصحيحة 146]

والرضى‏:‏ هو أن يسلم العبد أمره إلى الله ويحسن الظن به ويرغب في ثوابه‏.‏

والسخط‏:‏ هو الكراهية للشيء، وعدم الرضى به؛ أي‏:‏ من سخط على الله فيما دبره؛ فله السخط من الله‏.‏

وفي هذا الحديث أن الجزاء من جنس العمل، وفيه إثبات الرضى من الله سبحانه على ما يليق به كسائر صفاته، وفيه بيان الحكمة في إجراء المصائب على العباد، وفيه إثبات القضاء والقدر، وأن المصائب تجري بقضاء الله وقدره، وفيه مشروعية الصبر على المصائب والرجوع إلى الله والاعتماد عليه وحده في كل ملمة ودفع كل مكروه‏.‏

وقد أمر الله بالاستعانة بالصبر والصلاة على ما يواجه الإنسان في هذه الحياة من متاعب ومشاق؛ لأن من وراء ذلك الخير والعاقبة الحميدة، وأخبر أنه مع الصابرين بنصره وتأييده؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‏﴾‏‏‏ ، مما يدل على أهمية الصبر وحاجة المؤمن إليه، وهو من مقومات العقيدة‏.‏

نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الصبر والاحتساب، وأن يمن علينا بالتوفيق والهداية‏.‏

 الشرك الأصغر

 بيان ألفاظ لا يجوز أن تقال في حق الله تعالى تعظيما لشأنه:

الله جل وعلا عظيم يجب أن يعظم، وهناك ألفاظ لا يجوز أن تقال في حقه سبحانه تعظيما له، وقد ورد النهي عنها‏:

فمن هذه الألفاظ‏:‏ أنه لا يقال‏:‏ السلام على الله؛ لأن السلام دعاء للمسلم عليه بطلب السلامة له من الشرور، والله سبحانه يطلب منه ذلك ولا يطلب له، ويدعى ولا يدعى له؛ لأنه المغني، له ما في السماوات والأرض، وهو السالم من كل عيب ونقص، ومانح السلامة ومعطيها، وهو السلام، ومنه السلام‏.‏

وفي ‏"‏الصحيح‏"‏عن ابن مسعود رضي الله عنه؛ قال‏:‏ كنا إذ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة؛ قلنا‏:‏ السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تقولوا السلام على الله؛ فإن الله هو السلام‏)‏؛ أي‏:‏ إن الله سالم من كل نقص‏.‏

قال الإمام ابن القيم رحمه الله‏:‏ ‏"‏السلام مصدر، وهو من ألفاظ الدعاء، يتضمن الإنشاء والإخبار؛ فجهة الإخبارية تناقض الجهة الإنشائية، وهو معنى السلام المطلوب عند التحية‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏"‏والمقام لما كان مقام طلب السلامة التي هي أهم عند الرجل؛ أتى في طلبها بصيغة اسم من أسماء الله تعالى، وهو السلام الذي تطلب منه السلامة، فتضمن معنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ ذكر الله‏.‏‏.‏‏.‏ والثاني‏:‏ طلب السلامة، وهو مقصود المسلم‏"‏‏.‏

ومن الألفاظ التي لا تقال في حق الله تعالى‏:‏ اللهم اغفر لي إن شئت‏.‏ فطلب الحاجة من الله لا يعلق على المشيئة، وإنما يجزم به‏ ، ولا يجب على العبد أن يشك في القبول بل يستيقن من وقوع مطلوبه وعليه أن يدعو ربه مُلِّحًّا في دعائه .‏

وفي ‏"‏الصحيح‏"‏عن أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يقل أحدكم اللهم‏!‏ اغفر لي إن شئت اللهم‏!‏ ارحمني إن شئت ليعزم المسألة؛ فإن الله لا مكره له‏)‏.

ولمسلم‏:‏ ‏"‏وليعظم الرغبة؛ فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه‏"‏‏.‏

والنهي عن ذلك لأمرين‏:‏

الأول‏: أن الله سبحانه لا مكره له على الفعل، وإنما هو يفعل ما يريد؛ بخلاف العبد؛ فإنه قد يفعل الشيء وهو كاره، ولكن يفعله لخوف أو رجاء من أحد، والله ليس كذلك‏.‏

الثاني‏:‏ أن التعليق على المشيئة يدل على فتور في الطلب وقلة رغبة فيه؛ فإن حصل، وإلا؛ استغنى عنه، وهذا يدل على عدم الافتقار إلى الله‏.‏ وفي رواية مسلم الأمر بتعظيم الطلب؛ لأن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه؛ أي‏:‏ لا يكبر عليه سبحانه ولا يعسره، وليس عنده بعظيم، وإن عظم في نفس المخلوق، وذلك لكمال فضله وجوده وسعة غناه، فهو يعطي العظائم، ولا يعجزه شيء، ‏﴿‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

ومن الألفاظ التي لا تقال في حق الله تعالى‏:‏ الإقسام على الله إذا كان على جهة الحجر عليه أن لا يفعل الخير‏!‏

عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه؛ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قال رجل والله لا يغفر الله لفلان فقال الله عز وجل من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان‏؟‏ فإني قد غفرت له وأحبطت عملك‏). رواه مسلم‏.‏

والتألي من الألية- بتشديد الياء- وهي اليمين، ومعنى يتألى‏:‏ يحلف، وقوله‏:‏ ‏"‏من ذا الذي‏"‏‏:‏ استفهام إنكار‏.‏

وعَنْ ضَمْضَمِ بْنِ جَوْسٍ الْيَمَامِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا يَمَامِيُّ، لَا تَقُولَنَّ لِرَجُلٍ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لَكَ، أَوْ لَا يُدْخِلُكَ اللهُ الْجَنَّةَ أَبَدًا. قُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إِنَّ هَذِهِ لَكَلِمَةٌ يَقُولُهَا أَحَدُنَا لِأَخِيهِ وَصَاحِبِهِ إِذَا غَضِبَ. قَالَ: فَلَا تَقُلْهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلَانِ، كَانَ أَحَدُهُمَا مُجْتَهِدًا فِي الْعِبَادَةِ، وَكَانَ الْآخَرُ مُسْرِفًا عَلَى نَفْسِهِ، فَكَانَا مُتَآخِيَيْنِ، فَكَانَ الْمُجْتَهِدُ لَا يَزَالُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى ذَنْبٍ، فَيَقُولُ: يَا هَذَا، أَقْصِرْ. فَيَقُولُ: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؟ " قَالَ: " إِلَى أَنْ رَآهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ اسْتَعْظَمَهُ، فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ، أَقْصِرْ. قَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا "، قَالَ: " فَقَالَ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لَكَ، أَوْ لَا يُدْخِلُكَ اللهُ الْجَنَّةَ أَبَدًا. قَالَ أَحَدُهُمَا، قَالَ: فَبَعَثَ اللهُ إِلَيْهِمَا مَلَكًا، فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، وَاجْتَمَعَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي. وَقَالَ لِلْآخَرِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا، أَكُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا ، اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ ". قَالَ: " فَوَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ بِيَدِهِ، لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ" [رواه أحمد 8292 وأبو داود 4901 بسند حسن]

وهذا الرجل أساء الأدب مع الله، وحكم عليه وقطع أنه لا يغفر لهذا المذنب، فكأنه حكم على الله سبحانه، وهذا من جهله بمقام الربوبية، واغتراره بنفسه وبعمله وإدلاله بذلك، فعومل بنقيض قصده، وغفر لهذا المذنب بسببه، وأحبط عمله بسبب هذه الكلمة السيئة التي قالها، مع أنه كان عابدا‏.‏

قال أبو هريرة رضي الله عنه‏:‏ تكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته‏.‏

ففي الحديث‏:‏ وجوب التأدب مع الله سبحانه في الأقوال والأفعال، وتحريم الإدلال على الله والإعجاب بالنفس واحتقار الآخرين، وتحريم الحلف على الله إذا كان على جهة الحجر عليه أن لا يفعل الخير بعباده، أما إذا كان الحلف على الله على جهة حسن الظن به سبحانه ورجاء الخير منه؛ فهذا جائز؛ كما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره‏"‏‏ [رواه البخاري 2806]

وفي حديث جندب بيان خطر اللسان ووجوب التحفظ منه‏.‏

وعن معاذ رضي الله عنه‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله‏!‏ وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ثكلتك أمك يا معاذ‏!‏ وهل يكب الناس في النار على وجوههم ‏-‏أو قال على مناخرهم‏-‏ إلا حصائد ألسنتهم‏). رواه الترمذي وصححه‏.‏

ومما سبق يتبين أنه يجب التحفظ في الألفاظ والابتعاد عن اللفظ الذي فيه سوء أدب مع الله سبحانه؛ لأن هذا يخل بالعقيدة وينقص التوحيد؛ فلا يقال‏:‏ السلام على الله؛ لأنه هو السلام سبحانه، ولأن السلام على أحد دعاء له بالسلامه، والله سبحانه يدعى ولا يدعى له‏.‏ ولا يقال‏:‏ اللهم اغفر لي وارحمني إن شئت‏.‏‏.‏‏.‏ ونحو ذلك، بل كل دعاء يؤتى به على سبيل الجزم بلا تعليق بالمشيئة؛ لأن الله يفعل ما يشاء ولا مكره له‏.‏ وأنه لا يقسم على الله أن لا يرحم فلانا أو يغفر لفلان؛ لأن هذا حظر ومنع لرحمة الله، وسوء ظن بالله عز وجل‏.‏ كما أنه لا يجوز أن يقال‏:‏ ما شاء الله وشاء فلان، وإنما يقال‏:‏ ما شاء الله ثم شاء فلان؛ لأن العطف بالواو يقتضي المشاركة، ولا أحد يشارك الله سبحانه ويساويه في أمر من الأمور، وأما العطف بـ ‏(‏ثم‏)‏؛ فإنه يقتضي الترتيب والتبعية، فتكون مشيئة المخلوق تابعة لمشيئة الله سبحانه وحاصلة بعدها وليست مشاركة لها‏.‏

وكل هذا مما يؤكد على المسلم وجوب دراسة العقيدة ومعرفة ما يصححها وما يخل بها حتى يكون على بينة من أمره وحتى لا يقع في المحذور وهو لا يشعر‏.‏

وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح‏.

 الإيمان بالله - توحيد الأسماء والصفات

توحيد الأسماء والصفات- يعني‏:‏ إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله من صفات الكمال، ونفي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله من صفات النقص؛ على حد قول الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وهذا القسم قد جحده الجهمية وتلاميذهم من المعتزلة والأشاعرة، وهو في الحقيقة داخل في توحيد الربوبية، لكن لما كثر منكروه وروجوا الشبه حوله؛ أفرد بالبحث، وجعل قسما مستقلا، وألفت فيه المؤلفات الكثيرة‏.‏

فألف الإمام أحمد رده المشهور على الجهمية، وألف ابنه عبد الله كتاب ‏"‏السنة‏"‏، وألف عبد العزيز الكناني كتاب ‏"‏الحيدة‏"‏في الرد على بشر المريسي، وألف أبو عبد الله المروزي كتاب ‏"‏السنة‏"‏، وألف عثمان بن سعيد كتاب ‏"‏الرد على بشر المريسي‏"‏، وألف إمام الأئمة محمد بن خزيمة كتاب ‏"‏التوحيد‏"‏، وألف غيرهم كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومن جاء بعدهم وسار على نهجهم، فلله الحمد والمنة على بيان الحق ودحض الباطل‏.‏

وأول من عرف عنه إنكار الصفات بعض مشركي العرب الذين أنزل الله فيهم قوله‏:‏ ‏﴿‏كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ‏﴾‏‏‏.

وسبب نزول هذه الآية أن قريشا لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن؛ أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم‏:‏ ‏﴿‏وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ‏﴾‏‏.

وذكر ابن جرير أن ذلك كان في صلح الحديبية، حين كتب الكاتب ‏"‏بسم الله الرحمن الرحيم‏"‏؛ قالت قريش‏:‏ أما الرحمن؛ فلا نعرفه‏.‏

روى ابن جرير أيضا عن ابن عباس‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ساجدا يقول‏:‏ ‏"‏يا رحمن‏!‏ يا رحيم‏!‏‏"‏، فقال المشركون‏:‏ هذا يزعم أنه يدعو واحدا وهو يدعو مثنى‏.‏

 فأنزل‏:‏ ‏﴿‏قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى‏﴾‏‏‏.‏

وقال تعالى في سورة الفرقان‏:‏ ‏﴿‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

فهؤلاء هم سلف الجهمية والأشاعرة في إنكار أسماء الله وصفاته، وبئس السلف لبئس الخلف، ‏﴿‏أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا‏﴾‏‏‏ ‏.‏

أما الرسل وأتباعهم- خصوصا خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام والذين اتبعوهم بإحسان-؛ فهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه، وينكرون على من يخالف هذا المنهج‏.‏

فقد روى عبد الرزاق، عن معمر، عن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس‏:‏ أنه رأى رجلا انتفض لما سمع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكارا لذلك‏!‏ فقال‏:‏ ‏"‏ما فرق هؤلاء‏؟‏ يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه‏"‏‏.‏[ورواه ابن أبي عاصم في السنة وصححه الألباني]

يشير رضي الله عنه إلى أناس يحضرون مجلسه من عامة الناس؛ بأنهم إذا سمعوا شيئا من نصوص الصفات- وهي من المحكم -؛ حصل معهم فرق ‏(‏أي‏:‏ خوف‏)‏ وانتفضوا كالمنكرين لها؛ فهم كالذين قال الله فيهم‏:‏ ‏﴿‏فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ‏﴾‏‏‏؛ فيدعون المحكم ويتبعون المتشابه، ويؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض‏.‏

ونصوص الصفات من المحكم لا من المتشابه، يقرؤها المسلمون ويتدارسونها ويفهمون معناها ولا ينكرون منها شيئا‏.‏

قال وكيع‏:‏ ‏"‏أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث ‏(‏يعني‏:‏ أحاديث الصفات‏)‏ ولا ينكرونها‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏ وإنما ينكرها المبتدعة من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة الذين ساروا على منهج مشركي قريش الذين يكفرون بالرحمن ويلحدون في أسماء الله‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏﴾‏‏‏؛ فأثبت لنفسه الأسماء الحسنى، وأمر أن يدعى بها، وكيف يدعى بما لا يسمى به ولا يفهم معناه على زعم هؤلاء‏؟‏‏!‏ وتوعد هؤلاء الذين يلحدون في أسمائه فينفونها عنه أو يؤولونها عن معانيها الصحيحة بأنه سيجزيهم على عملهم بالعقاب والعذاب‏.‏

كما وصفهم بالكفر في قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ‏﴾‏‏‏؛ فلهذا كفر الجهمية كثير من أهل السنة‏.‏

قال ابن القيم رحمه الله تعالى‏:‏

ولقد تقلد كفرهم خمسون في **** عشر من العلماء في البلدان

واللالكائي الإمام حكاه عنــهم**** بل قد حكاه قبله الطبراني

 توحيد الأسماء والصفات

 وجوب احترام أسماء الله سبحانه وتعالى:

قال الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى‏﴾‏‏‏ ‏.‏

يخبر تعالى أن أسماءه حسنى؛ أي‏:‏ حسان، قد بلغت الغاية في الحسن، فلا أحسن منها؛ لما تدل عليه من صفات الكمال ونعوت الجلال؛ فهي أحسن الأسماء وأكملها‏.

‏والحُسْنُ في أسماء الله تعالى يكون باعتبار كل اسم على انفراده، ويكون باعتبار جمعه إلى غيره، فيحصل بجمع الاسم إلى الآخر كمال فوق كمال.

وأسماؤه سبحانه توقيفية؛ فلا يجوز لنا أن نسميه إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏فادعوه بها‏﴾‏‏‏ أي‏:‏ اسألوه وتوسلوا إليه بها؛ كما تقول‏:‏ اللهم‏!‏ اغفر لي وارحمني؛ إنك أنت الغفور الرحيم‏.‏

وأسماؤه سبحانه كثيرة لا تحصر ولا تحد بعدد، منها ما استأثر الله بعلمه فلا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل؛ كما في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏أسألك بكل اسم هو لك؛ سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك‏"‏. [رواه أحمد 3712 وصحَّحه ابن حبَّان وابن القيم، وحسَّنه ابن حجر وهو في «السِّلسلة الصَّحيحة» (199)]‏

قال الإمام ابن القيم رحمه الله‏:‏ ‏"‏فجعل أسماءه ثلاثة أقسام‏:‏ قسم سمى به نفسه فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم ولم ينزل به كتابه، وقسم أنزل به كتابه وتعرف به إلى عباده، وقسم استأثر به في علم غيبه فلم يطلع عليه أحدا من خلقه‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ أعرضوا عنهم واتركوهم؛ فإن الله سيتولى جزاءهم، ولهذا قال‏:‏ ‏﴿‏سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏﴾‏‏‏ ، ومعنى ‏﴿‏يلحدون في أسمائه‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ يميلون بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها‏.‏

 والإلحاد بأسماء الله أنواع‏:‏

أحدها‏:‏ أن يسمى بها الأصنام؛ كتسميتهم اللات من الإله، والعزى من العزيز، وتسميتهم الصنم إلها‏.‏

الثاني‏:‏ تسميته بما لا يليق بجلاله؛ كتسمية النصارى له أبا، وتسمية الفلاسفة له موجبا بذاته أو علة فاعلة بالطبع‏.‏

الثالث‏:‏ وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص؛ كقول أخبث اليهود‏:‏ إنه فقير، وانه استراح يوم السبت، وقولهم‏:‏ يد الله مغلولة‏.‏

والرابع‏:‏ تعطيل أسماء الله الحسنى عن معانيها وجحد حقائقها؛ كقول الجهمية وأتباعهم‏:‏ إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني، فيطلقون عليه اسم السميع البصير، ويقولون‏:‏ لا سمع له ولا بصر مثلا، وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلا وشرعا، وهو يقابل إلحاد المشركين؛ فإن المشركين أعطوا من أسمائه وصفاته لآلهتهم، وهؤلاء سلبوا كماله وعطلوا أسماءه وصفاته‏.‏

والواجب إثبات أسمائه وصفاته واعتقاد ما تدل عليه من صفات كماله ونعوت جلاله؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، على حد قوله سبحانه‏:‏ ‏﴿‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

والواجب احترام أسمائه من أن يسمى بها غيره، وذلك من تحقيق التوحيد‏.‏

فعن أبي شريح‏:‏ أنه كان يكنى أبا الحكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله هو الحكم، وإليه الحكم فقال إن قومي كانوا إذا اختلفوا في شيء؛ أتوني، فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين فقال ما أحسن هذا‏!‏ فما لك من الولد‏؟‏ قلت شريح ومسلم وعبد الله قال فمن أكبرهم‏؟‏ قلت شريح قال فأنت أبو شريح‏)‏ ‏.‏[رواه البخاري في الأدب المفرد 811 ، وأبو داود 4955 بسند جيد ]

فغير النبي صلى الله عليه وسلم كنيته من أجل احترام أسماء الله؛ لأن الله هو الحكم على الإطلاق، قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ‏﴾‏‏‏ ، وهو الحكم في الدنيا والآخرة، يحكم في الدنيا بين خلقه بوحيه الذي أنزله على أنبيائه، ويحكم بينهم يوم القيامة بعلمه فيما اختلفوا فيه، وينصف المظلوم من الظالم‏.‏

وفي هذا الحديث دليل على المنع من التسمي بأسماء الله تعالى المختصة به، والمنع مما يوهم عدم الاحترام لها؛ كالتكني بأبي الحكم ونحوه‏.‏

ومن احترام أسماء الله أن لا يقول الإنسان لمملوكه‏:‏ عبدي وأمتي؛ لما في لك من إيهام المشاركة في الربوبية‏.‏

وفي ‏"‏الصحيح‏"‏عن أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يقل أحدكم أطعم ربك‏!‏ وضيء ربك‏!‏ وليقل سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي، وليقل فتاي وفتاتي وغلامي‏)‏ ‏. [رواه البخاري (2552) ومسلم (2249) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]‏

نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الألفاظ ‏(‏ربك‏)‏ ‏(‏عبدي‏)‏ ‏(‏أمتي‏)‏؛ لأنها توهم التشريك مع الله، وسدا للذريعة، وحسما لمادة الشرك، وأرشد المالك أن يقول‏:‏ فتاي وفتاتي، والعبد أن يقول‏:‏ سيدي ومولاي‏.‏

- ومن احترام أسماء الله سبحانه أن لا يرد من سأل بالله‏.‏

عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من استعاذ بالله؛ فأعيذوه، ومن سأل بالله؛ فأعطوه‏)‏ ‏. [رواه أبو داود 5108 ، وأحمد 2248 بسند صحيح ]

- لأن منع من سأل بالله يدل على عدم إجلال الله، وفي إعطائه دليل على تعظيم الله والتقرب إليه سبحانه‏.‏

- ومن احترام أسماء الله تعالى أنه لا يسأل بوجه الله تعالى إلا الجنة؛ إجلالا له وإكراما له وتعظيما له‏.‏

عن جابر رضي الله عنه؛ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ لا يسأل بوجه الله إلا الجنة‏)‏ ‏. [رواه أبو داود 1671 بسند ضعيف]

فلا يسأل بوجه الله تعالى ما هو حقير من حوائج الدنيا، وإنما يسأل به ما هو غاية المطالب، وهو الجنة، أو ما هو وسيلة إلى الجنة مما يقرب إليها من قول أو عمل‏.‏

قال الحافظ العراقي: وذكر الجنة إنما هو للتنبيه به على الأمور العظام لا للتخصيص فلا يسأل الله بوجهه في الأمور الدنيئة بخلاف الأمور العظام.

- ومن احترام أسماء الله أن لا يكثر الحلف بها‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏واحفظوا أيمانكم‏﴾‏‏‏؛ قال ابن عباس‏:‏ يريد‏:‏ لا تحلفوا‏.‏ لأن كثرة الحلف تدل على الاستخفاف بالله وعدم التعظيم له، وذلك مما ينافي كمال التوحيد الواجب‏.‏

وعن سلمان رضي الله عنه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أشيمط [الرجل المسن] زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه‏)‏ ‏.‏[رواه الطبراني في المعاجم الثلاثة وصححه الهيثمي والألباني ]

ومعنى ‏"‏جعل الله بضاعته‏"‏؛ أي‏:‏ جعل الحلف بالله بضاعته؛ ففيه شدة الوعيد على كثرة الحلف؛ لأن ذلك يدل على الاستخفاف بحق الله تعالى وعدم احترام أسمائه‏.‏

ومن إجلال الله وتعظيمه أنه لا يستشفع به على خلقه؛ لما في ذلك من تنقصه سبحانه؛ لأن المستشفع به يكون أقل درجة من المشفوع عنده‏.‏

قال الإمام الشافعي رحمه الله‏:‏ إنما يشفع عند من هو أعلى منه، تعالى الله عن ذلك‏.‏

وقد جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشكى إليه القحط وهلاك الأموال، وطلب منه أن يستسقي لهم، وقال‏:‏ فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سبحان الله‏!‏ سبحان الله‏!‏ فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال ويحك‏!‏ أتدري ما الله‏ ؟‏‏!‏ إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه‏). [ رواه أبو داود 4726 بسند حسن بشواهده وضعفه الشيخ الألباني ]

فشأن الله عظيم وهو الذي يشفع عنده بإذنه سبحانه‏.‏

 توحيد الأسماء والصفات:

 منهج أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته:

منهج السلف الصالح أهل السنة والجماعة الذين هم الفرقة الناجية في أسماء الله وصفاته إثباتها كما جاءت في الكتاب والسنة مع اعتقاد ما دلت عليه وأنها على ظاهرها‏.‏

ولا يلزم من إثباتها تشبيه الله بخلقه تعالى الله عن ذلك؛ لأن صفات الخالق تخصه وتليق به، وصفات المخلوقين تليق بهم وتخصهم، ولا تشابه بين الصفتين؛ كما أنه لا تشابه بين ذات الخالق سبحانه وذات المخلوق‏.‏

 ومذهب أهل السنة والجماعة في ذلك ينبني على أسس سليمة وقواعد مستقيمة، وهذه الأسس هي‏:

أولا‏: أن أسماء الله وصفاته توقيفية؛ بمعنى أنهم لا يثبتون لله إلا ما أثبته لنفسه في كتابه أو أثبته له رسوله في سنته من الأسماء والصفات، ولا يثبتون شيئا بمقتضى عقولهم وتفكيرهم، ولا ينفون عن الله إلا ما نفاه عن نفسه في كتابه أو نفاه عنه رسوله في سنته، لا ينفون عنه بموجب عقولهم وأفكارهم؛ فهم لا يتجاوزون الكتاب والسنة في إثبات ولا نفي، وما لم يصرح الكتاب والسنة بنفيه ولا إثباته- كالعرض والجسم والجوهر- فهم يتوقفون فيه بناء على هذا الأصل العظيم‏.‏

ثانيا‏:‏ أن ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فهو حق على ظاهره، ليس فيه أحاجي ولا ألغاز، بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه‏.‏

فأهل السنة يثبتون ألفاظ الصفات ومعانيها، فليس ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من المتشابه الذي يفوض معناه؛ لأن اعتبار نصوص الصفات مما لا يفهم معناه يجعلها من الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، والله تعالى قد أمرنا بتدبر القرآن كله، وحضنا على تعقله وتفهمه، وإذا كانت نصوص الصفات مما لا يفهم معناه؛ فيكون الله قد أمرنا بتدبر وتفهم ما لا يمكن تدبره وتفهمه، وأمرنا باعتقاد ما لم يوضحه لنا، تعالى الله عن ذلك‏!‏

إذا؛ فمعاني صفات الله تعالى معلومة يجب اعتقادها، وأما كيفيتها فهي مجهولة لنا لا يعلمها إلا الله تعالى‏.‏

ولهذا قال الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه لما سئل عن قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏﴾‏‏‏؛ كيف استوى‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة‏"‏‏.[ وثبتت كذلك عن شيخ الإمام مالك وهو الإمام ربيعة الرأي بسند صحيح عنه]

وما قال الإمام مالك في الاستواء هو قاعدة في جميع الصفات، وهو قول أهل السنة والجماعة قاطبة؛ فمن نسب إلى السلف أنهم يفوضون معاني الأسماء والصفات ويجعلون نصوصها من المتشابه الذي استأثر الله بعلم معناه؛ فقد كذب عليهم؛ لأن كلامهم يخالف ما يقوله هذا المفتري‏.‏

ثالثا‏:‏ السلف يثبتون الصفات إثباتا بلا تمثيل؛ فلا يمثلونها بصفات المخلوقين؛ لأن الله ليس كمثله شيء ولا كفء له ولا ند له ولا سمي له، ولأن تمثيل الصفات وتشبيهها بصفات المخلوقين ادعاء لمعرفة كيفيتها، وكيفيتها مجهولة لنا مثل كيفية الذات؛ لأن العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، والله تعالى لا يعلم كيفية ذاته إلا هو، والكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات؛ فكما أن لله ذاتا لا تشبه الذوات؛ فكذلك له صفات لا تشبه الصفات، ‏﴿‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ لا يشبهه أحد لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله‏.‏

فيجب الإيمان بما وصف الله به نفسه؛ لأنه لا أحد أعلم من الله بالله، ‏﴿‏أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ‏﴾‏‏‏؛ فهو أعلم بنفسه وبغيره؛ كما يجب الإيمان بما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا أحد بعد الله أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال الله في حقه‏:‏ ‏﴿‏وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى‏﴾‏‏‏؛ فيلزم كل مكلف أن يؤمن بما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وينزه ربه جل وعلا من أن تشبه صفته صفة الخلق‏.‏

فمن تقدم بين يدي الله ورسوله، وتجرأ على الله، فنفى عنه ما أثبته لنفسه من الصفات العظيمة وما وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏ هذا الذي وصفت به نفسك ووصفك به رسولك لا يليق بك‏!‏ وفيه من النقص كذا وكذا‏!‏‏!‏ فأنا أؤوله وألغيه وآتي ببدله من تلقاء نفسي؛ كما قال بعضهم‏:

وكل نص أوهم التشبيها **** أوله أو فوض ورم تنزيها

فهم يردون النص ويؤولونه عن معناه الحقيقي المتبادر منه إلى معنى بعيد، بدون دليل من قرآن أو سنة، فيقولون: ليس المراد المعنى الذي يدل عليه ظاهر النص، وإنما الحق ما علمناه بعقولنا، ثم يجتهدون في تأويل هذه النصوص إلى ما يوافق رأيهم بأنواع التأويلات

فلا أرجع إلى كتابك ولا إلى سنة نبيك في ذلك؛ لأن فيها ما يوهم التشبيه، وإنما أرجع إلى قواعد المتكلمين وأقاويل الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية‏!‏ فهل يكون يا عباد الله هذا مؤمنا بالله وبكتابه وسنة رسوله‏؟‏‏!‏ وهل يكون معظما لربه‏؟‏‏!‏ سبحانك هذا بهتان عظيم‏.‏

رابعا‏:‏ وكما أن أهل السنة والجماعة يثبتون لله الصفات التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله على وجه يليق بجلاله ولا يشبهونه بخلقه؛ فهم ينزهونه عن النقائص والعيوب تنزيها لا يفضي بهم إلى التعطيل بتأويل معانيها أو تحريف ألفاظها عن مدلولها بحجة التنزيه؛ فمذهبهم في ذلك وسط بين طرفي التشبيه والتعطيل، تجنبوا التعطيل في مقام التنزيه، وتجنبوا التشبيه في مقام الإثبات‏.‏

خامسا‏:‏ وطريقة أهل السنة والجماعة فيما يثبتون لله من الصفات وما ينفون عنه من النقص هي طريقة الكتاب والسنة، وهي الإجمال في النفي والتفصيل في الإثبات؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏﴾‏‏‏؛ فأجمل في النفي، وهو قوله‏:‏ ‏﴿‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏﴾‏‏‏ وفصل في الإثبات، وهو قوله‏:‏ ‏﴿‏وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وكل نفي في صفات الله؛ فإنه يتضمن إثبات الكمال، وليس هو نفيا محضا؛ لأن النفي المحض ليس فيه مدح؛ لأنه عدم محض، والعدم ليس بشيء‏.‏

ومن أمثلة النفي المتضمن لإثبات الكمال‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ لكمال عدله سبحانه، وقوله‏:‏ ‏﴿‏ولا يؤوده حفظهما‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ لكمال قدرته وقوله، وقوله‏:‏ ‏﴿‏لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ لكمال حياته وقيوميته‏.‏

وهكذا كل نفي عن الله؛ فإنه يتضمن إثبات ضد المنفي من الكمال والجلال‏.‏

هذا، ونسأل الله البصيرة في دينه، والعمل بطاعته، ومعرفة الحق والعمل به

 توحيد الأسماء والصفات:

 منهج الجهمية وتلاميذهم في أسماء الله وصفاته:

يجب على المسلم إثبات أسماء الله وصفاته على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته على وفق ما جاء في الكتاب والسنة؛ لأن هذا يدخل في باب الإيمان بالله عز وجل، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، متخذين كتاب الله وسنة رسوله الدليل والمرجع في ذلك، عكس ما عليه الجهمية وتلاميذهم من المعتزلة والأشاعرة.

وفرقة الجهمية هي إحدى الفرق الكلامية التي تأثرت بآراء وعقائد اليهود والفلاسفة وأول من قال بتلك العقيدة الفاسدة وإليه تُنسب الفرقة هو: الجهم بن صفوان الذي أظهر بدعته بخراسان ، وقد أنكر كل أسماء الله وصفاته وجعلها كلها مجازية ، وقال بأن القرآن مخلوق ، ونفى عذاب القبر والصراط والميزان ورؤية الله تعالى ، بالإضافة إلى بعض العقائد الفاسدة الأخرى .

كما أنهم ينفون ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، أو ينفون بعضا منها ويثبتون البعض الآخر تحكما منهم، ويجعلون مرجعهم في ذلك ما قررته عقولهم القاصرة أو قرره لهم أئمة الضلال، وفرق بين من جعل دليله الكتاب والسنة ومن جعل دليله نحاتة الأفكار وزبالة الأذهان؛ كما يقوله واحد منهم‏:

وكل نص أوهم التشبيها **** أوله أو فوض ورم تنزيها

هذا تعاملهم مع نصوص الكتاب والسنة في باب أسماء الله وصفاته؛ التأويل، وهو صرف هذه النصوص عما دلت عليه من المعاني الجليلة إلى ما تقرره عقولهم من الأفكار العقيمة والآراء الباطلة، وما عجزت عنه عقولهم؛ فرفضوه واعتقدوا خلاف ما يدل عليه‏.‏

سبحانك ربي‏!‏ ما أعظم شأنك‏!‏ وما أحلمك على عبادك‏!‏ إنهم نفوا عنك ما أثبته لنفسك من صفات الكمال ونعوت الجلال، وخالفوا كتابك، وقدموا ما أملته عليهم عقولهم على ما أنزلته في كتابك، نفوا عنك أسماءك وصفاتك، ونفوا عن كتابك حجيته وهدايته‏.‏

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في هؤلاء‏:‏ ‏"‏ومن ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل، وترك الحق لم يخبر به، وإنما رمز إليه رموزا بعيدة، وأشار إليه إشارات ملغزة، ولم يصرح به، وصرح دائما بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وتأويله على غير تأويله، ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة، والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه، بل أراد منهم أن يحملوا كلامه على ما لا يعرفونه من خطابهم ولغتهم، مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل، فلم يفعل، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان؛ فقد ظن به ظن السوء‏.‏

فإنه إن قال‏:‏ إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه؛ فقد ظن بقدرته العجز، وإن قال‏:‏ إنه قادر ولم يبين، وعدل عن البيان وعن التصريح بالحق إلى ما يوهم، بل يوقع في الباطل المحال والاعتقاد الفاسد؛ فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء‏.‏

ومن ظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله، وأن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم، وأما كلام الله؛ فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال، وظاهر كلام المتهوكين والحيارى هو الحق والهدى؛ فهذا من أسوء الظن بالله‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏"‏ومن ظن أنه لا سمع له ولا بصر ولا علم ولا إرادة ولا كلام إلا كلام يقوم به، وأنه لا يكلم أحدا من الخلق ولا يتكلم أبدا، ولا يقول، ولا له أمر ولا نهي يقوم به؛ فقد ظن به ظن السوء‏.‏

ومن ظن أنه ليس فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، وأن نسبة ذاته إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل سافلين؛ فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏ انتهى كلامه رحمه الله، وهو يعني به أولئك الذين نفوا ما أثبته الله لنفسه من صفات الكمال من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، ومعلوم أن من نفى عن الله صفات الكمال؛ فقد أثبت له أضدادها من صفات النقص، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا‏.‏

ثم يلزم من هذا أن يكون هؤلاء الضلال أعلم بالله وما يستحقه من الله؛ لأنهم نفوا عنه ما أثبته لنفسه، وزعموا أنه لا يليق به، وأي ضلال أعظم من هذا‏؟‏‏!‏ وأي جرأة على الله أعظم من هذه الجرأة‏؟‏‏!‏

ويلزم من ذلك أيضا أن يكونوا أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثبت لله هذه الصفات، وهم نفوها وقالوا‏:‏ إنها لا تليق بالله‏!‏ وأي ضلال أعظم من هذا الضلال لو كانوا يعقلون‏؟‏‏!‏

كيف يكون هؤلاء الجهال الضلال أعلم بالله من نفسه تعالى الله عما يقولون؛ والله تعالى يقول‏:‏ ‏﴿‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا‏﴾‏‏‏ ، ولا أحد من الخلق أعلم بالله وما يستحقه وما يليق به من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏‏!‏

إن الذي حمل الجهمية وأتباعهم على نفي صفات الله عز وجل هو جهلهم بالله وسوء أفهامهم؛ حيث ظنوا أنه يلزم من إثبات هذه الصفات التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله يلزم منها التشبيه؛ لأنهم يرون هذه الصفات في المخلوقين، ولا يفرقون بين صفات الخالق وصفات المخلوق، ولم يفهموا من صفات الخالق إلا ما فهموا من صفات المخلوقين، ولم يعلموا أن صفات الخالق سبحانه تخصه وتليق به وصفات المخلوقين تخصهم وتليق بهم، ولا تشابه بين صفات الخالق وصفات المخلوق؛ كما أنه لا تشابه بين ذات الخالق وذوات المخلوقين؛ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏﴾‏‏‏ فأثبت لنفسه السمع والبصر، ونفى عنه مشابهة الأشياء، فدل ذلك على أن إثبات الصفات لا يلزم منه المشابهة بين الخالق والمخلوق‏.‏

وهذا هو الأصل الذي سار عليه أهل السنة والجماعة في إثبات أسماء الله وصفاته؛ أثبتوا له ما أثبته لنفسه بلا تمثيل، ونزهوه عما نزه نفسه عنه بلا تعطيل‏.‏

أما الجهمية وتلاميذهم من المعتزلة والأشاعرة؛ فإنهم بنوا مذهبهم على أصل باطل أصلوه من عند أنفسهم، وهو أن إثبات هذه الصفات يقتضي التشبيه، فيلزم حيال النصوص الواردة بذلك أحد أمرين عندهم‏:‏ إما تأويلها عن ظاهرها، واما تفويضها مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد، ولهذا يقول ناظم عقيدتهم‏:

وكل نص أوهم التشبيها ** أوِّلهُ أو فَوِّض ورُم تنزيها

سبحانك ربي عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا‏.‏

وقد أجرى الله الحق على لسان هذا الناظم حيث قال‏:‏ ‏"‏وكل نص أوهم التشبيها‏"‏؛ فبين أن مذهبهم مبني على الوهم لا على الحق؛ لأنهم توهموا أن هذه النصوص تقتضي التشبيه، فراحوا يؤولونها‏!‏‏!‏ وهل الوهم يا عباد الله تعارض به النصوص وتبنى عليه عقيدة‏؟‏‏!‏ إن الوهم أقل درجة من الظن، والله تعالى يقول في الظن‏:‏ ‏﴿‏وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا‏﴾‏‏‏ ‏!‏‏!‏

 توحيد الأسماء والصفات:

 الرد على المنحرفين عن منهج السلف في أسماء الله وصفاته من المشبهة والمعطلة:

 المنحرفون عن منهج السلف في أسماء الله وصفاته طائفتان‏:‏ المشبهة، والمعطلة‏.‏

1- المشبهة‏:‏

وهؤلاء شبهوا الله بخلقه، وجعلوا صفاته من جنس صفات المخلوقين، ولذلك سموا بالمشبهة‏.‏

وأول من قال هذه المقالة هو هشام بن الحكم الرافضي وبيان بن سمعان التميمي الذي تنسب إليه البيانية من غالية الشيعة‏.‏

فالمشبهة غلوا في إثبات الصفات حتى أدخلوا في ذلك ما نفاه الله ورسوله مما لا يليق به سبحانه من صفات النقص تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، ومن هؤلاء هشام بن سالم الجواليقي وداود الجواربي‏.‏

وقد نفى الله في كتابه مشابهته لخلقه ونهى عن ضرب الأمثال له؛ فقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏﴾‏‏‏ ‏﴿‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏﴾‏‏‏ ‏﴿‏وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏﴾‏‏‏ ‏﴿‏فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

فمن شبه صفات الله بصفات خلقه؛ لم يكن عابدا لله في الحقيقة، وإنما يعبد وثنا صوره له خياله ونحته له فكره؛ فهو من عباد الأوثان لا من عباد الرحمن‏.‏

قال العلامة ابن القيم‏:‏

لسنا نشبه وصفه بصفاتنا ** إن المشبه عابد الأوثان

ومن شبه صفات الله بصفات خلقه؛ فهو مشابه للنصارى الذين يعبدون المسيح بن مريم عليه السلام‏.‏

يقول العلامة ابن القيم‏:‏

من مثل الله العظيم بخلقه ** فهو النسيب لمشرك نصراني

وقال نعيم بن حماد شيخ البخاري رحمهما الله‏:‏ ‏"‏من شبه الله بخلقه؛ فقد كفر، ومن نفى ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله؛ فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله تشبيه‏"‏‏.‏

2- المعطلة‏:‏

وهؤلاء نفوا عن الله ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله من صفات الكمال، زاعمين أن إثباتها يقتضي التشبيه والتجسيم؛ فهم على طرفي نقيض مع المشبهة‏.‏

ومذهب التعطيل مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين، وأول من حفظ عنه مقالة التعطيل في الإسلام هو الجعد بن درهم في أوائل المئة الثانية، أخذ هذا المذهب الخبيث عنه الجهم بن صفوان وأظهره، وإليه نسبت الجهمية، ثم انتقل هذا المذهب إلى المعتزلة والأشاعرة‏.‏‏.‏‏.‏

فهذه أسانيد مذهبهم ترجع إلى اليهود والصابئين والمشركين والفلاسفة‏!‏‏!‏

وهم في هذا التعطيل متفاوتون‏:‏ فالجهمية ينفون الأسماء والصفات‏.‏ والمعتزلة يثبتون الأسماء مجردة عن معانيها وينفون الصفات‏.‏

والأشاعرة يثبتون الأسماء وسبع صفات فقط هي‏:‏ العلم والحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، وينفون بقية الصفات‏.‏

وشبهة الجميع فيما نفوه من الصفات أن إثباتها يقتضي التشبيه والتجسيم بزعمهم؛ لأنه لا يشاهد موصوف بها إلا هذه الأجسام، والله ‏﴿‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏﴾‏‏‏؛ فتعين نفي الصفات وتعطيلها تنزيها لله عن التشبيه بزعمهم، ولهذا يسمون من أثبتها مشبها‏.‏

ووقفوا من النصوص الدالة على إثباتها موقفين‏:‏

الموقف الأول‏:‏ الإيمان بألفاظها وتفويض معانيها؛ بأن يسكتوا عن تفسيرها ويفوضوه إلى الله مع نفي دلالتها على شيء من الصفات، وسموا هذه الطريقة طريقة السلف، وقالوا هي الأسلم‏.‏

الموقف الثاني‏:‏ صرف هذه النصوص عن مدلولها إلى معان ابتدعوها، وهذا ما يسمونه بطريقة التأويل، وسموه طريقة الخلف، وقالوا هي الأعلم والأحكم‏.‏

والرد على شبهتهم‏:‏ أن نقول‏:‏

لا ريب أن التمثيل قد نطق القرآن الكريم بنفيه عن الله تعالى؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏﴾‏‏‏ ، وقوله‏:‏ ‏﴿‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏﴾‏‏‏ ، وقوله‏:‏ ‏﴿‏وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏﴾‏‏‏ ، وقوله‏:‏ ‏﴿‏فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا‏﴾‏‏‏ ، وقوله‏:‏ ‏﴿‏فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ‏﴾‏‏‏ ، لكن مع نفيه سبحانه عن نفسه مشابهة المخلوقين أثبت لنفسه صفات الكمال؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏﴾‏‏‏ ؛، فجمع في هذه الآية الكريمة بين نفي التشبيه عنه وأثبت لنفسه صفتي السمع والبصر، فدل على أن إثبات الصفات لا يقتضي التشبيه؛ إذ لا تلازم بينهما‏.‏

وهكذا في كثير من آيات القرآن الكريم نجد إثبات الصفات مع نفي التشبيه جنبا إلى جنب، وهذا هو مذهب السلف الصالح؛ يثبتون الصفات وينفون عنه التشبيه والتمثيل‏.‏

ومن زعم أن إثبات الصفات لا يليق بالله لأنه يقتضي التشبيه؛ فإنما جره إلى ذلك سوء فهمه؛ حيث فهم أن إثبات الصفات يلزم منه التشبيه، فأداه هذا الفهم الخاطئ إلى نفي ما أثبته الله عز وجل لنفسه، فكان هذا الجاهل مشبها أولا ومعطلا ثانيا وارتكب ما لا يليق بالله ابتداء وانتهاء، ولو كان قلبه طاهرا من أقذار التشبيه؛ لكان المتبادر عنده والسابق إلى فهمه أن صفات الله عز وجل بالغة من الكمال والجلال ما يقطع أوهام علائق التشبيه والمشابهة بين صفات الخالق وصفات المخلوقين، فيكون قلبه مستعدا للإيمان بصفات الله على وجه يليق به، مع تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين، أما من توهم أن صفات الله تشبه صفات المخلوقين؛ فإنه لم يعرف الله حق معرفته، ولم يقدره حق قدره، ولهذا وقع فيما وقع فيه من ورطة التعطيل، وصار يسمي من أثبت لله صفات الكمال ونزهه عن صفات النقص على مقتضى الكتاب والسنة؛ صار يسميه مشبها ومجسما؛ نظرا لما قام بقلبه من توهم أن صفات الله تشبه صفات خلقه، ولم يدر أن هذا الوصف أليق به؛ فهو الذي شبه أولا، ثم عطل ثانيا، ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

قال إمام الأئمة ناصر السنة أبو بكر محمد بن خزيمة رحمه الله في الرد على الجهمية وتلاميذهم ممن زعم أن إثبات الصفات لله عز وجل يقتضي التشبيه، وننقل كلامه مختصرا في هذا الموضوع؛ قال رحمه الله‏:

‏"‏وزعمت الجهمية- عليهم لعائن الله- أن أهل السنة ومتبعي الآثار، القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، المثبتين لله عز وجل من صفاته ما وصف الله به نفسه في محكم تنزيله المثبت بين الدفتين وعلى لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم بنقل العدل عن العدل موصولا إليه مشبهة جهلا منهم بكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وقلة معرفتهم بلغة الذين بلغتهم خوطبنا‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏"‏نحن نقول وعلماؤنا جميعا من جميع الأقطار‏:‏ إن لمعبودنا عز وجل وجها كما أعلمنا الله في محكم تنزيله، فذوَّاه بالجلال والإكرام، وحكم له بالبقاء، ونفى عنه الهلاك‏.‏ ونقول‏:‏ إن لوجه ربنا عز وجل من النور والضياء والبهاء ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره‏.‏‏.‏‏.‏ ونقول‏:‏ إن لبني آدم وجوها كتب الله عليها الهلاك‏.‏ ونقول‏:‏ إن أوجه بني آدم محدثة مخلوقة لم تكن فكوَّنها الله بعد أن لم تكن مخلوقة، وأوجدها بعدما كانت عدما، وأن جميع وجوه بني آدم فانية غير باقية، تصير جميعها ميتا ثم رميما، ثم ينشئها الله بعدما صارت رميما، ثم تصير إما إلى جنة منعمة فيها أو إلى نار معذبة فيها‏.‏‏.‏‏.‏

فهل يخطر- يا ذوي الحجا- ببال عاقل مركب فيه العقل يفهم لغة العرب ويعرف خطابها ويعلم التشبيه أن هذا الوجه شبيه بذاك‏؟‏‏!‏

وهل هاهنا أيها العقلاء تشبيه وجه ربنا جل ثناؤه الذي هو كما وصفنا وبينا صفته من الكتاب والسنة بتشبيه وجوه بني آدم التي ذكرناها ووصفناها‏؟‏‏!‏

ولو كان تشبيها من علمائنا لكان كل قائل إن لبني آدم وجها وللخنازير والقردة والسباع والحمير والبغال والحيات والعقارب وجوها قد شبه وجوه بني آدم بوجه الخنازير والقردة والكلاب وغيرها مما ذكرت‏!‏‏!‏ ولست أحسب أن أعقل الجهمية المعطلة عند نفسه لو قال له أكرم الناس عليه وجهك يشبه وجه الخنزير والقرد والكلب والحمار والبغل ونحو هذا إلا غضب‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

إلى أن قال رحمه الله‏:‏ ‏"‏فإذا كان ما ذكرنا على ما وصفنا؛ ثبت عند العقلاء وأهل التمييز أن من رمى أهل الآثار القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم بالتشبيه؛ فقد قال الباطل والكذب والزور والبهتان، وخالف الكتاب والسنة، وخرج عن لسان العرب‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

إلى أن قال رحمه الله‏:‏ ‏"‏والمعطلة من الجهمية تنكر كل صفة لله وصف بها نفسه في محكم تنزيله أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، لجهلهم بالعلم، وذلك أنهم وجدوا في القرآن أن الله قد أوقع أسماء من أسماء صفاته على بعض خلقه، فتوهموا لجهلهم بالعلم أن من وصف الله بتلك الصفة التي وصف الله بها نفسه قد شبهه بخلقه‏!‏‏!‏ فاسمعوا يا ذوي الحجا ما أبين من جهل هؤلاء المعطلة‏:

أقول‏:‏ وجدت الله وصف نفسه في غير موضع من كتابه، فأعلم عباده المؤمنين أنه سميع بصير، فقال‏:‏ ‏﴿‏وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏﴾‏‏‏ ، وذكر عز وجل الإنسان، فقال‏:‏ ‏﴿‏فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا‏﴾‏‏‏ ، وأعلمنا جل وعلا أنه يرى، فقال‏:‏ ‏﴿‏وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ‏﴾‏‏‏ ، وقال لموسى وهارون عليهما السلام‏:‏ ‏﴿‏إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى‏﴾‏‏‏ ، فأعلم عز وجل أنه يرى أعمال بني آدم، وأن رسوله وهو بشر يرى أعمالهم أيضا، وقال‏:‏ ‏﴿‏أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ‏﴾‏‏‏ ، وبنو آدم يرون أيضا الطير مسخرات في جو السماء، وقال عز وجل‏:‏ ‏﴿‏وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا‏﴾‏‏‏ ، وقال‏:‏ ‏﴿‏وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏﴾‏‏‏؛ فثبت ربنا لنفسه عينا، وثبت لبني آدم أعينا، فقال‏:‏ ‏﴿‏تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ‏﴾‏‏‏؛ فقد أخبرنا ربنا أن له عينا، وأن لبني آدم أعينا، وقال لإبليس لعنه الله‏:‏ ‏﴿‏مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏﴾‏‏‏ ، وقال‏:‏ ‏﴿‏بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ‏﴾‏‏‏؛ فثبت ربنا جل وعلا لنفسه يدين، وخبرنا أن لبني آدم يدين‏.‏

أفيلزم عند هؤلاء الفسقة أن من يثبت ما ثبته الله في هذه؛ أن يكون مشبها خالقه بخلقه‏؟‏‏!‏ حاش لله أن يكون هذا تشبيها كما ادعوا لجهلهم بالعلم‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى كلامه‏.‏

هذا مما رد به إمام الأئمة محمد بن خزيمة على الجهمية وتلاميذهم، وهو رد مفحم، لا يستطيعون الإجابة عنه‏.‏

وقد رد عليهم أيضا كبار الأئمة من أمثال الإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم، ولا تزال ردودهم والحمد لله بأيدي أهل السنة والجماعة‏.‏

ونسوق من ذلك نموذجا من رد شيخ الإسلام ابن تيمية على طائفة من هؤلاء زعمت أن النصوص التي وردت في الكتاب والسنة في صفات الله عز وجل هي من قبيل المتشابه الذي استأثر الله بعلمه ولا يعلم معناه إلا هو؛ فهذه النصوص بزعمهم ليست على ظاهرها؛ لأن ظاهرها عندهم التشبيه، بل لها معنى لا يعلمه إلا الله، فيفوضون معناها إلى الله، ويزعمون أن هذه طريقة السلف، وقد كذبوا على السلف، ونسبوا إليهم ما هم براء منه؛ لأن عقيدة السلف إثبات صفات الله عز وجل كما دل عليها الكتاب العزيز والسنة النبوية، وأنها على ظاهرها، ويفسرون معناها على ما يليق بجلال الله، ولا يفوضونها، بل وهي عندهم من المحكم لا من المتشابه‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏"‏وأما على قول أكابرهم- يعني نفاة الصفات- إن معاني هذه النصوص لا يعلمه إلا الله، إن معناها الذي أراده الله بها هو ما يوجب صرفها عن ظواهرها؛ فعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ولا الملائكة ولا السابقون الأولون، وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلاما لا يعقلون معناه‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

إلى أن قال رحمه الله‏:‏ ‏"‏ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء إذا كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدى .وبيانا للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا؛ فأشرف ما فيه- وهو ما أخبر به الرب عن صفاته أو عن كونه خالقا لكل شيء وهو بكل شيء عليم، أو عن كونه أمر ونهى ووعد وتوعد، أو ما أخبر به عن اليوم الآخر- لا يعلم أحد معناه؛ فلا يعقل، ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاع المبين‏"‏‏.‏

وقال رحمه الله نافيا هذا القول عن السلف‏:‏ ‏"‏وأما إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله؛ فنقول‏:‏ ما الدليل على ذلك‏؟‏ فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة ولا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية؛ يعني‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ‏﴾‏‏‏ الآية، ونفى أن يعلم أحد معناه، وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة، قالوا في أحاديث الصفات‏:‏ تُمَر كما جاءت، ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها، التي مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه، ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية، ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها؛ فهذا اتفاق من الأئمة على أنهم يعلمون معنى هذا، وأن لا يسكت عن بيانه وتفسيره، بل يبين ويفسر باتفاق الأئمة من غير تحريف له عن مواضعه أو إلحاد في أسماء الله وآياته‏.‏

هذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وحكاه عن الأئمة والسلف؛ أنهم لا يجعلون نصوص الصفات من المتشابه الذي لا يفهم معناه ويجب تفويضه، بل كانوا يعلمون معاني هذه النصوص ويفسرونها، وإنما يفوضون علم كيفيتها إلى الله عز وجل؛ كما قال الإمام مالك وغيره‏:‏ ‏"‏الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة‏"‏‏.‏

قال الإمام ابن كثير رحمه الله‏:‏ وأما قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏﴾‏‏‏؛ فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا، ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مسلك السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا، وهو إمرارها كما جاءت؛ من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله؛ فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، ‏﴿‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏﴾‏‏‏ ، بل الأمر كما قال الأئمة؛ منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري؛ قال‏:‏ من شبه الله بخلقه؛ فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه؛ فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه؛ فمن أثبت لله ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله ونفى عن الله تعالى النقائص؛ فقد سلك سبيل الهدى‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى‏.‏

هذا مذهب السلف في أسماء الله وصفاته، وهو إثباتها كما جاءت في الكتاب والسنة؛ من غير تشبيه لها بصفات المخلوقين، ومن غير تعطيل ونفي لها، بل إثبات بلا تشبيه، وتنزيه لله بلا تعطيل، على حد قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏﴾‏‏‏؛ فمن نسب إلى السلف أن مذهبهم التفويض؛ فقد كذب وافترى عليهم ورماهم بما هم بريئون منه‏.‏

نسأل الله العفو والعافية‏.‏

 أصول العقيدة:

 ‏‏ الإيمان بالملائكة:

الإيمان بالملائكة هو أحد أركان الإيمان الستة؛ كما جاء في حديث جبريل؛ حيث قال‏:‏ ‏"‏الإيمان‏:‏ أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره‏"‏‏.‏[رواه مسلم من حديث عمر رضي الله عنه ]

وقد جاء ذكر الإيمان بالملائكة مقرونا بالإيمان بالله في كثير من الآيات القرآنية‏:‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وكما في قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

والإيمان بالملائكة يتضمن التصديق بوجودهم، وأنهم عباد مكرمون، خلقهم الله لعبادته وتنفيذ أوامره، والإيمان بأصنافهم وأوصافهم وأعمالهم التي يقومون بها حسبما ورد في الكتاب والسنة، والإيمان بفضلهم ومكانتهم عند الله عز وجل‏.

‏ وقد ورد في ‏"‏صحيح مسلم‏"‏‏:‏ أن الله خلقهم من نور‏.‏

ومما يدل على فضلهم وشرفهم‏:‏

- أن الله يضيفهم إليه إضافة تشريف؛ كقوله‏:‏ ‏﴿‏إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ‏﴾‏‏‏ ، وقوله‏:‏ ‏﴿‏كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ‏﴾‏‏‏ ، وقوله‏:‏ ‏﴿‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ‏﴾‏‏‏ ، وقوله‏:‏ ‏﴿‏مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

- ويقرن سبحانه شهادتهم مع شهادته وصلاتهم مع صلاته؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ‏﴾‏‏‏ ، وقوله‏:‏ ‏﴿‏إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

- ويصفهم سبحانه بالكرم والإكرام؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ‏﴾‏‏‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ‏﴾‏‏‏ ، وقوله‏:‏ ‏﴿‏بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

- ويصفهم بالعلو والتقريب؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى‏﴾‏‏‏ ، وفي قوله‏:‏ ‏﴿‏يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

- ويذكر حملهم للعرش وحفهم به؛ كما في قوله‏:‏ ‏﴿‏الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ‏﴾‏‏‏ ، وقوله‏:‏ ‏﴿‏وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

- ويذكر سبحانه أنهم عنده ويعبدونه ويسبحونه؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ‏﴾‏‏‏ ، وقوله‏:‏ ‏﴿‏فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

- وهم بالنسبة إلى الأعمال التي يقومون بها أصناف‏:

- فمنهم حملة العرش؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ‏﴾‏‏‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

- ومنهم المقربون؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

- ومنهم الموكلون بالجنان وإعداد الكرام؛ لأهلها‏.‏

- ومنهم الموكلون بالنار وتعذيب أهلها، وهم الزبانية، ومقدموهم تسعة عشر، وخازنها مالك، وهو مقدم الخزنة؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ‏﴾‏‏‏ ، وقوله‏:‏ ‏﴿‏وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ‏﴾‏‏‏ ، وقوله ‏﴿‏وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ‏﴾‏‏‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

- ومنهم الموكلون بحفظ بني آدم في الدنيا؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ‏﴾‏‏‏ الآية؛ أي‏:‏ معه ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه؛ فإذا جاء قدر الله؛ خلوا عنه‏.‏

- ومنهم الموكلون بحفظ أعمال العباد وكتابتها؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏﴾‏‏‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ‏﴾‏‏‏ ، وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار‏)‏؛ فمع الإنسان ملائكة يحفظونه من المؤذيات، وملائكة يحفظون عليه أعماله وما يصدر منه‏.‏

ومن الملائكة من هو موكل بالرحم وشأن النطفة؛ كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات؛ يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد‏"‏‏.‏

ومنهم ملائكة موكلون بقبض الأرواح؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ‏﴾‏‏‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ‏﴾‏‏‏؛ فملك الموت له أعوان من الملائكة؛ يستخرجون روح العبد من جسمه حتى تبلغ الحلقوم، فيتناولها ملك الموت‏.‏

والمقصود أن الله وكل بالعالم العلوي والسفلي ملائكة تدبر شئونهما بإذنه وأمره ومشيئته سبحانه وتعالى؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ‏﴾‏‏‏ ، وقوله‏:‏ ‏﴿‏لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏﴾‏‏‏؛ فلهذا يضيف سبحانه التدبير إلى الملائكة تارة لكونهم المباشرين له؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا‏﴾‏‏‏ ، ويضيف إليه التدبير تارة؛ كقوله‏:‏ ‏﴿‏يُدَبِّرُ الْأَمْرَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

فالملائكة رسل الله في خلقه وأمره، واسم الملك يتضمن أنه رسول؛ لأنه من الألوكة؛ بمعنى الرسالة، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ‏﴾‏‏‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا‏﴾‏‏‏؛ فهم رسل الله في تنفيذ أمره الكوني الذي يدبر به السماء والأرض، وهم رسله في تدبير أمره الديني الذي تنزل به على الرسل من البشر؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ‏﴾‏‏‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وأعظمهم جبريل عليه السلام، وهو أمين الوحي؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ‏﴾‏‏‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقد أعطى الله الملائكة قدرة على التشكل بأشكال مختلفة؛ فقد جاءوا إلى إبراهيم ولوط عليهما السلام بصورة أضياف، وكان جبريل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صفات متعددة‏:‏ تارة يأتي في صورة دحية الكلبي، وتارة في صورة أعرابي، وتارة في صورته التي خلق عليها، وقد وقع منه هذا مرتين، وذلك لأن البشر لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته، ولما اقترح المشركون أن يرسل الله إليهم ملكا؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ لو بعثنا إلى البشر رسولا ملكيا؛ لكان على هيئة الرجل؛ ليمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ عنه؛ لأن كل جنس يأنس بجنسه، وينفر من غير جنسه‏.‏

 فالإيمان بالملائكة في الجملة يتناول أموراً أربعة ثبتت في الكتاب والسنة، هي:

 1- الإيمان بأسمائهم:

 فنؤمن بالأسماء الُمجْمَلة التي تتناول الملائكة عموماً، مثل: الملائكة، ورسل الله، وجند الله ، ونؤمن بالأسماء المفصلة لآحادهم وأفرادهم، مثل: جبريل، ومنكر ونكير، وإسرافيل، ومالك.

 2- الإيمان بأعدادهم:

فنؤمن إجمالاً بأنَّ عددهم كثير، لا يحصيهم إلا الذي خلقهم، قال تعالى "وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ" ، ونؤمن بالأعداد التفصيلية للملائكة مما ثبت في الكتاب أو السنة، ومن ذلك قول الله تعالى: "عليها تسعة عشر "، وهؤلاء رؤوس الملائكة الذين هم خَزَنة جهنم، ويرأس الجميع مالك.

 3- الإيمان بأوصافهم:

 فنؤمن إجمالاً أنَّهم مخلوقون من نور، وأنَّ لهم أجنحة، كما قال تعالى: "جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ".

ونؤمن بالصفات التفصيلية التي وردت، ومن ذلك ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه  :" أَنَّ النَّبِيَّ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ". [مسلم: 174]

 4- الإيمان بوظائفهم:

 فنؤمن إجمالاً بأنَّهم جند الله ورسله، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، ونؤمن بوظائفهم التفصيلية: كقبض الأرواح، والنزول بالوحي، والنفخ في الصور، وغيرها من الوظائف الثابتة في الكتاب والسنة فوجب على كل مُوَحِّد :

أن يُقر بوجودهم وأن عدم رؤيتنا لهم لا تنفي وجودهم ، وأن هذا من تمام الإيمان بالغيب .

احترامهم وتوقيرهم وعدم الاستخفاف أو الاستهزاء منهم لأن من فعل ذلك يكفر بالإجماع ، وقد نقل الإجماع على ذلك القاضي عياض .

أن يؤمن بكل ما ورد في حقهم في الكتاب والسنة الصحيحة الثابتة .

أن يؤمن بمن سَمَّى الله لنا منهم بأعيانهم ، أما من جهلنا أسماءهم فالواجب الإيمان بهم إجمالًا

أن يتشبه المسلم بهم ، "فإن التَّشبه بالملائكة مشروع لأنَّهم من جملة من أمرنا بطلب الهداية إلى صراطهم في قراءة الفاتحة فجواز التخلق بأخلاق الملائكة عليهم السَّلام والتَّشبه بهم أولى ، ولقد عاب الله تعالى إبليس الرَّجيم بتأخره عن التَّشبه بالملائكة عليهم السَّلام، وعاتبه على ذلك، ووبخه به، ولعنه".

 وحين يحقق العبدُ الإيمانَ بهذا الركن الركين من أركان الإيمان فإنه يُثمرُ لديه عدة ثمرات :

 1- تحقيق ركن ركين من أركان الإيمان:

 إذ هو الركن الثاني بعد الإيمان بالله ، ولا يتحقق الإيمان بالله إلا بالإيمان بهم ، والإيمان بهم هو طريق الفلاح ، لأنه من الغيب ولا فلاح ولا نجاح لمن لا يؤمن بالغيب ، كماقال تعالى واصفًا المتقين في فاتحة سورة البقرة: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[البقرة :3-5[

 2- أننا بإيماننا بهم نكون قد أفردنا الله تعالى بالربوبية والألوهية:

فإن التدبر في صفاتهم وأعمالهم لَمِن أكبر الدواعي إلى تعظيم الله تعالى يزداد الإيمان عن طريق معرفة الكثير من أسرار الكون واستشعار عظمة الخالق الفوز بالطمأنينة والأمن عن طريق الإيمان بأن الله قد وكل بنا ملائكة يحفظوننا بأمره فيحصل لنا الأمن والهدى والرضا بالقضاء .

1- محبة الأعمال الصالحة والأماكن الشريفة إذ تحبها الملائكة وهم يحبون أهلها .

2- غض البصر عن المعاصي وما تكرهه الملائكة من أفعال وأقوال حين تعلم أنهم لا يفارقونك ويكتبون كل ما تفعله وتقوله.

3- الاقتداء بهم في أعمالهم ( كالصَّفِّ في الصلاة ) وفي أخلاقهم الكريمة .

4- شُكر نعمة الله تعالى على تلك النعمة الجليلة بإرسالهم إلينا ، فلو أن الله تعالى خَلَّى بيننا وبين الشياطين لهلكنا .

5- أن من يؤمن بهم حقًا سيجد في قلبه دوافع تدفعه إلى الاستقامة .

6- المؤمن بهم سيجد في قلبه خجلا يعتريه إذا أقدم على فعل معصية حين يدرك أنه مُراقَبٌ وأن كل ما يفعله مكتوبٌ مشهودٌ .

7- زيادة النشاط والجِد وعدم التواني في فعل الطاعات حين يعلم أن الملائكة الذين لا يعصون الله تعالى طرفة عين لا يفترون عن العبادة منذ خلقهم الله .

8- دفع الغرور عن النفس حين يعلم أن الملائكة مع اجتهادهم الشديد السَّرْمَدِي فإنهم لا يفاخرون بأعمالهم ولا هم يستكبرون .

 9- محبة العبد للملائكة إذ أنهم سبب من أسباب الخير الذي يحياه المؤمن ، وتلك المحبة تُثمر حب الله تعالى .

 أصول العقيدة

 الإيمان بالكتب:

الإيمان بالكتب الإلهية هو أحد أصول الإيمان وأركانه‏.‏

والإيمان بها هو التصديق الجازم بأنها حق وصدق، وأنها كلام الله عز وجل؛ فيها الهدى والنور والكفاية لمن أنزلت عليهم‏.‏

نؤمن بما سمى الله منها، وهي القرآن والتوراة والإنجيل والزبور، وما لم يسم منها؛ فإن لله كتبا لا يعلمها إلا هو سبحانه‏.

 ‏ والإيمان بالكتب يتضمن أربعة أمور :

الأول: التصديق الجازم بأن جميعها منزَّل من عند الله ، وأن الله تكلم بها حقيقة فمنها المسموع منه تعالى من وراء حجاب بدون واسطة الرسول الملكي ، ومنها ما بلغه الرسول الملكي إلى الرسول البشري ، ومنها ما كتبه الله تعالى بيده كما قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾  [الشورى/51] وقال تعالى  ﴿  وكلم الله موسى تكليما ﴾   [النساء/164]

وقال تعالى في شأن التوراة: ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف/145] .

 الثاني: ما ذكره الله من هذه الكتب تفصيلا وجب الإيمان به تفصيلا وهي الكتب التي سماها الله في القرآن وهي :"القرآن والتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى".

وما ذكر منها إجمالا وجب علينا الإيمان به إجمالا فنقول فيه ما أمر الله به رسوله: ﴿ وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب﴾   [الشورى :51] .

الثالث: تصديق ما صح من أخبارها ، كأخبار القرآن ، وأخبار ما لم يُبَدل أو يُحَرف من الكتب السابقة .

الرابع: الإيمان بأن الله أنزل القرآن حاكما على هذه الكتب ومصدقا لها كما قال تعالى: ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) [المائدة/48] ، قال أهل التفسير: مهيمنا: مؤتمنا وشاهدا على ما قبله من الكتب ، ومصدقا لها يعني: يصدق ما فيها من الصحيح ، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير ، ويحكم عليها بنسخ ـ أي رفع وإزالة ـ أحكام سابقة ، أو تقرير وتشريع أحكام جديدة؛ ولهذا يخضع له كل متمسك بالكتب المتقدمة ممن لم ينقلب على عقبيه كما قال تبارك وتعالى: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُون . وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ) [القصص :52 -53] .

وأن الواجب على جميع الأمة اتباع القرآن ظاهراً وباطناً والتمسك به ، والقيام بحقه  كما قال تعالى: ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا ) الأنعام/155

ومعنى التمسك بالكتاب والقيام بحقه: إحلال حلاله ، وتحريم حرامه ، والانقياد لأوامره والانزجار بزوا جره والاعتبار بأمثاله ، والاتعاظ بقصصه ، والعلم بمحكمه ، والتسليم بمتشابهه والوقوف عند حدوده والذب عنه مع حفظه وتلاوته وتدبر آياته والقيام به آناء الليل والنهار ، والنصيحة له بكل معانيها ، والدعوة إلى ذلك على بصيرة .

وهذا الإيمان يُثمر للعبد ثمرات جليلة أهمها :

1- العلم بعناية الله بعباده حيث أنزل لكل قوم كتابا يهديهم به .

2- العلم بحكمة الله تعالى في شرعه حيث شرع لكل قوم ما يناسب أحوالهم كما قال الله تعالى: ﴿ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ﴾

3- القيام بواجب شكر الله على هذه النعمة العظيمة .

4- أهمية العناية بالقرآن العظيم ، بقراءته وتدبره وتفهم معانيه والعمل به 

وإنزال الكتب من رحمة الله بعباده لحاجة البشرية إليها؛ لأن عقل الإنسان محدود، لا يدرك تفاصيل النفع والضرر، وإن كان يدرك الفرق بين الضار والنافع إجمالا‏.‏

والعقل الإنساني أيضا تغلب عليه الشهوات، وتلعب به الأغراض والأهواء؛ فلو وكلت البشرية إلى عقولها القاصرة؛ لضلت وتاهت، فاقتضت حكمة الله ورحمته أن ينزل هذه الكتب على المصطفين من رسله؛ ليبينوا للناس ما تدل عليه هذه الكتب وما تتضمنه من أحكامه العادلة ووصاياه النافعة وأوامره ونواهيه الكفيلة بإصلاح البشرية‏.‏

قال تعالى حين أهبط آدم أبي البشرية من الجنة‏:‏ ‏﴿‏فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

 وقد انقسم الناس حيال الكتب السماوية إلى ثلانة أقسام‏:‏

1- قسم كذب بها كلها، وهم أعداء الرسل من الكفار والمشركين والفلاسفة‏.‏

2- وقسم آمن بها كلها، وهم المؤمنون الذين آمنوا بجميع الرسل وما أنزل إليهم؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ‏﴾‏‏‏ ‏

3- وقسم آمن ببعض الكتب وكفر ببعضها، وهم اليهود والنصارى ومن سار على نهجهم، الذين يقولون‏:‏ ‏﴿‏نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ‏﴾‏‏‏ ، بل هؤلاء يؤمنون ببعض كتابهم ويكفرون ببعضه؛ كما قال تعالى فيهم‏:‏ ‏﴿‏أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

ولا شك أن الإيمان ببعض الكتاب أو ببعض الكتب والكفر بالبعض الآخر كفر بالجميع؛ لأنه لابد من الإيمان بجميع الكتب السماوية وبجميع الرسل؛ لأن الإيمان لابد أن يكون مؤتلفا جامعا لا تفريق فيه ولا تبعيض ولا اختلاف، والله تعالى ذم الذين تفرقوا واختلفوا في الكتاب؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ‏﴾‏‏‏.

وسبب كفر من كفر بالكتب أو كفر ببعضها أو ببعض الكتاب الواحد هو اتباع الهوى والظنون الكاذبة، وزعمهم أن لهم العقل والرأي والقياس العقلي، ويسمون أنفسهم بالحكماء والفلاسفة، ويسخرون من الرسل وأتباعهم، ويصفونهم بالسفه؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وأما أتباع الرسل فإنهم يؤمنون بكل كتاب أنزله الله، لا يفرقون بينها‏.‏

والإيمان بالكتب السابقة إيمان مجمل؛ يكون بالإقرار به بالقلب واللسان، أما الإيمان بالقرآن؛ فإنه إيمان مفصل؛ يكون بالإقرار به بالقلب واللسان، واتباع ما جاء فيه، وتحكيمه في كل كبيرة وصغيرة، والإيمان بأنه كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود‏.‏

وقد اقتضت حكمة الله أن تكون الكتب السابقة لآجال معينة ولأوقات محددة، ووكل حفظها إلى الذين استحفظوا عليها من البشر؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ‏﴾‏‏‏ ، أما القرآن الكريم؛ فقد أنزله الله لكل الأجيال من الأمم في كل الأوطان إلى يوم القيامة، وتولى حفظه بنفسه؛ لأن وظيفة هذا الكتاب لا تنتهي إلا بنهاية حياة البشر على الأرض؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏﴾‏‏‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

ويجب تحكيم هذا القرآن في جميع الخلافات، ويجب رد جميع النزاعات إليه‏.‏

وقد جعل الله التحاكم إلى غير كتابه تحاكما إلى الطاغوت؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ‏﴾‏‏‏ ، والطاغوت‏:‏ فعلوت من الطغيان، وهو مجاوزة الحد‏.‏

وقد ذم الله المدعين للإيمان بالكتب كلها وهم يتركون التحاكم إلى الكتاب والسنة ويتحاكمون إلى بعض الطواغيت‏.‏

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏وما حكم قوم بغير ما أنزل الله؛ إلا وقع بأسهم بينهم‏"‏‏.‏[صحيح الترغيب 2187]

 وهذا من أعظم أسباب تغيير الدول ونشوب الفتن والتناحر بين الشعوب؛ لأن الإيمان بالكتاب يوجب التحاكم إليه؛ فمن ادعى الإيمان بالكتاب وهو يتحاكم إلى غيره؛ فهو متناقض في دعواه، والكتاب لا يتجزأ؛ فيجب تطبيقه كله والعمل به كله في كل المجالات؛ في العقائد والعبادات والمعاملات، وفي الأحوال الشخصية والجنايات والحدود، وفي الآداب والسلوك‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ‏﴾‏‏‏ ، ‏﴿‏وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏﴾‏‏‏ ، ‏﴿‏وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا‏﴾‏‏‏؛ فنفى الإيمان نفيا مؤكدا بالقسم عمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النزاع، مع انشراح صدره وانقياده لحكم الله؛ كما وصف من لم يحكم بما أنزل الله بالكفر والظلم والفسق، وإن ادعى الإيمان والعدالة والعدل‏.‏

فتبا لقوم استبدلوا كتاب الله بالقوانين الوضعية الطاغوتية وهم يدعون الإيمان؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

 أصول العقيدة:

 الإيمان بالرسل:

الإيمان بالرسل أحد أصول الإيمان؛ لأنهم الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ رسالاته وإقامته حجته على خلقه‏.‏

والإيمان بهم يعني‏:‏التصديق الجازم بأن الله تعالى: بعث في كل أمةٍ رسولاً يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له والكفر بما يعبد من دونه، وأَنَّ جميعهم صادقون مصدقون بارُّون راشدون كرام بررة أتقياء أمناء هداة مهتدون، وبالبراهين الظاهرة والآيات الباهرة من ربهم مؤيدون، وأنهم بلَّغوا جميع ما أرسلهم الله به، لم يكتموا حرفاً ولم يغيروه ولم يزيدوا فيه من عند أنفسهم حرفاً ولم ينقصوه، فهل على الرسل إلا البلاغ المبين.وأنهم كلهم كانوا على الحق المبين، والهدى المستبين

وأن الله تعالى فضل بعضهم على بعض ورفع بعضهم على بعض درجات.

 وقد اتفقت دعوتهم من أولهم إلى آخرهم في أصل الدين وهو توحيد الله عز وجل بإلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، ونفي ما يضاد ذلك أو ينافي كماله كما تقدم ذلك في تقرير توحيد الطلب والقصد.

 وأما فروع الشرائع من الفرائض والحلال والحرام فقد تختلف فيفرض على هؤلاء ما لا يفرض على هؤلاء ويُخفف على هؤلاء ما شدد على أولئك ويحرم على أمة ما يحل للأخرى وبالعكس لحكمة بالغة وغاية محمودة قضاها ربنا عز وجل ليبلوكم فيما آتاكم، وليبلوكم أيكم أحسن عملا. وقد ذكر الله تعالى في كتابه منهم: آدم ونوحا وإدريس وهودا وصالحا وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف ولوطا وشعيبا ويونس وموسى وهارون وإلياس وزكريا ويحيى واليسع وذا الكفل وداود وسليمان وأيوب، وذكر الأسباط جملة، وعيسى ومحمداً صلى الله عليه وسلم، وقص علينا من أنبائهم ونبَّأنا من أخبارهم ما فيه كفاية وعبرة وموعظة إجمالاً وتفصيلاً ثم قال و﴿َرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ﴾ [النساء:164] وقال تعالى﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ﴾  ]غافر:78[  فنؤمن بجميعهم تفصيلاً فيما فصل وإجمالاً فيما أجمل .

 والأدلة على وجوب الإيمان بالرسل كثيرة؛ منها‏:

قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا‏﴾‏‏‏ ‏.‏

ففي هذه الآيات قَرَن اللهُ الإيمان بالرسل بالإيمان به سبحانه وبملائكته وكتبه، وحكم بكفر من فرق بين الله ورسله؛ فآمن ببعض وكفر ببعض‏.‏

وبعث الرسل نعمة من الله على البشرية؛ لأن حاجة البشرية إليهم ضرورية؛ فلا تنتظم لهم حال ولا يستقيم لهم دين إلا بهم؛ فهم يحتاجون إلى الرسل أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الله سبحانه جعل الرسل وسائط بينه وبين خلقه في تعريفهم بالله وبما ينفعهم وما يضرهم، وفي تفصيل الشرائع والأمر والنهي والإباحة، وبيان ما يحبه الله وما يكرهه؛ فلا سبيل إلى معرفة ذلك إلا من جهة الرسل؛ فإن العقل لا يهتدي إلى تفصيل هذه الأمور، وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وحاجة العباد إلى الرسالات أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطبيب؛ فإن غاية ما يحصل بعدم وجود طبيب تضرر البدن، والذي يحصل من عدم الرسالة هو تضرر القلوب، ولا بقاء لأهل الأرض إلا ما دامت آثار الرسالة موجودة فيهم؛ فإذا ذهبت آثار الرسالة من الأرض؛ أقام الله القيامة‏.‏

والرسل الذين ذكر الله أسماءهم في القرآن يجب الإيمان بأعيانهم وهم خمسة وعشرون، منهم ثمانية عشر ذكرهم الله في قوله‏:‏ ‏﴿‏وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ‏﴾‏‏‏ إلى قوله‏:‏ ‏﴿‏وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ‏﴾‏‏‏ ، والباقون- وهم سبعة- ذكروا في آيات متفرقة‏.‏

ومن لم يسم في القرآن من الرسل؛ وجب الإيمان به إجمالا؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ‏﴾‏‏‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

والواجب علينا تجاه ذلك:

1- تصديقهم جميعًا فيما جاءوا به، وأنهم مرسلون من ربهم، مبلغون عن الله ما أمرهم الله بتبليغه لمن أرسلوا إليهم وعدم التفريق بينهم في ذلك.

قال عز وجل ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾[النساء:150،151] ، فيجب تصديق الرسل فيما جاءوا به من الرسالات وهذا مقتضى الإيمان بهم. ومما يجب معرفته أنه لا يجوز لأحد من الثقلين متابعة أحدٍ من الرسل السابقين بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث للناس كافة، إذْ أن شريعته جاءت ناسخة لجميع شرائع الأنبياء قبله, فلا دين إلا ما بعثه الله به ولا متابعة إلا لهذا النبي الكريم. قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85]  ، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾  [سبأ: 28] وقال تعالى ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعا﴾ [الأعراف: 158].

2- موالاتهم جميعًا ومحبتهم والحذر من بغضهم وعداوتهم:

قال تعالى ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ ]المائدة: 56.[ وقال تعالى﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾]  التوبة: 71[

فتضمنت الآية وصف المؤمنين بموالاة بعضهم لبعض فدخل في ذلك رسل الله الذين هم أكمل المؤمنين إيمانًا, وعليه فإن موالاتهم ومحبتهم في قلوب المؤمنين هي أعظم من موالاة غيرهم من الخلق لعلو مكانتهم في الدين ورفعة درجاتهم في الإيمان.

ولذا حذر الله من معاداة رسله وعطفها في الذكر على معاداة الله وملائكته, وقرن بينهما في العقوبة والجزاء. فقال عز من قائل ﴿َنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ

 عَدُوٌّلِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة:98] 3- اعتقاد فضلهم على غيرهم من الناس، وأنه لا يبلغ منزلتهم أحد من الخلق مهما بلغ من الصلاح والتقوى, إذ الرسالة اصطفاء من الله يختص الله بها من يشاء من خلقه, ولا تنال بالاجتهاد والعمل. قال تعال﴿ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾]الحج: 75[

 وقال تعالى﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾  ]الأنعام: 83 ] ، إلى أن قال بعد ذكر طائفة كبيرة من الأنبياء والمرسلينوَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ "[الأنعام: 86 ].

كما دلت السنة أيضًا على أن منزلة الرسل لا يبلغها أحد من الخلق لما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال"من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب" قال بعض شراح الحديث: (إنه صلى الله عليه وسلم قال هذا زجرًا أن يتخيل أحد من الجاهلين شيئًا من حط مرتبة يونس صلى الله عليه وسلم من أجل ما في القرآن العزيز من قصته) يريد قوله تعالى ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [ الأنبياء: 87، 88]

4- اعتقاد تفاضلهم فيما بينهم وأنهم ليسوا في درجة واحدة بل فضل الله بعضهم على بعض.

 قال تعالى﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾] البقَرة: 253[

 قال الطبري في تفسير الآية: (يقول تعالى ذكره: هؤلاء رسلي فضلت بعضهم على بعض، فكلمت بعضهم كموسى صلى الله عليه وسلم, ورفعت بعضهم درجات على بعض بالكرامة ورفعة المنزلة). فإنزال كل واحد منهم منزلته في الفضل والرفعة بحسب دلالات النصوص من جملة حقوقهم على الأمة. 5- الصلاة والسلام عليهم فقد أمر الله الناس بذلك وأخبر الله بإبقائه الثناء الحسن على رسله وتسليم الأمم عليهم من بعدهم. قال تعالى عن نوح﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات: 78، 79]

وقال عن خليله إبراهيم﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾[الصافات: 108، 109] ، وقال عن موسى وهارون﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ﴾ ]الصافات: 119، 120.[

 وهنا مسألة تحتاج إلى بيان وهي‏:‏ الفرق بين النبي والرسول‏:‏

فالفرق بين النبي والرسول على المشهور ‏:‏

 أن الرسول إنسان ذكر أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه‏.‏ والنبي إنسان ذكر أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه‏ ، وهذا تعريف مشهور لكنه غير صحيح ، قال الشيخ الشنقيطي في تفسيره:" وَآيَةُ الْحَجِّ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ﴾ تُبَيِّنُ أَنَّ مَا اشْتُهِرَ عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ هُوَ مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَحْيٌ ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ ، وَأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ النَّبِيُّ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ ، غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ .. الْآيَةَ ، يَدُلُّ عَلَى أَنْ كُلًّا مِنْهُمَا مُرْسَلٌ ، وَأَنَّهُمَا مَعَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا تَغَايُرٌ".

وكل من النبي والرسول يوحى إليه، لكن النبي قد يُبعث في قومٍ مؤمنين بشرائع سابقة؛ كأنبياء بني إسرائيل؛ يأمرون بشريعة التوراة، وقد يوحى إلى أحدهم وحي خاص في قصة معينة‏.‏ وأما الرسل؛ فإنهم يبعثون في قوم كفار يدعونهم إلى توحيد الله وعبادته؛ فهم يرسلون إلى مخالفين فيكذبهم بعضهم‏.‏

ويفترقان في كون الرسول مأمور بتبليغ رسالة ما إلى أمة من الأمم المكذبين، وأما النبي فهو مأمور بالبلاغ والدعوة ، دون أن يكون هناك رسالة مستقلة إلى أمة جديدة من الأمم المكذبة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية :"فالنبي هو الذي ينبئه الله ، وهو يُنبئ بما أنبأ الله به؛ فإن أُرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله،  ليبلغه رسالة من الله إليه؛ فهو رسول .

وأما إذا كان ، إنما يعمل بالشريعة قبله ، ولم يُرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة؛ فهو نبي ، وليس برسول؛ قال تعالى﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ في أُمْنِيَّته﴾[ الحج/52] .

والرسول أفضل من النبي‏ والرسل يتفاضلون؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وأفضل الرسل أولو العزم، وهم خمسة‏:‏ نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وهم المذكورون في قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا‏﴾‏‏‏ ، وفي قوله‏:‏ ‏﴿‏شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وأفضل أولو العزم الخليلان إبراهيم ومحمد عليهما وعليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام‏.‏

وأفضل الخليلين محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

هذا؛ والنبوة تفضُّل واختيار من الله تعالى؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وليست النبوة كسبا يناله العبد بالجد، والاجتهاد، وتكلف أنواع العبادات، واقتحام أشق الطاعات، والدأب في تهذيب النفس وتنقية الخاطر وتطهير الأخلاق ورياضة النفس؛ كما يقول الفلاسفة‏:‏ إنه يجوز اكتساب النبوة؛ حيث يزعمون أن من لازم المشاهدة بعد كمال ظاهره وباطنه بالتهذيب والرياضة؛ فإنها تنصقل مرآة باطنه، وتفتح له بصيرة لبه، ويتهيأ له ما لا يتهيأ لغيره‏!‏‏!‏

 فللنبوة عند الفلاسفة ثلاث خصائص‏:‏

الأولى‏:‏ القوة العلمية؛ بحيث ينال العلم بدون تعلم بل بطريق القوة‏.‏

الثانية‏:‏ قوة التخيل؛ بحيث يتخيل في نفسه أشكالا نورانية تخاطبه ويسمع الخطاب منها‏.‏

الثالثة‏:‏ قوة التأثير في الناس، وهي التي يسمونها التصرف في هيولى ( محل ) العالم‏.‏

وهذه الصفات عندهم تحصل بالاكتساب‏.‏

ولهذا طلب النبوة بعض المتصوفة؛ فهي عندهم صنعة من الصنائع، وهذا قول باطل، يرد عليه قول الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏﴾‏‏‏ ، وقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

فالنبوة اصطفاء من الله حسب حكمته وعلمه بمن يصلح لها، وليست اكتسابا من قبل العبد‏.‏

صحيح أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام اختصوا بفضائل يمتازون بها عن غيرهم، ولكن ليست على النحو الذي يقوله الفلاسفة الضلَّال‏.‏

 الإيمان بالرسل:

 دلائل النبوة:

دلائل النبوة هي الأدلة التي تعرف بها نبوة النبي الصادق، ويعرف بها كذب المدعي للنبوة من المتنبئين الكذبة؛ لأن هذا موضوع هام جدا‏.‏

ودلائل النبوة كثيرة ومتنوعة وغير محصورة؛ فمنها‏:

1‏-‏ المعجزة‏:‏ وهي اسم فاعل من العجز المقابل للقدرة، وفي القاموس‏:‏ معجزة النبي‏:‏ ما أعجز به الخصم عند التحدي، والهاء فيها للمبالغة، وهي أمر خارق للعادة يجريه الله على يد من يختاره لنبوته ليدل على صدقه وصحة رسالته‏ ، ويقال لها (آية) كذلك هو اسم شامل لكل ما أعطاه الله لأنبيائه للدلالة على صدقهم سواءً أقصد به التحدي أم لم يقصد.‏

- ومعجزات الرسل عليهم الصلاة والسلام كثيرة‏:‏ منها الناقة التي أوتيها صالح عليه السلام حجة على قومه، وقلب النار التي أرادوا أن يحرقوا بها نبي الله إبراهيم لتصبح بردا وسلاما ، وقلب العصا حية آية لموسى عليه السلام، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى آية لعيسى عليه السلام، ومنها معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي كثيرة، أعظمها القرآن الكريم، وهو المعجزة الخالدة التي تحدى الله بها الجن والإنس، ومنها الإسراء والمعراج وانشقاق القمر وتسبيح الحصا في

 كفه عليه الصلاة والسلام وحنين الجذع إليه وإخباره عن حوادث المستقبل والماضي‏.‏‏.‏‏.‏

ودلائل النبوة ليست محصورة في المعجزة كما يقوله المتكلمون، بل هي كثيرة متنوعة؛ فمنها أيضا‏:

2- إخبارهم الأمم بما سيكون من انتصارهم وخذلان أعدائهم وبقاء العاقبة لهم، فوقع كما أخبروا،

 ولم يتخلف منه شيء؛ كما حصل لنوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وموسى ونبينا محمد

 صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين مما قصه الله في كتابه‏.‏

3‏-‏ ومنها أن ما جاءوا به من الشرائع والأخبار في غاية الإحكام والإتقان وكشف الحقائق وهدي الخلق مما يعلم بالضرورة أن مثله لا يصدر إلا عن أعلم الناس وأبرهم‏.‏

4‏- ومنها أن الله يؤيدهم تأييدا مستمرا، وقد علم من سنته سبحانه أنه لا يؤيد الكذاب بمثل ما يؤيد به الصادق، بل لابد أن يفتضح الكذاب، وقد يمهله الله ثم يهلكه‏.‏

5‏- ومنها‏:‏ أن طريقتهم واحدة فيما يأمرون به من عبادة الله والعمل بطاعته والتصديق باليوم الآخر والإيمان بجميع الكتب والرسل؛ فلا يمكن خروج واحد منهم عما اتفقوا عليه؛ فهم يصدق متأخرهم متقدمهم، ويبشر متقدمهم بمتأخرهم؛ كما بشر المسيح ومَن قبله بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكما صدق محمد صلى الله عليه وسلم جميع النبيين قبله‏.‏‏.‏‏.‏

6‏-‏ ومن دلائل النبوة‏:‏ تأييد الله للأنبياء؛ فقد علم من سنة الله وعادته أنه لا يؤيد الكذاب بمثل ما يؤيد به الصادق، بل يفضح الكذاب ولا ينصره، بل لابد أن يهلكه، وإذا نصر ملكا ظالما مسلطا؛ فهو لم يدع النبوة ولم يكذب عليه، بل هو ظالم سلطه الله على ظالم مثله؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏﴾‏‏‏؛ بخلاف من قال‏:‏ إن الله أرسله وهو كاذب؛ فهذا لا يؤيده تأييدا مستمرا، لكن قد يمهله مدة ثم يهلكه‏.‏

والتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما هو دون دعوى النبوة؛ فكيف بدعوى النبوة‏؟‏‏!‏

ومعلوم أن مدعي الرسالة‏:‏ إما أن يكون من أفضل الخلق وأكمله، وإما أن يكون من أنقص الخلق، ولهذا قال أحد أكابر ثقيف للنبي صلى الله عليه وسلم لما بلغهم ودعاهم إلى الإسلام فقال له‏:‏ ‏"‏والله؛ لا أقول لك كلمة واحدة‏:‏ إن كنت صادقا؛ فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك، وإن كنت كاذبا؛ فأنت أحقر من أن أرد عليك‏"‏‏ [سيرة ابن هشام (1/ 419)، ودلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 295).]

 فكيف يشتبه أفضل الخلق وأكملهم بأنقص الخلق وأرذلهم‏؟‏‏!‏

وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين؛ إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر به كذبه لمن له أدنى تمييز، وما من أحد ادعى النبوة من الصادقين؛ إلا وقد ظهر عليه من العلم والصدق والبر وأنواع الخيرات ما ظهر به صدقه لمن له أدنى تمييز؛ فإن الرسول لابد أن يخبر الناس بأمور ويأمرهم بأمور ولابد أن يفعل أمورا، والكاذب يظهر من نفس ما يأمر به ويخبر عنه ويفعله ما يظهر به كذبه من وجوه كثيرة‏.‏

هذا؛ وربما يسأل سائل عن الفرق بين دلائل النبوة وخوارق السحرة والكهان وعجائب المخترعات التي ظهرت اليوم‏؟‏

- والجواب‏:‏ أن هناك فوارق كثيرة بين دلائل النبوة وخوارق السحرة والكهان والمخترعات الصناعية‏:‏

- منها‏:‏ أن أخبار الأنبياء لا يقع فيها تخلف ولا غلط؛ بخلاف أخبار الكهنة والمنجمين؛ فالغالب عليها الكذب، وإن صدقوا أحيانا في بعض الأشياء بسبب ما يحصل عليه الكهان من استراق شياطينهم للسمع‏.‏

- ومنها‏:‏ أن السحر والكهانة والاختراع أمور معتادة معروفة ينالها الإنسان بكسبه وتعلمه؛ فهي لا تخرج عن كونها مقدرة للجن والإنس، ويمكن معارضتها بمثلها؛ بخلاف آيات الأنبياء؛ فإنها لا يقدر عليها جن ولا إنس؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا‏﴾‏‏‏؛ فآيات الأنبياء لا يقدر عليها الخلق، بل الله هو الذي يفعلها آية وعلامة على صدقهم؛ كانشقاق القمر وقلب العصا حية وتسبيح الحصا بصوتٍ يُسمع وحنين الجذع وتكثير الماء والطعام القليل‏.‏‏.‏‏.‏ فهذا لا يقدر عليه إلا الله‏.‏

- ومنها‏:‏ أن الأنبياء مؤمنون مسلمون يعبدون الله وحده بما أمر ويصدقون جميع ما جاءت به الأنبياء، وأما السحرة والكهان والمتنبئون الكذبة؛ فلا يكونون إلا مشركين مكذبين ببعض ما أنزل الله‏.‏

- ومنها‏:‏ أن الفطر والعقول توافق ما جاء به الأنبياء عليهم السلام، وأما السحرة والكهان والدجالون الكذابون؛ فإنهم يخالفون الأدلة السمعية والعقلية والفطرية‏.‏

- ومنها‏:‏ أن الأنبياء جاءوا بما يكمل الفطر والعقول، والسحرة والكهان والكذبة يجيئون بما يفسد العقول والفطر‏.‏

- ومنها‏:‏ أن معجزات الأنبياء لا تحصل بأفعالهم هم، وإنما يفعلها الله عز وجل آية وعلامة لهم؛ كانشقاق القمر وقلب العصا حية والإتيان بالقرآن والإخبار بالغيب الذي يختص الله به‏.‏‏.‏‏.‏ فأمر الآيات إلى الله لا إلى اختيار المخلوق؛ كما قال الله لنبيه عندما طلبوا منه أن يأتي بآية؛ قال‏:‏ ‏﴿‏قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ‏﴾‏‏‏ ، وأما خوارق السحرة والكهان والمخترعات الصناعية؛ فإنها تحصل بأفعال الخلق‏.‏

والفوارق بين آيات الأنبياء وخوارق الكهان كثيرة واضحة، ومن أراد المزيد؛ فليراجع كتاب ‏"‏النبوات‏"‏لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏.‏

 دلائل النبوة:

 معجزة القرآن:

إن أعظم معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو القرآن العظيم؛ لأن كل نبي تكون معجزته مناسبة لحال قومه، ولذلك‏:

لما كان السحر فاشيا في قوم فرعون؛ جاء موسى بالعصا على صورة ما يصنع السحرة لكنها تلقفت ما صنعوا فاحتاروا وانفجعوا وعلموا أن ما جاء به موسى هو الحق وليس من السحر؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ‏﴾‏‏‏ ، ولم يقع ذلك بعينه لغير موسى عليه السلام‏.‏

ولما كان الزمن الذي يعيش فيه عيسى عليه السلام قد فشا فيه الطب؛ جاء المسيح بما حير الأطباء من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص من الداء العضال القبيح ، وخلق من الطين كهيئة الطير فنفخ فيه فكان طيرا بإذن الله، فطاشت عقول الأطباء، وأذعنوا أن ذلك من عند الله عز وجل‏.‏

ولما كانت العرب أرباب الفصاحة والبلاغة وفرسان الكلام والخطابة؛ جعل الله سبحانه معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم هي القرآن الكريم، الذي ‏﴿‏لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ‏﴾‏‏‏ ، وهي المعجزة الباقية الخالدة على مر العصور‏.‏

جاءت المعجزة قرآناً يقرأونه بألسنتهم، ويسمعونه بآذانهم، ويزنونه بموازين كلامهم، ‌فإذا ‌به ‌أبلغ ‌من ‌بليغ ‌الكلام، وأفصح من فصيحه، لا يرتقي إليه بيان, ولا يدركه لسان، فملك البلاغة بألوانها، وجاز الفصاحة بأركانها. وجاءهم بما لا قبل لهم برده، ولا قدرة لهم في دفعه، لا يملكون من أنفسهم معه إرادة، وليست لهم معه مشيئة، إلا أن يضع المعاند أصابعه في أذنيه، ويستغشي ثيابه ويلغو فيه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآَنِ وَالغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصِّلت: 26]، أما من لم يفعل فقد حيل بينه وبين خلافه, فلا يملك إلا أن ينعقد قلبه عليه وهو يجهد في نقضه, ويستقيم لدعوته، وهو يبالغ في رفضه, فلا مفر منه إلا إليه, فقد أخذ بمجامع القلوب, واستولى على جهات النفوس, فما أعجب شأنه, وأعظم أمره.

ويزيدك عجباً لا ينفد أن هذا الكلام لم يأخذ من اللغة صنعتها، ومن الأسلوب جماله، ومن الفصاحة رونقها، ومن البلاغة سموها فحسب، بل أخذ مع هذا كله من المعاني أسماها، ومن المقاصد أعلاها.

جاء بالدين بأصوله, وحججه, وبراهينه, وشريعته, وآدابه, وسائر مقومات الأمة على أكمل وجه، وأحسنه، فهو والله إعجاز في إعجاز.

فقد اختار الله هذه المعجزة الباهرة لخاتمة الرسالات السماوية العامة للناس أجمعين؛ فالقرآن معجزة يطلع عليها الأجيال في كل زمان ويتلونه، فيعلمون أنه كلام الله حقا، وليس كلام البشر، وقد تحدى الله الإنس والجن أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور منه، أو بسورة منه؛ فما استطاع أحد منهم منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا وإلى الأبد أن يأتي أحد بكتاب مثله أو بمثل سورة منه، على الرغم من وجود أعداء كثيرين للرسول صلى الله عليه وسلم ولدين الإسلام في عصور التاريخ‏ ممن أوتوا بلاغة ولسانا وفصاحة وبيان لكنهم عجزوا عن ذلك .

قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُم صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُوهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّت لِلْكَافِرِين‏﴾‏‏‏؛ فالتحدي لا يزال قائما إلى قيام الساعة في قوله‏:‏ ‏﴿‏فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا‏﴾‏‏‏ ‏.‏وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية‏:‏ ‏"‏وهذا التحدي كان بمكة؛ فإن سورة يونس وهود والطور من المكي، ثم أعاد التحدي في المدينة بعد الهجرة، فقال في سورة البقرة -وهي مدنية-‏:‏ ‏﴿‏وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ‏﴾‏‏‏؛

فذكر أمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ قوله‏:‏ ‏﴿‏فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ‏﴾‏‏‏؛ يقول‏:‏ إذا لم تفعلوا؛ فقد علمتم أنه حق؛ فخافوا الله أن تكذبوه، فيحيق بكم العذاب الذي وعده للمكذبين‏.‏

والثاني‏:‏ قوله‏:‏ ‏﴿‏وَلَنْ تَفْعَلُوا‏﴾‏‏‏ ، ولن لنفي المستقبل، فثبت أنهم فيما يستقبل من الزمان لا يأتون بسورة من مثله؛ كما أخبر بذلك‏.‏

وأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول في سورة سبحان- وهي مكية افتتحها بذكر الإسراء وهو كان بمكة بنص القرآن والخبر المتواتر-‏:‏ ‏﴿‏قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا‏﴾‏‏‏؛ أمره أن يخبر بالخبر جميع الخلق؛ معجزا لهم، قاطعا بأنهم إذا اجتمعوا كلهم لا يأتون بمثل هذا القرآن، ولو تظاهروا عليه وتعاونوا على ذلك، وهذا التحدي لجميع الخلق، وقد سمعه كل من سمع القرآن، وعرفه الخاص والعام، وعلم مع ذلك أنهم لم يعارضوه ولا أتوا بسورة من مثله‏.‏

ومن حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم والأمر على ذلك، مع ما علم من أن الخلق كانوا كلهم كفارا قبل أن يبعث، ولما بعث إنما تبعه قليل، وكان الكفار من أحرص الناس على إبطال قوله، مجتهدين بكل طريق ممكن؛ تارة يذهبون إلى أهل الكتاب فيسألونهم عن أمور الغيب حتى يسألوه عنها؛ كما سألوه عن قصة يوسف وأهل الكهف وذي القرنين، ويجتمعون في مجمع بعد مجمع ليتفقوا على ما يقولونه فيه، وصاروا يضربون له الأمثال فيشبهونه بمن ليس بمثله مع ظهور الفرق؛ فتارة يقولون‏:‏ مجنون، وتارة‏:‏ ساحر، وكاهن، وشاعر‏.‏‏.‏‏.‏ إلى أمثال ذلك من الأقوال التي يعلمون هم وغيرهم من كل عاقل يسمعها أنها افتراء عليه‏.‏

فإذا كان قد تحداهم بالمعارضة مرة بعد مرة، وهي تبطل دعواهم؛ فمعلوم أنهم لو كانوا قادرين عليها؛ لفعلوها؛ فإنه مع وجود هذا الداعي التام المؤكد إذا كانت القدرة حاصلة؛ وجب وجود المقدور، ثم هكذا القول في سائر أهل الأرض؛ فهذا يوجب علما مبينا لكل أحد بعجز جميع أهل الأرض عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن بحيلة وبغير حيلة‏.‏ وهذا أبلغ من الآيات التي تكرر جنسها؛ كإحياء الموتى؛ فإن هذا لم يأت أحد بنظيره‏.‏

فإقدامه صلى الله عليه وسلم في أول الأمر على هذا التحدي وهو بمكة وأتباعه قليل على أن يقول خبرا يقطع به أنه لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله في ذلك العصر وفي سائر الأعصار المتأخرة لا يكون إلا مع جزمه بذلك وتيقنه له، وإلا؛ فمع الشك والظن لا يقول ذلك من يخاف أن يظهر كذبه فينفضح فيرجع الناس عن تصديقه، وإذا كان جازما بذلك متيقنا له؛ لم يكن ذلك إلا عن إعلام الله تعالى له بذلك، وليس في العلوم المعتادة أن يعلم الإنسان أن جميع الخلق لا يقدرون أن يأتوا بمثل كلامه إلا إذا علم العالم أنه خارج عن قدرة البشر، والعلم بهذا يستلزم كونه معجزا‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

والقرآن الكريم معجزة من وجوه متعددة؛ من جهة اللفظ، ومن جهة النظم، ومن جهة البلاغة في دلالة اللفظ على المعنى، ومن جهة معانيه التي أمر بها ومعانيه التي أخبر بها عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وملائكته وغير ذلك، ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الغيب المستقبل وعن الغيب الماضي، ومن جهة ما أخبر به عن المعاد، ومن جهة ما بين فيه من الدلائل اليقينية‏.‏

 الإيمان بالرسل:

 عصمة الأنبياء:

العصمة‏:‏ المنعة، والعاصم‏:‏ المانع الحامي، والاعتصام‏:‏ الاسمتساك بالشيء‏.‏

والمراد بالعصمة هنا حفظ الله لأنبيائه من الذنوب والمعاصي‏.‏

اتفقت الأمة على أنَّ الرسل معصومون في تحمّل الرسالة، فلا ينسون شيئاً مما أوحاه الله إليهم إلاّ شيئاً قد نُسخ، وقد تكفل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقرئه فلا ينسى شيئاً مما أوحاه إليه، إلا شيئاً أراد الله أن ينسيه إياه: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىَ إِلاّ مَا شَآءَ اللهُ [الأعلى: 6- 7]، وتكفل له بأن يجمعه في صدره: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة: 16 – 18]

وهم ‌معصومون ‌في ‌التبليغ، فالرسل لا يكتمون شيئاً ممّا أوحاه الله إليهم، ذلك أن الكتمان خيانة، والرسل يستحيل أن يكونوا كذلك، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه﴾ُ [المائدة: 67] ولو حدث شيء من الكتمان أو التغيير لما أوحاه الله، فإن عقاب الله يحلّ بذلك الكاتم المغيّر ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ [الحاقة: 44- 46[.

ومن العصمة ألاّ ينسوا شيئاً مما أوحاه الله إليهم، وبذلك لا يضيع شيء من الوحي، وعدم النسيان في التبليغ داخل في قوله تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىَ﴾ [الأعلى: 6] وما يدل على عصمته في التبليغ قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىَ إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَىَ﴾ [النجم: 3- 4].

كما تجب عصمتهم عن أي شيء يخل بالتبليغ: ككتمان الرسالة، والكذب في دعواها، والجهل بأي حكم أنزل عليهم، والشك فيه، والتقصير في تبليغه؛ وتصور الشيطان لهم في صورة الملك، وتلبيسه عليهم في أول الرسالة فيما بعدها، وتسلطه على خواطرهم بالوساوس؛ وتعمد الكذب في أي خبر أخبروا به عن الله تعالى؛ وتعمد بيان أي حكم شرعي على خلاف ما أنزل عليهم: سواء أكان ذلك البيان بالقول أم بالفعل؛ وسواء أكان ذلك القول خبراً أم غيره.

فذلك كله: قد انعقد الإجماع من أهل الشرائع على وجوب عصمتهم منه -: لدلالة المعجزات التي أظهرها الله على أيديهم (القائمة مقام قوله تعالى: صدق رسلي في كل ما يبلغون عني) عليه. فإنه لو جاز عليهم شيء من ذلك: لأدى إلى إبطال دلالتها. وهو محال.

وقد أمر الله تعالى نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أن يبلغ جميع ما أنزل عليه؛ وبين أنه إن قصر في شيء منه لم يكن مبلغاً رسالته؛ وبين أيضاً أنه قد عصمه من جميع خلقه, ومن أن يهموا بإضلاله، وأن يمنعوه عن أدائها؛ وأنه لو اختلق شيئاً عليه لأهلكه، وأنزل أشد العقاب به.

ثم: إنه تعالى – مع ذلك – قد شهد له بالبلاغ والصدق, وأنه مستمسك بما أمره به، وأنه يهدي إلى الحق وإلى الصراط المستقيم.

وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه بذلك، وبين أنه متمسك بالتبليغ مهما حصل له.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية حاكيا للخلاف ومبينا الراجح في هذه المسألة‏:‏ ‏"‏الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون فيما يخبرون عن الله سبحانه وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة، ولهذا وجب الإيمان بكل ما أوتوه‏:‏كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏﴾‏‏‏ ‏.‏وقال‏ تعالى:‏ ‏﴿‏وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏وقال‏ تعالى:‏ ‏﴿‏آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ‏﴾‏‏‏ ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏وهذه العصمة الثابتة للأنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة؛ فإن النبي هو المنبئ عن الله، والرسول هو الذي أرسله الله تعالى، وكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا، والعصمة فيما يبلغونه عن الله ثابتة؛ فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏"‏وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة؛ فللناس فيه نزاع‏:‏ هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع‏؟‏ ومتنازعون في العصمة من الكبائر والصغائر أو من بعضها‏؟‏ أم هل العصمة إنما هي في الإقرار عليها لا في فعلها‏؟‏ أم لا يجب القول بالعصمة إلا في التبليغ فقط‏؟‏ وهل تجب العصمة من الكفر والذنوب قبل المبعث أو لا‏؟‏

والقول الذي عليه جمهور الناس -وهو الموافق للآثار المنقولة من السلف- إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقا، والرد على من يقول‏:‏ إنه يجوز إقرارهم عليها‏.‏ وحجج القائلين بالعصمة إذا حررت إنما تدل على هذا القول، وحجج النفاة لا تدل على وقوع ذنب أقر عليه الأنبياء‏.‏

فإن القائلين بالعصمة احتجوا بأن التأسي بهم إنما هو مشروع فيما أقروا عليه دون ما نهوا عنه ورجعوا عنه؛ كما أن الأمر والنهي إنما تجب طاعتهم فيما لم ينسخ منه، فأما ما نسخ من الأمر والنهي؛ فلا يجوز جعله مأمورا به ولا منهيا عنه فضلا عن وجوب اتباعه والطاعة فيه‏.‏

وكذلك ما احتجوا به من أن الذنوب تنافي الكمال، أو أنها ممن عظمت عليه النعمة أقبح، أو أنها توجب التغيير، أو نحو ذلك من الحجج العقلية‏.‏‏.‏‏.‏ فهذا إنما يكون مع البقاء على ذلك وعدم الرجوع، وإلا؛ فالتوبة النصوح التي يقبلها الله يرفع بها صاحبها إلى أعظم مما كان عليه؛ كما قال بعض السلف‏:‏ كان داود عليه السلام بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة‏.‏ وقال آخر‏:‏ لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه؛ لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه.

وقد ثبت في الصحاح حديث التوبة‏:‏ ‏(‏لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا‏)[ متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه ]‏ إلى أن قال‏:‏ ‏"‏وفي الكتاب والسنة الصحيحة والكتب التي أنزلت قبل القرآن مما يوافق هذا القول ما يتعذر إحصاؤه، والرادون لذلك تأولوا ذلك بمثل تأويلات الجهمية والقدرية والدهرية لنصوص الأسماء والصفات ونصوص القدر ونصوص المعاد، وهي من جنس تأويلات القرامطة الباطنية التي يعلم بالاضطرار أنها باطلة وأنها من باب تحريف الكلم عن مواضعه، وهؤلاء يقصد أحدهم تعظيم الأنبياء فيقع في تكذيبهم، ويريد الإيمان بهم فيقع في الكفر بهم‏.‏

ثم إن العصمة المعلومة بدليل الشرع والعقل والإجماع- وهي العصمة في التبليغ- لم ينتفعوا بها إذ كانوا لا يقرون بموجب ما بلغته الأنبياء، وإنما يقرون بلفظ حرفوا معناه، أو كانوا فيه كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني‏.‏

والعصمة التي كانوا ادعوها؛ لو كانت ثابتة؛ لم ينتفعوا بها، ولا حاجة بهم إليها عندهم؛ فإنها متعلقة بغيرهم، لا بما أمروا بالإيمان به، فيتكلم أحدهم فيها على الأنبياء بغير سلطان من الله، ويدع ما يجب عليه من تصديق الأنبياء وطاعتهم، وهو الذي تحصل به السعادة وبضده تحصل الشقاوة، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ‏﴾‏‏‏ ‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏.‏‏.‏

والله تعالى لم يذكر في القرآن شيئا من ذلك عن نبي من الأنبياء؛ إلا مقرونا بالتوبة والاستغفار‏:

كقول آدم وزوجته‏:‏ ‏﴿‏قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقول نوح‏:‏ ‏﴿‏قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِر لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِيْنَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقول الخليل عليه السلام‏:‏ ‏﴿‏رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ‏﴾‏‏‏ ، وقوله‏:‏ ‏﴿‏وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقول موسى‏:‏ ‏﴿‏أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ‏﴾‏‏‏ ، وقوله‏:‏ ‏﴿‏قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي‏﴾‏‏‏ وقوله‏:‏ ‏﴿‏فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ‏﴾‏‏‏ ‏، وقوله تعالى عن داود‏:‏ ‏﴿‏فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ‏﴾‏‏‏، وقوله تعالى عن سليمان‏:‏ ‏﴿‏قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وأما يوسف الصديق؛ فلم يذكر الله عنه ذنبا؛ فلهذا لم يذكر الله عنه ما يناسب الذنب من الاستغفار، بل قال‏:‏ ‏﴿‏كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ‏﴾‏‏‏؛ فأخبر أنه صرف عنه السوء والفحشاء، وهذا يدل على أنه لم يصدر منه سوء ولا فحشاء، وأما قوله‏:‏ ‏﴿‏وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ‏﴾‏‏‏؛ فالهمّ‏:‏ اسم جنس تحته نوعان؛ كما قال الإمام أحمد‏:‏ الهمّ نوعان‏:‏ همُّ خطرات، وهمُّ إصرار، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أن العبد إذا همَّ بسيئة؛ لم تكتب عليه، وإذا تركها؛ كتبت له حسنة، وإن عملها؛ كتبت له سيئة واحدة‏)[متفق عليه من حديث ابن عباس]، وإن تركها من غير أن يتركها لله؛ لم تكتب له حسنة ولا تكتب عليه سيئة، ويوسف صلى الله عليه وسلم همَّ همًّا تركه لله، ولذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء لإخلاصه، وذلك إنما يكون إذا قام المقتضي للذنب- وهو الهم- وعارضه الإخلاص الموجب لانصراف القلب عن الذنب لله؛ فيوسف عليه السلام لم يصدر منه إلا حسنة يثاب عليها؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏"‏وبهذا يظهر جواب شبهة من يقول‏:‏ إن الله لا يبعث نبيا إلا من كان معصوما قبل النبوة‏!‏ كما يقول ذلك طائفة من الرافضة وغيرهم، وكذلك من قال‏:‏ إنه لا يبعث نبيا إلا من كان مؤمنا قبل النبوة‏!‏ فإن هؤلاء توهموا أن الذنوب تكون نقصا وإن تاب التائب منها، وهذا منشأ غلطهم؛ فمن ظن أن صاحب الذنوب مع التوبة النصوح يكون ناقصا؛ فهو غالط غلطا عظيما؛ فإن الذم والعقاب الذي يلحق أهل الذنوب لا يلحق التائب منها شيء أصلا، لكن؛ إن قدم التوبة؛ لم يلحقه شيء، وإن أخر التوبة؛ فقد يلحقه ما بين الذنوب والتوبة من الذم والعقاب ما يناسب حاله‏.‏

والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه كانوا لا يؤخرون التوبة، بل يسارعون إليها ويسابقون إليها، لا يؤخرون ولا يصرون على الذنب، بل هم معصومون من ذلك، ومن أخر ذلك زمنا قليلا؛ كفر الله ذلك بما يبتليه به؛ كما فعل بذي النون صلى الله عليه وسلم، هذا على المشهور أن إلقاءه كان بعد النبوة، وأما من قال‏:‏ إن إلقاءه كان قبل النبوة؛ فلا يحتاج إلى هذا‏.‏

والتائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن لم يقع في الكفر والذنوب، وإذا كان قد يكون أفضل؛ فالأفضل أحق بالنبوة ممن ليس قبله في الفضيلة‏.‏

وقد أخبر الله عن إخوة يوسف بما أخبر من ذنوبهم، وهم الأسباط الذين نبأهم الله تعالى‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي‏﴾‏‏‏؛ فآمن لوط لإبراهيم عليه السلام، ثم أرسله الله تعالى إلى قوم لوط‏.‏

وقد قال الله تعالى في قصة شعيب‏:‏ ‏﴿‏قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا‏﴾‏‏‏ الآية‏.‏

وإذا عرف أن الاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية، وهذا الكمال إنما يحصل بالتوبة والاستغفار، ولا بد لكل عبد من التوبة، وهي واجبة على الأولين والآخرين؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقد أخبرنا الله سبحانه بتوبة آدم ونوح ومَن بعدهما إلى خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وآخر ما نزل عليه- أو‏:‏ من آخر ما نزل عليه- قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا‏﴾‏‏‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

ثم ذكر نصوصا كثيرة في استغفار النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال‏:‏ ‏"‏ونصوص الكتاب والسنة في هذا الباب كثيرة متظاهرة، والآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين كثيرة‏.‏

ولكن المنازعون يتأولون هذه النصوص من جنس تأويلات الجهمية والباطنية؛ كما فعل ذلك من فعله في هذا الباب، وتأويلاتهم تبين لمن تدبرها أنها فاسدة، من باب تحريف الكلم عن مواضعه؛ كتأويلهم قول‏:‏ ‏﴿‏لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏﴾‏‏‏؛ المتقدم ذنب آدم، والمتأخر ذنب أمته، وهذا معلوم البطلان‏"‏‏.‏

وقال أيضا‏:‏ ‏"‏والجمهور الذين يقولون بجواز الصغائر عليهم؛ يقولون‏:‏ إنهم معصومون من الإقرار عليها، وحينئذ؛ فما وصفوهم إلا بما فيه كمالهم؛ فإن الأعمال بالخواتيم، وقول المخالف يلزم عليه كون النبي لا يتوب إلى الله‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى المقصود‏.‏

ويمكن تلخيص هذا الموضوع فيما يلي‏:‏

 عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام منها ما هو مجمع عليه بداية ونهاية، ومنها ما هو مختلف فيه بداية لا نهاية‏.‏‏.‏‏.‏ وبيان ذلك‏:

1‏- أجمعوا على عصمتهم فيما يخبرون عن الله تعالى وفي تبليغ رسالاته؛ لأن هذه العصمة هي التي يحصل بها مقصود الرسالة والنبوة‏.‏

2‏- واختلفوا في عصمتهم من المعاصي‏:

فقال بعضهم بعصمتهم منها مطلقا كبائرها وصغائرها؛ لأن منصب النبوة يجل عن مواقعتها ومخالفة الله تعالى عمدا، ولأننا أمرنا بالتأسي بهم، وذلك لا يجوز مع وقوع المعصية في أفعالهم؛ لأن الأمر بالاقتداء بهم يلزم منه أن تكون أفعالهم كلها طاعة، وتأولوا الآيات والأحاديث الواردة بإثبات شيء من ذلك‏.‏

وقال الجمهور: بجواز وقوع الصغائر منهم بدليل ما ورد في القرآن والأخبار، لكنهم لا يصرون عليها، فيتوبون منها ويرجعون عنها؛ كما مر تفصيله، فيكونون معصومين من الإصرار عليها، ويكون الاقتداء بهم في التوبة منها‏.‏

 الإيمان بالرسل:

 دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واحد:

إن دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دين واحد وإن تنوعت شرائعهم‏:‏

قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، والأنبياء إخوة لعلات‏)[وهم الإخوةُ لِأبٍ واحدٍ مِن أُمَّهاتٍ مُختلفةٍ]‏.‏[رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ]

ودين الأنبياء هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره، وهو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك وأهله‏:

قال تعالى عن نوح‏:‏ ‏﴿‏وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال عن إبراهيم‏:‏ ‏﴿‏إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال عن موسى‏:‏ ‏﴿‏وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ‏﴾‏‏‏.

وقال عن المسيح‏:‏ ‏﴿‏وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ‏﴾‏‏‏.‏

وقد قال تعالى فيمن تقدم من الأنبياء وعن التوراة‏:‏ ‏﴿‏يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا‏﴾‏‏‏.‏

وقال تعالى عن ملكة سبأ‏:‏ ‏﴿‏رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏﴾.‏‏‏

فالإسلام هو دين الأنبياء جميعا، وهو الاستسلام لله وحده؛ فمن استسلم له ولغيره؛ كان مشركا، ومن لم يستسلم له؛ كان مستكبرا، وكل من المشرك والمستكبر عن عبادة الله كافر‏.‏

والاستسلام لله يتضمن عبادته وحده وأن يطاع وحده، وذلك بأن يطاع في كل وقت بفعل ما أمر به في ذلك الوقت؛ فإذا أمر في أول الإسلام بأن يستقبل بيت المقدس، ثم أمر بعد ذلك باستقبال الكعبة؛ كان كل من الفعلين حين أمر به داخلا في الإسلام؛ فالدين هو الطاعة، وكل من الفعلين عبادة لله، وإنما تنوع بعض صور الفعل، وهو توجه المصلي؛ فكذلك الرسل دينهم واحد، وان تنوعت الشرعة والمنهاج والوجهة والمنسك؛ فإن ذلك لا يمنع أن يكون الدين واحدا؛ كما لم يمنع ذلك في شريعة الرسول الواحد؛ كما مثلنا باستقبال بيت المقدس أولا ثم استقبال الكعبة ثانيا في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

فدين الأنبياء واحد، وإن تنوعت شرائعهم؛ فقد يشرع الله في وقت أمرا لحكمة، ثم يشرع في وقت آخر أمرا لحكمة؛ فالعمل بالمنسوخ قبل نسخه طاعة لله، وبعد النسخ يجب العمل بالناسخ؛ فمن تمسك بالمنسوخ وترك الناسخ؛ فليس هو على دين الإسلام، ولا هو متبع لأحد من الأنبياء، ولهذا كفر اليهود والنصارى؛ لأنهم تمسكوا بشرع مبدل منسوخ‏.‏

والله تعالى يشرع لكل أمة ما يناسب حالها ووقتها ويكون كفيلا بإصلاحها متضمنا لمصالحها، ثم ينسخ الله ما يشاء من تلك الشرائع لانتهاء أجلها، إلى أن بعث نبيه محمدا خاتم النبيين إلى جميع الناس على وجه الأرض وعلى امتداد الزمن إلى يوم القيامة، وشرع له شريعة شاملة صالحة لكل زمان ومكان؛ لا تبدل ولا تنسخ؛ فلا يسع جميع أهل الأرض إلا اتباعه والإيمان به صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

والآيات التي أنزلها الله سبحانه على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فيها خطاب لجميع الخلق الجن والإنس وعلى اختلاف أجناسهم، ولم يخص العرب بحكم من الأحكام، بل علق الأحكام باسم كافر ومؤمن، ومسلم ومنافق، وبر وفاجر، ومحسن وظالم‏.‏‏.‏‏.‏ وغير ذلك من الأسماء المذكورة في القرآن والحديث؛ فليس في القرآن والحديث تخصيص العرب بحكم من الأحكام الشرعية، إنما علق الأحكام بالصفات المؤثرة فيما يحبه الله وفيما يبغضه الله‏.‏

ونزول القرآن بلسان العرب إنما هو لأجل التبليغ؛ لأنه بلغ قومه أولا، ثم بواسطتهم بلغ سائر الأمم، وأمره الله بتبليغ قومه أولا، ثم تبليغ الأقرب فالأقرب؛ كما أمر بجهاد الأقرب فالأقرب، وليس هذا تخصيصا، وإنما هو تدرج بالتبليغ‏.‏

والمقصود أن دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واحد، وهو إخلاص العبادة لله والنهي عن الشرك والفساد، وإن تنوعت شرائعهم حسب الظروف والحاجات، إلى أن ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي عمت رسالته الخلق، وامتدت إلى آخر الدنيا؛ لا تبدل ولا تغير ولا تنسخ، وهي صالحة ومصلحة لكل زمان ومكان، ولا نبي بعده عليه الصلاة والسلام إلى آخر الزمان، وهو يأمر بما أمر به المرسلون من قبله من الإيمان وإخلاص العبادة لله بما شرعه من الأحكام، وهو مصدق لإخوانه المرسلين، وإخوانه المرسلون قد بشروا به، خصوصا أقرب الرسل إليه زمانا، وهو المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، حين قال لقومه‏:‏ ‏﴿‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وفي الكتب السابقة من بيان صفات هذا الرسول وخصائصه ما هو من أوضح الواضحات، وإن جحده من جحده من اليهود والنصارى حسدا وتكبرا؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

اللهم‏!‏ أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه‏.‏

 الإيمان بالرسل:

 ذكر خصائص الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إجمالا:

للرسول محمد صلى الله عليه وسلم خصائص اختص بها عن غيره من الأنبياء، وخصائص اختص بها عن أمته‏:

والخصائص التي اختُصَّ بها عن غيره من الأنبياء كثيرة؛ منها‏:

1- أنه خاتم النبيين‏:‏ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ‏﴾‏‏‏ ، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي‏)[رواه مسلم من حديث ثوبان  رضي الله عنه]

2 -المقام المحمود، وهو الشفاعة العظمى؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا‏﴾‏‏‏ ، وكما في حديث الشفاعة الطويل المتفق على صحته‏:‏ أن الله يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيقول بعض الناس لبعض‏:‏ ألا ترون إلى ما أنتم فيه، ألا ترون إلى ما قد بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم، فيأتون آدم، ثم نوحا، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم إلى محمد؛ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛ فكلهم يقول‏:‏ اذهبوا إلى غيري؛ إلا محمدا صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يقول‏:‏ أنا لها‏.‏ فيخر ساجدا إلى أن يؤذن له بالشفاعة، وبهذا يظهر فضله على جميع الخلق، واختصاصه بهذا المقام‏.‏

3- عموم بعثته إلى الثقلين الجن والإنس؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا‏﴾‏‏‏ ، ‏﴿‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ‏﴾‏‏‏ ، ‏﴿‏تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا‏﴾‏‏‏ ، ‏﴿‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ‏﴾‏‏‏ ، ‏﴿‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ‏﴾‏‏‏ ، وهذا مجمع عليه‏.‏

والآيات التي أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم فيها خطاب لجميع الخلق الجن والإنس؛ إذ كانت رسالته عامة للثقلين، وإن كان من أسباب النزول ما كان موجودا في العرب؛ فليس شيء من الآيات مختصا بالسبب المعين الذي نزل فيه باتفاق المسلمين؛ فلم يقل أحد من المسلمين‏:‏ إن آيات الطلاق أو الظهار أو اللعان أو حد السرقة والمحاربين‏.‏‏.‏‏.‏ وغير ذلك يختص بالشخص المعين الذي كان سبب نزول الآية‏.‏

والمقصود هنا‏:‏ أن بعض آيات القرآن- وإن كان سببه أمورا كانت في العرب-؛ فحكم الآيات عام يتناول ما تقتضيه الآيات لفظا ومعنى في أي نوع كان، ومحمد صلى الله عليه وسلم بعث إلى الإنس والجن؛ فدعوته شاملة للثقلين الإنس والجن على اختلاف أجناسهم؛ فلا يظن أنه خص العرب بحكم من الأحكام أصلا، بل إنما علق الأحكام باسم مسلم وكافر ومؤمن ومنافق وبر وفاجر ومحسن وظالم وغير ذلك من الأسماء المذكورة في القرآن والحديث، وليس في القرآن ولا الحديث تخصيص العرب بحكم من أحكام الشريعة، وإنما علق الأحكام بالصفات المؤثرة فيما يحبه الله وفيما يبغض؛ فأمر بما يحبه الله ودعا إليه بحسب الإمكان، ونهى عما يبغضه الله وحسم مادته بحسب الإمكان، لم يخص العرب بنوع من أنواع الأحكام الشرعية؛ إذ كانت دعوته لجميع البرية، لكن نزل القرآن بلسانهم- بل بلسان قريش- لأجل التبليغ؛ لأنه بلغ قومه أولا، ثم بواسطتهم بلغ سائر الأمم، وأمره بتبليغ قومه أولا، ثم بتبليغ الأقرب فالأقرب إليه؛ كما أمر بجهاد الأقرب فالأقرب‏.‏

وكما كان صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الإنس؛ فهو مبعوث أيضا إلى الجن، فقد استمع الجن لقراءته، وولوا إلى قومهم منذرين؛ كما أخبر الله عز وجل، وهذا متفق عليه بين المسلمين‏.‏

وقد ذكر الله في القرآن من خطاب الثقلين ما يبين هذا الأصل؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ‏﴾‏‏‏ الآية‏.‏

وقد أخبر الله عن الجن أنهم قالوا‏:‏ ‏﴿‏وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ مذاهب شتى؛ مسلمون وكفار، وأهل سنة وأهل بدعة‏.‏ وقالوا‏:‏ ‏﴿‏وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ‏﴾‏‏‏ الآية، والقاسط‏:‏ الجائر، يقال‏:‏ قسط‏:‏ إذا جار، وأقسط‏:‏ إذا عدل‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية‏:‏ ‏"‏يجب على الإنسان أن يعلم أن الله عز وجل أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين الإنس والجن، وأوجب عليهم الإيمان به وبما جاء به وطاعته، وأن يحللوا ما حلل الله ورسوله، ويحرموا ما حرم الله ورسوله، ويحبوا ما أحبه الله ورسوله، ويكرهوا ما كرهه الله ورسوله، وأن كل من قامت عليه الحجة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم من الإنس والجن فلم يؤمن به؛ استحق عقاب الله تعالى؛ كما يستحقه أمثاله من الكافرين الذين بعث إليهم الرسول، وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين وسائر طوائف المسلمين أهل السنة والجماعة وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

4- ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم القرآن العظيم الذي أذعن لإعجازه الثقلان، وأحجم عن معارضته مصاقيع الإنس والجان، واعترف بالعجز عن الإتيان بأقصر سورة من مثله أهل الفصاحة والبلاغة من سائر الأديان، وقد سبق تفصيل ذلك‏.‏

5- ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم المعراج إلى السماوات العلى، إلى سدرة المنتهى، إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام فكان قاب قوسين أو أدنى‏.‏

 وأما الخصائص التي اختص بها دون أمته‏:‏

فقد قال القرطبي في ‏"‏تفسيره‏"‏‏:‏ ‏"‏خص الله تعالى رسوله من أحكام الشريعة بمعان لم يشاركه فيها أحد في باب الفرض والتحريم والتحليل؛ مزية على الأمة، وهبة له، ومرتبة خص بها؛ ففرضت عليه أشياء ما فرضت على غيره، وحرمت عليه أشياء لم تحرم عليهم، وحللت له أشياء لم تحلل لهم؛ منها متفق عليه، ومنها مختلف فيه‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏ثم ذكر هذه الخصائص‏:

- فمنها‏:‏ التهجد بالليل، يقال‏:‏ إن قيام الليل كان واجبا عليه إلى أن مات؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا‏﴾‏‏‏ ، والمنصوص أنه كان واجبا عليه، ثم نسخ بقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

- ومنها‏:‏ أنه إذا عمل عملا؛ أثبته‏.‏

- ومنها‏:‏ تحريم الزكاة عليه وعلى آله‏.‏

- ومنها‏:‏ أنه أحل له الوصال في الصيام‏.‏

- ومنها‏:‏ أنه أحل له الزيادة على أربع نسوة‏.‏

- ومنها‏:‏ أنه أحل له القتال بمكة‏.‏

- ومنها‏:‏ أنه لا يورث‏.‏

- ومنها‏:‏ بقاء زَوجِيَّتِهِ بعد الموت، وإذا طلق امرأته؛ تبقى حرمته عليها فلا تنكح‏.‏‏.‏‏.‏

إلى غير ذلك من الخصائص النبوية‏.‏

 من خصائص الرسول محمد صلى الله عليه وسلم:

الإسراء والمعراج

قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏﴿‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة‏:‏ يمجد الله تعالى نفسه، ويعظم شأنه؛ لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه؛ فلا إله غيره ولا رب سواه، ‏﴿‏الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ‏﴾‏‏‏ يعني‏:‏ محمدا صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏(‏ليلا‏)‏؛ أي‏:‏ في جنح الليل‏.‏ ‏﴿‏من المسجد الحرام‏﴾‏‏‏ ‏:‏ وهو مسجد مكة‏.‏ ‏﴿‏إلى المسجد الأقصى‏﴾‏‏‏ ‏:‏ وهو بيت المقدس الذي بإيليا، معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل عليه السلام، ولهذا جُمِعوا له هناك كلهم، فأمهم في محلتهم ودارهم، فدل على أنه هو الإمام الأعظم والرئيس المقدم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ في الزروع والثمار‏.‏ ‏(‏لنريه‏)‏؛ أي‏:‏ محمدا‏.‏ ‏﴿‏من آياتنا‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ العِظام؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى‏﴾‏‏‏ ، ‏﴿‏إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ السميع لأقوال عباده؛ مؤمنهم وكافرهم مصدقهم ومكذبهم، البصير بهم فيعطي كلا منهم ما يستحقه في الدنيا والآخرة‏"‏اهـ‏.‏

والمعراج‏:‏ مفعال من العروج؛ أي‏:‏ الآلة التي يعرج فيها؛ أي‏:‏ يصعد، وهو بمنزلة السلم، لكن لا يعلم كيف هو إلا الله، وحكمه كحكم غيره من المغيبات؛ نؤمن به ولا نشتغل بكيفيته‏.‏

والذي عليه أئمة النقل‏:‏ أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة وقبل الهجرة بسنة، وقيل بسنة وشهرين، ذكره ابن عبد البر‏.‏

صفة الإسراء والمعراج المستفادة من النصوص:

قال الحافظ ابن كثير في ‏"‏تفسيره‏"‏‏:‏ ‏"‏والحق أنه عليه السلام أسري به يقظة لا مناما، من مكة إلى بيت المقدس، راكبا البراق، فلما انتهى إلى باب المسجد؛ ربط الدابة عند الباب، ودخله، فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين، ثم أتي بالمعراج، وهو كالسلم ذو درج يرقى فيه، فصعد فيه إلى السماء الدنيا، ثم إلى بقية السماوات السبع، فتلقاه من كل سماء مقربوها، وسلم على الأنبياء الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم، حتى مر بموسى الكليم في السادسة، وإبراهيم الخليل في السابعة، ثم جاوز منزلتهما- صلى الله وسلم عليه وعليهما وعلى سائر الأنبياء- حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام؛ أي‏:‏ أقلام القدر بما هو كائن، ورأى سدرة المنتهى، وغشيها من أمر الله تعالى عظمة عظيمة من فراش من ذهب وألوان متعددة، وغشيتها الملائكة، ورأى هناك جبريل على صورته، وله ست مائة جناح، ورأى رفرفا أخضر قد سد الأفق، ورأى البيت المعمور، وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية مسند ظهره إليه؛ لأنه الكعبة السماوية، يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة، ثم يتعبدون فيه، ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، ورأى الجنة والنار، وفرض عليه هنالك الصلوات خمسين، ثم خففها إلى خمس رحمة منه ولطفا بعباده، وفي هذا اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها، ثم هبط إلى بيت المقدس، وهبط معه الأنبياء، فصلى بهم لما حانت الصلاة، ويحتمل أنها الصبح من يومئذ، ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء، والذي تظاهرت به الروايات أنه أمهم ببيت المقدس، ولكن في بعضها أنه كان أول دخوله إليه، والظاهر أنه بعد رجوعه إليه؛ لأنه لما مر بهم في منازلهم؛ جعل يسأل عنهم جبريل واحدا واحدا، وهو يخبر بهم، وهذا هو اللائق؛ لأنه كان أولا مطلوبا إلى الجناب العلوي؛ ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله تعالى، ثم لما فرغ من الذي أريد به؛ اجتمع فيه- أي‏:‏ بيت المقدس- هو وإخوانه من النبيين، ثم ظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة، وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام في ذلك، ثم خرج من بيت المقدس، فركب البراق، وعاد إلى مكة بغلس‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

هل كان الإسراء ببدنه عليه السلام وروحه أو بروحه فقط‏؟‏

اختلف الناس‏:‏ هل كان الإسراء ببدنه عليه السلام وروحه أو بروحه فقط‏؟‏ على قولين‏:

 فالأكثرون من العلماء:

 على أنه أسري ببدنه وروحه يقظة لا مناما، والدليل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ‏﴾‏‏‏؛ فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام؛ فلو كان مناما؛ لم يكن فيه شيء كبير، ولم يكن مستعظما، ولما بادرت كفار قريش إلى تكذيبه، ولما ارتدت جماعة ممن كان قد أسلم، وأيضا؛ فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والبدن، وقد قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا‏﴾‏‏‏ ، وأيضا قال سبحانه‏:‏ ‏﴿‏وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ‏﴾‏‏‏؛ قال ابن عباس‏:‏ ‏"‏هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به‏"‏‏.‏ رواه البخاري‏.‏ وأيضا قال سبحانه‏:‏ ‏﴿‏مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى‏﴾‏‏‏ ، والبصر من آلات الذات لا الروح، وأيضا فإنه حمل على البراق، وهو دابة بيضاء براقة لها لمعان، وإنما يكون هذا للبدن لا للروح؛ لأنها لا تحتاج في حركتها إلى مركب تركب عليه‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بروحه لا بجسده، نقل هذا القول ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية رضي الله عنهما، ونقل عن الحسن البصري نحوه، وليس المراد بهذا القول أن الإسراء كان مناما، بل إن الروح ذاتها أسري بها، ففارقت الجسد، ثم عادت إليه‏.‏‏.‏‏.‏ وهذا من خصائصه؛ فإن غيره لا تنال ذات روحه الصعود الكامل إلى السماء إلا بعد الموت‏.‏

والمراد بالمنام أن ما يراه النائم قد يكون أمثالا مضروبة للمعلوم في الصورة المحسوسة، فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء وذهب به إلى مكة، وروحه لم تصعد ولم تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال، والفرق بين الأمرين واضح‏.‏

واستدل من قال‏:‏ إن الإسراء كان بروحه لا بجسده؛ بما جاء في رواية شريك بن أبي نمر، عن أنس‏:‏ ‏"‏ثم استيقظت؛ فإذا أنا في الحجر‏"‏‏.‏

 وقد أجيب عنه بجوابين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن هذا معدود من غلطات شريك؛ فقد غلط الحفاظ شريكا في ألفاظ من حديث الإسراء‏.‏

الثاني‏:‏ أن الاستيقاظ محمول على الانتقال من حال إلى حال‏.‏

قال ابن كثير‏:‏ ‏"‏وهذا الحمل أحسن من التغليط‏.‏ والله أعلم‏"‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏"‏ونحن لا ننكر وقوع منام قبل الإسراء طبق ما وقع بعد ذلك؛ فإنه صلى الله عليه وسلم كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وقد تقدم مثل ذلك في حديث بدء الوحي أنه رأى مثل ما وقع له يقظة مناما قبله ليكون ذلك من باب الإرهاص والتوطئة والتثبيت والإيناس‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏والله أعلم‏.‏

هل تكرر المعراج‏؟‏

قال الحافظ ابن كثير بعد أن ساق الأحاديث الواردة في هذا الموضوع‏:‏ ‏"‏وإذا حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها؛ فحصل مضمون ما اتفقت عليه من إسراء رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس وأنه مرة واحدة، وإن اختلفت عبارات الرواة في أدائه، أو زاد بعضهم فيه أو نقص منه؛ فإن الخطأ جائز على من عدا الأنبياء عليهم السلام‏.‏

ومن جعل من الناس كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة، فأثبت إسراءات متعددة؛ فقد أبعد وأغرب وهرب إلى غير مهرب ولم يتحصل على مطلب‏.‏

وقد صرح بعض المتأخرين بأنه عليه السلام أسري به مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط، ومرة من مكة إلى السماء فقط، ومرة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء، وفرح بهذا المسلك، وأنه قد ظفر بشيء يخلص به من الإشكالات، وهذا بعيد جدا، ولم ينقل هذا عن أحد من السلف، ولو تعدد هذا التعدد؛ لأخبر النبي صلى الله عليه وسلم به أمته، ولنقله الناس على التعدد والتكرار‏.‏

وزعم بعض الصوفية أن المعراج وقع له صلى الله عليه وسلم ثلاثين مرة‏!‏ وقال بعضهم‏:‏ أربعا وثلاثين مرة‏!‏‏!‏ واحدة منها بجسمه الشريف والباقي بروحه‏!‏‏!‏ وقيل‏:‏ كان الإسراء مرتين؛ مرة يقظة، ومرة مناما‏!‏‏!‏ وأصحاب هذا القول كأنهم أرادوا الجمع بين حديث شريك وقوله ‏"‏ثم استيقظت‏"‏وبين سائر الروايات‏!‏‏!‏ وكذلك منهم من قال‏:‏ بل كان مرتين؛ مرة قبل الوحي ومرة بعده‏!‏‏!‏ ومنهم من قال‏:‏ بل ثلاث مرات؛ مرة قبل الوحي ومرتين بعده‏!‏‏!‏ وكلما اشتبه عليهم لفظة؛ زادوا مرة للتوفيق‏.‏

قال ابن القيم‏:‏ ‏"‏يا عجبا لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مرارا؛ كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة يفرض عليهم الصلوات خمسين، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمسا، فيقول‏:‏ أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي‏.‏‏.‏‏.‏ ثم يعيدها في المرة الثانية خمسين، ثم يحطها إلى خمس‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏‏!‏‏!‏

وقال ابن كثير‏:‏ ‏"‏وكان بعض الرواة يحذف بعض الخبر للعلم به، أو ينساه، أو يذكر ما هو الأهم عنده، أو يبسط تارة فيسوقه كله، وتارة يحذف عن مخاطبه بما هو الأنفع عنده‏.‏‏.‏‏.‏ ومن جعل كل رواية إسراء على حدة كما تقدم عن بعضهم؛ فقد أبعد جدا، وذلك أن كل السياقات فيها السلام على الأنبياء، وفي كل منها يعرفه بهم، وفي كلها يفرض عليه الصلوات؛ فكيف يمكن أن يدعى تعدد ذلك‏؟‏‏!‏ هذا في غاية البعد والاستحالة‏.‏ والله أعلم‏"‏اهـ‏.‏

 من خصائص الرسول محمد صلى الله عليه وسلم:

 عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم والرد على من أنكره:

يقول جماعة من اليهود والنصارى ومن قلدهم‏:‏ إن محمدا صلى الله عليه وسلم مرسل إلى العرب دون أهل الكتاب‏!‏ ويُلَبِّسون بقولهم‏:‏ إن كان دينه حقا؛ فديننا أيضا حق، والطرق إلى الله تعالى متنوعة‏!‏ ويشبهون ذلك بمذاهب الأئمة؛ فإنه وإن كان أحد المذاهب راجحا؛ فأهل المذاهب الأُخَر ليسوا كفارا‏.‏

وهذا القول ظاهر البطلان؛ لأنهم لما صدقوا برسالته؛ لزمهم تصديقه في كل ما يخبر به، وقد قال‏:‏ إنه رسول الله إلى الناس عامة، والرسول لا يكذب، فلزم تصديقه حتما‏.‏

وقد أرسل رسله وبعث كتبه في أقطار الأرض إلى كسرى وقيصر والنجاشي والمقوقس وسائر ملوك الأطراف يدعوهم إلى الإسلام‏.‏

ثم مقاتلته لأهل الكتاب وسبي ذراريهم واستباحة دمائهم وضرب الجزية عليهم أمر معلوم بالتواتر والضرورة؛ فإنه دعا المشركين إلى الإيمان به، ودعا أهل الكتاب إلى الإيمان به، وجاهد أهل الكتاب كما جاهد المشركين؛ فجاهد بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وأهل خيبر- وكلهم يهود-، وسبى ذراريهم ونساءهم، وغنم أموالهم، وغزا النصارى عام تبوك بنفسه وبسراياه، حتى قتل في محاربتهم زيد بن حارثة مولاه وجعفر وغيرهما من أهله، وضرب الجزية على نصارى نجران‏.‏

وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده جاهدوا أهل الكتاب، وقاتلوا من قاتلهم، وضربوا الجزية على من أعطاها منهم عن يد وهم صاغرون‏.‏

وهذا القرآن الذي يعرف كل أحد أنه الكتاب الذي جاء به مملوء من دعوة أهل الكتاب إلى اتباعه وتكفير من لم يتبعه منهم ولعنه كما جاء بتكفير من لم يتبعه من المشركين وذمه‏:‏

فقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ‏﴾‏‏‏ الآية‏.‏

وفي القرآن من قوله‏:‏ ‏﴿‏يا أهل الكتاب‏﴾‏‏‏ ، ‏﴿‏يا بني إسرائيل‏﴾‏‏‏ ما لا يحصى إلا بكلفة‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ‏﴾‏‏‏ الآية، إلى قوله‏:‏ ‏﴿‏خَيْرُ الْبَرِيَّةِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ومثل هذا في القرآن كثير جدا‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

واستفاض عنه صلى الله عليه وسلم قوله‏:‏ ‏(‏فُضِّلتُ على الأنبياء بخمس )‏ ذكر منها أنه‏:‏ ‏(‏كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة‏)‏.[متفق عليه من حديث جابر رضي الله عنه ]

بل تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه بعث إلى الجن والإنس‏.‏

فإذا علم بالاضطرار وبالنقل المتواتر الذي تواتر كما تواتر ظهور دعوته أنه دعا أهل الكتاب إلى الإيمان به، وأنه حكم بكفر من لم يؤمن منهم، وأنه أمر بقتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وأنه قاتلهم بنفسه وسراياه، وأنه ضرب الجزية عليهم وقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وغنم أموالهم؛ فحاصر بني قينقاع ثم أجلاهم إلى أذرعات، وحاصر بني النضير ثم أجلاهم إلى خيبر، وفي ذلك أنزل الله سورة الحشر، ثم حاصر بني قريظة لما نقضوا العهد وقتل رجالهم وسبى حريمهم وأخذ أموالهم، وقد ذكره الله تعالى في سورة الأحزاب‏.‏‏.‏‏.‏ وقاتل أهل خيبر حتى فتحها، وقتل من قتل من رجالهم، وسبى من سبى من حريمهم، وقسم أرضهم على المؤمنين، وقد ذكره الله تعالى في سورة الفتح، وضرب الجزية على النصارى، وفيهم أنزل الله سورة آل عمران، وغزا النصارى عام تبوك، وفيها أنزل الله سورة براءة، وفي عامة السور المدنية مثل البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وغير ذلك من السور المدنية من دعوة أهل الكتاب وخطابهم ما لا يتسع المقام لنشره‏.‏‏.‏‏.‏

ثم خلفاؤه من بعده أبو بكر وعمر ومن معهما من المهاجرين والأنصار الذين يعلم أنهم كانوا أتبع الناس له وأطوعهم لأمره وأحفظهم بعهده، وقد غزوا الروم كما غزوا فارس، وقاتلوا أهل الكتاب كما قاتلوا المجوس؛ فقاتلوا من قاتلهم، وضربوا الجزية على من أداها منهم عن يد وهم صاغرون‏.‏

ومن الأحاديث الصحيحة عنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده؛ لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي؛ إلا دخل النار‏)[رواه مسلم 153 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] ‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ تصديق ذلك في كتاب الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ‏﴾‏‏‏ ، ومعنى الحديث متواتر عنه معلوم بالاضطرار‏.‏

فإذا كان الأمر كذلك؛ لزم أنه صلى الله عليه وسلم رسول إلى كل الطوائف‏.‏‏.‏‏.‏

فإنه يقرر بأنه رسول الله إلى أهل الكتاب وغيرهم، ورسول الله لا يكذب، ولا يقاتل الناس على طاعته بغير أمر الله، ولا يستحل دماءهم وأموالهم وديارهم بغير إذن الله؛ فمن قال‏:‏ إن الله أمره بذلك، ولم يكن الله أمره؛ كان كاذبا مفتريا ظالما، ‏﴿‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ‏﴾‏‏‏ ، وكان مع كونه ظالما مفتريا من أعظم المريدين علوا في الأرض وفسادا، وكان شرا من الملوك الجبابرة الظالمين، فإن الملوك الجبابرة يقاتلون الناس على طاعتهم، ولا يقولون‏:‏ إنا رسل الله إليكم، ومن أطاعنا؛ دخل الجنة، ومن عصانا؛ دخل النار، بل فرعون وأمثاله لا يدخلون في مثل هذا، ولا يدخل في هذا إلا نبي صادق أو متنبئ كذاب؛ كمسيلمة والأسود العنسي وأمثالهما‏.‏

فإذا علم أنه نبي؛ لزم أن يكون ما أخبر به عن الله حقا، وإذا كان رسول الله؛ وجبت طاعته في كل ما يأمر به؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ‏﴾‏‏‏ ، وإذا أخبر أنه رسول الله إلى أهل الكتاب وأنه تجب عليهم طاعته؛ كان ذلك حقا‏.‏

ومن أقر بأنه رسول الله وأنكر أن يكون مرسلا إلى أهل الكتاب؛ فهو بمنزلة من يقول‏:‏ إن موسى كان رسولا، ولم يكن يجب أن يدخل أرض الشام، ولا يخرج بني إسرائيل من مصر، وأن الله لم يأمره بذلك، وأنه لم يأمره بالسبت، ولا أنزل عليه التوراة، ولا كلمه على الطور‏.‏ ومن يقول‏:‏ إن عيسى كان رسول الله، ولم يبعث إلى بني إسرائيل، ولا كان يجب على بني إسرائيل طاعته، وأنه ظلم اليهود‏.‏‏.‏‏.‏ وأمثال ذلك من المقالات التي هي أكفر المقالات‏.‏‏.‏‏.‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا‏﴾‏‏‏ ‏

 من خصائص الرسول محمد صلى الله عليه وسلم:

 ختم الرسالات ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم:

لقد ختم الله سبحانه وتعالى النبوة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنا خاتم النبيين؛ لا نبي بعدي‏)‏ ‏.‏[حديث متواتر]

وذلك يستلزم ختم المرسلين؛ إذ ختم الأعم يستلزم ختم الأخص‏.‏

ومعنى ختم النبوة بنبوته عليه الصلاة والسلام‏:‏ أنه لا تبدأ نبوة ولا تشرع شريعة بعد نبوته وشرعته‏.‏

وأما نزول عيسى في آخر الزمان؛ فلا ينافي ذلك؛ لأن عيسى عليه السلام إذا نزل إنما يتعبد بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دون شريعته المتقدمة؛ لأنها منسوخة، فلا يتعبد إلا بهذه الشريعة أصولا وفروعا، فيكون خليفة لنبينا صلى الله عليه وسلم، وحاكما من حكام ملته بين أمته‏.‏

فهذا النبي الخاتم للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين قد بعث بخير كتاب وأتم شريعة وأفضل ملة وأكمل دين، جاء بشريعة كافية لحاجة الخليقة في كل زمان ومكان إلى أن تقوم الساعة، وكمل به عقد النبيين؛ فلا نبي بعده‏.‏

وفي ‏"‏الصحيحين‏"‏وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏مثلي ومثل الأنبياء من بعدي كمثل رجل بنى دارا فأكملها وأحسنها؛ إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلون ويعجبون منها ويقولون لولا موضع لبنة‏). زاد مسلم‏:‏ ‏(‏فجئت فختمت الأنبياء‏)‏ ‏.‏

وفي ‏"‏الصحيحين‏"‏أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه‏.‏‏.‏‏.‏ معناه، وفيه‏:‏ ‏(‏فجعل الناس يطوفون به ويقولون هلا وضعت اللبنة؛ فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين‏)‏ ‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي؛ خَلَفَهُ نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء‏). رواه البخاري‏.‏

وعن جابر بن سمرة؛ قال‏:‏ ‏"‏رأيت خاتما في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه بيضة حمام‏"‏‏.‏ رواه مسلم‏.‏

قال الحافظ في ‏"‏الفتح‏"‏‏:‏ ‏"‏قال القرطبي‏:‏ اتفقت الأحاديث الثابتة على أن خاتم النبوة كان شيئا بارزا أحمر عند كتفه الأيسر قَدْرُهُ إِذَا قُلِّلَ قَدْرُ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ وَإِذَا كُبِّرَ جُمْعُ الْيَدِ ، والله أعلم‏.‏

قال العلماء‏:‏ ‏"‏السر في ذلك أن القلب في تلك الجهة‏ ، قال السهيلي‏:‏ وضع خاتم النبوة عند كتفه صلى الله عليه وسلم لأنه معصوم من وسوسة الشيطان، وذلك الموضع يدخل منه الشيطان‏.‏

وقال الحافظ ابن كثير‏:‏ فمن رحمة الله تعالى بالعباد إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به، وإكمال الدين الحنيف له، وقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المتواترة عنه‏:‏ أنه لا نبي بعده؛ ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده؛ فهو كذاب أفاك دجال ضال مضل، ولو تخرف وشعبذ وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنيرنجيات؛ فكلها محال وضلال عند أولي الألباب؛ كما أجرى الله تعالى على يد الأسود العنسي باليمن ومسيلمة الكذاب باليمامة من الأحوال الفاسدة والأقوال الباردة ما علم كل ذي لب وفهم وحجى أنهما كاذبان ضالان لعنهما الله‏.‏‏.‏‏.‏ وكذلك كل مدع لذلك إلى يوم القيامة، حتى يختموا بالمسيح الدجال؛ فكل واحد من هؤلاء الكذابين يخلق الله معه من الأمور ما يشهد العلماء والمؤمنون بكذب من جاء بها، وهذا من تمام لطف الله تعالى بخلقه؛ فإنهم بضرورة الواقع- أي الكذابون- لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر إلا على سبيل الاتقاء، أو لما لهم فيه من المقاصد إلى غيره، ويكونون في غاية الإفك والفجور في أقوالهم وأفعالهم؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وهذا بخلاف حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فإنهم في غاية الصدق والرشد والاستقامة والعدل فيما يقولونه ويأمرون به وينهون عنه، مع ما يؤيدون به من الخوارق للعادات والأدلة الواضحات والبراهين الباهرات؛ فصلوات الله وسلامه عليهم دائما مستمرا ما دامت الأرض والسماوات‏.‏

وليس الناس بحاجة إلى بعثة نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم لكمال شريعته ووفائها بحاجة البشرية‏.‏

وماذا عسى أن يقتضي بعثة نبي جديد بعد محمد صلى الله عليه وسلم‏؟‏

وإن قيل‏:‏ إن الأمة قد فسدت؛ فالعمل على إصلاحها يحتاج إلى بعثة نبي جديد‏.‏

قلنا‏:‏ هل بعث نبي في الدنيا لمجرد الإصلاح حتى يبعث في هذا الزمان لمجرد هذا الغرض‏؟‏‏!‏ إن النبي لا يبعث إلا ليوحى إليه، ولا تكون الحاجة إلى الوحي إلا لتبليغ رسالة جديدة أو إكمال رسالة متقدمة أو لتطهيرها من شوائب التحريف والتبديل، فلما قضت كل هذه الحاجات إلى الوحي بحفظ القرآن وسنة محمد صلى الله عليه وسلم وإكمال الدين على يده صلى الله عليه وسلم؛ لم تبق الحاجة الآن إلى الأنبياء، وإنما هي إلى المصلحين‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏اهـ‏.‏ بتصرف يسير من الرد على القاديانية‏.‏

وقد أعلن الله ختم النبوات والرسالات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏﴿‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا‏﴾‏‏‏ ‏.‏

ومن البديهي الذي لا يقبل الاعتراض أن استمرار بقاء القرآن الحاوي بشرائعه وأحكامه أسس مطالب البشر التشريعية كلها محفوظا كما أنزل على محمد مع استمرار بقاء سيرة الرسول وسنته المبينة لمعاني القرآن صحيحة ثابتة هو بمثابة استمرار وجود الرسول فينا على قيد الحياة؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ‏﴾‏‏‏ ، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول بعد وفاته هو الرد إلى سنته، وبذلك فقد أصبح العالم بغنية عن بعث أنبياء وإرسال رسل وتجديد شرائع للناس بعد محمد صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه لو بعث الله رسلا وأنبياء؛ فلن يحدثوا شيئا ولن يزيدوا على ما جاء به الرسول محمد من أسس في العقيدة أو في التشريع؛ فقد أكمل الله الدين وأتم الشريعة؛ حيث يقول‏:‏ ‏﴿‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا‏﴾‏‏‏ ، وإن كان الغرض من إرسال الرسل هو نشر هذه الرسالة ودعوة الناس إليها؛ فهذه وظيفة علماء المسلمين؛ فعليهم أن يقوموا بتبليغ هذه الدعوة للناس‏.‏

فمن ادعى عدم ختم النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، أو صدق من يدعي ذلك؛ فهو مرتد عن دين الإسلام‏.‏

ولهذا حكم الصحابة على من ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم بالردة، وقاتلوه هو وأتباعه، وسموهم بالمرتدين، وهذا ما أجمع عليه علماء المسلمين سلفا وخلفا‏.‏

الحكمة في ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم

وكانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة للنبوات؛ لأنه بعث إلى الناس كافة إلى أن تقوم الساعة؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا‏﴾‏‏‏ ، ‏﴿‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ‏﴾‏‏‏ ، ‏﴿‏تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا‏﴾‏‏‏ ، ‏﴿‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وإذا كانت رسالته عامة للناس؛ فلا بد أن تكون شريعته كاملة شاملة لمصالح البشر، لا يحتاج معها إلى شريعة أخرى وبعثة نبي آخر؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا‏﴾‏‏‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكَتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ‏﴾‏‏‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

قال الشيخ أبو الأعلى المودودي في رده على القاديانية‏:‏ ‏"‏ونحن إذا تتبعناه- أي‏:‏ القرآن- بغية

 أن نعرف الأسباب التي لأجلها ظهرت الحاجة إلى إرسال نبي في أمة من أمم الأرض؛ علمنا أن هذه الأسباب أربعة‏:

1- كانت هذه الأمة ما جاءها من الله نبي من قبل، ولا كان لتعاليم نبي مبعوث في أمة غيرها أن تصل إليها‏.‏

2- كان قد أرسل إليها نبي من قبل، ولكن كان تعليمه قد انمحى أو لعبت به يد النسيان أو التحريف حتى لم يعد بإمكان الناس أن يتبعوه اتباعا كاملا صحيحا‏.‏

3- كان قد أرسل إليها نبي من قبل، ولكن تعاليمه ما كانت شاملة لمن يأتي بعده وافية لمتطلبات عصرهم، فألحت الحاجة إلى المزيد من الأنبياء لإكمال الدين‏.‏

4- كان قد أرسل إليها نبي، ولكن كانت الحاجة تقتضي أن يرسل معه نبي آخر لتصديقه وتأييده‏.‏

وكل سبب من هذه الأسباب الأربعة قد زال بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلا حاجة للأمة الإسلامية ولا لأية أمة أخرى في العالم إلى أن يرسل إليها نبي جديد بعد محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد تولى القرآن بنفسه بيان أن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ولهداية الناس عامة؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وأيضا؛ مما يدل عليه تاريخ الحضارة في الدنيا أن الظروف في العالم ما زالت منذ بعثته صلى الله عليه وسلم ولا تزال مهيأة بحيث من الممكن أن تصل دعوته إلى كل صقع من أصقاع العالم، وإلى كل أمة من أممه؛ فلا حاجة بعد ذلك إلى نبي جديد إلى أمة من أمم الدنيا أو صقع من أصقاعها؛ فبذلك قد زال السبب الأول‏.‏

ومما يشهد به القرآن كذلك وتؤيده عليه ذخيرة كتب الحديث والسيرة أن التعليم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال حيا محفوظا على صورته الحقيقية ولم تلعب به يد النسيان ولا التحريف والتبديل‏.‏

أما الكتاب الذي جاء به؛ فما وقع التحريف ولا النقص ولا الزيادة في أي حرف من أحرفه، ولا من الممكن أن يقع إلى يوم القيامة‏.‏

وأما الهداية التي أعطاها للناس بأقواله وأفعاله؛ فإننا نجد آثارها حتى اليوم حية مصونة، كأننا أمام شخصه صلى الله عليه وسلم وفي زمانه؛ فبذلك قد زال السبب الثاني‏.‏

ثم إن القرآن ليصرح كذلك بأن الله تعالى قد أكمل دينه بواسطة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فبذلك قد زال السبب الثالث أيضا‏.‏

ثم إن الحاجة لو كانت تقتضي إرسال نبي مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم لتأييده وتصديقه؛ لأرسل في زمانه صلى الله عليه وسلم؛ فبذلك قد زال السبب الرابع أيضا‏.‏‏.‏‏.‏

فأي سبب خاص من بعد زوال هذه الأسباب الأربعة‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى المقصود من كلامه‏.‏

 الإيمان بالرسل:

 كرامة الأولياء:

أولياء الله عز وجل هم المؤمنون المتقون؛ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

فكل مؤمن تقي؛ فهو ولي لله عز وجل بقدر إيمانه وتقواه، وقد يظهر الله على يديه من خوارق العادات، وهي ما يسمى بالكرامات‏.‏

فالكرامة أمر خارق للعادة يجريه الله على يد بعض الصالحين من أتباع الرسل إكراما من الله له تأييدا له، أو إعانة، أو تثبيتا، أو نصرا للدين ببركة اتباعه للرسل صلوات الله وسلامه عليهم‏ ، وتظهر على يد عبد ظاهر الصلاح مصحوب بصحيح الاعتقاد والعمل الصالح.

وليس كل ولي تحصل له كرامة، وإنما تحصل لبعضهم‏:‏ إما لتقوية إيمانه، أو لحاجته، أو لإقامة حجة على خصمه المعارض في الحق‏.‏

والأولياء الذين لم تظهر لهم كرامة لا يدل ذلك على نقصهم؛ كما أن الذين وقعت لهم الكرامة لا يدل ذلك على أنهم أفضل من غيرهم‏.

‏والفرق بين المعجزة والكرامة: أن المعجزة تكون مقرونة بدعوى النبوة. بخلاف الكرامة فإن صاحبها لا يدعي النبوة وإنما حصلت له الكرامة باتباع النبي والاستقامة على شرعه. فالمعجزة للنبي والكرامة للولي. وجماعهما الأمر الخارق للعادة.

وكرامات الأولياء حق بإجماع أئمة الإسلام والسنة والجماعة، وقد دل عليها القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وإنما ينكرها أهل البدع من المعتزلة والجهمية ومن تابعهم، وهذا إنكار لما هو ثابت في القرآن والسنة‏.‏

- ففي القرآن الكريم‏:‏ قصة أصحاب الكهف، وقصة مريم‏ ، وقصة سارة زوج إبراهيم ، إتيان الجن بعرش ملكة سبأ وغير ذلك .‏

- وفي السنة الصحيحة؛ مثل نزول الملائكة كهيئة الظلة فيها أمثال السرج لاستماع قراءة أسيد بن حضير رضي الله عنه، وسلام الملائكة على عمران بن حصين رضي الله عنه‏.‏‏.‏‏.‏ ولها أمثلة كثيرة‏.‏

ومن أراد الاطلاع على هذه المسألة؛ فليراجع كتاب ‏"‏الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان‏"‏لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏.‏

وقد حصل في موضوع كرامات الأولياء التباس وخلط عظيم بين الناس‏:‏

فطائفة أنكروا وقوعها ونفوها بالكلية، وهم الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم، فخالفوا النصوص وكابروا الواقع‏.‏

وطائفة غلت في إثباتها، وهم العوام وعلماء الضلال، فأثبتوا كرامات للفجرة والفساق ومن ليسوا من أولياء الله بل من أولياء الشيطان، واعتمدوا في إثبات ذلك على الحكايات المكذوبة والمنامات والخوارق الشيطانية، فادعوا الكرامات للسحرة والمشعوذين والدجالين من مشايخ الطرق الصوفية والمخرفين، حتى عبدوهم من دون الله؛ أحياء وأمواتا، وبنوا الأضرحة على قبور من يزعمون لهم الولاية ممن حيكت لهم الدعايات العريضة ونسب إليهم التصرف في الكون وقضاء حوائج من دعاهم وطلب منهم المدد واستغاث بهم، وسموهم الأقطاب والأغواث بسبب تلك الكرامات المزعومة والحكايات المكذوبة‏.‏

فقد اتخذت دعوى الكرامات ذريعة لعبادة من نسبت إليه، وربما سموا الشعوذة والتدجيل والسحر كرامة؛ لأنهم لا يفرقون بين الكرامة والأحوال الشيطانية، ولا يفرقون بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وإلا؛ فمن المعلوم أنه حتى من ثبت أنه ولي لله بنص من القرآن أو السنة، وإن جرى على يده كرامة من الله؛ فإنه لا يجوز أن يعبد من دون الله، ولا أن يتبرك به أو بقبره؛ لأن العبادة حق لله وحده‏.‏

وهناك فروق بين كرامات الأولياء وخوارق السحرة والمشعوذين والدجالين‏:‏

- منها‏:‏ أن كرامات الأولياء سببها التقوى والعمل الصالح، وأعمال المشعوذين سببها الكفر والفسوق والفجور‏.‏

- ومنها‏:‏ أن كرامات الأولياء يستعان بها على البر والتقوى أو على أمور مباحة، وأعمال المشعوذين والدجالين يستعان بها على أمور محرمة؛ من الشرك والكفر وقتل النفوس‏.‏

- ومنها‏:‏ أن كرامات الأولياء تقوى بذكر الله وتوحيده، وخوارق السحرة والمشعوذين تبطل أو تضعف عند ذكر الله وقراءة القرآن والتوحيد‏.‏

فتبين بهذا أن بين كرامات الأولياء وتهريجات المشعوذين والدجالين فروقا تميز الحق من الباطل‏.‏

وكما ذكرنا؛ فإن أولياء الله حقا لا يستغلون ما يجريه الله على أيديهم من الكرامات للنصب والاحتيال ولفت أنظار الناس إلى تعظيمهم، وإنما تزيدهم تواضعا ومحبة لله وإقبالا على عبادته؛ بخلاف هؤلاء المشعوذين والدجالين؛ فإنهم يستغلون هذه الأحوال الشيطانية التي تجري على أيديهم لجلب الناس إلى تعظيمهم والتقرب إليهم وعبادتهم من دون الله عز وجل، حتى كون كل واحد منهم له طريقة خاصة وجماعة تسمى باسمه؛ كالشاذلية، والرفاعية، والنقشبندية‏.‏‏.‏‏.‏ إلى غير ذلك من الطرق الصوفية‏.

‏قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:"خرق العادة قد يقع للزنديق بطريق الإملاء والإغواء، كما يقع للصديق بطريق الكرامة والإكرام، وإنما تحصل التفرقة بينهما باتباع الكتاب والسنة". وقال العلامة الشوكاني رحمه الله:"لا يجوز للولي أن يعتقد في كل ما يقع له من الواقعات والمكاشفات أن ذلك كرامة من الله سبحانه، فقد يكون من تلبيس الشيطان ومكره. بل الواجب عليه أن يعرض أقواله وأفعاله على الكتاب والسنة، فإن كانت موافقة لها، فهي حق، وصدق، وكرامة من الله سبحانه، وإن كانت مخالفة لشيء من ذلك؛ فليعلم أنه مخدوع ممكور به، قد طمع منه الشيطان؛ فلبس عليه".

 والحاصل أن الناس انقسموا في موضوع الكرامات إلى ثلاث أقسام‏:‏

قسم الأول: غلوا في نفيها حتى أنكروا ما هو ثابت في الكتاب والسنة من الكرامات الصحيحة التي تجري على وفق الحق لأولياء الله المتقين‏.‏

وقسم الثانى: غلوا في إثبات الكرامات حتى اعتقدوا أن السحر والشعوذة والدجل من الكرامات، واستغلوها وسيلة للشرك والتعلق بأصحابها من الأحياء والأموات، حتى نشأ عن ذلك الشرك الأكبر بعبادة القبور وتقديس الأشخاص والغلو فيهم؛ لما يزعمونه لهم من الكرامات والخرافات‏.‏

والقسم الثالث‏:‏ وهم أهل السنة والجماعة، توسطوا في موضوع الكرامات بين الإفراط والتفريط، فأثبتوا منها ما أثبته الكتاب والسنة، ولم يغلوا في أصحابها، ولم يتعلقوا بهم من دون الله، ولا يعتقدون فيهم أنهم أفضل من غيرهم، بل هناك من أولياء الله من هو أفضل منهم، ولم تجر على يديه كرامة، ونفوا ما خالف الكتاب والسنة من الدجل والشعوذة والنصب والاحتيال، واعتقدوا أنه من عمل الشيطان، وليس هو من كرامات الأولياء‏.‏

فلله الحمد والمنة على وضوح الحق وافتضاح الباطل؛ ‏﴿‏لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ‏﴾‏‏‏ ‏.

 الإيمان باليوم الآخر:

 الإيمان بأشراط الساعة:

لما كان اليوم الآخر مسبوقا بعلامات تدل على قرب وقوعه تسمى أشراط الساعة؛ ناسب أن نذكر أهمها؛ لأن الإيمان بها واجب، وهو من صلب العقيدة‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا‏﴾‏‏‏؛ أي علاماتها وأماراتها، واحدها شرط بفتح الراء، وهو العلامة‏.‏

قال الإمام البغوي رحمه الله‏:‏ ‏"‏وكانت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة‏"‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ‏﴾‏‏‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

ولقرب وقوع يوم القيامة وتحققه، جعله سبحانه كغد‏:‏قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ‏﴾‏‏‏ ، والغد هو ما بعد يومك‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا‏﴾‏‏‏ ‏.‏

روى أنس رضي الله عنه مرفوعا‏:‏ ‏(‏بعثت أنا والساعة كهاتين‏)‏ وأشار بالسبابة والوسطى‏. [متفق عليه]

وفي ‏"‏الصحيحين‏"‏عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا‏:‏ ‏(‏إنما أجلكم فيمن مضى قبلكم من الأمم من صلاة العصر إلى مغرب الشمس‏). وفي لفظ‏:‏ ‏(‏إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس‏)‏ ‏.‏

ولما كان أمر الساعة شديدا؛ كان الاهتمام بشأنها أكثر من غيرها، ولهذا أكثر النبي صلى الله عليه وسلم من بيان أشراطها وأماراتها، وأخبر عما يأتي بين يديها من الفتن، ونبه أمته وحذرهم ليتأهبوا لذلك‏.‏

أما وقت مجيئها؛ فهو مما انفرد الله تعالى بعلمه وأخفاه عن العباد لأجل مصلحتهم؛ ليكونوا على استعداد دائما؛ كما أخفى سبحانه عن كل نفس وقت حلول أجلها؛ لتكون دائما على أهبة الاستعداد والانتظار ولا تتكاسل عن العمل‏.‏

قال العلامة السفاريني‏:‏ ‏"‏ثم اعلم أن أشراط الساعة وأماراتها تنقسم إلى ثلاثة أقسام‏:‏ قسم ظهر وانقضى‏:‏ وهو الأمارات البعيدة‏.‏ وقسم ظهر ولم ينقض بل لا يزال في زيادة‏.‏ والقسم الثالث‏:‏ الأمارات الكبيرة التي تعقبها الساعة، وهي تتابع كنظام خرزات انقطع سلكها‏.‏

القسم الأول: ‏(‏أعني التي ظهرت ومضت وانقضت‏)‏‏:‏ منها‏:‏ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وموته، وفتح بيت المقدس‏.‏ ومنها‏:‏ قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ قال حذيفة‏:‏ أول الفتن قتل عثمان‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

وذكر الحروب التي وقعت بين المسلمين بعد ذلك، وظهور الفرق الضالة كالخوارج والرافضة‏.‏‏.‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ومنها‏:‏ خروج كذابين دجالين كل منهم يدعي أنه نبي‏.‏ ومنها‏:‏ زوال ملك العرب، رواه الترمذي‏.‏ ومنها‏:‏ كثرة المال، رواه الشيخان وغيرهما‏.‏ ومنها‏:‏ كثرة الزلازل والخسف والمسخ والقذف وغير ذلك مما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أمارات الساعة فظهر ومضى وانقضى‏.‏

القسم الثاني‏:‏ الأمارات المتوسطة‏:‏ وهي التي ظهرت ولم تنقض بل تتزايد وتكثر، وهي كثيرة جدا‏.‏

منها قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع ابن لكع‏). رواه الإمام أحمد والترمذي والضياء المقدسي من حديث حذيفة رضي الله عنه، واللكع‏:‏ العبد والأحمق واللئيم، والمعنى‏:‏ لا تقوم الساعة حتى يكون اللئام والحمقى ونحوهم رؤساء الناس‏.‏

ومن الأمارات‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يأتي على الناس زمان الصابر على دينه كالقابض على الجمر‏). رواه الترمذي عن أنس‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد‏). رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يكون في آخر الزمان عباد جهال وقراء فسقة -وفي لفظ فساق-‏). رواه أبو نعيم والحاكم عن أنس‏.‏

- ومنها‏:‏ أن يرى الهلال ساعة يطلع، فيقال‏:‏ لليلتين؛ لانتفاخه وكبره‏.‏ روى معناه الطبراني عن ابن مسعود، وفي لفظ‏:‏ ‏(‏من أشراط الساعة انتفاخ الأهلة‏)‏ بالخاء المعجمة؛ أي‏:‏ عظمها، وروي بالجيم‏.‏

ومنها اتخاذ المساجد طرقا‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏"‏ومنها ما في ‏"‏صحيح البخاري‏"‏وغيره من حديث أنس رضي الله عنه‏:‏ أنه قال‏:‏ ألا أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحدثكم به أحد غيري‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ ‏(‏إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الزنى، ويكثر شرب الخمر، ويقل الرجال، ويكثر النساء؛ حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد‏)‏ ‏"‏

وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال‏:‏ ‏(‏بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم؛ جاءه أعرابي؛ قال متى الساعة‏؟‏ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، وقال بعض القوم سمع ما قال، وقال بعضهم بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه؛ قال أين السائل عن الساعة‏؟‏ فقال ها أنا يا رسول الله‏!‏ قال فإذا ضيعت الأمانة؛ فانتظر الساعة قال كيف إضاعتها‏؟‏ قال إذا وسد الأمر إلى غير أهله؛ فانتظر الساعة‏)‏ ‏.‏

القسم الثالث: من أمارات الساعة‏:‏ العلامات العظام والأشراط الجسام التي تعقبها الساعة، ومنها‏:‏ خروج المهدي، والمسيح الدجال، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام، وخروج يأجوج ومأجوج، وهدم الكعبة، والدخان، ورفع القرآن، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، وخروج النار من قعر عدن، ثم النفخ في الصور نفخة الفزع، ثم نفخة الصعق وهلاك الخلق، ثم نفخة البعث والنشور‏.‏

وعلى كل؛ فالأمر عظيم، ونحن في غفلة، وقد ظهر من هذه العلامات الشيء الكثير؛ فنسأل الله عز وجل أن يثبتنا على دينه، ويتوفانا على الإسلام، ويقينا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن‏.‏

وهذا من علامات النبوة ومعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث أخبر عن أمور مستقبلة مما أطلعه الله عز وجل على علمه، فوقع كما أخبر، وهذا مما يقوي إيمان العبد‏.‏

وفي إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك رحمة بالعباد؛ ليحذروا، ويستعدوا، ويكونوا على بصيرة من أمرهم؛ فصلوات الله وسلامه على هذا النبي الكريم الذي بلغ البلاغ المبين وبين غاية التبيين، ونحن على ذلك من الشاهدين‏.‏

 وأول هذه العلامات‏:‏ ظهور المهدي، ثم خروج الدجال، ثم نزول المسيح عليه السلام، ثم تتتابع‏.‏

 1- ظهور المهدي‏:

كنا قد ذكرنا فيما سبق العلامات الكبار مجملة، والآن سنذكرها مفصلة، وأولها ظهور المهدي‏.‏

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تنقضي الأيام ولا يذهب الدهر حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي؛ يواطئ اسمه اسمي‏). رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي بأسانيد صحيحة‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ وفي الباب عن علي وأبي سعيد وأم سلمة وأبي هريرة‏.‏

قال العلامة السفاريني‏:‏ ‏"‏وقد تكاثرت الروايات والآثار بأمر المهدي‏"‏‏.‏

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ ‏"‏الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏

واسم المهدي محمد بن عبد الله، من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يخرج في آخر الزمان وقد امتلأت الأرض جورا وظلما فيملؤها عدلا وقسطا‏.‏

قال العلامة السفاريني‏:‏ ‏"‏قد كثرت الأقوال في المهدي، حتى قيل‏:‏ لا مهدي إلا عيسى‏!‏ والصواب الذي عليه أهل الحق‏:‏ أن المهدي غير عيسى، وأنه يخرج قبل نزول عيسى عليه السلام، وقد كثرت بخروجه الروايات حتى بلغت حد التواتر المعنوي، وشاع ذلك بين علماء السنة حتى عد من معتقداتهم‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى‏.‏

أقول‏:‏ وقد انقسم الناس في أمر المهدي إلى طرفين ووسط‏:‏

فالطرف الأول‏:‏ من ينكر خروج المهدي مثل بعض الكتاب المعاصرين الذين ليس لهم خبرة بالنصوص وأقوال أهل العلم وإنما يعتمدون على مجرد آرائهم وعقولهم‏.‏

والطرف الثاني‏:‏ من يغالي في أمر المهدي من الطوائف الضالة، حتى ادعت كل طائفة لزعيمهم أنه المهدي المنتظر‏:‏ فالرافضة تدعي أن المهدي هو إمامهم المنتظر الذي ينتظرون خروجه من السرداب، ويسمونه محمد بن الحسن العسكري، دخل سرداب سامرا طفلا صغيرا منذ أكثر من خمس مائة سنة، وهم ينتظرون خروجه‏!‏ والفاطمية‏:‏ يزعمون أن زعيمهم هو المهدي‏.‏‏.‏‏.‏ وهكذا؛ كل من أراد التسلط والتغلب على الناس وخداعهم ادعى أنه المهدي المنتظر؛ كما أن من أراد الدجل والاحتيال من الصوفية ادعى أنه من أهل البيت وأنه سيد‏.‏

وأما الوسط في أمر المهدي؛ فهم أهل السنة والجماعة، الذين يثبتون خروج المهدي على ما تقضي به النصوص الصحيحة؛ في اسمه، واسم أبيه، ونسبه، وصفاته، ووقت خروجه، لا يتجاوزون ما جاء في الأحاديث في ذلك، ولخروجه أمارات وعلامات تسبقه ذكرها أهل العلم‏.‏

قال العلامة السفاريني‏:‏ ‏"‏قد كثرت الأقوال في المهدي، حتى قيل‏:‏ لا مهدي إلا عيسى‏!‏[ورد فيه حديث رواه ابن ماجة وهو حديث منكر كما في السلسلة الضعيفة 77] والصواب الذي عليه أهل الحق أن المهدي غير عيسى، وأنه يخرج قبل نزول عيسى عليه السلام، وقد كثرت بخروجه الروايات حتى بلغت حد التواتر المعنوي، وشاع ذلك بين علماء السنة حتى عد من معتقداتهم‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏"‏وقد روي عمن ذكر من الصحابة وغير من ذكر منهم رضي الله عنهم بروايات متعددة وعن التابعين بعدهم ما يفيد مجموعه العلم القطعي؛ فالإيمان بخروج المهدي واجب؛ كما هو مقرر عند أهل العلم ومدون في عقائد أهل السنة والجماعة‏"‏‏.‏

ثم قال السفاريني في بيان سيرته‏:‏ ‏"‏قال أهل العلم‏:‏ يعمل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يوقظ نائما، ويقاتل على السنة، لا يترك سنة إلا أقامها، ولا بدعة إلا رفعها، يقوم بالدين آخر الزمان كما قام به النبي صلى الله عليه وسلم، يكسر الصليب ويقتل الخنزير [وهذا من أمر عيسى عليه السلام وليس المهدي] ويرد إلى المسلمين إلفتهم ونعمتهم، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا‏"‏‏.‏

وقال في وصفه أيضا‏:‏ ‏"‏ثم يخرج رجل من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مهدي حسن السيرة؛ يغزو مدينة قيصر، وهو آخر أمير من أمة محمد، يخرج في زمانه الدجال، وينزل عيسى ابن مريم‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏ونقل العلامة الشيخ مرعي في كتابه ‏"‏فوائد الفكر‏"‏عن أبي الحسن محمد بن الحسين‏:‏ أنه قال‏:‏ قد تواترت الأحاديث واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم بمجيء المهدي؛ أنه من أهل بيته صلى الله عليه وسلم، وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلا، وأنه يخرج مع عيسى فيساعده على قتل الدجال بباب لد بأرض فلسطين، وأنه يؤم هذه الأمة وعيسى يصلي خلفه؛ يعني‏:‏ صلاة واحدة، وهي الفجر‏"‏انتهى‏.‏

ذلكم هو المهدي الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين صفاته الفارقة ووقت خروجه وسيرته، وقد ادعى المهدية جماعة من الضلَّال في وقت مبكر عن وقته، ولا تنطبق عليهم صفاته، وإنما أرادوا بذلك التغرير بالسذج، واستغلال ادعاء هذه الشخصية لمطامعهم الخاصة، فأظهر الله كذبهم، وفضح باطلهم، ولا تعجب؛ فقد ادعى قوم النبوة، وافتروا على الله الكذب، ‏﴿‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

نسأل الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، ويكفينا شر الأئمة المضلين والمحتالين الدجالين‏.‏ والحمد لله رب العالمين‏.‏

 2- خروج الدجال‏:

المسيح الدجال والفاتن الكذاب مسيح الضلالة نعوذ بالله من فتنته؛ فقد أنذرت به الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- أقوامها، وحذرت منه أممها، وبينت أوصافه، وحذر منه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكثر، وبين أوصافه ونعته لأمته نعوتا لا تخفى على ذي بصيرة‏.‏

وفي ‏"‏الترمذي‏"‏‏:‏ أنه يخرج من خراسان‏. [صححه الألباني 1591]

وفي ‏"‏صحيح مسلم‏"‏عن أنس رضي الله عنه مرفوعا‏:‏ ‏(‏يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة‏)‏ ‏.‏

وسمي المسيح؛ لأن عينه ممسوحة، وقيل‏:‏ لأنه يمسح الأرض؛ أي‏:‏ يقطعها، وسمي الدجال‏:‏ من الدجل، وهو الخلط، يقال‏:‏ دجل؛ إذا خلط وموّه، ودجال على وزن فعال من أبنية المبالغة؛ أي‏:‏ يكثر منه الكذب والتلبيس، وهو يخرج في زمان المهدي‏.‏

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله‏:‏ ‏"‏ثم يؤذن له ‏(‏أي‏:‏ الدجال‏)‏ في الخروج في آخر الزمان، يظهر أولا في صورة ملك من الملوك الجبابرة، ثم يدعي النبوة، ثم يدعي الربوبية، فيتبعه على ذلك الجهلة من بني آدم والطغام من الرعاع والعوام، ويخالفه ويرد عليه من هداه الله من الصالحين وحزب الله المتقين، ويتدنى فيأخذ البلاد بلدا بلدا وحصنا حصنا وإقليما إقليما وكورة كورة، ولا يبقى بلد من البلدان إلا وطئه بخيله ورجله؛ غير مكة والمدينة‏.‏

ومدة مقامه في الأرض أربعون يوما؛ يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيام الناس هذه، ومعدل ذلك سنة وشهران ونصف‏.‏

وقد خلق الله على يديه خوارق كثيرة يضل بها من يشاء من خلقه، ويثبت معها المؤمنون فيزدادون إيمانا مع إيمانهم وهدى إلى هداهم‏.‏

ويكون نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام مسيح الهدى في أيام مسيح الضلالة، فيجتمع عليه المؤمنون، ويلتف معه عباد الله المتقون، فيسير بهم المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام قاصدا نحو الدجال وقد توجه نحو بيت المقدس، فينهزم منه الدجال، فيلحقه عند باب مدينة لد، فيقتله بحربته وهو داخل إليها، ويقول له‏:‏ إن لي فيك ضربة لن تفوتني، وإذا واجهه الدجال؛ ينماع كما ينماع الملح في الماء، فيتداركه، فيقتله بالحربة بباب لد، فتكون وفاته هناك لعنه الله؛ كما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح من غير وجه‏"‏‏.‏ انتهى كلام ابن كثير رحمه الله في تلخيص قصة الدجال حسبما ورد في النصوص الصحيحة، وهو تلخيص جيد مفيد‏.‏

والذي تدل عليه النصوص من أمر الدجال أيضا وفتنته‏ لمن آمن به: أنه يأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت لهم زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم، وترجع لهم مواشيهم سمانا ذات لبن، ومن لا يستجيب له ويرد عليه أمره؛ تصيبهم السنة والجدب والقحط والقلة وموت الأنعام ونقص الأموال والأنفس والثمرات، وأنه تتبعه كنوز الأرض كيعاسيب النحل، وأنه يقتل شابا ثم يحييه؛ كل ذلك امتحان يمتحن الله به عباده في آخر الزمان، فيضل به كثيرا‏.‏

وهو مع هذا هين على الله، ناقص ظاهر النقص والفجور والظلم، وإن كان معه ما معه من الخوارق، مكتوب بين عينيه كافر، وما يجريه على يديه محنة من الله لعباده، وهي محنة خطيرة، لا ينجو منها إلا أهل الإيمان واليقين، ولخطورة محنته وشدة فتنته حذرت منه الأنبياء أممها، وأشدهم تحذيرا لأمته محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

فعن ابن عمر ﭭ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إني أنذركموه وما من نبي إلا وقد أنذر قومه لقد أنذر نوح قومه ولكني سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه تعلمون أنه أعور وأن الله ليس بأعور» . [متفق عليه]

وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالاستعاذة من فتنته في آخر كل صلاة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر؛ فليتعوذ بالله من أربع من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال‏). رواه الإمام أحمد ومسلم‏.‏

وقد تواترت الأحاديث من وجوه متعددة في إثبات خروج الدجال وبيان فتنته والاستعاذة منه، وأجمع أهل السنة والجماعة على خروج الدجال في آخر الزمان، وذكروا ذلك ضمن مباحث العقيدة؛ فمن أنكر خروجه؛ فقد خالف ما دلت عليه الأحاديث المتواترة، وخالف ما عليه أهل السنة والجماعة، ولم ينكر خروجه إلا بعض المبتدعة كالخوارج والجهمية وبعض المعتزلة وبعض الكتاب العصريين والمنتسبين إلى العلم، ولم يعتمدوا على حجة يدفعون بها النصوص المتواترة سوى عقولهم وأهوائهم، ومثل هؤلاء لا عبرة بهم ولا بقولهم‏.‏

والواجب على المؤمن الإيمان بما صح عن الله ورسوله، واعتقاد ما يدل عليه، ولا يكون من الذين قال الله تعالى فيهم‏:‏ ‏﴿‏بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ‏﴾‏‏‏؛ لأن مقتضى الإيمان بالله ورسوله هو التسليم لما جاء عنهما والإيمان به، ومن لم يفعل؛ فإنه متبع لهواه بغير هدى من الله‏.‏

نسأل الله العافية والسلامة من الشك والشرك، والكفر والنفاق وسوء الأخلاق، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، والحمد لله رب العالمين‏.‏

 3- نزول عيسى ابن مريم عليه السلام:

إن نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام ثابتٌ كما دل عليه القرآن فقد أخبر به الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وتواتر النقل عنه بذلك، وأجمع عليه علماء الأمة سلفا وخلفا، واعتبروه مما يجب اعتقاده والإيمان به‏.‏

قال السفاريني‏:‏ ‏"‏ونزوله عليه الصلاة والسلام ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة‏:‏ أما الكتاب؛ فقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك عند نزوله من السماء آخر الزمان، حتى تكون الملة واحدة؛ ملة إبراهيم حنيفا مسلما‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏"‏وأما السنة؛ ففي ‏"‏الصحيحين‏"‏وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده؛ ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية‏)‏ الحديث‏.‏ وفي مسلم عنه‏:‏ ‏(‏والله؛ لينزلن ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب‏)‏ بنحوه‏.‏ وأخرج مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه؛ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، فينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم تعال صلِّ بنا‏!‏ فيقول لا؛ إن بعضكم على بعض أمراء؛ تكرمة الله هذه الأمة‏)‏ ‏.‏

وأما الإجماع؛ فقد أجمعت الأمة على نزوله، ولم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة، وإنما أنكر ذلك الفلاسفة والملاحدة أو من لا يعتد بخلافه‏.‏

وقد انعقد إجماع الأمة على أنه ينزل ويحكم بهذه الشريعة المحمدية، وليس بشريعة مستقلة عند نزوله من السماء، وإن كانت النبوة قائمة به، وهو متصف بها، ويتسلم الأمر من المهدي، ويكون المهدي من أصحابه وأتباعه كسائر أصحاب المهدي‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى كلام السفاريني رحمه الله‏.‏

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ ‏"‏وعيسى حي في السماء لم يمت بعد، وإذا نزل من السماء؛ لم يحكم إلا بالكتاب والسنة، لا بشيء يخالف ذلك‏"‏‏.‏

وقال أيضا‏:‏ ‏"‏عيسى عليه السلام حي، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا؛ فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية‏). وثبت في الصحيح عنه‏:‏ ‏(‏أنه ينزل على المنارة البيضاء شرق دمشق ويقتل الدجال‏). ومن فارقت روحه جسده؛ لم ينزل جسده من السماء، وإذا أحيي؛ فإنه يقوم من قبره‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏﴾‏‏‏؛ فهذا دليل على أنه لم يعن بذلك الموت؛ إذ لو أراد بذلك الموت لكان عيسى في ذلك كسائر المؤمنين؛ فإن الله يقبض أرواحهم ويعرج بها إلى السماء، فعلم أن ليس في ذلك خاصية، وكدلك قوله‏:‏ ‏﴿‏وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏﴾‏‏‏ ، ولو كان قد فارقت روحه جسده؛ لكان بدنه في الأرض كبدن سائر الأنبياء أو غيره من الأنبياء‏.‏

وقد قال تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏﴿‏وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ‏﴾‏‏‏؛ فقوله هنا‏:‏ ‏﴿‏بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ‏﴾‏‏‏؛ يبين أنه رفع بدنه وروحه؛ كما ثبت في الصحيح أنه ينزل بدنه وروحه؛ إذ لو أريد موته لقال‏:‏ وما قتلوه وما صلبوه بل مات‏.‏

ولهذا قال من قال من العلماء‏:‏ ‏﴿‏إِنِّي مُتَوَفِّيكَ‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ قابضك، أي‏:‏ قابض روحك وبدنك، يقال‏:‏ توفيت الحساب واستوفيته، ولفظ التوفي لا يقتضي توفي الروح دون البدن ولا توفيهما جميعا إلا بقرينة منفصلة، وقد يراد به توفي النوم؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا‏﴾‏‏‏ ، وقوله‏:‏ ‏﴿‏وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ‏﴾‏‏‏ ‏"‏انتهى‏.‏

وقال القاضي عياض‏:‏ ‏"‏نزول عيسى عليه السلام وقتله الدجال حق وصحيح عند أهل السنة؛ للأحاديث الصحيحة في ذلك، وليس في العقل ولا في الشرع ما يبطله، فوجب إثباته‏.‏ وأنكر ذلك بعض المعتزلة والجهمية ومن وافقهم، وزعموا أن هذه الأحاديث مردودة بقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وخاتم النبيين‏﴾‏‏‏ ، وبقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا نبي بعدي‏)‏ ، وبإجماع المسلمين أنه لا نبي بعد نبينا صلى الله عليه وسلم وأن شريعته مؤبدة إلى يوم القيامة ولا تنسخ‏!‏ وهذا استدلال فاسد؛ لأنه ليس المراد بنزول عيسى عليه السلام أنه ينزل نبيا بشرع ينسخ شرعنا، ولا في هذه الأحاديث ولا في غيرها شيء من هذا، بل صحت هذه الأحاديث هنا وما سبق في كتاب الإيمان وغيرها أنه ينزل حكما مقسطا يحكم بشرعنا ويحيي من أمور شرعنا ما هجره الناس‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى‏.‏

أقول‏:‏ وفي عصرنا هذا ينكر بعض الكتاب الجهال وأنصاف العلماء نزول عيسى عليه السلام؛ اعتمادا على عقولهم وأفكارهم، ويطعنون في الأحاديث الصحيحة، أو يؤولونها بتأويلات باطلة، والواجب على المسلم التصديق بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح عنه واعتقاده؛ لأن ذلك من الإيمان بالغيب الذي أطلع الله ورسوله عليه‏.‏‏.‏‏.‏

قال العلامة السفاريني رحمه الله‏:‏ ‏"‏ويكون مقررا لشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه رسول لهذه الأمة كما مر، ويكون قد علم أحكام هذه الشريعة بأمر الله تعالى وهو في السماء قبل أن ينزل‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏وزعم بعض العلماء أنه بنزول سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام يرفع التكليف، وهذا مردود؛ للأخبار الواردة أنه يكون مقررا لأحكام هذه الشريعة ومجددا لها؛ إذ هي آخر الشرائع، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم آخر الرسل، والدنيا لا تبقى بلا تكليف؛ فإن بقاء الدنيا إنما يكون بمقتضى التكليف إلى أن لا يقال في الأرض الله الله، ذكره القرطبي في ‏"‏تذكرته‏"‏‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏وأما مدته ووفاته؛ فقد ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الطبراني وابن عساكر‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ينزل عيسى ابن مريم، فيمكث في الناس أربعين سنة‏)[قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله ثقات]‏.‏ وعند الإمام أحمد وابن أبي شيبة وأبي داود وابن جرير وابن حبان عنه‏:‏ أنه يمكث أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنوه عند نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ‏"‏‏ [إسناده فيه انقطاع لكن صححه الحافظ ابن حجر وقال ابن كثير: هذا إسناد جيد قوي].‏ انتهى كلامه‏.‏

 4- خروج يأجوج ومأجوج:

نتكلم عن خروج يأجوج ومأجوج على ضوء ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله من ذكر هذا الحدث العظيم؛ لأن الإيمان بذلك واعتقاده واجب على المسلم‏.‏

وخروج يأجوج ومأجوج ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة؛ ذكر ذلك السفاريني رحمه الله‏:

أما الكتاب؛ ففي قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ‏﴾‏‏‏

وقال تعالى في قصة ذي القرنين‏:‏ ‏﴿‏ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا‏﴾‏‏‏ ، وهذا سد من حديد بين جبلين بناه ذو القرنين فصار ردما واحدا يحجز هؤلاء القوم المفسدين في الأرض عن أذية الناس والإفساد في الأرض؛ فإذا جاء الوقت الذي قدر انهدام السد فيه؛ جعله الله مساويا للأرض؛ وعدا لا بد منه؛ فإذا انهدم؛ يخرجون على الناس ويموجون وينسلون- أي‏:‏ يسرعون المشي- من كل حدب، ثم يكون النفخ في الصور قريبا من ذلك‏.‏

وأما الدليل من السنة؛ ففي ‏"‏صحيح مسلم‏"‏من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله تعالى يوحي إلى عيسى ابن مريم عليه السلام بعد قتله الدجال أني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد في قتالهم؛ فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أولهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذا ماء، ويحصرون عيسى وأصحابه، حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار‏)‏ الحديث‏.‏

وفي حديث حذيفة عند الطبراني‏:‏ ‏"‏ ويمنعهم الله من مكة والمدينة وبيت المقدس‏"‏‏ [جوَّده ابن الملقن]

قال الإمام النووي‏:‏ ‏"‏هم من ولد آدم عند أكثر العلماء‏"‏‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ ‏"‏الإجماع على أنهم من ولد يافث بن نوح عليه السلام‏"‏‏.‏

وذكر العلامة السفاريني‏:‏ ‏"‏قال ابن كثير‏:‏ يأجوج ومأجوج طائفتان من الترك من ذرية آدم‏.‏ ثم قال‏:‏ وهم من ذرية نوح من سلالة يافث أبي الترك‏"‏‏.‏

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن قرب خروجهم وحذر منهم، فقال عليه الصلاة والسلام- كما في ‏"‏الصحيحين‏"‏- عن أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا‏)‏ ‏.‏

وفي ‏"‏الصحيحين‏"‏من حديث زينب بنت جحش‏:‏ ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام عندها، ثم استيقظ محمرا وجهه وهو يقول لا إله إلا الله‏!‏ ويل للعرب من شرٍّ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بين إصبعيه‏)

- وأما صفاتهم وأجسامهم؛ فقد قال الإمام ابن كثير رحمه الله‏:‏ ‏"‏وهم يشبهون الناس كأبناء جنسهم من الترك الغتم المغول؛ المُخرزمة عيونهم، الذلف أنوفهم، الصهب شعورهم، على أشكالهم وألوانهم‏.‏ ومن زعم أن منهم الطويل الذي كالنخلة السحوق أو أطول، ومنهم القصير الذي هو كالشيء الحقير، ومنهم من له أذنان يتغطى بإحداهما ويتوطأ بالأخرى؛ فقد تكلف ما لا علم له به، وقال ما لا دليل عليه‏"‏‏.‏

وأما ما يحصل منهم من الأذى والفساد في الأرض ونهايتهم؛ فقد دل على ذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري؛ قال‏:‏ ‏(‏سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يفتح يأجوج ومأجوج، فيخرجون على الناس؛ كما قال تعالى ‏﴿‏وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ‏﴾‏‏‏ ، فيغشون الناس، وينحاز الناس عنهم إلى مدائنهم وحصونهم، ويضمون إليهم مواشيهم، فيشربون مياه الأرض، حتى إن بعضهم ليمر بالنهر، فيشربون ما فيه حتى يتركوه يبسا، حتى إن من بعدهم ليمر بذلك النهر، فيقول قد كان هاهنا ماء مرة، حتى إذا لم يبق من الناس أحد إلا أحد في حصن أو مدينة؛ قال قائلهم هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم، بقي أهل السماء قال ثم يهز أحدهم حربته، ثم يرمي بها إلى السماء، فترجع إليه مختضبة دما للبلاء والفتنة؛ فبينما هم على ذلك؛ بعث الله دودا في أعناقهم كنغف الجراد الذي يخرج في أعناقه، فيصبحون موتى لا يسمع لهم حس، فيقول المسلمون ألا رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هذا العدو قال فيتجرد رجل منهم محتسبا، قد وطنها على أنه مقتول، فينزل، فيجدهم موتى بعضهم على بعض، فينادي يا معشر المسلمين‏!‏ ألا أبشروا‏!‏ إن الله تعالى قد كفاكم عدوكم فيخرجون من مدائنهم وحصونهم، ويسرحون مواشيهم؛ فما يكون لها رعي إلا لحومهم، فتشكر عنه كأحسن ما تشكر عن شيء أصابته من النبات قط‏)‏ ‏.‏

قال الإمام ابن كثير‏:‏ ‏"‏وهكذا أخرجه ابن ماجه من حديث يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق به، وهو إسناد جيد‏"‏‏.‏

وقد أنكر بعض الكتاب العصريين وجود يأجوج ومأجوج ووجود السد‏!‏ وبعضهم يقول‏:‏ إن يأجوج ومأجوج هم جميع دول الكفر المتفوقة في الصناعة‏!‏‏!‏ ولا شك أن هذا تكذيب لما جاء في القرآن، وتكذيب لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو تأويل له بما لا يحتمله، ولا شك أن من كذب بما جاء في القرآن أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو كافر، وكذلك من أوله بما لا يحتمله، فإنه ضال ويخشى عليه من الكفر‏.‏

وليس لهؤلاء شبهة يستندون إليها إلا قولهم‏:‏ إن الأرض قد اكتشفت كلها فلم يوجد ليأجوج ومأجوج ولا للسد مكان فيها‏!‏‏!‏

والجواب عن ذلك‏:‏ أن كون المكتشفين لم يعثروا على يأجوج ومأجوج وسدهم لا يدل ذلك على عدم وجودهم، بل يدل على عجز البشر عن الإحاطة بملكوت الله عز وجل، وقد يكون الله عز وجل صرف أبصارهم عن رؤيتهم، أو جعل أشياء تمنع من الوصول إليهم، والله قادر على كل شيء، وكل شيء له أجل؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏﴾‏‏‏ ، وما الذي أعمى أبصار الأوائل وأعجز قدراتهم عن كنوز الأرض التي اكتشفها المعاصرون كالبترول وغيره إلا أن الله عز وجل جعل لذلك أجلا ووقتا‏؟‏‏!‏ فالله المستعان‏.‏

 5- خروج الدابة:

ذكر الله خروج الدابة في قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

قال الإمام ابن كثير رحمه الله في ‏"‏النهاية‏"‏‏:‏ ‏"‏قال ابن عباس والحسن وقتادة‏:‏ ‏(‏تكلمهم‏)‏؛ أي‏:‏ تخاطبهم مخاطبة، ورجح ابن جرير تخاطبهم؛ تقول لهم‏:‏ ‏﴿‏أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ‏﴾‏‏‏ ، وحكاه عن علي وعطاء‏"‏‏.‏

قال ابن كثير‏:‏ ‏"‏في هذا نظر‏"‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏"‏وعن ابن عباس‏:‏ ‏"‏تكلمهم‏"‏‏:‏ تجرحهم؛ بمعنى‏:‏ تكتب على جبين الكافر كافر، وعلى جبين المؤمن مؤمن، وعنه‏:‏ تخاطبهم وتجرحهم، وهذا القول ينتظم المذهبين، وهو قوي حسن جامع لهما‏.‏ والله أعلم‏"‏‏.‏

وقال أيضا في ‏"‏تفسيره‏"‏‏:‏ ‏"‏هذه الدابة تخرج في آخر الزمان عند فساد الناس، وتركهم أوامر الله، وتبديلهم الدين الحق؛ يخرج الله لهم دابة من الأرض؛ قيل‏:‏ من مكة، وقيل‏:‏ من غيرها، فتكلم الناس‏"‏‏.‏

وقال القرطبي في ‏"‏تفسيره‏"‏‏:‏ ‏"‏قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ‏﴾‏‏‏ ‏:‏ اختلف في معنى ‏(‏وقع القول‏)‏ وفي الدابة؛ فقيل‏:‏ معنى ‏(‏وقع القول عليهم‏)‏‏:‏ وجب الغضب عليهم‏.‏ قاله قتادة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ أي‏:‏ حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون‏.‏ وقال ابن عمر وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهما‏:‏ إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر؛ وجب السخط عليهم‏.‏ وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ وقع القول يكون بموت العلماء وذهاب العلم ورفع القرآن قال عبد الله أكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع قالوا هذه المصاحف ترفع؛ فكيف بما في صدور الرجال‏؟‏‏!‏ قال يسرى عليه ليلا فيصبحون منه قفرا وينسون لا إله إلا الله ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم وذلك حين يقع القول عليهم

ثم ذكر أقوالا أخرى في معنى وقع القول عليهم، ثم قال‏:‏ ‏"‏قلت‏:‏ وجميع الأقوال عند التأمل ترجع إلى معنى واحد، والدليل عليه آخر الآية‏:‏ ‏﴿‏أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ‏﴾‏‏‏ ، وقرئ‏:‏ ‏(‏أن الناس‏)‏؛ بفتح الهمزة‏.‏

وفي ‏"‏صحيح مسلم‏"‏عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثلاث إذا خرجن؛ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض‏)‏ ‏.‏

واختلف في تعيين هذه الدابة وصفتها ومن أين تخرج اختلافا كثيرا قد ذكرناه في كتاب ‏"‏التذكرة‏"‏‏"‏ انتهى‏.‏

وعن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه؛ قال‏:‏ ‏(‏طلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، فقال ما تذاكرون‏؟‏ قالوا نذكر الساعة قال إنها لن تقوم الساعة حتى تروا قبلها عشر آيات وذكر منها الدابة‏). رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومسلم وأهل السنن، وقال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏

ولمسلم من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏بادروا بالأعمال ستا طلوع الشمس من مغربها، والدجال، والدابة‏)‏ الحديث‏.‏

ولمسلم أيضا من حديث قتادة عن الحسن عن زياد بن رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال‏:‏ ‏(‏بادروا بالعمل ستا الدجال، والدخان، ودابة الأرض‏)‏ الحديث‏.‏

وقال مسلم‏:‏ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن بشر عن أبي حيان عن أبي زرعة عن عبد الله بن عمرو؛ قال‏:‏ حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لم أنسه بعد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى؛ فأيهما كانت قبل صاحبتها؛ فالأخرى على أثرها قريبا‏)‏ ‏.‏

قال ابن كثير‏:‏ ‏"‏أي‏:‏ أول الآيات التي ليست مألوفة، وإن كان الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام من السماء قبل ذلك، وكذلك خروج يأجوج ومأجوج؛ فكل ذلك أمور مألوفة؛ لأنهم بشر، مشاهدتهم وأمثالهم مألوفة، فأما خروج الدابة على شكل غير مألوف ومخاطبتها الناس ووسمها إياهم بالإيمان والكفر؛ فأمر خارج عن مجاري العادات، وذلك أول الآيات الأرضية؛ كما أن طلوع الشمس من مغربها على خلاف عاداتها المألوفة أول الآيات السماوية‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏

وعمل هذه الدابة كما جاءت به الأحاديث أنها تَسِمُ الناس: المؤمن والكافر‏:‏ فأما المؤمن؛ فيرى وجهه كأنه كوكب دري، ويكتب بين عينيه‏:‏ مؤمن‏.‏ وأما الكافر؛ فتنكت بين عينيه نكتة سوداء، ويكتب بين عينيه‏:‏ كافر‏. [رواه الطبري بسند حسن]

وفي رواية‏:‏ فتلقى المؤمن فتسمه في وجهه نكتة فيبيض لها وجهه، وتسم الكافر نكتة سوداء يسود لها وجهه، ويشترك الناس في الأموال، ويصطحبون في الأمصار، يعرف المؤمن الكافر وبالعكس، حتى إن المؤمن يقول للكافر‏:‏ يا كافر‏!‏ اقضني حقي‏.‏

وأما صفتها؛ فقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي في ‏"‏تفسيره‏"‏‏:‏ ‏"‏وهذه الدابة المشهورة التي تخرج في آخر الزمان وتكون من أشراط الساعة كما تكاثرت بذلك الأحاديث، ولم يذكر الله ولا رسوله كيفية هذه الدابة، وإنما ذكر أثرها المقصود منها، وأنها من آيات الله، تكلم الناس كلاما خارقا للعادة حين يقع القول على الناس وحين يمترون بآيات الله، فتكون حجة وبرهانا للمؤمنين وحجة على المعاندين‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى‏.‏

وقد أنكر بعض المعاصرين خروج هذه الدابة، واستبعدوا ذلك، وبعضهم يؤولونها بتأويلات فارغة، وليس لهم حجة في ذلك سوى أن عقولهم لا تتحمل ذلك‏.‏

والواجب على المؤمن التصديق والتسليم لما جاء عن الله ورسوله؛ لأن هذا من الإيمان بالغيب الذي مدح الله به المؤمنين‏.‏

هذا ونسأل الله الهداية والتوفيق لمعرفة الحق والعمل به‏.‏

 6- طلوع الشمس من مغربها:

قال الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ‏﴾‏‏‏

قال الحافظ ابن كثير في ‏"‏النهاية‏"‏‏:‏ ‏"‏قال البخاري عند تفسير هذه الآية‏:‏ حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد، حدثنا عمارة، حدثنا أبو زرعة، حدثنا أبو هريرة، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها؛ فإذا رآها الناس؛ آمن من عليها؛ فذاك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل‏). وقد أخرجه بقية الجماعة إلا الترمذي‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى‏.‏

وقال السفاريني‏:‏ ‏"‏قال العلماء رحمهم الله تعالى‏:‏ طلوع الشمس من مغربها ثابت بالسنة الصحيحة والأخبار الصريحة، بل وبالكتاب المنزل على النبي المرسل‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا‏﴾‏‏‏ الآية؛ أجمع المفسرون- أو جمهورهم- على أنها طلوع الشمس من مغربها، وحاصل ذلك والمقصود من الآية الكريمة‏:‏ أن من لم يكن إيمانه متحققا إذا طلعت الشمس من مغربها؛ لم ينفعه تجديد الإيمان، ولم ينفعه فعل بر من جميع الأعمال؛ لأنه فقد الإيمان الذي هو الأساس لما عداه من تلك الأعمال؛ فلا ينفعه إيمانه الحادث حينئذ، ولا ما صدر منه قبل ذلك من الإحسان وعمل البر من صلة الأرحام وإعتاق الرقاب وقرى الأضياف وغير ذلك مما هو مكارم الأخلاق؛ لأنها على غير أساس؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ‏﴾‏‏‏ ، والإيمان الحادث في ذلك الوقت ليس مقبولا‏.‏

وقد أخرج الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها؛ فإذا طلعت ورآها الناس؛ آمنوا أجمعون؛ فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها‏)‏ ‏.‏

وقال الإمام ابن كثير رحمه الله‏:‏ ‏"‏وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه النسائي وابن ماجه من طريق عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن صفوان بن عسال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الله فتح بابا قبل المغرب، عرضه سبعون -‏أو قال أربعون عاما‏-‏ للتوبة، ثم لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها‏)‏ ‏.

فهذه الأحاديث المتواترة مع الآية الكريمة دليل على أن من أحدث إيمانا وتوبة بعد طلوع الشمس من مغربها لا تقبل منه، وإنما كان كذلك- والله أعلم-؛ لأن ذلك من أشراط الساعة وعلاماتها الدالة على اقترابها ودنوها، فعومل ذلك الوقت معاملة يوم القيامة؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا‏﴾‏‏‏ ، وقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ‏﴾‏‏‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَهَل يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُم‏﴾‏‏. انتهى‏.‏

وقال أيضا في ‏"‏تفسيره‏"‏‏:‏ ‏"‏ ‏﴿‏لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ‏﴾‏‏‏

أي‏:‏ إذا أنشأ الكافر إيمانا يومئذ؛ لا يقبل منه، فأما من كان مؤمنا قبل ذلك؛ فإن كان مصلحا في عمله؛ فهو بخير عظيم، وإن لم يكن مصلحا، فأحدث توبة حينئذ؛ لم تقبل منه توبته؛ كما دلت عليه الأحاديث الكثيرة، وعليه يحمل قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ لا يقبل منه كسب عمل صالح إذا لم يكن عاملا به قبل ذلك‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏

وقال البغوي‏:‏ ‏"‏ ‏﴿‏يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ لا ينفعهم الإيمان عند ظهور الآية التي تضطرهم إلى الإيمان‏.‏ ‏﴿‏أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا‏﴾‏‏‏؛ يريد‏:‏ لا يقبل إيمان كافر ولا توبة فاسق‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏

قال القرطبي رحمه الله في ‏"‏تفسيره‏"‏‏:‏ ‏"‏قال العلماء‏:‏ وإنما لا ينفع نفسا إيمانها عند طلوعها من مغربها؛ لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع ما تخمد معه كل شهوة من شهوات النفس وتفتر كل قوة من قوى البدن، فيصير الناس كلهم- لإيقانهم بدنو القيامة- في حال من حضره الموت في انقطاع الدواعي إلى أنواع المعاصي عنهم وبطلانها في أبدانهم؛ فمن تاب في مثل هذه الحال؛ لم تقبل توبته؛ كما لا تقبل توبة من حضره الموت؛ قال صلى الله عليه وسلم‏:

(‏إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر‏)‏؛

أي‏:‏ تبلغ روحه رأس حلقه، وذلك وقت المعاينة الذي يُرى فيه مقعده من الجنة أو مقعده من النار؛ فالمشاهد لطلوع الشمس من مغربها مثله‏"‏اهـ‏.‏

وعلى كل؛ فهذا حدث عظيم وهول مفزع يؤذن بتغيير نظام الكون وقرب قيام الساعة، وفيه دليل على عظيم قدرة الله عز وجل، وأن هذه الشمس مدبرة مخلوقة يعتريها الخلل بإذن الله تعالى‏.‏

هذا؛ ونسأل الله عز وجل أن يرزقنا الإيمان الصادق واليقين النافع الذي يدفع إلى العمل الصالح والاستعداد بالزاد النافع ليوم المعاد قبل فوات الفرصة ونهاية الأجل، والله المستعان، والحمد لله رب العالمين‏.‏

 7- حشر الناس إلى أرض الشام:

قال الإمام ابن كثير في ‏"‏النهاية‏"‏‏:‏ ‏"‏ثبت في ‏"‏الصحيحين‏"‏من حديث وهيب، عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين وراهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وعشرة على بعير، وتحشر بقيتهم النار؛ تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا‏)‏ ‏.‏

ثم ساق الأحاديث في هذا المعنى، ثم قال‏:‏ ‏"‏فهذه السياقات تدل على أن هذا الحشر هو حشر الموجودين في آخر الدنيا من أقطار الأرض إلى محلة، وهي أرض الشام، وأنهم يكونون على أصناف ثلاثة؛ فصنف طاعمين كاسين راكبين، وقسم يمشون تارة ويركبون تارة أخرى، وهم يعتقبون على البعير الواحد- كما تقدم في ‏"‏الصحيحين‏"‏- اثنان على بعير وثلاثة على بعير‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏"‏وعشرة على بعير يعتقبونه من قلة الظهر؛ كما تقدم في الحديث، وكما جاء مفسرا في الآخر‏:‏ ‏"‏وتحشر بقيتهم النار‏"‏، وهي التي تخرج من قعر عدن، فتحيط بالناس من ورائهم؛ تسوقهم من كل جانب إلى أرض المحشر، ومن تخلف منهم؛ أكلته النار‏.‏

وهذا كله مما يدل على أن هذا في آخر الزمان؛ حيث الأكل والشرب والرُّكوب موجودا ، والمشترى وغيره، وحيث تُهلك المتخلفين منهم النارُ، ولو كان هذا بعد نفخة البعث؛ لم يبق موت ولا ظهر يشترى ولا أكل ولا شرب‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏

وقد جاءت أحاديث تدل على أنه في آخر الزمان تخرج نار من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر‏.‏

منها الحديث الذي رواه أحمد ومسلم وأهل ‏"‏السنن‏"‏‏:‏ ‏"‏تخرج نار من قعر عدن، تسوق ‏(‏أو‏:‏ تحشر‏)‏ الناس؛ تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا‏"‏‏.‏

ومنها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ قال‏:‏ ‏(‏قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ستخرج نار من حضرموت ‏(‏أو من نحو بحر حضرموت‏)‏ قبل يوم القيامة تحشر الناس قالوا يا رسول الله‏!‏ فما تأمرنا‏؟‏ قال عليكم بالشام‏). رواه أحمد والترمذي وابن حبان في ‏"‏صحيحه‏"‏، وقال الترمذي‏:‏ ‏"‏هذا حديث حسن صحيح غريب‏"‏‏.‏

قال السفاريني‏:‏ ‏"‏اختلف العلماء في حشر الناس من المشرق إلى المغرب؛ هل هو يوم القيامة أو قبله، فقال القرطبي والخطابي وصوبه القاضي عياض‏:‏ إن هذا الحشر يكون قبل يوم القيامة‏.‏ وأما الحشر من القبور؛ فهو على ما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا؛ كما في ‏"‏الصحيحين‏"‏وغيرهما‏:‏ ‏"‏إنكم تحشرون حفاة عراة غرلا‏"‏‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏"‏وانتصر القاضي عياض لقول الخطابي والقرطبي بأن حديث أبي هريرة‏:‏ ‏"‏تقيل معهم‏.‏‏.‏‏.‏ وتبيت‏.‏‏.‏‏.‏ وتصبح‏.‏‏.‏‏.‏ وتمسي‏"‏‏:‏ يؤيد أن الحشر في الدنيا إلى الشام؛ لأن هذه الأوصاف مختصة بالدنيا‏"‏‏.‏

وقال أيضا‏:‏ ‏"‏ذكر القرطبي في ‏"‏تذكرته‏"‏‏:‏ أن الحشر أربع‏:‏ حشران في الدنيا، وحشران في الآخرة‏"‏‏.‏

فاللذان في الدنيا‏:‏ المذكور في سورة الحشر، وهو حشر اليهود إلى الشام، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اخرجوا‏!‏‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ إلى أين‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏إلى أرض المحشر‏"‏‏.‏ ثم أجلى آخرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه من جزيرة العرب‏.‏

والحشر الثاني المذكور في أشراط الساعة؛ نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب؛ كما في حديث أنس وعبد الله بن سلام‏.‏

وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهم مرفوعا‏:‏ ‏"‏تبعث على أهل المشرق نار فتحشرهم إلى المغرب؛ تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، ويكون لها ما سقط منهم وتخلف، وتسوقهم سوق الجمل‏"‏‏.‏

قال الحافظ ابن حجر‏:‏ وكونها تخرج من قعر عدن لا ينافي حشرها الناس من المشرق إلى المغرب؛ لأن ابتداء خروجها من عدن؛ فإذا خرجت؛ انتشرت في الأرض كلها؛ المراد تعميم الحشر لا خصوص المشرق والمغرب، أو أنها بعد الانتشار أول ما تحشر أهل المشرق‏.‏

قال القرطبي‏:‏ وأما اللذان في الآخرة؛ فحشر الأموات من قبورهم بعد البعث جميعا؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا‏﴾‏‏‏ ، وحشرهم إلى الجنة والنار، وقال‏:‏ على قول الناظم‏:‏

وآخر الآيات حشر النار ** كما أتى في محكم الأخبار

قال‏:‏ ‏"‏وآخر الآيات‏"‏‏:‏ العظام والعلامات الجسام‏.‏ ‏"‏حشر النار‏"‏‏:‏ للناس من المشرق إلى المغرب، ومن اليمن إلى مهاجر إبراهيم عليه السلام، وهو أرض الشام‏.‏ ‏"‏كما أتى‏"‏‏:‏ ذلك مصرحا به‏.‏ ‏"‏في محكم الأخبار‏"‏‏:‏ وصحيح الآثار‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

ثم ذكر الأحاديث الواردة في خروجها من اليمن ومن قعر عدن أبين، وفي كونها تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وكونها تحشرهم إلى أرض الشام، وقال في وجه الجمع بين ذلك‏:‏ ‏"‏بأن النار ناران‏:‏ إحداهما تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، والثانية تخرج من اليمن فتطرد الناس إلى المحشر الذي هو أرض الشام‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏وإن لم يكن في علم الله إلا نار واحدة؛ فالجمع بين حديث‏:‏ ‏"‏نار تخرج قبل يوم القيامة من حضرموت فتسوق الناس‏"‏، وفي لفظ‏:‏ ‏"‏تخرج من قعر عدن، ترحل الناس إلى المحشر‏"‏، وحديث‏:‏ ‏"‏نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب‏"‏؛ فبأن يقال‏:‏ إن الشام الذي هو المحشر مغرب بالنسبة إلى المشرق، فيكون ابتداء خروجها قعر عدن من اليمن، فإذا خرجت؛ انتشرت إلى المشرق، فتحشر أهله إلى المغرب الذي هو الشام، وهو المحشر، ولفظة ‏(‏أبين‏)‏ بوزن أحمر‏:‏ اسم الملك الذي بناها، وفي ‏"‏نهاية ابن الأثير‏"‏‏:‏ عدن أبين‏:‏ مدينة معروفة باليمن، أضيفت إلى أبين بوزن أبيض، وهو رجل من حمير عدن بها؛ أي‏:‏ أقام‏.‏ والله أعلم‏"‏‏.‏

 8- النفخ في الصور والصعق:

قد تكرر ذكر النفخ في الصور في القرآن العظيم وذكر ما يحدث عند ذلك‏.‏

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ ‏"‏والقرآن قد أخبر بثلاث نفخات‏:‏

 نفخة الفزع ذكرها في سورة النمل في قوله‏:‏ ‏﴿‏وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ‏﴾‏‏‏

ونفخة الصعق والقيام ذكرهما في سورة الزمر في قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ‏﴾‏‏‏ وأما الاستثناء؛ فهو متناول لمن في الجنة من الحور العين؛ فإن الجنة ليس فيها موت، ومتناول لغيرهم، ولا يمكن الجزم بكل من استثناه الله؛ فإن الله أطلق في كتابه، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فأجد موسى آخذا بساق العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي أم كان مما استثناه الله‏؟‏‏). وهذه الصعقة قيل‏:‏ إنها رابعة، وقيل‏:‏ إنها من المذكورات في القرآن‏"‏انتهى‏.‏

وقال السفاريني‏:‏ ‏"‏واعلم أن النفخ في الصور ثلاث نفخات‏:‏

نفخة الفزع‏:‏ وهي التي يتغير بها هذا العالم ويفسد نظامه، وهي المشار إليها في قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ من رجوع ومرد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏﴿‏وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ‏﴾‏‏‏ ‏:‏ فسر الزمخشري في ‏"‏كشافه‏"‏المستثنى في هذه الآية بمن ثبت الله قلبه من الملائكة، وهم‏:‏ جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت‏.‏ وقيل غير ذلك‏.‏ وإنما يحصل الفزع بشدة ما يقع من هول تلك النفخة‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏"‏النفخة الثانية‏:‏ نفخة الصعق، وفيها هلاك كل شيء؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ‏﴾‏‏‏ ، وقد فسر الصعق بالموت‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏"‏والصور قرن من نور، يجعل فيه أرواح الخلائق، وقال مجاهد‏:‏ كالبوق‏.‏ ذكره البخاري‏.‏ وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما‏:‏ ‏(‏جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ما الصور‏؟‏ قال قرن ينفخ فيه‏). قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏"‏النفخة الثالثة‏:‏ نفخة البعث والنشور، وقد جاء في الكتاب العزيز آيات تدل عليها وأخبار تشير إليها؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ‏﴾‏‏‏ وقوله‏:‏ ‏﴿‏ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ‏﴾‏‏‏ ، وقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ‏﴾‏‏‏ ، وقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ‏﴾‏‏‏ الآية؛ قال المفسرون‏:‏ المنادي هو إسرافيل عليه السلام، ينفخ في الصور وينادي‏:‏ أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة‏!‏ إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء‏.‏[مقطوع على قتادة وفيه ضعف] وقيل‏:‏ ينفخ إسرافيل وينادي جبريل‏.‏ والمكان القريب‏:‏ صخرة بيت المقدس‏.‏ قال جماعة من المفسرين‏:‏ وبين النفختين أربعون عاما‏.‏ قال بعض العلماء‏:‏ اتفقت الروايات على ذلك‏.‏

وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا‏:‏ ‏"‏ما بين النفختين أربعون‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا أبا هريرة‏!‏ أربعون يوما‏؟‏ قال‏:‏ أبيت‏.‏ قالوا‏:‏ أربعون شهرا‏؟‏ قال‏:‏ أبيت‏.‏ قالوا‏:‏ أربعون عاما‏؟‏ قال‏:‏ أبيت‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏الحديث‏.‏

وقول أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏أبيت‏"‏‏:‏ فيه ثلاث تأويلات‏:‏ أولها‏:‏ امتنعت من بيان ذلك لكم‏.‏ وقيل‏:‏ أبيت أسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ نسيت‏.‏ وقيل‏:‏ إن سر ذلك لا يعلمه إلا الله لأنه من أسرار الربوبية‏.‏

وفي حديث أبي هريرة الطويل الذي رواه ابن جرير والطبراني وأبو يعلى في ‏"‏مسنده‏"‏والبيهقي في ‏"‏البعث‏"‏وأبي موسى المديني وغيرهم؛ قال‏:‏ ‏«‏حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله لما فرغ من خلق السماوات والأرض، خلق الصور، فأعطاه إسرافيل؛ فهو واضعه على فيه، شاخصا ببصره إلى العرش، ينتظر متى يؤمر قلت يا رسول الله وما الصور‏؟‏ قال القرن قلت أي شيء هو‏؟‏ قال عظيم، إن عظم دارة فيه كعرض السماء والأرض، فينفخ فيه ثلاث نفخات الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين، فيأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى، فيقول انفخ الفزع‏!‏ فينفخ، فيفزع أهل السماء والأرض إلا من شاء الله، فيأمره فيمدها ويطيلها ولا يفتر، وهي التي يقول الله تعالى ‏﴿‏وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ‏﴾‏‏‏ فيسير الله الجبال، فتمر مر السحاب، فتكون سرابا، وترتج الأرض بأهلها رجا، فتكون كالسفينة الموقرة في البحر تضربها الأمواج، وكالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الأرواح، وهي التي يقول الله ‏﴿‏يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَة تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ‏﴾‏‏‏ فتميل الأرض بالناس على ظهرها، فتذهل المراضع، وتضع الحوامل، وتشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة من الفزع حتى تأتي الأقطار، فتتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها فترجع، ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا، وهو الذي يقول الله تعالى ‏﴿‏يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ‏﴾‏‏‏ فبينما هم على ذلك؛ إذ تصدعت الأرض، فانصدعت من قطر إلى قطر، فرأوا أمرا عظيما، ثم نظروا إلى السماء؛ فإذا هي كالمهل، ثم انشقت فانتثرت نجومها وانخسفت شمسها وقمرها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموات يومئذ لا يعلمون بشيء من ذلك قلت يا رسول الله‏!‏ من استثنى الله تعالى في قوله ‏﴿‏إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ‏﴾‏‏‏؛ قال أولئك الشهداء وإنما يتصل الفزع إلى الأحياء وهم أحياء عند ربهم يرزقون، وقاهم الله فزع ذلك اليوم وأمنهم منه، وهو عذاب يبعثه الله على شرار خلقه، يقول الله ‏﴿‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيد‏﴾‏‏‏ ، فيمكثون في ذلك ما شاء الله‏»‏ الحديث‏"‏‏. [حديث مشهور بحديث الصور وهو ضعيف جدا]

هذا؛ ونسأل الله عز وجل أن يهدينا الصراط المستقيم، ويجعلنا من الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون‏.‏

 الإيمان باليوم الآخر:

وسمي باليوم الآخر لتأخره عن الدنيا‏.‏

وقد دل عليه العقل والفطرة، كما صرحت به جميع الكتب السماوية، ونادى به الأنبياء والمرسلون‏.‏

وقد أخبر الله عنه في كتابه العزيز، وأقام الدليل عليه، ورد على المنكرين له في غالب سور القرآن‏.‏

والإقرار بالرب عام في بني آدم، وهو فطري، كلهم يقر بالرب؛ إلا من عاند- كفرعون-؛ بخلاف الإيمان باليوم الآخر؛ فإن منكريه كثيرون‏.‏

ومحمد صلى الله عليه وسلم لما كان خاتم الأنبياء، وكان قد بعث هو والساعة كهاتين [الأصبعين السبابة والوسطى]؛ بين تفصيل الآخرة بيانا لا يوجد في شيء من كتب الأنبياء‏.‏

وقد تنوعت أدلة البعث في القرآن الكريم‏:‏

فتارة يخبر عمن أماتهم ثم أحياهم في الدنيا كما أخبر عن قوم موسى الذين قالوا‏:‏ ‏﴿‏أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً‏﴾‏‏‏؛ قال‏:‏ ‏﴿‏فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ‏﴾‏‏‏ ، وعن ‏﴿‏الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ‏﴾‏‏‏ ، وعن إبراهيم إذ قال‏:‏ ‏﴿‏رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى‏﴾‏‏‏ ‏.‏‏.‏‏.‏ القصة، وكما أخبر عن المسيح أنه كان يحيي الموتى بإذن الله، وعن أصحاب الكهف أنهم بعثوا بعد ثلاث مائة وتسع سنين‏.‏

وتارة يستدل على ذلك بالنشأة الأولى؛ فإن الإعادة أهون من الابتداء؛ كما في قوله‏:‏ ‏﴿‏إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ‏﴾‏‏‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏﴿‏قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ‏﴾‏‏‏ ، وقوله‏:‏ ‏﴿‏فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏﴾‏‏‏ ‏﴿‏وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏﴾‏‏‏

وتارة يستدل على ذلك بخلق السماوات والأرض؛ فإن خلقهما أعظم من إعادة الإنسان؛ كما في قوله‏:‏ ‏﴿‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى‏﴾‏‏‏

وتارة يستدل عليه بتنزيه الله عن العبث؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ‏﴾‏‏‏ ، ‏﴿‏أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى‏﴾‏‏‏ ‏.‏‏.‏‏.‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏﴿‏أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى‏﴾‏‏‏ ‏.‏

فالناس في هذه الدنيا منهم المحسن ومنهم المسيء، وقد يموتون ولا ينال أحدهم جزاء عمله؛ فلا بد من دار أخرى يقام فيها العدل بين الناس وينال كل منهم جزاء عمله‏.‏

والإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان؛ كما يدل على ذلك القرآن في كثير من الآيات‏:

حيث يذكر الإيمان به تارة مع الإيمان بالأركان الستة التي هي‏:‏ الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر؛ كما في حديث عمر رضي الله عنه في سؤالات جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وتارة يذكر الإيمان به مع الإيمان بالله؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ‏﴾‏‏‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقد سمى الله هذا اليوم بعدة أسماء؛ تنويها بشأنه وتنبيها للعباد ليخافوا منه؛ فسماه اليوم الآخر؛ لأنه بعد الدنيا وليس بعده يوم غيره‏.‏ وسماه يوم القيامة؛ لقيام الناس فيه لربهم‏.‏ وسماه الواقعة والحاقة والقارعة والراجفة والصاخة والآزفة والفزع الأكبر ويوم الحساب ويوم الدين والوعد الحق‏.‏‏.‏‏.‏ وكلها أسماء تدل على عظم شأنه وشدة هوله وما يلقاه الناس فيه من الشدائد والأهوال؛ فهو يوم تشخص فيه الأبصار، وتطير القلوب عن أماكنها حتى تبلغ الحناجر‏.‏

‏﴿‏يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

‏﴿‏يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ‏﴾‏‏‏

والإيمان بهذا اليوم يحمل الإنسان على العمل والاستعداد له‏:‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا‏﴾‏‏‏ ‏.‏

كما أن الإيمان بهذا اليوم يحمل على الثبات عند لقاء الأعداء والصبر على الشدائد؛ كما قال تعالى في قصة طالوت وجنوده حينما لقوا عدوهم الذي يفوقهم في الكثرة بعدما جاوزوا نهر الامتحان ولم ينجح منهم إلا القليل؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

كما أن عدم الإيمان بهذا اليوم يحمل الإنسان على الكفر والمعاصي وعلى الظلم والعدوان والبغي والفساد‏:‏

قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ‏﴾‏‏‏.

وقد أمر الله باتقاء ذلك اليوم بالاستعداد له بالأعمال الصالحة التي تنجي من أهواله‏:‏

قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال سبحانه‏:‏ ‏﴿‏وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

والإيمان باليوم الآخر معناه أن تصدق بكل ما بعد الموت من عذاب القبر ونعيمه وبالبعث بعد ذلك والحساب والميزان والثواب والعقاب والجنة والنار وبكل ما وصف الله به يوم القيامة‏.‏

 وسمي باليوم الآخر لتأخره عن الدنيا، وله أسماء كثيرة في القرآن منها‏:

1 - يوم البعث‏:‏ لأن فيه البعث والحياة بعد الموت‏.‏

2 - يوم الخروج‏:‏ لأن فيه خروج الناس من قبورهم إلى الحياة الأخرى‏.‏

3 - يوم القيامة‏:‏ لأن فيه قيام الناس للحساب‏.‏

4-  يوم الدين‏:‏ لأن فيه إدانة الخلائق ومجازاتهم على أعمالهم‏.‏

5-  يوم الفصل‏:‏ لأن فيه الفصل بين الناس بالعدل‏.‏

6 - يوم الحشر‏:‏ لأن فيه جمع الخلائق وحشرهم في موقف الحساب‏.‏

7-  يوم الجمع‏:‏ لأن الله يجمع فيه الناس للجزاء‏.‏

8-  يوم الحساب‏:‏ لأن فيه محاسبة الناس على أعمالهم التي عملوها في الدنيا‏.‏

9-  يوم الوعيد‏:‏ لأن فيه تحقيق وعيد الله للكافرين‏.‏

10-  يوم الحسرة‏:‏ لأن فيه حسرة الكافرين‏.‏

11- يوم الخلود‏:‏ لأن الحياة في هذا اليوم حياة خالدة أبدية‏.‏

12 - الدار الآخرة‏:‏ لأنها بعد دار الدنيا، وهي دار باقية، ليس بعدها انتقال إلى دار أخرى‏.‏

13-  دار القرار‏:‏ لأنها الاستقرار الدائم بلا فناء ولا انتقال‏.‏

14-  دار الخلد‏:‏ لأن الإقامة فيها إقامة أبدية‏.‏

15 - الواقعة‏:‏ لتحقيق وقوعها‏.‏

16-  الحاقة‏:‏ لأنها تحق كل مجادل ومخاصم بالباطل بمعنى تغلبه‏.‏

17 - القارعة‏:‏ لأنها تقرع الأسماع والقلوب بأهوالها‏.‏

18 - الغاشية‏:‏ لما يجري فيها من غشيان عام للثقلين‏.‏

19 - الطامة‏:‏ لأنها تغلب وتفوق ما سواها من الدواهي‏.‏

20 - الآزفة‏:‏ أي‏:‏ القريبة، سميت بذلك إشعارا بقربها بالنسبة إلى عمر الدنيا‏.‏

21-  يوم التغابن‏:‏ لأن أهل الجنة يغبنون أهل النار‏.‏

22 - يوم التناد‏:‏ لأنه يدعى فيه كل أناس بإمامهم، وينادي بعضهم بعضا، وينادي أهل الجنة أهل النار، وأهل النار أهل الجنة، وينادي أصحاب الأعراف‏.‏

 الموت:

ومن مقدمات اليوم الآخر الموت، وهو القيامة الصغرى‏.‏

والقيامة الصغرى‏:‏ هي وفاة كل شخص عند انتهاء أجله، وبها ينتقل من الدنيا إلى الآخرة‏.‏

وقد ذكر الله العباد بالموت؛ ليستعدوا له بالأعمال الصالحة والتوبة من الأعمال السيئة؛ لأنه إذا جاء؛ ختم عمل الإنسان، وهو لا يقبل التأخير‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

 والموت هو القيامة الصغرى، وقيام الساعة هو القيامة الكبرى‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ ‏"‏وهو سبحانه وتعالى في السورة الواحدة يذكر القيامة الكبرى والصغرى؛ كما في سورة الواقعة؛ فإنه ذكر في أولها القيامة الكبرى، وأن الناس يكونون أزواجا ثلاثة؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً‏﴾‏‏‏ ، ثم إنه في آخرها ذكر القيامة الصغرى بالموت، وأنهم يكونون ثلاثة أصناف بعد الموت، فقال‏:‏ ‏﴿‏فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ‏﴾‏‏‏ ‏"‏‏.‏

 وعند الموت تقبض روح الإنسان من جسده بأمر الله تعالى‏.‏

وقد أسند الله قبض الأنفس إليه سبحانه في قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا‏﴾‏‏‏ ، وأسنده إلى الملائكة في قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ‏﴾‏‏‏ وفي قوله‏:‏ ‏﴿‏وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ‏﴾‏‏‏ ، وأسنده إلى ملك الموت في قوله‏:‏ ‏﴿‏قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ‏﴾‏‏‏

ولا تعارض بين الآيات، والإضافة في هذه الآيات إلى كل بحسبه؛ فالله هو الذي قضى بالموت وقدره، فهو بقضائه وقدره وأمره، فأضيف إليه التوفي لأجل ذلك، وملك الموت يتولى قبضها واستخراجها من البدن، ثم تأخذها منه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، ويتولونها بعده، فصحت إضافة التوفي إلى كل بحسبه‏.‏

 التوفي بالنوم والتوفي بالموت:

الروح المدبرة للبدن التي تفارقه بالموت هي الروح المنفوخة فيه، وهي النفس التي تفارقه بالنوم‏:

قال النبي صلى الله عليه وسلم لما نام عن الصلاة‏:‏ ‏(‏إن الله قبض أرواحنا حيث شاء وردها حيث شاء‏)‏ ‏وقال له بلال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك‏.‏ [ رواه مالك في «الموطأ» (26) من حديث زيد بن أسلم مرسلًا، وهو صحيح بشواهده المسندة].‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى‏﴾‏‏‏ ‏.‏

قال ابن عباس وأكثر المفسرين‏:‏ يقبضها قبضتين؛ قبض الموت وقبض النوم، ثم في النوم يقبض التي تموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى حتى يأتي أجلها وقت الموت‏.‏

وقد ثبت في ‏"‏الصحيحين‏"‏عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه كان يقول إذا نام‏:‏ ‏(‏باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي؛ فاغفر لها وارحمها، وإن أرسلتها؛ فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين‏)‏ ‏.‏

وهذا أحد القولين في الآية، وهو أن الممسكة والمرسلة كلاهما متوفى وفاة النوم؛ فمن استكملت أجلها؛ أمسكها عنده فلا يردها إلى جسدها، ومن لم تستكمل أجلها؛ ردها إلى جسدها لتستكمله‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن الممسكة من توفيت وفاة الموت أولا، والمرسلة من توفيت وفاة النوم، والمعنى على هذا‏:‏ أن الله يتوفى نفس الميت فيمسكها ولا يرسلها قبل يوم القيامة، ويتوفى نفس النائم ثم يرسلها إلى جسده إلى بقية أجلها فيتوفاها الوفاة الأخرى؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

 حقيقه الروح:

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ‏(‏13/341‏)‏‏:‏ ‏"‏ومذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر سلف الأمة وأئمة السنة‏:‏ أن الروح عين قائمة بنفسها، تفارق البدن، وتنعم، وتعذب، ليست هي البدن، ولا جزء من أجزائه، ولما كان الإمام أحمد رحمه الله ممن نص على ذلك كما نص عليه غيره من الأئمة؛ لم يختلف أصحابه في ذلك‏"‏‏.‏

وقال في موضع آخر ‏(‏9/303‏)‏‏:‏ ‏"‏والصواب أنها ليست مركبة من الجواهر الفردة، ولا من المادة والصورة، وليست من جنس الأجسام المتميزات المشهودة المعهودة، وأما الإشارة إليها؛ فإنه يشار إليها، وتصعد، وتنزل، وتخرج من البدن، وتُسَلُّ منه؛ كما جاءت بذلك النصوص ودلت عليه الشواهد العقلية‏.‏

وأما قول القائل‏:‏ أين مسكنها من الجسد‏؟‏ فلا اختصاص للروح بشيء من الجسد، بل هي سارية في الجسد كما تسري الحياة التي هي عرض في جميع الجسد؛ فإن الحياة مشروطة بالروح؛ فإذا كانت الروح في الجسد؛ كان فيه حياة، وإذا فارقته الروح؛ فارقته الحياة‏"‏‏.‏

 الروح مخلوقة:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ‏(‏4/216‏)‏‏:‏ ‏" ‏روح الآدمي مخلوقة مبدعة باتفاق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة، وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غير واحد من أئمة المسلمين‏"‏‏.‏

وقال تلميذه العلامة ابن القيم‏:‏ ‏"‏والذي يدل على خلقها وجوه‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏، وذكر اثني عشر وجها‏:

منها‏:‏ قول الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ‏﴾‏‏‏؛ فهذا اللفظ عام، لا تخصيص فيه بوجه ما، ولا يدخل في ذلك صفاته؛ فإنها داخلة في مسمى اسمه؛ فالله سبحانه هو الإله الموصوف بصفات الكمال، وهو سبحانه بذاته وصفاته الخالق وما سواه مخلوق‏.‏

ومنها‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا‏﴾‏‏‏ ، وهذا الخطاب لروحه وبدنه، وليس لبدنه فقط؛ فإن البدن وحده لا يفهم ولا يخاطب ولا يعقل، وإنما الذي يفهم ويعقل ويخاطب هو الروح‏.‏

ومنها‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ‏﴾‏‏‏ ، وهذا الإخبار إما أن يتناول أرواحنا وأجسادنا كما يقوله الجمهور، وإما أن يكون واقعا على الأرواح قبل خلق الأجساد كما يقوله من يزعم ذلك، وعلى التقديرين؛ فهو صريح في خلق الأرواح‏.‏

ومنها‏:‏ النصوص الدالة على أن الإنسان عبد بجملته، وليست عبوديته واقعة على بدنه دون روحه، بل عبودية الروح أصل، وعبودية البدن تبع؛ كما أنه تبع لها في الأحكام، وهي التي تحركه وتستعمله، وهو تبع لها في العبودية‏.‏

ومنها‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا‏﴾‏‏‏؛ فلو كانت روحه قديمة؛ لكان الإنسان لم يزل شيئا مذكورا؛ فإنه إنما هو إنسان بروحه لا بدنه‏.‏

ومنها‏:‏ حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي في ‏"‏صحيح البخاري‏"‏وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف‏)‏ ، والجنود المجندة لا تكون إلا مخلوقة‏.‏

ومنها‏:‏ أن الروح توصف بالوفاة والقبض والإمساك والإرسال، وهذا شأن المخلوق المحدث المربوب‏.‏

 كيفية قبض روح المتوفى وما لها بعد وفاته:

قد جاء بيان كيفية التوفي ومآل الروح بعده في حديث البراء بن عازب الطويل، وهذا نصه‏:

عن البراء بن عازب رضي الله عنه؛ قال‏:‏ ‏(‏كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم، فقعد وقعدنا حوله كأن على رءوسنا الطير وهو يلحد له، فقال أعوذ بالله من عذاب القبر؛ ثلاث مرات ثم قال إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا؛ نزلت إليه الملائكة، كأن على وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول يا أيتها النفس الطيبة‏!‏ اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان قال فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها؛ فإذا أخذها؛ لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض قال فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة؛ إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة‏؟‏ فيقولون فلان ابن فلان؛ بأطيب أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء، فيستفتحون له، فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله، فيقول الله عز وجل اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض؛ فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى قال فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له من ربك‏؟‏ فيقول ربي الله فيقولان له ما دينك‏؟‏ فيقول ديني الإسلام فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم‏؟‏ فيقول هو رسول الله فيقولان له ما علمك‏؟‏ فيقول قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي؛ فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة قال فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسخ له في قبره مدَّ بصره قال ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فيقول أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد فيقول له من أنت‏؟‏ فوجهك الذي يجيء بالخير فيقول أنا عملك الصالح فيقول يا رب‏!‏ أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي قال وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة؛ نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول أيتها النفس الخبيثة‏!‏ اخرجي إلى سخط من الله وغضب قال فتفرَّق روحه في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها؛ لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح خبيثة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة؛ إلا قالوا ما هذا الروح الخبيث‏؟‏ فيقولون فلان ابن فلان؛ بأقبح أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏﴿‏لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط‏﴾‏‏‏ فيقول الله عز وجل اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحا ثم قرأ ‏﴿‏ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق‏﴾‏‏‏ فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له من ربك‏؟‏ فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم‏؟‏ فيقول هاه هاه لا أدري فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح، فيقول أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد فيقول من أنت‏؟‏ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر‏!‏ فيقول أنا عملك الخبيث فيقول رب لا تقم الساعة‏)‏ ‏.‏

رواه الإمام أحمد وأبو داوود والحاكم وأبو عوانة في ‏"‏صحيحيهما‏"‏ وابن حبان‏.‏

قال شارح الطحاوية‏:‏ ‏"‏وذهب إلى موجب هذا الحديث جميع أهل السنة والحديث، وله شواهد في الصحيح‏"‏‏.‏

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ ‏"‏أما الحديث المذكور في قبض روح المؤمن، وأنه يصعد بها إلى السماء التي فيها الله؛ فهذا حديث معروف جيد الإسناد، وقوله‏:‏ ‏"‏فيها الله‏"‏‏:‏ بمنزلة قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ‏﴾‏‏‏ ‏"‏ انتهى‏.‏

 قال العلامة ابن القيم‏:‏ ‏"‏الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت‏:‏

- فمنها أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهم متفاوتون في منازلهم؛ كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء‏.‏

- ومنها أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، وهي أرواح بعض الشهداء، لا جميعهم، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه أو غيره‏.‏ ومنهم من يكون محبوسا على باب الجنة‏.‏ ومنهم من يكون محبوسا في قبره؛ كحديث صاحب الشملة التي غلها ثم استشهد فقال الناس‏:‏ هنيئا له الجنة‏!‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده؛ إن الشملة التي غلها لتشتعل عليه نارا في قبره‏). ومنهم من يكون مقره باب الجنة؛ كما في حديث ابن عباس‏:‏ ‏(‏الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم من الجنة بكرة وعشية‏)‏ ‏.‏

- ومنها ما يكون محبوسا في الأرض لم تَعلُ إلى الملأ الأعلى؛ فإنها كانت روحا سفلية أرضية؛ فإن الأنفس الأرضية لا تجامع الأنفس السماوية كما لا تجامعها في الدنيا، والنفس التي لم تكتسب في الدنيا معرفة ربها ومحبته وذكره والأنس به والتقرب إليه، بل هي أرضية سفلية، لا تكون بعد المفارقة لبدنها إلا هناك؛ كما أن النفس العلوية التي كانت في الدنيا عاكفة على محبة الله وذكره والتقرب إليه والأنس به تكون بعد المفارقة مع الأرواح العلوية المناسبة لها؛ فالمرء مع من أحب في البرزخ ويوم القيامة، والله تعالى يزوج النفوس بعضها ببعض في البرزخ ويوم المعاد؛ كما تقدم في الحديث، ويجعل روحه – يعني المؤمن- مع النسم الطيب؛ أي‏:‏ الأرواح الطيبة المشاكلة؛ فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها وأخواتها وأصحاب عملها، فتكون معهم هناك‏.‏

- ومنها أرواح تكون في تنور الزناة والزواني، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتلقم الحجارة‏.‏

فليس للأرواح سعيدها وشقيها مستقر واحد، بل روح في أعلى عليين، وروح أرضية سفلية لا تصعد عن الأرض‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏وأنت إذا تأملت السنن والآثار، وكان لك بها فضل اعتناء؛ عرفت حجة ذلك‏.‏

ولا تظن أن بين الآثار الصحيحة في هذا الباب تعارضا؛ فإنها كلها حق يصدق بعضها بعضا، لكن الشأن في فهمها ومعرفة النفس وأحكامها، وأن لها شأنا غير شأن البدن‏"‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏"‏وأنها تنقسم إلى مرسلة ومحبوسة وعلوية وسفلية، ولها بعد المفارقة صحة ومرض ولذة ونعيم وألم أعظم مما كان لها حال اتصالها بالبدن بكثير؛ فهنالك الحبس والألم والعذاب والمرض والحسرة، وهناك اللذة والراحة والنعيم والإطلاق‏"‏‏.‏

هل الروح والنفس شيء واحد أو شيئان متغايران‏؟‏

اختلف الناس في ذلك‏:‏ فمن قائل‏:‏ إنهما شيء واحد، وهم الجمهور‏.‏ ومن قائل‏:‏ إنهما متغايران‏.‏

 والتحقيق أن لفظ الروح والنفس يعبر بهما عن عدة معان، فيتحد مدلولها تارة ويختلف تارة، فالنفس تطلق على أمور‏:

- منها‏:‏ الروح؛ يقال‏:‏ خرجت نفسه؛ أي‏:‏ روحه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

- ومنها‏:‏ الذات؛ يقال‏:‏ رأيت زيدا نفسه وعينه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ‏﴾‏‏‏.

- ومنها‏:‏ الدم؛ يقال‏:‏ سالت نفسه، ومنه قول الفقهاء‏:‏ ما له نفس سائلة، وما ليس له نفس سائلة، ومنه يقال‏:‏ نفست المرأة إذا حاضت ونفست إذا نفسها ولدها، ومنه النفساء‏.‏

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية‏:‏ ‏"‏ويقال‏:‏ النفوس ثلاثة أنواع، وهي‏:

1- النفس الأمارة بالسوء‏:‏ التي يغلب عليها اتباع هواها بفعل الذنوب والمعاصي‏.‏

2- والنفس اللوامة‏:‏ وهي التي تذنب وتتوب؛ ففيها خير وشر، ولكن إذا فعلت الشر؛ تابت وأنابت، فتسمى لوامة؛ لأنها تلوم صاحبها على الذنوب، ولا تتلوم؛ أي‏:‏ تتردد بين الخير والشر‏.‏

3- والنفس المطمئنة‏:‏ وهي التي تحب الخير والحسنات، وتبغض الشر والسيئات، وقد صار ذلك لها خلقا وعادة‏.‏

فهذه صفات وأحوال لذات واحدة؛ لأن النفس التي لكل إنسان هي نفس واحدة‏.‏

 والروح أيضا تطلق على معان‏:‏

- منها‏:‏ القرآن الذي أوحاه الله تعالى إلى رسوله؛ قال تعالى‏:

‏﴿‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وعلى جبريل؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وعلى الوحي الذي يوحيه إلى أنبيائه ورسله؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ‏﴾‏‏‏ ، سمي روحا لما يحصل به من الحياة النافعة؛ فإن الحياة بدونه لا تنفع صاحبها البتة، وسميت الروح روحا لأن بها حياة البدن‏.‏

- وتطلق الروح أيضا على الهواء الخارج من البدن والهواء الداخل فيه‏.‏

- وتطلق الروح على ما سبق بيانه، وهو ما يحصل بفراقه الموت، وهي بهذا الاعتبار ترادف النفس ويتحد مدلولهما، ويفترقان في أن النفس تطلق على البدن وعلى الدم، والروح لا تطلق عليهما‏.‏ والله أعلم‏"‏‏.‏

 الإيمان باليوم الآخر:

 فتنة القبر وعذابه ونعيمه:

الإيمان باليوم الآخر يعني الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، ومن ذلك الإيمان بفتنة القبر وبعذاب القبر ونعيمه‏.‏

وذلك أن بين الموت الذي تنتهي به الحياة الأولى وبين البعث الذي تبتدئ به الحياة الثانية -وبعبارة أخرى‏:‏ بين القيامة الصغرى والقيامة الكبرى- فترة جاءت تسميتها في القرآن الكريم برزخا؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

والبرزخ لغة‏:‏ الحاجز بين الشيئين‏.‏

وفي هذا البرزخ نموذج من الجزاء الأخروي؛ فهو أول منزل من منازل الآخرة؛ ففيه سؤال الملكين ثم العذاب أو النعيم‏.‏

 سؤال الملكين:

ويسمى بفتنة القبر، وهي الامتحان والاختبار للميت حين يسأله الملكان‏.‏

وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الفتنة من حديث البراء بن عازب وأنس بن مالك وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم‏.‏

وهي عامة للمكلفين إلا النبيين فقد اختلف فيهم، وكذلك اختلف في غير المكلفين كالصبيان والمجانين‏:‏ فقيل‏:‏ لا يفتنون لأن المحنة إنما تكون للمكلفين‏.‏ وقيل‏:‏ يفتنون‏.‏

وحجة من قال‏:‏ إنهم يسألون‏:‏ أنه يشرع الصلاة عليهم والدعاء لهم وسؤال الله أن يقيهم عذاب القبر وفتنة القبر‏:‏

كما ذكر مالك في ‏"‏موطئه‏"‏عن أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏أنه صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة صبي، فسمع من دعائه اللهم‏!‏ قِهِ عذاب القبر‏)‏ ‏.

واحتجوا بما رواه علي بن معبد، عن عائشة رضي الله عنها‏:‏ أنه مر عليها بجنازة صبي صغير، فبكت، فقيل لها‏:‏ ما يبكيك يا أم المؤمنين‏؟‏ فقالت‏:‏ هذا الصبي بكيت له شفقة عليه من ضمة القبر‏.‏

قالوا‏:‏ والله سبحانه يكمل لهم عقولهم؛ ليعرفوا بذلك منزلتهم، ويلهمون الجواب عما يسألون عنه‏.‏

قالوا‏:‏ وقد دل على ذلك الأحاديث الكثيرة التي فيها أنهم يمتحنون في الآخرة، وحكاه الأشعري عن أهل السنة والحديث؛ فإذا امتحنوا في الآخرة؛ لم يمتنع امتحانهم في القبور‏.‏

واحتج من قال‏:‏ إنهم لا يسألون‏:‏ بأن السؤال إنما يكون لمن عقل الرسول والمرسل، فيسأل‏:‏ هل آمن بالرسول وأطاعه أم لا‏؟‏ فأما الطفل الذي لا تمييز له بوجه ما؛ فكيف يقال له‏:‏ ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم‏؟‏ ولو رد إليه عقله في القبر؛ فإنه لا يسأل عما لم يتمكن من معرفته والعلم به، ولا فائدة في هذا السؤال‏.‏ وهذا بخلاف امتحانهم في الآخرة؛ فإن الله سبحانه يرسل إليهم رسولا ويأمرهم بطاعته وعقولهم معهم؛ فمن أطاعه منهم؛ نجا، ومن عصاه؛ أدخله النار‏.‏ فذلك امتحان بأمر يأمرهم به يفعلونه ذلك الوقت، لا أنه سؤال عن أمر مضى لهم في الدنيا من طاعة أو عصيان كسؤال الملكين في القبر‏.‏

 وأجابوا عن أدلة الأولين‏:‏

أما حديث أبي هريرة؛ فليس المراد بعذاب القبر فيه عقوبة الطفل على ترك طاعة أو فعل معصية قطعا؛ فإن الله لا يعذب أحدا بلا ذنب عمله، بل عذاب القبر قد يراد به الألم الذي يحصل للميت بسبب غيره، وإن لم يكن عقوبة على عمله، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه‏)‏؛ أي‏:‏ يتألم بذلك ويتوجع منه لا أنه يعاقب بذنب الحي، ‏﴿‏وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏﴾‏‏‏ ، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏السفر قطعة من العذاب‏)‏ ، فالعذاب أعم من العقوبة، ولا ريب أن في القبر من الآلام والهموم والحسرات ما قد يسري أثره إلى الطفل فيتألم، فيشرع للمصلي عليه أن يسأل الله تعالى له أن يقيه ذلك العذاب‏.‏ والله أعلم‏.‏

واختلفوا‏:‏ هل السؤال في القبر عام في حق المسلمين والمنافقين والكفار أو يختص بالمسلم والمنافق‏؟‏

فقيل‏:‏ يختص ذلك بالمسلم والمنافق دون الكافر الجاحد المبطل‏.‏

وقيل‏:‏ السؤال في القبر عام للكافر والمسلم، وهذا هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة، واستثناء الكافر من هذا لا وجه له‏.‏

 واختلفوا‏:‏ هل السؤال في القبر مختص بهذه الأمة، أو يكون لها ولغيرها على ثلاثة أقوال‏:

القول الأول‏:‏ أنه خاص بهذه الأمة؛ لأن الأمم قبلنا كانت الرسل تأتيهم بالرسالة؛ فإذا أبوا؛ كفت الرسل، واعتزلوهم، وعوجلوا بالعذاب، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالرحمة إماما للخلق؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ‏﴾‏‏‏؛ أمسك عنهم العذاب، وأعطي السيف حتى يدخل في دين الإسلام من دخل لمهابة السيف ثم يرسخ الإيمان في قلبه، فأمهلوا فمن ثم ظهر أمر النفاق، وكانوا يسرون الكفر ويعلنون الإيمان، فكانوا بين المسلمين في ستر، فلما ماتوا؛ قيض الله لهم فتَّاني القبر ليستخرجا سرهم بالسؤال‏.‏

واحتج أهل هذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن هذه الأمة تبتلى في قبورها‏)‏ ، وبقوله‏:‏ ‏(‏أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم‏)‏؛ وهذا ظاهر في الاختصاص بهذه الأمة، ويدل عليه قول الملكين‏:‏ ‏"‏ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم‏؟‏‏"‏‏.‏

القول الثاني‏:‏ أن السؤال في القبر لهذه الأمة ولغيرها، وأجاب أصحاب هذا القول عن أدلة القول الأول بأنها لا تدل على الاختصاص بالسؤال لهذه الأمة دون سائر الأمم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏هذه الأمة‏"‏‏:‏ إما أن يراد به أمة الناس؛ أي‏:‏ بني آدم؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ‏﴾‏‏‏ ، وكل جنس من أجناس الحيوان يسمى أمة‏.‏ وإن كان المراد أمته صلى الله عليه وسلم؛ لم يكن فيه ما ينفي سؤال غيرهم من الأمم؛ لأنه إخبار لهم بأنهم يسألون في قبورهم‏.‏ وكذلك حديث‏:‏ ‏(‏أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم‏)‏؛ مجرد إخبار لا ينفي سؤال غيرهم‏.‏

القول الثالث‏:‏ التوقف في هذه المسألة؛ لأن الأدلة في ذلك محتملة وليست قاطعة في الاختصاص‏.‏ والله أعلم‏.‏‏.‏‏.‏

صفة سؤال الملكين على ما وردت به الأحاديث

جاء في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فتعاد روحه ‏-‏يعني الميت‏-‏ في جسده، ويأتيه ملكان‏)‏ ‏.‏

وفي ‏"‏الصحيحين‏"‏من حديث قتادة عن أنس‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الميت إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه؛ إنه ليسمع خفق نعالهم؛ أتاه ملكان، فيقعدانه، فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل محمد‏؟‏ فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله قال فيقول انظر إلى مقعدك من النار؛ قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة‏). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فيراهما جميعا‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فأما الكافر والمنافق؛ فيقولان له‏:‏ ما كنت تقول في هذا الرجل‏؟‏ فيقول‏:‏ لا أدري‏!‏ كنت أقول ما يقول الناس‏.‏ فيقولان له‏:‏ لا دريت ولا تليت‏.‏ ثم يضرب بمطارق من حديد بين أذنيه، فيصيح صيحة، فيسمعها من عليها غير الثقلين‏"‏‏.‏

وفي حديث آخر في ‏"‏صحيح أبي حاتم‏"‏‏:‏ ‏(‏أتاه ملكان أسودان أزرقان؛ يقال لأحدهما المنكر، وللآخر النكير‏)‏ ‏.‏

وفي حديث آخر في ‏"‏المسند‏"‏و ‏"‏صحيح أبي حاتم‏"‏عن أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الميت إذا وضع في قبره؛ إنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه؛ فإن كان مؤمنا؛ كانت الصلاة عند رأسه، والصيام عن يمينه، والزكاة عن شماله، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان عند رجليه فيؤتى من قبل رأسه، فتقول الصلاة ما قبلي مدخل ثم يؤتى من يمينه، فيقول الصيام ما قبلي مدخل ثم يؤتى من يساره، فتقول الزكاة ما قبلي مدخل ثم يؤتى من قبل رجليه، فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان ما قبلي مدخل فيقال له اجلس‏!‏ فيجلس وقد مثلت له الشمس وقد أخذت في الغروب فيقال له هذا الرجل الذي كان فيكم؛ ما تقول فيه‏؟‏ وماذا تشهد به عليه‏؟‏ فيقول دعوني حتى أصلي فيقولون إنك ستصلي، أخبرنا عما نسألك عنه‏)‏ الحديث‏.‏

 فهذه الأحاديث وما جاء بمعناها تدل على مسائل‏:‏

1‏- أن السؤال يحصل حين يوضع الميت في قبره، وفي هذا رد على أهل البدع -كأبي الهذيل والمريسي- القائلين‏:‏ إن السؤال يقع بين النفختين‏.‏

2‏- تسمية الملكين منكر ونكير، وفي هذا رد على من زعم من المعتزلة أنه لا يجوز تسميتهما بذلك، وأوَّلوا ما ورد في الحديث بأن المراد بالمنكر تلجلجه إذا سئل، والنكير تقريع الملائكة له‏.‏

3‏- أنها ترد روح الميت إليه في قبره حين السؤال، ويجلس ويستنطق، وفي هذا رد على أبي محمد بن حزم حيث نفى ذلك؛ إلا إن كان يريد نفي الحياة المعهودة في الدنيا؛ فهذا صحيح؛ فإن عود الروح إلى بدن الميت ليس مثل عودها إليه في هذه الحياة الدنيا، وإن كان ذاك قد يكون أكمل من بعض الوجوه؛ كما أن النشأة الأخرى ليست مثل هذه النشأة، وإن كانت أكمل منها، بل كل موطن في هذه الدار وفي البرزخ والقيامة له حكم يخصه، ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الميت يوسع له في قبره ويسأل ونحو ذلك، وإن كان التراب قد لا يتغير؛ فالأرواح تعاد إلى بدن الميت وتفارقه‏.‏

 وللروح بالبدن تعلقات مختلفة إليك بيانها‏:‏

 تعلقات الروح بالبدن:

للروح بالبدن خمسة أنواع من التعلق متغايرة الأحكام‏:‏

أحدهما‏:‏ تعلقها به في بطن الأم جنينا‏.‏

الثاني‏:‏ تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض‏.‏

الثالث‏:‏ تعلقها به حال النوم؛ فلها به تعلق من وجه، ومفارقة من وجه‏.‏

الرابع‏:‏ تعلقها به في البرزخ؛ فإنها وإن فارقته وتجردت عنه؛ فإنها لم تفارقه فراقا كليا بحيث لا يبقى إليه التفات البتة؛ فقد دلت الأحاديث على ردها إليه عند سؤال الملكين وعند سلام المسلم، وهذا الرد إعادة خاصة لا توجب حياة البدن قبل يوم القيامة‏.‏

الخامس‏:‏ تعلقها به يوم يبعث الأجساد، وهو أكمل تعلقاتها بالبدن، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه؛ إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا فسادا‏.‏

 عذاب القبر ونعيمه:

مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحيانا، ويحصل له معها النعيم أو العذاب‏.‏

فأهل السنة والجماعة يتفقون على أن النفس تنعم وتعذب منفردة عن البدن وتنعم وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين؛ كما يكون ذلك على الروح منفردة عن البدن، وهل يكون النعيم والعذاب على البدن بدون الروح‏؟‏ هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنة وأهل الكلام‏.‏

أدلة عذاب القبر ونعيمه من القرآن الكريم

1-‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ‏﴾‏‏‏ ، وهذا خطاب لهم عند الموت، وقد أخبرت الملائكة وهم الصادقون أنهم حينئذ يجزون عذاب الهون، ولو تأخر عنهم ذلك إلى انقضاء الدنيا؛ لما صح أن يقال لهم‏:‏ ‏﴿‏الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ‏﴾‏‏‏ ، فدل على أن المراد به عذاب القبر‏.‏

2‏-‏ وقال الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ‏﴾‏‏‏ ، وهذا يحتمل عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا، وأن يراد به عذابهم في البرزخ، وهو أظهر؛ لأن كثيرا منهم مات ولم يعذب في الدنيا، وقد يقال -وهو أظهر-‏:‏ إن من مات منهم؛ عذب في البرزخ، ومن بقي منهم؛ عذب في الدنيا بالقتل وغيره؛ فهو وعيد بعذابهم في الدنيا وفي البرزخ‏.‏

3‏-‏ وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ‏﴾‏‏. فذكر عذاب الدارين ذكرا صريحا لا يحتمل غيره، فدل على ثبوت عذاب القبر‏.‏

4‏-‏ وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ‏﴾‏‏‏؛ فذكر هاهنا أحكام الأرواح عند الموت، وذكر في أول السورة أحكامها يوم المعاد الأكبر، وقدم ذلك على هذا تقديم الغاية للعناية؛ إذ هي أهم وأولى بالذكر، وجعلهم عند الموت ثلاثة أقسام؛ كما جعلهم في الآخرة ثلاثة أقسام‏.‏

1- أدلة عذاب القبر من السنة النبوية

2- إذا تأملت أحاديث عذاب القبر ونعيمه؛ وجدتها تفصيلا وتفسيرا لما دل عليه القرآن‏.‏

3- وأحاديث عذاب القبر كثيرة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها‏:

1‏- ما في ‏"‏الصحيحين‏"‏عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين، فقال إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير أما أحدهما؛ فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر؛ فكان يمشي بالنميمة ثم دعا بجريدة، فشقها نصفين، فقال لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا‏)‏ ‏.‏

2‏- في ‏"‏صحيح مسلم‏"‏عن زيد بن ثابت؛ قال‏:‏ ‏(‏بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلته، ونحن معه؛ إذ حادت به، فكادت تلقيه، فإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال من يعرف أصحاب هذه القبور‏؟‏ فقال رجل أنا قال فمتى مات هؤلاء‏؟‏ قال في الإشراك فقال إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا؛ لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه‏)‏ الحديث‏.‏

3‏-‏ في ‏"‏صحيح مسلم‏"‏وجميع ‏"‏السنن‏"‏عن أبي هريرة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير؛ فليتعوذ بالله من أربع من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال‏)‏ ‏.‏

4- وفي ‏"‏الصحيحين‏"‏عن أبي أيوب؛ قال‏:‏ ‏(‏خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجبت الشمس، فسمع صوتا، فقال يهود تعذب في قبورها‏)‏ ‏.‏

5- وفي ‏"‏الصحيحين‏"‏عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت‏:‏ ‏(‏دخلت عليَّ عجوز من عجائز يهود المدينة، فقالت إن أهل القبور يعذبون في قبورهم قالت فكذبتها، ولم أنعم أن أصدقها قالت فخرجت، ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت يا رسول الله‏!‏ إن عجوزا من عجائز يهود أهل المدينة دخلت فزعمت أن أهل القبور يعذبون في قبورهم‏؟‏ قال صدقت؛ إنهم يعذبون عذابا تسمعه البهائم كلها قالت فما رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر‏)

 تنبيه هام:

وعذاب القبر وسؤال الملكين ينالان كل من مات، ولو لم يدفن؛ فهو اسم لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة، قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏﴾‏‏‏ ، وسمي عذاب القبر باعتبار الغالب؛ فالمصلوب والحريق والغريق وأكيل السباع والطيور له من عذاب البرزخ ونعيمه قسطه الذي تقتضيه أعماله، وإن تنوعت أسباب النعيم والعذاب وكيفياتهما‏.‏

فقد ظن بعض الأوائل أنه إذا حرق جسده بالنار وصار رمادا وذري بعضه في البحر وبعضه في البر في يوم شديد الريح؛ أنه ينجو من ذلك، فأوصى بنيه أن يفعلوا به ذلك، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال‏:‏ قم‏!‏ فإذا هو قائم بيني يدي الله، فسأله‏:‏ ما حملك على ما فعلت‏؟‏ فقال‏:‏ خشيتك يا رب‏!‏ وأنت أعلم‏.‏ فرحمه الله‏.‏ فلم يفت عذاب البرزخ ونعيمه لهذه الأجزاء التي صارت في هذه الحال‏.‏

حتى لو علق الميت على رءوس الأشجار في مهاب الرياح؛ لأصاب جسده من عذاب البرزخ حظه ونصيبه، ولو دفن الرجل الصالح في أتون من النار؛ لأصاب جسده من نعيم البرزخ وروحه نصيبه وحظه، فيجعل الله النار على هذا بردا وسلاما، والهواء على ذلك نارا أو سموما‏.‏

فعناصر العالم ومواده منقادة لربها وفاطرها وخالقها؛ يصرفها كيف يشاء، ولا يستعصي منها شيء أراده، بل هي طوع أمره ومشيئته منقادة لقدرته؛ فغير ممتنع أن ترد الروح إلى المصلوب والغريق والمحترق ونحن لا نشعر بها؛ لأن ذلك الرد نوع آخر غير المعهود؛ فهذا المغمى عليه والمسكور والمبهوت أحياء وأرواحهم معهم ولا تشعر بحياتهم، ومن تفرقت أجزاؤه لا يمتنع على من هو على كل شيء قدير أن يجعل للروح اتصالا بتلك الأجزاء على تباعد ما بينها وقربه، ويكون في تلك الأجزاء شعور بنوع من الألم واللذة‏.‏

وإذا كان الله تعالى قد جعل في الجمادات شعورا وإدراكا تسبح ربها به، وتسقط الحجارة من خشيته، وتسجد له الجبال والشجر، وتسبحه الحصى والمياه والنبات؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ‏﴾‏‏‏؛ فإذا كانت هذه الأجسام فيها الإحساس والشعور؛ فالأجسام التي كانت فيها الأرواح والحياة أولى بذلك‏.‏

وقد أشهد الله سبحانه عباده في هذه الدار إعادة حياة كاملة إلى بدن قد فارقته الروح فتكلم ومشى وأكل وشرب وتزوج وولد له‏:‏

قال سبحانه‏:‏ ‏﴿‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال سبحانه‏:‏ ‏﴿‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وكقبيل بني إسرائيل الذين قالوا لموسى‏:‏ ‏﴿‏لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً‏﴾‏‏‏ فأماتهم الله ثم بعثهم من بعد موتهم‏.‏

وكأصحاب الكهف‏ وكقصة إبراهيم في الطيور الأربعة‏.‏

فإذا أعاد الحياة التامة إلى هذه الأجساد بعدما بردت بالموت؛ فكيف يمتنع على قدرته الباهرة أن يعيد إليها بعد موتها حياة ما غير مستقرة يقضي بها أمره فيها ويستنطقها بها ويعذبها أو ينعمها بأعمالها‏؟‏‏!‏ وهل إنكار ذلك إلا مجرد تكذيب وعناد وجحود‏؟‏‏!‏

المنكرون لعذاب القبر ونعيمه وشبهتهم والرد عليهم

أنكرت الملاحدة والزنادقة عذاب القبر ونعيمه، وقالوا‏:‏ إنا نكشف القبر، فلا نجد فيه ملائكة يضربون الموتى، ولا حيات، ولا ثعابين، ولا نيران تأجج‏!‏ وكيف يفسح له مد بصره أو يضيق عليه ونحن نجده بحاله ونجد مساحته على حد ما حفرناه له ولم يزد ولم ينقص‏؟‏ وكيف يصير القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار‏؟‏

 وجوابنا على ذلك من وجوه‏:‏

أولا‏:‏ أن حال البرزخ من الغيوب التي أخبرت بها الأنبياء، ولا يكون خبرهم محالا في العقول أصلا؛ فلا بد من تصديق خبرهم‏.‏

ثانيا‏:‏ أن النار في القبر والخضرة ليست من نار الدنيا ولا من زروع الدنيا فيشاهد ذلك من شاهد نار الدنيا وخضرها، وإنما هي من نار الآخرة وخضرها، وهي أشد من نار الدنيا؛ فلا يحس بها أهل الدنيا؛ فإن الله سبحانه يحمي عليه ذلك التراب والحجارة التي عليه وتحته، حتى يكون أعظم حَرًّا من جمر الدنيا، ولو مسها أهل الدنيا؛ لم يحسوا بذلك، وقدرة الرب أوسع من ذلك وأعجب‏.‏

وإذا شاء الله أن يطلع بعض العباد على عذاب القبر؛ أطلعه، وغيبه عن غيره؛ إذ لو أطلع العباد كلها؛ لزالت حكمة التكليف والإيمان بالغيب، ولما تدافن الناس؛ كما في ‏"‏الصحيحين‏"‏في الحديث الذي مر من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لولا أن لا تدافنوا؛ لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع‏)‏ ، ولما كانت هذه الحكمة منتفية في حق البهائم؛ سمعت ذلك وأدركته؛ كما حادت برسول الله صلى الله عليه وسلم بغلته وكادت تلقيه لما مر بمن يعذب في قبره‏.‏

فرؤية هذه النار في القبر كرؤية الملائكة والجن؛ تقع أحيانا لمن شاء الله أن يريه ذلك‏.‏

وكيف يستنكر من يعرف الله سبحانه ويقر بقدرته أن يحدث حوادث يصرف عنها أبصار بعض خلقه حكمة منه ورحمة بهم لأنهم لا يطيقون رؤيتها وسماعها؛ والعبد أضعف بصرا وسمعا أن يثبت لمشاهدة عذاب القبر‏؟‏‏!‏

وسر المسألة أن هذه السعة والضيق والإضاءة والخضرة والنار ليس من جنس المعهود في هذا العالم، والله سبحانه إنما أشهد بني آدم في هذه الدار ما كان فيها ومنها، فأما ما كان من أمر الآخرة؛ فقد أسبل عليه الغطاء؛ ليكون الإقرار به والإيمان به سببا لسعادتهم؛ فإذا كشف عنهم الغطاء؛ صار عيانا مشاهدا؛ فلو كان الميت بين الناس موضوعا؛ لم يمتنع أن يأتيه الملكان ويسألاه من غير أن يشعر الحاضرون بذلك، ويجيبهما من غير أن يسمعوا كلامه، ويضربانه من غير أن يشاهد الحاضرون ضربه‏.‏ وهذا الواحد منا ينام إلى جنب صاحبه المستيقظ، فيعذب في النوم ويضرب ويتألم وليس عند المستيقظ خبر من ذلك ألبتة‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية‏:‏ ‏"‏فأما أحاديث عذاب القبر ومسألة منكر ونكير؛ فكثيرة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ مثل ما في ‏"‏الصحيحين‏"‏عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين، فقال إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير أما أحدهما؛ فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر؛ فكان لا يستتر من بوله ثم دعا بجريدة رطبة، فشقها نصفين، ثم غرز في كل قبر واحدة، فقالوا يا رسول الله‏!‏ لم فعلت هذا‏؟‏ قال لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا‏)‏ ‏.‏

وفي ‏"‏صحيح مسلم‏"‏وسائر ‏"‏السنن‏"‏عن أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير؛ فليقل أعوذ بالله من أربع من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال‏)‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

وساق الشيخ أحاديث كثيرة في هذا الباب إلى أن قال‏:‏ ‏"‏وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلا وسؤال الملكين؛ فيجب اعتقاد ذلك والإيمان به، ولا نتكلم عن كيفيته؛ إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته؛ لكونه لا عهد له في هذه الدار، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول، ولكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول؛ فإن عود الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا، بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏"‏واعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ؛ فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه؛ قبر أو لم يقبر، أكلته السباع أو احترق حتى صار رمادا ونسف في الهواء أو صلب أو غرق في البحر؛ وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور، وما ورد من إجلاسه واختلاف أضلاعه ونحو ذلك؛ فيجب أن يفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مراده من غير غلو ولا تقصير؛ فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله، ولا يقصر به عن مراده وما قصد من الهدى والبيان؛ فكم حصل من إهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏"‏فالحاصل أن الدور ثلاث‏:‏ دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وقد جعل الله لكل دار أحكاما تخصها، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس، وجعل أحكام الدنيا على الأبدان والأرواح تبع لها، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبع لها؛ فإذا جاء يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم؛ صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعا‏.‏ فإذا تأملت هذا المعنى حق التأمل؛ ظهر لك أن كون القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار مطابق للعقل، وأنه حق لا مرية فيه، وبذلك يتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم‏.‏

ويجب أن يعلم أن النار التي في القبر والنعيم ليس من جنس نار الدنيا ولا نعيمها، وإن كان الله تعالى يحمي عليه التراب والحجارة التي فوقه والتي تحته، حتى يكون أعظم حرا من جمر الدنيا، ولو مسها أهل الدنيا، لم يحسوا بها، بل أعجب من هذا أن الرجلين يدفن أحدهما إلى جنب صاحبه، وهذا في حفرة من النار، وهذا في روضة من رياض الجنة، لا يصل من هذا إلى جاره شيء من حر ناره، ولا من هذا إلى جاره شيء من نعيمه، وقدرة الله أوسع من ذلك وأعجب، ولكن النفوس مولعة بالتكذيب بما لم تحط به علما‏.‏

وقد أرانا الله في هذه الدار من عجائب قدرته ما هو أبلغ من هذا بكثير، وإذا شاء الله أن يطلع على ذلك بعض عباده؛ أطلعه، وغيبه عن غيره، ولو أطلع الله على ذلك العباد كلهم؛ لزالت حكمة التكليف والإيمان بالغيب، ولما تدافن الناس؛ كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لولا أن لا تدافنوا؛ لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع‏)‏ ‏.‏

 أسباب عذاب القبر:

قال العلامة السفاريني‏:‏ ‏"‏الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور على قسمين‏:‏ مجمل ومفصل‏:‏

أما المجمل؛ فإنهم يعذبون على جهلهم بالله وعدم إطاعتهم لأمره وارتكابهم معاصيه؛ فلا يعذب الله روحا عرفته وأحبته وامتثلت أمره واجتنبت نهيه، ولا بدنا كانت فيه أبدا؛ فإن عذاب القبر وعذاب الآخرة أثر غضب الله وسخطه على عبده؛ فمن أغضب الله وأسخطه في هذه الدار بارتكاب مناهيه ولم يتب ومات على ذلك؛ كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه؛ فمستقل ومستكثر، ومصدق ومكذب‏.‏

وأما المفصل؛ فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجلين اللذين رآهما يعذبان في قبورهما‏:‏ أن أحدهما كان يمشي بالنميمة بين الناس، والآخر كان لا يستتر من البول، ثم ذكر من يعذب لكونه صلى بغير طهور، ومن مر على مظلوم فلم ينصره، ومن يقرأ القرآن ثم ينام عنه بالليل ولا يعمل به في النهار، وتعذيب الزناة والزواني وأكلة الربا والذين تتثاقل رءوسهم عن صلاة الفجر، وتعذيب الذين يمنعون الزكاة، والذين يوقدون الفتنة بين الناس، والجبارين والمتكبرين والمرائين والهمازين واللمازين‏.‏

وقد أنكر الملاحدة والزنادقة عذاب القبر ونعيمه اعتمادا على عقولهم وحواسهم؛ لأنهم لا يشاهدون شيئا من ذلك‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى‏.‏

ونرد عليهم بأن عذاب القبر من علم الغيب الذي يعتمد فيه على النصوص الصحيحة، وليس للعقل ولا الفكر دخل فيه، وأحوال الآخرة لا تقاس بأحوال الدنيا، وعدم إدراك الإنسان للشيء لا يدل على عدم وجوده‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الإيمان باليوم الآخر:

 البعث والنشور:

اعلم أن وقوع البعث من القبور قد دل عليه الكتاب والسنة والعقل والفطرة السليمة؛ أخبر الله عنه في كتابه العزيز، وأقام عليه الدليل، ورد على منكريه في آيات كثيرة من القرآن العظيم، وقد أخبرت عنه جميع الأنبياء أممها، وطالبت المنكرين بالإيمان به، ولما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وكان قد بعث هو والساعة كهاتين؛ بين تفصيل الآخرة تفصيلا لا يوجد في شيء من كتب الأنبياء قبله‏.‏

والقيامة الكبرى معروفة عند جميع الأنبياء من آدم إلى نوح إلى إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم‏.‏‏.‏‏.‏ عليهم الصلاة والسلام‏.‏

وقد أخبر الله من حين أهبط آدم بالقيامة‏:‏ فقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ‏﴾‏‏. وقال‏:‏ ‏﴿‏قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ‏﴾‏‏. ولما قال إبليس اللعين‏:‏ ‏﴿‏قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال نوح عليه السلام لقومه‏:‏ ‏﴿‏وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏﴿‏وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وموسى عليه السلام قال الله له‏:‏ ‏﴿‏إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى‏﴾‏‏. وقال موسى في دعائه‏:‏ ‏﴿‏وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقد أخبر الله أن الكفار إذا أدخلوا النار يقرون أن رسلهم أنذرتهم هذا اليوم؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ‏﴾‏‏‏؛ فجميع الرسل أنذروا بما أنذر به خاتمهم عليهم جميعا صلوات الله وسلامه‏.‏

وقد أخبر الله تعالى أن الموتى يقومون من قبورهم إذا نفخ في الصور النفخة الثالثة؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ‏﴾‏‏‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وأخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ البَقْلُ، لَيْسَ مِنَ الإِنْسَانِ شَيْءٌ إِلَّا يَبْلَى، إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الخَلْقُ يَوْمَ القِيَامَةِ‏). وفي رواية مسلم‏:‏ ‏(‏إن في الإنسان عظما لا تأكله الأرض أبدا، منه يركب الخلق يوم القيامة‏.‏ قالوا‏:‏ أي عظم هو يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ عجب الذنب‏)‏ ‏.‏

قال العلماء‏:‏ وعجب الذنب هو العظم اللطيف الذي يكون في أسفل الصلب‏.‏

وقد جاء في الحديث أنه مثل حبة الخردل؛ منه ينبت جسم الإنسان‏.‏

وقد استبعد المشركون إعادة الناس في حياة أخرى بعد الموت، فأنكروا البعث والنشور‏.‏

فأمر الله نبيه أن يقسم به على وقوعه، وأنه كائن لا محالة‏:‏ فقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ‏﴾‏‏‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ‏﴾‏‏‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وأخبر عن اقتراب ذلك، فقال‏:‏ ‏﴿‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ‏﴾‏‏‏ ، ‏﴿‏اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وذم المكذبين بالبعث، فقال‏:‏ ‏﴿‏قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ‏﴾‏‏‏ ، ‏﴿‏أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ‏﴾‏‏‏ ، ‏﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً . ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً . أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُوراً﴾‏‏‏ ، وقال‏:‏ ‏﴿‏وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً﴾‏‏‏ ، فرد الله عليهم بقوله‏:‏ ‏﴿قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً . أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً . يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً﴾‏‏‏

قال شارح ‏"‏الطحاوية‏"‏على هذه الآيات الكريمة‏:‏ ‏"‏فتأمل ما أجيبوا به عن كل سؤال على التفصيل؛ فإنهم قالوا أولا‏:‏ ‏﴿أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً﴾‏‏‏ ‏؟‏‏!‏ فقيل لهم في جواب هذا السؤال‏:‏ إن كنتم تزعمون أنه لا خالق لكم ولا رب لكم؛ فهلا كنتم خلقا لا يفنيه الموت كالحجارة والحديد وما هو أكبر في صدوركم من ذلك‏!‏ فإن قلتم‏:‏ كنا خُلِقْنا على هذه الصفة التي لا تقبل البقاء‏.‏ فما الذي يحول بين خالقكم ومنشئكم وبين إعادتكم خلقا جديدا‏؟‏‏!‏ وللحجة تقدير آخر هو‏:‏ لو كنتم حجارة أو حديدا أو خلقا أكبر منهما؛ فإنه قادر على أن يفنيكم ويحيل ذواتكم وينقلها من حال إلى حال، ومن يقدر على التصرف في هذه الأجسام مع شدتها وصلابتها بالإفناء والإحالة؛ فما الذي يعجزه فيما دونها‏؟‏‏!‏ ثم أخبر أنهم يسألون سؤالا آخر بقوله‏:‏ ‏﴿‏من يعيدنا‏﴾‏‏‏ إذا فنيت جسومنا واستحالت‏!‏ فأجابهم بقوله‏:‏ ‏﴿‏قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏﴾‏‏‏ ، فلما أخذتهم الحجة؛ انتقلوا إلى سؤال آخر يتعللون به تعلل المنقطع، وهو قولهم‏:‏ ‏﴿‏متى هو‏﴾‏‏‏ ‏!‏ فأجابهم بقوله‏:‏ ‏﴿‏قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا‏﴾‏‏‏ ‏.‏

 الإيمان باليوم الآخر:

 الإيمان بما يكون يوم القيامة:

قال الإمام السفاريني‏:‏ ‏"‏واعلم أن ليوم الوقوف أهوالا عظيمة وشدائد جسيمة تذيب الأكباد وتذهل المراضع وتشيب الأولاد‏.‏

وهو حق ثابت، ورد به الكتاب والسنة وانعقد عليه الإجماع، وهو يوم القيامة‏.‏

وقد اختلف في تسمية ذلك اليوم بيوم القيامة‏:‏

قيل‏:‏ لكون الناس يقومون من قبورهم؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا‏﴾‏‏. وقيل‏:‏ لوجود أمور المحشر والوقوف ونحوها فيه‏.‏ وقيل‏:‏ لقيام الناس لرب العالمين‏.‏ كما روى مسلم في ‏"‏صحيحه‏"‏عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا‏:‏ ‏﴿‏يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏﴾‏‏‏؛ قال‏:‏ يقوم أحدهم في رشحه إلى نصف أذنيه‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏"‏وروى الإمام أحمد وأبو يعلى وابن حبان في ‏"‏صحيحه‏"‏عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏يوما كان مقداره خمسين ألف سنة‏). فقيل‏:‏ ما أطول هذا اليوم‏!‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده؛ إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة‏)‏ ‏.‏

وقيل‏:‏ إنما سمي يوم القيامة لقيام الملائكة والروح فيه صفا؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا‏﴾‏‏‏ ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏

إلى أن قال‏:‏ ‏"‏وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا‏:‏ ‏(‏يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعا، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم -وفي بعض ألفاظ الصحيح سبعين عاما-‏)‏ ‏.‏

فأخرج مسلم عن المقداد رضي الله عنه؛ قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إذا كان يوم القيامة؛ أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين‏). قال‏:‏ ‏(‏فتصهرهم الشمس، فيكونون في العرق كقدر أعمالهم، منهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاما‏)‏ ‏"‏‏.‏

 ويواجه الناس في هذا الموقف أمورا عظيمة منها‏:‏

 1- الحساب:

الحساب هو تعريف الله سبحانه الخلائق مقادير الجزاء على أعمالهم، وتذكيره إياهم بما قد نسوه‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال سبحانه‏:‏ ‏﴿وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال سبحانه‏:‏ ‏﴿‏فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏﴾‏‏‏

ومن الحساب إجراء القصاص بين العباد، فيقتص للمظلوم من الظالم؛ كما في ‏"‏صحيح مسلم‏"‏و ‏"‏سنن الترمذي‏"‏من حديث أبي هريرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لَتُؤدُّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء‏)‏ ‏.‏

والحساب متفاوت؛ فمنه الحساب العسير، ومنه الحساب اليسير‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية‏:‏ ‏"‏يحاسب الله تعالى الخلق، ويخلو بعبده المؤمن، ويقرره بذنوبه؛ كما وصف ذلك في الكتاب والسنة‏.‏ وأما الكفار؛ فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته؛ فإنهم لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم وتحصى، فيوقفون عليها ويقررون بها‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏

وأول ما يحاسب عنه العبد صلاته، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء؛ كما في الحديث الذي رواه الترمذي وحسنه وأبو داود والحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة؛ يقول الله تعالى لملائكته انظروا لصلاة عبدي، أتمها أم نقصها‏؟‏ فإن كانت تامة؛ كتبت له تامة، وإن كان نقص منها شيئا؛ قال الله انظروا؛ هل لعبدي من تطوع‏؟‏ فإن كان له تطوع؛ قال أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذلك‏). وأخرج النسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏أول ما يحاسب عليه العبد صلاته‏)‏ ‏.‏

 2- إعطاء الصحائف:

الصحائف‏:‏ هي الكتب التي كتبتها الملائكة وأحصوا فيها ما فعله كل إنسان في الحياة الدنيا من الأعمال القولية والفعلية‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا‏﴾‏‏‏؛ قال العلماء‏:‏ طائره‏:‏ عمله‏.‏

ومنهم من يعطى كتابه بيمينه، ومنهم من يعطى كتابه بشماله‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ﴾‏‏‏ إلى قوله‏:‏ ‏﴿‏كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ‏﴾‏‏‏ ، ثم قال سبحانه‏:‏ ‏﴿‏وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ‏﴾‏‏‏ إلى قوله‏:‏ ‏﴿‏خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

 3- وزن الأعمال:

مما يكون في هذا اليوم وزن الأعمال‏:‏

قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ‏﴾‏‏‏ ، فالأعمال توزن بميزان حقيقي له لسان وكفتان‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ ‏"‏الميزان‏:‏ هو ما يوزن به الأعمال، وهو غير العدل؛ كما دل على ذلك الكتاب والسنة؛ مثل قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ‏﴾‏‏‏ ، وقوله‏:‏ ‏﴿‏وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

ثم ساق بعض الأحاديث التي فيها وزن الأعمال، ثم قال‏:‏ ‏"‏وهذا وأمثاله مما يبين أن الأعمال توزن بموازين يبين بها رجحان الحسنات على السيئات وبالعكس؛ فهو مما يتبين به العدل، والمقصود بالوزن العدل؛ كموازين الدنيا، وأما كيفية تلك الموازين؛ فهو بمنزلة كيفية سائر ما أخبرنا به من الغيب‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى‏.‏

 4- الصراط والمرور عليه:

ومما يكون في يوم القيامة المرور على الصراط، وهو جسر ممدود على متن جهنم، يرده الأولون والآخرون، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، وهو أدق من الشعر، وأحد من السيف  ، عليه كلاليب تخطف من أمرت بخطفه، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم؛ فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كهرولة الراجل، ومنهم من يمشي مشيا، ومنهم من يزحف زحفا، ومنهم من يخطف فيلقى في جهنم‏.‏‏.‏‏.‏ نسأل الله السلامة والعافية‏.‏

قال السفاريني‏:‏ ‏"‏اتفقت الكلمة على إثبات الصراط في الجملة، لكن أهل الحق يثبتونه على ظاهره؛ من كونه جسرا ممدودا على متن جهنم أحد من السيف وأدق من الشعر، وأنكر هذا الظاهر القاضي عبد الجبار المعتزلي وكثير من أتباعه؛ زعما منهم أنه لا يمكن عبوره، وإن أمكن؛ ففيه تعذيب، ولا عذاب على المؤمنين والصلحاء يوم القيامة، وإنما المراد طريق الجنة المشار إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ‏﴾‏‏‏ ، وطريق النار المشار إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ‏﴾‏‏‏ ، ومنهم من حمله على الأدلة الواضحة والمباحات والأعمال الرديئة ليسأل عنها ويؤاخذ بها، وكل هذا باطل وخرافات؛ لوجوب رد النصوص إلى حقائقها، وليس العبور على الصراط بأعجب من المشي على الماء أو الطيران في الهواء أو الوقوف فيه، وقد أجاب صلى الله عليه وسلم عن سؤال حشر الكافر على وجهه بأن القدرة صالحة لذلك‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى‏.‏

 5- الحوض:

قال الحافظ السيوطي‏:‏ ‏"‏ورد ذكر الحوض من رواية بضعة وخمسين صحابيا، منهم الخلفاء الأربعة الراشدون، وحفاظ الصحابة المكثرون، وغيرهم؛ رضوان الله عليهم أجمعين‏"‏انتهى‏.‏

وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منه؛ لا يظمأ أبدا‏)‏ ‏.‏

وروى مسلم في ‏"‏صحيحه‏"‏عن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال‏:‏ ‏(‏أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسما، فقال إنه أنزلت عليَّ آنفا سورة، فقرأ ‏﴿‏بسم الله الرحمن الرحيم‏﴾‏‏‏ ‏﴿‏إنا أعطيناك الكوثر‏﴾‏‏‏ حتى ختمها؛ قال هل تدرون ما الكوثر‏؟‏ قالوا الله ورسوله أعلم قال هو نهر أعطانيه ربي في الجنة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، يختلج العبد منهم، فأقول يا رب‏!‏ إنه من أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدث بعدك‏). ومعنى يختلج‏:‏ يطرد عن ورود الحوض‏.‏

قال القرطبي‏:‏ ‏"‏قال علماؤنا‏:‏ كل من ارتد عن دين الله أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله ولم يأذن به؛ فهو من المطرودين عن الحوض، وأشدهم طردا من خالف جماعة المسلمين؛ كالخوارج والروافض والمعتزلة على اختلاف فرقهم؛ فهؤلاء كلهم مبدلون، وكذا الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وإذلال أهله، والمعلنون بكبائر الذنوب، والمستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ والبدع، ثم الطرد قد يكون في حال، ويقربون بعد المغفرة إن كان التبديل في الأعمال ولم يكن في العقائد‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏ انتهى‏.‏

وقد خالفت المعتزلة؛ فلم تقل بإثبات الحوض مع ثبوته بالسنة الصحيحة الصريحة؛ فكل من خالف في إثباته؛ فهو مبتدع وأحرى أن يطرد عنه‏.‏

 6- الشفاعة:

الشفاعة لغة‏:‏ الوسيلة والطلب، وعرفا‏:‏ سؤال الخير للغير، وقيل‏:‏ هي من الشفع الذي هو ضد الوتر، فكأن الشافع ضم سؤاله إلى سؤال المشفوع له‏.‏

والشفاعة حق إذا تحققت شروطها، وهي‏:‏ أن تكون بإذن الله تعالى، ورضاه عن المشفوع له‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى‏﴾‏‏‏ ‏.‏

 ففي هذه الآية الكريمة أن الشفاعة لا تنفع إلا بشرطين‏:‏

الأول‏:‏ إذن الله للشافع أن يشفع؛ لأن الشفاعة ملكه سبحانه؛ ‏﴿‏قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا‏﴾‏‏‏ ‏.‏

الثاني‏:‏ رضاه عن المشفوع فيه بأن يكون من أهل التوحيد؛ لأن المشرك لا تنفعه الشفاعة؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

فتبين بهذا بطلان ما عليه القبوريون اليوم الذين يطلبون الشفاعة من الأموات ويتقربون إليهم بأنواع القربات‏:‏

كما قال الله في سلفهم‏:‏ ‏﴿‏وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقد أعطي نبينا صلى الله عليه وسلم الشفاعة، فيشفع لمن أذن الله له فيه‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ ‏"‏وله صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات‏:‏

أما الشفاعة الأولى؛ فيشفع في أهل الموقف حتى يقضى بينهم بعد أن يتدافعها الأنبياء آدم إلى نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم حتى تنتهي إليه‏.‏

وأما الشفاعة الثانية؛ فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة‏.‏

وهاتان الشفاعتان خاصتان له‏.‏

وأما الشفاعة الثالثة؛ فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها‏"‏‏.‏

وقال رحمه الله‏:‏ ‏"‏وأما شفاعته لأهل الذنوب من أمته؛ فمتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم، وأنكرها كثير من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والزيدية، وقال هؤلاء‏:‏ من يدخل النار؛ لا يخرج منها لا بشفاعة ولا غيرها‏!‏ وعند هؤلاء ما ثَمَّ إلا من يدخل الجنة فلا يدخل النار، ومن يدخل النار فلا يدخل الجنة، ولا يجتمع عندهم في الشخص الواحد ثواب وعقاب‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏"‏واحتج هؤلاء المنكرون للشفاعة بقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ‏﴾‏‏‏ ، وبقوله‏:‏ ‏﴿‏مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ‏﴾‏‏‏ ، وبقوله‏:‏ ‏﴿‏مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ‏﴾‏‏‏ ، وبقوله‏:‏ ‏﴿‏فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

 وجواب أهل السنة‏:‏ أن هذا يراد به شيئان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها لا تنفع المشركين؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ‏﴾‏‏‏؛ فهؤلاء لا تنفعهم شفاعة الشافعين لأنهم كانوا كفارا‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يراد بذلك الشفاعة التي يثبتها أهل الشرك ومن شابههم من أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين الذين يظنون أن للخلق عند الله من القدر أن يشفعوا عنده بغير إذنه كما يشفع الناس في بعضهم عند بعض‏"‏‏.‏

 7-8- الجنة والنار:

وفي يوم القيامة الداران العظيمتان اللتان لا تفنيان؛ الجنة والنار؛ فالجنة دار المتقين، والنار دار الكافرين‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وهما مخلوقتان موجودتان الآن؛ كما قال تعالى في الجنة‏:‏ ‏﴿‏أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ‏﴾‏‏‏ ، وقال في النار‏:‏ ‏﴿‏أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ‏﴾‏‏‏ ، وغير ذلك من النصوص التي تدل على وجودهما الآن‏.‏

وهما باقيتان لا تفنيان؛ كما هو مذهب أهل السنة والجماعة‏.‏

قال شارح ‏"‏الطحاوية‏"‏‏:‏ ‏"‏مما ينبغي أن يعلم أن الله تعالى لا يمنع الثواب إلا إذا منع سببه، وهو العمل الصالح؛ فإنه قال‏:‏ ‏﴿‏وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا‏﴾‏‏‏ ، وكذلك لا يعاقب أحدا إلا بعد حصول سبب العقاب؛ فإن الله تعالى يقول‏:‏ ‏﴿‏وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ‏﴾‏‏‏ ، وهو سبحانه المعطي المانع؛ لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏ انتهى‏.‏

والأعمال الصالحة سبب لدخول الجنة، والأعمال السيئة سبب لدخول النار‏.‏

نسأل الله الجنة، ونعوذ به من النار؛ إنه سميع مجيب الدعاء‏.‏

 أصول العقيدة:

 الإيمان بالقضاء والقدر:

لا شك أن إثبات القضاء والقدر ووجوب الإيمان بهما وبما تضمناه من أعظم أركان الإيمان؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ‏﴾‏‏‏ ‏.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره‏)‏ ،

والقدر‏:‏ مصدر‏:‏ قدرت الشيء‏:‏ إذا أحطت بمقداره‏.‏

والمراد هنا‏:‏ تعلق علم الله بالكائنات وإرادته لها أزلا قبل وجودها؛ فلا يحدث شيء إلا وقد علمه الله وقدره وأراده‏.‏

ومذهب أهل السنة والجماعة هو الإيمان بالقدر خيره وشره‏.‏

 والإيمان بالقدر يتضمن أربع درجات‏:‏

الأولى‏:‏ الإيمان بعلم الله الأزلي بكل شيء قبل وجوده، ومن ذلك علمه بأعمال العباد قبل أن يعملوها‏.‏

الثانية‏:‏ الإيمان بأن الله كتب ذلك في اللوح المحفوظ‏.‏

الثالثة‏:‏ الإيمان بمشيئة الله الشاملة لكل حادث وقدرته التامة عليه‏.‏

الرابعة‏:‏ الإيمان بإيجاد الله لكل المخلوقات، وأنه الخالق وحده، وما سواه مخلوق‏.‏

ومن أدلة المرتبة الأولى والثانية‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ‏﴾‏‏‏

ومن أدلة المرتبة الثالثة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏﴾‏‏‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏﴾‏‏‏

من أدلة المرتبة الرابعة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ‏﴾‏‏‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ‏﴾‏‏‏

 والتقدير نوعان‏:‏

1‏- ‏تقدير عام شامل لكل كائن، وهو المكتوب في اللوح المحفوظ؛ فقد كتب الله فيه مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة، كما في الحديث الذي رواه أبو داود في ‏"‏سننه‏"‏عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه؛ قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏أول ما خلق الله القلم، قال له اكتب‏!‏ قال وما أكتب‏؟‏ قال اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة‏)[صححه الألباني كما في الصحيحة 133]‏.‏ وهذا التقدير يعم جميع المخلوقات‏.‏

2‏- وتقدير مفصل للتقدير العام، وهو أنواع‏:

النوع الأول‏:‏ التقدير العمري؛ كما في حديث ابن مسعود في شأن ما يكتب على الجنين وهو في بطن أمه من كتابة أجله ورزقه وعمله وشقاوته أو سعادته‏.‏

النوع الثاني‏:‏ التقدير الحولي، وهو ما يقدر في ليلة القدر من وقائع العام؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ‏﴾‏‏‏

النوع الثالث‏:‏ التقدير اليومي، وهو ما يقدر من حوادث اليوم من حياة وموت وعز وذل‏.‏‏.‏‏.‏ إلى غير ذلك؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ‏﴾‏‏‏

ولا بد للمسلم من الإيمان بالقدر العام وتفاصيله؛ فمن جحد شيئا منهما؛ لم يكن مؤمنا بالقدر، ومن لم يؤمن بالقدر؛ فقد جحد ركنا من أركان الإيمان؛ كما عليه الفرقة القدرية الضالة التي تنكر القدر، وهم في هذا الإنكار على قسمين‏:

القسم الأول‏:‏

القدرية الغلاة الذين ينكرون علم الله بالأشياء قبل كونها، وينكرون كتابته لها في اللوح المحفوظ، ويقولون‏:‏ إن الله أمر ونهى، وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه؛ فالأمر أنف ‏(‏أي‏:‏ مستأنف‏)‏، لم يسبق في علم الله وتقديره‏.‏ وهذه الفرقة قد انقرضت أو كادت‏.‏

القسم الثاني‏:‏

تقر بالعلم، ولكنها تنفي دخول أفعال العباد في القدر، وتزعم أنها مخلوقة لهم استقلالا، لم يخلقها الله ولم يردها، وهذا مذهب المعتزلة‏.‏

وقابلتهم طائفة غلت في إثبات القدر حتى سلبوا العبد قدرته واختياره، وقالوا‏:‏ إن العبد مجبر على فعله، ولذلك سموا بالجبرية‏.‏

وكلا المذهبين باطل لأدلة كثيرة؛ منها‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏﴾‏‏‏ لأن قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ‏﴾‏‏‏ ‏:‏ يرد على الجبرية؛ لأن الله تعالى أثبت للعباد مشيئة، وهم يقولون‏:‏ إنهم مجبورون لا مشيئة لهم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏﴾‏‏‏ ‏:‏ فيه الرد على القدرية القائلين بأن مشيئة العبد مستقلة بإيجاد الفعل من غير توقف على مشيئة الله، وهذا قول باطل؛ لأن الله علق مشيئة العبد على مشيئته سبحانه، ربطها بها‏.‏

وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة في هذه القضية، فلم يُفَرِّطوا تفريط القدرية النفاة، ولم يُفَرِّطوا إفراط الجبرية الغلاة‏.‏

فمذهب سلف الأمة وأئمتها أن جميع أنواع الطاعات والمعاصي والكفر والفساد واقع بقضاء الله وقدره، لا خالق سواه؛ فأفعال العباد كلها مخلوقة لله؛ خيرها وشرها، حسنها وقبيحها، والعبد غير مجبور على أفعاله، بل هو قادر عليها وقاصد لها وفاعل لها‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ ‏"‏الأعمال والأقوال والطاعات والمعاصي هي من العبد، بمعنى أنها قائمة بالعبد وحاصلة بمشيئته وقدرته، وهو المتصف بها والمتحرك بها الذي يعود حكمها عليه، وهي من الله، بمعنى أنه خلقها قائمة بالعبد، وجعلها عملا له وكسبا؛ كما يخلق المسببات بأسبابها؛ فهي من الله مخلوقة له، ومن العبد صفة قائمة به واقعة بقدرته وكسبه؛ كما إذا قلنا‏:‏ هذه الثمرة من الشجرة، وهذا الزرع من الأرض؛ بمعنى أنه حدث منها، ومن الله بمعنى أنه خلقه منها، لم يكن بينهما تناقض‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى‏.‏

وقال السفاريني‏:‏ ‏"‏والحاصل أن مذهب أهل السلف ومحققي أهل السنة أن الله تعالى خلق قدرة العبد وإرادته وفعله، وأن العبد فاعل لفعله حقيقة ومحدث لفعله، والله سبحانه جعله فاعلا له محدثا له؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏﴾‏‏‏ ‏.‏‏.‏‏.‏؛ فأثبت مشيئة العبد، وأخبر أنها لا تكون إلا بمشيئة الله، وهذا صريح قول أهل السنة في إثبات مشيئة العبد، وأنها لا تكون إلا بمشيئة الله‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى‏.‏

وأقول‏:‏ إن مما يؤيد هذا أن الله أعطى الإنسان عقلا وقدرة واختيارا، ولا يحتسب فعله له أو عليه؛ إلا إذا توفرت فيه هذه القوى‏.‏

فالمجنون والمعتوه أو المكره لا اعتبار لما يصدر منهم من الأقوال والأفعال، ولا يؤاخذون عليها، مما يدل على أنه ليس بمجبر ولا مستقل بنفسه‏.‏ والله المستعان‏.‏

 ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر:

- إن من أعظم ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر صحة إيمان الشخص بتكامل أركانه؛ لأن الإيمان بذلك من أركان الإيمان الستة التي لا يتحقق إلا بها؛ كما دل على ذلك الكتاب والسنة‏.‏

- ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر طمأنينة القلب وارتياحه وعدم القلق في هذه الحياة عندما يتعرض الإنسان لمشاق الحياة؛ لأن العبد إذا علم أن ما يصيبه فهو مقدر لا بد منه ولا راد له، واستشعر قول الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك‏)‏؛ فإنه عند ذلك تسكن نفسه ويطمئن باله؛ بخلاف من لا يؤمن بالقضاء والقدر؛ فإنه تأخذه الهموم والأحزان، ويزعجه القلق حتى يتبرم بالحياة ويحاول الخلاص منها ولو بالانتحار؛ كما هو مشاهد من كثرة الذين ينتحرون فرارا من واقعهم وتشاؤما من مستقبلهم؛ لأنهم لا يؤمنون بالقضاء والقدر، فكان تصرفهم ذلك نتيجة حتمية لسوء اعتقادهم‏.‏

وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾‏‏‏ فأخبرنا سبحانه أنه قدر ما يجري من المصائب في الأرض وفي الأنفس؛ فهو مقدر ومكتوب لا بد من وقوعه مهما حاولنا دفعه، ثم بين أن الحكمة من إخباره لنا بذلك لأجل أن نطمئن فلا نجزع ولا نأسف عند المصائب ولا نفرح عند حصول النعم فرحا ينسينا العواقب، بل الواجب علينا الصبر عند المصائب وعدم اليأس من روح الله، والشكر عند الرخاء وعدم الأمن من مكر الله، ونكون مرتبطين بالله في الحالتين‏.‏

قال عكرمة رحمه الله‏:‏ ‏"‏ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن؛ ولكن جعلوا الفرح شكرا والحزن صبرا‏"‏‏.‏

وليس معنى هذا أن العبد لا يتخذ الأسباب الواقية من الشر والجالبة للخير، وإنما يتكل على القضاء والقدر؛ كما يظن بعض الجهال، هذا من أكبر الغلط والجهل؛ فإن الله أمرنا باتخاذ الأسباب، ونهانا عن التكاسل والإهمال، ولكن إذا اتخذنا السبب وحصل لنا عكس المطلوب؛ فعلينا أن لا نجزع؛ لأن هذا هو القضاء المقدر، ولو قدر غيره؛ لكان، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تجزعن، وإن أصابك شيء؛ فلا تقل لو أني فعلت كذا؛ كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل؛ فإن ‏‏لو‏‏ تفتح عمل الشيطان‏). رواه مسلم‏.‏

وعلى العبد مع هذا أن يحاسب نفسه ويصحح أخطاءه؛ فإنه لا يصيبه شيء إلا بسبب ذنوبه؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏﴾‏‏‏

- ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر الثبات عند مواجهة الأزمات، واستقبال مشاق الحياة بقلب ثابت ويقين صادق لا تزلزله الأحداث ولا تهزه الأعاصير؛ لأنه يعلم أن هذه الحياة دار ابتلاء وامتحان وتقلب؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا‏﴾‏‏‏ وقال تعالى‏:‏ ‏﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾‏‏‏

كم جرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى صحابته من المحن والشدائد، لكنهم واجهوها بالإيمان الصادق والعزم الثابت حتى اجتازوها بنجاح باهر، وما ذاك إلا لإيمانهم بقضاء الله وقدره، واستشعارهم لقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏﴾‏‏‏

- ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر تحويل المحن إلى منح، والمصائب إلى أجر؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏﴾‏‏‏

قال علقمة‏:‏ ‏"‏هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم‏"‏‏.‏

ومعنى الآية الكريمة‏:‏ من أصابته مصيبة، فعلم أنها من قدر الله، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله؛ هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا هدًى في قلبه ويقينا صادقا، وقد يخلف الله عليه ما كان أخذ منه أو خيرا منه، وهذا في نزول المصائب التي هي من قضاء الله وقدره، لا دخل للعبد في إيجادها إلا من ناحية أنه تسبب في نزولها به، حيث قصر في حق الله عليه بفعل أمره وترك نهيه؛ فعليه أن يؤمن بقضاء الله وقدره، ويصحح خطأه الذي أصيب بسببه‏.‏

وبعض الناس يخطئون خطأ فاحشا عندما يحتجون بالقضاء والقدر على فعلهم للمعاصي وتركهم للواجبات، ويقولون‏:‏ هذا مقدر علينا‏!‏ ولا يتوبون من ذنوبهم؛ كما قال المشركون‏:‏ ‏﴿‏لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ‏﴾‏‏‏ وهذا فهم سيئ للقضاء والقدر؛ لأنه لا يحتج بهما على فعل المعاصي والمصائب، وإنما يحتج بهما على نزول المصائب؛ فالاحتجاج بهما على فعل المعاصي قبيح؛ لأنه ترك للتوبة وترك للعمل الصالح المأمور بهما، والاحتجاج بهما على المصائب حسن؛ لأنه يحمل على الصبر والاحتساب‏.‏

- ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر أنه يدفع الإنسان إلى العمل والإنتاج والقوة والشهامة؛ فالمجاهد في سبيل الله يمضي في جهاده ولا يهاب الموت؛ لأنه يعلم أنه لا بد منه، وأنه إذا جاء لا يؤخر، لا يمنع منه حصون ولا جنود، ‏﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾‏‏‏ ‏﴿‏قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ‏﴾‏‏‏ وهكذا حينما يستشعر المجاهد هذه الدفعات القوية من الإيمان بالقدر؛ يمضي في جهاده حتى يتحقق النصر على الأعداء وتتوفر القوة للإسلام والمسلمين‏.‏

وكذلك بالإيمان بالقضاء والقدر يتوفر الإنتاج والثراء؛ لأن المؤمن إذا علم أن الناس لا يضرونه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، ولا ينفعونه إلا بشيء قد كتبه الله له؛ فإنه لن يتواكل، ولا يهاب المخلوقين، ولا يعتمد عليهم، وإنما يتوكل على الله، ويمضي في طريق الكسب، وإذا أصيب بنكسة، ولم يتوفر له مطلوبه؛ فإن ذلك لا يثنيه عن مواصلة الجهود، ولا يقطع منه باب الأمل، ولا يقول‏:‏ لو أنني فعلت كذا؛ كان كذا وكذا‏!‏ ولكنه يقول‏:‏ قدر الله وما شاء فعل‏.‏ ويمضي في طريقه متوكلا على الله، مع تصحيح خطئه، ومحاسبته لنفسه، وبهذا يقوم كيان المجتمع، وتنتظم مصالحه، وصدق الله حيث يقول‏:‏ ‏﴿‏وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا‏﴾‏‏‏

والحمد لله رب العالمين‏.‏

 أصول العقيدة:

 الولاء والبراء:

يجب على كل مسلم يدين بهذه العقيدة أن يوالي أهلها ويعادي أعداءها؛ فيحب أهل التوحيد والإخلاص ويواليهم، ويبغض أهل الإشراك ويعاديهم‏.‏

وذلك من ملة إبراهيم والذين معه، الذين أمرنا بالاقتداء بهم؛ حيث يقول سبحانه وتعالى‏:‏ ‏﴿‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏﴾‏‏‏

وهو من دين محمد عليه الصلاة والسلام‏:‏

قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏﴾‏‏‏ وهذه في تحريم موالاة أهل الكتاب خصوصا‏.‏

وقال في تحريم موالاة الكفار عموما‏:‏ ‏﴿‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ‏﴾‏‏‏

بل لقد حرم الله على المؤمن موالاة الكفار ولو كانوا من أقرب الناس نسبا؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏﴾‏‏‏، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقد جهل كثير من الناس هذا الأصل العظيم، حتى لقد سمعت بعض المنتسبين إلى العلم والدعوة في إذاعة عربية يقول عن النصارى‏:‏ إنهم إخواننا‏!‏ ويا لها من كلمة خطيرة‏!‏‏!‏

وكما أن الله سبحانه حرم موالاة الكفار أعداء العقيدة الإسلامية؛ فقد أوجب سبحانه موالاة المؤمنين ومحبتهم؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ‏﴾‏‏‏ وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ‏﴾‏‏‏ وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ‏﴾‏‏‏

فالمؤمنون إخوة في الدين والعقيدة، وإن تباعدت أنسابهم وأوطانهم وأزمانهم؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ‏﴾‏‏‏

فالمؤمنون من أول الخليقة إلى آخرها مهما تباعدت أوطانهم وامتدت أزمانهم إخوة متحابون؛ يقتدي آخرهم بأولهم، ويدعوا بعضهم لبعض، ويستغفر بعضهم لبعض‏.‏

 الولاء والبراء:

 مظاهر موالاة الكفار:

مظاهر موالاة الكفار قد بينها الكتاب والسنة، ومنها‏:

1- التشبه بهم في الملبس والكلام وغيرهما؛ لأن التشبه بهم في الملبس والكلام وغيرهما يدل على محبة المتشبِّه للمتشبَّه به، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من تشبه بقوم؛ فهو منهم‏)[حديث صحيح كما في إرواء الغليل 1269]؛ فيحرم التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم ومن عاداتهم وعباداتهم وسمتهم وأخلاقهم؛ كحلق اللحى، وإطالة الشوارب، والرطانة بلغتهم إلا عند الحاجة، وفي هيئة اللباس والأكل والشرب وغير ذلك‏.‏

2 -الإقامة في بلادهم وعدم الانتقال منها إلى بلد المسلمين لأجل الفرار بالدين؛ لأن الهجرة بهذا المعنى ولهذا الغرض واجبة على المسلم؛ لأن إقامته في بلاد الكفر تدل على موالاة الكافرين‏.‏

ومن هنا حرم الله إقامة المسلم بين الكفار إذا كان يقدر على الهجرة، قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا‏﴾‏‏‏ فلم يعذر الله في الإقامة في بلاد الكفار إلا المستضعفين الذين لا يستطيعون الهجرة، وكذلك من كان في إقامته مصلحة دينية؛ كالدعوة إلى الله ونشر الإسلام في بلادهم‏.‏

3- ومن مظاهر موالاة الكفار السفر إلى بلادهم لغرض النزهة ومتعة النفس، والسفر إلى بلاد الكفار محرم إلا عند الضرورة -كالعلاج والتجارة والتعلم للتخصصات النافعة التي لا يمكن الحصول عليها إلا بالسفر إليهم- فيجوز بقدر الحاجة، وإذا انتهت الحاجة؛ وجب الرجوع إلى بلاد المسلمين، ويشترط كذلك لجواز هذا السفر أن يكون مُظهِرا لدينه، معتزا بإسلامه، مبتعدا عن مواطن الشر، حذرا من دسائس الأعداء ومكائدهم، وكذلك يجوز السفر أو يجب إلى بلادهم إذا كان لأجل نشر الدعوة إلى الله ونشر الإسلام‏.‏

4- ومن مظاهر موالاة الكفار إعانتهم ومناصرتهم على المسلمين، ومدحهم والذب عنهم، وهذا من نواقض الإسلام وأسباب الردة؛ نعوذ بالله من ذلك‏.‏

5- ومن مظاهر موالاة الكفار الاستعانة بهم‏ والثقة بهم وتوليتهم المناصب التي فيها أسرار المسلمين واتخاذهم بطانة ومستشارين‏:

قال الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنَّ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا‏﴾‏‏‏

فهذه الآيات الكريمة تشرح دخائل الكفار، وما يكنونه نحو المسلمين من بغض، وما يدبرونه ضدهم من مكر وخيانة، وما يحبونه من مضرة المسلمين وإيصال الأذى إليهم بكل وسيلة، وأنهم يستغلون ثقة المسلمين بهم فيخططون للإضرار بهم والنيل منهم‏.‏

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه؛ قال‏:‏ قلت لعمر رضي الله عنه‏:‏ لي كاتب نصراني‏!‏ قال‏:‏ ما لك قاتلك الله‏؟‏ أما سمعت الله يقول‏:‏ ‏﴿‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ‏﴾‏‏‏ ألا اتخذت حنيفا‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ لي كتابته، وله دينه‏.‏ قال‏:‏ لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله"‏. [رواه البيهقي في السنن الكبرى بسند صححه الألباني  في الإرواء 2630]

وروى الإمام أحمد ومسلم‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر، فتبعه رجل من المشركين، فلحقه عند الحرة، فقال إني أردت أن أتبعك وأصيب معك قال تؤمن بالله ورسوله‏؟‏ قال لا قال ارجع؛ فلن أستعين بمشرك‏)‏ .‏

ومن هذه النصوص يتبين لنا تحريم تولية الكفار أعمال المسلمين التي يتمكنون بواسطتها من الاطلاع على أحوال المسلمين وأسرارهم ويكيدون لهم بإلحاق الضرر بهم‏.‏

ومن هذا ما وقع في هذا الزمان من استقدام الكفار إلى بلاد المسلمين -بلاد الحرمين الشريفين- وجعلهم عمالا وسائقين ومستخدمين ومربين في البيوت، وخلطهم مع العوائل أو خلطهم مع المسلمين في بلادهم‏.‏

6- ومن مظاهر موالاة الكفار التأريخ بتأريخهم، خصوصا التاريخ الذي يعبر عن طقوسهم وأعيادهم؛ كالتاريخ الميلادي، والذي هو عبارة عن ذكرى مولد المسيح عليه السلام، والذي ابتدعوه من أنفسهم، وليس هو من دين المسيح عليه السلام؛ فاستعمال هذا التاريخ فيه مشاركة في إحياء شعارهم وعيدهم‏.‏

ولتجنب هذا لما أراد الصحابة رضي الله عنهم وضع تاريخ للمسلمين في عهد عمر رضي الله عنه؛ عدلوا عن تواريخ الكفار، وأرخوا بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، مما يدل على وجوب مخالفة الكفار في هذا وفي غيره مما هو من خصائصهم‏.‏ والله المستعان‏.‏

7- ومن مظاهر موالاة الكفار‏:‏ مشاركتهم في أعيادهم، أو مساعدتهم في إقامتها، أو تهنئتهم بمناسبتها، أو حضور إقامتها، وقد فسر قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏﴿‏وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ‏﴾‏‏‏ أي‏:‏ ومن صفات عباد الرحمن أنهم لا يحضرون أعياد الكفار‏.‏

8- ومن مظاهر موالاة الكفار مدحهم والإشادة بما هم عليه من المدنية والحضارة والإعجاب بأخلاقهم ومهاراتهم دون نظر إلى عقائدهم الباطلة ودينهم الفاسد؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏﴾‏‏‏

وليس معنى ذلك أن المسلمين لا يتخذون أسباب القوة من تعلم الصناعات ومقومات الاقتصاد المباح والأساليب العسكرية، بل ذلك مطلوب؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ‏﴾‏‏‏

وهذه المنافع والأسرار الكونية هي في الأصل للمسلمين؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏﴾‏‏‏ وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ‏﴾‏‏‏ وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا‏﴾‏‏‏ قالواجب أن يكون المسلمون سباقين إلى استغلال هذه المنافع وهذه الطاقات، ولا يستجدون الكفار في الحصول عليها، يجب أن تكون لهم مصانع وتقنيات‏.‏

9- ومن مظاهر موالاة الكفار التسمي بأسمائهم؛ بحيث يسمون أبناءهم وبناتهم بأسماء أجنبية، ويتركون أسماء آبائهم وأمهاتهم وأجدادهم وجداتهم والأسماء المعروفة في مجتمعهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن‏)‏ ‏.‏[رواه أحمد بسند صحيح]

وبسبب تغيير الأسماء؛ فقد وجد جيل يحمل أسماء غريبة، مما يسبب الانفصال بين هذا الجيل والأجيال السابقة، ويقطع التعارف بين الأسر التي كانت تعرف بأسمائها الخاصة‏.‏

10- ومن مظاهر موالاة الكفار الاستغفار لهم والترحم عليهم، وقد حرم الله ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ‏﴾‏‏‏ لأن هذا يتضمن حبهم وتصحيح ما هم عليه‏.‏

 الولاء والبراء:

 مظاهر موالاة المؤمنين:

مظاهر موالاة المؤمنين قد بينها الكتاب والسنة، ومنها‏:

1- الهجرة إلى بلاد المسلمين وهجر بلاد الكافرين‏.‏ والهجرة؛ هي الانتقال من بلاد الكفار إلى بلاد المسلمين لأجل الفرار بالدين‏.‏

والهجرة بهذا المعنى ولأجل هذا الغرض واجبة وباقية إلى طلوع الشمس من مغربها عند قيام الساعة، وقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، فتحرم على المسلم الإقامة في بلاد الكفار إلا إذا كان لا يستطيع الهجرة منها أو كان في إقامته مصلحة دينية؛ كالدعوة إلى الله ونشر الإسلام‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظُالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فَيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا‏﴾‏‏‏

2- مناصرة المسلمين ومعاونتهم بالنفس والمال واللسان فيما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ‏﴾‏‏‏ وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَإِنْ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بِيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ‏﴾‏‏‏

3- التألم لألمهم والسرور بسرورهم؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مثل المسلمين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر‏) [رواه مسلم 2586]‏ ، وقال أيضا عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وشبك بين أصابعه صلى الله عليه وسلم‏)[متفق على صحته] ‏.‏

4- النصح لهم، ومحبة الخير لهم، وعدم غشهم وخديعتهم؛ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه‏)[مسلم 45]، وقال‏:‏ ‏(‏المسلم أخو المسلم؛ لا يحقره ولا يخذله ولا يسلمه، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه‏)[رواه مسلم] ، وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏لا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا تناجشوا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا‏)‏ ‏.‏[رواه مسلم]

5- احترامهم وتوقيرهم وعدم تنقصهم وعيبهم؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏يَا أَيُّهَا الِّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أُنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يَا أَيُّهَا الِّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ‏﴾‏‏‏

6- أن يكون معهم في حال العسر واليسر والشدة والرخاء، بخلاف أهل النفاق، الذين يكونون مع المؤمنين في حالة اليسر والرخاء، ويتخلون عنهم في حال الشدة؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏﴾‏‏‏

7- زيارتهم ومحبة الالتقاء بهم والاجتماع معهم، وفي الحديث القدسي‏:‏ ‏(‏وجبت محبتي للمتزاورين فيَّ‏)[رواه أحمد بسند صحيح كما في صحيح الترغيب ] ، وفي حديث آخر‏:‏ ‏(‏أن رجلا زار أخا له في الله، فأرصد الله على مدرجته ملكا، فسأله أين تريد‏؟‏ قال أزور أخا لي في الله قال هل لك عليه من نعمة تربها عليه‏؟‏ قال لا؛ غير أنني أحببته في الله قال فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه‏)‏ ‏.‏[رواه مسلم والبخاري في الأدب المفرد بسند صحيح].

8- احترام حقوقهم؛ فلا يبيع على بيعهم، ولا يسوم على سومهم، ولا يخطب على خطبتهم، ولا يتعرض لما سبقوا إليه من المباحات؛ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبته‏)‏ ‏(‏وفي رواية‏:‏ ولا يسم على سومه‏)‏‏.‏[رواه مسلم]

9- الرفق بضعفائهم؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس منا من لم يوقِّر كبيرَنا ويرحمْ صغيرَنا‏)[رواه الترمذي والبخاري في الأدب المفرد بسند صحيح] ، وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم‏)[البخاري 2896] ، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏﴾‏‏‏

10- الدعاء لهم والاستغفار لهم؛ قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏﴾‏‏‏ ‏﴿‏رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ‏﴾‏‏‏

تنبيه

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‏﴾‏‏‏ فمعناه أن من كف أذاه من الكفار، فلم يقاتل المسلمين، ولم يخرجهم من ديارهم؛ فإن المسلمين يقابلون ذلك بمكافأته بالإحسان والعدل معه في التعامل الدنيوي، ولا يحبونه بقلوبهم؛ لأن الله قال‏:‏ ‏﴿‏تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ‏﴾‏‏‏ ، ولم يقل‏:‏ توالونهم وتحبونهم‏.‏

ونظير هذا قوله تعالى في الوالدين الكافرين‏:‏ ‏﴿‏وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ‏﴾‏‏‏

وقد جاءت أم أسماء إليها تطلب صلتها وهي كافرة، فاستأذنت أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال لها‏:‏ ‏"‏صلي أمك‏"‏‏. [رواه أحمد بسند صحيح]

وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ‏﴾‏‏‏ ‏.‏‏.‏‏.‏ الآية

فالصلة والمكافأة الدنيوية شيء، والمودة شيء آخر؛ لأن في الصلة وحسن المعاملة ترغيبا للكافر في الإسلام، فهما من وسائل الدعوة؛ بخلاف المودة والموالاة؛ فهما يدلان على إقرار الكافر على ما هو عليه والرضى عنه، وذلك يسبب عدم دعوته إلى الإسلام‏.‏

وكذلك تحريم موالاة الكفار لا يعني تحريم التعامل معهم بالتجارة المباحة واستيراد البضائع والمصنوعات النافعة والاستفادة من خبراتهم ومخترعاتهم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم استأجر ابن أريقط الليثي ليدله على الطريق وهو كافر، واستدان من بعض اليهود، وما زال المسلمون يستوردون البضائع والمصنوعات من الكفار، وهذا من باب الشراء منهم بالثمن، وليس لهم علينا فيه فضل ومنة، وليس هو من أسباب محبتهم وموالاتهم؛ فإن الله أوجب محبة المؤمنين وموالاتهم وبغض الكافرين ومعاداتهم‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ‏﴾‏‏‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ‏﴾‏‏‏

قال الحافظ ابن كثير‏:‏ ‏"‏ومعنى قوله‏:‏ ‏﴿‏إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين، وإلا؛ وقعت فتنة في الناس، وهو التباس الأمر واختلاط المؤمنين بالكافرين، فيقع بين الناس فساد منتشر عريض طويل‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى‏.‏

قلت‏:‏ وهذا ما حصل في هذا الزمان‏.‏ والله المستعان‏.‏

 الولاء والبراء:

 أقسام الناس فيما يجب في حقهم من الولاء والبراء:

الناس في الولاء والبراء على ثلاثة أقسام‏:‏

القسم الأول:

من يحب محبة خالصة لا معاداة معها، وهم المؤمنون الخلَّص من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وفي مقدمتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه تجب محبته أعظم من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين، ثم زوجاته أمهات المؤمنين، وأهل بيته الطيبين، وصحابته الكرام، خصوصا الخلفاء الراشدين، وبقية العشرة، والمهاجرين والأنصار، وأهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، ثم بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ثم التابعون والقرون المفضلة وسلف هذه الأمة وأئمتها؛ كالأئمة الأربعة‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ‏﴾‏‏‏.

ولا يبغض الصحابة وسلف هذه الأمة من في قلبه إيمان، وإنما يبغضهم أهل الزيغ والنفاق وأعداء الإسلام، كالرافضة والخوارج، نسأل الله العافية‏.‏

القسم الثاني:

من يبغض ويعادي بغضا ومعاداة خالصين لا محبة ولا موالاة معهما، وهم الكفار الخلص من الكفار والمشركين والمنافقين والمرتدين والملحدين على اختلاف أجناسهم؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ‏﴾‏‏‏ ، وقال تعالى عائبا على بني إسرائيل‏:‏ ‏﴿‏تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

القسم الثالث:

من يحب من وجه ويبغض من وجه، فيجتمع فيه المحبة والعداوة، وهم عصاة المؤمنين؛ يحبون لما فيهم من الإيمان، ويبغضون لما فيهم من المعصية التي هي دون الكفر والشرك‏.‏

ومحبتهم تقتضي مناصحتهم والإنكار عليهم؛ فلا يجوز السكوت على معاصيهم، بل ينكر عليهم، ويؤمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وتقام عليهم الحدود والتعزيرات حتى يكفوا عن معاصيهم ويتوبوا من سيئاتهم، لكن لا يُبْغَضون بغضا خالصا ويتبرأ منهم؛ كما تقوله الخوارج في مرتكب الكبيرة التي هي دون الشرك، ولا يُحَبُّون ويوالون حبا وموالاة خالصين كما تقوله المرجئة، بل يعتدل في شأنهم على ما ذكرنا؛ كما هو مذهب أهل السنة والجماعة‏.‏

والحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان، والمرء مع من أحب يوم القيامة؛ كما في الحديث‏.‏

وقد تغير الوضع وصار غالب موالاة الناس ومعاداتهم لأجل الدنيا؛ فمن كان عنده مطمع من مطامع الدنيا؛ والوه، وإن كان عدوا لله ولرسوله ولدين المسلمين، ومن لم يكن عنده مطمع من مطامع الدنيا؛ عادوه، ولو كان وليًّا لله ولرسوله عند أدنى سبب، وضايقوه واحتقروه‏.‏

وقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏"‏من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله؛ فإنما تنال ولاية الله بذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا‏"‏‏.‏ رواه ابن جرير‏.‏

وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله تعالى قال من عادى لي وليًّا؛ فقد آذنته بالحرب‏)‏ الحديث‏.‏ رواه البخاري‏.‏

وعن البراء رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الأنصار: لا يحبهم إلا مؤمن ، ولا يبغضهم إلا منافق ، فمن أحبهم أحبه الله ، ومن أبغضهم أبغضه الله " .[متفق عليه]

فإذا كان الإيمان ينتفي عن رجل يُبغض الأنصار ويثبت له النفاق: فكيف بمن يبغض الأنصار والمهاجرين والتابعين لهم بإحسان ويشتمهم ويلعنهم ويكفرهم ، ويُكفِّرُ من يواليهم ويترضى عليهم ، كما تفعل الرافضة؟ لاشك أنهم أولى بالكفر والنفاق ، وانتفاء الإيمان .

قال الطحاوي – في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة- :"ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولا نفرط في حب أحد منهم ، ولا نتبرأ من أحد منهم ، ونبغض من يبغضهم ، وبغير الخير يذكرهم ، ولا نذكرهم إلا بخير ، وحبهم دين وإيمان وإحسان ، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان" .

وأشد الناس محاربة لله من عادى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبهم وتنقصهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا؛ فمن آذاهم؛ فقد آذاني، ومن آذاني؛ فقد آذى الله، ومن آذى الله؛ يوشك أن يأخذه‏). [ أخرجه الترمذي وأحمد وصححه السيوطي ].‏

وقد صارت معاداة الصحابة وسبهم دينا وعقيدة عند بعض الطوائف الضالة‏!‏‏!‏ نعوذ بالله من غضبه وأليم عقابه، ونسأله العفو والعافية‏.‏

 البدعة:

 تعريف البدعة؛ أنواعها وأحكامها:

البدعة في اللغة مأخوذة من البدع، وهو الاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ مخترعها على غير مثال سابق، وقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ‏﴾‏‏‏؛ أي‏:‏ ما كنت أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد، بل تقدمني كثير من الرسل، ويقال‏:‏ ابتدع فلان بدعة؛ يعني‏:‏ ابتدأ طريقة لم يسبق إليها‏.‏

والابتداع قسمان‏:‏

ابتداع في العادات؛ كابتداع المخترعات الحديثة‏، وهذا مباح؛ لأن الأصل في العادات الإباحة‏.‏

وابتداع في الدين‏:‏ وهذا محرم؛ لأن الأصل فيه التوقيف؛ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد‏)‏ ‏[‏رواه البخاري ومسلم‏]‏، وفي رواية‏ عند الإمام مسلم:(‏من عمل عملا ليس عليه أمرنا، فهو رد‏)‏ ‏.

 أنواع البدع:

 البدعة في الدين نوعان‏:‏

النوع الأول‏:‏ بدعة قولية اعتقادية؛ كمقالات الجهمية والمعتزلة والرافضة وسائر الفرق الضالة واعتقاداتهم‏.‏

النوع الثاني‏:‏ بدعة في العبادات؛ كالتعبد لله بعبادة لم يشرعها، وهي أنواع‏:

النوع الأول‏:‏ ما يكون في أصل العبادة؛ بأن يحدث عبادة ليس لها أصل في الشرع، كأن يحدث صلاة غير مشروعة أو صياما غير مشروع أو أعيادا غير مشروعة كأعياد الموالد وغيرها‏.‏

النوع الثاني‏:‏ ما يكون في الزيادة على العبادة المشروعة؛ كما لو زاد ركعة خامسة في صلاة الظهر أو العصر مثلا‏.‏

النوع الثالث‏:‏ ما يكون في صفة أداء العبادة؛ بأن يؤديها على صفة غير مشروعة، وذلك كأداء الأذكار المشروعة بأصوات جماعية مطربة، وكالتشديد على النفس في العبادات إلى حد يخرج عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

النوع الرابع‏:‏ ما يكون بتخصيص وقت للعبادة المشروعة لم يخصصه الشرع؛ كتخصيص يوم النصف من شعبان وليلته بصيام وقيام؛ فإن أصل الصيام والقيام مشروع، ولكن تخصيصه بوقت من الأوقات يحتاج إلى دليل‏.‏

 حكم البدعة في الدين:

كل بدعة في الدين –من أي نوع كانت- فهي محرمة وضلالة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة‏)‏ ‏[‏رواه أبو داود والترمذي، وقال‏:‏ ‏"‏حديث حسن صحيح‏"‏‏]‏، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد‏)‏ ، وفي رواية‏:‏ ‏(‏من عمل عملا ليس عليه أمرنا؛ فهو رد‏). فدلت هذه الأحاديث على أن كل محدث في الدين فهو بدعة، وكل بدعة ضلالة مردودة‏.‏

ومعنى ذلك أن البدع في العبادات والاعتقادات محرمة، ولكن التحريم يتفاوت بحسب نوعية البدعة‏:

- فمنها ما هو كفر صراح؛ كالطواف بالقبور تقربا إلى أصحابها، وتقديم الذبائح والنذور لها، ودعاء أصحابها والاستغاثة بهم، وكمقالات غلاة الجهمية والمعتزلة‏.‏

- ومنها ما هو من وسائل الشرك؛ كالبناء على القبور، والصلاة والدعاء عندها‏.‏

- ومنها ما هو فسق اعتقادي؛ كبدعة الخوارج والقدرية والمرجئة في أقوالهم واعتقاداتهم المخالفة للأدلة الشرعية‏.‏

- ومنها ما هو معصية؛ كبدعة التبتل، والصيام قائما في الشمس، والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع‏.‏

 تنبيــه:

من قسم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة؛ فهو غالط ومخطئ ومخالف لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فإن كل بدعة ضلالة‏)‏؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم على البدع كلها بأنها ضلالة، وهذا يقول‏:‏ ليس كل بدعة ضلالة، بل هناك بدعة حسنة‏.‏

قال الحافظ ابن رجب في ‏"‏شرح الأربعين‏"‏‏:‏ ‏"‏فقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل بدعة ضلالة‏)‏ ‏:‏ من جوامع الكلم، لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد‏)‏؛ فكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه؛ فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏

وليس لهؤلاء حجة على أن هناك بدعة حسنة؛ إلا قول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح‏:‏ ‏"‏نعمت البدعة هذه‏"‏‏!‏

وقالوا أيضا‏:‏ إنها أحدثت أشياء لم يستنكرها السلف؛ مثل‏:‏ جمع القرآن في كتاب واحد، وكتابة الحديث وتدوينه‏.‏

والجواب عن ذلك أن هذه الأمور لها أصل في الشرع؛ فليست محدثة‏.‏

وقول عمر‏:‏ ‏"‏نعمت البدعة‏"‏؛ يريد‏:‏ البدعة اللغوية لا الشرعية؛ فما كان له أصل في الشرع يرجع إليه، إذا قيل‏:‏ إنه بدعة؛ فهو بدعة لغة لا شرعا؛ لأن البدعة شرعا ما ليس له أصل في الشرع يرجع إليه‏.‏

وجمع القرآن في كتاب واحد له أصل في الشرع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابة القرآن، لكن كان مكتوبا متفرقا، فجمعه الصحابة في كتاب واحد حفظا له‏.‏

والتراويح قد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ليالي وتخلف عنهم في الأخير خشية أن تفرض عليهم، واستمر الصحابة رضي الله عنهم يصلونها أوزاعا متفرقين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، إلى أن جمعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه خلف إمام واحد؛ كما كانوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هذا بدعة في الدين‏.‏

وكتابة الحديث أيضا لها أصل في الشرع؛ فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة بعض الأحاديث لبعض أصحابه لما طلب منه ذلك، وكان المحذور من كتابته بصفة عامة في عهده صلى الله عليه وسلم خشية أن يختلط بالقرآن ما ليس منه، فلما توفي صلى الله عليه وسلم؛ انتفى هذا المحذور؛ لأن القرآن قد تكامل وضبط قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، فدون المسلمون السنة بعد ذلك حفظا لها من الضياع، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا؛ حيث حفظوا كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم من الضياع وعبث العابثين‏.‏

 البدعة:

 ظهور البدع في حياة المسلمين:

1- وقت ظهور البدع:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏‏‏:‏ ‏"‏واعلم أن عامة البدع المتعلقة بالعلم والعبادات إنما وقع في الأمة في أواخر الخلفاء الراشدين؛ كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال‏:‏ ‏(‏من يعش منكم بعدي؛ فسيرى اختلافا كثيرا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي‏)‏‏[‏صحيح‏.‏ أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه‏]‏ ‏.‏

وأول بدعة ظهرت بدعة القدر وبدعة الإرجاء وبدعه التشيع والخوارج؛ هذه البدع ظهرت في القرن الثاني، والصحابة موجودون، وقد أنكروا على أهلها‏.‏

ثم ظهرت بدعة الاعتزال، وحدثت الفتن بين المسلمين، وظهر اختلاف الآراء والميل إلى البدع والأهواء‏.‏

وظهرت بدعة التصوف وبدعة البناء على القبور بعد القرون المفضلة‏.‏

وهكذا؛ كلما تأخر الوقت؛ زادت البدع وتنوعت‏"‏‏.‏

          2- مكان ظهور البدع

تختلف البلدان الإسلامية في ظهور البدع فيها‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية‏:‏ ‏"‏فإن الأمصار الكبار التي سكنها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج منها العلم والإيمان خمسة‏:‏ الحرمان والعراقان والشام، منها خرج القرآن والحديث والفقه والعبادة وما يتبع ذلك من أمور الإسلام، وخرج من هذه الأمصار بدع أصولية غير المدينة النبوية؛ فالكوفة خرج منها التشيع والإرجاء وانتشر بعد ذلك في غيرها، والبصرة خرج منها القدر والاعتزال والنسك الفاسد وانتشر بعد ذلك في غيرها، والشام كان بها النصب والقدر، أما التجهم؛ فإنما ظهر في ناحية خراسان، وهو شر البدع‏.‏

وكان ظهور البدع بحسب البعد عن الدار النبوية، فلما حدثت الفرقة بعد مقتل عثمان؛ ظهرت بدعة الحرورية، وأما المدينة النبوية؛ فكانت سليمة من ظهور هذه البدع، وإن كان بها من هو مضمر لذلك؛ فكان عندهم مهانا مذموما؛ إذ كان بهم قوم من القدرية وغيرهم، ولكن كانوا مقهورين ذليلين؛ بخلاف التشيع والإرجاء في الكوفة، والاعتزال وبدع النساك بالبصرة، والنصب بالشام؛ فإنه كان ظاهرا، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الدجال لا يدخلها‏.‏

ولم يزل العلم والإيمان بها ظاهرا إلى زمن أصحاب مالك، وهم من أهل القرن الرابع‏(7)‏، فأما الأعصار الثلاثة المفضلة؛ فلم يكن فيها بالمدينة النبوية بدعة ظاهرة ألبتة، ولا خرج منها بدعة في أصول الدين ألبتة كما خرج من سائر الأمصار‏"‏‏.‏

 البدعة:

 الأسباب التي أدت إلى ظهور البدع:

مما لا شك فيه أن الاعتصام بالكتاب والسنة فيه منجاة من الوقوع في البدع والضلال‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ‏﴾‏‏‏ ‏.‏

وقد وضح ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود رضي الله عنه؛ قال‏:‏ ‏(‏خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًّا، فقال هذا سبيل الله ثم خطَّ خطوطا عن يمينه وعن شماله، ثم قال‏:‏ ‏"‏وهذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه‏"‏‏ثم تلا ‏﴿‏وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏﴾‏‏‏‏)‏ ‏.‏[‏رواه أحمد وابن حبان وصححه الألباني في ظلال الجنة 16]

فمن أعرض عن الكتاب والسنة؛ تنازعته الطرق المضللة والبدع المحدثة‏.‏

فالأسباب التي أدت إلى ظهور البدع تتلخص في الأمور التالية‏:‏

الجهل بأحكام الدين، اتباع الهوى، التعصب للآراء والأشخاص، التشبه بالكفار وتقليدهم‏.‏

 ونتناول ذلك بشيء من التفصيل‏:‏

1- الجهل بأحكام الدين:

كلما امتد الزمن وبعد الناس عن آثار الرسالة؛ قل العلم وفشا الجهل؛ كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏من يعش منكم؛ فسيرى اختلافا كثيرا‏)‏‏[‏من حديث رواه أبو داود والترمذي، وقال‏:‏ ‏"‏حديث حسن صحيح‏"‏‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏(‏إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما؛ اتخذ الناس رءوسا جهالا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا‏)‏‏‏.[متفق عليه]

فلا يقاوم البدع إلا العلم والعلماء؛ فإذا فقد العلم والعلماء؛ أتيحت الفرصة للبدع أن تظهر وتنتشر ولأهلها أن ينشطوا‏.‏

   2- اتباع الهوى:

من أعرض عن الكتاب والسنة؛ اتبع هواه؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ‏﴾‏‏‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏﴿‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ‏﴾‏‏‏ ، والبدع إنما هي نسيج الهوى المتبع‏.‏

  3- التعصب للآراء والرجال:

التعصب للآراء والرجال يحول بين المرء واتباع الدليل ومعرفة الحق، قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا‏﴾‏‏‏ وهذا هو شأن المتعصبين اليوم من بعض أتباع المذاهب والصوفية والقبوريين، إذا دعوا إلى اتباع الكتاب والسنة ونبذ ما هم عليه مما يخالفهما؛ احتجوا بمذاهبهم ومشايخهم وآبائهم وأجدادهم‏.‏

  4- التشبه بالكفار:

وهو من أشد ما يوقع في البدع كما في حديث أبي واقد الليثي؛ قال‏:‏ ‏(‏خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة (شجرة) يعكفون عندها وينوطون (يعلقون) بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا يا رسول الله‏!‏ اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر‏!‏ إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى ‏﴿‏اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ‏﴾‏‏‏ ، لتركبن سنن من قبلكم‏)‏‏[‏رواه الترمذي وصححه‏ وقواه ابن القيم وصححه الألباني]‏ ‏.‏

ففي هذا الحديث أن التشبه بالكفار هو الذي حمل بني إسرائيل وبعض أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام أن يطلبوا هذا الطلب القبيح، وهو أن يجعل لهم آلهة يعبدونها ويتبركون بها من دون الله‏.‏

وهذا هو نفس الواقع اليوم؛ فإن غالب الناس من المسلمين قلدوا الكفار في عمل البدع والشركيات؛ كأعياد الموالد، وإقامة الأيام والأسابيع لأعمال مخصصة، والاحتفال بالمناسبات الدينية والذكريات، وإقامة التماثيل والنصب التذكارية، وإقامة المآتم وبدع الجنائز والبناء على القبور‏.‏‏.‏‏.‏ وغير ذلك‏.‏

 البدعة:

 موقف أهل السنة والجماعة من المبتدعة:

ما زال أهل السنة والجماعة يردون على المبتدعة وينكرون عليهم بدعهم ويمنعوهم من مزاولتها، وإليك نماذج من ذلك‏:

1-  عن أم الدرداء، قالت‏:‏ ‏"‏دخل علي أبو الدرداء مغضبا، فقلت له‏:‏ ما لك‏؟‏‏!‏ فقال‏:‏ ‏"‏والله، ما أعرف فيهم شيئا من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعا‏"‏‏[‏رواه البخاري‏]‏‏.‏

2-  عن عمرو بن يحيى؛ قال‏:‏ سمعت أبي يحدث عن أبيه؛ قال‏:‏ ‏"‏كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة؛ فإذا خرج؛ مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري، فقال‏:‏ أخرج عليكم أبو عبد الرحمن بعد‏؟‏‏!‏ قلنا‏:‏ لا‏.‏ فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج؛ قمنا إليه جميعا، فقال‏:‏ يا أبا عبد الرحمن‏!‏ إني رأيت في المسجد آنفا أمرا أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيرا‏!‏ قال‏:‏ وما هو‏؟‏ قال‏:‏ إن عشت؛ فستراه‏.‏ قال‏:‏ رأيت في المسجد قوما حلقا جلوسا ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول‏:‏ كبروا مائة‏!‏ فيكبرون مائة، فيقول‏:‏ هللوا مائة‏!‏ فيهللون مائة، فيقول‏:‏ سبحوا مائة‏!‏ فيسبحون مائة‏.‏ قال‏:‏ أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء‏؟‏‏!‏ ثم مضى ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال‏:‏ ما هذا الذي أراكم تصنعون‏؟‏‏!‏ قالوا‏:‏ يا أبا عبد الرحمن‏!‏ حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد‏.‏ قال‏:‏ فعدوا سيئاتكم؛ فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد‏!‏ ما أسرع هلكتكم‏!‏ هؤلاء أصحابه متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده؛ إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة‏.‏ قالوا‏:‏ والله يا أبا عبد الرحمن؛ ما أردنا إلا الخير‏.‏ قال‏:‏ وكم مريد للخير لن يصيبه؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قوما يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وأيم الله لا أدري؛ لعل أكثرهم منكم‏.‏ ثم تولى عنهم‏.‏ فقال عمرو بن سلمة‏:‏ رأينا عامة أولئك يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج‏"‏‏[‏ رواه الدارمي في مقدمة سننه 210] .

3 - جاء رجل إلى الإمام مالك بن أنس رحمه الله، فقال‏:‏ من أين أحرم‏؟‏ فقال‏:‏ من الميقات الذي وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحرم منه‏.‏ فقال الرجل‏:‏ فإن أحرمت من أبعد منه‏؟‏ فقال مالك‏:‏ لا أرى ذلك‏.‏ فقال‏:‏ ما تكره من ذلك‏؟‏ قال‏:‏ أكره عليك الفتنة‏.‏ قال‏:‏ وأي فتنة في ازدياد الخير‏؟‏ فقال مالك‏:‏ فإن الله تعالى يقول‏:‏ ‏﴿‏فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏﴾‏‏. وأي فتنة أعظم من أنك خصصت بفضل لم يختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏‏!‏‏

وهذا نموذج، ولا زال العلماء ينكرون على المبتدعة في كل عصر، والحمد لله‏.‏

 البدعة:

   منهج أهل السنة والجماعة في الرد على أهل البدع:

منهج أهل السنة والجماعة في الرد على أهل البدع مبني على الكتاب والسنة، وهو المنهج المقنع المفحم؛ حيث يوردون شبه المبتدعة وينقضونها، ويستدلون بالكتاب والسنة على وجوب التمسك بالسنن والنهي عن البدع والمحدثات‏.‏

وقد ألفوا المؤلفات الكثيرة في ذلك، وردوا في كتب العقائد على الشيعة والخوارج والجهمية والمعتزلة والأشاعرة في مقالاتهم المبتدعة في أصول الإيمان والعقيدة، وألفوا كتبا خاصة في ذلك؛ كما ألف الإمام أحمد كتاب ‏"‏الرد على الجهمية‏"‏، وألف غيره من الأئمة في ذلك؛ كعثمان بن سعيد الدارمي، وكما في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيرهم من الرد على تلك الفرق وعلى القبورية والصوفية‏.‏

 وأما الكتب الخاصة في الرد على أهل البدع؛ فهي كثيرة، منها على سبيل المثال من الكتب القديمة‏:

1‏- ‏كتاب ‏"‏الاعتصام‏"‏للإمام الشاطبي‏.‏

2‏- ‏كتاب ‏"‏اقتضاء الصراط المستقيم‏"‏لشيخ الإسلام ابن تيمية؛ فقد استغرق الرد على المبتدعة جزءا كبيرا منه‏.‏

3‏-‏ كتاب ‏"‏إنكار الحوادث والبدع‏"‏لابن وضاح‏.‏

4‏-‏ كتاب ‏"‏الحوادث والبدع‏"‏للطرطوشي‏.‏

5‏-‏ كتاب ‏"‏الباعث على إنكار البدع والحوادث‏"‏لأبي شامة‏.‏

 ومن الكتب العصرية‏:‏

1‏-‏ كتاب ‏"‏الإبداع في مضار الابتداع‏"‏للشيخ علي محفوظ‏.‏

2‏- كتاب ‏"‏السنن والمبتدعات المتعلقة بالأذكار والصلوات‏"‏للشيخ محمد بن أحمد الشقيري الحوامدي‏.‏

3‏- رسالة ‏"‏التحذير من البدع‏"‏للشيخ عبد العزيز بن باز‏.‏

ولا يزال علماء المسلمين -والحمد لله- ينكرون البدع، ويردون على المبتدعة، من خلال الصحف والمجلات والإذاعات وخطب الجمع والندوات والمحاضرات، مما كان له كبير الأثر في توعية المسلمين، والقضاء على البدع، وقمع المبتدعين‏.‏

 نماذج من البدع المعاصرة:

 1-الاحتفال بمناسبة المولد النبوي في ربيع الأول:

ومن هذا التشبه مضاهاة النصارى في عمل ما يسمى بالاحتفال بالمولد النبوي‏.‏

يحتفل جهلة المسلمين أو العلماء المضلين في ربيع الأول من كل سنة بمناسبة مولد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فمنهم من يقيم هذا الاحتفال في المساجد، ومنهم من يقيمه في البيوت أو الأمكنة المعدة لذلك، ويحضره جموع كثيرة من دهماء الناس وعوامهم؛ يعملون ذلك تشبها بالنصارى في ابتداعهم الاحتفال بمولد المسيح عليه السلام‏.‏

ومما يجب التنبيه إليه أن أهل السير اختلفوا في تحديد وقت ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم ، لكنهم اتفقوا على أن وفاته كانت في الثاني عشر من ربيع أول للسنة الحادية عشرة للهجرة! وهو اليوم الذي يحتفل به العوام ، ويجعلونه: " عيد مولد النبي صلى الله عليه وسلم " .، فكأن الخبيث الذي ابتدع الاحتفال بالمولد أراد أن يحتفل بوفاته صلى الله عليه وسلم .

قال ابن الحاج المالكي :"ثم العجب العجيب كيف يعملون المولد بالأغاني والفرح والسرور لأجل مولده صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر الكريم، وهو عليه الصلاة والسلام انتقل فيه إلى كرامة ربه وفجعت الأمة فيه، وأصيبت بمصاب عظيم لا يعدل ذلك غيرها من المصائب أبداً؟ على هذا كان يتعين البكاء والحزن الكثير لما أصيب به. فانظر في هذا الشهر الكريم كيف يلعبون فيه ويرقصون، ولا يبكون ولا يحزنون؟ ولو فعلوا ذلك لكان أقرب إلى الحال، مع أنهم لو فعلوا ذلك والتزموه لكان أيضاً بدعة".

وقال الشيخ الشقيري المصري:"في هذا الشهر ولد، وفيه توفي، فلماذا يفرحون بميلاده ولا يحزنون لوفاته ؟!".

والغالب أن هذا الاحتفال- علاوة على كونه بدعة وتشبها بالنصارى- لا يخلو من وجود الشركيات والمنكرات؛ كإنشاء القصائد التي فيها الغلو في حق الرسول صلى الله عليه وسلم إلى درجة دعائه من دون الله والاستغاثة به، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في مدحه، فقال‏:‏ ‏(‏لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله‏)‏‏[‏رواه الشيخان‏]. والإطراء معناه الغلو في المدح، وربما يعتقدون أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحضر احتفالاتهم‏.‏

ومن المنكرات التي تصاحب هذه الاحتفالات الأناشيد الجماعية المنغمة وضرب الطبول وغير ذلك من عمل الأذكار الصوفية المبتدعة، وقد يكون فيها اختلاط بين الرجال والنساء، مما يسبب الفتنة ويجر إلى الوقوع في الفواحش‏.‏

وحتى لو خلا هذا الاحتفال من هذه المحاذير، واقتصر على الاجتماع وتناول الطعام وإظهار الفرح كما يقولون؛ فإنه بدعة محدثة، ‏"‏وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة‏"‏، وأيضا هو وسيلة إلى أن يتطور ويحصل فيه ما يحصل في الاحتفالات الأخرى من المنكرات‏.‏

وقلنا‏:‏ إنه بدعة لا أصل له في الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح والقرون المفضلة، وإنما حدث متأخرا بعد القرن الرابع الهجري، أحدثه الفاطميون الشيعة‏.‏

قال الإمام أبو حفص تاج الدين الفاكهاني رحمه الله‏:‏ ‏"‏أما بعد؛ فقد تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ويسمونه المولد؛ هل له أصل في الدين‏؟‏ وقصدوا الجواب عن ذلك مبينا والإيضاح عنه معينا، فقلت -وبالله التوفيق-‏:‏ لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفس اغتنى بها الأكالون‏"‏‏‏‏.‏

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ ‏"‏وكذلك ما يحدثه بعض الناس -إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيما- من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدا، مع اختلاف الناس في مولده؛ فإن هذا لم يفعله السلف، ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا؛ لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا؛ فإنهم كانوا أشد محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيما له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كان محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطنا وظاهرا ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان؛ فإن هذه طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان‏"‏‏ انتهى‏.‏

وقد أُلفت في إنكار هذه البدعة كتب ورسائل قديمة وحديثة، وهو علاوة على كونه بدعة وتشبها؛ فإنه يجر إلى إقامة موالد أخرى؛ كموالد الأولياء والمشايخ والزعماء، فيفتح أبواب شر كثيرة‏.‏

 نماذج من البدع المعاصرة:

 2- التبرك بالأماكن والآثار والأشخاص أحياء وأمواتا:

التبرك‏:‏ طلب البركة، وهو ثبات الخير في الشيء وزيادته‏.‏

وطلب ثبوت الخير وزيادته إنما يكون ممن يملك لك ويقدر عليه، وهو الله سبحانه؛ فهو الذي ينزل البركة ويثبتها، أما المخلوق؛ فإنه لا يقدر على منح البركة وإيجادها، ولا على إبقائها وتثبيتها‏.‏

فالتبرك بالأماكن والآثار والأشخاص أحياء وأمواتا لا يجوز؛ لأنه إما شرك إن اعتقد أن ذلك الشيء يمنح البركة، أو وسيلة إلى الشرك إن اعتقد أن زيارته وملامسته والتمسح به سبب لحصولها من الله‏.‏

وأما ما كان الصحابة يفعلونه من التبرك بشعر النبي صلى الله عليه وسلم وريقه وما انفصل من جسمه صلى الله عليه وسلم؛ فذلك خاص به صلى الله عليه وسلم في حال حياته؛ بدليل أن الصحابة لم يكونوا يتبركون بحجرته وقبره بعد موته، ولا كانوا يقصدون الأماكن التي صلى فيها أو جلس فيها ليتبركوا بها، وكذلك مقامات الأولياء من باب أولى، ولم يكونوا يتبركون بالأشخاص الصالحين كأبي بكر وعمر وغيرهما من أفاضل الصحابة؛ لا في الحياة ولا بعد الموت، ولم يكونوا يذهبون إلى غار حراء ليصلوا فيه أو يدعوا، ولم يكونوا يذهبون إلى الطور الذي كلم الله عليه موسى ليصلوا فيه ويدعوا، أو إلى غير هذه الأمكنة من الجبال التي يقال‏:‏ إن فيها مقامات الأنبياء أو غيرهم، ولا إلى مشهد مبني على أثر نبي من الأنبياء‏.‏

وأيضا؛ فإن المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه بالمدينة النبوية دائما لم يكن أحد من السلف يستلمه ولا يقبله، ولا الموضع الذي صلى فيه بمكة وغيرها؛ فإذا كان الموضع الذي كان يطؤه بقدميه الكريمتين ويصلي عليه لم يشرع لأمته التمسح به ولا تقبيله؛ فكيف بما يقال‏:‏ إن غيره صلى فيه أو نام عليه‏؟‏‏!‏ فتقبيل شيء من ذلك والتمسح به قد علم العلماء بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا ليس من شريعته صلى الله عليه وسلم‏‏.‏

كما ننبه إلى أنه لا يثبت حاليا في هذا العصر أي أثر تركه النبي صلى الله عليه وسلم ، فعن عمرو بن الحارث رضي الله عنه قال: (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهماً ولا ديناراً، ولا عبداً ولا أمة، ولا شيئاً، إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضاً جعلها صدقة) [رواه البخاري].

أما من يدعي حاليا وجود شعرات للنبي صلى الله عليه وسلم ، أو نعليه أو قضيبه أو عباءته أو عمامته او غير ذلك ، فكل هذا باطل .

يقول الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله: "ونحن نعلم أن آثاره صلى الله عليه وسلم، من ثياب، أو شعر، أو فضلات، قد فقدت، وليس بإمكان أحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين".

 نماذج من البدع المعاصرة:

 3- البدع في مجال العبادات والتقرب إلى الله:

البدع التي أحدثت في مجال العبادات في هذا الزمان كثيرة؛ لأن الأصل في العبادات التوقيف؛ فلا يشرع شيء منها إلا بدليل، وما لم يدل عليه دليل؛ فهو بدعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من عمل عملا ليس عليه أمرنا؛ فهو رد‏)‏ ‏.‏[متفق عليه]

 والعبادات التي تمارس الآن ولا دليل عليها كثيرة جدا‏:‏

- منها‏:‏ الجهر بالنية للصلاة؛ بأن يقول‏:‏ نويت أصلي لله كذا وكذا‏!‏ وهذا بدعة؛ لأنه ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن الله تعالى يقول‏:‏ ‏﴿‏قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏﴾‏‏‏ ، والنية محلها القلب؛ فهي عمل قلبي لا عمل لساني‏.‏

- ومنها‏:‏ الذكر الجماعي بعد الصلاة؛ لأن المشروع أن كل شخص يقول الذكر الوارد منفردا‏.‏

- ومنها‏:‏ طلب قراءة الفاتحة في المناسبات وبعد الدعاء للأموات‏.‏

- ومنها‏:‏ إقامة المآتم على الأموات وصناعة الأطعمة واستئجار المقرئين؛ يزعمون أن ذلك من باب العزاء، أو أن ذلك ينفع الميت‏.‏‏.‏‏.‏ وكل ذلك بدعة لا أصل له وآصار وأغلال ما أنزل الله بها من سلطان‏.‏

- ومنها‏:‏ الاحتفال بالمناسبات الدينية؛ كمناسبة الإسراء والمعراج، ومناسبة الهجرة النبوية، وهذا الاحتفال بتلك المناسبات لا أصل له من الشرع‏.‏

ومن ذلك‏:‏ ما يفعل في شهر رجب؛ كالعمرة الرجبية، وما يفعل فيه من العبادات الخاصة به؛ كالتطوع بالصلاة والصيام فيه؛ فإنه لا ميزة له على غيره من الشهور؛ لا في العمرة والصيام والصلاة والذبح للنسك فيه ولا غير ذلك‏.‏

ومن ذلك‏:‏ الأذكار الصوفية بأنواعها؛ كلها بدع ومحدثات؛ لأنها مخالفة للأذكار المشروعة في صيغتها وهيئاتها وأوقاتها‏.‏

ومن ذلك‏:‏ تخصيص ليلة النصف من شعبان بقيام ويوم النصف من شعبان بصيام؛ فإنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل التعبد في تلك الليلة شيء البتة ‏.‏

ومن ذلك‏:‏ البناء على القبور، واتخاذها مساجد، وزيارتها لأجل التبرك بها والتوسل بالموتى وغير ذلك من الأغراض الشركية، وزيارة النساء لها؛ مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج‏.‏

وختاما نقول‏:‏ إن البدع بريد الكفر، وهي زيادة دين لم يشرعه الله ولا رسوله، والبدعة شر من المعصية الكبيرة، والشيطان يفرح بها أكثر مما يفرح بالمعاصي الكبيرة؛ لأن العاصي يفعل المعصية وهو يعلم أنها معصية فيتوب منها، والمبتدع يفعل البدعة يعتقدها دينا يتقرب به إلى الله فلا يتوب منها، والبدع تقضي على السنن، وتكره إلى أصحابها فعل السنن وأهل السنة، والبدعة تباعد عن الله وتوجب غضبه وعقابه وتسبب زيغ القلوب وفسادها‏.‏

 البدعة:

 ما يعامل به المبتدعة:

تحرم زيارة المبتدع ومجالسته؛ إلا على وجه النصيحة له والإنكار عليه، لأن مخالطته تؤثر على مخالطه شرا، وتنشر عداوة إلى غيره‏.

‏  لكن يجب أن يتحقق الشخص من كون هذا الذي يستنكره بدعة في الشرع، ثم يتحقق من كون هذا الشخص المعين قائلا بها ، فإذا ثبت ذلك، فليبين له بلين ورفق كلام أهل العلم في هذه المسألة المعينة، ويذكر له من نصوص الكتاب والسنة ما يخالف بدعته ويهدمها، ويزيل الشبهة التي يحتج بها، والتي هي من تلبيس الشيطان عليه.

 فإن اقتنع هذا الشخص بعد البيان الوافي، فالحمد لله، وإلا يكون من بين له قد أعذر إلى الله تعالى، وأقام عليه الحجة، وفعل ما يجب عليه من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

ويجب التحذير منهم ومن شرهم إذا لم يمكن الأخذ على أيديهم ومنعهم من مزاولة البدع، وإلا؛ فإنه يجب على علماء المسلمين وولاة أمورهم منع البدع والأخذ على أيدي المبتدعة وردعهم عن شرهم؛ لأن خطرهم على الإسلام شديد‏.‏

ثم إنه يجب أن يعلم أن دول الكفر تشجع المبتدعة على نشر بدعتهم، وتساعدهم على ذلك بشتى الطرق؛ لأنهم يعلمون يقينا أن في ذلك القضاء على الإسلام وتشويه صورته‏.‏

نسأل الله عز وجل أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويخذل أعداءه‏.‏

 بيان بعض المصطلحات العقدية، وتعريفها:

1- العقيدة.

2- أهل السنة والجماعة.

3- السلف.

4- الخلف.

١- فالعقيدة في اللغة: مأخوذة من العقد، وهو الشد والربط والإيثاق والثبوت والإحكام.

وفي الاصطلاح: الإيمان الجازم بالله تعالى، وبما يجب له من التوحيد، والإيمان بملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشرِّه، وبما يتفرع عن هذه الأصول ويلحق بها مما هو من أصول الدين.

وقد أطلق كثير من السلف على العقيدة الصحيحة اسم (السُّنَّة)، وذلك لتمييزها عن عقائد ومقولات الفرق الضالة، لأن العقيدة الصحيحة- وهي عقيدة أهل السنة والجماعة- مستمدة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، التي هي مبينة للقرآن.

وقد ألَّف بعض السلف كتبًا في العقيدة أسموها (السنة)، ومنها كتاب (السنة) للإمام أحمد بن حنبل، وكتاب (السنة) لابن أبي عاصم، وغيرهما.

كما أطلق بعض العلماء على العقيدة اسم (أصول الدين)، وذلك أن ملة النبي صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى اعتقاديات وعمليات، والمراد بالعمليات علم الشرائع والأحكام المتعلقة بكيفية العمل، كأحكام الصلاة والزكاة والبيوع وغيرها، وتسمى (فرعية)، أو (فروع)، فهي كالفرع لعلم العقيدة، لأن العقيدة أشرف الطاعات، ولأن صحتها شرط في قبول العبادات العملية، فإذا فسدت العقيدة لم تقبل العبادة، وبطل أجرها، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾‏‏ [الزمر: ٦٥].

هذا وقد أطلق بعض العلماء على العقيدة اسم (الفقه الأكبر)، وذلك لأن العقيدة هي أصل الدين، والفقه العملي- الذي يسمى (الفقه الأصغر)- فروعه،.

٢- أهل السنة والجماعة:

هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة.

وهم: المتمسكون بالعقيدة الصحيحة الخالية من شوائب البدع والخرافات وهي العقيدة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفق عليها أصحابه رضي الله عنهم.

وقد سُمُّوا (أهل السنة) لعملهم بمقتضى سنة النبي صلى الله عليه وسلم المبينة للقرآن، عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم: “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضّوا عليها بالنواجذ"، فهم يعلمون أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم خير الهدي، فقدموه على هدي من سواه.

وسُمُّوا (الجماعة) لأنهم اجتمعوا على اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه سلف هذه الأمة، فهم قد اجتمعوا على الحق، وعلى عقيدة الإسلام الخالية من الشوائب.

وأيضًا فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الفرقة الناجية المتبعة لسنته وطريقة أصحابه- وهم أهل السنة والجماعة- سماهم (الجماعة)، فقد ثبت عن معاوية بن أبى سفيان- رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة- يعني الأهواء- كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَبُ(١) بصاحبه.. “. [رواه أحمد وغيره من طرق يشد بعضها بعضاً. وانظر السلسلة الصحيحة 204] .

وهذه التسمية (أهل السنة والجماعة) وصف صادق يميز أهل العقيدة الصحيحة وأتباع الرسول صلى الله عليه وسلم عن الفرق الأخرى التي تسير على غير طريقة النبي صلى الله عليه وسلم، فمن هذه الفرق من يأخذ عقيدته من عقول البشر وعلم الكلام الذي ورثوه عن فلاسفة اليونان، فيقدمونها على كلام الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيردون النصوص الشرعية الثابتة أو يؤولونها لمجود أن بعض العقول البشرية لم تقبل أو لم تستسغ ما دلت عليه هذه النصوص. ومن هذه الفرق: الفلاسفة، والقدرية، والماتوريدية، والجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة الذين قلَّدوا الجهميَّة في بعض آرائهم.

ومن هذه الفرق من يأخذ عقيدته من آراء مشايخهم وأئمتهم المبنية في كثير من الأحيان على الهوى، كالصوفية والرافضة وغيرهم، فيقدمون كلامهم على كلام الله وكلام رسوله خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم.

كما أن هذه الفرق منها من تنتسب إلى من أسسها وأنشأ أصولها العقديَّة، كالجهمية نسبة إلى جهم بن صفوان، والأشاعرة نسبة إلى أبي الحسن الأشعري- وإن كان الأشعري رجع عن هذه العقيدة إلى عقيدة أهل السنة والجماعة، لكن مقلِّدوه استمروا على عقيدته القديمة المخالفة لطريقة النبي صلى الله عليه وسلم التي رجع عنها -، والأباضية نسبة إلى عبد الله بن أباض، وغيرهم.

ومن هذه الفرق من تنتسب إلى بعض آرائها العقدية المخالفة للهدي النبوي، أو إلى بعض أفعالها السيئة، كالروافض نسبة إلى رفضهم إمامة أبي بكر وعمر وتبرئهم منهما، والقدرية نسبة إلى نفي القدر، والخوارج نسبة إلى الخروج على الولاة، وغيرهم.

فعصم الله أهل السنة من الانتساب والاتباع لغير سنة المعصوم من الخطأ والزلل رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، المؤيد بالوحي من السماء، والذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، فليس لهم اسم ينتسبون إليه سوى (السنة).

وقد أطلق بعض العلماء على أهل السنة اسم (أصحاب الحديث) أو (أهل الحديث)، وذلك لأنهم اهتموا بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم رواية ودراية، واتبعوا ما جاءت به من العقائد والأحكام. و (الحديث) و (السنة) لفظان معناهما متقارب.

وأهل السنة كذلك هم الفرقة المنصورة(2) إلى قيام الساعة، الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “لن تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة" رواه البخاري ومسلم، وغيرهما.

وهم الفرقة الناجية المذكورة في حديث معاوية الذي سبق ذكره قريبًا، وغيره.

٣- السلف:

السلف في اللغة: الجماعة المتقدمون: يقال: سلَف يسلُف أي مضى، وسلَفُ الإنسان: آباؤه المتقدمون.

وفي الاصطلاح: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم وسار على طريقتهم من أئمة الدين من آهل القرون الثلاثة المفضلة.

٤- الخَلَف:

الخلف في اللغة: المتأخر، وكل من يجيء بعد من مضى.

وفي الاصطلاح: من خالف طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في باب العقائد كالخوارج والرافضة، وكأهل الكلام الذين قدموا العقل البشري على النصوص الشرعية: كالجهمية والمعتزلة والأشاعرة والقدرية والمرجئة وغيرهم.

(١) الكَلَب بفتح اللام مرض يصيب الكلب، فيصيبه شبه الجنون، فإذا عض إنسانًا أصيب الإنسان بهذا المرض، وأصيب بالعطش الشديد، ولا يشرب، حتى يموت. ينظر النهاية ٤/ ١٩٥، لسان العرب ١/ ٧٢٣.

(2) أي التي أيدها الله تعالى وقواها على من خالفها وعاداها، وجعل الغلبة لها.

 وسطية أهل السنة والجماعة بين فرق الضلال:

 ‌‌الأصل الأول: باب أسماء الله وصفاته.

 ‌‌الأصل الثاني: باب القضاء والقدر.

 ‌‌الأصل الثالث: باب الوعد والوعيد.

 ‌‌الأصل الرابع: باب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

عقيدة أهل السنة والجماعة- والتي هي عقيدة الإسلام الصحيحة- وسط بين عقائد فرق الضلال المنتسبة إلى دين الإسلام، فهي في كل باب من أبواب العقيدة وسط بين فريقين آراؤهما متضادة، أحدهما غلا في هذا الباب والآخر قصر فيه، أحدهما أفرط والثاني فرط، فهي حق بين باطلين: فأهل السنة وسط- أي عدول خيار- بين طرفين منحرفين، في جميع أمورهم.

وسأذكر أربعة أصول عقدية كان أهل السنة والجماعة وسطًا فيها بين فرق الأمة:

 ‌‌الأصل الأول: باب أسماء الله وصفاته:

توسَّط أهل السنة والجماعة في هذا الباب بين المعطلة، وبين الممثلة.

فالمعطلة منهم من ينكر الأسماء والصفات، كالجهمية.

- ومنهم من ينكر الصفات كالمعتزلة.

- ومنهم من ينكر أكثر الصفات، ويؤولها كالأشاعرة، اعتمادًا منهم على العقول البشرية القاصرة، وتقديمًا لها على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

- والممثلة يضربون لله الأمثال، ويدعون أن صفات الله تعالى تماثل صفات المخلوقين، كقول بعضهم "يد الله كيدي" و"سمع الله كسمعي" تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.

فهدى الله أهل السنة والجماعة للقول الوسط في هذا الباب، والذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فآمنوا بجميع أسماء الله وصفاته الثابتة في النصوص الشرعية، فيصفون الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به أعرف الخلق به رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من غير تعطيل ولا تأويل ومن غير تمثيل ولا تكييف، ويؤمنون بأنها صفات حقيقية، تليق بجلال الله تعالى، ولا تماثل صفات المخلوقين، عملًا بقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾‏‏ [الشورى: ١١].

 ‌‌الأصل الثاني: باب القضاء والقدر:

توسط أهل السنة والجماعة في هذا الباب بين القدرية والجبرية.

- فالقدرية نفوا القدر، فقالوا: إن أفعال العباد وطاعاتهم ومعاصيهم لم تدخل تحت قضاء الله وقدره، فالله تعالى على زعمهم لم يخلق أفعال العباد ولا شاءها منهم، بل العباد مستقلون بأفعالهم، فالعبد على زعمهم هو الخالق لفعله، وهو المريد له إرادة مستقلة، فأثبتوا خالقًا مع الله سبحانه، وهذا إشراك في الربوبية، ففيهم شبه من المجوس الذين قالوا بأن للكون خالقين، فهم (مجوس هذه الأمة).

- والجبرية غلوا في إثبات القدر، فقالوا: إن العبد مجبور على فعله، فهو كالريشة في الهواء لا فعل له ولا قدرة ولا مشيئة.

فهدى اللهُ أهلَ السنة والجماعة للقول الحق والوسط في هذا الباب، فأثبتوا أن العباد فاعلون حقيقة، وأن أفعالهم تُنسب إليهم على جهة الحقيقة، وأن فعل العبد واقع بتقدير الله ومشيئته وخلقه، فالله تعالى خالق العباد وخالق أفعالهم، كما قال سبحانه: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (٩٦)﴾‏‏ [الصافات: ٩٦]. كما أن للعباد مشيئة تحت مشيئة الله، كما قال تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٢٩)﴾‏‏ [التكوير: ٢٩].

ومع ذلك فقد أمر الله العباد بطاعته، وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته، وهو سبحانه يحب المتقين، ولا يرضى عن الفاسقين، وقد أقام الله الحجة على العباد بإرسال الرسل وإنزال الكتب، فمن أطاع، أطاع عن بينة واختيار، فيستحق الثواب الحسن، ومن عصى، عصى عن بينة واختيار، فيستحق العقاب ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)﴾‏‏ [فصلت: ٤٦].

فأهل السنة يؤمنون بمراتب القضاء والقدر الأربع الثابتة في الكتاب والسنة، وهي:

١- علم الله المحيط بكل شيء، وأنه تعالى عالم بما كان وما سيكون، وبما سيعمله الخلق قبل أن يخلقهم.

٢- كتابة الله تعالى لكل ما هو كائن في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.

٣- مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وكل ما يقع في هذا الوجود قد أراده الله قبل وقوعه.

٤- إن الله خالق كل شيء، فهو خالق كل عامل وعمله، وكل متحرك وحركته، وكل ساكن وسكونه.

وقد نظم بعضهم هذه المراتب بقوله:

علم كتابة مولانا مشيئته... كذاك خلقٌ وإيجادٌ وتكوين

ومن أهم مسائل القضاء والقدر التي يجب على المسلم أن يؤمن بها: أن يؤمن بأن جميع ما قدره الله تعالى حكمة وعدل، وقد ثبت عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحدا من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحا"، قال: فقيل: يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال: “بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها" [رواه أحمد وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة 199] فهو تعالى يقدر الخير والشر لحكم عظيمة يعلمها، والشر بالنسبة إلى تقديره تعالى حكمة وعدل، فالشر المحض ليس إليه تعالى.

ويدخل في ذلك المعاصي والطاعات، فإن الله تعالى بفضله يوفق المطيع لفعل الطاعة، وبعدله يكل من يشاء من خلقه إلى نفسه، فيقع في المعصية، فيعاقبه

تعالى على ذلك بأن يقع في معصية أخرى، وهكذا.

فالمؤمن يرضى بقضاء الله وقدره لأنه يؤمن أنه عدل وحكمه- كما سبق بيانه- ويعلم أنما أصابه من مصائب وأمراض وغيرها مما يكره أنه بسبب ما اكتسبه من ذنوب، قال سبحانه: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (٣٠)﴾‏‏ [الشورى: ٣٠]، وقال تعالى: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾‏‏ [النساء: ٧٩]، وقال جل وعلا: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)﴾‏‏ [فصلت: ٤٦]، وإذا رضي بقضاء الله وقدره فإنه بإذن الله سيجد السعادة ولذة الإيمان، وقد روى مسلم عن العباس بن عبد المطلب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا”.

 هذا وللإيمان بالقضاء والقدر ثمرات وفوائد، أهمها:

أولًا: تكميل الإيمان بالله تعالى، فالقدر قدر الله، فالإيمان به من تمام الإيمان بالله تعالى.

ثانيًا: استكمال أركان الإيمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره ضمن أركان الإيمان في حديث جبريل المشهور.

ثالثًا: إن الإنسان يعيش حياة سعيدة، فلا يتكدر عيشه ولا يأكل نفسه بالحسرات إذا أصابه مكروه، ولا يحزن إذا فاته أمر يحبه، لأنه إذا علم أنه من الله رضي واطمأن وعرف أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

قال الله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (٢٣)﴾‏‏ [الحديد: ٢٢، ٢٣].

وروى مسلم في صحيحه عن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له”.

وثبت عن أبى حفصة قال: قال عبادة بن الصامت لابنه: يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب. قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة”. يا بني إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من مات على غير هذا فليس منى”.[رواه أبو داود بسند صحيح كما قال الشيخ الألباني في تحقيق شرح الطحاوية 271]

رابعًا: إن المؤمن الذي يجعل الإيمان بالقضاء والقدر أمام عينيه ويتذكره عند كل عمل يريد أن يقوم به، يحمله ذلك على أن يقتصر عند فعله للأسباب للحصول على ما يريده من جلب مرغوب أو للتخلص من مكروه على الأسباب التي أباحها الله تعالى، فمثلًا عندما يريد الحصول على مال يسلك طرق الكسب المباحة ويجتنب طرق الكسب المحرمة، لأنه يعلم أن ما كتب الله له من المال قبل أن يولد سيأتيه لا محالة وأن ما لم يكتب له من المال لن يأتيه ولو بذل كل الأسباب المحرمة للحصول عليه، وكذلك عندما يريد الإنسان العلاج من مرض أو الحصول على وظيفة فإنه يسلك الطرق المباحة، ويجتنب الطرق والوسائل المحرمة، لأنه يعلم أنه لن يحصل له شيء من شفاء أو وظيفة أو غيرهما إلا ما كتب الله له.

وقد ثبت عن عبد الله بن عباس أنه ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا غلام، إني معلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف”. [رواه أحمد والترمذي بسند صحيح]

وثبت عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أنه قال: “إذا طلب أحدكم الحاجة فليطلبها طلبا يسيرا، فإنما له ما قدر له، ولا يأتي أحدكم صاحبه فيمدحه فيقطع ظهره”.[رواه البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح].

خامسًا: إن المسلم لا يعجب بنفسه عند حصول مراده، فلا يقول: حصل هذا الشيء بسبب مهارتي وذكائي، لأنه يعلم أن حصول ذلك نعمة وتفضل من الله تعالى، وأن الله سبحانه قد قدر وشاء أن يحصل له هذا الشيء في هذا الوقت وكتبه تعالى له وهو في بطن أمه، وقدر له تعالى أسبابًا لحصوله.

سادسًا: إن المسلم لا يخاف من قطع رزقه ولا من الموت عند قيامه بما أوجبه الله تعالى عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن الجهاد بالنفس؛ لأنه يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله أن يصيبه، وأن ما لم يقدره تعالى عليه فلن يصيبه ولو اجتمع الخلق كلهم لإيقاع ذلك عليه، وقد نسب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه كان يقول عند القتال: من أي يومَيّ من الموت أفر... أيومَ لم يقدر أم يوم قُدر

يوم لا قدر لا أرهبه... ومن المقدور لا ينجو الحذر

 ‌‌الأصل الثالث: باب الوعد والوعيد:

توسط أهل السنة والجماعة في هذا الباب بين الوعيدية وبين المرجئة.

فالوعيدية يغلبون نصوص الوعيد على نصوص الوعد، ومنهم الخوارج الذين يرون أن فاعل الكبيرة من المسلمين كالزاني وشارب الخمر كافر مخلد في النار.

- ومن عقائد الخوارج كذلك: أنهم يرون أن من وقع من ولاة الأمر في معصية من كبائر الذنوب وجب الخروج عليه، ولهذا خرجوا على الخليفة الراشد علي بن أبي طالب، وقتلوه- رضي الله عنه -، وخرجوا على الدولتين الأموية والعباسية، وحصل بسب خروجهم حروب قتل فيها من قتل من المسلمين، وأشغلوا بها الخلافتين الأموية والعباسية عن حرب الكفار وعن فتح بلادهم.

- ومن فرق الخوارج من يرى أن الإمام إذا وقع في كبيرة يكفر، وأن أفراد رعيته إذا لم ينكروا عليه ولم يخرجوا عليه يكفرون كذلك، ولذلك كفّروا عامة المسلمين في كثير من العصور، وقتلوا منهم من استطاعوا قتله، حتى أنهم قتلوا النساء والأطفال.

- والمُرجئة غلَّبوا نصوص الرجاء على نصوص الوعيد، فقالوا: إن الإيمان هو التصديق القلبي، وأن الأعمال ليست من الإيمان، فلا يضر مع الإيمان معصية، فالعاصي كالزاني وشارب الخمر لا يستحق دخول النار، وإيمانه كإيمان أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

- أما أهل السنة والجماعة فيرون أن المسلم إذا ارتكب معصية من الكبائر لا يخرج من الإسلام، بل هو مسلم ناقص الإيمان، ما دام لم يرتكب شيئًا من المكفرات، فهو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وهو في الآخرة تحت مشيئة الله، إن شاء الله عفا عنه، وإن شاء عذبه حتى يطهره من ذنوبه ثم يدخله الجنة، ولا يخلد في النار إلا من كفر بالله تعالى أو أشرك به.

- فالإيمان عند أهل السنة: قول باللسان واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.

كما أن أهل السنة والجماعة يعتقدون أنه يجب على المسلمين السمع والطاعة في المعروف لمن تولَّى أمرهم من المسلمين، سواء تولى الحكم عن طريق الشورى، أو عن طريق القوة والغلبة، أو عن طريق تولية الحاكم الذي قبله له، أو استخلافه له.

ويعتقدون أنه يحرم الخروج عليه سواء كان تقيًا أو عاصيًا، وأنه لا يجوز الخروج عليه حتى يروا كفرًا بواحًا عندهم من الله فيه برهان، قال النووي: “أما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق”.

ومن الأدلة على تحريم الخروج على الأئمة الذين لم يحكم العلماء الراسخون في العلم بكفرهم:

ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: “عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك”.

وما رواه البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت، قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: “إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان”.

وما رواه مسلم عن نافع، قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية، فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة. فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدّثك حديثًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية”.

وما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: “من كره من أميره شيئًا فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا، فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية”.

وما رواه مسلم عن عوف بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا: “خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلّون عليهم ويصلّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم" قالوا: قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: “لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئًا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدًا من طاعة”.

وما رواه مسلم عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع"، قالوا: يا رسول الله، ألا نقاتلهم؟ قال: “لا، ما صلّوا"- أي من كره بقلبه وأنكر بقلبه-.

 ‌‌الأصل الرابع: باب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:

توسَّط أهل السنة والجماعة في هذا الباب بين الشيعة وبين الخوارج.

فالشيعة- ومنهم الرافضة- غلوا في حق آل البيت كعلي بن أبي طالب وأولاده- رضي الله عنهم- فادعوا أن عليًا- رضي الله عنه- معصوم، وأنه يعلم الغيب، وأنه أفضل من أبي بكر وعمر، ومن غلاتهم من يدعي ألوهيته.

والخوارج جفوا في حق علي- رضي الله عنه- فكفروه، وكفروا معاوية بن أبي سفيان- رضي الله عنهما- وكفروا كل من لم يكن على طريقتهم.

كما أن الروافض جفوا في حق أكثر الصحابة، فَسَبُّوهم، وقالوا: إنهم كفار، وأنهم ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أبو بكر وعمر عند بعضهم كانا كافرين، ولا يستثنون من الصحابة إلا آل البيت ونفرًا قليلًا، قالوا: إنهم من أولياء آل البيت، كما أنهم يشتمون آمهات المؤمنين، وأفاضل الصحابة، وعلى رأسهم أبو بكر وعمر علانية، لكنهم قد يترضون عنهم ويظهرون موالاتهم لهم تقربًا إلى أهل السنة ومخادعة لهم، لأن من عقائدهم عقيدة التقيّة، فيظهرون لأهل السنة خلاف ما يبطنون.

أما أهل السنة والجماعة فيحبون جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويترضون عنهم، ويرون أنهم أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وأن الله اختارهم لصحبة نبيِّه، ويمسكون عما حصل بينهم من التنازع، ويرون أنهم مجتهدون مأجورون، للمصيب منهم أجران، وللمخطئ أجر واحد على اجتهاده، ويرون أن أفضلهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي- رضي الله عنهم أجمعين -، ويحبون آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم(وهم أقاربه المؤمنون به، الذين تحرم عليهم الصدقة، وهم بنو هاشم، وبنو المطلب، وأزواجه صلى الله عليه وسلم)، ويرون أن لهم حقين: حق الإسلام، وحق القرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيوالونهم، ويترضون عنهم.


 مراتب الدين الإسلامي:

 ١- الإسلام.

 ٢- الإيمان.

 ٣- الإحسان.


 الباب الأول مراتب الدين الإسلامي

دين الله تعالى- الذي بعث به نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأنزل به هذا القرآن العظيم، ولا يقبل من أحد بعد بعثة هذا النبي الكريم سواه، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾‏‏ [آل عمران: ٨٥]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" رواه مسلم- يتكون من ثلاث مراتب، وهي:

١- الإسلام.

٢- الإيمان.

٣- الإحسان.

وهذه المراتب تشمل دين الله تعالى كله، بل إن كل واحدة من هذه المراتب عند الإطلاق- أي عند ذكر كل واحدة منها على حدة- تشمل دين الله تعالى كله، أما عند ذكر هذه المراتب مجموعة أو ذكر إحداهما مقرونة بذكر الأخرى، كأن يذكر الإسلام والإيمان معًا، أو يذكر الإيمان والإحسان معًا، فإن كل واحدةمنها تطلق حينئذ على شيء معين من مراتب الدين، وأفضلها حينئذ: الإحسان، ثم الإيمان، ثم الإسلام.

 الإسلام:

 لإطلاق لفظ الإسلام في الشرع حالتان:

الحالة الأولى: أن يطلق على الإفراد غير مقترن بذكر الإيمان، فهو حينئذ يراد به الدين كله أصوله وفروعه، من اعتقادات وأقوال وأفعال، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾‏‏ [آل عمران: ١٩]، وكما قال جل وعلا: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾‏‏ [المائدة: ٣]، وكما قال عز وجل: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾‏‏ [آل عمران: ٨٥]، فدلت هذه النصوص على أن الإسلام عند ذكره مفردًا يشمل الدين كله.

الحالة الثانية: أن يذكر الإسلام مقرونًا بذكر الإيمان، فيراد به حينئذ: جميع الأعمال والأقوال الظاهرة، كما في قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾‏‏ [الحجرات: ١٤]، وكما في حديث عمر المشهور عند مسلم، حين سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام؟ فذكر الشهادتين، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وكلها من أعمال الجوارح، ثم لما سأله عن الإيمان، ذكر الأمور الاعتقادية، ثم لما سأله عن الإحسان ذكر تحسين الظاهر والباطن، وكما في حديث سعد بن أبي وقاص، لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله مالك لا تعطي فلانًا؟ ، فو الله إني لأراه مؤمنًا، فقال صلى الله عليه وسلم: “أو مسلمًا" متفق عليه، أي أنك لم تطلع على إيمانه، وإنما اطلعت على إسلامه من الأعمال الظاهرة.

وشرائع الإسلام كثيرة جدًّا، منها أركانه، ومنها: الجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجميع ما يجب أو يستحب فعله من الأقوال، ومن أعمال الجوارح، ويدخل في ذلك ترك المحرمات من الأقوال والأفعال، إذا تركها العبد ابتغاء وجه الله تعالى.

 وأركان الإسلام- وهي أسسه التي يبنى عليها، وتعد أساسا لبقية شرائعه- خمسة، كما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الأركان هي:

الركن الأول: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله.

الركن الثاني: إقام الصلاة.

الركن الثالث: إيتاء الزكاة.

الركن الرابع: صيام رمضان.

الركن الخامس: حج بيت الله الحرام.

ومن الأدلة على أن هذه الأركان الخمسة أركان للإسلام: حديث جبريل السابق، وما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج”.

 الإيمان:

 للفظ الإيمان في الشرع إطلاقان:

الإطلاق الأول للإيمان: أن يطلق على الإفراد، فيذكر غير مقترن بذكر الإسلام، فيراد به حينئذ: الدين كاملًا (الاعتقادات، والأقوال، والأعمال).

ومن الأدلة على ذلك: قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)﴾‏‏ [الأنفال: ٢- ٤]، وما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لوفد عبد القيس: “آمركم بأربع: الإيمان بالله، وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم"، وما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: “الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" متفق عليه.

فذكر الله تعالى في الآية السابقة اتصاف المؤمنين بالوجل عند ذكر الله تعالى- وهو الخوف -، وذكر فيها زيادة إيمانهم القلبي عند تلاوة القرآن عليهم، والإيمان القلبي هو التصديق، فهو يشمل الاعتقاد كله، وذكر فيها: اتصاف المؤمنين بالتوكل على الله تعالى، والخوف والتوكل من أعمال القلوب. والحديثان ذكر فيهما كثيرٌ من الأقوال، وأعمال الجوارح.

فهذه النصوص تدل بمجموعها على أن الإيمان عند ذكره غير مقرون بذكر الإسلام يشمل الدين كله، فيشمل كل طاعة، سواء كانت من أعمال القلوب أو من أعمال اللسان، أو من أعمال الجوارح، بل ويشمل ترك المحرم والمكروه إذا قصد به وجه الله تعالى، وتسمى هذه الأعمال "شعب الإيمان"، كما في حديث أبي هريرة السابق.

والإيمان بهذا الإطلاق "قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح"، فهو قول ونية وعمل، والعمل من الإيمان لا يصح الإيمان إلا به، وهذا كله مجمع عليه بين أهل السنة والجماعة، فمن ترك العمل بجميع ما أوجبه الله تعالى، فقد خرج من الإيمان بالكلية، وأصبح من عداد الكافرين بالإجماع.

وعليه فإن من ذهب إلى أن العمل ليس من الإيمان، وإنما هو من كماله الواجب أو المستحب قد أخطأ في ذلك خطئًا بينًا، وخالف ما دلت عليه النصوص الشرعية وما أجمع عليه أهل السنة والجماعة.

الإطلاق الثاني للإيمان: أن يطلق الإيمان مقرونًا بذكر الإسلام، فحينئذ يفسر الإيمان بالاعتقادات الباطنة، كما في قوله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)﴾‏‏ [العصر: ١- ٣]، فذكر الإيمان، ثم ذكر بعده الأعمال، وهي التي تدخل في الإسلام، وكحديث جبريل السابق.

 وأركان الإيمان ستة، هي:

‌‌الركن الأول: الإيمان بالله تعالى.

‌‌الركن الثاني: الإيمان بملائكة الله تعالى.

‌‌الركن الثالث: الإيمان بكتب الله تعالى التي أنزلها على أنبيائه ورسله.

‌‌الركن الرابع: الإيمان برسل الله تعالى وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام.

‌‌الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر.

الركن السادس: الإيمان بالقدر خيره وشره.

 الإحسان:

الإحسان في الاصطلاح: تحسين الظاهر والباطن.

 والإحسان درجتان ومقامان:

المقام الأول: مقام المشاهدة، وهو أن تعبد الله كأنك تراه وتشاهده، فيعمل العبد على مقتضى مشاهدته لله تعالى بقلبه، وذلك أن الإيمان إذا قوي في قلب العبد أصبح الغيب عنده كالعيان.

وهذه هي أعلى مرتبتي الإحسان ومقاميه.

فمن عبد الله عز وجل على استحضار قربه منه وإقباله عليه، وأنه بين يديه جل وعلا، حتى كأنه يرى خالقه سبحانه وتعالى، أوجب له الخشية والخوف والهيبة والتعظيم له جل وعلا.

المقام الثاني: مقام الإخلاص، وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله له، واطلاعه عليه، وقربه منه، فإذا استحضر العبد هذا في عمله وعبادته، وعمل بموجبه، فهو مخلص لله تعالى، لأن استحضاره ذلك في عمله يحمله على مراقبة الله والخوف منه، والإخلاص له، ويمنعه من الالتفات إلى غيره تعالى، ومن إرادة غير الله بالعبادة، فلا يقع في الشرك الأكبر، ولا في الشرك الأصغر.

ومن الأدلة على هذين المقامين من مقامات الإحسان: قوله صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل- عليه السلام- عن الإحسان: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، فذكر مقامين للإحسان: مقام من يعبد الله كأنه يرى ربه جل وعلا، ومقام من يعبد الله لرؤية الله تعالى له، كما سبق تفصيله.

 توحيد الألوهية:

 معنى شهادة "لا إله إلا الله" وفضلها:

معنى شهادة "لا إله إلا الله" إجمالا: لا معبود بحق إلا الله تعالى.

أي أنه لا أحد يستحق أن يعبد إلا الله تعالى، فلا يجوز أن يُدعى إلا الله تعالى، ولا يجوز أن يُصلى له أو يُنذر و يُذبح له إلا الله تعالى، وهكذا بقية أنواع العبادة، لا يستحق أحدٌ أن تصرف له سوى الله تعالى.

 فهذه الكلمة العظيمة تشتمل على ركنين أساسين:

الأول: “النفي"، وهو نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى، ويدل عليه كلمة: “لا إله" فهي تنفي أن يكون غير الله تعالى مستحقًا للعبادة.

الثاني: “الإثبات"، وهو إثبات الإلهية لله تعالى، ويدل عليه كلمة "إلا الله" فهي تثبت أن الله تعالى هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له. فالله جل وعلا هو المستحق للعبادة وحده، لأنه الخالق، الرازق، المالك، المدبر لجميع الأمور، فيجب على جميع العباد أن يفردوه بالعباده شكرًا له على نعمه العظيمة عليهم، كما سبق بيان ذلك مفصلًا عند الكلام على توحيد الربوبية.

توحيد الألوهية

 شروط "لا إله إلا الله" ونواقضها:

دلت النصوص الشرعية الكثيرة على أن الفوائد والفضائل العظيمة لكلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، والتي من أهمها: الحكم بإسلام صاحبها، وعصمة دمه وماله وعرضه، ودخول الجنة، وعدم الخلود في النار، أنها لا تحصل لكل من نطق بهذه الكلمة، بل لابد من توافر جميع شروطها، وانتفاء جميع نواقضها، فكما أن الصلاة لا تقبل ولا تنفع صاحبها إلا إذا توافرت جميع شروطها، من الوضوء واستقبال القبلة وغيرهما، وانتفت مبطلاتها، كالكلام والضحك والأكل والشرب وغيرها، فكذلك هذه الكلمة، لا تنفع صاحبها إلا باستكمال شروطها، وانتفاء نواقضها.

ولذلك لما قيل لوهب بن منبه: أليس مفتاح الجنة: لا إله إلا الله؟ قال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك.

وقد دلت النصوص الشرعية على أن لهذه الكلمة العظيمة سبعة شروط، هي:

الشرط الأول: العلم بمعناها الذي تدل عليه، فيعلم أنه لا أحد يستحق العبادة إلا الله تعالى. قال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾‏‏ [محمد: ١٩].

الشرط الثاني: اليقين المنافي للشك، فلابد أن يؤمن إيمانًا جازمًا بما تدل عليه هذه الكلمة من أنه لا يستحق العبادة إلا الله تعالى، فإن الإيمان لا يكفي فيه إلا علم اليقين، لا الظن ولا التردد، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥)﴾‏‏ [الحجرات: ١٥].

فمن كان غير جازم في إيمانه بمدلول هذه الكلمة أو كان شاكًا مرتابًا أو متوقفًا في ذلك لم تنفعه هذه الكلمة شيئًا.

الشرط الثالث: القبول المنافي للرد، فيقبل بقلبه ولسانه جميع ما دلت عليه هذه الكلمة، ويؤمن بأنه حق وعدل. قال الله تعالى عن المشركين: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦)﴾‏‏ [الصافات: ٣٥- ٣٦].

فمن نطق بهذه الكلمه ولم يقبل بعض ما دلت عليه إما كبرًا أو حسدًا أو لغير ذلك فإنه لا يستفيد من هذه الكلمة شيئًا.

فمن لم يقبل أن تكون العبادة لله وحده، ومن ذلك عدم قبول التحاكم إلى شرعه تكبرًا فليس بمسلم، ومثله مَنْ لم يقبل بطلان دين المشركين من عباد الأصنام أو عباد القبور أو اليهود أو النصارى أو غيرهم، فيقول: إن أديانهم صحيحة، فلا يقبل ما دلت عليه هذه الكلمة من بطلان هذه الأديان الشركية فليس بمسلم.

الشرط الرابع: الانقياد المنافي للترك، فينقاد بجوارحه، بفعل ما دلت عليه هذه الكلمة من عبادة الله وحده. قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾‏‏ [لقمان: ٢٢]، ومعنى ﴿يُسْلِمْ وَجْهَهُ﴾‏‏: ينقاد. ومعنى ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾‏‏: أي موحِّد.

فمن قالها وعرف معناها ولم ينقد للإتيان بحقوقها ولوازمها من عبادة الله والعمل بشرائع الإسلام، ولم يعمل إلا ما يوافق هواه أو ما فيه تحصيل دنياه لم يستفد من هذه الكلمة شيئًا.

الشرط الخامس: الصدق المنافي للكذب، وهو أن يقول هذه الكلمة صدقًا من قلبه، يوافق قلبُه لسانه. قال الله تعالى: ﴿الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (٣)﴾‏‏ [العنكبوت: ١- ٣].

ولذلك لم ينتفع المنافقون من نطقهم بهذه الكلمة، لأن قلوبهم مكذبة بمدلولها، فهم يقولونها كذبًا ونفاقا.

الشرط السادس: الإخلاص المنافي للشرك. فلابد من تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك. قال الله تعالى: ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (٢)﴾‏‏ [الزمر: ٢].

فمن أشرك بالله تعالى في أي نوع من أنواع العبادة لم تنفعه هذه الكلمة.

الشرط السابع: المحبة. فلابد أن يحب المسلم هذه الكلمة ويحب ما دلت عليه، ويحب أهلها العاملين بها الملتزمين لشروطها، ويبغض ما ناقض ذلك. قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾‏‏ [البقره: ١٦٥].

فمن قال "لا إله إلا الله" ولكنه أبغض ما دلت عليه من عبادة الله وحده لا شريك الله فليس بمسلم، كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (٩)﴾‏‏ [محمد: ٩].

أما نواقض "لا إله إلا الله"، وتسمى "نواقض الإسلام" و"نواقض التوحيد" وهي الخصال التي تحصل بها الردة عن دين الإسلام، فهي كثيرة، وقد ذكر بعضهم أنها تصل إلى أربعمائة ناقض.

 العبادة:

 تعريف العبادة وبيان شمولها:

العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.

وهذا يدل على شمول العبادة، فهي تشمل:

أولًا: العبادات المحضة. وهي الأعمال والأقوال التي هي عبادات من أصل مشروعيتها، والتي دل الدليل من النصوص أو غيرها على تحريم صرفها لغير الله تعالى.

 ويدخل في العبادات المحضة ما يلي:

١- العبادات القلبية. وهي تنقسم إلى قسمين:

أ- قول القلب: وتسمى "اعتقادية"، وهي: اعتقاد أنه لا رب إلا الله، وأنه لا أحد يستحق أن يعبد سواه، والإيمان بجميع أسمائه وصفاته، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، وغير ذلك.

ب- عمل القلب: ومنها: الإخلاص، ومحبة الله تعالى، والرجاء لثوابه، والخوف من عقابه، والتوكل عليه، والصبر على فعل أوامره وعلى اجتناب نواهيه، وغيرها مما يفعله القلب.

٢- العبادات القولية: ومنها النطق بكلمة التوحيد، وقراءة القرآن، وذكر الله تعالى بالتسبيح والتحميد وغيرهما، والدعوة إلى الله تعالى، وتعليم العلم الشرعي، وغير ذلك.

٣- العبادات البدنية: ومنها الصلاة والسجود، والصوم، والحج، والطواف، والجهاد، وطلب العلم الشرعي، وغير ذلك.

٤- العبادات المالية: ومنها الزكاة، والصدقة، والذبح، والنذر بإخراج شيء من المال، وغيرها.

ثانيًا: العبادات غير المحضة. وهي الأعمال والأقوال التي ليست عبادات من أصل مشروعيتها، ولكنها تتحول بالنية الصالحة إلى عبادات.

 ويدخل في العبادات غير المحضة ما يلي:

١- فعل الواجبات والمندوبات التي ليست في الأصل من العبادات: ومن ذلك: النفقة على النفس أو على الزوجة والأولاد، وقضاء الدين، والزواج الواجب أو المندوب إليه، والقرض، والهدية، وبر الوالدين، وإكرام الضيف، وغيرها.

فإذا فعل المسلم هذه الواجبات أو المندوبات مبتغيًا بذلك وجه الله تعالى، كأن ينفق على نفسه بنية التقوِّي على طاعة الله، وكأن ينفق على أولاده بنية امتثال أمر الله، وبنية تربية الأولاد ليعبدوا الله، وكأن يحمل رجلًا كبير السن على راحلته ليوصله إلى أهله ليريحه من تعب المشي مبتغيًا بذلك وجه الله، وكأن ينوي بالزواج إعفاف النفس ونحو ذلك كان ذلك كله عبادات يثاب عليها بلا نزاع.

ومما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سعد: “ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تضعه في في امرأتك" متفق عليه، وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي مسعود البدري: “إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة، وهو يحتسبها كانت له صدقة" متفق عليه، وحديث الثلاثة أصحاب الغار، ففيه أن كلًا منهم توسل إلى الله بصالح عمله، فتوسل أحدهم إلى الله ببره بوالديه ابتغاء وجه الله، وتوسل الثاني إلى الله بإعطائه للأجير أجره بعد تنميته له ابتغاء وجه الله تعالى... إلخ.

٢- ترك المحرمات ابتغاء وجه الله تعالى: ومن ذلك ترك الربا، وترك السرقة، وترك الغش وغيرها فإذا تركها المسلم طلبًا لثواب الله وخوفًا من عقابه وامتثالًا لنهيه كان ذلك عبادة يثاب عليها بلا نزاع.

ومما يدل على ذلك حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “يقول الله تعالى: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف" متفق عليه، وحديث الثلاثة أصحاب الغار، ففيه أن أحدهم توسل إلى الله بتركه الفاحشة ابتغاء وجه الله تعالى.

٣- فعل المباحات ابتغاء وجه الله تعالى: ومن ذلك: النوم، والأكل، والبيع والشراء، وغيرها من أنواع التكسب، فهذه الأشياء وما يشبهها في الأصل مباحة، فإذا نوى المسلم بفعلها التقوي بها على طاعة الله، وما أشبه ذلك، كان ذلك عبادة يثاب عليها.

ومما يدل على ذلك عموم حديث سعد وحديث أبي مسعود السابقين، وقول معاذ رضي الله عنه لما قال له أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: كيف تقرأ القرآن؟ قال: “أنام أول الليل، فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي، كما أحتسب قومتي" رواه البخاري.

وهذا يدل على أن العبادة تشمل حياة الإنسان كلها، وتشمل الدين كله، ويدل كذلك على أهمية العبادة، ولهذا كانت هي الغاية التي خلق الله الجن والإنس من أجلها، كما قال سبحانه ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)﴾‏‏ [الذاريات: ٥٦]، فالله تعالى خلقهم ليختبرهم في عبادته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، كما قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾‏‏ [تبارك: ٢] فكل عاقل من الثقلين منذ أن يبلغ إلى أن يموت فهو في حال امتحان واختبار.

 العبادة:

 أصول العبادة:

عبادة الله تبارك وتعالى يجب أن ترتكز على أصول ثلاثة، وهي المحبة، والخوف، والرجاء، فيعبد المسلم ربه محبة له، وخوفًا من عقابه، ورجاء لثوابه، ولذلك قال مكحول الشامي رحمه الله: “من عَبَدَ اللهَ بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن"، وقد أسمى بعض العلماء هذه الأصول "أركانًا"، وسأتكلم عليها بشيء من الاختصار فيما يلي:

‌‌الأصل الأول: المحبة لله تعالى:

هذا الأصل هو أهم أصول العبادة، فالمحبة هي أصل العبادة، فيجب على العبد أن يحب الله تعالى، وأن يحب جميع ما يحبه تعالى من الطاعات، وأن يكره جميع ما يكرهه من المعاصي وأن يحب جميع أوليائه المؤمنين، وفي مقدمتهم رسله عليهم السلام، وأن يبغض جميع أعدائه من الكفار والمنافقين. وكل هذا واجب على المسلم لا خيار له فيه.

كما أنه يجب على المسلم أن يحب الله تعالى وأن يحب رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم أكثر مما يحب نفسه وأولاده وماله وكل شيء، قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٢٤)﴾‏‏ [التوبة: ٢٤].

ومحبة الله تعالى إذا قويت في قلب العبد انبعثت جوارحه بطاعة الله تعالى، وابتعد عن معصيته، بل إنه يجد اللذة والراحة النفسية عند فعله لعبادة الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨)﴾‏‏ [سورة الرعد: ٢٨].

وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “قمْ يا بلال فأرحنا بالصلاة".

ولهذا فإن من يطع الله، ويجتنب معاصيه، ويكثر من ذكره، ومن نوافل العبادات محبة لله وخوفًا منه ورجاء لثوابه يعش في سعادة وانشراح صدر، كما قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾‏‏ [النحل: ٩٧].

وإذا عصى العبد ربه نقصت محبته لله بقدر معصيته، فمن علامة ضعف محبة الله في القلب إصرار العبد على المعاصي وعدم توبته منها، وكلما أكثر العبد من معصية الله تعالى ضعفت محبته في قلبه أكثر مما كانت قبل ذلك، وهكذا، ولذلك فإنه يخشى على من أسرف على نفسه بالمعاصي أن تذهب محبته لله كلية فيقع في الكفر، ومن ادعى محبة الله مع استكثاره من معصيته فهي دعوى كاذبة، ولذلك لما ادعى قوم محبة الله تعالى أنزل هذه الآية: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾‏‏ [آل عمران: ٣١]، وهذه الآيه تسمى آية "المحنة" أو آية "الاختبار" فالذي يحب الله حقيقة يتبع ما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وينتهي عما نهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، قال يحيى بن معاذ رحمه الله: “من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده فهو كاذب”.

وقال الشاعر:

تعصي الإله وأنت تزعم حبه... هذا محال في القياس شنيع

لو كان حبك صادقًا لأطعته... إن المحب لمن يحب مطيع

وإذا ضعفت محبة الله تعالى في قلب العبد بسبب كثرة معصيته له فَـقَـد لذة العبادة، وربما استولى عليه الشيطان في عباداته بكثرة الوساوس، فتجده ربما صلى أو ذكر الله أو دعاه وقلبه لاه غافل، فتصبح عباداته أقرب إلى العادة منها إلى العبادة.

ولهذا يجد العاصي قسوة وخشونة في قلبه، ويشعر بعدم الطمأنينة والراحة النفسية، بل إنه يحس بضيق في الصدر، وقلق مستمر، كما قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (١٢٤)﴾‏‏ [طه: ١٢٤] أي: أن من أعرض عن ذكر الله- وهو القرآن- فلم يمتثل أوامره ولم يجتنب نواهيه يعاقبه الله بالشقاء في هذه الحياة، ولذلك تجد كثيرًا من العصاة يلجؤون إلى ما يظنون أنه يزيل عنهم الضيق، فيلجأ أحدهم إلى المسكرات، أو المخدرات، أو شرب الدخان أو النظر إلى الصور المحرمة أو سماع الغناء والمحرمات يظن أنه سيجد السعادة فيزيد الطين بلة، فيزيده ضيقًا إلى ضيق، نسأل الله السلامة والعافية.

ولذلك ينبغي للعبد أن يحرص على الأمور التي تجلب وتقوى محبة الله في قلبه، لتحصل له السعاده في الدنيا والآخرة، ومن هذه الأمور:

١- أداء الواجبات، والبعد عن المحرمات.

٢- الإكثار من نوافل العبادات، ومن أهمها: تلاوة كلام الله تعالى وسماعه بتدبر، والإكثار من ذكر الله تعالى، ومن صلاة النافلة، وبالأخص صلاة الليل، والإكثار من دعائه ومناجاته.

٣- معرفة أسماء الله تعالى وصفاته.

٤- التفكر في نعم الله الكثيرة عليه.

‌‌الأصل الثاني: الخوف من الله تعالى.

الخوف هو: تألم القلب بسبب توقع مكروه.

فيجب على المسلم أن يعبد الله تعالى خوفًا من عقوبته، كما قال تعالى: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)﴾‏‏ [آل عمران: ١٧٥]، وقال سبحانه: ﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾‏‏ [المائدة: ٤٤]، وقال: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠)﴾‏‏ [البقرة: ٤٠].

 والخوف من الله تعالى ينشأ ويعظم عند العبد من عدة أمور، أهمها:

١- معرفته بالله تعالى وبصفاته، فمن كان بالله أعرف كان منه أخوف.

٢- تصديقه بأن الله تعالى توعَّد من عصاه بترك الواجبات أو بفعل المحرمات بالعقوبة.

٣- معرفته لشدة عقوبة الله تعالى لمن عصاه، وأن العبد لا يستطيع تحمل عقوبته تعالى، وهذا يحصل بمطالعة الآيات والأحاديث الواردة في الوعيد والزجر، والعرض والحساب، وعذاب القبر وعذاب النار.

٤- تذكر العبد لمعصيته لله تعالى فيما سبق من عمره.

٥- خوفه أن يُحال بينه وبين التوبة، بسبب ارتكابه للذنب، أو أن يختم له بخاتمة سيئة بسبب إصراره على معصية الله تعالى.

وكلما قوي إيمان العبد وتصديقه بعذاب الله تعالى ومعرفته بشدة عذابه تعالى لمن عصاه اشتد خوفه من عذاب الله، ولذلك قال أحمد بن عاصم الأنطاكي رحمه الله: "من كان بالله أعرف كان منه أخوف"، والخوف المحمود الصادق هو ما حال بين العبد وبين معصية الله تعالى.

 ‌‌الأصل الثالث: الرجاء.

الرجاء هو: الطمع في ثواب الله ومغفرته، وانتظار رحمته.

فيجب على المسلم أن يعبد الله رغبة في ثوابه، وأن يتوب إليه عند الوقوع في الذنب رجاء لمغفرته، كما قال تعالى: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾‏‏ [الأعراف: ٥٦] وقال سبحانه: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾‏‏ [الزمر: ٩]، وقال تعالى عن أنبيائه: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (٩٠)﴾‏‏ [الأنبياء: ٩٠].

 والرجاء ثلاثة أنواع: (اثنان محمودان، والثالث مذموم)، وهي:

١- رجاء من أطاع الله في أن يتقبل الله عمله، وأن يثيبه عليه بالفوز بالجنة والنجاة من النار.

٢- رجاء من أذنب ذنوبًا ثم تاب منها في أن يغفر الله ذنوبه وأن يعفو عنها.

٣- رجاء من هو متماد في التفريط في الواجبات واقع في المحرمات، مصر عليها، ومع ذلك يرجو رحمة الله، فهذا هو "الغرور" و"التمني" و "الرجاء الكاذب”.

قال أبو عثمان الحيري: “من علامة السعادة أن تطيع وتخاف أن لا تقبل، ومن علامة الشقاوة أن تعصي وترجو أن تنجو"، وحال صاحب هذا الرجاء المذموم يشبه حال من يتمنى الأولاد من غير أن يتزوج، فهو من أسفه السفهاء، ولذلك قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)﴾‏‏ [البقرة: ٢١٨] والمعنى: أولئك الذين يستحقون أن يرجوا، وقال تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾‏‏ [النساء: ١٢٣].

وبالجملة فإنه يجب على المسلم أن يعبد الله حبا له، وخوفًا من عقابه، ورجاء لثوابه، كما يجب عليه أن لا يفرِط في الخوف حتى يصل إلى درجة القنوط واليأس من رحمة الله، وأن لا يفرط في الرجاء فيتعلق بسعة وحمة الله مع إصراره على معصيته، بل يجب أن يجمع بينهما، وإن كان ينبغي له في حال الصحة أن يغلب جانب الخوف ليحمله على طاعة الله وعلى البعد عن معصيته ، وعند الموت يغلب جانب الرجاء على جانب الخوف حتى يموت وهو يحسن الظن بالله، فيفرح بلقائه تعالى، فلابد من الجمع بينهما كما في الآيات الثلاث السابقة.

 الشرك الأكبر

 الآثار المترتبة على الشرك الأكبر:

فإن الشرك هو أعظم ذنب عصي الله به، فهو أكبر الكبائر، وأعظم الظلم؛ لأن الشرك صرف خالص حق الله تعالى- وهو العبادة- لغيره، أو وصف أحد من خلقه بشيء من صفاته التي اختص بها- عز وجل -، قال تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣)﴾‏‏ [لقمان: ١٣]، ولذلك رتّب الشرع عليه آثارًا وعقوبات عظيمة، أهمها:

١- أن الله لا يغفره إذا مات صاحبه ولم يتب منه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾‏‏ [النساء: ٤٨].

٢- أن صاحبه خارج من ملة الإسلام، حلال الدم والمال، قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ﴾‏‏ [التوبة: ٥].

٣- أن الله تعالى لا يقبل من المشرك عملًا، وما عمله من أعمال سابقة تكون هباءً منثورًا، كما قال تعالى عن المشركين: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (٢٣)﴾‏‏ [الفرقان: ٢٣]، وقال سبحانه: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٦٥)﴾‏‏ [الزمر: ٦٥].

٤- يحرم أن يتزوج المشرك بمسلمة، كما يحرم أن يتزوج المسلم مشركة، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾‏‏ [البقرة: ٢٢١].

٥- إذا مات المشرك فلا يُغسل، ولا يُكفن، ولا يُصلى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، وإنما يحفر له حفرة بعيدة عن الناس ويدفن فيها، لئلا يؤذي الناس برائحته الكريهة.

٦- أن دخول الجنة عليه حرام، وهو مخلد في نار الجحيم- نسأل الله السلامة والعافية- كما قال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (٧٢)﴾‏‏ [المائدة: ٧٢].

 التكفير:

 موانع التكفير:

المسلم قد يقع في بعض أنواع الكفر الأكبر أو الشرك الأكبر والتي قال أهل العلم فيها: “من فعلها فقد كفر"، ولكن قد لا يحكم على هذا المسلم المعيَّن بالكفر، وذلك لفقد شرط من شروط الحكم عليه بالكفر، أو لوجود مانع من ذلك، كأن يكون جاهلًا، كما في قصة الرجل الذي أمر أولاده إذا مات أن يحرِّقوه ثم يذروا رماده في يوم شديد الريح في البحر وقال: “والله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذابًا ما عذب به أحدًا"، فغفر الله له، فهو قد شك في قدرة الله على إعادة خلقه، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، ومع ذلك غفر الله له لجهله وخوفه من ربه.

ومن موانع التكفير للمعيَّن أيضا: التأويل، وهو: أن يرتكب المسلم أمرًا كفريًا معتقدًا مشروعيته أو إباحته له لدليل يرى صحته أو لأمر يراه عذرًا له في ذلك، وهو مخطئ في ذلك كله.

فإذا أنكر المسلم أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة مثلا، أو فعل ما يدل على إنكاره لذلك، وكان عنده شبهة تأويل، فإنه يعذر بذلك ولو كانت هذه الشبهة ضعيفة إذا كان هذا التأويل سائغًا في لغة العرب وله وجه في العلم، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل السنة إذا كان هذا الشيء الذي أنكره ليس من أصل الدين الذي هو عبادة الله وحده وعدم الإشراك به.

وعلى وجه العموم فعذر التأويل من أوسع موانع تكفير المعين.

ولهذا ذكر بعض أهل العلم أنه إذا بلغ الدليلُ المتأوِّلَ فيما خالف فيه ولم يرجع وكان في مسألة يُحتَملُ وقوع الخطأ فيها، واحتمل بقاء الشبهة في قلب من أخطأ فيها لشبه أثيرت حولها أو لملابسات أحاطت بها في واقعة معينة أنه لا يحكم بكفره؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾‏‏ [الأحزاب: ٥].

ولذلك لم يكِفِّر بعض العلماء بعض المعينين من الجهمية، الذين يعتقدون بعض الاعتقادات الكفرية في صفات الله تعالى.

ومن أجل مانع التأويل أيضًا لم يكفر بعض العلماء بعض من يغالون في الموتى ويسألونهم الشفاعة عند الله تعالى.

ومن أجل مانع التأويل كذلك لم يكفر الصحابة- رضي الله عنهم- الخوارج الذين خرجوا عليهم وحاربوهم، وخالفوا أمورًا كثيرة مجمعًا عليها بين الصحابة إجماعًا قطعيًا.

وعلى وجه العموم فمسألة تكفير المعيَّن مسألة كبيرة من مسائل الاجتهاد التي تختلف فيها أنظار المجتهدين، وللعلماء فيها أقوال وتفصيلات ليس هذا موضع بسطها.

ولهذا ينبغي للمسلم أن لا يتعجل في الحكم على الشخص المعين أو الجماعة المعينة بالكفر حتى يتأكد من وجود جميع شروط الحكم عليه بالكفر، وانتفاء جميع موانع التكفير في حقه، وهذا يجعل مسألة تكفير المعين من مسائل الاجتهاد التي لا يحكم فيها بالكفر على شخص أو جماعة أو غيرهم من المعيَّنين إلا أهل العلم، لأنه يحتاج إلى اجتهاد من وجهين:

الأول: معرفة هل هذا القول أو الفعل الذي صدر من هذا المكلف مما يدخل في أنواع الكفر الأكبر أم لا؟

والثاني: معرفة الحكم الصحيح الذي يحكم به على هذا المكلف، وهل وجدت جميع أسباب الحكم عليه بالكفر وانتفت جميع الموانع من تكفيره أم لا؟

والحكم على المسلم بالكفر وهو لا يستحقه ذنب عظيم، لأنه حكم عليه بالخروج من ملة الإسلام، وأنه حلال الدم والمال، وحكم عليه بالخلود في النار إن مات على ذلك، ولذلك ورد الوعيد الشديد في شأن من يحكم على مسلم بالكفر، وهو ليس كذلك، فقد ثبت عن أبي ذر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يرمي رجل رجلًا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك”. [رواه البخاري في صحيحه 6045]

ولذلك كله فإنه يجب على المسلم الذي يريد لنفسه النجاة أن لا يتعجل في إصدار الحكم على أحد من المسلمين بالكفر أو الشرك.

كما أنه يحرم على العامة وصغار طلاب العلم أن يحكموا بالكفر على مسلم معيَّن أو على جماعة معيَّنة من المسلمين أو على أُناس معينين من المسلمين ينتسبون إلى مذهب معيَّن دون الرجوع في ذلك إلى العلماء.

كما أنه يجب على كل مسلم أن يجتنب مجالسة الذين يتكلمون في مسائل التكفير وهم ممن يحرم عليهم ذلك لقلة علمهم، لأن كلامهم في هذه المسائل من الخوض في آيات الله، وقد قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨)﴾‏‏ [الأنعام: ٦٨].

 ‌ النفاق الأكبر:

 تعريفه وحكمه وأعمال وصفات أهله:

النفاق في اللغة: إخفاء الشيء وإغماضه.

وفي الاصطلاح: أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه.

وذلك بأن يكون في الظاهر أمام الناس يدّعي الإسلام، ويظهر لهم أنه مسلم، وربما يعمل أمامهم بعض العبادات كالصلاة والصيام والحج وغيرها، ولكن قلبه- والعياذ بالله- لا يؤمن بتفرد الله تعالى بالألوهية أو بالربوبية، أو لا يؤمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، أو يبغضه، أو لا يؤمن بكتب الله المنزلة، أو لا يؤمن بعذاب القبر، أو لا يؤمن بالبعث، أو يعتقد أن دين النصارى أو دين اليهود أو دين غيرهم من الكفار حق أو خير من الإسلام، أو يعتقد أن الإسلام دين ناقص، أو لا يصلح للتطبيق في هذا العصر، أو يعتقد أن فيه ظلمًا لبعض فئات المجتمع، أو فيه ظلم للنساء، أو أن بعض تشريعاته فيها ظلم، أو ليس فيها تحقيق لمصالح العباد، أو غير ذلك من الاعتقادات المخرجة من الملة التي سبق ذكرها في الشرك الأكبر والكفر الأكبر.

أما حكم المنافق فهو حكم المشرك شركًا أكبر وحكم الكافر كفرًا أكبر، كما سبق بيانه؛ لأن المنافقين في الحقيقة كفار، وإن كانوا أسوأ حالًا من سائر الكفار، لأنهم زادوا على الكفر: الكذب والمراوغة والخداع، وضررهم على المسلمين أشدّ، لأنهم يندسون بين المسلمين ويظهرون أنهم منهم، ويحاربون الإسلام باسم الإصلاح، ولذلك فهم أشد عذابًا في الآخرة من سائر الكفّار، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾‏‏ [النساء: ١٤٥].

 أعمال المنافقين الكفرية:

للمنافقين أعمال كفرية يستدل بها على ما يبطنون من النفاق، وقد بينها الله تعالى في كتابه كما في سورة التوبة التي تسمى "الفاضحة"، لأن الله تعالى فضح فيها المنافقين ببيان أعمالهم الكفرية، كما بينها أيضًا في سور أخرى كثيرة، ومن هذه الأعمال:

١- الاستهزاء بالله وبرسوله وبالقرآن، قال الله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾‏‏ [التوبة: ٦٥، ٦٦]، وقال جل وعلا: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (١٤)﴾‏‏ [البقرة: ١٤].

٢- سبُّ الله تعالى، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم أو تكذيبهما، قال الله تعالى عنهم: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾‏‏ [التوبة: ٥٨] أي ومن المنافقين من يعيبك في تفريق الصدقات، فيتهمونك بعدم العدل. وأصل اللمز: الإشارة بالعين ونحوها.

٣- الإعراض عن دين الإسلام، وعيبه، والعمل على إبعاد الناس عنه، وعلى عدم التحاكم إليه، قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (٦١)﴾‏‏ [النساء: ٦١].

٤- التحاكم إلى الكفار، والحرص على تطبيق قوانينهم مفضلًا لها على حكم الله، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (٦٠)﴾‏‏ [النساء: ٦٠].

٥- اعتقاد صحة المذاهب الهدَّامة والدعوة إليها مع معرفة حقيقتها، ومن هذه المذاهب: ما جدَّ في هذا العصر من مذاهب هي في حقيقتها حرب للإسلام، ودعوة للاجتماع على غير هديه، كالقومية والوطنية، فكثير من المنافقين في هذا العصر ممن يسمون "علمانيين" أو "حداثيين" أو "قوميين" يعرفون حقيقة هذه المذاهب، ويدعون إلى الاجتماع على هذه الروابط الجاهلية، ويدعون إلى نبذ رابطة الإيمان والإسلام التي ذكرها ربنا جل وعلا بقوله ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾‏‏ [الحجرات: ١٠].

٦- مناصرة الكفار ومعاونتهم على المسلمين محبة لهم ورغبة في انتصارهم على المسلمين؛ لأن المنافقين في حقيقتهم كفار فهم يناصرون إخوتهم من الكفار على المسلمين، قال الله تعالى: ﴿(٥٠) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (٥٢)﴾‏‏ [المائدة: ٥٢].

٧- إظهار الفرح والاستبشار عند انتصار الكفار، وعندما يصيب المسلمين هزيمة أو أي ضرر، قال الله تعالى: ﴿هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)﴾‏‏ [آل عمران: ١١٩، ١٢٠]، ولهذا تجد منهم في هذا العصر من لا يكترث لمصاب المسلمين في أي مكان، بل قد تسمع منهم أو تقرأ كلامًا لبعضهم في المجلات أو الجرائد ينهى عن مساعدة المسلمين في أي مكان وعن الوقوف معهم في مصائبهم، بحجة أنهم ليسوا عربًا أو ليسوا مواطنين مثلًا، فيدعون إلى التحزب على أساس القومية والوطنية فقط، ولا يرفعون رأسًا لرابطة الإسلام، بل يحاربونها.

٨- سب وعيب العلماء والمصلحين وجميع المؤمنين الصادقين، بغضًا لهم ولدعوتهم ولدينهم، قال الله تعالى عنهم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾‏‏ [البقرة: ١٣]، وقال سبحانه: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٩)﴾‏‏ [التوبة: ٧٩]، ولهذا تجد منهم في هذا العصر من يعيب العلماء والمصلحين، ومن يعيب الدعاة والمجاهدين في وسائل الإعلام وغيرها.

٩- مدح أهل الكفر، ومدح مفكريهم، ونشر آرائهم المخالفة للإسلام، قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤)﴾‏‏ [المجادلة: ١٤]، ولهذا تجد منهم في هذا العصر من يمدح بعض الملاحدة في القديم والحديث أمثال: “أبي العلاء المعري"، و "الحلَّاج" و "فرويد" وغيرهم.

 صفات المنافقين:

للمنافقين صفات كثيرة جدًّا، ذكرها ربنا جل وعلا في كتابه وذكر بعضها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، ومن أبرزها:

١- قلة الطاعات، والتثاقل والكسل عند أداء العبادات الواجبة، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (١٤٢)﴾‏‏ [النساء: ١٤٢].

٢- الجبن وشدة الخوف والهلع، وهذه الصفة من أهم الأسباب التي جعلتهم يخفون كفرهم ويظهرون الإسلام؛ لأنهم يخافون من القتل ومن أن تسلب أموالهم لكفرهم، وليس عندهم شجاعة فيقاتلون مع الكفار، فيلجأون إلى النفاق، قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤)﴾‏‏ [المنافقون: ٤]، فهُم لشدة خوفهم كلما سمعوا صياحًا ظنوه صياح نذير من عدو هجم عليهم، وقال جل وعلا: ﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧)﴾‏‏ [التوبة: ٥٦، ٥٧]، فهم يتصفون بالفرق- وهو الخوف- فلو وجد أحدهم في حال القتال حصنًا أو كهفًا في جبل أو نفقًا في الأرض يدخله ليختفي فيه لذهب إليه مسرعًا.

٣- السَّفَه، وضعف التفكير، وقلة العقل، قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣)﴾‏‏ [البقرة: ١٣]، ويتضح سفههم فيما يلي:

أ- إيثارهم الدنيا الفانية على الآخرة، وحرصهم على حطام الدنيا أكثر من حرصهم على طاعة الله التي هي سبب لسعادتهم في الدنيا والآخرة، ففي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في شأن المنافقين الذين يتخلفون عن صلاة الجماعة: “لو يعلم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء والفجر"، فهم معرضون عمَّا فيه نجاتهم، حريصون على ما لا يستفيدون منه إلا اليسير، وسيتركونه خلف ظهورهم، ولا يغني عنهم من عذاب الله شيئًا، كما قال تعالى في شأن المنافقين- ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١٧)﴾‏‏ [المجادلة: ١٧].

ب- أن كثيرًا منهم- في هذا العصر- عنده القناعة بأن دين الإسلام هو الدين الحق وأن أحكامه كلها خير وعدل، ولكن بسبب مجالسته للكفار وانبهاره بحضارة الغرب المادية، أو بسبب مجالسته لمن انبهر بحضارتهم من المنافقين من علمانيين وحداثيين وقوميين، ومن سماعه لكلامهم ولشبههم التي يثيرونها ضد تعاليم شرع خالقهم وقع في قلبه بغض هذا الدين، وأصبح يدعو إلى تقليد الكفار وتحكيم قوانينهم ويحارب شرع ربه ويعيبه، وهذا منتهى السفه؛ إذ كيف يعيب ويحارب ما يعلم أنه الحق؟ !.

ج- تلاعب الشيطان بهم حتى أوقعهم فيما هو سبب لهلاكهم وعذابهم في أزمان أبدية سرمدية، قال الله تعالى في شأن المنافقين: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٩)﴾‏‏ [المجادلة: ١٩].

د- أن المنافق يخادع خالقه الذي يعلم سره وعلانيته، ويحارب شرع ربه، غير مفكر في عاقبة أمره، وأنه غدًا في قبره وحشره في قبضة ملائكة القوي العزيز، وأن أمامه عذابًا في القبر، وعذابًا في النار إن مات على نفاقه، وغير مفكر في مصير من سبقه من المنافقين قبل عشرات أو مئات السنين، كابن أبي سلول، وأبي العلاء المعري، وعموم الباطنية، كالإسماعيلية، والدروز، والنصيرية وغالب أئمة الرافضة، وغيرهم من الزنادقة ممن مات منهم على الزندقة، وما هم فيه الآن من العذاب الأليم الذي لا يتحمله البشر في قبورهم، وما سيلاقونه من العذاب في قعر جهنم خالدين فيها. نسأل الله السلامة والعافية.

٤- التذبذب والمراوغة والتلوُّن، فهم كالحِرْباء التي يتغير لونها بحسب حرارة الشمس، فأول النهار لها لون، ووسط النهار لها لون، وآخره لها لون، وكالشاة العائرة بين الغنمين، فهي متحيرة أيهما تتبع، فتتبع هذه مرة، وتتبع هذه مرة، فالمنافق حائر يخشى أن يعلن الكفر فيقتله المسلمون أو تتضرر مصالحه، ويخشى أن ينتصر الكفار فيقتل أو تتضرر مصالحه من قبلهم، فيلجأ إلى إظهار الإسلام، ويسر إلى الكفار وإلى أمثاله من المنافقين بأنه منهم، قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (١٤)﴾‏‏ [البقرة: ١٤]، وقال جل وعلا في شأنهم: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (١٤٣)﴾‏‏ [النساء: ١٤٣].

٥- الانهزامية واحتقار الذات والشعور بالنقص أمام الأعداء، فهو يشعر أن عموم الكفار أفضل منه ومن بني جنسه- وبالأخص في هذا الزمن الذي تفوق فيه الكفار في النواحي المادية- ولذلك فهو يقلدهم في جميع الأمور، حتى في الأمور التي لا فائدة منها، بل إنه يقلدهم في أمور يعلم هو ضررها، فهو كالبعير المقطور- أي المربوط- رأسه في ذنب بعير آخر، فيسير خلفه ويطأ على ما يطأ عليه، ويبول على رأسه، وهذا منتهى الضلال والضياع والخسران.

٦- قلة الحياء وسلاطة اللسان، قال الله تعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (١٩)﴾‏‏ [الأحزاب: ١٨، ١٩].

 الشرك الأصغر:

 حكم الشرك الأصغر:

يتلخص فيما يأتي:

١- أنه كبيرة من كبائر الذنوب، بل هو من أكبر الذنوب بعد نواقض التوحيد.

٢- أن هذا الشرك قد يعظم حتى يؤول بصاحبه إلى الشرك الأكبر المخرج من ملة الإسلام، فصاحبه على خطر عظيم من أن يؤدي به الوقوع في الشرك الأصغر إلى الخروج من دين الإسلام.

٣- أنه إذا صاحب العمل الصالح أبطل ثوابه كما في الرياء وإرادة الإنسان الدنيا وحدها بعمله الصالح، والدليل. قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه جل وعلا: “أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه”. رواه مسلم.

 النفاق الأصغر:

 تعريفه وحكمه وخصاله وأمثلته:

النفاق الأصغر: هو أن يظهر الإنسان أمرًا مشروعًا ويبطن أمرًا محرمًا يخالف ما أظهره.

فكل من فعل فعلا أو قال قولًا مشروعًا واجبًا أو مستحبًا أو مباحًا، وقد أبطن ضد ما أظهره فقد فعل خصلة من النفاق الأصغر، ويسميه بعض أهل العلم "النفاق العملي" لأنه يتعلق بالأعمال، وليس في الاعتقاد، وأطلق عليه بعض أهل العلم أيضًا "نفاقًا دون نفاق”. وحكم هذا النفاق أنه محرم، وكبيرة من كبائر الذنوب، ومن فعل خصلة من خصاله فقد تشبّه بالمنافقين، ولكنه لا يخرج من ملة الإسلام بإجماع أهل العلم.

خصاله وأمثلته:

للنفاق الأصغر خصال كثيرة، أهمها:

١- أن يكذب في كلامه متعمدًا، ومن يسمع كلامه مصدق له.

٢- أن يعدَ وفي نيته وقت الوعد أن لا يفي بما وعد به، ثم لا يفي فعلًا بهذا الوعد.

٣- أن يخاصم غيره، ويفجر في خصومته، بأن يعدل عن الحق إلى الباطل متعمدًا، فيدّعي ويحتج بالباطل والكذب، ليأخذ ما لا يجوز له أخذه.

٤- أن يعاهد غيره بعهد، وفي نيته وقت العهد أن لا يفي به، ثم لا يفي فعلًا بهذا العهد.

والدليل على كون هذه الخصال الأربع من النفاق الأصغر: ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أربعٌ من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، وإن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر”.

٥- الخيانة في الأمانة، وذلك بأن يأخذ الأمانات من الآخرين وفي نيته وقت أخذها أن يجحدها، ثم لا يؤدّيها إليهم فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: “آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان”.

٦- الرياء في الأعمال الصالحة، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “أكثر منافقي أمّتي قراؤها”. [رواه أحمد وصححه الألباني في الصحيحة 750]

والمراد بنفاق القراء: الرياء ، وهم من يقرءون القرآن ويُقرئونه غيرهم لأجل الدنيا ابتغاء المال والشهرة.

٧- إعراض المسلم عن الجهاد، وعدم تحديث نفسه به، فقد روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من مات ولم يغز ولم يحدِّث به نفسه مات على شعبة من نفاق”.

٨- إظهار مودة الغير، والتقرب إليه بما يحب ، مع إضمار بغضه، أو التكلّم فيه في غيبته بما لا يرضيه، فقد روى البخاري عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، قال: قال أناس لابن عمر: إنا ندخل على سلطاننا، فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، قال: كنا نَعُدُّ هذا نفاقًا.

٩- بغض الأنصار- رضي الله عنهم- فقد روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “آية المنافق بغضُ الأنصار، وآية المؤمن حبُّ الأنصار”.

١٠- بغض الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد روى مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: والذي فلَقَ الحبَّةَ وبَرَأ النسمة إنه لعهد النبيِّ الأميِّ صلى الله عليه وسلم إليَّ: أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق.

وبالجملة فإن من اجتمعت فيه أكثر خصال هذا النفاق، واستمر عليها فهو على خطر عظيم، ويُخشى أن يقع في النفاق الأكبر، ولذلك خاف جماعات من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذا النفاق على أنفسهم، فقد خافه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- على نفسه، وخافه الصحابي الجليل حنظلة الأسيدي- رضي الله عنه- على نفسه، وخافه غيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أنفسهم،فقد صح عن التابعي ابن أبي مليكة، قال: "أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه".

 وخافه بعدهم كثير من السلف الصالح- رحمهم الله عز وجل- على أنفسهم.

 ‌ البدعة:

 التوسل تعريفه وحكمه:

التوسل في الاصطلاح له تعريفان:

الأول: تعريف عام: وهو التقرب إلى الله تعالى بفعل المأمورات وترك المحرمات.

الثاني: تعريف خاص بباب الدعاء: وهو أن يذكر الداعي في دعائه ما يرجو أن يكون سببًا في قبول دعائه، أو أن يطلب من عبد صالح أن يدعو له.

 والتوسل في أصله ينقسم إلى قسمين:

‌‌القسم الأول: التوسل المشروع:

وهذا القسم يشمل أنواعًا كثيرة، يمكن إجمالها فيما يلي:

١- التوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته، كما قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾‏‏ [سورة الأعراف: ١٨٠].

وذلك بأن يدعو الله تعالى بأسمائه كلها، كأن يقول: اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى أن تغفر لي" أو أن يدعو الله تعالى باسم معين من أسمائه تعالى يناسب ما يدعو به، كأن يقول: “اللهم يا رحمن ارحمني"، أو أن يقول: “اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم أن ترحمني”. أو أن يدعو الله تعالى بجميع صفاته، كأن يقول: “اللهم إني أسألك بصفاتك العليا أن ترزقني رزقًا حلالًا"، أو أن يدعوه بصفة واحدة من صفاته تعالى تناسب ما يدعو به، كأن يقول مثلًا: “اللهم انصرنا على القوم الكافرين إنك قوي عزيز" وكأن يقول: “اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني"، كما ورد في السنة في دعاء ليلة القدر.

٢- الثناء على الله تعالى، والصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في بداية الدعاء، لما ثبت عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلًا يدعو في صلاته لم يحمد الله ولم يصل على نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: “عجل هذا"، ثم دعاه فقال له: “إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه، ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليدع بما شاء". [رواه أبو داود وأحمد بسند صححه الألباني]

قال: وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا يصلي فمجَّد الله وحمده، وصلى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: “ادع تجب، وسل تعط”. [رواه أبو داود وأحمد بسند صححه الألباني]

ومن ذلك أن يثني على الله تعالى بكلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، التي هي أعظم الثناء على الله تعالى، كما توسل بها يونس عليه السلام في بطن الحوت، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول في توسله مثلًا: “لا إله إلا الله، اللهم صل على محمد، اللهم اغفر لي”.

ومن ذلك: سورة الفاتحة، فشطرها الأول ثناء على الله تعالى، وآخرها دعاء.

٣- أن يتوسل العبد إلى الله تعالى بعباداته القلبية، أو الفعلية، أو القولية، أو غيرها، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴾‏‏ [سورة المؤمنون: ١٠٩]، وكما في قصة الثلاثة أصحاب الغار، فأحدهم توسل إلى الله تعالى ببره بوالديه، والثاني توسل إلى الله تعالى بإعطاء الأجير أجره كاملًا بعد تنميته له، والثالث توسل إلى الله تعالى بتركه الفاحشة، وقال كل واحد منهم في آخر دعائه: “اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه”.

ومن ذلك أن يقول الداعي: اللهم إني أسألك بمحبتي لك ولنبيك محمد صلى الله عليه وسلم ولجميع رسلك وأوليائك أن تنجيني من النار، أو يقول: اللهم إني صمت رمضان ابتغاء وجهك فارزقني السعادة في الدنيا والآخرة.

٤- أن يتوسل إلى الله تعالى بذكر حاله، وأنه محتاج إلى رحمة الله وعونه، كما في دعاء موسى عليه السلام: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾‏‏ [سورة القصص: ٢٤]، فهو عليه السلام توسل إلى ربه جل وعلا باحتياجه للخير أن ينزل عليه خيرا.

ومن ذلك قول الداعي: اللهم إني ضعيف لا أتحمل عذاب القبر ولا عذاب جهنم فأنجني منهما، أو يقول: اللهم إني قد آلمني المرض فاشفني منه.

ويدخل في هذا: الاعتراف بالذنب وإظهار الحاجة لرحمة الله ومغفرته، كما في قوله تعالى: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾‏‏ [الأعراف: ٢٣].

٥- التوسل بدعاء الصالحين رجاء أن يستجيب الله دعاءهم. وذلك بأن يطلب من مسلم حي حاضر أن يدعو له.

كما في قول أبناء يعقوب عليهم السلام له: ﴿قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾‏‏ [سورة يوسف: ٩٧]، وكما في قصة الأعرابي الذي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو بنزول المطر، فدعا صلى الله عليه وسلم، وكما في قصة المرأة التي طلبت منه عليه الصلاة والسلام أن يدعو الله لها بأن لا تتكشف، وكما طلب عمر- ومعه الصحابة- من العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستسقي لهم، أي أن يدعو الله أن يغيثهم بنزول المطر.

فهذه التوسلات كلها صحيحة، لأنه قد ثبت في النصوص ما يدل على مشروعيتها، وأجمع أهل العلم على ذلك  

 ‌‌القسم الثاني: التوسل الممنوع:

لما كان التوسل جزءًا من الدعاء، والدعاء عبادة من العبادات، كما ثبت في الحديث: “الدعاء هو العبادة" وقد وردت النصوص الصحيحة الصريحة بتحريم إحداث عبادة لم ترد في النصوص الشرعية، فإن كل توسل لم يرد في النصوص ما يدل على مشروعيته فهو توسل بدعي محرم، ومن أمثلة هذه التوسلات المحرمة:

١- أن يتوسل إلى الله تعالى بذات نبي أو عبد صالح، أو الكعبة، أو غيرها من الأشياء الفاضلة، كأن يقول: “اللهم إني أسألك بذات أبينا آدم عليه السلام أن ترحمني”.

٢- أن يتوسل بحق نبي أو عبد صالح أو الكعبة أو غيرها.

٣- أن يتوسل بجاه نبي أو عبد صالح أو بركته أو حرمته أو بحق قبره ونحو ذلك.

فلا يجوز للمسلم أن يدعو الله تعالى بشيء من هذه التوسلات، ولذلك لم يثبت في رواية صحيحة صريحة أن أحدًا من الصحابة أو التابعين توسل إلى الله تعالى بشيء منها، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، وقد نقلت عنهم أدعية كثيرة جدًّا، وليس فيها شيء من هذه التوسلات، وهذا إجماع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين على عدم مشروعية جميع هذه التوسلات.

 ‌ البدعة:

 إقامة الأعياد والاحتفالات البدعية:

شرع الله تعالى لأهل الإسلام عيدين يفرحون فيهما بما أنعم الله به عليهم من إدراك المواسم الفاضلة، وهما عيد الفطر وعيد الأضحى، كما شرع لهم عيدًا ثالثًا وهو يوم الجمعة، وهو يتكرر في كل أسبوع يجتمع فيه المسلمون لصلاة الجمعة وسماع الذكر في خطبتها- وهو عيد نسبي- فلا يجوز للمسلمين التعبد لله تعالى بإحداث أعياد واحتفالات أخرى تتكرر بتكرر الأيام أو الشهور أو السنين.

فلا يجوز تخصيص شيء من الأزمنة، سواء من الليالي، أم الأيام، أم الشهور، أم السنين بعبادة أو عبادات معينة لم يرد في الشرع تخصيصها بها، سواء أكانت هذه الأزمان أزمانًا فاضلة أم لا؛ لأن ذلك من البدع المحدثة، ولذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة، ولا عن أحد من سلف هذه الأمة تخصيص ليلة معينة بعبادة معينة، وهذا إجماع منهم على عدم مشروعيته، بل إنه قد جاء عن بعض الصحابة الإنكار على من خص بعض الشهور بعبادة معينة، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم.

وقد أحدث كثير من المسلمين في العصور المتأخرة أعيادًا واحتفالات وعبادات في كثير من الأزمان، مع أنه لم يرد دليل صحيح يدل على مشروعيتها، وهذه الأزمنة ثلاثة أنواع:

النوع الأول: يوم لم تعظمه الشريعة أصلا، ولم يحدث فيه حادث له شأن، مثل أول خميس من رجب، وليلة الجمعة التي تليه، فهذا اليوم وهذه الليلة يعظمها بعض الجهال، بصيام نهار ذلك الخميس، وقيام هذه الليلة التي تليه، ويصلون فيها صلاة يسمونها صلاة الرغائب، وكل هذا لا دليل عليه، وهو من البدع المحرمة، وإنما أحدثت هذه الصلاة بعد الأربعمائة وقد وضع بعضهم حديثًا في فضلها، وهو حديث موضوع بإجماع أهل العلم، وقد وردت أيضًا أحاديث في فضل صيام بعض أيام رجب، ووردت كذلك أحاديث في فضل الصلاة في بعض أيام أو ليالي رجب، وكل هذه الأحاديث ضعيفة أو موضوعة، وقد ثبت عن بعض الصحابة النهي أو الكراهة لتعظيم رجب بصيام أو غيره، وثبت عن بعضهم أن تعظيم شهر رجب من عمل أهل الجاهلية فمن عظمه فقد اقتدى بهم.

النوع الثاني: الأيام والليالي التي جاء في الشرع ما يدل على فضلها، مثل يوم عرفة، ويومي العيدين، ويوم عاشوراء، وليلة القدر، وليلة النصف من شعبان، فهذه الأوقات يستحب أن يفعل فيها من العبادات ما ورد في الشرع ما يدل على مشروعيتها فيها، ولا يجوز فيها إحداث عبادات ليس لها أصل في الشرع، كصلاة الألفية ليلة النصف من شعبان التي أحدثت في القرن الخامس الهجري" وكالتعريف بالأمصار في يوم عرفة، وكالاحتفال في يوم عاشوراء، كما لا يجوز للمسلم تخصيص شيء من هذه الأوقات الفاضلة بعبادة يكررها كلما جاء هذا الوقت الفاضل مما لم يرد في الشرع ما يدل على تخصيصها بها، كتخصيص ليلة القدر بعمرة أو بذكر خاص غير الدعاء الوارد في السنة، أو بصلاة خاصة يكررها في كل عام.

النوع الثالث: الأيام والليالي التي حدثت فيها حوادث مهمة، ولكن لم يأت في الشرع ما يدل على فضلها أو على مشروعية التعبد لله أو الاحتفال فيها.

ومن هذه الأوقات: الليلة التي يقال: إنه حصل فيها الإسراء والمعراج لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يثبت في تحديد هذه الليلة شيء ومن هذه الليالي أيضا: الليلة التي يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ولد فيها، مع أنه لم يثبت في تحديد شهر ولادته ولا يومها شيء يعتمد عليه، بل في ذلك خلاف مشهور، وقد جزم العبيديون الإسماعيليون الملاحدة في القرن الرابع الهجري أن مولده صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول، مع أنه ليس هناك ما يرجح هذا القول.

وهذا الشهر قد أصيبت فيه الأمة الإسلامية بأعظم مصيبة، وهي وفاته صلى الله عليه وسلم، فقد كانت وفاته عليه الصلاة والسلام في شهر ربيع الأول بلا خلاف.

بل إن العبيديين اختاروا يوم الثاني عشر منه، فأقاموا فيه احتفالًا وقت حكمهم لمصر زعموا أنه من باب الفرح بولادته صلى الله عليه وسلم، مع أن هذا اليوم هو اليوم الذي توفي فيه النبي صلى الله عليه وسلم في قول عامة أهل العلم.

وكان كثير من هؤلاء العبيديين من الملاحدة الحاقدين على الإسلام وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ادعى بعضهم الألوهية، وعلى رأسهم الحاكم بأمر الله العبيدي الذي يؤلهه الدروز إلى الآن، ومنهم أو من أتباعهم: القرامطة، الذين قتلوا الحُجَّاج في عرفات وعند الكعبة المشرفة، وهدموا جزءًا من الكعبة، وأخذوا الحجر الأسود منها، ولم يعيدوه إلا بعد عدة سنوات.

والعبيديون هم أول من أقام الاحتفال بالمولد في القرن الرابع الهجري، وكان ذلك سنة ٣٦٣ هـ أثناء حكمهم لمصر.

فهؤلاء العبيديون الملاحدة الذين يبغضون النبي صلى الله عليه وسلم قد اختاروا شهر ويوم وفاته صلى الله عليه وسلم وقتًا لهذا الاحتفال، فرحًا بوفاته صلى الله عليه وسلم، وأظهروا للناس أنه للفرح بولادته عليه الصلاة والسلام.

وقد اتفق أهل العلم على أن السلف الصالح من أهل القرون الثلاثة المفضلة، وفي مقدمتهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلوا هذا الاحتفال، ولذلك لم ينقل فعله ولا القول بمشروعيته عن أحد من أهل القرون الثلاثة المفضلة، مع شدة محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وحرصهم على الخير.

وهذا إجماع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجميع سلف هذه الأمة على عدم مشروعيته، وعلى عدم مشروعية جميع الاحتفالات المحدثة.

 العقيدة

 مراجع في العقيدة:

ينبغي لطالب العقيدة أن يتدرج في دراسة كتبها عبر مراحل معينة منها :-

1- البدء بدراسة العقيدة دراسة عامة أولية من خلال الكتب الميسرة التي وضعت لهذه المرحلة ؛كنبذة في العقيدة لابن عثيمين وشرح لمعة الاعتقاد له أيضا وكتاب أصول الإيمان الصادر عن مجمع الملك فهد بالمدينة، وثلاثة الأصول والقواعد الأربع.

2- الانتقال لركن العقيدة الأعظم وهو التوحيد ودراسته ؛فتبدأ بدراسة توحيد العبادة. وقد أفردت له كتب خاصة من أشهرها وأنفعها كتاب التوحيد ؛ولهذا كثرت شروحه ومن أنفعها شرح كتاب التوحيد لابن قاسم ففيه صفوة الشروح. وكذلك القول السديد لابن سعدي،ففيه تركيز على أصول هذا التوحيد ومقاصده. ومن الكتب المفيدة في هذا الأصل دعوة التوحيد للهراس ،فقد عرض مسائله بأسلوب علمي ميسر يروق لكل من قرأه.

ثم تنتقل بعد ذلك لدراسة توحيد الصفات ؛فتدرس قواعده من خلال كتاب القواعد المثلى أوتقريب التدمرية و كلاهما لابن عثيمين،وتدرس مسائله من خلال الحموية أوتلخيصها أوشرح الطحاوية للبراك، والعقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية وشرحها لابن عثيمين .

وينبغي التركيز في دراسة مسائل الصفات على العلو ومايرتبط به من الصفات؛ كالاستواء والنزول والمعية. وكذلك ينبغي التركيز على صفة الكلام وصفة الرؤية؛ فكلها من أهم مباحث الصفات ومعالم عقيدة السلف.

3- الانتقال لدراسة العقيدة دراسة شاملة وأكثر عمقا من المرحلة الأولى ،ويحسن أن يكون ذلك من خلال شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ، مع الاستعانة بما يسير على نفس الخط من مؤلفات؛ كشرح الأصفهانية ، وشرح النونية ، ولوامع الأنوار. وينبغي الاهتمام بمسائل النبوة والقدر والإيمان ومايرتبط بذلك من مسائل الاعتقاد المهمة.

4- الانتقال لدراسة الكتب المطولة في العقيدة؛ كمختصر الصواعق للموصلي ،وهو من أهم كتب العقيدة ، وله طبعة محققة في أربعة مجلدات. وكمجموع الفتاوى وبيان تلبيس الجهمية ، وكتاب منهاج السنة ، والصفدية ، وكتاب درء تعارض والعقل والنقل واقتضاء الصراط المستقيم وكلها لشيخ الإسلام ابن تيمية وشفاء العليل ، وحادي الأرواح لابن القيم ، والنهاية في الفتن والملاحم لابن كثير ، فكل هذه الكتب تعتبر من أهم مراجع التوسع في العقيدة ، وقد أفاد منها شارح الطحاوية كثيرا حتى إن بعض المباحث منقولة منها حرفيا.

5- ينبغي لطالب العقيدة أن يطالع كتب السلف الأولى متى آنس في نفسه القدرة على فهمها الفهم الصحيح ، وهي كثيرة من أشهرها كتاب التوحيد لابن خزيمة ، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة لأبي القاسم اللالكائي ، والشريعة للآجري وكتاب الايمان لأبي عبيد ، وردود الدارمي على المريسي وغيرها كثير ، ولاينبغي إهمال ما أفرده الامام البخاري في صحيحه من كتب للعقيدة في غاية الأهمية؛ ككتاب الإيمان والقدر والتوحيد.

يحتاج طالب العقيدة أثناء البحث والمطالعة لفهم كثير من الكلمات والمصطلحات ،وقد خدم العلماء هذا الجانب بكثير من الكتب؛ كالمفردات للراغب، والنهاية لابن الأثير،وهي في بيان كلمات القرآن والسنة ، وككتاب المقالات ، والفرق بين الفرق ، والملل والنحل؛ لبيان الآراء والعقائد التي تذكر في كتب الاعتقاد ،وككتاب المبين للآمدي والتعريفات للجرجاني لإيضاح المصطلحات الكلامية والفلسفية التي ترد في كتب العقيدة.

و في العصر الحديث ظهرت الموسوعة الميسرة في الأديان والعقائد والمذاهب ،وهي مفيدة جدا وبخاصة انها تعطي القارئ فكرة موجزة عما يبحث عنه ثم تحيله على كثير من المصادر للتوسع والتحقق.

 العقيدة:

 خصائص عقيدة أهل السنة والجماعة:

‌‌خصائص العقيدة الإسلامية عقيدة أهل السنة والجماعة

للعقيدة الإسلامية عقيدة أهل السنة والجماعة خصائص عديدة، لا توجد في أي عقيدة أخرى، ولا غرو في ذلك؛ إذ إن تلك العقيدة تُستَمد من الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

ومن تلك الخصائص مايلي:

1- سلامة مصدر التلقي: وذلك باعتمادها على الكتاب والسنة، وإجماع السلف الصالح، فهي مستقاة من ذلك النبع الصافي، بعيداً عن كدر الأهواء والشبهات.

وهذه الخصيصة لا توجد في شتى المذاهب والملل والنحل غير العقيدة الإسلامية عقيدة أهل السنة والجماعة.

2- أنها تقوم على التسليم لله تعالى ولرسوله": وذلك لأنها غيب، والغيب يقوم على التسليم.

فالتسليم بالغيب من أعظم صفات المؤمنين التي مدحهم الله بها، كما في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾.

ذلك أن العقول لا تدرك الغيب، ولا تستقل بمعرفة الشرائع؛ لعجزها وقصورها؛ فكما أن سمع الإنسان قاصر، وبصره كليل، وقوتَه محدودة فكذلك عقله، فَتَعَيَّن الإيمان بالغيب والتسليم للهعز وجل.

3- موافقتها للفطرة القويمة، والعقل السليم: فعقيدة أهل السنة والجماعة ملائمة للفطرة السليمة، موافقة للعقل الصريح، الخالي من الشهوات والشبهات.

٤- اتصال سندها بالرسول"والتابعين وأئمة الدين قولاً، وعملاً، واعتقاداً: وهذه الخصيصة قد اعترف بها كثير من خصومها؛ فلا يوجد بحمد الله أصل من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ليس له أصل أو مستند من الكتاب والسنة، أو عن السلف الصالح، بخلاف العقائد الأخرى المبتدعة.

٥- الوضوح والسهولة والبيان: فهي عقيدة سهلة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، فلا لبس فيها، ولا غموض، ولا تعقيد؛ فألفاظها واضحة، ومعانيها بينة، يفهمها العالم والعامي، والصغير والكبير، فهي تستمد من الكتاب والسنة، وأدلة الكتاب والسنة كالغذاء ينتفع به كل إنسان، بل كالماء الذي ينتفع به الرضيع، والصبي، والقوي، والضعيف.

٦- السلامة من الاضطراب والتناقض واللبس: فلا مكان فيها لشيء من ذلك مطلقاً، كيف لا وهي وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟فالحق لا يضطرب، ولا يتناقض، ولا يلتبس.

بل يشبه بعضه بعضاً، ويصدق بعضه بعضاً ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾ (النساء: ٨٢).

٧- أنها قد تأتي بالمحار، ولكن لا تأتي بالمحال: ففي العقيدة الإسلامية ما يبهر العقول، وما قد تحار فيه الأفهام، كسائر أمور الغيب؛ من عذاب القبر ونعيمه، والصراط، والحوض، والجنة والنار، وكيفية صفات اللهعز وجل.

فالعقول تحار في فهم حقيقة هذه الأمور، وكيفياتها، ولكنها لا تحيلها بل تسلِّم لذلك، وتنقاد، وتذعن؛ لأن ذلك صدر عن الوحي المنزل، الذي لا ينطق عن الهوى.

٨- العموم والشمول والصلاح: فهي عامة، شاملة، صالحة لكل زمان ومكان، وحال، وأمة.

بل إن الحياة لا تستقيم إلا بها.

٩- الثبات والاستقرار والخلود: فهي عقيدة ثابتة، مستقرة خالدة، فلقد ثبتت أمام الضربات المتوالية التي يقوم بها أعداء الإسلام؛ من اليهود، والنصارى، والمجوس، وغيرهم.

فما إن يعتقد هؤلاء أن عظمها قد وهن، وأن جذوتها قد خبت، ونارها قد انطفأت، حتى تعود جذعة ناصعة نقية؛ فهي ثابتة إلى قيام الساعة، محفوظة بحفظ الله تعالى تتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل؛ ورعيلاً بعد رعيل، لم يتطرق إليها التحريف، أو الزيادة، أو النقصان، أو التبديل.

كيف لا واللهعز وجلهو الذي تكفل بحفظها، وبقائها ولم يكل ذلك إلى أحد من خلقه؟.

قالتعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: ٩).

١٠- أنها سبب للنصر والظهور والتمكين: فذلك لا يكون إلا لأهل العقيدة الصحيحة، فهم الظاهرون، وهم الناجون، وهم المنصورون كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) أخرجه مسلم.

فمن أخذ بتلك العقيدة أعزه الله، ومن تركها خذله الله.

وقد عَلِم ذلك كلُّ من قرأ التاريخ، فمتى حاد المسلمون عن دينهم حاق بهم ما حاق، كما حدث لهم في الأندلس وغيرها.

١١- أنها ترفع قدر أهلها: فمن اعتقدها، وزاد علماً بها، وعملاً بمقتضاها، ودعوة للناس إليها أعلا الله قدره، ورفع له ذكره، ونشر بين الناس فضله، فرداً كان أو جماعة؛ ذلك أن العقيدة الصحيحة هي أفضل ما اكتسبته القلوب، وخير ما أدركته العقول؛ فهي تثمر المعارف النافعة، والأخلاق العالية.

١٢- السلامة والنجاة: فالسنة سفينة النجاة، فمن تمسك بها سلم ونجا، ومن تركها غرق وهلك.

١٣- العقيدة الإسلامية عقيدة الألفة والاجتماع: فما اتحد المسلمون، وما اجتمعت كلمتهم في مختلف الأعصار والأمصار إلا بتمسكهم بعقيدتهم، وأخذهم بها، وما تفرقوا واختلفوا إلا لبعدهم عنها.

١٤- التميز: فهي عقيدة متميزة، وأهلها متميزون، فطريقتهم مستقيمة، وأهدافهم محددة.

١٥- أنها تحمي معتنقيها من التخبط والفوضى والضياع: فالمنهج واحد، والمبدأ واضح ثابت لا يتغير، فيسلم معتنقها من اتباع الهوى، ويسلم من التخبط في توزيع الولاء والبراء، والمحبة والبغضاء، بل تعطيه معياراً دقيقاً لا يخطىء أبداً، فيسلم من التشتت والتشرد والضياع، فيعرف من يوالي، ويعرف من يعادي، ويعرف ما له وما عليه.

‌‌١٦- أنها تمنح معتنقيها الراحة النفسية والفكرية: فلا قلق في النفس، ولا اضطراب في الفكر؛ لأن هذه العقيدة تصل المؤمن بخالقه عز وجل في رضى به رباً مدبراً، وحاكماً مشرعاً، فيطمئن قلبه بقدره، وينشرح صدره لحكمه، ويستنير فكره بمعرفته.

١٧- سلامة القصد والعمل: بحيث يَسْلَمُ معتنقها من الانحراف في عبادة الله عز وجل فلا يعبد غير الله، ولا يرجو سواه.

١٨- تؤثر في السلوك والأخلاق والمعاملة: فهي تأمر أهلها بكل خير، وتنهاهم عن كل شر، فتأمرهم بالعدل والاعتدال، وتنهاهم عن الظلم والانحراف.

١٩- تدفع معتنقيها إلى الحزم والجد في الأمور.

٢٠- تبعث في نفس المؤمن تعظيم الكتاب والسنة: لأنه يعلم أن الكتاب والسنة حق وصواب، وهدى ورحمة؛ فينبعث بذلك إلى تعظيمهما، والأخذ بهما.

٢١- تَكْفُل لمعتنقيها الحياة الكريمة: ففي ظل العقيدة الإسلامية يتحقق الأمن والحياة الكريمة؛ ذلك أنها تقوم على الإيمان بالله، ووجوب إفراده بالعبادة دون من سواه، وذلك بلا شك سبب الأمن والخير والسعادة في الدارين؛ فالأمن قرين الإيمان، وإذا فقد الإيمان فقد الأمن، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢٨)﴾  (الأنعام: ٨٢).

فأهل التقوى والإيمان لهم الأمن التام، والاهتداء التام في العاجل والآجل، وأهل الشرك والمعصية هم أهل الخوف وأولى الناس به، فهم مهددون بالعقوبات والنقمات في سائر الأوقات.

٢٢- تجمع بين مطالب الروح، والقلب، والجسد.

٢٣- تعترف بالعقل وتحدد مجاله: فالعقيدة الإسلامية تحترم العقل السوي، وترفع من شأنه، ولا تحجر عليه، ولا تنكر نشاطه، والإسلام لا يرضى من المسلم أن يطفىء نور عقله، ويركن إلى التقليد الأعمى في مسائل الاعتقاد وغيرها.

٢٤- تعترف بالعواطف الإنسانية، وتوجهها الوجهة الصحيحة: فالعواطف أمر غريزي، ولا يتجرد منه أي إنسان سوي، والعقيدة الإسلامية ليست عقيدة هامدة جامدة، بل هي عقيدة حيَّة، تعترف بالعواطف الإنسانية، وتقدرها حق قدرها، وفي الوقت نفسه لا تطلق العنان لها، بل تُقوِّمها، وتسمو بها، وتوجهها الوجهة الصحيحة، التي تجعل منها أداة خير وتعمير، بدلاً من أن تكون معولَ هدمٍ وتدمير.

٢٥- العقيدة الإسلامية كفيلة بحل جميع المشكلات: سواء مشكلات الفرقة والشتات، أو مشكلات السياسة والاقتصاد، أو مشكلات الجهل والمرض والفقر، أو غير ذلك.

فلقد جمع الله بها القلوب المشتتة، والأهواء المتفرقة، وأغنى بها المسلمين بعد العَيْلَة، وعلّمهم بها بعد الجهل، وبصّرهم بعد العمى، وأطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف.

 ‌‌خصائص أهل السنة والجماعة:

 كما أن لعقيدة أهل السنة والجماعة ميزات تمتاز بها عن غيرها من العقائد فكذلك لأهل السنة خصائص وميزات يمتازون بها عن غيرهم من أهل الملل والنحل، ويجدر بكل من انتسب إليهم أن يأخذ بها، ويأطر نفسه عليها، حتى ينال ما نالوه من خير وفضل.

فمن تلك الخصائص التي تميز بها أهل السنة والجماعة ما يلي:

١- الاقتصار في التلقي على الكتاب والسنة: فهم ينهلون من هذا المنهل العذب عقائدَهم، وعباداتهم، ومعاملاتهم، وسلوكَهم، وأخلاقهم، فكل ما وافق الكتاب والسنة قبلوه وأثبتوه، وكل ما خالفهما ردوه على قائله كائناً من كان.

٢- التسليم لنصوص الشرع، وفهمها على مقتضى منهج السلف: فهم يسلِّمون لنصوص الشرع، سواء فهموا الحكمة منها أم لا، ولا يعرضون النصوص على عقولهم، بل يعرضون عقولهم على النصوص، ويفهمونها كما فهمها السلف الصالح.

٣- الاتباع وترك الابتداع: فهم لا يقدمون بين يدي الله ورسوله، ولا يرفعون أصواتهم فوق صوت النبي"ولا يرضون لأحد كائناً من كان أن يرفع صوته فوق صوت النبي".بخلاف المبتدعة الضالين، الذين ابتدعوا في الدين، مستدركين على وحي رب العالمين، ألا ساء ما يعملون.

٤- الاهتمام بالكتاب والسنة: فهم يهتمون بالقرآن حفظاً وتلاوة، وتفسيراً، وبالحديث دراية ورواية.بخلاف غيرهم من المبتدعة الذي يهتمون بكلام شيوخهم أكثر من اهتمامهم بالكتاب والسنة.

٥- احتجاجهم بالسنة الصحيحة وترك التفريق بين المتواتر والآحاد: سواء في الأحكام أو العقائد، فهم يرون حجية الحديث إذا صح عن رسول الله"ولو كان آحاداً.

٦- ليس لهم إمام معظم يأخذون كلامه كله، ويدعون ما خالفه إلا الرسول": أما غير الرسول"فإنهم يعرضون كلامه على الكتاب والسنة، فما وافقهما قُبِل، وما لا فلا، فهم يعتقدون أن كل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا الرسول".

أما غيرهم من الفرق الأخرى، ومن متعصبة المذاهب فإنهم يأخذون كلام أئمتهم كله حتى ولو خالف الدليل.

٧- هم أعلم الناس بالرسول": فهم يعلمون هديه، وأعماله، وأقواله، وتقريراته؛ لذلك فهم أشد الناس حباً له، واتباعاً لسنته.

بخلاف غيرهم من أهل البدع الذي يعرفون عن أئمتهم ما لا يعرفونه عن رسول الله".

٨- الدخول في الدين كله: فهم يدخلون في الدين كله، ويؤمنون بالكتاب كله؛ امتثالاً لقولهتعالى: ﴿َا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ (البقرة: ٢٠٨).

بخلاف الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون.

وبخلاف الذين نسوا حظاً مما ذكروا به، والذين جعلوا القرآن عضين؛ فآمنوا ببعض الكتاب، وكفروا ببعض.

٩- تعظيم السلف الصالح: فأهل السنة يعظمون السلف الصالح، ويقتدون بهم، ويهتدون بهديهم، ويرون أن طريقتهم هي الأسلم، والأعلم، والأحكم.

١٠- الجمع بين النصوص في المسألة الواحدة، ورد المتشابه إلى المحكم: فهم يجمعون بين النصوص الشرعية في المسألة الواحدة، ويردون المتشابه إلى المحكم؛ حتى يصلوا إلى الحق في المسألة.

١١- الجمع بين العلم والعبادة: بخلاف غيرهم، فإما أن يشتغل بالعبادة عن العلم، أو بالعلم عن العبادة، أما أهل السنة والجماعة فيجمعون بين الأمرين.

١٢- الجمع بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب: فهم لا ينكرون الأسباب، ولا تأثيرها إذا ثبتت شرعاً أو قدراً، ولا يَدَعُون الأخذ بالأسباب، وفي الوقت نفسه لا يلتفتون إليها.

ولا يرون أن هناك تنافياً بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب؛ لأن نصوص الشرع حافلة بالأمر بالتوكل على الله، والأخذ بالأسباب المشروعة أو المباحة في مختلف شؤون الحياة، فقد أمرت بالعمل، والسعي في طلب الرزق، والتزود للأسفار، واتخاذ العدد في مواجهة العدو قال تعالى: ﴿إِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ﴾ (الجمعة: ١٠). وقال: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾ (الملك: ١٥). وقال تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ (البقرة: ١٩٧). وقال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ﴾ (الأنفال: ٦٠).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان) رواه مسلم.

١٣- الجمع بين التوسع في الدنيا والزهد بها: فأهل السنة والجماعة لا ينكرون على من يتوسع في الدنيا، ويسعى في كسب الرزق، بل يرون أنه ينبغي للإنسان أن يكفي نفسه ومن يعول، ويستغني عن الناس، ويقطع الطمع مما في أيديهم، على ألا تكون الدنيا أكبر همه، ولا مبلغ علمه، وعلى ألا يكتسب المال من غير حله، كما لا يعيبون على من آثر الكفاف، ورضي بالقليل من متاع الدنيا، لأنهم يرون أن الزهد إنما هو زهد القلب، وهو أن يترك الإنسان ما لا ينفع في الآخرة.

‌‌أما إذا توسع العبد في الدنيا، وجعلها في يده لا في قلبه، يرفد بها الإخوان، ويتصدق على الفقراء والمساكين، ويعين بها على نوائب الحقفذلك من فضل الله الذي يؤتيه من يشاء.

كما هو حال الصِّدِّيق، وعمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهم من أثرياء الصحابة من المهاجرين والأنصاررضي الله عنهم.

وكحال ابن المبارك رحمه الله فلقد كان من أغنى أهل زمانه، وهو في الوقت نفسه من أزهدهم إن لم يكن أزهدهم.

١٤- الجمع بين الخوف والرجاء والحب: فأهل السنة والجماعة يجمعون بين هذه الأمور، ويرون أنه لا تنافي ولا تعارض بينها.

قال سبحانه وتعالى في وصف عباده الأنبياء والمرسلين: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ (الأنبياء: ٩٠).

وقال في معرض الثناء على سائر عباده المؤمنين: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ (السجدة: ١٦).

وهناك مقولة مشهورة عند السلف، وهي قولهم: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف فهو حروري (نسبة إلى حروراء مدينة في العراق وهي موطن الخوارج الأوائل) ، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجيء، ومن عبده بالخوف، والحب، والرجاء فهو مؤمن موحِّد.

١٥- الجمع بين الرحمة واللين والشدة والغلظة: بخلاف غيرهم ممن يأخذ جانباً من هدي السلف ويدع الجانب الآخر، فيأخذون بالشدة في جميع أحوالهم أو باللين في جميع أحوالهم.

أما أهل السنة فيجمعون بين هذا وهذا، وكل في موضعه، حسب ما تقتضيه المصلحة، ومقتضيات الأحوال.

١٦- الجمع بين العقل والعاطفة: فعقولهم راجحة، وعواطفهم صادقة، ومعاييرهم منضبطة، فلم يغلِّبوا جانب العقل على العاطفة، ولا جانب العاطفة على العقل، وإنما جمعوا بينهما على أكمل وجه وأتمه، فمع أن عواطفهم قوية مشبوبة إلا أن تلك العواطف تضبط بالعقل، وذلك العقل يضبط بالشرع﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ (النور: ٣٥).

١٧- العدل: فالعدل من أعظم المميزات لأهل السنة والجماعة، فهم أعدل الناس، وأولاهم بامتثال قول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ﴾ (النساء: ١٣٥) وقوله: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ (الأنعام: ١٥٢).حتى إن الطوائف الأخرى إذا تنازعت احتكمت إلى أهل السنة.

١٨- الأمانة العلمية: فالأمانة زينة العلم، وروحه الذي يجعله زاكي الثمر، لذيذ المطعم، وأهل السنة لهم القِدحُ المعلى في ذلك الشأن.

ومن مظاهر الأمانة العلمية عندهمالأمانة في النقل، والبعد عن التزوير، وقلب الحقائق، وبتر النصوص، وتحريفها، فإذا نقلوا عن مخالف لهم نقلوا كلامه تامّاً، فلا يأخذون منه ما يوافق ما يذهبون إليه، ويدعون ما سواه؛ كي يدينوا المنقول عنه، وإنما ينقلون كلامه تامّاً، فإن كان حقاً أقرّوه، وإن كان باطلاً ردّوه، وإن كان فيه وفيه، قبلوا الحق وردّوا الباطل، كل ذلك بالدليل القاطع، والبرهان الساطع.

ومن مظاهر الأمانة العلمية عندهم أنهم لا يحمّلون الكلام ما لا يحتمل، وأنهم يذكرون ما لهم وما عليهم، وأنهم يرجعون للحق إذا تبيّن، ولا يفتون ولا يقضون إلا بما يعلمون.كما أنهم أحرص الناس على نسبة الكلام إلى قائله، وأبعدهم من نسبته إلى غير قائله.

١٩- الوسطية: قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ (البقرة: ١٤٣) فالوسطية من أعظم ما يتميز به أهل السنة والجماعة.

فكما أن أمة الإسلام وسط بين الأمم التي تجنح إلى الغلو الضار، والأمم التي تميل إلى التفريط المهلكفكذلك أهل السنة والجماعة؛ فهم متوسطون بين فرق الأمة المبتدعة التي انحرفت عن الصراط المستقيم.وتتجلى وسطية أهل السنة والجماعة في شتى الأمور؛ سواء في باب العقيدة، أو الأحكام، أو السلوك، أو الأخلاق، أو غير ذلك.

٢٠- عدم الاختلاف في أصول الاعتقاد: فالسلف الصالح لا يختلفون بحمد الله في أصل من أصول الدين، وقواعد الاعتقاد؛ فقولهم في أسماء الله وصفاته وأفعاله واحد، وقولهم في الإيمان وتعريفه ومسائله واحد، وقولهم في القدر واحد، وهكذا في باقي الأصول.

٢١- ترك الخصومات في الدين، ومجانبة أهل الخصومات: لأن الخصومات مدعاةٌ للفرقة والفتنة، ومجلبةٌ للتعصب واتباع الهوى، ومطيةٌ للانتصار للنفس، والتشفي من الآخرين، وذريعة للقول على الله بغير علم.

أخرج الآجري بسنده عن مسلم بن يسار أنه قال:" إياكم والمراءَ؛ فإنه ساعة جهل العالم، وبها يبتغي الشيطان زلته".

وأخرج أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال: "من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل".

وقال جعفر بن محمد رحمه الله: "إياكم والخصومات؛ فإنه تشغل القلب وتورث النفاق".

٢٢- الحرص على جمع كلمة المسلمين على الحق: فهم حريصون كل الحرص على وحدة المسلمين، ولمِّ شعثهم، وجمع كلمتهم على الحق، وإزالة أسباب النزاع والفرقة بينهم؛ لعلمهم أن الاجتماع رحمة، وأن الفرقة عذاب؛ ولأن اللهعز وجلأمر بالائتلاف، ونهى عن الاختلاف كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران:١٠٢، ١٠٣).

بخلاف الذين يسعون للفرقة بين المسلمين، ويبذرون بذور الشقاق في صفوفهم، فيفرقونهم عند أدنى نازلة، ويحزبونهم ويؤلبون بعضهم على بعض، ويُغرون بعضهم ببعض.

٢٣- سعة الأفق: فهم أوسع الناس أفقاً، وأبعدهم نظراً، وأرحبهم بالخلاف صدراً، وأكثرهم للمعاذير التماساً.

وهم لا يأنفون من سماع الحق، ولا تحرج صدورهم من قبوله، ولا يستنكفون من الرجوع إليه، والأخذ به.

ثم إنهم لا يُلزمون الناس باجتهاداتهم، ولا يضللون كل من خالفهم، ولا تضيق أعطانهم في الأمور الاجتهادية، التي تختلف فيها أفهام الناس.

ومن مظاهر سعة الأفق عندهم بعدهم عن التعصب المقيت، والتقليد الأعمى، والحزبية الضيقة.

٢٤- حسن الخلق: فأهل السنة أحسن الناس خلقاً، وأكثرهم حلماً وسماحة وتواضعاً، وأحرصهم دعوة إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال.

٢٥- هم أهل الدعوة إلى الله: فهم يدعون إلى دين الإسلام، بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ويسلكون في ذلك شتى الطرق المشروعة والمباحة؛ حتى يعرف الناس ربهم، ويعبدوه حق عبادته.

فلا أحد أحرص منهم على هداية الخلق، ولا أحد أرحم منهم بالناس.

٢٦- هم الغرباء: الذين يُصْلحُونَ ما أفسد الناس، ويَصلُحون إذا فسد الناس.

٢٧- هم الفرقة الناجية: التي تنجو من البدع والضلالات في هذه الدنيا، وتنجو من عذاب الله يوم القيامة.

٢٨- وهم الطائفة المنصورة: لأن الله معهم، وهو مؤيدهم وناصرهم.

٢٩- لا يوالون ولا يعادون إلا على أساس الدين: فلا ينتصرون لأنفسهم، ولا يغضبون لها، ولا يوالون لِعُبِّيَّة جاهلية، أو عصبية مذهبية، أو راية حزبية، وإنما يوالون على الدين، فولاؤُهم لله، وبراؤهم لله، ومواقفهم ثابتة، لا تتبدل ولا تتغير.

٣٠- سلامتهم من تكفير بعضهم لبعض: فأهل السنة سالمون من ذلك، فهم يردون على المخالف منهم، ويوضحون الحق للناس، فهم يُخطِّئون، ولا يكفرون، ولا يبدعون، ولا يفسقون إلا من استحق ذلك.

بخلاف غيرهم من الطوائف الأخرى كالخوارج الذي يكثر فيهم الاختلاف والتضليل والتكفير؛ ولهذا تجدهم يكفر بعضهم بعضاً عند أقل نازلة تنزل بهم من دقائق الفتيا وصغارها.

٣١- سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب الرسول": فقلوبهم عامرة بحبهم، وألسنتهم تلهج بالثناء عليهم، فأهل السنة يرون أن الصحابة خير القرون؛ لأن الله عز وجل زكاهم وكذلك رسوله".

٣٢- سلامتهم من الحيرة والاضطراب، والتخبط والتناقض: فأهل السنة والجماعة أكثر الناس رضاً ويقيناً، وطمأنينة، وإيماناً، وأبعدهم عن الحيرة والاضطراب، والتخبط والتناقض حتى إنه ليوجد عند عوام أهل السنة من بَرْدِ اليقين، وحسن المعتقد، والبعد عن الحيرة ما لا يوجد عند علماء الطوائف الأخرى، وحُذَّاقهم من أهل الكلام وغيرهم، ممن اضطربوا في تقرير عقائدهم فحاروا وحيروا، وتعبوا وأتعبوا.

ومما يدل على حيرتهم ما جاء على ألسنة حُذَّاق أهل الكلام الذي بلغوا الغاية فيه فلم يرجعوا بفائدة، ولم يعودوا بعائدة، فهذا الرازي أحد أكابر علم الكلام ينوح على نفسه ويبكي عليها قائلاً:

نهايةُ إقدام العقول عِقالُ **** وغاية سعي العالمين ضلال

 وأرواحنا في وحشة من جسومنا **** وغايةُ دنيانا أذىً ووبال

 ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا **** سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

 وكم قد رأينا من رجال ودولة **** فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا

 وكم من جبال قد علت شرفاتها **** رجال فزالوا والجبال جبال

 ومنهم الشهرستاني الذي قال:

لعمري لقد طفت المعاهد كلها **** وقلَّبت طرفي بين تلك المعالم

 فلم أر إلا واضعاً كفَّ حائرٍ **** على ذَقَنٍ أو قارعاً سنَّ نادم

 ومن الذين خاضوا في علم الكلام وندموا على ذلك: الجويني، والغزالي، والخسروشاهي، وغيرهم.

هذا هو شأن من ضل من أهل الفرق الإسلامية.

أما الكفار الذين تنكبوا الصراط المستقيم من الملاحدة وغيرهم فلا تسل عن بؤسهم وشقائهم فهم يعيشون أدنى دركات الشقاء والنكد، فلقد سلبوا الأمن، وشاعت فيهم الأمراض النفسية والعصبية، وكثر فيهم الرعب، وانتشر فيهم الانتحار والرغبة في التخلص من الحياة.

فها هو الفيلسوف الألماني المشهور فريدريك نيتشه بعد أن ألغى من فكره عقيدة الإيمان بالله، ها هو يعرب عن دخيلة نفسه، وما يعانيه من عذاب وشقاء فيقول: "إنني أعلم جيد العلم لماذا كان الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يضحك؛ لأنه هو الذي يعاني أشد العناء، فاضطره ذلك أن يخترع الضحك".

وهذا الفيلسوف الفرنسي الملحد الوجودي اليهودي "جان بول سارتر" عندما كفر بالله، واليوم الآخر أصبح ينظر إلى الحياة من منظوره الوجودي، فلا يرى الوجود كله إلا من دوائر القلق، والمتاعب، والغثيان، والآلام.

وكتب في ذلك جملة قصص ومسرحيات ضمنها آراءه الفلسفية الوجودية.

وحين حضره الموت سأله من كان عنده: تُرى إلى أين قادك مذهبك؟ فأجاب في أسىً عميقٍ ملؤه الندم ، إلى هزيمة كاملة.

أين هؤلاء من أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيزرحمه الله تعالىإذ يقول: " أصبحت ومالي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر".

وأين هم من شيخ الإسلام ابن تيميةرحمه الله تعالىعندما اقتيد إلى السجن فقال كلمته المشهورة "ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني؛ أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة".

٣٣- التثبت في الأخبار، وعدم التسرع في إطلاق الأحكام: بخلاف الذين يسارعون في إطلاق الأحكام، ويتهافتون على إلصاق التهم بالأبرياء، فَيُفَسِّقُون، ويبدعون، ويكفرون بالتهمة والظنة، من غير ما برهان أو بينة.

٣٤- حصول البشرى عند الممات: وذلك لإيمانهم بالله، واستقامتهم على أمره، قالتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلَاّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ (فصلت: ٣٠).

٣٥- مضاعفة الحسنات، ورفعة الدرجات: فمن أسباب مضاعفة الحسنات، ورفعة الدرجاتبل هو أساسها وأصلهاصحةُ العقيدة، وقوة الإيمان.

وأهل السنة والجماعة أصح الناس عقيدةً، وأقواهم إيماناً؛ ولذلك فأعمالهم تضاعف مضاعفة كبيرة، ودرجاتهم ترفع وتعلو عُلواً لا يدانيه أحد، ولا يشاركهم فيه إلا من كان على مثل ما هم عليه من العقيدة والإيمان.

ولهذا كان السلف يقولون:" أهل السنة والجماعة إن قعدت بهم أعمالهمقامت بهم عقائدهم، وأهل البدع إن كثرت أعمالهم قعدت بهم عقائدهم".

هذه مآثر أهل السنة والجماعة، وهذه بعض خصائصهم التي تميزوا بها على غيرهم، وتلك هي الخصال التي طبقها سلفنا الصالحرحمهم الله ورضي عنهمفنالوا الخيرات، وحصلوا على البركات.

وليس معنى ذلك أن أهل السنة معصومون؟ لا، بل إن منهجهم هو المعصوم، وجماعتهم هي المعصومة.

أما آحادهم فقد يقع منه الظلم والبغي، والعدوان، وارتكاب المخالفات.

ولكن ذلك قليل بالنسبة إلى غيرهم، ولا يُقَرُّ من فعل ذلك منهم، بل يبتعد عن السنة بقدر مخالفته.

ثم إن ما عند أهل السنة من مخالفات وأخطاء فعند غيرهم أكثر مما عندهم، وما عند غيرهم من فضل وعلم وكمال فعند أهل السنة أكمله وأتمه.

فما أجدرنا معاشر المسلمين أن نأخذ بمنهج أهل السنة، وأن نوطن أنفسنا على ذلك، وما أحرانانحن أهل السنة أن نقوم بالسنة حق القيام، وأن نقتدي بسلفنا الصالح في كل أمورنا؛ لنرضي ربناجل وعلاولنعطي صورة مشرقة عن الإسلام الصحيح النقي؛ ليقبل الناس عليه، ويحرصوا على الدخول فيه، ولئلا نصبح فتنة لغيرنا من الكفار والمبتدعة، فإذا رأوا ما عليه بعض أهل السنة من بعد عن المنهج قالوا: إذا كان خاصة المؤمنين بهذه المثابة فلا لوم علينا ولا تثريب، وبذلك تندرس معالم الحق، وتنطمس أنوار الهدى.

 توحيد الأسماء والصفات:

 قواعد في أسماء الله تعالى:

 ‌‌القاعدة الأولى: أسماء الله تعالى كلها حسنى:

أي: بالغة في الحسن غايته، قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾‏‏ ، وذلك لأنها متضمنة لصفات كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه، لا احتمالاً ولا تقديرًا.

مثال ذلك: "الحي" اسم من أسماء الله تعالى، متضمن للحياة الكاملة التي لم تسبق بعدم ولا يلحقها زوال. الحياة المستلزمة لكمال الصفات من العلم والقدرة والسمع والبصر وغيرها.

ومثال آخر: "العليم" اسم من أسماء الله، متضمن للعلم الكامل الذي لم يسبق بجهل ولا يلحقه نسيان، قال الله تعالى: ﴿عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى﴾‏‏ ، العلم الواسع المحيط بكل شيء جملة وتفصيلا، سواء ما يتعلق بأفعاله أو أفعال خلقه، قال الله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾‏‏ ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾‏‏ ﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾‏‏.

والحُسْنُ في أسماء الله تعالى يكون باعتبار كل اسم على انفراده، ويكون باعتبار جمعه إلى غيره، فيحصل بجمع الاسم إلى الآخر كمال فوق كمال.

مثال ذلك: "العزيز الحكيم" فإن الله تعالى يجمع بينهما في القرآن كثيرًا. فيكون كل منهما دالا على الكمال الخاص الذي يقتضيه، وهو العزة في العزيز، والحكم والحكمة في الحكيم. والجمع بينهما دال على كمال آخر، وهو أن عزته تعالى مقرونة بالحكمة، فعزته لا تقتضي ظلما وجورًا وسوء فعل، كما قد يكون من أعزاء المخلوقين، فإن العزيز منهم قد تأخذه العزة بالإثم فيظلم ويجور ويسئ التصرف. وكذلك حكمه تعالى وحكمته مقرونان بالعز الكامل، بخلاف حكم المخلوق وحكمته فإنهما يعتريهما الذل.

 ‌‌القاعدة الثانية:أسماء الله تعالى أعلام وأوصاف:

أعلام باعتبار دلالتها على الذات، وأوصاف باعتبار ما دلت عليه من المعاني، وهى بالاعتبار الأول مترادفة لدلالتها على مسمى واحد، وهو الله عز وجل، وبالاعتبار الثاني متباينة، لدلالة كل واحد منهما على معناه الخاص.

ف "الحي، العليم، القدير، السميع، البصير، الرحمن، الرحيم، العزيز، الحكيم" كلها أسماء لمسمى واحد وهو الله سبحانه وتعالى، لكن معنى الحي غير معنى العليم، ومعنى العليم غير معنى القدير، وهكذا.

وإنما قلنا بأنها أعلام وأوصاف لدلالة القرآن عليها، كما في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾‏‏ ، وقوله: ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ﴾‏‏ ، فإن الآية الثانية دلت على أن الرحيم هو المتصف بالرحمة. ولإجماع أهل اللغة والعرف أنه لا يقال: عليم إلا لمن علم، ولا سميع إلا لمن سمع، ولا بصير إلا لمن له بصر. وهذا أمر أبين من أن يحتاج إلى دليل.

وبهذا علم ضلال من سلبوا أسماء الله تعالى معانيها من أهل التعطيل، وقالوا: إن الله تعالى سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وعزيز بلا عزة، وهكذا. وعللوا ذلك بأن ثبوت الصفات يستلزم تعدد القدماء. وهذه العلة عليلة، بل ميتة لدلالة السمع (السمع هو القرآن والسنة) والعقل على بطلانها.

أما السمع فلأن الله تعالى وصف نفسه بأوصاف كثيرة مع أنه الواحد الأحد. فقال تعالى: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾‏‏. وقال تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى﴾‏‏ ففي هذه الآيات الكريمة أوصاف كثيرة لموصوف واحد، ولم يلزم من ثبوتها تعدد القدماء.

وأما العقل: فلأن الصفات ليست ذوات بائنة من الموصوف حتى يلزم من ثبوتها التعدد، وإنما هي من صفات من اتصف بها فهي قائمة به، وكل موجود فلا بد له من تعدد صفاته، ففيه صفة الوجود، وكونه واجب الوجود أو ممكن الوجود، وكونه عينا قائما بنفسه أو وصفا في غيره

 ‌‌القاعدة الثالثة: أسماء الله تعالى إن دلت على وصف متعدٍّ تضمنت ثلاثة أمور:

أحدها: ثبوت ذلك الاسم لله عز وجل.

الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله عز وجل.

الثالث: ثبوت حكمها ومقتضاها.

مثال ذلك: "السميع" يتضمن إثبات السميع اسما لله تعالى، وإثبات السمع صفة له، وإثبات حكم ذلك ومقتضاه، وهو أنه يسمع السر والنجوى، كما قال تعالى ﴿وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾‏‏.

وإن دلت على وصف غير متعدٍّ تضمنت أمرين:

أحدهما: ثبوت ذلك الاسم لله عز وجل.

الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله عز وجل.

مثال ذلك: "الحي" يتضمن إثبات الحي اسما لله عز وجل وإثبات الحياة صفة له.

 ‌‌القاعدة الرابعة: دلالة أسماء الله تعالى على ذاته وصفاته تكون بالمطابقة، وبالتضمن، وبالالتزام.

مثال ذلك: "الخالق" يدل على ذات الله، وعلى صفة الخلق بالمطابقة، ويدل على الذات وحدها وعلى صفة الخلق وحدها بالتضمن، ويدل على صفتي العلم والقدرة بالالتزام.

ولهذا لما ذكر الله خلق السماوات والأرض قال: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً﴾‏‏.

 ‌‌القاعدة الخامسة: أسماء الله تعالى توقيفية لا مجال للعقل فيها:

وعلى هذا فيجب الوقوف فيها على ما جاء به الكتاب والسنة، فلا يزاد فيها ولا ينقص، لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه تعالى من الأسماء، فوجب الوقوف في ذلك على النص، لقوله تعالى: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾‏‏ وقوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾‏‏ ، ولأن تسميته تعالى بما لم يُسَمِّ به نفسه أو إنكار ما سمى به نفسه جناية في حقه تعالى، فوجب سلوك الأدب في ذلك، والاقتصار على ما جاء به النص.

 ‌‌القاعدة السادسة:أسماء الله تعالى غير محصورة بعدد معين:

لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: " أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك" الحديث، رواه أحمد وابن حبان والحاكم، وهو صحيح.

وما استأثر الله تعالى به في علم الغيب لا يمكن أحدًا حصره ولا الإحاطة به.

فأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدًا، من أحصاها (أي حفظها لفظا، وفهمها معنىً، وتمامه: أن يتعبد لله تعالى بمقتضاها) دخل الجنة" فلا يدل على حصر الأسماء بهذا العدد، ولو كان المراد الحصر لكانت العبارة: إن أسماء الله تسعة وتسعون اسما، من أحصاها دخل الجنة، أو نحو ذلك.

إذًا فمعنى الحديث: أن هذا العدد من شأنه أن من أحصاه دخل الجنة. وعلى هذا فيكون قوله: "من أحصاها دخل الجنة" جملة مكملة لما قبلها وليست مستقلة. ونظير هذا أن تقول: عندي مائة درهم أعددتها للصدقة، فإنه لا يمنع أن يكون عندك دراهم أخرى لم تعدها للصدقة.

ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم تعيين هذه الأسماء، والحديث المروي عنه في تعيينها ضعيف.

قال شيخ الإسلام ابن تيميه في الفتاوى (ص ٣٨٢، ج ٦) من مجموع ابن قاسم: (تعيينها ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل المعرفة بحديثه) وقال قبل ذلك (ص ٣٧٩): (إن الوليد ذكرها عن بعض شيوخه الشاميين، كما جاء مفسرًا في بعض طرق حديثه) اهـ. وقال ابن حجر في"فتح الباري" (ص ٢١٥، ج ١١، ط السلفية): (ليست العلة عند الشيخين [البخاري ومسلم] تفرد الوليد فقط، بل الاختلاف فيه والاضطراب، وتدليسه، واحتمال الإدراج) اهـ.

ومن أسماء الله تعالى ما يكون مضافا مثل: مالك الملك، ذي الجلال والإكرام.

 ‌‌‌‌القاعدة السابعة: الإلحاد في أسماء الله تعالى هو الميل بها عما يجب فيها:

وهو أنواع:

الأول: أن ينكر شيئا منها أو مما دلت عليه من الصفات والأحكام، كما فعل أهل التعطيل من الجهمية وغيرهم. وإنما كان ذلك إلحادا لوجوب الإيمان بها وبما دلت عليه من الأحكام والصفات اللائقة بالله، فإنكار شيء من ذلك ميل بها عما يجب فيها.

الثاني: أن يجعلها دالة على صفات تشابه صفات المخلوقين، كما فعل أهل التشبيه، وذلك لأن التشبيه معنى باطل لا يمكن أن تدل عليه النصوص، بل هي دالة على بطلانه، فجعلها دالة عليه ميل بها عما يجب فيها.

الثالث: أن يسمى الله تعالى بما لم يسم به نفسه، كتسمية النصارى له: (الأب) ، وتسمية الفلاسفة إياه (العلة الفاعلة) ، وذلك لأن أسماء الله تعالى توقيفية، فتسمية الله تعالى بما لم يسم به نفسه ميل بها عما يجب فيها، كما أن هذه الأسماء التي سموه بها نفسها باطلة، ينزه الله تعالى عنها.

الرابع: أن يشتق من أسمائه أسماء للأصنام، كما فعل المشركون في اشتقاق العزى من العزيز، واشتقاق اللات من الإله على أحد القولين، فسموا بها أصنامهم، وذلك لأن أسماء الله تعالى مختصة به، لقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾‏‏ ، وقوله: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾‏‏ وقوله: ﴿لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾‏‏ فكما اختص بالعبادة وبالألوهية الحقة، وبأنه يسبح له ما في السماوات والأرض، فهو مختص بالأسماء الحسنى، فتسمية غيره بها على الوجه الذي يختص بالله عز وجل ميل بها عما يجب فيها.

والإلحاد بجميع أنواعه محرم، لأن الله تعالى هَدَّدَ الملحدين بقوله: ﴿وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾‏‏ ومنه ما يكون شركا أو كفرًا حسبما تقتضيه الأدلة الشرعية.

 توحيد الأسماء والصفات:

 قواعد في صفات الله تعالى:

القاعدة الأولى: صفات الله تعالى كلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه كالحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والرحمة، والعزة، والحكمة، والعلو، والعظمة، وغير ذلك. وقد دل على هذا: السمع والعقل والفطرة.

أما السمع: فمنه قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾‏‏ والمثل الأعلى: هو الوصف الأعلى.

وأما العقل: فوجهه أن كل موجود حقيقة فلا بد أن تكون له صفة إما صفة كمال وإما صفة نقص، والثاني باطل بالنسبة إلى الرب الكامل المستحق للعبادة، ولهذا أظهر الله تعالى بطلان ألوهية الأصنام باتصافها بالنقص والعجز، فقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ﴾‏‏ ، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾‏‏ ، وقال عن إبراهيم وهو يحتج على أبيه: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً﴾‏‏ ، وعلى قومه: ﴿أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾‏‏.

ثم إنه قد ثبت بالحس والمشاهدة: أن للمخلوق صفات كمال، وهى من الله تعالى، فمعطي الكمال أولى به.

وأما الفطرة: فلأن النفوس السليمة مجبولة مفطورة على محبة الله وتعظيمه، وهل تُحِب وتُعَظِّم وتَعْبُد إلا من علمت أنه متصف بصفات الكمال اللائقة بربوبيته وألوهيته؟

وإذا كانت الصفة نقصا لا كمال فيها فهي ممتنعة في حق الله تعالى، كالموت، والجهل، والنسيان، والعجز، والعمى، والصمم، ونحوها، لقوله تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾‏‏ ، وقوله عن موسى ﴿فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى﴾‏‏ ، وقوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْض﴾‏‏ ، وقوله: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾‏‏. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الدجال: "إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور"، وقال: "أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا". [متفق عليه]

وقد عاقب الله تعالى الواصفين له بالنقص، كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾‏‏ ، وقوله: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾‏‏.

ونزّه نفسه عما يصفون به من النقائص، فقال سبحانه: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾‏‏ ، وقال تعالى: ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾‏‏.

وإذا كانت الصفة كمالاً في حال، ونقصا في حال لم تكن جائزة في حق الله، ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق، فلا تُثْبَت له إثباتا مطلقا، ولا تُنْفَى عنه نفيا مطلقا، بل لا بد من التفصيل، فتجوز في الحال التي تكون كمالاً، وتمتنع في الحال التي تكون نقصا، وذلك كالمكر، والكيد، والخداع، ونحوها، فهذه الصفات تكون كمالاً إذا كانت في مقابلة من يعاملون الفاعل بمثلها، لأنها حينئذٍ تدل على أن فاعلها قادر على مقابلة عدوه بمثل فعله، أو أشد، وتكون نقصا في غير هذه الحال، ولهذا لم يذكرها الله تعالى من صفاته على سبيل الإطلاق، وإنما ذكرها في مقابلة من يعاملونه ورسله بمثلها، كقوله تعالى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾‏‏ وقوله: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً﴾‏‏ ، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾‏‏ وقوله: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾‏‏ وقوله: ﴿قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾‏‏.

ولهذا لم يذكر الله أنه خان من خانوه، فقال تعالى: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾‏‏ فقال: فأمكن منهم، ولم يقل: فخانهم. لأن الخيانة خدعة في مقام الائتمان، وهى صفة ذم مطلقا.

‌‌القاعدة الثانية: باب الصفات أوسع من باب الأسماء وذلك: لأن كل اسم متضمن لصفة، ولأن من الصفات ما يتعلق بأفعال الله تعالى، وأفعاله لا منتهى لها، كما أن أقواله لا منتهى لها، قال الله تعالى ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾‏‏.

ومن أمثلة ذلك: أن من صفات الله تعالى: المجيء، والإتيان، والأخذ، والإمساك، والبطش، إلى غير ذلك من الصفات التي لا تحصى، كما قال تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾‏‏ ، وقال: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾‏‏ ، وقال: ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾‏‏ ، وقال: ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاّ بِإِذْنِهِ﴾‏‏ ، وقال: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾‏‏ ، وقال: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾‏‏. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا".

فنصف الله تعالى بهذه الصفات على الوجه الوارد، ولا نسميه بها، فلا نقول: إن من أسمائه الجائي، والآتي، والآخذ، والممسك، والباطش، والمريد، والنازل، ونحو ذلك، وإن كنا نخبر بذلك عنه ونصفه به.

 ‌‌القاعدة الثالثة: صفات الله تعالى تنقسم إلى قسمين: ثبوتية، وسلبية.

فالثبوتية: ما أثبت الله تعالى لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، كالحياة، والعلم، والقدرة، والاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والوجه، واليدين، ونحو ذلك.

فيجب إثباتها لله تعالى حقيقة على الوجه اللائق به، بدليل السمع والعقل.

أما السمع: فمنه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً﴾‏‏ فالإيمان بالله يتضمن: الإيمان بصفاته، والإيمان بالكتاب الذي نزل على رسوله صلى الله عليه وسلم يتضمن: الإيمان بكل ما جاء فيه من صفات الله، وكون محمد صلى الله عليه وسلم رسوله يتضمن: الإيمان بكل ما أخبر به عن مرسله، وهو الله عز وجل.

وأما العقل: فلأن الله تعالى أخبر بها عن نفسه، وهو أعلم بها من غيره، وأصدق قيلاً، وأحسن حديثا من غيره، فوجب إثباتها له كما أخبر بها من غير تردد، فإن التردد في الخبر إنما يتأتى حين يكون الخبر صادرًا ممن يجوز عليه الجهل أو الكذب أو العيّ، بحيث لا يفصح بما يريد، وكل هذه العيوب الثلاثة ممتنعة في حق الله عز وجل، فوجب قبول خبره على ما أخبر به.

وهكذا نقول فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بربه، وأصدقهم خبرًا، وأنصحهم إرادة، وأفصحهم بيانا، فوجب قبول ما أخبر به على ما هو عليه.

والصفات السلبية: ما نفاها الله سبحانه عن نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلها صفات نقص في حقه، كالموت، والنوم، والجهل، والنسيان، والعجز، والتعب. فيجب نفيها عن الله تعالى لما سبق مع إثبات ضدها على الوجه الأكمل، وذلك لأن ما نفاه الله تعالى عن نفسه فالمراد به بيان انتفائه لثبوت كمال ضده لا لمجرد نفيه، لأن النفي ليس بكمال إلا أن يتضمن ما يدل على الكمال، وذلك لأن النفي عدم، والعدم ليس بشيء فضلاً عن أن يكون كمالاً، ولأن النفي قد يكون لعدم قابلية المحل له فلا يكون كمالاً، كما لو قلت: الجدار لا يظلم. وقد يكون للعجز عن القيام به فيكون نقصا، كما في قول الشاعر:

قُبَيِّلَةٌ لا يغدرون بذمّة... ولا يظلمون الناس حبة خردل

وقول الآخر:

لكن قومي وإن كانوا ذوي حسب... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا

مثال ذلك: قوله تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾‏‏ ، فنفي الموت عنه يتضمن كمال حياته.

مثال آخر قوله تعالى: ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾‏‏ نفي الظلم عنه يتضمن كمال عدله.

مثال ثالث: قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْض﴾‏‏ فنفي العجز عنه يتضمن كمال علمه وقدرته، ولهذا قال بعده: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً﴾‏‏ ، لأن العجز سببه: إما الجهل بأسباب الإيجاد، وإما قصور القدرة عنه، فلكمال علم الله تعالى وقدرته لم يكن ليعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض.

وبهذا المثال علمنا أن الصفة السلبية قد تتضمن أكثر من كمال.

‌‌القاعدة الرابعة: الصفات الثبوتية صفات مدح وكمال فكلما كثرت وتنوعت دلالاتها ظهر من كمال الموصوف بها ما هو أكثر، ولهذا كانت الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر بكثير من الصفات السلبية كما هو معلوم.

أما الصفات السلبية فلم تذكر غالبا إلا في الأحوال التالية:

الأولى: بيان عموم كماله، كما في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾‏‏ ، ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾‏‏.

الثانية: نفي ما ادعاه في حقه الكاذبون، كما في قوله: ﴿أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً﴾‏‏.

الثالثة: دفع توهم نقص من كماله فيما يتعلق بهذا الأمر المعيّن، كما في قوله: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ﴾‏‏ ، وقوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾‏‏.

 ‌‌القاعدة الخامسة: الصفات الثبوتية تنقسم إلى قسمين: ذاتية، وفعلية.

فالذاتية: هي التي لم يزل ولا يزال متصفا بها، كالعلم والقدرة والسمع والبصر والعزة والحكمة والعلو والعظمة. ومنها الصفات الخبرية: كالوجه واليدين والعينين.

والفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته، إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها، كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا.

وقد تكون الصفة ذاتية فعلية باعتبارين كالكلام، فإنه باعتبار أصله صفة ذاتية، لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال متكلما، وباعتبار آحاد الكلام صفة فعلية، لأن الكلام يتعلق بمشيئته، يتكلم متى شاء بما شاء، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾‏‏. وكل صفة تعلقت بمشيئته تعالى فإنها تابعة لحكمته.

وقد تكون الحكمة معلومة لنا، وقد نعجز عن إدراكها، ولكننا نعلم علم اليقين أنه سبحانه لا يشاء شيئا إلا وهو موافق للحكمة، كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾‏‏.

 ‌‌القاعدة السادسة: يلزم في إثبات الصفات التخلي عن محذورين عظيمين:

أحدهما: التمثيل

والثاني: التكييف.

فأما التمثيل: فهو اعتقاد المثبت أن ما أثبته من صفات الله تعالى مماثل لصفات المخلوقين. وهذا اعتقاد باطل بدليل السمع والعقل.

أما السمع: فمنه قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾‏‏ ، وقوله: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾‏‏ ، وقوله: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً﴾‏‏ ، وقوله: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾‏‏.

وأما العقل فمن وجوه:

الأول: أنه قد علم بالضرورة أن بين الخالق والمخلوق تباينا في الذات، وهذا يستلزم أن يكون بينهما تباين في الصفات، لأن صفة كل موصوف تليق به، كما هو ظاهر في صفات المخلوقات المتباينة في الذوات، فقوة البعير مثلاً غير قوة الذرّة، فإذا ظهر التباين بين المخلوقات مع اشتراكها في الإمكان والحدوث فظهور التباين بينها وبين الخالق أجلى وأقوى.

الثاني: أن يقال: كيف يكون الرب الخالق الكامل من جميع الوجوه مشابها في صفاته للمخلوق المربوب الناقص المفتقر إلى من يُكَمِّله؟، وهل اعتقاد ذلك إلا تنقص لحق الخالق، فإن تشبيه الكامل بالناقص يجعله ناقصا.

الثالث: أننا نشاهد في المخلوقات ما يتفق في الأسماء ويختلف في الحقيقة والكيفية، فنشاهد أن للإنسان يدًا ليست كيد الفيل، وله قوة ليست كقوة الجمل، مع الاتفاق في الاسم. فهذه يد وهذه يد، وهذه قوة وهذه قوة، وبينهما تباين في الكيفية والوصف، فعلم بذلك أن الاتفاق في الاسم لا يلزم منه الاتفاق في الحقيقة.

والتشبيه كالتمثيل، وقد يفرق بينهما بأن التمثيل التسوية في كل الصفات، والتشبيه التسوية في أكثر الصفات، لكن التعبير بنفي التمثيل أولى لموافقة القرآن: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾‏‏.

وأما التكييف: فهو أن يعتقد المثبت أن كيفية صفات الله تعالى كذا وكذا، من غير أن يقيدها بمماثل. وهذا اعتقاد باطل بدليل السمع والعقل.

أما السمع: فمنه قوله تعالى: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً﴾‏‏ ، وقوله: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾‏‏ ، ومن المعلوم أنه لا علم لنا بكيفية صفات ربنا، لأنه تعالى أخبرنا عنها ولم يخبرنا عن كيفيتها، فيكون تكييفنا قفوًا لما ليس لنا به علم، وقولاً بما لا يمكننا الإحاطة به.

وأما العقل: فلأن الشيء لا تعرف كيفية صفاته إلا بعد العلم بكيفية ذاته، أو العلم بنظيره المساوي له، أو بالخبر الصادق عنه. وكل هذه الطرق منتفية في كيفية صفات الله عز وجل، فوجب بطلان تكييفها.

وأيضا فإننا نقول: أيُّ كيفية تقدرها لصفات الله تعالى؟.

إن أيَّ كيفية تقدرها في ذهنك فالله أعظم وأجل من ذلك.

وأيَّ كيفية تقدرها لصفات الله تعالى فإنك ستكون كاذبا فيها، لأنه لا علم لك بذلك.

وحينئذ يجب الكف عن التكييف تقديرًا بالجنان، أو تقريرًا باللسان وتحريرًا بالبنان.

ولهذا لما سئل مالك رحمه الله تعالى عن قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾‏‏ كيف استوى؟، أطرق رحمه الله برأسه حتى علاه الرحضاء (العرق) ثم قال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) ، ورُوِيَ عن شيخه ربيعة أيضا: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول). وقد مشى أهل العلم بعدهما على هذا الميزان. وإذا كان الكيف غير معقول ولم يرد به الشرع، فقد انتفى عنه الدليلان العقلي والشرعي، فوجب الكف عنه.

فالحذر الحذر من التكييف أو محاولته، فإنك إن فعلت وقعت في مفاوز لا تستطيع الخلاص منها، وإن ألقاه الشيطان في قلبك فاعلم أنه من نزغاته، فالجأ إلى ربك فإنه معاذك، وافعل ما أمرك به فإنه طبيبك، قال الله تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾‏‏.

‌‌القاعدة السابعة: صفات الله تعالى توقيفية لا مجال للعقل فيها فلا نثبت لله تعالى من الصفات إلا ما دل الكتاب والسنة على ثبوته، ولا يستقل العقل بإثبات شيءٍ من الصفات بحيث يقال: هذه الصفة ثبتت بالعقل، ولم يدلَّ عليها السمع، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: (لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يتجاوز القرآن والحديث).

 ولدلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفة ثلاثة أوجه:

الأول: التصريح بالصفة، كالعزة والقوة والرحمة والبطش والوجه واليدين، ونحوها.

الثاني: تضمن الاسم لها، مثل: الغفور متضمن للمغفرة، والسميع متضمن للسمع، ونحو ذلك. انظر: القاعدة الثالثة في الأسماء.

الثالث: التصريح بفعل أو وصف دال عليها، كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين العباد يوم القيامة، والانتقام من المجرمين، الدال عليها على الترتيب قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾‏‏ ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا" الحديث.

وقول الله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً﴾‏‏ ، وقوله: ﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾‏‏.

 التوحيد:

 قواعد في أدلة الأسماء والصفات:

‌‌القاعدة الأولى: الأدلة التي تثبت بها أسماء الله تعالى وصفاته هي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تثبت أسماء الله وصفاته بغيرهما.

وعلى هذا: فما ورد إثباته لله تعالى من ذلك في الكتاب والسنة وجب إثباته.

وما ورد نفيه فيهما وجب نفيه مع إثبات كمال ضده.

وما لم يرد إثباته ولا نفيه فيهما وجب التوقف في لفظه، فلا يثبت ولا ينفى، لعدم ورود الإثبات والنفي فيه.

وأما معناه: فيفصل فيه؛ فإن أريد به حقٌ يليق بالله تعالى فهو مقبول، وإن أريد به معنىً لا يليق بالله عز وجل وجب ردّه.

فمما ورد إثباته لله تعالى: كل صفة دل عليها اسم من أسماء الله تعالى دلالة مطابقة أو تضمن أو التزام.

ومنه كل صفة دل عليها فعل من أفعاله، كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين عباده يوم القيامة، ونحو ذلك من أفعاله التي لا تحصى أنواعها، فضلاً عن أفرادها ﴿وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾‏‏.

- ومنه: الوجه والعينان واليدان ونحوها.

- ومنه: الكلام والمشيئة والإرادة بقسميها الكوني والشرعي.

- فالكونية: بمعنى المشيئة. والشرعية: بمعنى المحبة.

- ومنه: الرضا والمحبة والغضب والكراهة ونحوها.

ومما ورد نفيه عن الله سبحانه لانتفائه وثبوت كمال ضده:الموت والنوم والسِّنَة والعجز والإعياء والظلم والغفلة عن أعمال العباد، وأن يكون له مثيل أوكفؤٌ، أو نحو ذلك.

ومما لم يرد إثباته ولا نفيه لفظ: (الجهة) ، فلو سأل سائل: هل نثبت لله تعالى جهة؟، قلنا له: لفظ الجهة لم يرد في الكتاب والسنة إثباتا ولا نفيا، ويُغني عنه ما ثبت فيهما من أن الله تعالى في السماء وأما معناه فإما أن يراد به جهة سفل أو جهة علو تحيط بالله، أو جهة علو لا تحيط به.

فالأول: باطل، لمنافاته لعلو الله تعالى الثابت بالكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع.

والثاني: باطل أيضا، لأن الله تعالى أعظم من أن يحيط به شئ من مخلوقاته.

والثالث: حق، لأن الله تعالى العلي فوق خلقه ولا يحيط به شئ من مخلوقاته.

ودليل هذه القاعدة السمع والعقل.

فأما السمع: فمنه قوله تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾‏‏ ، وقوله: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُوَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾‏‏ ، وقوله: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾‏‏ ، وقوله: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ﴾‏‏إلى غير ذلك من النصوص الدالة على وجوب الإيمان بما جاء في القرآن والسنة.

وكل نص يدل على وجوب الإيمان بما جاء في القرآن فهو دال على وجوب الإيمان بما جاء في السنة، لأن مما جاء في القرآن الأمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم والرد إليه عند التنازع. والرد إليه يكون إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته.

ولقد قال الله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ﴾‏‏ ، ومن المعلوم أن كثيرًا من أمور الشريعة العلمية والعملية جاء بيانها بالسنة فيكون بيانها بالسنة من تبيان القرآن.

وأما العقل فنقول: إن تفصيل القول فيما يجب أو يمتنع أو يجوز في حق الله تعالى من أمور الغيب التي لا يمكن إدراكها بالعقل، فوجب الرجوع فيه إلى ما جاء في الكتاب والسنة.

‌‌القاعدة الثانية: الواجب في نصوص القرآن والسنة إجراؤها على ظاهرها دون تحريف، لا سيما نصوص الصفات، حيث لا مجال للرأي فيها.

ودليل ذلك: السمع والعقل.

أما السمع: فقوله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾‏‏ ، وقوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾‏‏ ، وقوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾‏‏ ، وهذا يدل على وجوب فهمه على ما يقتضيه ظاهره باللسان العربي إلا أن يمنع منه دليل شرعي.

وقد ذم الله تعالى اليهود على تحريفهم، وبين أنهم بتحريفهم من أبعد الناس عن الإيمان، فقال: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾‏‏ وقال تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾‏‏ الآية.

وأما العقل: فلأن المتكلم بهذه النصوص أعلم بمراده من غيره، وقد خاطبنا باللسان العربي المبين، فوجب قبوله على ظاهره، وإلا لاختلفت الآراء وتفرقت الأمة.

‌‌القاعدة الثالثة: ظواهر نصوص الصفات معلومة لنا باعتبار ومجهولة لنا باعتبار آخر، فباعتبار المعنى هي معلومة. وباعتبار الكيفية التي هي عليها مجهولة.

وقد دل على ذلك السمع والعقل.

أما السمع: فمنه قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ﴾‏‏ ، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾‏‏ ، وقوله جل ذكره: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾‏‏. والتدبر لا يكون إلا فيما يمكن الوصول إلى فهمه ليتذكر الإنسان بما فهمه منه.

وكون القرآن عربيا ليعقله من يفهم العربية، يدل على أن معناه معلوم، وإلا لما كان فرق بين أن يكون باللغة العربية أو غيرها.

وبيان النبي صلى الله عليه وسلم القرآن للناس شامل لبيان لفظه وبيان معناه.

وأما العقل: فلأن من المحال أن يُنَزِّل الله تعالى كتابا، أو يتكلم رسوله صلى الله عليه وسلم بكلام (يقصد بهذا الكتاب وهذا الكلام أن يكون هداية للخلق) ، ويبقى في أعظم الأمور وأشدها ضرورة مجهول المعني، بمنزلة الحروف الهجائية التي لا يفهم منها شيء، لأن ذلك من السفه الذي تأباه حكمة الله تعالى، وقد قال الله تعالى عن كتابه: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾‏‏.

هذه دلالة السمع والعقل على علمنا بمعاني نصوص الصفات.

وأما دلالتهما على جهلنا لها باعتبار الكيفية فقد ذكرت في القاعدة السادسة من قواعد الصفات.

وبهذا علم بطلان مذهب المفوضة الذين يفوضون علم معاني نصوص الصفات، ويَدَّعون أن هذا مذهب السلف. والسلف بريئون من هذا المذهب، وقد تواترت الأقوال عنهم بإثبات المعاني لهذه النصوص إجمالاً أحيانا، وتفصيلا أحيانا، وتفويضهم الكيفية إلى علم الله عز وجل.

قال شيخ الإسلام ابن تيميه في كتابه المعروف بـ"درء تعارض العقل والنقل" (1/201) "وأما التفويض فمن المعلوم أن الله أمرنا بتدبر القرآن، وحضنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله) إلى أن قال (204): (وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن، أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلاما لا يعقلون معناه" قال: "ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء، إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدى وبيانا للناس، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نُزِّل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته.. لا يعلم أحد معناه، فلا يعقل، ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بَيَّنَ للناس ما نُزِّل إليهم، ولا بَلَّغ البلاغ المبين، وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك، لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة، ولا يعلم أحد معناها، وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يُسْتَدَل به، فيبقى هذا الكلام سدًا لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحا لباب من يعارضهم، ويقول: إن الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء، لأننا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون فضلاً عن أن يبينوا مرادهم.

فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد" اهـ كلام الشيخ، وهو كلام سديد من ذي رأي رشيد، وما عليه مزيد، رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجمعنا به في جنات النعيم.

‌‌القاعدة الرابعة: ظاهر النصوص ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني وهو يختلف بحسب السياق، وما يضاف إليه الكلام، فالكلمة الواحدة يكون لها معنى في سياق ومعنى آخر في سياق، وتركيب الكلام يفيد معنى على وجه ومعنى آخر على وجه.

فلفظ (القرية) مثلاً يراد به القوم تارة، ومساكن القوم تارة أخرى.

فمن الأول: قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً﴾‏‏.

ومن الثاني: قوله تعالى عن الملائكة ضيف إبراهيم: ﴿إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ﴾‏‏.

وتقول: صنعت هذا بيدي، فلا تكون اليد كاليد في قوله تعالى: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ﴾‏‏ ، لأن اليد في المثال أضيفت إلى المخلوق فتكون مناسبة له، وفي الآية أضيفت إلى الخالق فتكون لائقة به، فلا أحد سليم الفطرة صريح العقل يعتقد أن يد الخالق كيد المخلوق، أو بالعكس.

إذا تقرر هذا فظاهر نصوص الصفات ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني.

 وقد انقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: من جعلوا الظاهر المتبادر منها معنى حقا يليق بالله عز وجل، وأبقوا دلالتها على ذلك، وهؤلاء هم السلف الذين اجتمعوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والذين لا يَصْدُقُ لقب أهل السنة والجماعة إلا عليهم.

وقد أجمعوا على ذلك، كما نقله ابن عبد البر فقال: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة" اهـ.

وقال القاضي أبو يعلى في كتاب "إبطال التأويل": "لا يجوز رد هذه الأخبار، ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله لا تشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها، لكن على ما رُوِيَ عن الإمام أحمد وسائر الأئمة) اهـ نقل ذلك عن ابن عبد البر والقاضي شيخ الإسلام ابن تيميه في "الفتوى الحموية" (ص ٨٧ ٨٩، ج ٥" من "مجموع الفتاوى" لابن القاسم.

 وهذا هو المذهب الصحيح والطريق القويم الحكيم، وذلك لوجهين:

الأول: أنه تطبيق تام لما دل عليه الكتاب والسنة من وجوب الأخذ بما جاء فيهما من أسماء الله وصفاته، كما يعلم ذلك من تتبعه بعلم وإنصاف.

الثاني: أن يقال: إن الحق إما أن يكون فيما قاله السلف، أو فيما قاله غيرهم. والثاني باطل، لأنه يلزم منه أن يكون السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان تكلموا بالباطل تصريحا أو ظاهرًا، ولم يتكلموا مرة واحدة لا تصريحا ولا ظاهرًا بالحق الذي يجب اعتقاده. وهذا يستلزم أن يكونوا إما جاهلين بالحق، وإما عالمين به لكن كتموه، وكلاهما باطل، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم، فتعين أن يكون الحق فيما قاله السلف دون غيرهم.

القسم الثاني: من جعلوا الظاهر المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلاً لا يليق بالله، وهو التشبيه، وأبقوا دلالتها على ذلك. وهؤلاء هم المشبهة، ومذهبهم باطل، محرم من عدة أوجه:

الأول: أنه جناية على النصوص، وتعطيل لها عن المراد بها، فكيف يكون المراد بها التشبيه وقد قال الله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾‏‏.

الثاني: أن العقل دل على مباينة الخالق للمخلوق في الذات والصفات، فكيف يحكم بدلالة النصوص على التشابه بينهما؟

الثالث: أن هذا المفهوم الذي فهمه المشبه من النصوص مخالف لما فهمه السلف منها، فيكون باطلاً.

فإن قال المشبِّه: أنا لا أعقل من نزول الله ويده إلا مثل ما للمخلوق من ذلك، والله تعالى لم يخاطبنا إلا بما نعرفه ونعقله.

فجوابه من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن الذي خاطبنا بذلك هو الذي قال عن نفسه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾‏‏ ، ونهى عباده أن يضربوا له الأمثال، أو يجعلوا له أندادًا فقال: ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾‏‏ وقال: ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾‏‏. وكلامه تعالى كله حق، يصدق بعضه بعضا ولا يتناقض.

ثانيها: أن يقال له: ألست تعقل لله ذاتا لا تشبه الذوات؟، فسيقول: بلى. فيقال له: فلتعقل له صفات لا تشبه الصفات، فإن القول في الصفات كالقول في الذات، ومن فرق بينهما فقد تناقض.

ثالثها: أن يقال: ألست تشاهد في المخلوقات ما يتفق في الأسماء ويختلف في الحقيقة والكيفية؟. فسيقول: بلى. فيقال له: إذا عقلت التباين بين المخلوقات في هذا، فلماذا لا تعقله بين الخالق والمخلوق، مع أن التباين بين الخالق والمخلوق أظهر وأعظم، بل التماثل مستحيل بين الخالق والمخلوق، كما سبق في القاعدة السادسة من قواعد الصفات.

القسم الثالث: من جعلوا المعنى المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلاً لا يليق بالله، وهو التشبيه، ثم إنهم من أجل ذلك أنكروا ما دلت عليه من المعنى اللائق بالله. وهم أهل التعطيل، سواء كان تعطيلهم عاما في الأسماء والصفات، أم خاصا فيهما، أو في أحدهما  فهؤلاء صرفوا النصوص عن ظاهرها إلى معاني عينوها بعقولهم، واضطربوا في تعيينها اضطرابا كثيرًا، وسموا ذلك تأويلاً وهو في الحقيقة تحريف.

 ومذهبهم باطل من وجوه:

أحدها: أنه جناية على النصوص، حيث جعلوها دالة على معنى باطل غير لائق بالله ولا مراد له.

الثاني: أنه صرف لكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن ظاهره. والله تعالى خاطب الناس بلسان عربيٍ مبين ليعقلوا الكلام ويفهموه على ما يقتضيه هذا اللسان العربي، والنبي صلى الله عليه وسلم خاطبهم بأفصح لسان البشر، فوجب حمل كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ظاهره المفهوم بذلك اللسان العربي، غير أنه يجب أن يصان عن التكييف والتمثيل في حق الله عز وجل.

الثالث: أن صرف كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عن ظاهره إلى معنى يخالفه قول على الله بلا علم، وهو محرم لقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾‏‏ ، ولقوله سبحانه: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾‏‏.

فالصارف لكلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن ظاهره إلى معنى يخالفه قد قفا ما ليس له به علم، وقال على الله ما لا يعلم من وجهين:

الأول: أنه زعم أنه ليس المراد بكلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كذا، مع أنه ظاهر الكلام.

الثاني: أنه زعم أن المراد به كذا لمعنى آخر لا يدل عليه ظاهر الكلام. وإذا كان من المعلوم أن تعيين أحد المعنيين المتساويين في الاحتمال قولٌ بلا علم، فما ظنك بتعيين المعنى المرجوح المخالف لظاهر الكلام؟.

مثال ذلك: قوله تعالى لإبليس: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ﴾‏‏ فإذا صرف الكلام عن ظاهره وقال: لم يرد باليدين اليدين الحقيقيتين، وإنما أراد كذا وكذا. قلنا له: ما دليلك على ما نفيت؟، وما دليلك على ما أثبت؟. فإن أتى بدليل وأنّى له ذلك، وإلا كان قائلاً على الله بلا علم في نفيه وإثباته.

الوجه الرابع: في إبطال مذهب أهل التعطيل:

أن صرف نصوص الصفات عن ظاهرها مخالف لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها، فيكون باطلاً، لأن الحق بلا ريب فيما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها.

الوجه الخامس: أن يقال للمعطل: هل أنت أعلم بالله من نفسه؟. فسيقول: لا.

ثم يقال له: هل ما أخبر الله عز وجل به عن نفسه صدق وحق؟. فسيقول: نعم.

ثم يقال له: هل تعلم كلاما أفصح وأبين من كلام الله تعالى؟. فسيقول: لا.

ثم يقال له: هل تظن أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يعمي الحق على الخلق في هذه النصوص ليستخرجوه بعقولهم؟. فسيقول: لا.

هذا ما يقال له باعتبار ما جاء في القرآن.

أما باعتبار ما جاء في السنة فيقال له: هل أنت أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. فيقول: لا ثم يقال له: هل ما أخبر به رسول الله عن الله صدق وحق؟ فسيقول نعم ثم يقال له: هل تعلم أن أحدًا من الناس أفصح كلاما وأبين من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. فسيقول: لا ثم يقال له: هل تعلم أن أحدًا من الناس أنصح لعباد الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. فسيقول: لا.

فيقال له: إذا كنت تقر بذلك، فلماذا لا يكون عندك الإقدام والشجاعة في إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم على حقيقته وظاهره اللائق بالله؟، وكيف يكون عندك الإقدام والشجاعة في نفي حقيقته تلك وصرفه إلى معنى يخالف ظاهره بغير علم؟، وماذا يضيرك إذا أثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه في كتابه أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، على الوجه اللائق به فأخذت بما جاء في الكتاب والسنة إثباتا ونفيا؟، أفليس هذا أسلم لك وأقوم لجوابك إذا سئلت يوم القيامة: ﴿مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾‏‏ ؟، أو ليس صرفك لهذه النصوص عن ظاهرها وتعيين معنى آخر مخاطرة منك، فلعل المراد يكون على تقدير جواز صرفها غير ما صرفتها إليه.

الوجه السادس: في إبطال مذهب أهل التعطيل:

أنه يلزم عليه لوازم باطلة، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم.

فمن هذه اللوازم:

أولاً: أن أهل التعطيل لم يصرفوا نصوص الصفات عن ظاهرها إلا حيث اعتقدوا أنه مستلزم أو موهم لتشبيه الله تعالى بخلقه، وتشبيه الله تعالى بخلقه كفر، لأنه تكذيب لقوله تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾‏‏. قال نعيم بن حماد الخزاعي أحد مشايخ البخاري رحمهما الله: (من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها) اه.

ومن المعلوم: أن من أبطل الباطل أن يجعل ظاهر كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبيها وكفرًا أو موهما لذلك.

ثانيا: أن كتاب الله تعالى الذي أنزله تبيانا لكل شيء، وهدى للناس، وشفاء لما في الصدور، ونورًا مبينا، وفرقانا بين الحق والباطل، لم يبين الله تعالى فيه ما يجب على العباد اعتقاده في أسمائه وصفاته، وإنما جعل ذلك موكولاً إلى عقولهم، يثبتون لله ما يشاءون، وينكرون ما لا يريدون. وهذا ظاهر البطلان.

ثالثا: أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها كانوا قاصرين أو مقصرين في معرفة وتبيين ما يجب لله تعالى من الصفات، أو يمتنع عليه، أو يجوز. إذ لم يرد عنهم حرف واحد فيما ذهب إليه أهل التعطيل في صفات الله تعالى وسمّوه تأويلاً.

وحينئذ إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وسلف الأمة وأئمتها قاصرين لجهلهم بذلك، وعجزهم عن معرفته، أو مقصرين لعدم بيانهم للأمة. وكلا الأمرين باطل.

رابعا: أن كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ليس مرجعا للناس فيما يعتقدونه في ربهم وإلههم، الذي معرفتهم به من أهم ما جاءت به الشرائع، بل هو زبدة الرسالات. وإنما المرجع تلك العقول المضطربة المتناقضة، وما خالفها فسبيله التكذيب إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، أو التحريف الذي يسمونه تأويلاً إن لم يتمكنوا من تكذيبه.

خامسا: أنه يلزم منه جواز نفي ما أثبته الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيقال في قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾‏‏: إنه لا يجيء. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا": إنه لا ينزل. لأن إسناد المجيء والنزول إلى الله مجاز عندهم. وأظهر علامات المجاز عند القائلين به صحة نفيه ونفي ما أثبته الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من أبطل الباطل، ولا يمكن الانفكاك عنه بتأويله إلى أمره، لأنه ليس في السياق ما يدل عليه.

ثم إن من أهل التعطيل من طرد قاعدته في جميع الصفات، أو تعدى إلى الأسماء أيضا. ومنهم من تناقض فأثبت بعض الصفات دون بعض، كالأشعرية والماتريدية، أثبتوا ما أثبتوه بحجة أن العقل يدل عليه، ونفوا ما نفوه بحجة أن العقل ينفيه أو لا يدل عليه.

فنقول لهم: نفيكم لما نفيتموه بحجة أن العقل لا يدل عليه، يمكن إثباته بالطريق العقلي الذي أثبتم به ما أثبتموه، كما هو ثابت بالدليل السمعي.

مثال ذلك: أنهم أثبتوا صفة الإرادة، ونفوا صفة الرحمة أثبتوا صفة الإرادة لدلالة السمع والعقل عليها.

أما السمع: فمنه قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾‏‏.

وأما العقل: فإن اختلاف المخلوقات وتخصيص بعضها بما يختص به من ذات أو وصف دليل على الإرادة ، ونفوا الرحمة لأنها تستلزم لين الراحم، ورقته للمرحوم، وهذا محال في حق الله تعالى.

وأولوا الأدلة السمعية المثبتة للرحمة إلى الفعل، أو إرادة الفعل، ففسروا الرحيم بالمنعم، أو مريد الإنعام.

فنقول لهم: الرحمة ثابتة لله تعالى بالأدلة السمعية، وأدلة ثبوتها أكثر عددًا وتنوعا من أدلة الإرادة. فقد وردت بالاسم مثل: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾‏‏ والصفة مثل: ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ﴾‏‏ ، والفعل مثل: ﴿وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ﴾‏‏.

ويمكن إثباتها بالعقل، فإن النعم التي تترى على العباد من كل وجه، والنِّقَم التي تُدفع عنهم في كل حين؛ دالة على ثبوت الرحمة لله عز وجل، ودلالتها على ذلك أبين وأجلى من دلالة التخصيص على الإرادة، لظهور ذلك للخاصة والعامة، بخلاف دلالة التخصيص على الإرادة، فإنه لا يظهر إلا لأفراد من الناس.

وأما نفيها بحجة أنها تستلزم اللين والرقة فجوابه: أن هذه الحجة لو كانت مستقيمة لأمكن نفي الإرادة بمثلها، فيقال: الإرادة ميل المريد إلى ما يرجو به حصول منفعة أو دفع مضرة وهذا يستلزم الحاجة، والله تعالى منزه عن ذلك.

فإن أجيب: بأن هذه إرادة المخلوق أمكن الجواب بمثله في الرحمة، بأن الرحمة المستلزمة للنقص هي رحمة المخلوق.

وبهذا تبين بطلان مذهب أهل التعطيل، سواء كان تعطيلاً عاما أم خاصا.

وبه علم أن طريق الأشاعرة والماتريدية في أسماء الله وصفاته وما احتجوا به لذلك لا تندفع به شبه المعتزلة والجهمية، وذلك من وجهين:

أحدهما: أنه طريق مبتدع لم يكن عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا سلف الأمة وأئمتها، والبدعة لا تدفع بالبدعة، وإنما تدفع بالسنة.

الثاني: أن المعتزلة والجهمية يمكنهم أن يحتجوا لما نفوه على الأشاعرة والماتريدية بمثل ما احتج به الأشاعرة والماتريدية لما نفوه على أهل السنة، فيقولون: لقد أبحتم لأنفسكم نفي ما نفيتم من الصفات بما زعمتموه دليلاً عقليا، وأولتم دليله السمعي، فلماذا تحرمون علينا نفي ما نفيناه بما نراه دليلاً عقليا، ونؤول دليله السمعي؟، فلنا عقول كما أن لكم عقولاً، فإن كانت عقولنا خاطئة فكيف كانت عقولكم صائبة؟، وإن كانت عقولكم صائبة فكيف كانت عقولنا خاطئة؟، وليس لكم حجة في الإنكار علينا سوى مجرد التحكم واتباع الهوى.

وهذه حجة دامغة، وإلزام صحيح من الجهمية والمعتزلة للأشعرية والماتريدية، ولا مدفع لذلك ولا محيص عنه، إلا بالرجوع لمذهب السلف الذين يطردون هذا الباب، ويثبتون لله تعالى من الأسماء والصفات ما أثبته لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتا لا تمثيل فيه ولا تكييف، وتنزيها لا تعطيل فيه ولا تحريف، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.

 الولاية والكرامة:

 أقســــام الأولياء، والموقف منهم:

الأولياء ينقسمون إلى قسمين:

1- أولياء الرحمن الذين تقدم الحديث عنهم وتولى القرآن تعريفهم ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يونس: 62-63]

وهم الذين تولى الله أمرهم ، ووفقهم وتفضل عليهم بالكرامات التي من أعظم أنواعها معرفة الحق وإتباعه والاستقامة عليه الاستقامة التي تنتهي بالعبد إلى دار الكرامة (الجنة) نسأل الله من فضله.

2- أولياء الشيطان الذين وثقوا صلتهم بالشيطان ونظموا معه حياتهم بعد أن قطعوا صلتهم بالله أو ضعفت على الأقل ، إذ لا يقع العبد في ولاية الشيطان وحزبه مع قوة صلته بربه أبداً. والله المستعان.

وكما أن أولياء الرحمن تتفاوت درجاتهم عند الله، كذلك يتفاوت أولياء الشيطان في بُعدهم عن الله، وذلك أمر معروف بحيث لا يحتاج إلى دليل.

الأمور الخارقة للعادة على أيدي أولياء الشيطان

وقد أوضحنا فيما تقدم أنه لا ملازمة بين الولاية وبين الأمور الخارقة للعادة وأنها قد تظهر على أيدي غير الصالحين، وبقي أن نعرف حقيقة تلك الأمور، فهي تنقسم إلى قسمين من حيث الحقيقة والكنه:

1- القسم الأول: يجريه الرب سبحانه على أيديهم استدراجاً يستدرجهم بها ليزدادوا إثماً على إثمهم عقوبة لهم على جريمتهم جريمة عبادة الشيطان وطاعته واتخاذه ولياً من دون الله، يستدرجهم من حيث لا يعلمون ويملي لهم ومن يراها أنها من الكرامات فهو إما جاهل أو متجاهل مغالط لحاجة في نفسه.

2- القسم الثاني: ما يجري على أيدي بعضهم من قبيل السحر، وقد أثبتت التجربة أن كثيراً من الدجالين مهرة في السحر فكثيراً ما يسحرون أعين الناس فيقوم أحدهم بأعمال غريبة ومثيرة وخارجة على المعتاد والقانون المتبع في حياة الناس مثل أن يلقي بنفسه في النار ثم يخرج منها قبل أن تحرقه أو تصيبه بأي أذى في جسمه، ومثل أن يتناول جمرة فيأكلها كما يأكل ثمرة حلوة والناس ينظرون إليه فيندهشون، أو يمشي على خط دقيق ممدود بين عمودين مثلاً وغير ذلك من الأعمال التي يعرفها كل من يعرف القوم، وهو في واقع الأمر لم يعمل شيئاً من تلك الأعمال؛ بل كان على حالته العادية، إلا أنه سحر أعين الحاضرين فيخيل إليهم من سحره أنه يفعل شيئاً وأنه يطير أو يذبح نفسه أو يذبح ولده وكل ذلك لم يقع ولا بعضه.

فالطائفة الأولى المستدرجة والأخرى السحرة وهم المعرفون عند السذج من عامة المسلمين أنهم أصحاب كرامات، ولما أدرك القوم أنه قد انطلى على العوام باطلهم لفرط جهل العوام وبعدهم عن الثقافة الإسلامية، استغلوا فيهم هذا الجهل وتلك السذاجة فاتخذوا الولاية المزعومة باباً من أبواب الدجل فكما يطور أهل العلم معلوماتهم، وأرباب المهن والصناعات منهم صناعاتهم حتى ينتجوا أحدث المصنوعات، كذلك يطور هؤلاء الأولياء أساليب دجلهم وخداعهم ليطير صيتهم وتزداد شهرتهم فيرتفع بذلك دخلهم وهذا الدخل هو الغاية عند القوم من دعوى الولاية والكرامة ومن الخداع المتطور.

ومن أحدث أساليبهم المتطورة في هذا العصر أن زعم بعضهم أن هذه التكاليف الشرعية من امتثال المأمورات واجتناب المنهيات أمور مؤقتة ولها حد تنتهي إليه ثم تسقط، وزعم هذا الزاعم أنه قد وصل تلك المنزلة فسقطت عنه جميع الواجبات وأُبيحت له جميع المحرمات بحيث لا يقال في حقه هذا حرام أو حلال ، أو هذا واجب وهذا مستحب. وهو يحاول بذلك أن يقتفي أثر رئيس الملاحدة وقطب وحدة الوجود ابن عربي الطائي وشاعر تلك الملة ابن الفارض ويحذو حذوهما. وتبدو الفكرة جديدة ومتطورة لدى كثير من الناس لغرابتها ولما أدخل عليها من بعض الزخرفة والزركشة حتى ظهرت الفكرة كأنها فكرة حديثة وهي في أصلها فكرة قديمة قِدَم كفر وحدة الوجود التي منشؤها تعطيل الصفات على طريقة الجهمية المعروفة ، وهي فكرة يؤمن بها كل صوفي –وللأسف- ويسعى لها بأنواع من المجاهدة في زعمهم وهو سر انتقادنا للصوفية وشطحاتهم. وما يؤخذ عليهم كثير جداً لو وسعنا التعداد، ولا يشك كل من له أدنى فقه في الدين أن فكرة وحدة الوجود ملة مغايرة للإسلام.

وآخر التطورات التي علمناها في هذا الخصوص دعوى المدعو محمود محمد طه السوداني حيث زعم أن تلكم الفكرة الإلحادية التي يدعو إليها هي مضمون الرسالة الثانية من الرسالتين المحمديتين على حد زعمه، حيث زعم أن الرسول عليه الصلاة والسلام بُعث برسالتين اثنتين. أما الرسالة الأولى فقد بلغها، وأما الرسالة الثانية فلم يبلغها، ويعلل ذلك بقوله: إن القوم الذين بعث فيهم رسول الله أول ما بُعث ليسوا على استعداد لفهمها والعمل بها لأن مستواهم العقلي لا يؤهلهم لفهمها، أما الآن وقد نضجت العقول وتقدم الفكر البشري قد آن الآوان للدعوة إليها والعمل بها إلى آخر تلك الجعجعة، المثيرة للضحك والبكاء في وقت واحد، نعم إنها تثير الضحك إذا نظرت إليها ككلام ساقط ليس له أي قيمة علمية وإنما هو هذيان لا ينطلي على العقلاء ومثيرة للبكاء حيث وصلنا نحن المسلمون إلى هذا المستوى من البرودة وضعف الغيرة على شريعة الله التي يتلاعب بها أمثال محمود ولا يجد رادعاً يوقفه عند حده؛ بل لا توجد غضبة إسلامية يحسب لها حساب في المجلات الرسمية والله المستعان.

والمسألة في الأصل –كما قلت- نتيجة حتمية لعقيدة غلاة الجهمية الذين يعطلون صفات الرب تعالى وأسمائه حتى لا يبقى هناك إلا ذات مجردة عن جميع الصفات والأسماء التي لا يتصورها الذهن كما يتصور المحال والأمور الخيالية، وهذه العقيدة هي التي أفضت بالقوم إلى القول بالحلول والاتحاد ليتحقق وجود الله خارج الأذهان حالا في مخلوقاته ومتحداً معهم، هذا هو منشأ الحلول والاتحاد الذي هو آخر منزلة تنتهي إليها الصوفية ولها يسعون وفيها يتنافس المتنافسون منهم، وهذه الفكرة كفر باتفاق المسلمين لأنها تجعل الرب سبحانه حالًّا في مخلوقاته؛ بل يرى شارح الطحاوية أن فكرة الحلول والاتحاد أقبح من كفر النصارى، لأن النصارى خصوا الحلول بالمسيح وهؤلاء عمموا جميع المخلوقات، وقديماً قال زعيمهم ابن عربي:

وما الكلب والخنزير إلا إلهنا *** وما الله إلا راهب في كنيسة

هذا ما ينتهي إليه أولياء الشيطان، وما قبل هذه المنزلة وسائل مفضية إلى هذه الغاية وما أرخصها من غاية وما أقبحها من كفر، وهو داء لا علاج له إلا آخر العلاج، وآخر العلاج الكي، فلا يردع هذا الإلحاد إلا قوة السلطان، لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن كما قال عثمان رضي الله عنه؛ ولكن أين قوة السلطان اليوم؟؟!! إلا ما شاء الله.

 الموقف السليم من الأولياء:

السبب المثير لهذا الكلام، ذلك هو موقف جمهور المسلمين المحزن من الأولياء وهو الغلو في الصالحين الذي يصل أحياناً إلى حد العبادة، بدعوى المحبة والتقدير، ومن يذهب إلى تلك الأضرحة المنتشرة في أكثر عواصم المسلمين ومدنهم يرى عدداً كبيراً من المسلمين معتكفين عند تلك الأضرحة ليتبركوا بها أو بأصحابها وربما وصل هذا التبرك إلى حد الطواف بالضريح؛ بل حد السجود على عتبة باب الضريح، والأدهى والأمر أن يجد هذا السادن الذي يسجد لغير الله ولا يلهج لسانه إلا بذكر صاحب الضريح من يفتي له بجواز ذلك وأنه ليس من باب الشرك، وإنما هو باب محبة الصالحين أو التوسل بهم، وهذا المفتي أو الفتان على الأصح معدود من علماء المسلمين المشار إليهم، والله المستعان وإليه المشتكى.

إنه لموقف خطير! العامي يقع في عبادة غير الله جهلاً، والعالم يفتي بجواز ذلك ويجد له تفسيراً وتأويلاً وتخريجاً، وخطورته تأتي من حيث أصبح الولي نداً لله في هذا التصور وشريكاً له في استحقاق العبادة باسم المحبة أو التبرك بفتوى ممن ينتسبون إلى العلم ويجهلون حق الله على عباد الله، أعود فأقول: هذا الموقف وهذا التصور الذي يسود صفوف العوام وأشباه العوام هو الذي أثار تساؤلي.

ما هو الموقف السليم من الأوليـــاء؟؟!!

فأما الجواب عليه: أن الموقف السليم هو عدم الغلو فيهم مع عدم الجفاء والاستخفاف بهم وإيذائهم؛ بل الواجب محبتهم في الله وموالاتهم، ولك أن تطلب منهم الدعاء في حياتهم ويسمى الاستشفاع بهم، أو التوسل بهم. ويجب أن نفرق بين محبتهم في الله ومحبتهم مع الله، فمحبتهم في الله عمل صالح، وأما محبتهم مع الله فعمل غير صالح؛ بل هو يريد الشرك أو الشرك ذاته. ويختلف ذلك باختلاف ما يقوم بقلب العبد، وسر التخبط لدى كثير من المسلمين والخلط في عبادتهم هو عدم التفريق بين الحقوق مما جعلهم يصرفون كثيراً من حقوق الله على العباد للعباد أنفسهم.

 الحقوق الثلاثة:

إن الدارس لكتاب الله وسنة رسول الله، والفاهم لمعنى كلمة التوحيد حق فهمها يستطيع أن يستنتج الحقوق الثلاثة التي يأتي شرحها، ومعرفة تلكم الحقوق تحدد للعبد السير إلى الله والدعوة إليه على بصيرة قبل أن يخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، ويخرج عن الصراط المستقيم ويتخبط في بنيات الطريق.

1- حق الله على عباده وهو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً في عبادته، وذلك بعد تصور مفهوم العبادة بأوسع نطاقها، وقد وَجَّه النبي عليه الصلاة والسلام سؤالاً إلى معاذ ذات مرة هكذا: ((يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله)) ولم يسع معاذاً إلا أن يقول: الله ورسوله أعلم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام –بعد أن أثار انتباهه ولعلها المقصود، من السؤال- قال: ((حق الله العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)) الحديث، وهو معنى قولنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

2- حق الرسول على أتباعه الذي يؤخذ من قولهم أشهد أن محمداً رسول الله، وحقيقة ذلك محبة رسول الله عليه الصلاة والسلام المحبة الصادقة التي تثمر الطاعة والإتباع وعبادة الله بما جاء به فقط، وهو المعنى الذي يشير إليه الحديث الشريف: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده والناس أجمعين)). [متفق عليه]

3- حقوق عباد الله الصالحين تلك الحقوق التي نستطيع أن نستنتجها من قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) [متفق عليه] ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((ومن عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)) [رواه البخاري]، وغير ذلك من النصوص الكثيرة.

فمعرفة هذه الحقوق، ثم إعطاء كل ذي حق حقه أمر له أهميته ولا سيما حق الله على عباده، تجب العناية به علماً وعملاًُ لأنه الغاية التي من أجلها خلق الإنسان والتقصير في هذه الغاية ذنب لا يغتفر إلا لمن تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً.

وهذا التقصير واقع من كثير من المسلمين –مع الأسف الشديد- وهو سر اختيارنا لهذه النقطة ضمن النقاط الثلاث، رجاء أن ننبه إلى هذا الخلط الشائع بين جمهور المسلمين من إدخال بعض الحقوق في بعض؛ بل وصرف كثير من حقوق رب العالمين لعباد الله الصالحين بدعوى محبتهم كنتيجة لهذا التقصير، والله المستعان.أهـ كلامه بتمامه.

 الإمامة:

الإمامة رياسة تامة، وزعامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا متضمنة حفظ الحوزة ورعاية الرعية وإقامة الدعوة.

وعرفتها الموسوعة الفقهية الكويتية: "استحقاق تصرف عام على الأنام (أي الناس)، وهي رئاسة عامة في الدين والدنيا خلافةً عن النبي صلى الله عليه وسلم".

والخلافة, والإمامة العظمى, وإمارة المؤمنين ثلاث كلمات معناها واحد, وهو رئاسة الحكومة الإسلامية الجامعة لمصالح الدين والدنيا.

وهي من مسائل العقيدة التي اعتنى بها أهل السنة والجماعة في عقائدهم وبينوها بيانا شافيا.

وردت فيها الآيات والأحاديث والآثار المتكاثرة، قال الشوكاني رحمه الله: " وقد وردت الأدلة البالغة عدد التواتر الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبوتا لا يخفى على من له أدنى تمسك بالسنة المطهرة بوجوب طاعة الأئمة والسلاطين والأمراء.... وورد وجوب طاعتهم ما أقاموا الصلاة، وما لم يظهر منهم الكفر البواح، وما لم يأمروا بمعصية الله".

قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾  [النساء:59].

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: « بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان»رواه البخاري.

وقد ذكر اللالكائي رحمه الله في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة: "سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في طاعة الأئمة والأمراء ومنع الخروج عليهم" جملة من الأحاديث والآثار في ما يتعلق بالإمامة. 

وقال إسماعيل التيمي الأصبهاني رحمه الله: " فصل يتعلق باعتقاد أهل السنة ومذهبهم.. وطاعة أولي الأمر واجبة، وهي من أوكد السنن، ورد بها الكتاب والسنة".

ويقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في رسالة (الأصول الستة): "الأصل الثالث: أن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا, ولو كان عبدا حبشيا, فبين النبي صلى الله عليه وسلم هذا بياناً شائعاً ذائعاً بكل وجه من أنواع البيان شرعا وقدراً, ثم صار هذا الأصل لا يُعرف عند أكثر من يدَّعي العلم؛ فكيف العمل به؟!".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان المقصود من الولايات والإمامة: "فالمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا, ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا, وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم.. فالمقصود أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا".

فمقاصد الإمامة تتمثل في مقصدين كبيرين هما: إقامة الدين، سياسة الدنيا بالدين. وجماع هذه المقاصد هو إقامة أمر الله عز وجل في الأرض على الوجه الذي شرع, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, الأمر بكل معروف ونشر الخير والرفع من قدره, والنهي عن كل منكر والقضاء على كل فساد والحط من شأنه وأهله, وهذا هو الهدف والمقصد الأساسي للإمامة في الإسلام, وقد أوضح الله سبحانه وتعالى هذا الهدف في كتابه الكريم حيث قال: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾‏‏.

ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أنه يجب نصب إمام للمسلمين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين, بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها. فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض, ولابد لهم عند الاجتماع من رأس".

فوجود جهة حاكمة تقيم الشرع وتضبط الأمن وتمنع العدوان من ضرورات الحياة, فضلا عن كونها من أعظم الواجبات الدينية.

وعلى هذا النهج القويم سار الصحابة رضي الله عنهم بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم للرفيق الأعلى؛ حيث اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، وبايعوا أبا بكر الصديق رضي الله عنه، قبل تجهيز النبي صلى الله عليه وسلم.

فلم يبيتوا ليلتهم مع عظم المصيبة إلا وفي أعناقهم بيعة لإمام.

واستخلف الصِّدِّيقُ عُمرَ رضي الله عنه، ، وجعلها عمر في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فبايعت الأمة عثمان بن عفان، ثم عليا بن أبي طالب – رضي الله عنهم أجمعين -..

وقد نقل الإجماع على وجوب نصب الإمام ونص عليه غير واحد من أهل العلم, منهم النووي, والقرطبي, وغيرهم.

قال القرطبي رحمه الله: "ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة".

قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾‏‏.

فدلت الآية أن طاعة ولي الأمر – في غير معصية الله – واجبة بنص القرآن, فإذا لم يوجد خليفة فلمن تكون الطاعة؟!!

وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذه الآية نزلت في الرعية، عليهم أن يطيعوا أولي الأمر إلا أن يأمروا بمعصية الله.

وبمعنى آخر: أن الله لا يأمر بطاعة من لا وجود له, ولا يفرض طاعة من وجوده مندوب, فالأمر بطاعة ولي الأمر يقتضي الأمر بإيجاده.

وقال صلى الله عليه وسلم: «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له, ومن مات وليس في عنقه بيعة, مات ميتة جاهلية» رواه مسلم.

فدل هذا الحديث على أن طاعة ولي الأمر – في غير معصية الله – والبيعة له من الواجبات, ولا يمكن تحقيق مثل هذه الواجبات إلا بوجود إمام.

فإذا كانت طاعة ولي الأمر – في غير معصية الله – واجبة وكذلك البيعة فوجوب نصب الإمام من باب أولى. وهذا من باب القاعدة الفقهية التي تنص على أنه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم» [رواه أبو داود بسند حسن كما في السلسلة الصحيحة 1322 ]

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع، ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة".

فإذا كان تأمير الأمير واجباً في عدد قليل وهم ثلاثة، وفي أمر عارض وهو السفر, فهو في حق الأمة ذات العدد الكبير والأمر المستديم أولى وأوجب.

ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإمامة تنعقد بالاختيار من أهل الحل والعقد، أو بالاستخلاف، أو بالقوة والغلبة، فإذا انعقدت الإمامة وجب السمع والطاعة.

فإذا انعقدت الإمامة بشروطها "وجب على الناس كافة مبايعته على السمع والطاعة، وإقامة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن تأبى عن البيعة لعذر عُذر، ومن تأبى لغير عذر جبر وقهر، لئلا تفترق كلمة المسلمين".

وقد قصدت الشريعة تحقيق أعظم المصالح وأسنى المقاصد، بالإمامة، ولو لم يكن للناس إمام مطاع لانثلمت شرائع الإسلام، وتعطلت الأحكام، وفسد أمر الأنام، وضاعت الأيتام، ولم يحج البيت الحرام.

يقول الإمام أحمد رحمه الله: "الفتنة إذا لم يكن ثَمّ إمام يقوم بأمر الناس".

وقال الماوردي رحمه الله: "الإمامة أصل، عليه استقرت قواعد الملة، وانتظمت به مصالح الأمة، حتى استتبت به الأمور العامة والخاصة".

 ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أن على الرعية للإمام واجبات ومسؤوليات:

أولاها: السمع والطاعة في غير معصية الله؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾‏‏، فهذه الآية الكريمة نص في وجوب البيعة، وتحريم نقضها ونكثها.

وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله» رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة» رواه مسلم.

قال الطحاوي رحمه الله: "ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمرنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يدا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية".

وقال الإمام الحافظ أبو زرعة الرازي رحمه الله في الكلام عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين, وما أدرك عليه العلماء في جميع الأمصار، فكان من قوله: "أدركنا العلماء في جميع الأمصار – حجازاً وعراقاً، شاماً ويمناً -، فكان من مذهبهم: ولا نرى الخروج على الأئمة، ونسمع ونطيع لمن ولاه الله عز وجل أمرنا، ولا ننزع يدا من طاعة، ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة".

ثانيها: حفظ هيبة الأئمة ومكانتهم، قال صلى الله عليه وسلم: « من أكرم سلطان الله تبارك وتعالى

في الدنيا أكرمه الله يوم القيامة، ومن أهان سلطان الله تبارك وتعالى في الدنيا أهانه الله يوم القيامة » [ رواه أحمد والترمذي بسند حسن كما في الصحيحة للألباني 2297 ] .

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن من إجلال الله: إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط» [ رواه أبو داود بسند حسن ]

فقاعدة ضبط المصالح العامة واجب، ولا تنضبط إلا بعظمة الأئمة في نفس الرعية، ومتى اختُلف عليهم أو أهينوا تعذرت المصلحة.

ثالثها: المناصحة بالضوابط الشرعية دون تشنيع؛ فعن تميم الداري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة»، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم» رواه مسلم.

فـ"ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل أن يناصحه، ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد؛ بل يأخذ بيده ويخلو به، ويبذل له النصيحة".

رابعها: الدعاء لهم.

قال الإمام الطحاوي رحمه الله في حق الأئمة: "وندعو لهم بالصلاح والمعافاة".

يقول الإمام الفضيل بن عياض رحمه الله: لو كان لي دعوة ما جعلتها إلا في السلطان.

فأمرنا أن ندعو لهم بالصلاح، ولم نؤمر أن ندعو عليهم- وإن جاروا وظلموا -، لأن جورهم وظلمهم على أنفسهم وعلى المسلمين.

خامسها: التعاون معهم، وتأليف القلوب لهم، والتماس العذر لهم وعدم تأليب العامة عليهم؛ لتنتظم مصالح الدين والدنيا. ولا ريب أن عليهم تجاه شعوبهم ورعاياهم أداء الأمانة، وإقامة العدل، وتحكيم الشرع، وتأمين الثغور، ورفع المظالم، ونصرة المظلوم، ورعاية مصالح المسلمين، ودرء المفاسد والأضرار عنهم.

 الصحابة وآل البيت:

 من أُصول عقيدة السلف الصالح؛ أَهل السنة والجماعة:

حُب أَصحاب رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وسلامة قلوبهم وأَلسنتهم تجاههم؛ لأَنهم كانوا أكمل الناس إِيمانا، وإحسانا، وأَعظمهم طاعة وجهادا، وقد اختارهم الله واصطفاهم لصحبة نبيه- صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وقد امتازوا بشيء لم يستطع أَن يدركه أَحد ممن بعدهم مهما بلغ من الرفعة؛ أَلا وهو التشرف برؤية النَّبي- صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ومعاشرته.

والصحابة الكرام كلهم عُدولٌ بتعديل الله ورسوله لهم، وهم أَولياءُ الله وأصفياؤه، وخيرته من خلقه، وهم أَفضل هذه الأُمة بعد نبيها- صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال الله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾‏‏ [التوبة: ١٠٠].

والشهادة لهم بالإيمان والفضل أَصل قطعي معلوم من الدِّين بالضرورة، ومحبتهم دين وإيمان، وبغضهم كفرٌ ونفاق، وأَهلُ السنة والجماعة لا يذكرونهم إِلا بخير؛ لأَن رَسُول الله أَحبهم وأَوصى بحبهم، فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «اللهَ اللهَ في أَصْحَابي لَا تَتخذُوهُم غَرَضا بَعْدِي؛ فَمَنْ أَحبهُم فَبِحبي أَحَبهُم، ومَنْ أبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أبْغَضَهُم، وَمَنْ آذاهُم فَقَدْ آذَانِي، ومَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللهَ، ومَنْ آذَى اللهَ يُوشِكُ أَنْ يَأخُذَه» [ أخرجه الترمذي وأحمد وصححه السيوطي ].‏  وكل مَن رأَى رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وآمن به ومات على ذلك؛ فهو من الصحابة، وإن كانت صحبته سنة، أَو شهرا، أَو يوما، أَو ساعة. ولا يدخل النَّار أَحد من الصحابة بايع تحت الشجرة؛ بل قد رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا أكثر من ألف وأَربعمائة.

‌‌قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (حُب أبي بكرٍ وعمرَ، ومعرفةُ فضلِهما من السنة). وقال الإمام مالك رحمه الله: (كان السلف يُعلمون أولادهم حب أبي بكرٍ وعمر؛ كما يُعلمون السورة من القرآن). أخرجهما اللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة ".

قال النبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لَا يَدْخُل النارَ أَحَد باَيع تَحْتَ الشجَرَة» رواه البخاري.

وأَهل السنة والجماعة: يكفون عما شجر بينهم من نزاع  ويوكلون أَمرهم إِلى الله؛ فمن كان منهم مصيبا كان له أَجران، ومن كان منهم مخطئا فله أَجر واحد، وخطؤه مغفور له إِن شاء الله.

ولا يسبون أَحدا منهم؛ بل يذكرونهم بما يستحقون من الثناء الجميل، لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لَا تَسبوا أَصْحَابِي لَا تَسبوا أَصْحَابِي؛ فَوَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَن أَحَدَكُم أَنْفَقَ مِثْلَ أحُد ذَهَبا مَا أَدْرَكَ مُدّ أحَدِهِم، وَلا نَصِيفَه» رواه مسلم.

‌‌وأَهل السنة والجماعة: يعتقدون بأن الصحابة معصومون في جماعتهم من الخطأ، وأما أَفرادهم فغير معصومين، والعصمة عند أَهل السُّنة من الله تعالى لمن يصطفي من رسله في التبليغ، وأَن الله تعالى حفظ مجموع الأمة عن الخطأ؛ لا الأَفراد.

قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إِنَ الله لَا يَجْمَعُ أمَّتِي عَلَى ضَلَالة وَيَدُ اللهِ مع الجماعَة» [رواه الترمذي وصححه الألباني ].

وأَهل السنة والجماعة: يعتقدون بأن الصحابة الأَربعة: أَبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليا- رضي الله عنهم- هم خير هذه الأمة بعد نبيِّها- صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وهم الخلفاء الراشدون المهديّون على الترتيب، وهم مبشرون بالجنة، وفيهم كانت خلافة النبوة ثلاثين عاما مع خلافة الحسن بن علي رضي الله عنهم، لقول النبي- صلى الله عليه وسلم -: «الخلَافة في أمتِي ثَلاثُونَ سنة؛ ثُمَ مُلكٌ بَعْدَ ذَلِكَ» رواه البخاري ومسلم.

ويفضلون بقية العشرة المبشرين بالجنة الذين سماهم رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وهم: طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأَبو عبيدة بن الجراح أَمين هذه الأُمَّة رضي الله عنهم أَجمعين، ثم أَهل بدر، ثمَّ أَهل الشجرة أَهل بيعة الرضوان، ثمَّ سائر الصحابة رضي الله عنهم؛ فمن أَحبهم ودعا لهم ورعى حقهم وعرف فضلهم كان من الفائزين، ومن أَبغضهم وسبهم فهو من الهالكين.

وأَهل السنة والجماعة: يحبونَ أَهلَ بيتِ النبي؛ عملا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أذَكِّرُكُمُ اللهَ في أَهْلِ بَيْتِي، أذَكِّرُكُم اللهَ في أَهْلِ بَيْتِي» رواه مسلم،  وقوله: «إِن اللهَ اصْطَفى بَنِي إِسمَاعِيل، وَاصْطَفى مِنْ بَني إِسْماعيل كنانَةَ وَاصطَفى مِنْ كنانَةَ قُريْشا، وَاصْطَفى منْ قُريْشٍ بني هَاشِم وَاصْطَفاني مِنْ بَني هاشم» رواه مسلم.

ومن أَهل بيته أَزواجه- رضي الله عنهُن- وهن أُمهات المؤمنين بنص القرآن، كما قال الله تبارك وتعالى:﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا- وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾‏‏ [الأحزاب: ٣٢- ٣٣].

فمنهن: خديجة بنت خويلد، وعائشة بنت أَبي بكر، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وأُم حبيبة بنت أَبي سفيان، وأُم سلمة بنت أَبي أُمية بن المغيرة، وسودة بنت زمعة بن قيس، وزينب بنت جحش، وميمونة بنت الحارث، وجويرية بنت الحارث بن أَبي ضرار، وصفية بنت حيي بن أَخطب.

ويعتقدون أَنهنَّ مطهرات مبرآت من كلِّ سوء، وهن زوجاته في الدنيا والآخرة؛ رضي الله عنهن أَجمعين.

ويرون أَن أَفضلهن خديجة بنت خويلد، وعائشة الصديقة بنت الصديق التي بَرأها الله في كتابه العزيز؛ فمن قذفها بما برأها الله منه فقد كفر، قال النبي صلى عليه وعلى آله وسلم: «فَضْلُ عائِشَةَ عَلَى النساءِ كَفَضْلِ الثَّريدِ عَلَى سَائِر الطعام» رواه البخاري.

 الافتراق والتفرق:

 تعريفه والفرق بينه وبين الاختلاف وتاريخه وأسبابه وعوامل توقيه:

لقد حذر الإسلام من الفرقة والافتراق، وبيَّن مخاطره على الفرد والمجتمع، وما تسلط علينا أعداء الإسلام إلا بسبب الافتراق في الدين، والانحراف عن النهج القويم، والصراط المستقيم الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأسباب الافتراق ومظاهره كثيرة، لاسيما في عصرنا الذي كثرت فيه البدع وبدأت ترفع رأسها، فينبغي على كل مسلم غيور على دينه وأمته أن يسعى حثيثاً لدرء أسباب ومظاهر الافتراق والاختلاف، وذلك بالتمسك بمنهج السلف الصالح، والالتفاف حول علماء الأمة، والصدور عن رأيهم فيما فيه صلاح الإسلام والمسلمين.

 مفهوم الافتراق:

الافتراق في اللغة: من المفارقة، وهي المباينة والمفاصلة والانقطاع، والافتراق مأخوذ من الانشعاب والشذوذ، ومنه الخروج عن الأصل، والخروج عن الجادة، والخروج عن الجماعة.

وفي الاصطلاح: هو الخروج عن السنة والجماعة في أي أصل من أصول الدين القطعية أو أكثر، سواء كانت الأصول الاعتقادية، أو الأصول العملية المتعلقة بالقطعيات، أو المتعلقة بمصالح الأمة العظمى أو بهما معاً.

فمخالفة أهل السنة والجماعة في أصل من أصول الدين افتراق، ومخالفة إجماع المسلمين افتراق، ومخالفة جماعة المسلمين وإمامهم فيما هو من المصالح الكبرى افتراق، والخروج عن جماعة المسلمين افتراق، وكل كفر أكبر يعد افتراقاً، وليس كل افتراق كفراً.

كل كفر يخرج به الإنسان عن الإسلام وعن السنة والجماعة فإنه مفارقة، لكن ليس كل افتراق كفراً، بمعنى أنه قد يقع الافتراق من طائفة أو فريق من الناس أو جماعة، لكن لا توصف بالكفر، حتى وإن افترقت عن جماعة المسلمين في عمل ما، كافتراق الخوارج، فالخوارج الأولون افترقوا عن الأمة، وخرجوا عليها بالسيف، وأيضاً فارقوا جماعة المسلمين وإمامهم، ومع ذلك لم يحكم الصحابة بكفرهم.

 الفرق بين الاختلاف والافتراق:

وهذا أمر مهم جداً، وينبغي أن يُعنى به أهل العلم؛ لأن كثيراً من الناس خاصة بعض الدعاة وبعض شباب الصحوة الذين لم يكتمل فقههم في الدين، لا يفرقون بين مسائل الخلاف ومسائل الافتراق، ومن هنا قد يرتب بعضهم على مسائل الاختلاف أحكام الافتراق، وهذا خطأ فاحش أصله الجهل بأصول الافتراق، ومتى يكون؟ وكيف يكون؟ ومن الذي يحكم بمفارقة شخص أو جماعة ما؟

 وهذه بعض الفروق على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر:

الفرق الأول: أن الافتراق أشد أنواع الاختلاف، بل هو من ثمار الخلاف، إذ قد يصل الخلاف إلى حد الافتراق وقد لا يصل، فالافتراق اختلاف وزيادة، لكن ليس كل اختلاف افتراقاً، وينبني على هذا الفرق الثاني.

الفرق الثاني: وهو أنه ليس كل اختلاف افتراقاً بل كل افتراق اختلافاً.

الفرق الثالث: أن الافتراق لا يكون إلا على أصول كبرى من أصول الدين التي لا يسع الخلاف فيها، والتي ثبتت بنص قاطع أو بإجماع، أو استقرت منهجاً عملياً لأهل السنة والجماعة لا يختلفون عليه، فما كان كذلك فهو أصل، ومن خالف فيه فهو مفترق، أما ما دون ذلك فإنه يكون من باب الاختلاف.

فالاختلاف يكون فيما دون الأصول مما يقبل التعدد بالرأي، ويقبل الاجتهاد، ويحتمل ذلك كله، وتكون له مسوغات عند قائله، أو يحتمل فيه الجهل والإكراه والتأول، وذلك في أمور الاجتهاديات والفرعيات، والفرعيات أحياناً قد تكون في بعض مسائل العقيدة التي يُتفق على أصلها، ويُختلف على جزئياتها.

الفرق الرابع: أن الاختلاف قد يكون عن اجتهاد وعن حسن نية، ويؤجر عليه المخطئ ما دام متحرياً للحق، والمصيب أكثر أجراً، وقد يُحمد على الاجتهاد أيضاً، أما إذا وصل إلى حد الافتراق فهو مذموم كله، بينما الافتراق الذي لا يكون عن اجتهاد ولا عن حسن نية فصاحبه لا يؤجر بل هو مذموم، وهو لا يكون إلا عن ابتداع أو عن اتباع هوى.

الفرق الخامس: أن الافتراق يتعلق به الوعيد، وكله شذوذ وهلكة، أما الاختلاف فليس كذلك مهما بلغ الخلاف بين المسلمين في أمور يسع فيها الاجتهاد، أو يكون صاحب الرأي المخالف له مسوغ، أو يحتمل أن يكون قال الرأي المخالف عن جهل ولم تقم عليه الحجة، أو عن إكراه قد لا يطلع عليه أحد، أو عن تأول ولا يتبين ذلك إلا بعد إقامة الحجة.

 ذكر الأخطاء الواقعة بسبب عدم التفريق بين الاختلاف والافتراق:

الخطأ الأول: إنكار أن يكون في الأمة افتراق، وينبني عليه أيضاً نزوع بعضهم إلى إنكار حديث الافتراق الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي الكلام عنه تفصيلاً بعد قليل، وهذا خطأ فادح، والمنكر لذلك يزعم أنه يريد إظهار حسن النية في الأمة، ومعاملة الأمة بالظاهر، ومن هنا يتنكر لحديث الافتراق أو يؤوله، أو يصرف الافتراق إلى فرق خارجة عن الإسلام قطعاً، أو إلى فرق في الأمة هي من غير المسلمين، وهذا خطأ فادح، بل هو معارضة صريحة لأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، بل الأخبار القاطعة في الكتاب والسنة تدل على وقوع الافتراق، فالأمة فعلاً فيها افتراق وهذا حق، والافتراق من الابتلاء، والحق لا يتبين إلا بضده.

والله سبحانه وتعالى كتب منذ الأزل ألا يبقى على الحق إلا الأقلون، وعلى هذا فإن القول بوقوع الافتراق لا يعد إساءة ظن بالأمة، بل هو أمر واقع لابد من الاعتراف به، ولابد من تصديق خبر النبي صلى الله عليه وسلم فيه كما أخبر، وكون الافتراق يقع في الأمة لا يعني أن الإنسان يُسلم بالأمر الواقع، أو يرضى بأن يفارق أو لا يتحرى الحق ولا يبحث عنه، بل إن وقوع الافتراق هو دافع لكل مسلم بأن يتحرى الحق، وليعلم أن الحق لا بد متحدد في نهج النبي صلى الله عليه وسلم وفي نهج صحابته ونهج السلف الصالح.

الخطأ الثاني: وهذا الخطأ أيضاً قد يتخذ ذريعة للمفارقة، وهو يقابل الخطأ الأول ويضاده، وهو اعتقاد أن المفارقة ما دامت أمراً واقعاً فهذا يعني أن الأمة تقع فيه برضاً وتسليم، وأنه لا يضر المسلم أن يكون مع أي فريق كان؛ لأن المفارقة أمر واقع، فعلى المسلم أن يذهب مع من يعجبه من أهل الأهواء وأهل الفرق.

وهذه دعوى باطلة، بل هي تلبيس على المسلمين، فلا يجوز أن يكون الخبر عن الاختلاف ذريعة للمفارقة، أو ذريعة للرضا بالبدع وبالأهواء وبالخطأ؛ حتى وصل الأمر عند بعض من ينتسبون للدعوة أن يقول: ما دام الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الأمة ستفترق، فإذاً لابد أن نرضى بالبدع ونقرها أمراً واقعاً، ونرضى بالأهواء ونقرها أمراً واقعاً، ونسلم للأمر الواقع، ولنعرف أنه لا ديـن إلا بدَخَن! وهذه دعوى باطلة، بل هي من مداخل الشيطان على الإنسان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أخبر عن الافتراق أخبر بأنه ستبقى طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرة منصورة، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وهذه الطائفة تقوم بها الحجة، ويهتدي بها من أراد الهدى، ويقتدي بها من أراد الحق والخير.

فإذاً: الحجة لابد أن تكون قائمة، والحق لابد أن يظهر، ولا يمكن أن يخفى على ذي بصيرة، ولا على من يريد الحق ويسعى إليه.

فمن هنا كان الرضا بالبدع والأهواء على أنها أمر واقع لا يجوز شرعاً، بل هو تلبيس على المسلمين، وهو أيضاً إقرار بالباطل.

الخطأ الثالث: الذين يجعلون من الاختلاف ذريعة في وصف المخالفين بالخروج أو المفارقة أو المروق، وما يستتبع ذلك من الاستعجال في الحكم على المخالفين، حتى من مرتكبي البدع والأهواء دون تثبت من ترتيب الأحكام عليهم بالكفر أو بالبراء والبغض والهجر، والتحذير من المخالف مطلقاً دون التثبت ودون إقامة الحجة، أعني بذلك أنه لا ينبغي لكل من رأى بدعة في شخص أن يصفه بالمفارقة، ولا كل من رأى أمراً مخالفاً للشرع والدين والسنة أن يصفه بالمفارقة والمخالفة؛ لأن من الناس من يجهل الأحكام، والجاهل معذور حتى يعلم، ومن الناس من يكون مكرهاً في بيئة أو في مكان ما، كما يحدث في بعض البلاد الإسلامية التي يُكره فيها المسلمون على حلق اللحى، أو على ممارسة بعض الأعمال التي لا تجوز شرعاً، ويكرهون بذلك ولو لم يفعلوا لقتلوا، أو عذبوا، أو انتهكت أعراضهم.. أو نحو ذلك.

إذاً: عارض الإكراه لابد أن يرد في ذهن الحاكم على الناس بأي حكم من الأحكام، ثم أيضاً لابد من إقامة الحجة على الناس، بمعنى أنه قد يرى أحد منا إنساناً يرتكب بدعة من البدع التي عادة إنما يرتكبها أهل الافتراق كبدعة الموالد مثلاً، فإذا فعلها إنسان عامي جاهل فلا يعني أن يوصف بالافتراق حتى يُبيّن له الأمر، أما الابتداع فيوصف فعله بالابتداع، لكن لا يوصف بأنه مفارق أو أنه خارج عن الجماعة، أو أنه من الفرق الهالكة بمجرد رؤية بدعة أظهرها حتى تقام عليه الحجة، اللهم إلا البدع المكفرة، وليس المقام هنا يتسع للكلام عنها.

إذاً: اتهام الناس بالمفارقة للدين فيما هو دون الأصول من البدع والمخالفات والمحدثات هذا لا يجوز، بل هو من التعجل، وينبغي على من رأى شيئاً من ذلك أن يتثبت وأن يسأل أهل العلم.

الخطأ الرابع: الجهل بما يسع فيه الخلاف وما لا يسع، يعني: عدم التفريق عند كثير من المنتسبين للإسلام، بل من المنتسبين للدعوة، عدم التفريق بين ما هو من أمور الخلاف، وما هو من الأمور التي ليس فيها خلاف، وأضرب لذلك أمثلة:

الأول: هناك من الناس من يعد المسائل الخلافية من القطعيات والأصول، دون أن يرجع إلى أصول أهل العلم وإلى أقوالهم، أو دون أن يهتدي بأهل الفقه في الدين الذين يبصرون في هذه الأمور.

الثاني: عدم التفريق بين الأصول المكفرة وبين البدعيات الكبار، أو البدعيات المخرجة من الدين أو المكفرة وبين الحادثة التي تحدث من الأشخاص، أو من الهيئات أو من الجماعات، وأقصد بذلك أن بعض الناس إذا عرف بأصل من الأصول التي تكفر، كالقول مثلاً بأن القرآن مخلوق، إذا عرضوا هذا الأصل طبَّقه على كل قائل بهذه المقولة دون الأخذ بأحكام التكفير، وهكذا في بقية المسائل، بمعنى عدم التفريق بين الأصل وبين الحكم على المعيَّن، وهذا أمر مخالف لأصول السلف وأصول أهل السنة والجماعة.

أهل السنة والجماعة يفرقون بين الأحكام، الأحكام بالكفر، والأحكام بالفسق ، والأحكام بالتبديع.. وغير ذلك، وبين الحكم على المعين، فقد نحكم على شيء ما بأنه كفر، ونحكم على مقولة ما من المقولات بأنها كفر، وهذا لا يعني أن كل من فعل هذا الكفر يكفر، ولا كل من قال بهذا القول يكفر، أقول: هناك كثيرون لا يفرقون في هذه المسائل فيكفرون باللوازم ودون الأخذ بأحكام التكفير؛ لأن الكفر لا يجوز إطلاقه حتى التثبت وبيان الحجة وإقامتها، وبيان الدليل ومعرفة عدم وجود الجهل، وعدم وجود الإكراه، وعدم وجود التأول.

وهذه مسألة تحتاج إلى مقامات طويلة، وإلى مقابلة للأشخاص، وإلى الجلوس إليهم، ونقاشهم ونصيحتهم، أما أن نرتب أحكام الكفر على كل من ظهرت منه حالة كفر، أو مقولة كفر، أو اعتقاد كفر، فهذا لا يجوز إلا في الأمور الكبرى التي تعلم من الدين بالضرورة، مثل إنسان أنكر شهادة أن لا إله إلا الله، هذا معلوم من الدين بالضرورة كفره، أو أنكر شهادة أن محمداً رسول الله، هذا معلوم من الدين بالضرورة كفره، أو من سب الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا معلوم من الدين بالضرورة كفره، لكن هناك ما هو دون ذلك من أصول الدين كمسائل الصفات، مسائل القدر، مسائل الرؤية والشفاعة، مسائل الصحابة.. وغير ذلك من الأمور التي لا يعلمها العامة.

بل تخفى حتى على بعض من ينتسبون إلى العلم ، تخفى عليهم تفصيلاً، وربما يتلفظ بعضهم بلفظ كفر وهو لا يشعر، أو وهو لا يدري، أو لم يتمعن العبارة، فهل هذا يحكم بكفره؟ لا.

إذاً: من أشد الأخطاء التي يقع فيها كثيرون من الذين يتعرضون للحكم على الناس خاصة صغار طلاب العلم، والأحداث منهم الذين لم يتفقهوا في الدين على أهل العلم، إنما أخذوا العلوم، الشرعية عن الكتب والوسائل دون اهتداء، ودون اقتداء، ودون مراعاة للأصول، ولا معرفة بأصول الاستدلال وأصول الأحكام، فهؤلاء يقع بعض منهم في هذه المسائل الخطيرة، وهي عدم التفريق بين الأصول وبين تطبيق الأصول على الجزئيات والحوادث والنوازل.

فأحكام الكفر والتكفير لا تعني تكفير كل شخص يقول بها أو يعملها أو يعتقدها، وأحكام الولاء والبراء لا تعني تطبيق هذا الولاء والبراء على كل من يظهر منهم ذلك حتى التأكد، أقصد بذلك البراء بخاصة، أما الولاء فهو الأصل.

كذلك عدم اعتبار المصالح والمفاسد، أو الجهل بقواعد المصالح والمفاسد في هذا الجانب، وهي أساس كبير من أسس الخطأ في هذا الجانب.

 وقوع الأمة في الافتراق:

هذه المسألة محسومة بأمور:

الأول: الأخبار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع الافتراق في هذه الأمة، من ذلك حديث الافتراق: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة)، هذا حديث مشهور للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد رواه جمع من الصحابة، ورواه أيضاً الأئمة العدول الثقات في السنن، كالإمام أحمد ، وكـأبي داود ، والترمذي ، وابن ماجة ، والحاكم ، وابن حبان ، وأبي يعلى الموصلي ، وابن أبي عاصم ، وابن بطة ، والآجري ، والدارمي ، واللالكائي.

كما صححه جمع من أهل العلم، كـالترمذي ، والحاكم ، وابن تيمية ، والذهبي ،وابن حجر, والسيوطي ، والشاطبي ،والشوكاني ، وأحمد شاكر والألباني وابن عثيمين والأرنؤوط  ومقبل الوادعي وأيضاً للحديث طرق حسنة كثيرة جداً بمجموعها تصل إلى حد الجزم بصحته، هذا أمر، وأمر آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بخبر آخر: أن الأمة ستتبع الأمم السابقة، وهو الحديث الصحيح المتفق عليه في الصحاح والسنن: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة).

الثاني: هذا الحديث أيضاً فسر بنصوص وألفاظ كثيرة، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، وقوله: (شبراً بشبر وذراعاً بذراع)، وغير ذلك من الألفاظ التي تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر على سبيل التحذير أن الأمة ستقع في الافتراق حتماً، وأن وقوعها أمر واقع يبتلي الله به هذه الأمة، وليس وقوع الافتراق ذماً إلا للمفترقين، ليس هو ذماً على الإسلام، ولا ذماً على أهل السنة والجماعة وأهل الحق، إنما هو ذم للمفترقين، والمفترقون ليسوا هم أهل السنة والجماعـة.

أهل السنة والجماعة هم الباقون على الأصل، وهم الباقون على الإسلام، وهم الذين أقام بهم الله الحجة على الناس إلى قيام الساعة.

إذاً: الافتراق واقع حتماً، وهو أمر حتى لو لم يشهد به الواقع، وتشهد به العقول، فهو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق وألفاظ عديدة؛ لذلك ورد التحذير منه، وإذا كثر التحذير من أمر دل على أن الأمر واقع أو سيقع.

الثالث: النصوص الواردة في القرآن والسنة تتضمن التحذير من اتباع السبل وهي الأهواء والفرق ، من ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام:153].

وقد شرح النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية شرحاً بيناً مفصلاً، بأنْ خَطَّ خطاً طويلاً مستقيماً ثم خط خطوطاً تتفرع عن هذا الخط وتخرج عنه، فقال: إن هذا صراط الله، وهذه السبل هي التي تخرج عن الصراط المستقيم.[رواه أحمد والنسائي في الكبرى بسند صحيح كما قال غير واحد من أهل  العلم]

وكذلك نهانا الله سبحانه وتعالى عن التنازع فقال: ﴿وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال:46].

وكذلك توعد الله سبحانه وتعالى ﴿الذين يخرجون عن سبيل المؤمنين: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء:115]، نسأل الله العافية.

وسبيل المؤمنين هو سبيل أهل السنة والجماعة.

كما أن النبي صلى الله عليه وسلم رتب أحكاماً على المفارقة بدليل أنها ستقع، إضافة إلى إخباره عن الخوارج، وأنهم سيخرجون عن هذه الأمة، وأنهم يمرقون، والمروق لا يعني الكفر والخروج من الملة قطعاً، إنما المروق من أصل الإسلام الذي هو جماعته، والسنة التي عليها أهل السنة.

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل المفارق للجماعة، وكذلك بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن من مات مفارقاً للجماعة مات ميتة جاهلية، وأن الفرقة عذاب، وأن الشذوذ هلكة، وغير ذلك من الأمور والمعاني التي تدل على أن الفرقة واقعة، والتحذير منها لم يكن عبثاً؛ إنما لأنها ستقع ابتلاء، ولا تقع إلا والناس على بصيرة، يعرفون الحق وهو موجود في الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، ويميزون بين الحق والباطل، فمن اهتدى اهتدى على بصيرة، ومن ضل ضل على علم، نسأل الله العافية.

 تاريخ الافتراق في الإسلام:

وهذا مفيد؛ لأن فيما حدث في أول الإسلام عبرة.

أول عقائد الافتراق التي ظهرت في الأمة هي العقائد السبئية عقائد الشيعة، فأول ما سمع الصحابة من عقائد الافتراق والفرقة بين المسلمين هي عقائد السبئية، وقد قال بها شخص اختُلف في اسمه، والأشهر أنه عبد الله بن سبأ ، فقال بها بين المسلمين فاعتنقها كثير من المنافقين، ومن الكائديـن الذين كادوا للإسلام، ومن الجهلة، ومن الموتورين الذين ظهر الإسلام على بلادهم وعلى أديانهم، فاعتنقوا مقولات ابن سبأ فسارت بين المسلمين سراً حتى ظهرت منها: الشيعة، والخوارج.

هذا بالنسبة لأول العقائد التي ظهرت بين المسلمين تخالف أصول الإسلام وتشمل سائر أمور العقيدة.

أما أول الفرق ظهوراً وافتراقاً عن إمام المسلمين وعن جماعتهم فهي الخوارج، والخوارج نابتة نبتت من السبئية، الخوارج هي فرقة سبئية، وبعض الناس يظن أن السبئية شيء والخوارج شيء آخر، لا، الخوارج هم نبتة من نبتات السبئية النكدة، وكذلك الشيعة نبتة من نبتات السبئية النكدة، والسبئية افترقت إلى فرقتين رئيسيتين: هي الخوارج، والشيعة.

رغم ما بين الخوارج والشيعة من بعض الفوارق، إلا أن الأصل واحد، وأصل ذلك الفتنة على عثمان رضي الله عنه التي أثارها ابن سبأ بأفكاره وعقائده وأعماله، فانبجست منها أخبث العقائد: وهي الخوارج، والشيعة.

والفرق بين الشيعة والخوارج أيضاً صنعه المبطلون، بمعنى أن ابن سبأ بذر بذوراً تناسب طائفة الخوارج، وبذوراً أخرى تناسب طائفة الشيعة، وجعل بينهما شيئاً من العداء لتفترق الأمة كما يحدث الآن، أو كما صنع أعداء الإسلام ضد المسلمين ما يسمى بلعبة اليمين واليسار، قسموا المسلمين إلى أحزاب، هذا أحزاب يمين وهذه أحزاب يسار، وهذه اللعبة واحدة، ومنشؤها واحد، وأصل القائلين بها واحد، هذا أمر.

وأمر آخر لابد من التنبيه عليه: وهو أنه في تاريخ الافتراق لم يحصل من الصحابة افتراق البتة، وما حصل بين الصحابة إنما هو خلافات كانت تنتهي إما بالإجماع، وإما بالخضوع لرأي الجماعة والالتفاف حول الإمام، هذا هو ما حصل بين الصحابة، ولم يحصل من صحابي أن افترق عن الجماعة، فالصحابة الأئمة المقتدى بهم في الدين لم يحصل من أحد منهم أنه فارق الجماعة أبداً، ولم يحصل أن أحداً منهم أيضاً يُعد قوله أصلاً في البدع، ولا أصلاً في الافتراق، والذين نسبوا بعض المقولات أو بعض الفرق إلى بعض الصحابة إنما افتروا عليهم أكبر فرية، ولا صحة لما يقال: من أن علي بن أبي طالب هو أصل التشيع، أو أن أبا ذر هو أصل الاشتراكية، أو أن فلاناً من الصحابة هو أصل كذا، كل ذلك إنما هو من الباطل المحض.

ثم إن الافتراق لم يحدث إلا بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، وحينما حدثت الفتنة بين المسلمين خرجت خارجة الخوارج، وخارجة الشيعة، أما في عهد الخليفتين أبي بكر وعمر ، بل حتى في عهد عثمان لم يحدث افتراق البتة.

ثم إن الصحابة قاوموا الافتراق، ولا يظن ظان أن الصحابة غفلوا أو جهلوا، أو أنهم لم يتنبهوا لمسائل الافتراق، سواء كانت أفكاراً أو عقائد أو مواقف أو أعمالاً، بل وقفوا ضد الافتراق أشد الوقوف، وأبلوا في ذلك بلاء حسناً بحزم وقوة، لكن أمر الله لابد أن يقع.

من المناسب أن أشير إلى أصول البدع التي انبثقت عنها الفرق، ثم انبثق عنها الافتراق، وأقصد بذلك الأشخاص الذين تولوا كبر ذلك وصاروا أئمة ضلالة إلى يوم القيامة، وبعدهم انفتح باب الافتراق، وكثر المضللون.

أول أولئك: عبد الله بن سبأ اليهودي الذي ادعى الإسلام، وأتباعه وأشياعه كثر، فقد جمع بين بدعة الخوارج وبدعة السبئية.

ثم بعد ذلك ظهرت بدعة القول بالقدر، وأول من قال بها على نحو معلن وصار له أتباع هو معبد الجهني ، لكن بدعته لم تكن على الحد الذي كانت عليه فيما بعد من الانحراف والخطورة.

ثم جاء بعده غيلان الدمشقي الذي تولـى إثارة كثير من القضايا حول القدر، وأيضاً حول التأويل والتعطيل.

وغيلان بعدما استتيب ولم يتب قُتل.

ثم جاء بعده الجعد بن درهم فتوسع في هذه المقولات، وجمع بين مقولات القدرية، ومقولات المعطلة والمؤولة، وأثار الشبهات بين المسلمين، حتى انبرى له كثير من السلف واستتابوه ولم يتب، وجادلوه وأقاموا عليه الحجة فلم يرجع، فلما افتتن به الناس حُكم بضرورة قتله درءاً للفتنة، فقتله خالد بن عبد الله القسري في قصته المشهورة، حينما قال بعد خطبته في عيد الأضحى :"ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مُضَحٍّ بـالجعد بن درهم؛ فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً".. إلى آخره من المقولات، فعدَّها ثم نزل من المنبر وقتله.

ثم بعد ذلك انطفأت الفتنة بعض الوقت، حتى ظهرت على يد الجهم بن صفوان ، وهذا أيضاً جمع بين مساوئ الأولين وضلالاتهم وزاد عليها، وخرجت عنه بدعة الجهمية، وبدع الجهمية وقولها كفريات.

ثم ظهر في وقته واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وهذان هما أصل المعتزلة.

ثم انفتح باب الافتراق فبدأت الرافضة تعلن عقائدها، وانقسمت إلى فرق كثيرة، وظهرت المشبهة من الرافضة على يد داود الجواربي وهشام بن الحكم وهشام الجواليقي ، وهؤلاء هم أصول المشبهة الأوائل، وهم رافضة.

ثم جاء المتكلمون، ثم المتصوفة والفلاسفة، فانفتح باب الافتراق على مصراعيه لكل ضال ومبتدع ومتبع للهوى، وبقيت أصول الفرق بين المسلمين حتى اليوم.

لا تزال أصول الفرق بين المسلمين باقية حتى يومنا هذا، بل تتجدد بدع وحوادث جديدة تضيف إلى الافتراق افتراقاً جديداً، بحسب أهواء الناس وتمرسهم في البدع والضلالات.

 أسباب الافتراق:

هناك أسباب كبرى رئيسة، وتكاد تتفق عليها أصول الفرق قديماً وحديثاً، ملخصها فيما يلي:

أول أسباب الافتراق وأشدها نكاية على الأمة: كيد الكائدين بأصنافهم من أهل الديانات، كاليهود والنصارى والصابئة والمجوس، وكذلك من الموتورين الذين حقدوا على الإسلام والمسلمين؛ لأن الجهاد قضى على دولتهم، ومحا أديانهم من الأرض، فهؤلاء بقوا على حقدهم للدين والإسلام، وآثروا النفاق والزندقة على أن يبقوا على دياناتهم؛ حفظاً لرقابهم، أو للتعايش مع المسلمين، وهؤلاء هم أشد المعاول فتكاً بالمسلمين، والكيد لهم بدس الأفكار والمبادئ المنحرفة والبدع والأهواء بينهم.

كذلك كيد المنافقين وهذا يشمل أولئك وغيرهم، وكيد أهل الفساد وأهل الملل والزندقة.

السبب الثاني: أهل الأهواء الذين يجدون مصالح شخصية أو شعوبية في الافتراق، فكثير من أتباع الفرق ممن يجدون في الفرق تحقيقاً لمصالح شخصية إما شهوات وإما أهواء وإما أغراض عصبية أو شعوبية أو قبلية.. أو غيرها، وربما بعضهم يقاتل لهذا الأمر لهوى أو لعصبية، فهم الذين يكثِّرون أتباع الفرق، ويجتمعون حولهم لتحقيق هذه المصالح، وهذه الطائفة موجودة في كل زمان ومكان، متى ما ظهر في الناس رأي شاذ أو بدعة أو صاحب هوى، فإنه يجد من الغوغاء ومن أصحاب الأهـواء والشهوات والأغراض الشخصية من يتبعه لتحقيق ذلك.

السبب الثالث: الجهل، والجهل يشمل كل الأسباب، لكن الجهل هو مدخل لأصحاب الأهواء على الجهلة، وأيضاً الجهل هو قد يوقع صاحبه في البدعة، والجهل هو عدم التفقه في الدين وليس مجرد عدم تحصيل المعلومات، والإنسان بإمكانه أن يحصل ما يحصن به نفسه وما يحفظ به دينه من العلم، ويكون بذلك عالماً بدينه ولو لم يتبحر في العلم، والعكس كذلك، قد يوجد من الناس من يعلم الشيء الكثير، وذهنه محشو بالمعلومات، لكنه يجهل بدهيات الأصول الشرعية، مثل: أحكام الخلاف، وأحكام الافتراق، وأحكام التعامل مع الآخرين، وهذه مصيبة كبرى أصيب بها كثير من الناس اليوم، تجد الواحد منهم لديه معلومات شرعية أخذها من مصادر كثيرة، لكن تجده جاهلاً في أحكام الخلاف والحكم على الآخرين، وفي أحكام التعامل مع الناس، وفي أحكام الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيُفسد من حيث لا يشعر، فالجهل مصيبة والجهل سبب رئيسي لوجود الافتراق، والجهلاء هم مادة الفرق وهم وقودها.

السبب الرابع: الخلل في منهـج تلقي الدين، وأقصد بذلك أنه قد يوجد لدى كثير من الناس كما أسلفت علم، وقد يطلع على كثير من الكتب، لكن عنده خلل في منهج تلقي الدين؛ لأن تلقي الدين له منهج مأثور منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وسلف الأمة، واقتفاه أئمة الهدى إلى يومنا هذا.

وهذا المنهج إنما هو علم واهتداء واقتداء وسلوك، وهو يتعلق بالقواعد الشرعية والأصول العامة، أكثر مما يتعلق بفرعيات الأحكام أو بكميات النصوص.

 مظاهر الخلل في منهج التلقي:

أولاً: أخذ العلم عن غير أهله، وأقصد بذلك أن الناس صاروا يأخذون العلم عن كل من دعاهم إلى التعلم، وكل من رفع على نفسه فوق رأسه راية الدعوة وقال: أنا داعية، جعلوه إماماً في الدين وتلقوا عنه، وقد لا يفقه من الدين شيئاً.

فلذلك ظهرت في العالم الإسلامي دعوات كبرى ينضوي تحت لوائها ملايين من الناس خاصة الشباب، وأئمتها جهلة في بدهيات الدين، فيفتون بغير علم، ويَضلون ويُضلون، وسبب ذلك أنهم وجدوا أتباعاً لهم يأخذون عنهم دون ترو ودون تثبت، ودون منهج صحيح، لا يتثبتون هل هم أهل للتلقي أم لا؟ ثم أيضاً الناس تجذبهم العواطف أكثر مما يجذبهم العلم والفقه، وهذا خطأ فادح، بمعنى أنه بمجرد أن يظهر الداعية وتكون له شهرة وأثر في الناس يجعله الناس إماماً في الدين، حتى لو لم يعلم شيئاً، وهذا خطأ فادح، بل لا ينبغي أن يتصدر الدعوة إلى الله ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا العلماء الأجلاء الذين يفقهون الدين، ويأخذونه من أصوله على منهج سليم صحيح، وإلا فليس كل من حُشي ذهنه يكون إماماً في الدين؛ لأنه قد يوجد من الفسقة بل قد يوجد من الكفرة من يعلم من فرعيات الدين الشيء الكثير، ووجد من المستشرقين من يحفظ بعض الكتب الكبيرة في الفقه الإسلامي، بل حتى منهم من يحفظ القرآن، ويحفظ صحيح البخاري ، ويحفظ بعض السنن.

ووجد من المستشرقين منذ سنين من يحفظ المغني في الفقه الحنبلي تسعة مجلدات، فهذا يحفظ العلم، لكن لا يفقه من الدين شيئاً، وقد يكون هناك مثله ممن يدعي الإسلام، قد يكون عنده من المعلومات الشيء الكثير، لكن لا يفقه منهج التلقي، ولم يأخذ الدين عن منهجه الصحيح، فصار يفتي بغير علم.

ثانيا: الاستقلالية عن العلماء والأئمة، أي: استقلالية بعض المتعلمين الأحداث عن العلماء، فيكتفون بأخذ العلم عن الكتاب والشريط والمجلة والوسيلة، ويعزفون عن التلقي عن العلماء، وهذا منهج خطير، بل هو بذرة خطيرة للافتراق، ولو رجعنا إلى أسباب الافتراق في أول تاريخ الإسلام -افتراق الخوارج والرافضة- لوجدنا أن من أهم أسباب وجود هذا الافتراق فيمن ينتسبون للإسلام، وأعظم أسباب هلاكهم وافتراقهم هو انعزالهم عن الصحابة، وأخذهم العلم عن أنفسهم، قالوا: "عَلِمْنا القرآن وعَلِمْنا السنة فلسنا بحاجة إلى الرجال"، وهذا حق أريد به باطل.

فمن هنا استقلوا عن منهج التلقي الصحيح المأخوذ عن النبي صلى الله عليه وسلم بالقدوة والاهتداء، والذي أخذ عن الصحابة وعن السلف بهذا الطريق هم العدول جيلاً عن جيل.

كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يأخذ هذا العلم من كل خلف عدوله) [روي من طريق متعددة وصححه الألباني ] والعدول: هم الثقات الذين يأخذون الدين وينقلونه إلى الآخرين.

والاستقلالية خطر كبير جداً؛ لأن العلم إنما تكون بركته وتلقيه الصحيح عن العلماء، والعلماء لا يمكن أن ينقطعوا في أي زمان.

ودعوى بعض الناس أن في العلماء نقصاً وتقصيراً هذه دعوى مضللة، نعم العلماء بشر لا يخلون من نقص وتقصير، لكنهم مع ذلك هم القدوة، وهم الذين جعل الله أخذ الديـن عن طريقهم، وهم أهل الذكر، وهم الراسخون، وهم أئمة الهدى، وهم المؤمنون الذين من تخلف عن سبيلهم هلك، وتلقي العلم عن غير أهله خطر على صاحبه وعلى الأمة.

ثالثاً: من مظاهر الخلل: ازدراء العلماء واحتقارهم والتعالي عليهم، وهذه مظاهر شاذة مع الأسف بدأنا نرى نماذج منها، وهذا أمر خطير يجب أن نتناصح فيه، وما لم يعالجه طلاب العلم والعلماء فالأمر خطير.

رابعاً: تتلمذ الأحداث -أي: صغار السن- على بعضهم، أو على طلاب العلم الذين هم دون من هم أعلم منهم، بمعنى التتلمذ الكامل، ولا أقصد بذلك أنه لا يجوز أخذ العلم عن أي طالب علم ، من أجاد أي علم من العلوم الشرعية أخذ عنه، لكن لا يعني الاستغناء به عمن هو أعلم منه، فمكمن الخطر أن يستغني بعض الشباب في أخذ علمه وقدوته وسلوكه وهديه ببعض طلاب العلم عـن العلماء الذين هم أجل وأكبر وأعلم، وهذا مسلك خطير، بل أخطر منه أن يكون بعض الصغار شيوخاً لبعض في العلم، ولا أقصد بذلك عدم وجود المجالسة والمخالطة والمشاركة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، هذا أمر مطلوب، والاجتماع على ذلك مطلب شرعي ضروري، لكن أقصد تلقي العلم بهذه الطريقة، والاستغناء به عن أخذه عن العلماء.

إذاً: هذا مسلك خطير، وهو من أسباب وجود الافتراق؛ لأنه يؤدي إلى حصر أخذ الدين عن أناس معينين، والتحزب لهم، والتعصب لهم، ومن ثم تكون هذه بذور للافتراق.

خامساً: اعتبار اتباع الأئمة على هدى وبصيرة تقليد، وهذه شنشنة نسمعها كثيراً من بعض المتعالمين، فيقولون: إن اتباع المشايخ تقليد، والتقليد لا يجوز في الدين، وهم رجال ونحن رجال، وعلينا أن نجتهد كما اجتهدوا، ونحن نملك الوسائل والكتب، والآن توافرت وسائل العلم، فما لنا وأخذ العلم عن العلماء، بل أخذ العلم عن العلماء تقليد، والتقليد باطل.

نقول: نعم، التقليد باطل، لكن ما مفهوم التقليد؟! هناك فرق بين التقليد وبين الاتباع والاهتداء، الاتباع واجب شرعاً، وعامة المسلمين بل كثير من طلاب العلم لا يجيدون ممارسة أو أخذ أصول العلم على الطريقة الصحيحة، فممن يأخذون العلم؟ وكيف يأخذون أصول التلقي ومنهج أهل السنة والسلف والأئمة؟

لا يمكن أن يأخذوه إلا باتباع العلماء، والاتباع ليس بتقليد، وإلا فهذا يعني أن كل إنسان هو إمام وحده، ومن هنا يكون كل إنسان فرقة، ويكون عدد الفرق بعدد الناس، وهذا باطل قطعاً.

إذاً: اتباع الأئمة على هدى وبصيرة ليس بتقليد، إنما الاتباع الأعمى هو التقليد.

سادساً: التتلمذ على مجرد الوسائل، وهو أن يكتفي طالب العلم بأخذ العلم عن الكتب، وينطوي وينعزل عن أهل العلم وعن أهل الخير، وعن أهل الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعن العلماء، ويقول: أنا أتلقى العلم عن الكتب وعن الوسائل، ولدي الكتاب والشريط والإذاعة.. إلى آخره، من الوسائل المقروءة والمسموعة، ثم يقول: أنا بإمكاني أن أتعلم بهذه الوسائل.

أقول: لا شك أن هذه الوسائل نعمة، لكنها أيضاً سلاح ذو حدين، فالاكتفاء بأخذ العلوم الشرعية عنها إنما هو مسلك خطير جداً، وهو من أسباب الافتراق؛ لأن هذا يُوجد أشخاصاً وصوراً ممسوخة لأهل العلم، يأخذون العلم على غير أصوله، وعلى غير قواعده، وبغير اهتداء واقتداء، ويأخذون العلم بمشاربهم هم، وبأهوائهم وبأمزجتهم، وبأحكامهم المفردة، والإنسان مهما بلغ من الذكاء والقدرة والتأهل للعلم، فإنه وحده لا يستطيع أن يصل إلى الحق ما لم يعرف ما عليه السلف، وما عليه أهل العلم في وقته، ويعالج قضايا العلم وقضايا الأمة والأحداث مع العلماء، فإنه بذلك يَهلك ويُهلك.

بل إن هذه الوسائل أوجدت عندنا صوراً ممسوخة لمن يسمون بالمثقفين، وعندهم من المعلومات ما يعجب الناس ويبهرهم، لكنهم لا يقرون بأصل، ولا يفهمون منهج السلف، وبذلك يقتدى بهم بغير علم، وهذه الظاهرة كثرت بشكل مزعج، حتى وجد من هذا الصنف أناس يتصدرون الدعوة إلى الله، وتوجيه الشباب على هذا النمط، بمجرد أنهم يملكون من المعرفة والثقافة العامة والكم الهائل من المعلومات الشرعية، دون معرفة للضوابط ولا للأصول ولا للمناهج ولا لكيفيات التطبيق وكيفيات العمل، ولا لطريقة أئمة الدين في تناول مسائل العلم وتطبيقها على النوازل والحوادث.

سابعاً: التقصير في فقه الخلاف، وأقصد بفقه الخلاف معرفة أحكام الخلاف بين المسلمين، وماذا يترتب على الخلاف؟ وما يجوز الخلاف فيه وما لا يجوز؟ وإذا خالف المخالف ماذا نطلق عليه؟ ومتى نطلق عليه الكفر أو الفسق إلى آخره؟ هذه أمور يجهلها كثير من الناس، ومن هنا يحدث الافتراق.

كذلك فقه الاجتماع والجماعة، وهذا أمر غفل عنه الكثير من الشباب الذين يأخذون العلوم الشرعية، غفلوا عن أصول فقه الاجتماع، اجتماع الأمة وجمع الشمل وفقه الجماعة، وأيضاً محاذير الافتراق، ومحاذير الفتن، وما توصل إليه؟ وكذلك عدم التفريق بين الثوابت وبين المتغيرات من الأحكام والأصول.

أيضاً: الجهل بقواعد الشرع ومقاصده العامة، مثل: مسألة جلب المصالح ودرء المفاسد، ومسألة التيسير، ومسألة متى يكون للناس في أمر من الأمور رخصة؟ ومتى يكون لهم ضرورة؟ واللجوء إلى الضرورة كيف يكون؟ وأحكام الفتن، وأحكام السلم، لذلك نجد كثيراً من الناس لا يُفرق في كلامه وأحكامه بين ساعات الشدة والفتن، وبين ساعات السلم والأمن، وهذا ليس بفقه، بل هو خلل كبير، وسبب للافتراق.

وأضرب مثالاً لذلك ما حدث فيما شجر بين إخواننا الأفغان، ما حدث فتنة، والمتبصر يدرك الحق وأصحابه، ويدرك الباطل وأصحابه، ومن لديه حق أكثر وإن كان فيه أخطاء، ومن لديه شيء من الباطل وإن كان عنده حسنات، لكن لا يفقه أحكام الكلام في الفتن، ومتى يكون الكلام مناسباً ومتى لا يكون؟ ومتى يجوز الحديث عن الأشخاص والأحكام عليهم ومتى لا يجوز؟ ولا يفقه المصالح الكبرى للأمة، والمصالح المعتبرة في جمع الشمل، وجمع الكلمة، وضرورة السكوت والإعراض والكف عما يشجر بين المسلمين أثناء الفتن، ودرء المفاسد.. إلى آخره، كثيراً ممن سمعتهم لا يفقهون هذا الأمر مع الأسف، بل ولغ الناس على غير هدى ولا بصيرة في هذا الأمر، ولم يهتدوا بكلام أهل العلم.

ثامناً: التشدد والتعمق في الدين، وهو من أعظم أسباب الافتراق.

قد يقول إنسان: كيف نفرق بين المتشدد وغير المتشدد؟ المتشدد يوزن بنماذج: أول هذه النماذج: العلماء في الأمة -ولا تخلو الأمة من علماء- العلماء في الأمة هم النموذج، فمن زاد على هديهم وسمتهم في الأحكام وفي الهدي والسلوك إلى حد فيه عنت وإرهاق للآخرين، أو مصادمة لما عليه أهل العلم فهذا متشدد، فهم القدوة.

كذلك من علامات التشدد: إيقاع المسلمين في العنت والحرج في أمور دينهم، وأقصد المسلمين الذين هم على السنة لا عبرة بالفساق وأهل الفجور، لكن من هم على اعتدال وعلى سنة وأوقعهم في حرج في دينهم، أو شدد عليهم، ولم يسلك مسلك التيسير في أمورهم التي يضطرون إليها فهو متشدد.

ومن علامات التشدد: التسرع في إطلاق الأحكام، بمجرد ما يسمع قضية أو حادثة أو خبر يحكم على صاحبها غيابياً، أو يحكم قبل أن يتثبت، أو يحكم باللوازم، كأن يقول: إذا كان فلان قد قال كذا فهو كذا بدون نقاش، مثل قولهم: من لم يُكفر فلاناً فهو كافر، سبحان الله ربما ما تبين له كفر فلان، وهكذا من نزعة إطلاق الأحكام والإلزامات في الأقوال.

وأيضاً: الإكثار من التكفير الخارج عن سمت العلماء وعن رأيهم، هذا مَعلم بارز من معالم التشدد.

إذاً: التشدد والتعمق في الدين هو سبب رئيس من أسباب الافتراق، وهو الذي افترقت به الخوارج عن الأمة.

تاسعاً: الابتداع والبدع في الدين، سواء في العقائد والعبادات أو الأحكام.. أو غيرها.

عاشراً: العصبيات بشتى أصنافها وأنواعها، سواء كانت مذهبية أو عرقية أو شعوبية أو قبلية أو حزبية، أو عصبيات شعارات.. أو غيرها، وأخطر تلكم العصبيات هي ما يكون في مجال الدعوة؛ لأنه يُلبس على الناس، وتكون هذه العصبيات مبررة باسم الدين.

حادي عشر: تأثر المسلمين بالأفكار والفلسفات الوافدة عليهم، أياً كان نوع هذه الأفكار والفلسفات، ما دامت تتعلق بأمور الدين أو الأحكام أو العادات الأخلاق.

ثاني عشر: من مظاهر الخلل في التقي والتي حدثت بعد القرون الثلاثة الفاضلة: هي دعاوى التجديد في الدين، ما بين وقت وآخر يظهر على المسلمين بلية يدعي صاحبها أنه يريد أن يجدد للناس أمر دينهم، وقد يكون هذا المجدد جاء لينسف بتجديده قواعد أهل العلم، وما عليه السلف من المناهج والأصول، وما عليه أهل السنة والجماعة من المناهج والأصول، وهذه الدعاوى التي تدعو إلى الافتراق كثرت في الآونة الأخيرة، حتى في مجال الدعوات المعاصرة، وقد كثر الذين يدعون ضرورة التجديد، وليتهم قصدوا بالتجديد تجديد أمور الحياة والوسائل والأساليب والأسباب هذا أمر بدهي، وهو من سنن الله في خلقه، لكنهم قصدوا بالتجديد تجديد الأصول والمناهج في الدين، وتجديد العلوم ومآخذ الفقه في الدين، ومآخذ الأحكام من النصوص.. وغير ذلك، وهذا أمر خطير ينسف كل ما كان عليه أهل السنة والجماعة من الأصول التي أبقتهم على نهج النبي صلى الله عليه وسلم.

ثالث عشر: التساهل في مقاومة ومحاربة مظاهر البدع في المسلمين، بحيث تظهر بعض البدع فيغفل عنها الناس، ويتساهلون فيها ، ثم تنمو وتزيد وتكثر ، وقد تظهر بعض البدع أيضاً بمظاهر ملبسة، تظهر على شكل عادات وأحوال معينة، وقد تأخذ مسميات غير مسميات البدع كالأعياد الوطنية والأيام الوطنية وكرفع الصور وغيرها، وتأخذ تبريرات وأشكالاً وأسماء أخرى غير أسماء البدع حتى تستقر البدع، ثم بعد ذلك ينزع أصحابها إلى الفرقة أو الافتراق عن الدين وعن الأمة.

رابع عشر: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك المناصحة، ووقوع المداهنة في الدين، أيضاً عدم قيام طائفة من الأمة في درء الفساد والافتراق عنها.

 عوامل توقي الافتراق:

أولاً: ينبغي أن نعرف أن توقي الافتراق يكون بتوقي الأسباب والمظاهر التي ذكرت والحذر منها لكن هناك أيضاً أشياء أخرى عامة وخاصة ومن الأشياء العامة:الاعتصام بالكتاب والسنة، وهذه قاعدة عامة تندرج تحتها توصيات أو أمور كثيرة:

الأول: من ذلك معرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء، على المسلم أن يتحرى هدي النبي صلى الله عليه وسلم في كل أمر من أمور الدين، وبهذا سيهتدي ويبتعد عن الافتراق أو النزوع إلى الفرقة.

الثاني: السير على نهج السلف الصالح، من الصحابة والتابعين وأئمة الدين أهل السنة والجماعة.

الثالث: التفقه في الدين، بأخذه عن العلماء وبطريقته الصحيحة بمنهج أهل العلم.

الرابع: الالتفاف حول علماء الأمة، من الأئمة المهتدين الذين تثق الأمة بدينهم وعلمهم، وهم بحمد الله لا يمكن أن تفقدهم الأمة، ومن زعم أنهم يفقدون فقد زعم أن الدين سينتهي؛ لأن الأمة إنما تمثل بعلمائها، وأهل السنة والجماعة إنما يمثلهم أهل العلم والفقه في الدين، فمن ادعى يوماً من الأيام أنه يمكن أن يكون هناك فقد لأهل العلم، أو لا يوجد نموذج من العلماء تهتدي به الأمة فقد زعم أنه ليس هناك طائفة منصورة ولا فرقة ناجية، وأن الحق ينقطع ويعمى على الناس.

الخامس: الحذر من التعالي على العلماء، أو الشذوذ عنهم بأني نوع من أنواع الشذوذ التي تؤدي إلى الفتنة أو المفارقة.

السادس: من ذلك ضرورة معالجة مظاهر الفرقة خاصة عند بعض الأحداث أو المتعجلين، والذين تخفى عليهم الحكمة في الدعوة.

السابع: الحرص على الجماعة والاجتماع والإصلاح بمعانيها العامة وبأصولها، لابد أن يحرص كل مسلم وكل طالب علم وداعية على الجماعة والاجتماع والإصلاح بين الدعاة وأهل الخير، وعلى جمع الكلمة وعلى البر والتقوى.

الثامن: من أراد أن يعتصم بالسنة والجماعة وينجو من الافتراق فعليه أن يلازم أهل العلم، ويلازم الصالحين من أهل التقوى والخير.

التاسع: تجنب الحزبيات وإن كانت في الدعوة، وكذلك العصبيات أياً كان نوعها ومصدرها؛ لأنها بذور للافتراق.

العاشر: بذل النصيحة لولاة الأمور وللعامة، وإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على فقه وبصيرة، وأخص الشباب وأنصحهم بضرورة الالتفات حول العلماء وطلاب العلم، وأن يتلقوا عنهم الدين ويتفقهوا على أيديهم ويحترموهم ويوقروهم، ويصدروا عن رأيهم في كل أمر ذي بال من أمور الأمة، ويلتزموا ما يقررونه في مصالح الأمة، وفي مشكلات المسلمين الكبرى، وعليهم أن يلتزموا بتوجيهات أهل العلم تحقيقاً للمصلحة، وجمعاً للشمل، وصوناً من الفرقة.

وذلك هو منهج السلف الصالح، وهو الهدى، وهو الذي به نستطيع أن نقتدي بأئمة الدين أهل السنة والجماعة، وذلك هو سبيل المؤمنين.

 الفرق:

 1- الخوارج:

الخوارج:  إحدى الفرق التي ظهرت في عهد الصحابة – رضي الله عنهم- وكانت لها آراء أحدثت شرخا في بناء الأمة.

وكان أول ظهور لهذه الفرقة في معركة صِفِّين التي جرت أحداثها بين علي ومعاوية- رضي الله عنهما -، وذلك حين رفع أهل الشام “جيش معاوية” المصاحف داعين أهل العراق “جيش علي” إلى الاحتكام إليها، فاغتر الخوارج بتلك الدعوة، في حين رآها علي- رضي الله عنه- حيلة من أهل الشام لدفع هزيمة بدت علاماتها، فتوجه إليهم- رضي الله عنه- بأن يواصلوا القتال، إلا أنهم أبوا إلا قبول تلك الدعوة، وحَمل علي على قبولها، وتهددوه قائلين: “أجب إلى كتاب الله- عز وجل- إذ دعيت إليه، وإلا دفعناك برمتك إلى القوم..!“ فنهاهم- رضي الله عنه- فأبوا، فقبل- رضي الله عنه- بالتحكيم استجابة لهم وصيانة لجماعة المسلمين من التفرق والتشرذم.

ثم انتدب- رضي الله عنه- ابن عباس للمفاوضة عنه، فرغب الخوارج عنه وقال هو منك وسيحابيك، ولكن أرسِلْ أبا موسى فإنه قد اعتزل القتال ونصح لنا، فوافق علي- رضي الله عنه- على كره منه.

وعندما اجتمع الحكمان- أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص- اتفقا على تأجيل التحكيم إلى رمضان، فرجع علي بمن معه من صفين إلى الكوفة، إلا أن الخوارج انقلبوا على موقفهم، وأعلنوا البراءة من التحكيم، ورأوا فيه ضلالا وكفرا، وهم الذين تهددوا عليا- رضي الله عنه- بقبوله والرضا به، ففارقوا الجماعة رأيا وفارقوها جسدا، إذ انحاز اثنا عشر ألفا منهم إلى حروراء، فأرسل إليهم عليٌ- رضي الله عنه- عبدَالله بن عباس- رضي الله عنهما -، وقال له: لا تعجل إلى جوابهم وخصومتهم حتى آتيك، فاستعجلوا محاورته فحاورهم- رضي الله عنه -، فلجَّوا في خصامه. فلما جاء علي أجابهم على ما نقموا عليه من أمر الحكمين، وكان مما اعترضوا عليه قولهم: خَبِّرنا: أتَراهُ عَدلاً تَحكيمَ الرجالِ في الدماء؟ فقال لهم علي- رضي الله عنه -: إنا لسنا حكمنا الرجال إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق إنما يتكلم به الرجال. قالوا: فخَبِّرنا عن الأجل لم جعلته بينكم؟ قال: ليعلم الجاهل ويتثبت العالم، ولعل الله يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة، ادخلوا مصركم رحمكم الله. فدخلوا من عند آخرهم.

ولما دخلوا الكوفة أظهروا المعارضة مرة أخرى لقضية التحكيم، وعندما اعتزم علي أن يبعث أبا موسى للحكومة، أتاه زرعة بن البرج الطائي وحرقوص بن زهير السعدي من الخوارج ودار حوار بينهم ثم خرجا من عنده يناديان لا حَكَمَ إلا الله ، ثم تطورت الأمور فكان لا بد من قتالهم .

وقعة النهروان (38هـ ):

انحاز الخوارج- بعد معارضتهم لعلي- وخرجوا على جماعة المسلمين، وقتلوا عبدالله بن خباب بن الأرت، وبقروا بطن جاريته، فطالبهم علي- رضي الله عنه- بقتلته فأبوا عليه وقالوا كلنا قَتَلَهُ، وكلنا مستحلُّ دمائكم ودمائهم، فوعظهم وأنَّبهم ونصح لهم، فأبوا إلا المناجزة والقتال، فقاتلهم- رضي الله عنه- بمن معه حتى أفناهم فلم يبق منهم إلا سبعة أو ثمانية- كما يذكر المؤرخون- تفرقوا في البلاد، ومنهم نبتت بذرة الخوارج

 أهم عقائد وأفكار الخوارج:

1- الخروج على الحكام إذا خالفوا منهجهم وفهمهم للدين.

2- تكفير أصحاب الكبائر.

3- التبرؤ من الخليفتين الراشدين عثمان وعلي- رضي الله عنهما -.

4- تجويز الإمامة العظمى في غير القرشي، فكل من ينصبونه ويقيم العدل فهو الإمام، سواء أكان عبدا أم حرا، عجميا أم عربيا.

5- إسقاط حد الرجم عن الزاني، وإسقاط حد القذف عمن قذف المحصنين من الرجال دون من قذف المحصنات من النساء.

6- إنكار بعضهم سورة يوسف، وهو من أقبح أقوالهم وأشنعها، وهذا القول ينسب إلى العجاردة منهم، حيث قالوا لا يجوز أن تكون قصة العشق من القرآن!!

7- القول بوجوب قضاء الصلاة على الحائض، فخالفوا النص والإجماع.

 من صفات الخوارج في الحديث النبوي:

تواترت الأحاديث في التحذير منهم وبيان صفاتهم، ومن ذلك:

1- قلة فهم القرآن ووعيه، فعن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله أنه قال في وصفهم: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّميَّة) متفق عليه.

2- زهد وعبادة وخبث اعتقاد.

3- سِلْمٌ على أهل الكفر حرب على أهل الإسلام: فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال في وصفهم: (يقتلون أهل الإسلام ويَدَعُون أهل الأوثان).

4- صغار الأسنان سفهاء الأحلام: فعن علي- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال في وصف الخوارج: (حدثاء الأسنان وسفهاء الأحلام) متفق عليه.

5- ومن أوصافهم التحليق، كما ثبت في صحيح “البخاري” مرفوعا إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال في وصفهم: (سيماهم التحليق) والمراد به: حلق رؤسهم على صفة خاصة، أو حلقها بالكلية، حيث لم يكن ذلك من عادة المسلمين ولا من هديهم في غير النسك.

6- أنهم يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان، كما قال: (( يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان )) ( متفق عليه) ولم يعرف في جميع العصور أن الخوارج قاتلوا الكفار أبداً، وإنما قتالهم للمسلمين

7- أنهم يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي الخويصرة :(( دعوه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية )) ( أخرجه الإمام أحمد وهو صحيح )

ويصدق عليهم قول الله تعالى ﴿قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا﴾.

8- أنهم يطعنون على أمرائهم ويشهدون عليهم بالضلال، كما فعل ذو الخويصرة مع النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان يقسّم الغنائم، قال له: (اعدِل يا نبيَّ اللَّهِ فقالَ لهُ رسولُ اللَّهِ ويحَكَ فمَن يَعدلُ إن لَم أعدِلْ؟ قد خِبتُ وخسَرتُ إن كنتُ لا أعدِلُ قالَ: إنَّ هذا وأصحابَهُ يخرجونَ فيكُم، يقرؤونَ القرآنَ لا يجاوزُ حناجرَهم يمرُقونَ منَ الدِّينِ مروقَ السَّهمِ منَ الرَّميَّةِ) [متفق عليه] ،ولا زال هذا ديدن الخوارج في كل العصور الإسلامية إلى عصرنا هذا

9- أنهم لا يرون لأهل العلم والفضل مكانة إذا خالفوا رأيهم ومنهجهم، ولذا زعموا أنهم أعلم من علي بن أبي طالب و ابن عباس و سائر الصحابة وحصل منهم من الأذية للصحابة ما حصل.

10- سوء استدلالهم بالقرآن ، فإنهم يستدلون بقتلهم للمؤمنين بالآيات الدالة على قتل الكفار، كما قال ابن عمر رضي الله عنه: (( انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المؤمنين )) ( رواه البخاري)

11- أنهم يكفرون من لم يقل برأيهم ويستحلون دمه، ومن ذلك ما وقع لهم أيضاً في قصة مقتل الصحابي الجليل عبدالله بن خباب رضي الله عنه.

12- أنهم لا يرون إمامة الإمام الجائر، أي الظالم، مع أن أحاديث الرسول ﷺ في الصبر على جور الحكام متكاثرة في كتب السنة، ولكن﴿ومن لم يجعل الله له نور فما له من نور﴾‏‏، ويقولون بوجوب قتاله ومن رضي بحكمه ومن عاونه ومن صار دليلاً له، ولذلك تجدهم يستحلون قتل رجال الأمن والشرطة، بحجة أنهم أعوان الظلمة وجنودهم.

وخاتمة الأوصاف النبوية للخوارج أنهم (شر الخلق والخليقة) كما ثبت ذلك في صحيح مسلم، وأن قتلاهم (شر قتلى تحت أديم السماء) كما عند الطبراني مرفوعا، وأنهم (كلاب النار) كما في مسند أحمد .

 كيفية التعامل مع الخوارج:

لقد وضع أمير المؤمنين- رضي الله عنه- منهجا قويما في التعامل مع هذه الطائفة، تمثل هذا المنهج في قوله- رضي الله عنه- للخوارج: “.. إلا إن لكم عندي ثلاث خلال ما كنتم معنا: لن نمنعكم مساجد الله، ولا نمنعكم فيئا ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا“ [رواه البيهقي وابن أبي شيبة].

وهذه المعاملة في حال التزموا جماعة المسلمين ولم تمتد أيديهم إليها بالبغي والعدوان، أما إذا امتدت أيديهم إلى حرمات المسلمين فيجب دفعهم وكف أذاهم عن المسلمين، وهذا ما فعله أمير المؤمنين علي- رضي الله عنه- وأبادهم في وقعة النهروان.

ومن منهجه- رضي الله عنه- في التعامل مع الخوارج حال بقائهم في جماعة المسلمين محاورتهم لإزالة اللبس عنهم، فقد أرسل إليهم عبدالله بن عباس رضي الله عنه فحاورهم، وحاورهم هو بنفسه فرجع منهم جم غفير.

فهذه لمحة موجزة عن هذه الفرقة، التي ضلت بأفكارها فكفرت المسلمين وفي مقدمتهم سادات من صحابة النبي- صلى الله عليه وسلم- كعلي وعثمان- رضي الله عنهما -، وضلت في سلوكها فغدت وبالا على المسلمين فاستحلت دماءهم وأعراضهم وأموالهم، في حين سلم منها الكفار فكانوا منها في عافية، نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، آمين.

 الفرق

 2- المرجئة:

المرجئة لغة: من الإرجاء: وهو التأخير والإمهال ، قال تعالى:﴿قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾. أي: أمهله .

وفي الاصطلاح: استقر المعنى الاصطلاحي للمرجئة عند السلف على أنه: القول بأن الإيمان قول بلا عمل ، أي إخراج الأعمال من مسمى الإيمان ، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص .

 أول ظهور المرجئة :

ظهرت بدعة المرجئة في أواخر عصر الصحابة ، قال قتادة: " إنّما أحدث الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث“. وكانت فتنة ابن الأشعث ما بين سنة 81-83هـ .

 أهم اعتقادات المرجئة :

1- تعريف الإيمان بأنه التصديق بالقلب ، أو التصديق بالقلب والنطق باللسان فقط.

2- أن العمل ليس من الإيمان ، وأن تركه بالكلية لا ينفى الإيمان بالكلية .

3- أن أصحاب المعاصي مؤمنون كاملو الإيمان بكمال تصديقهم .

4- أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأن التصديق بالشيء والجزم به لا يدخله زيادة ولا نقصان عندهم .

والمرجئة ليسوا على مذهب واحد ، وإنما هم طوائف ومذاهب ، يقول الشيخ الفوزان حفظه الله :" منهم من يقول الإيمان هو التصديق، ما هو بمجرد المعرفة ، بل التصديق بالقلب، ولا يلزم الإقرار والعمل ، هذا قول الأشاعرة ، وهذا قول باطل بلا شك، لكن ما هو بمثل مذهب الجهم .

ومنهم من يقول الإيمان هو الإقرار باللسان ولو لم يعتقد بقلبه -قول الكرّامية-، وهذا قول باطل؛ لأن المنافقين يقولون بألسنتهم، والله حكم أنهم في الدرك الأسفل من النار، معنى هذا أنهم مؤمنون.

وأخفّهم الذي يقول: إن الإيمان اعتقاد بالقلب ونطق باللسان، هذا أخفّ أنواع المرجئة، لكنهم يشتركون كلهم بعدم الاهتمام بالعمل، لكن بعضهم أخفّ من بعض "

وقد تواتر عن السلف ذم الإرجاء وأهله، وعد هذه الطائفة من أصحاب الأهواء والبدع:فقال الأوزاعيّ: " كان يحيى وقتادة يقولان: " ليس من الأهواء شيء أخوف عندهم على الأمّة من الإرجاء "

وقال ابن بطة رحمه الله :" والمرجئة تزعم أنّ الصّلاة والزّكاة ليستا من الإيمان, فقد أكذبهم اللّه عزّ وجلّ, وأبان خلافهم ، واعلموا رحمكم اللّه أنّ اللّه عزّ جلّ لم يثن على المؤمنين, ولم يصف ما أعدّ لهم من النّعيم المقيم, والنّجاة من العذاب الأليم, ولم يخبرهم برضاه عنهم إلّا بالعمل الصّالح, والسّعي الرّابح, وقرن القول بالعمل, والنّيّة بالإخلاص, حتّى صار اسم الإيمان مشتملا على المعاني الثّلاثة لا ينفصل بعضها من بعض, ولا ينفع بعضها دون بعض, حتّى صار الإيمان قولا باللّسان, وعملا بالجوارح, ومعرفة بالقلب ، خلافا لقول المرجئة الضّالّة الّذين زاغت قلوبهم, وتلاعبت الشّياطين بعقولهم, وذكر اللّه عزّ وجلّ ذلك كلّه في كتابه, والرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم في سنّته ".

 الفرق:

 3- الشيعة:

التعريف :الشيعة الإمامية الاثنا عشرية هم تلك الفرقة من المسلمين الذين زعموا أن عليًا هو الأحق في وراثة الخلافة  دون الشيخين وعثمان رضي الله عنهم أجمعين وقد أطلق عليهم الإمامية لأنهم جعلوا من الإمامة القضية الأساسية التي تشغلهم وسُمُّوا بالاثنى عشرية لأنهم قالوا باثني عشر إمامًا دخل آخرهم السرداب بسامراء على حد زعمهم. كما أنهم القسم المقابل لأهل السنة والجماعة في فكرهم وآرائهم المتميزة، وهم يعملون لنشر مذهبهم ليعم العالم الإسلامي.

 التأسيس وأبرز الشخصيات:

الاثنا عشر إمامًا الذين يتخذهم الإمامية أئمة لهم يتسلسلون على النحو التالي:

1- علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي يلقبونه بالمرتضى ـ رابع الخلفاء الراشدين، وصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مات غيلةً حينما أقدم الخارجي عبد الرحمن بن ملجم على قتله في مسجد الكوفة في 17 رمضان سنة 40 هـ.

2- الحسن بن علي رضي الله عنهما، ويلقبونه بالمجتبى (3 ـ 50هـ).

3- الحسين بن علي رضي الله عنهما ويلقبونه بالشهيد (4 ـ 61هـ).

4- علي زين العابدين بن الحسين ويلقبونه بالسَّجَّاد(38 ـ 95 هـ).

5- محمد بن علي زين العابدين ويلقبونه بالباقر(57 ـ 114هـ).

6- جعفر بن محمد الباقر ويلقبونه بالصادق. (83 ـ 148هـ)

7- موسى بن جعفر الصادق ويلقبونه بالكاظم(128 ـ 183هـ).

8- علي بن موسى الكاظم ويلقبونه بالرضى(148 ـ 203هـ).

9- محمد بن علي الرضا ويلقبونه بالتقي (195 ـ 220هـ).

10- علي الهادي بن محمد الجواد ويلقبونه بالنقي. (212 ـ 254هـ)

11- الحسن العسكري بن علي عبد الهادي ويلقبونه بالزكي(232 ـ 260هـ).

12- محمد المهدي بن الحسن العسكري (256هـ ـ...) ويلقبونه بالحجة القائم المنتظر، وهو الذي يزعمون أنه الإمام الثاني عشر الذي دخل سردابًا في دار أبيه بِسُرَّ مَنْ رأى ولم يعد،غير أن معظم الباحثين يذهبون إلى أنه غير موجود أصلاً وأنه من اختراعات الشيعة  ويطلقون عليه لقب (المعدوم أو الموهوم).

1- من شخصياتهم البارزة تاريخيًّا عبد الله بن سبأ، وهو يهودي من اليمن أظهر الإسلام ونقل ما وجده في الفكر اليهودي إلى التشيع كالقول بالرجعة ، وعدم الموت، وملك الأرض، والقدرة على أشياء لا يقدر عليها أحد من الخلق، والعلم بما لا يعلمه أحد، وإثبات البداء  والنسيان على الله عزّ وجلّ تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا. وقد كان يقول في يهوديته بأن يوشع بن نون وصي موسى عليه السلام، فقال في الإسلام بأن عليًّا وصي محمد صلى الله عليه وسلم، تنقل من المدينة إلى مصر والكوفة والفسطاط والبصرة،وادعى ألوهية علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهمَّ عليٌّ بقتله لكن عبد الله بن عباس نصحه بأن لا يفعل، فنفاه إلى المدائن.

2- منصور أحمد بن أبي طالب الطبرسي المتوفى سنة 588هـ صاحب كتاب الاحتجاج طبع في إيران سنة 1302هـ.

3- الكُلَيني صاحب كتاب الكافي وهو عندهم بمنزلة صحيح البخاري عند أهل السنة  ويزعمون بأن فيه 16199 حديثًا.

4- الحاج ميرزا حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي المتوفى سنة 1320هـ والمدفون في المشهد المرتضوي بالنجف، وهو صاحب كتاب "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رَبِّ الأرباب"؛ يزعم فيه بأن القرآن قد زيد فيه ونقص منه. ومن ذلك ادعاؤهم في سورة الانشراح نقص عبارة (وجعلنا عليًّا صهرك)، معاذ الله أن يكون ادعاؤهم هذا صحيحًا. وقد طبع هذا الكتاب في إيران سنة 1289هـ.

5-  آية الله المامقاني صاحب كتاب "تنقيح المقال في أحوال الرجال" وهو لديهم إمام الجرح والتعديل، وفيه يطلق على أبي بكر وعمر لقب الجبت والطاغوت !!

6- أبو جعفر الطوسي صاحب كتاب تهذيب الأحكام، ومحمد بن مرتضى المدعو ملا محسن الكاشي صاحب كتاب الوافي ومحمد بن الحسن الحر العاملي صاحب كتاب وسائل الشيعة إلى أحاديث الشريعة ومحمد باقر بن الشيخ محمد تقي المعروف بالمجلسي صاحب كتاب بحار الأنوار في أحاديث النبي والأئمة الأطهار وفتح الله الكاشاني صاحب كتاب منهج الصادقين وابن أبي الحديد صاحب كتاب "شرح نهج البلاغة".

7- آية الله الخميني: من رجالات الشيعة  المعاصرين، قاد ثورة شيعية في إيران تسلمت زمام الحكم، وله كتاب كشف الأسرار وكتاب الحكومة الإسلامية. وقد قال بفكرة ولاية الفقيه. وبالرغم من أنه رفع شعارات إسلامية عامة في بداية الثورة ، إلا أنه ما لبث أن كشف عن نزعة شيعية متعصبة ضيقة ورغبة في تصدير ثورته إلى بقية العالم الإسلامي فقد اتخذ إجراءات أدى بعضها مع أسباب أخرى إلى قيام حرب استمرت ثماني سنوات مع العراق.

 أهم الأفكار والمعتقدات:

1- الإمامة: وتكون بالنص، إذ يجب أن ينص الإمام السابق على الإمام اللاحق بالعين لا بالوصف، والإمامة عندهم من الأمور الهامة التي لا يجوز أن يفارق النبي صلى الله عليه وسلم الأمة ويتركها هملاً يرى كل واحد منهم رأيًّا. بل يجب أن يعين شخصًا هو المرجوع إليه والمعوَّل عليه. ، ولذلك فهم يعتقدون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نص على إمامة علي من بعده نصًًّا ظاهرًا يوم غدير خم، وهي حادثة لا يثبتها محدثو أهل السنة  ولا مؤرخوهم.

ـ ويزعمون أن عليًّا قد نص على ولديه الحسن والحسين.. وهكذا.. فكل إمام يعين الإمام الذي يليه بوصية منه. ويسمونهم الأوصياء.

2- العصمة: كل الأئمة عندهم معصومون عن الخطأ والنسيان، وعن اقتراف الكبائر والصغائر.

3- العلم اللدني: كل إمام من الأئمة أُودع العلم من لدن الرسول  صلى الله عليه وسلم، بما يكمل الشريعة، وهو يملك علمًا لدنيًّا ولا يوجد بينه وبين النبي من فرق سوى أنه لا يوحى إليه، وقد استودعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرار الشريعة ليبينوا للناس ما يقتضيه زمانهم.

4- خوارق العادات: يجوز أن تجري هذه الخوارق على يد الإمام، ويسمون ذلك معجزة ، وإذا لم يكن هناك نص على إمام من الإمام السابق عليه وجب أن يكون إثبات الإمامة في هذه الحالة بالخارقة.

5- الغيبة: يرون أن الزمان لا يخلو من حجة لله عقلاً وشرعًا، ويترتب على ذلك أن الإمام الثاني عشر قد غاب في سردابه، كما زعموا، وأن له غيبة صغرى وغيبة كبرى، وهذا من أساطيرهم.

6- الرجعة: يعتقدون أن الحسن العسكري المسردب سيعود في آخر الزمان عندما يأذن الله له بالخروج، وكان بعضهم يقف بعد صلاة المغرب بباب السرداب وقد قدموا مركبًا، فيهتفون باسمه، ويدعونه للخروج، حتى تشتبك النجوم، ثم ينصرفون ويرجئون الأمر إلى الليلة التالية. ويقولون بأنه حين عودته سيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا وظلمًا، وسيقتص من خصوم الشيعة  على مدار التاريخ، ولقد قالت الإمامية قاطبة بالرجعة.

7- التقية: وهي أن يظهر الشخص خلاف ما يبطن ، وهي النفاق والكذب والمراوغة والبراعة في خداع الناس.

وهم يعدونها أصلاً من أصول الدين، ومن تركها كان بمنزلة من ترك الصلاة، وهي واجبة لا يجوز رفعها حتى يخرج القائم، فمن تركها قبل خروجه فقد خرج عن دين الله تعالى وعن دين الإمامية، كما يستدلون على ذلك بقوله تعالى: (إلا أن تتقوا منهم تقاة) وينسبون إلى أبي جعفر الإمام الخامس قوله: "التقية ديني ودين آبائي ولا إيمان لمن لا تقية له" وهم يتوسعون في مفهوم التقية إلى حد كبير.

8- المتعة: يرون بأن متعة النساء خير العادات وأفضل القربات مستدلين على ذلك بقوله تعالى: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة) وقد حرم الإسلام هذا الزواج الذي تشترط فيه مدة محدودة ، فيما يشترط معظم أهل السنة وجوب استحضار نية التأبيد، ولزواج المتعة آثار سلبية كثيرة على المجتمع تبرر تحريمه.

9- يعتقدون بوجود مصحف لديهم اسمه مصحف فاطمة: ويروي الكُليني في كتابه الكافي في ص 57 عن جعفر الصادق": "وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام، قال: قلت: وما مصحف فاطمة؟ قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه حرف واحد من قرآنكم".

10- البراءة: يتبرؤون من الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان وينعتونهم بأقبح الصفات لأنهم ـ كما يزعمون ـ اغتصبوا الخلافة دون علي الذي هو أحق منهم بها، كما يبدؤون بلعن أبي بكر وعمر بدل التسمية في كل أمر ذي بال، وهم ينالون كذلك من كثير من الصحابة باللعن، ولا يتورعون عن النيل من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

11- المغالاة: بعضهم غالَى في شخصية علي رضي الله عنه والمغالون من الشيعة  رفعوه إلى مرتبة الألوهية كالسبئية ، وبعضهم قالوا بأن جبريل قد أخطأ في الرسالة فنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، بدلاً من أن ينزل على علي لأن عليًّا يشبه النبي صلى الله عليه وسلم.

12- عيد غدير خم: وهو عيد لهم يصادف اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة ويفضلونه على عيدي الأضحى والفطر ويسمونه بالعيد الأكبر، وصيام هذا اليوم عندهم سنة مؤكدة، وهو اليوم الذي يدَّعون فيه بأن النبي قد أوصى فيه بالخلافة  لعلي من بعده.

13- يعظمون عيد النيروز وهو من أعياد الفرس، وبعضهم يقول: غسل يوم النيروز سُنة.

14- لهم عيد يقيمونه في اليوم التاسع من ربيع الأول، وهو عيد أبيهم (بابا شجاع الدين) وهو لقب لَقَّبوا به (أبا لؤلؤة المجوسي) الذي أقدم على قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

15- يقيمون حفلات العزاء والنياحة والجزع ( الحسينيات) وتصوير الصور وضرب الصدور وكثير من الأفعال المحرمة التي تصدر عنهم في العشر الأول من شهر محرم معتقدين بأن ذلك قربة إلى الله تعالى وأن ذلك يكفر سيئاتهم وذنوبهم، ومن يزورهم في المشاهد المقدسة في كربلاء والنجف وقم.. فسيرَى من ذلك العجب العجاب.

 الجذور الفكرية والعقائدية:

1- انعكست في التشيع معتقدات الفرس الذين يدينون لهم بالملك والوراثة وقد ساهم الفرس فيه لينتقموا من الإسلام ـ الذي كسر شوكتهم ـ باسم الإسلام ذاته.

2- اختلط الفكر الشيعي بالفكر الوافد من العقائد الآسيوية كالبوذية والمانوية  والبرهمية ، وقالوا بالتناسخ  وبالحلول .

3-  استمد التشيع أفكاره من اليهودية التي تحمل بصمات وثنية  آشورية وبابلية.

4-  أقوالهم في علي بن أبي طالب وفي الأئمة من آل البيت تلتقي مع أقوال النصارى في عيسى عليه السلام ولقد شابهوهم في كثرة الأعياد وكثرة الصور واختلاق خوارق العادات وإسنادها إلى الأئمة.

الانتشار ومواقع النفوذ تنتشر فرقة الاثنا عشرية من الإمامية الشيعية الآن في إيران وتتركز فيها، ومنهم عدد كبير في العراق، ويمتد وجودهم إلى الباكستان كما أن لهم طائفة في لبنان. أما في سوريا فهناك طائفة قليلة منهم لكنهم على صلة وثيقة بالنُّصيْرية الذين هم من غلاة الشيعة.

ويتضح مما سبق:

أن التشيع الأول بدأ كحزب  يرى أحقية علي بن أبي طالب في الخلافة، ثم تطوَّر حتى أصبح فرقة عقائدية وسياسية انضوى تحت لوائها كل من أراد الكيد للإسلام والدولة المسلمة، حتى أن المتتبع للتاريخ الإسلامي لا يكاد يرى ثورة  أو انفصالاً عن الدولة الأم أو مشكلة عقائدية إلا وكان الشيعة بفرقها المتعددة وراءها أو لهم ضلعٌ فيها. ولهذا اصطبغ التاريخ الإسلامي بكثير من الثورات والتمزق ، ونظرًا لوجود عناصر مندسَّةً بين المسلمين يهمها استمرار هذا الخلاف فإن المشكلة لم تنته، بل استمر الخلاف وكاد التشيع أن يكون دينًا  مختلفًا عن الإسلام تمامًا، وقد استغلت الدوائر الغربية والمستشرقون هذا الخلاف لتصوير المسلمين شيعًا وأحزابًا متناحرة. بل يقارنونه بالمسيحية  التي بلغت فرقها المئات.

 الفرق:

 4- الصوفية:

التعريف :التصوُّف حركة دينية انتشرت في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري كنـزعاتٍ فردية تدعو إلى الزهد وشدة العبادة كرد فعل مضاد للانغماس في الترف الحضاري.

ثم تطورت طريقتهم فتداخلت مع الفلسفات الوثنية: الهندية والفارسية واليونانية المختلفة. ويلاحظ أن هناك فروقاً جوهرية بين مفهومي الزهد والتصوف أهمها: أن الزهد مأمور به، والتصوف جنوح عن طريق الحق الذي اختطَّه أهل السنة والجماعة.

 التأسيس وأبرز الشخصيات:

مقدمة هامة:

1- خلال القرنين الأولين ابتداءً من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين حتى وفاة الحسن البصري (110هـ)، لم تعرف الصوفية سواء كان باسمها أو برسمها وسلوكها، بل كانت التسمية الجامعة: المسلمين، المؤمنين، أو التسميات الخاصة مثل: الصحابي، البدري، أصحاب البيعة ، التابعي.

لم يعرف ذلك العهد هذا الغلو في العبادة إلا بعض النزعات الفردية نحو التشديد على النفس الذي نهاهم عنه النبي  صلى الله عليه وسلم في أكثر من مناسبة، ومنها قوله للرهط الذين سألوا عن عبادته صلى الله عليه وسلم: "لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني". [متفق عليه]

وظل الصحابة والتابعين وتابعيهم على هذا المنهج يسيرون، يجمعون بين العلم والعمل، والعبادة والسعي على النفس والعيال، وبين العبادة والجهاد ، والتصدي للبدع والأهواء مثلما تصدى ابن مسعود رضي الله عنه لبدعة  الذكر الجماعي بمسجد الكوفة وقضى عليها، وتصدِّيه لأصحاب معضّد بن يزيد العجلي لما اتخذوا دوراً خاصة للعبادة في بعض الجبال وردهم عن ذلك.

2- ظهور العُبّاد:

في القرن الثاني الهجري في عهد التابعين وبقايا الصحابة ظهرت طائفة من العباد آثروا العزلة وعدم الاختلاط بالناس فشددوا على أنفسهم في العبادة على نحو لم يُعهد من قبل، ومن أسباب ذلك بزوغ بعض الفتن الداخلية، وإراقة الدماء ، فآثروا اعتزال المجتمع طلباً للسلامة في دينهم،وأيضا بعد أن فتحت الدنيا أمامهم بعد اتساع الفتوحات الإسلامية،وشيوع الترف والمجون بين طبقة من السفهاء، مما أوجد ردة فعل عند بعض العباد وبخاصة في البصرة والكوفة حيث كانت بداية الانحراف عن المنهج  الأول في جانب السلوك.

ـ ففي الكوفة ظهرت جماعة من أهلها اعتزلوا الناس وأظهروا الندم الشديد بعد مقتل الحسين بن علي رضي الله عنه وسموا أنفسهم بالتوَّابين .

وظهرت طائفة أخرى غلب عليها التشدد في العبادة والبعد عن المشاركة في مجريات الدولة، مع علمهم وفضلهم، واشتغالهم بالكتاب والسنة وصدعهم بالحق وتصديهم لأهل الأهواء.وخوفهم الشديد من الله تعالى، والإغماء والصعق عند سماع القرآن الكريم مما استدعى الإنكار عليهم من بعض الصحابة وكبار التابعين كأسماء بنت أبي بكر وعبد الله بن الزبير ومحمد بن سيرين ونحوهم رضي الله عنهم، وبسببهم شاع لقب العُبَّاد والزُهَّاد والقُرَّاء في تلك الفترة. ومن أعلامهم: عامر بن عبد الله بن الزبير، و صفوان بن سليم، وطلق بن حبيب العنزي، عطاء السلمي، الأسود بن يزيد بن قيس، وداود الطائي، وبعض أصحاب الحسن البصري.

3- بداية الانحراف: تطور مفهوم الزهد في الكوفة والبصرة في القرن الثاني للهجرة على أيدي كبار الزهاد أمثال: إبراهيم بن أدهم، مالك بن دينار، وبشر الحافي، ورابعة العدوية، وعبد الواحد بن زيد، إلى مفهوم لم يكن موجوداً عند الزهاد السابقين من تعذيب للنفس بترك الطعام، وتحريم تناول اللحوم، والسياحة في البراري والصحاري، وترك الزواج. يقول مالك بن دينار: "لا يبلغ الرجل منزلة الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة، ويأوي إلى مزابل الكلاب". وذلك دون سند من قدوة سابقة أو نص كتاب أو سنة، ولكن مما يجدر التنبيه عليه أنه قد نُسب إلى هؤلاء الزهاد من الأقوال المرذولة والشطحات المستنكرة ما لم يثبت عنهم بشكل قاطع كما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية.

وزاد الأمر مع بعضهم كمعضد بن يزيد العجلي وجماعته الذين أخذوا يروِّضون أنفسهم على هجر النوم وإدامة الصلاة، في آخرين من زهاد الكوفة، فانقطعوا للعبادة في الجبال.

وظهرت من بعضهم- مثل رابعة العدوية-  أقوال مستنكرة في الحب والعشق الإلهي للتعبير عن المحبة بين العبد وربه، وظهرت تبعاً لذلك مفاهيم خاطئة حول العبادة من كونها لا طمعاً في الجنة ولا خوفاً من النار مخالفةً لقول الله تعالى: (يَدْعُونَنا رَغَباً ورَهَباً).

4- ومنذ ذلك العهد أخذ التصوف عدة أطوار أهمها:

البداية والظهور: ظهر مصطلح التصوف والصوفية أول ما ظهر في الكوفة لقُربها من بلاد فارس، والتأثُّر بالفلسفة  اليونانية وبسلوكيات الرهبان، وقد تنازع العلماء والمؤرخون في أول مَن تسمَّ به. على أقوال ثلاثة أرجحها قول شيخ الإسلام ابن تيمية ومن وافقه: أن أول من عُرف بالصوفي هو أبو هاشم الكوفي ت150هـ أو 162هـ ويسميه الشيعة مخترع الصوفية.

ـ وقد تنازع العلماء أيضاً في نسبة اشتقاق مصطلح الصوفية على أقوال كثيرة أرجحها ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وطائفة كبيرة من العلماء من أنها نسبة إلى الصُّوف حيث كان شعار رهبان  أهل الكتاب الذين تأثر بهم الأوائل من الصوفية.

5- طلائع الصوفية: ظهر في القرنين الثالث والرابع الهجري ثلاث طبقات من المنتسبين إلى التصوف وهي:

الطبقة الأولى: وهم الذين اشتهروا بالزهد إلى حد الوساوس، والبعد عن الدنيا والانحراف في السلوك والعبادة على وجه يخالف ما كان عليه النبي وصحابته بل وعن عبّاد القرن السابق له، ولكن كان يغلب على أكثرهم الاستقامة في العقيدة، والإكثار من دعاوى التزام السنة ونهج السلف، وإن كان ورد عن بعضهم ـ مثل الجنيد بعض العبارات التي عدها العلماء من الشطحات، ومن أشهر هؤلاء أبو القاسم الجنيد الخراز (ت298هـ) والملقب عند الصوفية بسيد الطائفة،وقد تأثر بأستاذه الحارث المحاسبي الذي يعد أول من خلط الكلام  بالتصوف، وبخاله السري السقطي.

ومن أهم السمات لهذه الطبقة: بداية التمييز عن جمهور المسلمين وظهور مصطلحات مثل: علمُنا، مذهبنا.

وقد اشترطوا على من يريد السير معهم في طريقتهم أن يَخرُجَ من ماله، وأن يُقلَّ من غذائه وأن يترك الزواج مادام في سلوكه.

كما كثر الاهتمام بالوعظ والقصص مع قلة العلم والفقه والتحذير من تحصيلهما مما زاد في البعد عن سمت الصحابة وأئمة التابعين ، مما نتج عن ذلك اتخاذ دور للعبادة غير المساجد، يلتقون فيها للاستماع للقصائد الزهدية أو قصائد ظاهرها الغزل بقصد مدح النبي  صلى الله عليه وسلم ، وظهرت فيهم ادعاءات الكشف  والخوارق وبعض المقولات الكلامية. وظهرت لهم تصانيف كثيرة مثل: كتاب أبي طالب المكي "قوت القلوب" وحلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، وكتب الحارث المحاسبي. وقد حذر العلماء الأوائل من هذه الكتب لاشتمالها على الأحاديث الموضوعة والمنكرة، واشتمالها على الإسرائيليات وأقوال أهل الكتاب

الطبقة الثانية: خلطت الزهد بعبارات الباطنية ، فظهر في كلامهم مصطلحات: الوحدة، والفناء ،والاتحاد ،والحلول ،والسكر ،والصحو ،والكشف ،والبقاء، والمريد، والعارف، والأحوال، والمقامات ، وغير ذلك مما كان غير معروف عند السلف الصالح من أصحاب القرون المفضلة ولا عند الطبقة الأولى من المنتسبين إلى الصوفية، مما زاد في انحرافها، فكانت بحق تمثل البداية الفعلية لما صار عليه تيار التصوف حتى الآن.

ومن أهم أعلام هذه الطبقة: أبو اليزيد البسطامي ت263هـ، ذوالنون المصري ت245هـ، الحلاج ت309هـ، أبوسعيد الخراز ت286هـ، الحكيم الترمذي ت320هـ، أبو بكر الشبلي 334 هـ وسنكتفي هنا بالترجمة لواحد ممن كان له أثره البالغ فيمن جاء بعده إلى اليوم وهو :

ـ ذو النون المصري أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم، قبطي  الأصل من أهل النوبة،وكان من الذين يخفون تقواهم عن الناس ويظهرون استهزاءهم بالشريعة ،مع اشتهاره بالحكمة والفصاحة.

ويعدُّه كُتَّاب الصوفية المؤسسَ الحقيقي لطريقتهم في المحبة والمعرفة، وأول من تكلم عن المقامات والأحوال في مصر، وقال بالكشف  وأن للشريعة  ظاهراً وباطناً.

الطبقة الثالثة:

وفيها اختلط التصوف بالفلسفة اليونانية، وظهرت أفكار الحلول  والاتحاد  ووحدة الوجود ، ولذلك تعد هذه المرحلة من أخطر المراحل التي مر بها التصوف ، إذ تعدت مرحلة البدع العملية إلى البدع العلمية التي بها يخرج التصوف عن الإسلام بالكلية. ومن أشهر رموز هذه الطبقة: الحلاج ت309هـ، ابن عربي ت638هـ، ابن الفارض 632هـ، ابن سبعين ت 667 هـ.

الحـلاَّج: أبو مغيث الحسين بن منصور الحلاج ، ولد بفارس 244هـ ، وهو أشهر الحلوليين والاتحاديين، رمي بالكفر  وقتل مصلوباً لتهم أربع وُجِّهت إليه:

1- اتصاله بالقرامطة.

2- قوله "أنا الحق".

3- اعتقاد أتباعه ألوهيته.

4- قوله في الحج، حيث يرى أن الحج إلى البيت الحرام ليس من الفرائض الواجب أداؤها.

كانت في شخصيته كثير من الغموض، فضلاً عن كونه متشدداً وعنيداً ومغالياً، له كتاب الطواسين.

يعتبر القرن الخامس امتداداً لأفكار القرون السابقة، التي راجت من خلال مصنفات أبي عبد الرحمن السلمي، المتوفى 412هـ وكان يضع الأحاديث لصالح الصوفية.

•  مع بداية القرن السادس في زمن أبي حامد الغزالي الملقَّب بحجَّة الإسلام ت505هـ أخذ التصوف مكانه عند من حسبوا على أهل السنة.

 وبذلك انتهت مرحلة الرواد الأوائل أصحاب الأصول غير الإسلامية، ومن أعلام هذه المرحلة التي تمتد إلى يومنا هذا:

أبو حامد الغزالي: محمد بن محمد بن محمد الطوسي 450 ـ 505هـ ولد بطوس من إقليم خراسان، نشأ في بيئة كثرت فيها الآراء والمذاهب  مثل: علم الكلام  والفلسفة ، والباطنية ، والتصوف، مما أورثه ذلك حيرة وشكًّا ،فتقلب بين هذه المذاهب الأربعة السابقة .

وقد ألف عدداً من الكتب منها: تهافُت الفلاسفة، والمنقذ من الضلال، وأهمها إحياء علوم الدين. ومن جليل أعماله هدمُه للفلسفة اليونانية وكشفه لفضائح الباطنية في كتاب فضائح الباطنية.

وختم الله له بخير ، وفي هذه المرحلة ألف كتابه "إلجام العوام عن علم الكلام" الذي ذم فيه علم الكلام  وطريقته،ورجع عن القول بالكشف  وإدراك خصائص النبوة  وقواها.

 يمثل القرن السادس الهجري بداية انتشار الطرق الصوفية من إيران إلى المشرق الإسلامي، فظهرت الطريقة القادرية المنسوبة لعبد القادر الجيلاني، المتوفى سنة 561ه‍ ، وقد رزق بتسعة وأربعين ولداً، حمل أحد عشر منهم تعاليمه ونشروها في العالم الإسلامي،ونسبوا إليه أمورا عظيمة لا يقدر عليها إلا الله تعالى من معرفة الغيب، وإحياء الموتى، وتصرفه في الكون حيًّا أو ميتاً، بالإضافة إلى مجموعة من الأذكار والأوراد والأقوال الشنيعة.

 كما ظهرت الطريقة الرفاعية المنسوبة لأبي العباس أحمد بن أبي الحسين الرفاعي ت 540ه‍

كما ظهرت شطحات وزندقة  السهروردي شهاب الدين أبو الفتوح محيي الدين بن حسن 549-587ه‍‍، ولذلك اتهمه علماء حلب بالزندقة  والتعطيل فقتله السلطان صلاح الدين .

 في القرن السابع الهجري دخل التصوف الأندلس وأصبح ابن عربي الطائي الأندلسي أحد رؤوس الصوفية حتى لُقِّب بالشيخ الأكبر.

محيي الدين ابن عربي: الملقب بالشيخ الأكبر وهو رئيس مدرسة وحدة الوجود، والذي اعتبر نفسه خاتم الأولياء ، ولد بالأندلس، ورحل إلى مصر، وحج، وزار بغداد، واستقر في دمشق حيث مات ودفن، وله فيها الآن قبر يُزار، طرح نظرية الإنسان الكامل التي تقوم على أن الإنسان وحده من بين المخلوقات يمكن أن تتجلّى فيه الصفات الإلهية إذا تيسر له الاستغراق في وحدانية الله، من مؤلفاته الفتوحات المكية وفصوص الحكم.

وفي القرن الثامن ظهر محمد بهاء الدين النقشبندي مؤسس الطريقة النقشبندية ت791هـ. وكذلك القرن العاشر ما كان إلا شرحاً أو دفاعاً عن كتب ابن عربي، فزاد الاهتمام فيه بتراجم أعلام التصوف، والتي اتسمت بالمبالغة الشديدة. ومن كتّاب تراجم الصوفية في هذا القرن: عبد الوهاب الشعراني ت 973ه‍ صاحب الطبقات الصغرى والكبرى.

 وفي القرون التالية اختلط الأمر على الصوفية، وانتشرت الفوضى بينهم، واختلطت فيهم أفكار كلتا المدرستين وبدأت مرحلة الدراويش.

ومن أهم ما تتميز‍ به القرون المتأخرة ظهور ألقاب شيخ السجادة، وشيخ مشايخ الطرق الصوفية، والخليفة والبيوت الصوفية .

كما ظهرت فيها التنظيمات والتشريعات المنظمة للطرق الصوفية تحت مجلس وإدارة واحدة الذي بدأ بفرمان أصدره محمد علي باشا والي مصر بتعيين محمد البكري خلفاً لوالده شيخاً للسجادة البكرية وتفويضه في الإشراف على جميع الطرق والتكايا والزوايا والمساجد التي بها أضرحة كما له الحق في وضع مناهج التعليم التي تعطى فيها. وذلك بهدف تقويض سلطة شيخ الأزهر وعلمائه، وقد تطورت نظمه وتشريعاته ليعرف فيما بعد بالمجلس الأعلى للطرق الصوفية في مصر.

 من أشهر رموز القرون المتأخرة:

1- عبد الغني النابلسي 1050-1143ه‍.

2- أبو السعود البكري المتوفى 1812م أول من عرف بشيخ مشايخ الطرق الصوفية في مصر بشكل غير رسمي.

3- أبو الهدى الصيادي الرفاعي 1220-1287هـ.‍

4- عمر الفوتي الطوري السنغالي الأزهري التيجاني ت 1281ه‍، ومما يحسن ذكره له أنه اهتم بنشر الإسلام بين الوثنيين ، وكوَّن لذلك جيشاً، وخاض به حروباً مع الوثنيين، واستولى على مملكة سيغو وعلى بلاد ماسينه. ومن مؤلفاته: سيوف السعيد، سفينة السعادة، رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم.

 الأفكار والمعتقدات:

مصادر التلقي:

الكشف: وهو مصدر مهم عندهم في العلم والمعرفة، بل تحقيق غاية عبادتهم، ويدخل تحته جملة من الأمور الشرعية والكونية منها:

1- النبي صلى الله عليه وسلم: ويقصدون به الأخذ عنه يقظةً أو مناماً !!

2- الخضر عليه الصلاة السلام: يروون حكايات مصطنعة عن لقياه، والأخذ عنه أحكاماً شرعية وعلوماً دينية، وأوراد، والأذكار.

3- الإلهام: سواء كان من الله تعالى مباشرة، وبه جعلوا مقام الصوفي فوق مقام النبي .

4- الفراسة: التي تختص بمعرفة خواطر النفوس وأحاديثها.

5- الهواتف: وهو سماع الخطاب من الله تعالى، أو من الملائكة، أو الجن الصالح، أو من أحد الأولياء ، أو الخضر، أو إبليس، سواء كان مناماً أو يقظةً أو في حالة بينهما بواسطة الأذن.

6- الإسراءات والمعاريج: ويقصدون بها عروج روح الولي إلى العالم العلوي،والإتيان منها بشتى العلوم والأسرار.

7- الرؤى والمنامات: فيزعمون أنهم يتلقَّون فيها عن الله تعالى، أو عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أحد شيوخهم لمعرفة الأحكام الشرعية.

الذوق: وله إطلاقان:

1- الذوق العام الذي ينظم جميع الأحوال والمقامات ، فيمكن للسالك أن يتذوَّق حقيقة النبوة، وأن يدرك خاصيتها بالمنازلة.

2- أما الذوق الخاص فتتفاوت درجاته بينهم حيث يبدأ بالذوق ثم الشرب.

ـ الوجد: وله ثلاثة مراتب:

1- التواجد.

2- الوجد.

3- الوجود.

ـ التلقي عن الأنبياء غير النبي صلى الله عليه وسلم وعن الأشياخ المقبورين.

تتشابه عقائد الصوفية وأفكارهم وتتعدد بتعدد مدارسهم وطرقهم ويمكن إجمالها فيما يلي:

ـ يعتقد المتصوفة في الله تعالى عقائد شتى، منها الحلول  كما هو مذهب  الحلاج، ومنها وحدة الوجود حيث عدم الانفصال بين الخالق والمخلوق، أو عقيدة الأشاعرة والماتريدية في ذات الله تعالى وأسمائه وصفاته.

ـ والغلاة منهم يزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصل إلى مرتبتهم وحالهم، وأنه كان جاهلاً بعلوم شيوخهم .

ومنهم من يعتقد أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو قبة الكون، وهو الله المستوي على العرش وأن السماوات والأرض والعرش والكرسي وكل الكائنات خُلقت من نوره، وأنه أول موجود؛ وهذه عقيدة ابن عربي ومن تبعه. ومنهم من لا يعتقد بذلك بل يعتقد بشريته ورسالته ولكنهم مع ذلك يستشفعون ويتوسلون به صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى على خلاف عقيدة أهل السنة والجماعة .

ـ ويعتقد الصوفية في الأولياء عقائد شتى، فمنهم من يفضِّل الولي على النبي ، ومنهم يجعلون الولي مساوياً لله في كل صفاته، فهو يخلق ويرزق، ويحيي ويميت، ويتصرف في الكون.

ولهم تقسيمات للولاية، فهناك الغوث، والأقطاب، والأبدال والنجباء  حيث يجتمعون في ديوان لهم في غار حراء كل ليلة ينظرون في المقادير. ومنهم من لا يعتقد ذلك ولكنهم أيضاً يأخذونهم وسائط بينهم وبين ربهم سواءً كان في حياتهم أو بعد مماتهم.

وعندهم أن العلم الَّلدُنّي في نظرهم إنما يكون لأهل النبوة  والولاية ، كما كان ذلك للخضر عليه السلام.

ـ وهناك المقامات: "وهي المنازل الروحية التي يمر بها السالك إلى الله فيقف فترة من الزمن مجاهداً في إطارها حتى ينتقل إلى المنزل الثاني" عابرا للحواجز بينه وبين الحق سبحانه وتعالى وهي: المال، والجاه، والتقليد ، والمعصية.

ـ أما الأحوال: "فإنها نسمات تهب على السالك فتنتعش بها نفسه ثم تمر تاركة عطراًً تتشوق الروح للعودة إلى تنسُّم أريجه".

والأحوال مواهب، والمقامات مكاسب.

1- والورع: أن يترك السالك كل ما فيه شبهة.

2- والزهد: وهو يعني أن تكون الدنيا على ظاهر يده، وقلبه معلق بما في يد الله.

3- والزهد: لا يعني الفقر، فليس كل فقير زاهداً، وليس كل زاهد فقيراً.

4- والتوكل: عندهم كما يقول سهل التستري: "هو الاسترسال مع الله تعالى على ما يريد".

5-  والمحبة: وخلاصتها هي الموافقة للمحبوب .

6- والرضا: هو أن يكون قلب العبد ساكناً تحت حكم الله عز وجل.

- وأما منهجهم تجاه السلطان فإنهم يرون عدم جواز مقاومة الشر ومغالبة السلاطين لأن الله في زعمهم أقام العباد فيما أراد.

ـ ولعل أخطر ما في الشريعة الصوفية هو منهجهم في التربية فإنهم يستحوذون على عقول الناس، ويتدرجون معهم بالتأنيس، ثم بالتهويل والتعظيم لكل رجال الصوفية ، ثم يقومون بسد جميع الطرق أمامه فلا يستطيع الخروج.

مدارس الصوفية:

1- مدرسة الزهد: وأصحابها من النُّسَّاك والزُّهَّاد، ومن أشهرهم رابعة العدوية، وإبراهيم بن أدهم، ومالك بن دينار.

2- مدرسة الكشف والمعرفة: وهي تقوم على اعتبار أن المنطق العقلي وحده لا يكفي في إدراك حقائق الموجودات، إذ يتطور المرء بالرياضة النفسية حتى تنكشف عن بصيرته غشاوة الجهل وتبدو له الحقائق تتراءى فوق مرآة القلب، وزعيم هذه المدرسة: أبو حامد الغزالي.

3- مدرسة وحدة الوجود: زعيم هذه المدرسة محيي الدين بن عربي الذي يقول :" ما في الوجود إلا الله، ونحن إن كنا موجودين فإنما كان وجودنا به.

4- مدرسة الاتحاد والحلول: وزعيمها: الحلاج، ويظهر في هذه المدرسة التأثر بالتصوف الهندي والنصراني، حيث يتصور الصوفي عندها أن الله قد حل  فيه وأنه قد اتحد  هو بالله، فمن أقوالهم: (أنا الحق) و (ما في الجبة إلا الله) وما إلى ذلك من الشطحات .

بعض طرق الصوفية:

 1- الجيلانية: تنسب إلى عبد القادر الجيلاني ت 561ه‍ المدفون في بغداد، حيث تزوره كل عام جموع كثيرة من أتباعه للتبرُّك به .

 2- الرفاعية: تنسب إلى أحمد الرفاعي ت580ه‍ وجماعته يستخدمون السيوف ودخول النيران في إثبات الكرامت .

وتتفق الرفاعية مع الشيعة  في إيمانهم بكتاب الجفر ، واعتقادهم في الأئمة الاثني عشر، وأن أحمد الرفاعي هو الإمام الثالث عشر، بالإضافة إلى مشاركتهم الحزن يوم عاشوراء.

هذا رغم حض شيخهم الرفاعي الشديد على السنة واجتناب البدعة.

3- البدوية: وتنسب إلى السيد أحمد البدوي ت634ه‍ وله في مدينة طنطا بمصر ضريح مقصود، حيث يقام له كغيره من أولياء الصوفية احتفال بمولده سنويًّا يمارس فيه الكثير من البدع والانحرافات العقدية من دعاء واستغاثة وتبرك وتوسل ، وبعضه من الشرك المخرج من الملة. وأتباع طريقته منتشرون في بعض محافظات مصر.

4- الدسوقية: تنسب إلى إبراهيم الدسوقي ت 676ه‍ المدفون بمدينة دسوق في مصر، يدعي المتصوفة أنه أحد الأقطاب الأربعة الذين يرجع إليهم تدبير الأمور في هذا الكون !!

وهناك طرق كثيرة غير هذه: كالقنائية، والملامتية والشاذلية ، والقيروانية، والمرابطية، والبشبشية، والسنوسية، والمختارية، والختمية وغيرها، ولاشك أن كل هذه الطرق بدعية.

شطحات الصوفية:

سلك بعضهم طريق تحضير الأرواح والشعوذة والدجل، واهتموا ببناء الأضرحة وقبور الأولياء  وإنارتها وزيارتها والتمسُّح بها، وكل ذلك من البدع  التي ما أنزل الله بها من سلطان.

ـ يقول بعضهم بإسقاط التكاليف عن الولي ، أي أن العبادة تصير لا لزوم لها بالنسبة إليه، لأنه وصل إلى مقام لا يحتاج معه إلى القيام بذلك.

ـ يستخدم الصوفيون لفظ ( الغوث والغياث ) وهو مصطلح لا يستحقه إلا الله، فلا يجوز لأحد الاستغاثة بغيره.

ـ أجمعت كل طرق الصوفية على ضرورة الذكر، وهو عند النقشبندية لفظ الله مفرداً، وعند الشاذلية لا إله إلا الله، وعند غيرهم مثل ذلك مع الاستغفار والصلاة على النبي .

تجاوزات بعض المنتسبين إلى الصوفية في الوقت الحاضر:

ـ من أبرز المظاهر الشركية التي تؤخذ على الصوفية ما يلي:

1- الغلو  في الرسول.

2- الحلول  والاتحاد .

3- وحدة الوجود.

4- الغلو في الأولياء.

5- الادعاءات الكثيرة الكاذبة، كادعائهم عدم انقطاع الوحي  وما لهم من المميزات في الدنيا والآخرة.

6- ادعاؤهم الانشغال بذكر الله عن التعاون لتحكيم شرع الله  والجهاد  في سبيله، مع ما كان لقلة منهم من مواقف طيبة ضد الاستعمار.

7- كثيراً ما يتساهل بعض المحسوبين على التصوف في التزام أحكام الشرع.

8- طاعة المشايخ والخضوع لهم، والاعتراف بذنوبهم بين أيديهم، والتمسح بأضرحتهم بعد مماتهم.

9- تجاوزات كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان، في هيئة ما يسمونه الذكر، وهو هزّ البدن والتمايل يميناً وشمالاً، وذكر كلمة الله في كل مرة مجرَّدة، والادعاء بأن المشايخ مكشوفٌ عن بصيرتهم، ويتوسلون بهم لقضاء حوائجهم، ودعاؤهم بمقامهم عند الله في حياتهم وبعد مماتهم.

الجذور الفكرية والعقائدية:

فتح التصوفُ المنحرفُ باباً واسعاً دخلت منه كثير من الشرور على المسلمين مثل التواكل، والسلبية، وإلغاء شخصية الإنسان، وتعظيم شخصية الشيخ، فضلاً عن كثير من الضلالات والبدع  التي تُخرج صاحبها من الإسلام.

الانتشار ومواقع النفوذ:

انتشر التصوف على مدار الزمان وشمل معظم العالم الإسلامي.

وتركوا أثراً في الشعر والنثر وفنون الغناء والإنشاد، وكانت لهم آثار في إنشاء الزوايا والتكايا.

وكان للروحانية الصوفية أثر في جذب الغربيين الماديين إلى الإسلام،لكن اهتمام الغربيين ومراكز الاستشراق بالتصوف يدعو إلى الريبة ، وإنما أبدوا اهتمامهم به لعدة أسباب أبرزها :

ـ إبراز الجانب السلبي الاستسلامي الموجود في التصوف وتصويره على اعتبار أنه الإسلام.

ـ موافقة التصوف للرهبانية  المسيحية  واعتباره امتداداً لهذا التوجه.

ـ ميل منحرفي المتصوفة إلى قبول الأديان  جميعاً، واعتبارها وسيلة للتربية الروحية.

ـ شهد مطلع القرن العشرين تراجعا للصوفية ولم يعد لها ذلك السلطان الذي كان لها فيما قبل.

ويتضح مما سبق:

أن التصوف عبر تاريخه الطويل هو انحرافٌ عن منهج  الزهد الذي يحضّ الإسلام سلوكَ سبيله والمقترن بالعلم والعمل والجهاد  والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونفع الأمة ونشر الدين . ولذا رفضه الرسول  الكريم من بعض أصحابه، ثم زاد هذا الانحراف عندما اختلط التصوف بالفلسفات  الهندية واليونانية والرهبانية  النصرانية في العصور المتأخرة، وتفاقم الأمر عندما أصبحت الصوفية تجارة للمشعوذين والدجالين ممن قلت بضاعتهم في العلم وقصر سعيهم عن الكسب الحلال. وقد أدرك أعداء الإسلام ذلك فحاولوا أن يُشوِّهوا الإسلام من الداخل من خلال التصوف، ويقضوا على صفاء عقيدة التوحيد التي يمتاز بها الإسلام، ويجعلوا المسلمين يركنون إلى السلبية حتى لا تقوم لهم قائمة.

 المذاهب:

 1- الأشاعرة:

 التعريف الأشاعرة: فرقة كلامية إسلامية، تنسب لأبي الحسن الأشعري .

وقد اتخذوا الدلائل العقلية والكلامية وسيلة في محاججة خصومها من المعتزلة والفلاسفة وغيرهم، لإثبات حقائق الدين  والعقيدة .

التأسيس وأبرز الشخصيات:

1- أبو الحسن الأشعري: هو أبو الحسن علي بن إسماعيل، من ذرية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، ولد بالبصرة سنة 270هـ ومرت حياته الفكرية بثلاث مراحل:

1- المرحلة الأولى: وهي التي كان فيها مع شيخ المعتزلة الجُبَّائي ملازمًا له .

2- المرحلة الثانية: وهي التي أعلن فيها البراءة من الاعتزال ولجأ فيه إلى تأويل النصوص بما يتفق مع أحكام العقل متبعا طريقة ابن كلاب في إثبات الصفات السبع: الحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام، أما الصفات الخبرية كالوجه واليدين والقدم والساق فتأولها على ما ظن أنها تتفق مع أحكام العقل وهذه المرحلة هي التي ما زال الأشاعرة عليها.

3- المرحلة الثالثة: إثبات الصفات جميعها لله تعالى من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تحريف ولا تبديل ولا تمثيل، وفي هذه المرحلة كتب كتاب "الإبانة عن أصول الديانة" وفيه فضَّل عقيدة السلف متبعا لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل. وخلّف ما يقارب 68 كتابا في الدفاع عن السنة، توفي عام 324هـ .

بعد أن توفي أبو الحسن الأشعري ، حصلت تطورات للمذهب الأشعري ، من أبرزها :

ـ القرب من أهل الكلام والاعتزال.

ـ الدخول في التصوف، والتصاق المذهب الأشعري به.

ـ الدخول في الفلسفة  وجعلها جزء من المذهب.

من أبرز أئمة المذهب:

ـ القاضي أبو بكر الباقلاني: (ت402هـ)هو محمد بن الطيب من كبار علماء الكلام، هذَّب بحوث الأشعري، وتكلَّم في مقدمات البراهين العقلية للتوحيد وغالى فيها كثيراً ، ثم انتهى إلى مذهب السلف وأثبت جميع الصفات وأبطل أصناف التأويلات ، من كتبه: إعجاز القرآن، الاستبصار، تمهيد الأوائل ، كشف أسرار الباطنية.

أبو حامد الغزالي (ت 505)

خالف الغزاليُ الأشعريَّ في بعض الآراء وذم علم الكلام وبيَّن أن أدلته لا تفيد اليقين ، وحرم الخوض فيه ، واتجه نحو التصوف، واعتقد أنه الطريق الوحيد للمعرفة ، وعاد في آخر حياته إلى السنة من خلال دراسة صحيح البخاري.

إمام الحرمين أبو المعالي الجويني: ت( 478هـ ) هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، الفقيه الشافعي ، بنى له الوزير نظام الملك المدرسة النظامية في نيسابور، وكان يحضر دروسه أكابر العلماء. وبقي على ذلك قريباً من ثلاثين سنة منافحا عن الأشعرية فشاع ذكره في الآفاق، لكنه في نهاية حياته رجع إلى مذهب السلف ، كما صرح بذلك في رسالته "النظامية" .

من مصنفاته: العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية، البرهان في أصول الفقه، ونهاية المطلب في دراية المذهب في فقه الشافعية.

 الأفكار والمعتقدات:

مصدر التلقي عند الأشاعرة: الكتاب والسنة على مقتضى قواعد علم الكلام؛ فيقدمون العقل على النقل عند التعارض.

ـ عدم الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة لأنها لا تفيد العلم اليقيني عندهم ، وهذا يخالف ما كان عليه السلف الصالح .

ـ تقديم الكشف والذوق على النص لدى طائفة منهم ، وتأويل النص ليوافقه. ويسمون هذا "العلم اللدني" جرياً على قاعدة الصوفية "حدثني قلبي عن ربي".

يقسم الأشاعرة أصول العقيدة بحسب مصدر التلقي إلى ثلاثة أقسام:

ـ قسم مصدره العقل وحده وهذا القسم يحكم العقل بوجوبه دون توقف على الوحي  عندهم. أما ما عدا ذلك من صفات خبرية دل الكتاب والسنة عليها فإنهم يؤولونها.

ـ قسم مصدره العقل والنقل معاً كالرؤية ـ على خلاف بينهم فيها.

ـ قسم مصدره النقل وحده وهو السمعيات ذات المغيبات من أمور الآخرة كعذاب القبر والصراط والميزان وهو مما لا يحكم العقل باستحالته.

 فالحاصل أنهم في صفات الله جعلوا العقل حاكماً، وفي إثبات الآخرة جعلوا العقل عاطلاً، وفي الرؤية جعلوه مساوياً. أما في مذهب أهل السنة والجماعة فلا منافاة بين العقل والنقل أصلاً ولا تقديم للعقل في جانب وإهماله في جانب آخر وإنما يُبدأ بتقديم النقل على العقل.

خالف الأشاعرة مذهب السلف في إثبات وجود الله تعالى، ووافقوا الفلاسفة والمتكلمين في الاستدلال على وجود الله تعالى بقولهم: إن الكون حادث ولا بد له من محدث قديم وأخص صفات القديم مخالفته للحوادث وعدم حلوله فيها. ومن مخالفته للحوادث إثبات أنه ليس بجوهر ولا جسمٍ ولا في جهة ولا في مكان. وقد رتبوا على ذلك من الأصول الفاسدة ما لا يدخل تحت حصر مثل: إنكارهم صفات الرضا والغضب والاستواء .

التوحيد عند الأشاعرة هو نفي التثنية والتعدد بالذات ونفي التبعيض والتركيب والتجزئة أي نفي الكمية المتصلة والمنفصلة. وفي ذلك يقولون: إن الله واحد في ذاته لا قسيم له، واحد في صفاته لا شبيه له، واحد في أفعاله لا شريك له. ولذلك فسروا الإله  بأنه الخالق أو القادر على الاختراع، و أنكروا صفات الوجه واليدين والعين لأنها تدل على التركيب والأجزاء عندهم. وفي هذا مخالفة كبيرة لمفهوم التوحيد عند أهل السنة والجماعة  من سلف الأمة ومن تبعهم.

ـ إن أول واجب عند الأشاعرة إذا بلغ الإنسان سن التكليف هو النظر أو القصد إلى النظر ثم الإيمان، ولا تكفي المعرفة الفطرية.

بينما يعتقد أهل السنة والجماعة أن أول واجب على المكلفين هو عبادة الله عز وجل وحده لا شريك له، توحيد الألوهية بدليل الكتاب والسنة والإجماع ، وأن معرفة الله تعالى أمر فطري مركوز في النفوس.

ـ يعتقد الأشاعرة تأويل الصفات الخبرية كالوجه واليدين والعين والقدم والأصابع والعلو والاستواء. وقد ذهب المتأخرون منهم إلى تفويض معانيها إلى الله تعالى.

 أما مذهب السلف فإنهم يثبتون النصوص الشرعية دون تأويل معنى النص ـ بمعنى تحريفه ـ أو تفويضه ، سواءً كان في نصوص الصفات أو غيرها.

الأشاعرة في الإيمان بين: المرجئة  التي تقول يكفي النطق بالشهادتين دون العمل لصحة الإيمان، وبين الجهمية  التي تقول يكفي التصديق القلبي. وفي هذا مخالفة لمذهب أهل السنة والجماعة الذين يقولون إن الإيمان قول وعمل واعتقاد، وعليه يكون إبليس من الناجين من النار لأنه من المصدقين بقلوبهم، وكذلك أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم.

الأشاعرة مضطربون في قضية التكفير  فتارة يقولون لا نكفر أحداً، وتارة يقولون لا نكفر إلا من كفرنا، وتارة يقولون بأمور توجب التفسيق و التبديع أو بأمور لا توجب التفسيق والتبديع، فمثلاً يكفرون من يثبت علو الله الذاتي أو من يأخذ بظواهر النصوص حيث يقولون: إن الأخذ بظواهر النصوص من أصول الكفر.

أما أهل السنة والجماعة  فيرون أن التكفير حق لله تعالى لا يطلق إلا على من يستحقه شرعاً،ولا تردد في إطلاقه على من ثبت كفره بإثبات شروط وانتفاء موانع.

قولهم بأن القرآن ليس كلام الله على الحقيقة ولكنه كلام الله النفسي وأن الكتب بما فيها القرآن مخلوقة.

أما مذهب أهل السنة والجماعة فهو: أن القرآن كلام الله غير مخلوق وأنه تعالى يتكلم بكلام مسموع تسمعه الملائكة وسمعه جبريل و سمعه موسى ـ عليه السلام ـ ويسمعه الخلائق يوم القيامة.

والإيمان والطاعة بتوفيق الله، والكفر  والمعصية بخذلانه ، والتوفيق عند الأشعري، خلق القدرة على الطاعة، والخذلان عنده: خلق القدرة على المعصية.

كل موجود يصح أن يُرى، والله موجود يصح أن يُرى، وقد ورد في القرآن أن المؤمنين يرونه في الآخرة، قال تعالى: ﴿وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة﴾ [القيامة:22]. ولكن يرى الأشاعرة أنه لا يجوز أن تتعلق به الرؤية على جهة ومكان وصورة ومقابلة واتصال شعاع فإن كل ذلك مستحيل! وفي ذلك نفي لعلو الله تعالى والجهة بل ونفي للرؤية نفسها.

حصر الأشاعرة دلائل النبوة  بالمعجزات  التي هي الخوارق، موافقة للمعتزلة وإن اختلفوا معهم في كيفية دلالتها على صدق النبي صلى الله عليه وسلم بينما يرى جمهور أهل السنة أن دلائل ثبوت النبوة  للأنبياء كثيرة ومنها المعجزات.

صاحب الكبيرة  إذا خرج من الدنيا بغير توبة حكمه إلى الله تعالى، إما أن يغفر له برحمته، وإما أن يشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم، موافقة لمذهب  أهل السنة والجماعة.

يعتقد الأشاعرة أن قدرة الفعل خلقاً من الله وكسباً من العبد لوقوعه مقارناً لقدرته. ولقد عدَّ المحققون " الكسب " هذا من محالات الكلام وضربوا له المثل في الخفاء والغموض.

قالوا بنفي الحكمة والتعليل في أفعال الله مطلقاً، وقالوا إن الله يجعل لكل نبي معجزة لأجل إثبات صدق النبي صلى الله عليه وسلم فتناقضوا في ذلك بين ما يسمونه نفي الحكمة والغرض وبين إثبات الله للرسول المعجزة تفريقاً بينه وبين المتنبئ.

وافق الأشاعرة أهل السنة والجماعة في الإيمان بأحوال البرزخ، وأمور الآخرة من: الحشر والنشر، والميزان، والصراط، والشفاعة والجنة والنار، لأنها من الأمور الممكنة التي أقر بها الصادق صلى الله عليه وسلم، وأيدتها نصوص الكتاب والسنة.

كما وافقوهم في القول في الصحابة على ترتيب خلافتهم، وأن ما وقع بينهم كان خطأ وعن اجتهاد منهم، ولذا يجب الكف عن الطعن فيهم، لأن الطعن فيهم إما كفر، أو بدعة، أو فسق، كما يرون الخلافة في قريش، وتجوز الصلاة خلف كل برٍ وفاجر، ولا يجوز الخروج على أئمة الجور. بالإضافة إلى موافقة أهل السنة في أمور العبادات والمعاملات.

فضلاً عن تصدي الأشعري للمعتزلة ومحاجتهم بنفس أسلوبهم الكلامي ليقطع شبهاتهم ويرد حجتهم عليهم، تصدى أيضاً للرد على الفلاسفة والقرامطة والباطنية ، والروافض  وغيرهم من أهل الأهواء والضلال.

وقد صرَّح الأشعري في كتابه "الإبانة عن أصول الديانة"- وهو آخر ما ألَّف من الكتب على أصح الأقوال- ،بتراجعه عن كثير من آرائه إلى طريق السلف في الإثبات وعدم التأويل.. يقول رحمه الله:" وقولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب ربنا عز وجل وبسنة نبينا عليه السلام، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ـ نضَّر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته ـ قائلون، ولما خالف قوله مخالفون ".

إن مدرسة الأشعرية الفكرية لا تزال مهيمنة على الحياة الدينية في العالم الإسلامي، ولكنها كما يقول الشيخ أبو الحسن الندوي: " فقدت حيويتها ونشاطها الفكري، وضعف إنتاجها في الزمن الأخير ضعفاً شديداً وبدت فيها آثار الهرم والإعياء ". لماذا ؟

ـ التقليد الذي طغى على تلاميذ تلك المدرسة.

ـ إدخال مصطلحات الفلسفة وأسلوبها في الاستدلال في علم الكلام.

ـ تصدى شيخ الإسلام ابن تيمية لجميع المذاهب الإسلامية التي انحرفت عن الكتاب والسنة ـ ومنهم الأشاعرة وبخاصة المتأخرة منهم ـ في كتابه القيم: درء تعارض العقل والنقل وفنَّد آراءهم الكلامية، وبيَّن أخطاءهم وأكَّد أن أسلوب القرآن والسنة هو الأسلوب اليقيني للوصول إلى حقيقة التوحيد والصفات وغير ذلك من أمور العقيدة.


 الانتشار ومواقع النفوذ:

انتشر المذهب  الأشعري في عهد الوزير السلجوقي نظام الملك الذي كان أشعريِّ العقيدة،ولذلك أصبحت العقيدة الأشعرية عقيدة شبه رسمية تحميها الدولة .

ومما زاد من انتشارها وقوتها مدرسة بغداد النظامية، ومدرسة نيسابور النظامية، وكان يقوم عليهما رواد المذهب الأشعري، وكانت المدرسة النظامية في بغداد أكبر جامعة إسلامية في العالم الإسلامي وقتها، كما تبنى المذهب ونشره ونور الدين محمود زنكي، والسلطان صلاح الدين الأيوبي، بالإضافة إلى اعتماد جمهرة من العلماء عليه، وبخاصة فقهاء الشافعية والمالكية المتأخرين. ولذلك انتشر المذهب في العالم الإسلامي كله، لا زال المذهب الأشعري سائداً في أكثر البلاد الإسلامية وله جامعاته ومعاهده المتعددة.

يتضح مما سبق:

أن الأشاعرة فرقة كلامية إسلامية تنسب إلى أبي الحسن الأشعري في مرحلته الثانية التي خرج فيها على المعتزلة ودعا فيها إلى التمسك بالكتاب والسنة، على طريقة ابن كلاب، وهي تثبت بالعقل  الصفات العقلية السبع فقط لله تعالى، (الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام) واختلفوا في صفة البقاء، أما الصفات الاختيارية والمتعلقة بالمشيئة من الرضا والغضب والفرح والمجيء والنزول فقد نفوها، بينما يؤلون الصفات الخبرية لله تعالى أو يفوضون معناها. ويؤمن متأخرو الأشاعرة ببعض الأفكار المنحرفة عن عقيدة أهل السنة والجماعة  التي تصدى لها ولغيرها شيخ الإسلام ابن تيمية، لا سيما في مجال العقيدة، حيث أكد أن أسلوب القرآن والسنة بفهم السلف الصالح هو الأسلوب اليقيني للوصول إلى حقيقة التوحيد والصفات وغير ذلك من أمور العقيدة والدين. وعموماً فإن عقيدة الأشاعرة تنسب إلى عقيدة أهل السنة والجماعة بالمعنى العام في مقابل الشيعة  ، وأن الأشاعرة وبخاصة أشاعرة العراق الأوائل أمثال أبو الحسن الأشعري، والباهلي، وابن مجاهد، والباقلاني وغيرهم، أقرب إلى السنة والحق من الفلاسفة والمعتزلة بل ومن أشاعرة خراسان كأبي بكر بن فورك وغيره، وإنهم ليحمدوا على مواقفهم في الدفاع عن السنة والحق في وجه الباطنية  والرافضة  والفلاسفة، فكان لهم جهدهم المحمود في هتك أستار الباطنية وكشف أسرارهم، بل وكان لهم جهادهم المشكور في كسر سورة المعتزلة والجهمية .

إلا أنه ينبغي عليهم وقد تبينت الأمور في هذا الزمان أن يتخلصوا من مخالفاتهم ، ويلحقوا بأهل السنة ، وما ذلك على الله بعزيز.

 الماتريدية

 التعريف:

الماتريدية إحدى الفرق الكلامية البدعية المنتسبة إلى أبي منصور الماتريدي، قامت على استخدام البراهين والدلائل العقلية والكلامية في محاججة خصومها، من المعتزلة والجهمية  وغيرهم.

 التأسيس وأبرز الشخصيات:

مرت الماتريدية كفرقة كلامية بعدة مراحل يمكن إجمالها في أربع مراحل رئيسية :

مرحلة التأسيس: [000ـ333هـ] والتي اتسمت بشدة المناظرات مع المعتزلة وصاحب هذه المرحلة: أبو منصور الماتريدي:

[ ت333هـ]: هو محمد بن محمد بن محمود الماتريدي، [نسبة إلى (ماتريد) قرب مدينة سمرقند ] لم يذكر مترجموه من شيوخه إلا العدد القليل مثل: نصير بن يحيى البلخي، الذي تلقى عنه الفقه الحنفي وعلوم الكلام .

ـ أطلق عليه الماتريدية لقب "إمام المتكلمين".

وكان يمتاز بالنبوغ وقوة الحجة ، وكان معاصرا لأبي الحسن الأشعري .

ترك مؤلفات كثيرة: في أصول الفقه والتفسير. من أشهرها: "تأويلات أهل السنة أو تأويلات القرآن" ، وكتاب التوحيد وفيه قرر نظرياته وله في الردود على المعتزلة والروافض والقرامطة .

· مرحلة التكوين: [ 333ـ500هـ ]: وهي مرحلة تلامذة الماتريدي وفيه أصبحت فرقة كلامية ظهرت أولاً في سمرقند وراجت فيها ، وعملت على نشر أفكار شيخهم وإمامهم، ودافعوا عنها، وصنفوا التصانيف متبعين مذهب الإمام أبي حنيفة في الفروع ومن أشهر أصحاب هذه المرحلة: أبو القاسم إسحاق بن محمد الحكيم السمرقندي (342هـ)، وعُرف بالحكيم لكثرة حكمه ومواعظه.

ثم تلى ذلك مرحلة أخرى تُعتبر امتداداً للمرحلة السابقة. ومن أهم وأبرز شخصياتها:

ـ أبو اليسر البزدوي [ت493هـ] المُلقب بالقاضي الصدر، وهو شيخ الحنفية بعد أخيه الكبير علي البزودي.

وكان من أشهر تلاميذه نجم الدين عمر بن محمد النسفي صاحب العقائد النسفية.

مرحلة التأليف والتأصيل للعقيدة الماتريدية: [500ـ700هـ]: وامتازت بكثرة التأليف وجمع الأدلة للعقيدة الماتريدية؛ ومن أهم أعيان هذه المرحلة:

ـ أبو المعين النسفي [508هـ]: وهو ميمون بن محمد بن معتمد النسفي المكحولي الملقب بسيف الحق والدين ، وهو من أشهر علماء الماتريدية.

ومن أهم كتبه تبصرة الأدلة، ويعد من أهم المراجع في معرفة عقيدة الماتريدية بعد كتاب التوحيد للماتريدي.

-نجم الدين عمر النسفي [462ـ537هـ]: بلغ عدد شيوخه خمسمائة رجلاً وأخذ عنه خلقٌ كثير، وله مؤلفات بلغت المائة من أشهرها كتاب العقائد المشهورة بالعقائد النسفية، والذي يعد من أهم المتون في العقيدة الماتريدية .

مرحلة التوسع والانتشار: [700ـ1300هـ]: وتعد من أهم مراحل الماتريدية حيث بلغت أوجَ توسعها وانتشارها في هذه المرحلة؛ وما ذلك إلا لمناصرة سلاطين الدولة العثمانية، وتوسعت مع توسعاتهم فانتشرت في: شرق الأرض، وغربها .

وهناك مدراس مازالت تتبنى الدعوة للماتريدية في شبه القارة الهندية وتتمثل في:

ـ مدرسة ديوبند و الندوية [1283هـ ـ …] وفيها كثر الاهتمام بالتأليف في علم الحديث وشروحه، فالديوبندية أئمة في العلوم النقلية والعقلية؛ إلا أنهم متصوفة محضة، وعند كثير منهم بدعٌ قبورية، كما يشهد عليهم كتابهم المهنَّد على المفنَّد لـ الشيخ خليل أحمد السهارنفوري أحد أئمتهم، وهو من أهم كتب الديوبندية في العقيدة، ولا تختلف عنها المدرسة الندوية .

ـ مدرسة البريلوي [1272هـ ـ…] نسبة إلى زعيمهم أحمد رضا خان الأفغاني الحنفي الماتريدي الصوفي الملقب بعبد المصطفي [1340هـ] وفي هذا الدور يظهر الإشراك الصريح، والدعوة إلى عبادة القبور، وشدة العداوة للديوبندية، وتكفيرهم فضلاً عن تكفير أهل السنة.

ـ مدرسة الكوثري [ 1296هـ ـ …] و تنسب إلى الشيخ محمد زاهد الكوثري  (1371هـ) ويظهر فيها شدة الطعن في أئمة الإسلام ولعنهم، وجعلهم مجسمة ومشبهة، وجعل كتب السلف ككتب: التوحيد، الإبانة، الشريعة، والصفات، والعلو، وغيرها من كتب أئمة السنة، كتب وثنيةٍ وتجسيمٍ وتشبيهٍ، كما يظهر فيها أيضاً شدة الدعوة إلى البدع الشركية وللتصوف من تعظيم القبور والمقبورين تحت ستار التوسل.

كما يظهر ذلك من تعليقات الكوثري على كتاب الأسماء والصفات للبيهقي، وكتاب مقالات الكوثري.

 أهم الأفكار والمعتقدات:

من حيث مصدر التلقي: قسّم الماتريدية أصول الدين حسب التلقي إلى:

ـ الإلهيات [العقليات]: وهي ما يستقل العقل بإثباتها والنقل تابع له، وتشمل أبواب التوحيد والصفات.

ـ الشرعيات [السمعيات]: وهي الأمور التي يجزم العقل بإمكانها ثبوتاً ونفياً، ولا طريق للعقل إليها مثل: النبوات، و عذاب القبر، وأمور الآخرة.

ـ وبناء على ذلك: إن كان من نصوص القرآن الكريم والسنة المتواترة مما هو قطعي الثبوت قطعي الدلالة عندهم، أي مقبولاً عقلاُ، خالياً من التعارض مع عقولهم؛ فإنهم يحتجون به في تقرير العقيدة. وأما إن كان قطعي الثبوت ظني الدلالة عندهم أي: مخالفاً لعقولهم، فإنه لا يفيد اليقين، ولذلك تُؤوَّل الأدلة النقلية بما يوافق الأدلة العقلية، أو تفويض معانيها إلى الله عز وجل. وهم في ذلك مضطربون، فليست عندهم قاعدة مستقيمة في التأويل والتفويض؛ فمنهم من رجّح التأويل على التفويض، ومنهم من رجّح التفويض، ومنهم من أجاز الأمرين، وبعضهم رأى أن التأويل لأهل النظر والاستدلال، والتفويض أليق للعوام.

ومعلومٌ أن القول بالتفويض من أشر أقوال أهل البدع لمناقضته ومعارضته نصوص التدبر للقرآن، واستلزام تجهيل الأنبياء والمرسلين برب العالمين.

وإن كان من أحاديث الآحاد فإنها عندهم تفيد الظن، ولا تفيد العلم اليقيني، ولا يعمل بها في الأحكام الشرعية مطلقاً، بل وفق قواعدهم وأصولهم التي قرروها، وأما في العقائد فإنه لا يحتج بها، ولا تثبت بها عقيدة، وإن اشتملت على جميع الشروط المذكورة في أصول الفقه، وإن وردت مخالفة للعقل ولا تحتمل التأويل رُدَّت بافتراء ناقله أو سهوه، وإن كانت ظاهرة فظاهرها غير مراد، وهذا موقف الماتريدية قديماً وحديثاً؛ ولذلك نجد الكوثري ومن وافقه من الديوبندية يطعنون في كتب السنة بما فيها الصحيحين، وفي عقيدة أئمة السنة بما فيها الصحيحين، وفي عقيدة أئمة السنة مثل: حماد بن سلمة راوي أحاديث الصفات، والإمام الدارمي عثمان بن سعيد صاحب السنن.  لأن الأحاديث حجة عليهم

ـ وقالوا أيضاً بالتحسين والتقبيح العقليين، حيث يدرك العقل حسن الأشياء وقبحها، إلا أنهم اختلفوا في حكم الله تعالى بمجرد إدراك العقل للحسن والقبح. فمنهم من قال: إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة ولو لم يبعث إليهم رسول ؛ومنهم من قال بعكس ذلك.

ـ وذهبت كذلك الماتريدية كغيرها من الفرق الكلامية إلى أن المجاز واقع في اللغة والقرآن والحديث؛ ويقصدون بالمجاز بأنه اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، وهو قسيم الحقيقة عندهم. ولذلك اعتمدوا عليه في تأويل النصوص دفعاً ـ في ظنهم ـ لشبه التجسيم والتشبيه . وهو بهذا المعنى: قول مبتدع، محدث، لا أصل له في اللغة ولا في الشرع. ولم يتكلم فيه أئمة اللغة.

ـ ومفهوم التوحيد عندهم هوإثبات أن الله تعالى واحد في ذاته، لا قسيم له، ولا جزء له، واحد في صفاته، لا شبيه له، واحد في أفعاله، لا يشاركه أحد في إيجاد المصنوعات،فخالفوا أهل السنة والجماعة  بتسويتهم بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية.

ـ أثبتوا لله تعالى أسماءه الحسنى، وقالوا: لا يسمَّى الله تعالى إلا بما سمى به نفسه، وجاء به الشرع. وفي ذلك وافقوا أهل السنة والجماعة في القول بالتوقيف في أسمائه تعالى إلا أنهم خالفوهم فيما أدخلوه في أسمائه تعالى: كالصانع، القديم،الذات … حيث لم يفرقوا بين باب الإخبار عن الله تعالى وباب التسمية.

ـ وقالوا بإثبات ثماني صفاتٍ لله تعالى فقط، على خلاف بينهم وهي: الحياة، القدرة، العلم، الإرادة، السمع، البصر، الكلام، التكوين وما عدا ذلك من الصفات التي دل عليها الكتاب والسنة [ الصفات الخبرية ] من صفات ذاتية، أو صفات فعلية، فإنها لا تدخل في نطاق العقل ، ولذلك قالوا بنفيها جميعاً.

ـ قولهم بأن القرآن ليس بكلام الله تعالى على الحقيقة، وإنما هو كلام الله تعالى النفسي، لا يسمع، وإنما يسمع ما هو عبارة عنه، ولذلك فإن الكتب بما فيها القرآن مخلوقة؛ وهو قول مبتدع محدث لم يدل عليه الكتاب ولا السنة.

ـ تقول الماتريدية في الإيمان أنه التصديق بالقلب فقط، وأضاف بعضهم الإقرار باللسان، ومنعوا زيادته ونقصانه، وقالوا بتحريم الاستثناء فيه، وأن الإسلام والإيمان مترادفان، لا فرق بينهما، فوافقوا المرجئة  في ذلك، وخالفوا أهل السنة والجماعة ، وافقت الماتريدية أهل السنة والجماعة في الإيمان بالسمعيات مثل: أحوال البرزخ، وأمور الآخرة من: الحشر، والنشر، والميزان، والصراط، والشفاعة، والجنة، والنار؛ لأنهم جعلوا مصدر التلقي فيها السمع، لأنها من الأمور الممكنة التي أخبر بها الصادق صلى الله عليه وسلم، وأيدتها نصوص الكتاب والسنة.

ـ وبالتالي فإنهم أثبتوا رؤية الله تعالى في الآخرة؛ ولكن مع نفي الجهة والمقابلة. وهذا قول متناقض حيث أثبتوا ما لا يمكن رؤيته.

كما وافقت الماتريدية أهل السنة والجماعة في القول في الصحابة على ترتيب خلافتهم، وأن ما وقع بينهم كان خطأ عن اجتهاد منهم؛ ولذا يجب الكف عن الطعن فيهم، لأن الطعن فيهم إما كفر، أو بدعة ، أو فسق. كما يرون أن الخلافة  في قريش، وتجوز الصلاة خلف كل برٍ وفاجرٍ، ولا يجوز الخروج على الإمام الجائر.

وأيضاً وافقوا أهل السنة والجماعة في القول: بالقدر، والقدرة، والاستطاعة، على أن كل ما يقع في الكون بمشيئة الله تعالى وإرادته، وأن أفعال العباد من خير وشر من خلق الله تعالى وأن للعباد أفعالاً اختيارية، يثأبون عليها، ويعاقبون عليها، وأن العبد مختار في الأفعال التكليفية غير مجبور على فعلها.

وقالت الماتريدية بعدم جواز التكليف بما لا يُطاق بينما الذي عليه أهل السنة والجماعة  هو: التفصيل، وعدم إطلاق القول بالجواز أو بالمنع.

الجذور الفكرية والعقائدية:

يتبين للباحث أن عقيدة الماتريدية فيها حق وباطل؛ فالحق أخذوه عن أهل السنة من الحنفية السلفية ، وغيرهم ، لكن من خلال النظر في المصادر التاريخية نستطيع القول أن أبا منصور الماتريدي تأثر مباشرة أو بواسطة شيوخه بعقائد الجهمية  من الإرجاء  والتعطيل؛ وكذلك المعتزلة  والفلاسفة في نفي بعض الصفات وتحريف نصوصها، ونفي العلو والصفات الخبرية ظناً منه أنها عقيدة أهل السنة.

ـ وكذلك تأثر بابن كلاب فقد صرح شيخ الإسلام ابن تيمية أن أبا منصور الماتريدي تابع ابن كلاب في عدة مسائل: الصفات، وما يتعلق بها.

 الانتشار ومواقع النفوذ:

انتشرت الماتريدية في بلاد الهند والصين، وبنغلاديش، وباكستان، وأفغانستان. كما انتشرت في بلاد تركيا، والروم، وفارس، وبلاد ما وراء النهر، والمغرب حسب انتشار الحنفية وسلطانهم، وما زال لهم وجود قوي في هذه البلاد، وذلك لأسباب كثيرة منها:

1ـ المناصرة من سلاطين الدولة العثمانية.

2ـ دور المدارس الماتريدية حيث لا زال يدرَّس فيها كتب الماتريدية في العقيدة على أنها عقيدة أهل السنة والجماعة .

3ـ النشاط البالغ في ميدان التصنيف في علم الكلام ، وردهم على الفرق المبتدعة الأخرى .

يتضح مما سبق:

أن الماتريدية فرقة كلامية نشأت بسمرقند في القرن الرابع الهجري، وتنسب إلى أبي منصور الماتريدي، مستخدمة الأدلة والبراهين العقلية والفلسفية في مواجهة خصومها من المعتزلة، والجهمية وغيرهما من الفرق الباطنية، في محاولة لم يحالفها التوفيق للتوسط بين مذهب أهل السنة والجماعة في الاعتقاد ومذاهب المعتزلة والجهمية وأهل الكلام، فأعْلَوا شأن العقل مقابل النقل، وقالوا ببدعة تقسيم أصول الدين إلى عقليات وسمعيات مما اضطرهم إلى القول بالتأويل والتفويض، وكذا القول بالمجاز في القرآن الكريم، والسنة النبوية، وعدم الأخذ بأحاديث الآحاد، وبالقول بخلق الكتب ومنها: القرآن الكريم؛ وعلى أن القرآن الكريم كلام الله تعالى النفسي. مما قربَّهم إلى المعتزلة والجهمية في هذا الباب، وإلى المرجئة  في أبواب الإيمان، وأهل السنة والجماعة في مسائل: القدر، وأمور الآخرة وأحوال البرزخ، وفي القول في الإمامة، والصحابة رضي الله عنهم. ولما كان مفهومهم للتوحيد أنه يقتصر على: توحيد الخالقية، والربوبية، مما مكن التصوف الفلسفي بالتغلغل في أوساطهم، فغلب على كبار منتسبيهم وقوي بقوة نفوذ وانتشار المذهب ؛ لوجود أكثر من دولة تحميه وتؤيده مثل: الدولة العثمانية؛ فضلاً عن وجود جامعات ومدارس مشهورة تعمل على نشره، وكان لانتسابهم لمذهب الإمام أبي حنيفة في الفروع أثره البالغ في انتشار المذهب الماتريدي إلى اليوم. ومع هذا فإن للماتريدية خدمات في الرد على: المعتزلة والباطنية والفلاسفة الملحدين والروافض ، ولهم جهود في خدمة كتب الحديث لا تخلو من ملحوظات.


 المذاهب المعاصرة - الليبرالية

 أولا: تعريف الليبرالية ونشأتها

الليبرالية مصطلح أجنبي معرب مأخوذ من (Liberalism) في الإنجليزية ، وهي تعني " التحررية ". وهي مذهب فكري يركز على الحرية الفردية ، ويرى وجوب احترام استقلال الأفراد ، وأن الوظيفة الأساسية للدولة هي حماية حريات المواطنين ، مثل حرية التفكير ، والتعبير ، والملكية الخاصة ، والحرية الشخصية وغيرها.

ولهذا يسعى هذا المذهب إلى وضع القيود على السلطة ، وتقليل دورها ، وإبعاد الحكومة عن السوق ، وتوسيع الحريات المدنية.

ويقوم هذا المذهب على أساس علماني يعظم الإنسان .

تقول " الموسوعة الأمريكية الأكاديمية ": إن النظام الليبرالي الجديد ( الذي ارتسم في فكر عصر التنوير ) بدأ يضع الإنسان بدلا من الإله في وسط الأشياء ، فالناس بعقولهم المفكرة يمكنهم أن يفهموا كل شيء ، ويمكنهم أن يطوروا أنفسهم ومجتمعاتهم ، عبر فعل نظامي وعقلاني.

وكذلك يقرر أن وحدة الدين ليست ضرورية للتنظيم الاجتماعي الصالح ، وأن القانون يجب أن يكفل حرية الرأي والاعتقاد.

نشأت الليبرالية كردة فعل غير واعية بذاتها ، ضد مظالم الكنيسة والإقطاع ، ثم تشكلت في كل بلد بصورة خاصة ، وكانت وراء الثورات الكبرى في العالم الغربي ( الثورة الإنجليزية ، والأمريكية ، والفرنسية ).

وهو مصطلح يكتنفه الغموض فإن مبدأ الحرية لا يمكن تحديده وضبطه ، لأن أصحاب هذا المبدأ يعتمد كل واحد منهم على " الحرية " في الوصول لفكرته.

وقد حصل التنازع بين اتجاهات الليبرالية في تكييف " الحرية "، والبرامج المحققة لها ، ومن هذا المنطلق جاء المفهوم السلبي ، والمفهوم الإيجابي للحرية.

 ثانيا: تسلل الليبرالية إلى الفكر الإسلامي

أصبح الاعتماد على العقل المجرد ، وإقصاء الدين والقيم والأخلاق: سمة من أبرز سمات الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر.

وقد تسللت الليبرالية إلى البلاد الإسلامية من خلال " الجمعيات السرية " التي كونها أفراد تأثروا بالفكر الغربي وانبهروا بحضارته المادية. وقد كانت بقية الأمة الإسلامية ثابتة على دينها معتزة به لا تحتاج إلى الأفكار والنظم الغربية .

ولكن وجدت عوامل أضعفت ثقة الأمة بدينها ، وهيأت المجتمع الإسلامي لتقبل الليبرالية وعدم مقاومتها.

وهذه العوامل هي: الانحراف العقدي ، والاستبداد السياسي ، والجمود والتقليد.

وهي ليست أسبابا مباشرة في وجود الليبرالية ، ولكن هذه العوامل أوجدت أرضية متقبلة ، ومناخا مناسبا للرضى بالليبرالية ، والسكوت عليها.

ولا شك أن السبب المباشر لدخول الليبرالية في العالم الإسلامي هو " الاستعمار وأذنابه " من دعاة التغريب ، والمنبهرين بالحضارة الغربية ، ولكن دخولها لم يكن له أن يتم ، لولا وجود عوامل معينة ساعدت على عدم الوقوف الجاد في وجه هذه الأفكار الإلحادية.

من تلك العوامل تواطؤ الفرق الضالة كالمرجئة والصوفية ودعاة المذهبية والمنحرفين ،الذين ساعدوا على وجود الفكر الليبرالي عندما قدم مع الاستعمار ، وقد استغل المستعمرون هذه الانحرافات أبشع استغلال ، ووظفوها في خدمة أهدافهم.

ولما احتلت بلاد المسلمين فرضت الليبرالية عليها في النظام السياسي والاقتصادي ، ولما رأى الاحتلال عدم تقبل المسلمين لأي أمر غير مرتبط بالإسلام جاء بفكرة " تطوير الإسلام وتحديثه "، ومن هذه الفكرة خرج " مشروع الإسلام الليبرالي ".

 ثالثا: أفكار الليبرالية وعقائدها

1ـ تقديس العقل في مقابل التهوين من شأن النصوص.

2ـ تقديم المصلحة المتوهمة على النص؛ حيث اعتقدوا أن العقل له الصلاحية الكاملة والأهلية التامة في أن يستقل بإدراك المصالح والمفاسد.

3ـ دعوى تعدد قراءات النص الواحد؛ فالفلسفة المعاصرة أخذت في بعض تقاريرها بهذا المذهب الفاسد ، فصححوا كل الأديان والمذاهب الباطلة ، ولم يجعلوا لنصوص القرآن والسنة منزلة ولا حرمة.

4. التشويه المتعمد للتراث الإسلامي عقيدة وشريعة وتاريخا.

5. إحياء التراث الفلسفي والعقلي ، على حساب التراث النقلي.

6. الهزيمة النفسية أمام الأعداء من خلال إلغاء أصول الولاء والبراء ، وقواعد الجهاد ، والترويج بأن المسلمين متخلفون, ولا يمكن أن يتقدموا أبدا.

7. طمس معالم الأخلاق الإسلامية, وذلك عن طريق الانحلال والتفسخ الأخلاقي

8. إقصاء الشريعة عن الحكم وعزلها عن الحياة, وحصرها في نطاق المسجد والعبادات الشخصية, وهو ما يعرف بـ (العلمانية) أو اللادينية.

فالدعوة الليبرالية في حقيقتها هي: العلمانية, وإن وجد فاصل بينهما فهو رقيق جدا ، وكأنهما وجهان لعملة واحدة ، واسمان لمسمى واحد.

 رابعا: الحكم الشرعي لهذا المذهب الفكري

ومما سبق يتبين لنا أن الليبرالية بهذا المفهوم الذي يشرحه المفكرون والمؤرخون ، تشتمل على الكثير مما يخالف الإسلام.

وقد سئل فضيلة الشيخ صالح الفوزان سؤالا حول الفكر الليبرالي وهل يجوز للمسلم أن يقول: ( أنا مسلم ليبرالي ) ؟

فأجاب بقوله :

المسلم هو المسلم لله بالتوحيد ، المنقاد له بالطاعة ، المتبرئ من الشرك وأهله ، فالذي يريد الحرية التي لا ضابط لها إلا القانون الوضعي: هذا متمرد على شرع الله ، يريد حكم الجاهلية وحكم الطاغوت ، فلا يكون مسلماً.

والذي ينكر ما علم من الدين بالضرورة ، من الفرق بين المسلم والكافر ، ويريد الحرية التي لا تخضع لقيود الشريعة ، وينكر الأحكام الشرعية من الأحكام الشرعية الخاصة بالمرأة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومشروعية الجهاد في سبيل الله: هذا قد ارتكب عدة نواقض من نواقض الإسلام ، نسأل الله العافية.

والذي يقول: ( إنه مسلم ليبرالي ): متناقض إذا أريد بالليبرالية ما ذُكر ، فعليه أن يتوب إلى الله من هذه الأفكار ليكون مسلماً حقا ".


 العلمانية

التعريف:

العلمانية SECULARISM وترجمتها الصحيحة: اللادينية أو الدنيوية، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على العلم الوضعي والعقل ومراعاة المصلحة بعيداً عن الدين. وتعني في جانبها السياسي بالذات اللادينية في الحكم، وهي اصطلاح لا صلة له بكلمة العلم SCIENCE وقد ظهرت في أوروبا منذ القرن السابع عشر وانتقلت إلى الشرق في بداية القرن التاسع عشر وانتقلت بشكل أساسي إلى مصر وتركيا وإيران ولبنان وسوريا ثم تونس ولحقتها العراق في نهاية القرن التاسع عشر. أما بقية الدول العربية فقد انتقلت إليها في القرن العشرين، وقد اختيرت كلمة علمانية لأنها أقل إثارة من كلمة لا دينية.

ومدلول العلمانية: يعني "عزل الدين عن الدولة وحياة المجتمع وإبقاءه حبيساً في ضمير الفرد لا يتجاوز العلاقة الخاصة بينه وبين ربه فإن سمح له بالتعبير عن نفسه ففي الشعائر التعبدية والمراسم المتعلقة بالزواج والوفاة ونحوهما".

تتفق العلمانية مع الديانة النصرانية في فصل الدين عن الدولة وملخصها فيما يُنسب للمسيح عليه السلام: "إعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله". أما الإسلام ، فإن الله يقول :﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾‏‏ [سورة الأنعام: آية: 162].

 التأسيس وأبرز الشخصيات :

انتشرت هذه الدعوة في أوروبا وعمت أقطار العالم قبل الثورة الفرنسية سنة 1789م وبعدها ثم انتشرت انتشارا واسعا بالتدريج التالي :

- تحول رجال الدين إلى محترفين سياسيين ومستبدين تحت ستار الإكليروس والرهبانية والعشاء الرباني وبيع صكوك الغفران.

- وقوف الكنيسة  ضد العلم وهيمنتها على الفكر وتشكيلها لمحاكم التفتيش واتهام العلماء بالهرطقة، مثل:

1- كوبرنيكوس: نشر سنة 1543م كتاب حركات الأجرام السماوية وقد حرمت الكنيسة هذا الكتاب.

2- جاليليو: صنع التلسكوب فعُذب عذاباً شديداً وعمره سبعون سنة وتوفي سنة 1642م.

وغيرهما من العلماء .

-ظهور مبدأ العقل والطبيعة: فقد أخذ العلمانيون يدعون إلى تحرر العقل وإضفاء صفات الإله على الطبيعة.

 - الثورة الفرنسية:التي نتج عنها ولادة الحكومة الفرنسية سنة 1789م وهي أول حكومة لا دينية تحكم باسم الشعب ، وحققت الماسونية أهدافهم من خلالهم .

 - جان جاك روسو سنة 1778م له كتاب العقد الاجتماعي الذي يعد إنجيل الثورة، مونتسكيو له روح القوانين، وسبينوزا (اليهودي) وهو رائد العلمانية وله رسالة في اللاهوت والسياسة، فولتير صاحب القانون الطبيعي.

 - ميرابو خطيب وزعيم وفيلسوف الثورة الفرنسية ، الذي قاد الجموع الغوغائية لهدم حصن الباستيل وشعارها الخبز ثم تحول شعارها إلى (الحرية والمساواة والإخاء) وهو شعار ماسوني و"لتسقط الرجعية" وهي كلمة ملتوية تعني الدين وقد تغلغل اليهود بهذا الشعار لكسر الحواجز بينهم وبين أجهزة الدولة وإذابة الفوارق الدينية وتحولت الثورة من ثورة على مظالم رجال الدين إلى ثورة على الدين نفسه.

-  نظرية التطور: وصاحبها تشارلز دارون صاحب كتاب أصل الأنواع (سنة 1859م) وفيه دافع عن نظريته أن الجد الحقيقي للإنسان جرثومة صغيرة عاشت في مستنقع راكد قبل ملايين السنين، والقرد مرحلة من مراحل التطور التي كان الإنسان آخرها. وهذه النظرية أدت إلى انهيار العقيدة الدينية ونشر الإلحاد وقد استغل اليهود هذه النظرية بدهاء وخبث.

- ظهور نيتشه: الذي يزعم أن الإله قد مات وأن الإنسان الأعلى (السوبرمان) ينبغي أن يحل محله.

- فرويد (اليهودي): صاحب النظرية الجنسيبة اعتمد فالإنسان في نظره حيوان جنسي.

- كارل ماركس (اليهودي): صاحب التفسير المادي للتاريخ وهو داعية الشيوعية ومؤسسها الأول الذي اعتبر أن الدين أفيون الشعوب.

- جان بول سارتر: صاحب النظرية الوجودية.

 - نماذج من الاتجاهات العلمانية في العالم العربي والإسلامي:

1- في مصر: دخلت العلمانية مصر مع حملة نابليون بونابرت. وقد أشار إليها الجبرتي في تاريخه بلفظ غير صريح. أما أول من استخدم هذا المصطلح العلمانية فهو نصراني يُدعى إلياس بقطر في معجم عربي فرنسي من تأليفه سنة 1827م. وأدخل الخديوي إسماعيل القانون الفرنسي سنة 1883م، وكان هذا الخديوي مفتوناً بالغرب، وكان أمله أن يجعل من مصر قطعة من أوروبا.

2- الهند: حتى سنة 1791م كانت الأحكام وفق الشريعة الإسلامية ثم بدأ التدرج من هذا التاريخ لإلغاء الشريعة بتدبير الإنجليز وانتهت تماماً في أواسط القرن التاسع عشر.

3- الجزائر: إلغاء الشريعة الإسلامية عقب الاحتلال الفرنسي سنة 1830م.

4- تونس: أدخل القانون الفرنسي فيها سنة 1906م.

5- المغرب: أدخل القانون الفرنسي فيها سنة 1913م.

6- تركيا: لبست ثوب العلمانية عقب إلغاء الخلافة واستقرار الأمور تحت سيطرة مصطفى كمال أتاتورك.

7- العراق والشام: ألغيت الشريعة أيام إلغاء الخلافة العثمانية وتم تثبيت أقدام الإنجليز والفرنسيين فيهما.

8- معظم أفريقيا: فيها حكومات نصرانية امتلكت السلطة بعد رحيل الاستعمار.

9- أندونيسيا ومعظم بلاد جنوب شرقي آسيا: دول علمانية.

10- انتشار الأحزاب العلمانية والنزعات القومية: حزب البعث، الحزب القومي السوري، النزعة الفرعونية، النزعة الطورانية، القومية العربية.

11- من أشهر دعاة العلمانية في العالم العربي والإسلامي: أحمد لطفي السيد، إسماعيل مظهر، قاسم أمين، طه حسين، عبدالعزيز فهمي، ميشيل عفلق، أنطون سعادة، سوكارنو، سوهارتو، نهرو ، مصطفى كمال أتاتورك، جمال عبد الناصر، أنور السادات صاحب شعار "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين"، د. فؤاد زكريا. د. فرج فودة الذي اغتيل بالقاهرة .

 الأفكار والمعتقدات :

بعض العلمانيين ينكرون وجود الله أصلاً.

- وبعضهم يؤمنون بوجود الله لكنهم يعتقدون بعدم وجود أية علاقة بين الله وبين حياة الإنسان.

الحياة تقوم على أساس العلم المطلق وتحت سلطان العقل والتجريب.

إقامة حاجز سميك بين عالمي الروح والمادة، والقيم الروحية لديهم قيم سلبية.

- فصل الدين عن السياسة وإقامة الحياة على أساس مادي.

- تطبيق مبدأ النفعية Pragmatism على كل شيء في الحياة.

- اعتماد مبدأ الميكيافيلية في فلسفة الحكم والسياسة والأخلاق " الغاية تبرر الوسيلة".

- نشر الإباحية والفوضى الأخلاقية وتهديم كيان الأسرة باعتبارها النواة الأولى في البنية الإجتماعية.

- أما معتقدات العلمانية في العالم الإسلامي والعربي التي انتشرت بفضل الاستعمار والتبشير فهي:

- الطعن في حقيقة الإسلام والقرآن والنبوة.

- الزعم بأن الإسلام استنفذ أغراضه وهو عبارة عن طقوس وشعائر روحية.

- الزعم بأن الفقه  الإسلامي مأخوذ عن القانون الروماني.

- الزعم بأن الإسلام لا يتلاءم مع الحضارة ويدعو إلى التخلف.

- الدعوة إلى تحرير المرأة وفق الأسلوب الغربي.

- تشويه الحضارة الإسلامية وتضخيم حجم الحركات الهدامة في التاريخ الإسلامي والزعم بأنها حركات إصلاح.

- إحياء الحضارات القديمة.

- اقتباس الأنظمة والمناهج اللادينية عن الغرب ومحاكاته فيها.

- تربية الأجيال تربية لا دينية.

إذا كان هناك عذر ما لوجود العلمانية في الغرب فليس هناك أي عذر لوجودها في بلاد المسلمين لأن النصراني إذا حكمه قانون مدني وضعي لا ينزعج كثيراً ولا قليلاً لأنه لا يعطل قانوناً فرضه عليه دينه وليس في دينه ما يعتبر منهجاً للحياة، أما مع المسلم فالأمر مختلف حيث يوجب عليه إيمانه الاحتكام إلى شرع الله.

-الجذور الفكرية والعقائدية:

العداء المطلق للكنيسة أولاً، وللدين ثانياً أيًّا كان، سواء وقف إلى جانب العلم أم عاداه.

لليهود دور بارز في ترسيخ العلمانية من أجل إزالة الحاجز الديني الذي يقف أمام اليهود حائلاً بينهم وبين أمم الأرض.

يقول ألفرد هوايت هيو: "ما من مسألة ناقض العلم فيها الدين إلا وكان الصواب بجانب العلم والخطأ حليف الدين"! بينما نُقل عن أحد الصحابة قوله عن الإسلام: "ما أمر بشيء، فقال العقل: ليته نهى عنه، ولانهى عن شيء، فقال العقل: ليته أمر به".

- تعميم نظرية (العداء بين العلم من جهة والدين من جهة) لتشمل الدين الإسلامي على الرغم من أن الدين الإسلامي لم يقف موقف الكنيسة ضد الحياة والعلم بل كان الإسلام سباقاً إلى تطبيق المنهج التجريبي ونشر العلوم.

إنكار الآخرة وعدم العمل لها واليقين بأن الحياة الدنيا هي المجال الوحيد للمتع والملذات.

لماذا يرفض الإسلام العلمانية:

- لأنها تغفل طبيعة الإنسان البشرية باعتباره مكوناً من جسم وروح فتهتم بمطالب جسمه ولاتلقي اعتباراً لأشواق روحه.

- لأنها نبتت في البيئة الغربية وفقاً لظروفها التاريخية والاجتماعية والسياسية وتعتبر فكراً غريباً في بيئتنا الشرقية.

- لأنها تفصل الدين عن الدولة فتفتح المجال للفردية والطبقية والعنصرية والمذهبية والقومية والحزبية والطائفية.

- لأنها تفسح المجال لانتشار الإلحاد وعدم الإنتماء والاغتراب والتفسخ والفساد والانحلال.

- لأنها تجعلنا نفكر بعقلية الغرب، فلا ندين العلاقات الحرة بين الجنسين وندوس على أخلاقيات المجتمع ونفتح الأبواب على مصراعيها للممارسات الدنيئة، وتبيح التعامل بالربا وتعلي من قدر الفن للفن، ويسعى كل إنسان لإسعاد نفسه ولو على حساب غيره.

- لأنها تنقل إلينا أمراض المجتمع الغربي من إنكار الحساب في اليوم الآخر ومن ثم تسعى لأن يعيش الإنسان حياة متقلبة منطلقة من قيد الوازع الديني، مهيجة للغرائز الدنيوية كالطمع والمنفعة وتنازع البقاء ويصبح صوت الضمير عدماً.

- مع ظهور العلمانية يتم تكريس التعليم لدراسة ظواهر الحياة الخاضعة للتجريب والمشاهدة وتُهمل أمور الغيب من إيمان بالله والبعث والثواب والعقاب، وينشأ بذلك مجتمع غايته متاع الحياة وكل لهو رخيص.

يتضح مما سبق:

أن العلمانية دعوة إلى إقامة الحياة على أسس العلم الوضعي والعقل بعيداً عن الدين الذي يتم فصله عن الدولة وحياة المجتمع وحبسه في ضمير الفرد ولا يصرح بالتعبير عنه إلاَّ في أضيق الحدود. وعلى ذلك فإن الذي يؤمن بالعلمانية بديلاً عن الدين ولا يقبل تحكيم الشرعية الإسلامية في كل جوانب الحياة ولا يحرم ما حرم الله يعتبر مرتداً ولا ينتمي إلى الإسلام. والواجب إقامة الحجة عليه واستتابته حتى يدخل في حظيرة الإسلام وإلا جرت عليه أحكام المرتدين المارقين في الحياة وبعد الوفاة.


 الأديان - اليهودية

 التعريف:

اليهودية: هي ديانة العبرانيين المنحدرين من نسل إبراهيم عليه السلام والمعروفين بالأسباط من بني إسرائيل الذي أرسل الله إليهم موسى عليه السلام مؤيداً بالتوراة وقد اختلف في أصلها. لكن يبدو أنها نسبت إلى يهوذا أحد أبناء يعقوب وعممت على الشعب على سبيل التغليب.

 التأسيس وأبرز الشخصيات:

موسى عليه السلام: رجل من بني إسرائيل، ولد في مصر أيام فرعونها رمسيس الثاني على الأرجح 1301ـ 1234 ق.م وقد تربى في قصره. ولما شبَّ قتل مصريًّا مما دفعه للهرب إلى بلدة مَدْيَن حيث عمل راعياً لدى شيخ صالح هناك وزوَّجه إحدى ابنتيه.

ـ في طريق عودته إلى مصر أوحى الله إليه في سيناء بالرسالة، وأمره أن يذهب هو وأخوه هارون إلى فرعون لدعوته ولخلاص بني إسرائيل، فأعرض عنهما فرعون وناصبهما العداء، فخرج موسى ببني إسرائيل وقد كان ذلك سنة 1213ق.م في عهد فرعونها مرن بتاح الذي خلف أباه رمسيس الثاني، ولحق بهم هذا الفرعون، لكن الله أغرقه في اليم، ونجَّى موسى وقومه.

ـ في صحراء سيناء صعد موسى الجبل ليكلم ربه وليستلم الألواح، لكنه لما عاد وجد غالب قومه قد عكفوا على عجل من ذهب صنعه لهم السامري فزجرهم موسى، ولما أمرهم بدخول فلسطين امتنعوا عليه وقالوا له: (إنّ فيها قوماً جبارين وإنّا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإنْ يخرجوا منها فإنّا داخلون). (المائدة: 22) فلما حاورهم رجال من بني جلدتهم في ذلك قالوا لموسى: (إنّا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون). (المائدة: 24)، هنا دعا موسى على قومه: (قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين). (المائدة: 25). فغضب الله عليهم وتركهم يتيهون في الصحراء أربعين سنة مات خلالها موسى ودفن في كثيب أحمر دون أن يدخل فلسطين.

ـ مات كذلك أخوه هارون ودفن في جبل هور، ويذكر المؤرخون أن الذين كانوا مع موسى ماتوا كلهم في التيه، باستثناء اثنين كان يوشع أحدهما.

يوشع بن نون: تولى القيادة بعد موسى، ودخل ببني إسرائيل عن طريق شرقي الأردن إلى أريحا، وقد مات يوشع سنة 1130ق.م.

تم تقسيم الأرض المفتوحة بين الإثني عشر سبطاً، الذين كان يحكمهم قضاة من الكهنة ، وقد ظهرت فيهم خلال ذلك قاضية اسمها دبورة.

ثم تولى أمرهم طالوت، وهو الذي قادهم في معارك ضارية ضد من حولهم، وكان داود واحداً من جنوده، وفي إحدى المعارك تغلب داود على جالوت قائد الفلسطينيين ومن هنا برز داود النبي  القائد. داود عليه السلام أصبح الملك الثاني فيهم، وقد بقي الملك في أولاده وراثيًّا، واتخذ من أورشليم (القدس) عاصمة ملكه مشيداً الهيكل المقدس، ناقلاً إليه التابوت، وقد دام حكمه أربعين سنة.

سليمان بن داود عليهما السلام: خلف أباه، وقد علا نجمه حتى إنه صاهر فرعون مصر شيشنق ودانت له سبأ، لكن ملكه انكمش بعد مماته مقتصراً على غرب الأردن.

رحبعام: الذي صار ملكاً سنة 935 ق.م إلا أنه لم يحظ بمبايعة الأسباط، فمال عنه بنو إسرائيل إلى أخيه يربعام، مما أدى إلى انقسام المملكة إلى قسمين:

ـ شمالية اسمها إسرائيل وعاصمتها شكيم.

ـ جنوبية اسمها يهوذا وعاصمتها أورشليم.

ـ حكم في كل من المملكتين 19 ملكاً، واتصل المُلك في ذرية سليمان في مملكة يهوذا فيما تنقل في عدد من الأسر في مملكة إسرائيل.

وقع اليهود الإسرائيليون في سنة 721 ق.م تحت قبضة الآشوريين في عهد الملك سرجون الثاني ملك آشور فزالوا من التاريخ، وسقطت مملكة يهوذا تحت قبضة البابليين سنة 586 ق.م، وقد دمر نبوخذ نصر (بختنصر) أورشليم والمعبد وسبى اليهود إلى بابل وهذا هو التدمير الأول.

أشعيا: عاش في القرن الثامن ق.م وقد كان من مستشاري الملك حزقيال ملك يهوذا 729ـ 668 ق.م.

أرميا: 650ـ 580 ق.م ندد بأخطاء قومه، وقد تنبأ بسقوط أورشليم، ونادى بالخضوع لملوك بابل مما جعل اليهود يضطهدونه ويعتدون عليه.

حزقيال: ظهر في القرن السادس قبل الميلاد، قال بالبعث والحساب وبالمسيح  الذي سيجيء من نسل داود ليصبح ملكاً على اليهود، وقد عاصر فترة سقوط مملكة يهوذا، أبعد إلى بابل بعد استسلام أورشليم.

دانيال: أعلن مستقبل الشعب الإسرائيلي إذ كان مشتهراً بالمنامات والرؤى الرمزية، وقد وعد شعبه بالخلاص على يد المسيح.

سنة 538 ق.م احتل قورش ملك الفرس بلاد بابل وقد سمح لهم قورش بالعودة إلى فلسطين، ولكن لم يرجع منهم إلا القليل.

في سنة 320 ق.م آل الحكم في فلسطين إلى الإسكندر الأكبر ومن بعده إلى البطالمة.

اكتسح الرومان فلسطين سنة 63 ق.م. واستولوا على القدس بقيادة بامبيوس.

وفي سنة 20 ق.م بني هيرودس هيكل سليمان من جديد، وقد ظل هذا الهيكل حتى سنة 70 م حيث دمر الإمبراطور تيطس المدينة وأحرق الهيكل، وهذا هو التدمير الثاني. وقد جاء أوريانوس سنة 135م ليزيل معالم المدينة تماماً ويتخلص من اليهود بقتلهم وتشريدهم، وقد بنى هيكلاً وثنيًّا (اسمه جوبيتار) مكان الهيكل المقدس، وقد استمر هذا الهيكل الوثني حتى دمره النصارى في عهد الإمبراطور قسطنطين.

ـ في سنة 636م فتح المسلمون فلسطين وأجلوا عنها الرومان، وقد اشترط عليهم صفرونيوس بطريرك النصارى أن لا يسكن المدينة أحد من اليهود.

ـ في سنة 1897م بدأت الحركة الجديدة لليهود تحت اسم الصهيونية، لبناء دولة إسرائيل على أرض فلسطين.

 الأفكار والمعتقدات:

 الفِرَق اليهودية:

ـ الفريسيون: أي المتشددون، يسمون بالأحبار أو الربانيين، هم متصوفة رهبانيون لا يتزوجون، لكنهم يحافظون على مذهبهم  عن طريق التبني، يعتقدون بالبعث والملائكة وبالعالم الآخر.

ـ الصدقيون: وهي تسمية من الأضداد لأنهم مشهورون بالإنكار، فهم ينكرون البعث والحساب والجنة والنار وينكرون التلمود، كما ينكرون الملائكة والمسيح المنتظر.

ـ المتعصبون: فكرهم قريب من فكر الفريسيين لكنهم اتصفوا بعدم التسامح وبالعدوانية، قاموا في مطلع القرن الميلادي الأول بثورة قتلوا فيها الرومان، وكذلك كلَّ من يتعاون من اليهود مع هؤلاء الرومان فأطلق عليهم اسم السفَّاكين.

ـ الكتبة أو النَّساخ: عرفوا الشريعة من خلال عملهم في النسخ والكتابة، فاتخذوا الوعظ وظيفة لهم، يسمون بالحكماء، وبالسادة، وواحدهم لقبه أب، وقد أثروا ثراءً فاحشاً على حساب مدارسهم ومريديهم.

ـ السامريون: طائفة من المتهوّدين الذين دخلوا اليهودية من غير بني إسرائيل، كانوا يسكنون جِبَالِ بيت المقدس، أثبتوا نبوة  موسى وهارون ويوشع بن نون، دون نبوة من بعدهم. ظهر فيهم رجل، يقال له الألفان، ادعى النبوة، وذلك قبل المسيح  بمائة سنة. وقد تفرقوا إلى دوستانية وهم الألفانية، وإلى كوستانية أي الجماعة المتصوفة. وقبلة السامرة إلى جبل يقال له غريزيم بين بيت المقدس ونابلس، ولغتهم غير لغة اليهود العبرانية.

ـ السبئية: هم أتباع عبد الله بن سبأ الذي دخل الإسلام ليدمره من الداخل، فهو الذي نقل الثورة ضد عثمان من القول إلى العمل مشعلاً الفتنة، وهو الذي دسَّ الأحاديث الموضوعة ليدعم بها رأيه، فهو رائد الفتن السياسية الدينية في الإسلام.

 كتبهم:

ـ العهد القديم: وهو مقدس لدى اليهود والنصارى إذ أنه سجلٌ فيه شعر ونثر وحكم وأمثال وقصص وأساطير وفلسفة وتشريع وغزل ورثاء.. وينقسم إلى قسمين:

1ـ التوراة: وفيه خمسة أسفار: التكوين أو الخلق، الخروج، اللاوين، الأخبار، العدد، التثنية، ويطلق عليه اسم أسفار موسى.

2ـ أسفار  الأنبياء: وهي نوعان:

أ ) أسفار  الأنبياء المتقدمين: يشوع، يوشع بن نون، قضاة، صموئيل الأول، صموئيل الثاني، الملوك الأول، الملوك الثاني.

ب ) أسفار الأنبياء المتأخرين: أشعيا، إرميا، حزقيال، هوشع، يوئيل، عاموس، عوبديا، يونان، يونس، ميخا، ناحوم، حَبَقّوق، صَفَنْيا، حجّى، زكريا، ملاخي.

ـ وهناك الكتابات وهي:

1ـ الكتابات العظيمة: المزامير، الزبور، الأمثال، أمثال سليمان، أيوب.

2ـ المجلات الخمس: نشيد الإنشاد، راعوت، المرائي، مرائي إرميا، الجامعة، أستير.

3ـ الكتب: دانيال، عزرا، نحميا، أخبار الأيام الأول، أخبار الأيام الثاني.

ـ هذه الأسفار  السابقة الذكر معترف بها لدى اليهود، وكذلك لدى البروتستانت.

ـ أما الكنيسة الكاثوليكية: فتضيف سبعة أخرى هي: طوبيا، يهوديت، الحكمة، يسوع بن سيراخ، باروخ، المكابين الأول،المكابين الثاني. كما تجعل أسفار الملوك أربعة وأولها وثانيها بدلاً من سفر صموئيل الأول والثاني.

ـ التلمود: هو روايات شفوية تناقلها الحاخامات حتى جمعها الحاخام يوضاس سنة 150م في كتاب أسماه المشنا أي الشريعة المكررة لها في توراة موسى كالإيضاح والتفسير، وقد أتم الراباي يهوذا سنة 216م تدوين زيادات وروايات شفوية. وقد تم شرح هذه المشنا في كتاب سمي جمارا، ومن المشنا والجمارا يتكون التلمود، ويحتل التلمود عند اليهود منزلة مهمة جدًّا تزيد على منزلة التوراة .

 أعيادهم:

ـ يوم الفصح: وهو عيد خروج بني إسرائيل من مصر، يبدأ من مساء 14 أبريل وينتهي مساء 21 منه ويكون الطعام فيه خبزاً غير مختمر.

ـ يوم التكفير: في الشهر العاشر من السنة اليهودية ينقطع الشخص تسعة أيام يتعبد فيها ويصوم وتسمى أيام التوبة، وفي اليوم العاشر الذي هو يوم التكفير لا يأكل فيه اليهودي ولا يشرب، ويمضي وقته في العبادة حيث يعتقد أنه تغفر فيه جميع سيئاته ويستعد فيه لاستقبال عام جديد.

ـ زيارة بيت المقدس: يتحتم على كل يهودي ذكر رشيد زيارة البيت المقدس مرتين كل عام.

ـ الهلال الجديد: كانوا يحتفلون لميلاد كل هلال جديد حيث كانت تنفخ الأبواق في البيت المقدس وتشعل النيران ابتهاجاً به.

ـ يوم السبت: لا يجوز لديهم الاشتغال في هذا اليوم لأنه اليوم الذي استراح فيه الرب كما يعتقدون. فقد اجتمعت اليهود على أن الله تعالى لما فرغ من خلق السموات والأرض استوى على عرشه مستلقياً على قفاه واضعاً إحدى رجليه على الأخرى ـ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

 الإله :

ـ اليهود كتابيون موحدون وهذا الأصل.

ـ اتخذوا العجل معبوداً لهم بُعَيْد خروجهم من مصر،كما أن الأفعى مقدس لديهم لأنها تمثل الحكمة والدهاء.

ـ الإله لديهم سموه يهوه  وهو ليس إلهاً معصوماً بل يخطئ ويثور ويقع في الندم وهو يأمر بالسرقة، وهو قاس، متعصب، مدمر لشعبه، إنه إله بني إسرائيل فقط وهو بهذا عدو للآخرين، ويزعمون أنه يسير أمام جماعة من بني إسرائيل في عمود من سحاب.

عزرا هو الذي أوجد توراة موسى بعد أن ضاعت، فبسبب ذلك وبسبب إعادته بناء الهيكل سمي عزرا ابن الله وهو الذي أشار إليه القرآن الكريم.

 أفكار ومعتقدات أخرى:

ـ يعتقدون بأن الذبيح من ولد إبراهيم هو إسحاق المولود من سارة. والصحيح أنه إسماعيل.

ـ لم يرد في دينهم شيء ذو بال عن البعث والخلود والثواب والعقاب إلا إشارات بسيطة بسبب طغيان الفكر المادي على اليهود.

ـ الثواب والعقاب إنما يتم في الدنيا، فالثواب هو النصر والتأييد، والعقاب هو الخسران والذل و الاستعباد.

ـ التابوت: وهو صندوق كانوا يحفظون فيه أغلى ما يملكون من ثروات ومواثيق وكتب مقدسة.

ـ المذبح: مكان مخصص لإيقاد البخور يوضع قدام الحجاب الذي أمام التابوت.

ـ الهيكل: هو البناء الذي أمر به داود وأقامه سليمان، فقد بني بداخله المحراب (أي قدس الأقداس) وهيَّأ كذلك بداخله مكاناً يوضع فيه تابوت عهد الرب.

ـ الكهانة: وتختص بأبناء ليفي (أحد أبناء يعقوب)، فهم وحدهم لهم حق تفسير النصوص وتقديم القرابين، وهم معفون من الضرائب وشخصياتهم وسيلة يتقرب بها إلى الله، فأصبحوا بذلك أقوى من الملوك.

ـ القرابين: كانت تشمل الضحايا البشرية إلى جانب الحيوان والثمار. ثم اكتفى الإله بعد ذلك بجزء من الإنسان وهو ما يقتطع منه في عملية الختان التي يتمسك بها اليهود إلى يومنا هذا فضلاً عن الثمار والحيوان إلى جانب ذلك.

ـ يعتقدون بأنهم شعب الله المختار، وأن أرواح اليهود جزء من الله، وإذا ضرب أممي  (جوييم) إسرائيليًّا فكأنما ضرب العزة الإلهية، وأن الفرق بين درجة الإنسان والحيوان هو بمقدار الفرق بين اليهودي وغير اليهودي.

ـ يجوز غش غير اليهودي وسرقته وإقراضه بالربا الفاحش وشهادة الزور ضده وعدم البر بالقسم أمامه، ذلك أن غير اليهود في عقيدتهم كالكلاب والخنازير والبهائم، بل أن اليهود يتقربون إلى الله بفعل ذلك بغير اليهودي.

ـ يقول التلمود عن المسيح: إن يسوع الناصري موجود في لجات الجحيم بين القار والنار، وإن أمه مريم أتت به من العسكري باندارا عن طريق الخطيئة، وإن الكنائس النصرانية هي مقام القاذورات والواعظون فيها أشبه بالكلاب النابحة.

ـ بسبب ظروف الاضطهاد نشأت لديهم فكرة المسيح المنتظر كنوع من التنفيس والبحث عن أمل ورجاء.

ـ يقولون بأن يعقوب قد صارع الرب، وأن لوطاً قد شرب الخمر وزنى بابنتيه بعد نجاته إلى جبل صوغر، وأن داود قبيح في عين الرب.

ـ لقد فقدت توراة موسى بعد تخريب الهيكل أيام بختنصر فلما كتبت مرة ثانية أيام أرتحشتا ملك فارس جاءت محرفة عن أصلها، يقول الله تعالى:(يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به).

ـ إن ديانتهم خاصة بهم، مقفلة على الشعب اليهودي.

ـ الولد الأكبر الذي هو أول من يرث وله حظ اثنين من إخوته، ولا فرق بين المولود بنكاح شرعي أو غير شرعي في الميراث.

ـ بعد الزواج تعد المرأة مملوكة لزوجها، ومالها ملك له، ولكن لكثرة الخلافات فقد أقر بعد ذلك أن تملك الزوجة رقبة المال والزوج يملك المنفعة.

ـ من بلغ العشرين ولم يتزوج فقد استحق اللعنة، وتعدد الزوجات جائز شرعاً بدون حد، فقد حدده الربانيون بأربع زوجات بينما أطلقه القراءون.

 الجذور الفكرية والعقائدية:

عبادة العجل مأخوذة عن قدماء المصريين حيث كانوا هناك قبل الخروج، والفكر المصري القديم يعد مصدراً رئيسيًّا للأسفار في العهد القديم.

تشريع حمورابي الذي يرجع إلى نحو سنة 1900 ق.م، وقد اكتشف هذا التشريع في سنة 1902م محفوراً على عمود أسود من الصخر وهو أقدم تشريع سامي معروف حتى الآن.

يقول التلمود بالتناسخ وهي فكرة تسربت لبابل من الهند فنقلها حاخامات بابل إلى الفكر اليهودي.

تأثروا بالفكر النصراني في كثير من عباراتهم .

في بعض مراحلهم عبدوا آلهة البلعيم والعشتارت وآلهة آرام وآلهة صيدوم، وآلهة مؤاب وآلهة الفلسطينيين (سفر القضاء: 10/60).

 الانتشار ومواقع النفوذ:

عاش العبريون في الأصل ـ في عهد أبيهم إسرائيل ـ في منطقة الأردن وفلسطين، ثم انتقل بنو إسرائيل إلى مصر ثم ارتحلوا إلى فلسطين ليقيموا هناك مجتمعاً يهوديًّا، ولكن نظراً لانعزالهم واستعلائهم وعنصريتهم وتآمرهم، فقد اضطهدوا وشردوا، فتفرقوا في دول العالم فوصل بعضهم إلى أوروبا وروسيا ودول البلقان والأمريكتين وأسبانيا، بينما اتجه بعضهم إلى داخل الجزيرة العربية التي أجلوا عنها مع فجر الإسلام، كما عاش بعضهم في أفريقيا وآسيا.

منذ نهاية القرن الميلادي الماضي ما يزالون يجمعون أشتاتهم في أرض فلسطين تحرضهم على ذلك وتشجعهم الصهيونية والصليبية.

مما لا شك فيه أن اليهود الحاليين ـ الذين يبلغون حوالي خمسة عشر مليوناً ـ لا يمتون بصلة إلى العبرانيين الإسرائيليين القدماء المنحدرين من إبراهيم عليه السلام، إذ أنهم حالياً أخلاط من شعوب الأرض المتهودين الذين تسوقهم دوافع استعمارية. أما الذين يرجعون إلى أصول إسرائيلية فعلاً هم اليوم ـ وفي إسرائيل بخاصة ـ يهود من الدرجة الدنيا.

ظهر لكثير من الباحثين في أمر التوراة ، من خلال ملاحظة اللغات والأساليب وما تشتمل عليه من موضوعات وأحكام وتشاريع، أنها قد ألفت في عصور مختلفة وبأقلام مختلفة، وفي هذا يقول سبحانه عنهم: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) [سورة البقرة، آية:79].

كما استطاع النقد الحديث أن يثبت تعارض نصوص التوراة والإنجيل  مع الكثير من الحقائق العلمية المعاصرة، أما النقد الباطني لها فقد اعتبرها مجموعاً متنافراً ـ كما يقول موريس بوكاي ـ وهذا يكفي لمن يريد التأكد بأن التوراة لا يمكن الاستناد إلى معطياتها لما اعتراها من تناقض وقصص مموهة بل وأشعار مشكوك في صحتها أيضاً.


 النصرانية

 التعريف:

هي الرسالة التي أُنزلت على عيسى عليه الصلاة والسلام، مكمِّلة لرسالة موسى عليه الصلاة والسلام، ومتممة لما جاء في التوراة من تعاليم، موجهة إلى بني إسرائيل، داعية إلى التوحيد والفضيلة والتسامح، ولكنها لاقت مقاومة واضطهاداً شديداً،وفقدت الكثير من أصولها، وامتدت يد التحريف إليها بما داخلها من معتقدات وفلسفات وثنية.

 التأسيس وأبرز الشخصيات:

 المرحلة الأولى :

النصرانية المُنزَّلة من عند الله التي جاء بها عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام:

- هي رسالة أنزلها الله تعالى على عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام إلى بني إسرائيل بعد انحرافهم عن شريعة موسى عليه السلام،وافترقوا بسبب ذلك إلى فرق شتى، فمنهم من يؤمن بأن غاية الإنسان هي الحياة الدنيا، حيث لا يوم آخر، ولا جنة ولا نار، ومنهم من يعتقد أن الثواب والعقاب إنما يكونان في الدنيا فقط، وأن الصالحين منهم يوم القيامة سيشتركون في ملك المسيح الذي يأتي لكي ينقذ الناس، ليصبحوا ملوك العالم. كما شاع فيهم تقديم القرابين والنذور للهيكل رجاء الحصول على المغفرة، وأن رضا الرهبان ودعاءهم يضمن لهم الغفران. لذا فسدت عقيدتهم وأخلاقهم، فكانت رسالته ودعوته عليه الصلاة والسلام داعية إلى توحيد الله تعالى حيث لا رب غيره ولا معبود سواه، وأنه لا واسطة بين المخلوق والخالق سوى عمل الإنسان نفسه، وهي رسالة قائمة على الدعوة للزهد في الدنيا، والإيمان باليوم الآخر وأحواله، ولذا فإن عيسى عليه الصلاة والسلام كان موحِّداً على دين الإسلام ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين.

 المبلِّغ:

عيسى ابن مريم عليه السلام، أمُّه البتول مريم ابنة عمران أحد عظماء بني إسرائيل، نذرتها أمها قبل أن تحمل بها لخدمة المسجد، وكفلها زكريا أحد أنبياء بني إسرائيل وزوج خالتها، فكانت عابدة قانتة لله تعالى، حملت به من غير زوج بقدرة الله تعالى، وأنطقه الله تعالى في المهد دليلاً على براءة أمه من بهتان بني إسرائيل لها بالزنا، فجاء ميلاده حدثاً عجيباً على هذا النحو ليلقي بذلك درساً على بني إسرائيل الذين غرقوا في الماديات، ليعلموا بأن الله تعالى على كل شيء قدير.

- بُعث عيسى عليه السلام نبيًّا إلى بني إسرائيل، مؤيَّداً من الله تعالى بعدد من المعجزات الدالة على نبوته، فكان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله. ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ، وكان يخبر الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم بإذن الله.

وقد أيده الله هو وحواريِّيه بمائدة من السماء أنزلها عليهم لتكون عيداً لأولهم وآخرهم.

- تآمر اليهود على قتله برئاسة الحبر الأكبر (كايافاس) وأثاروا عليه الحاكم الروماني لفلسطين (بيلاطس) لكنه تجاهلهم أولاً، ثم لما كذبوا عليه وتقوَّلوا على عيسى عليه السلام بأنه يدعو نفسه مسيحاً ملكاً، ويرفض دفع الجزية للقيصر، دفع ذلك الحاكم إلى إصدار أمراً بالقبض عليه، وإصدار حكم الإعدام ضده عليه السلام.

- اختفى عيسى وأصحابه عن أعين الجند، إلا أن أحد أصحابه دلَّ جند الرومان على مكانه، فألقى الله تعالى شبه عيسى عليه الصلاة والسلام وصورته عليه، ويقال إنه يهوذا الإسخريوطي وقيل غيره، فنُفِّذ حكم الصلب فيه بدلاً من عيسى عليه الصلاة والسلام حيث رفعه الله إليه، على أنه سينزل قبل قيام الساعة ليحكم بالإسلام، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ثم يموت كما دلت على ذلك النصوص من الكتاب والسنة الصحيحة.

- آمن بدعوة المسيح عليه السلام الكثير ولكنه اصطفى منهم اثني عشر حواريًّا كما هم مذكورون في إنجيل  متى.

- وهناك الرسل السبعون الذين يقال بأن المسيح عليه السلام اختارهم ليعلِّموا النصرانية في القرى المجاورة.

 المرحلة الثانية :

وهي التي يطلق عليها "العصر الرسولي"، وينقسم هذا العصر إلى قسمين: التبشير وبداية الانحراف، والاضطهاد الذي يستمر حتى بداية العهد الذهبي للنصارى.

 التبشير وبداية الانحراف:

بعدما رُفع المسيح عليه الصلاة والسلام، واشتد الإيذاء والتنكيل بأتباعه وحوارييه بوجه خاص؛ وحدثت فتنة عظيمة لأتباع المسيح عليه الصلاة والسلام حتى كادت النصرانية أن تفنى.

وفي ظل هذه الأجواء المضطربة أعلن شاول الذي كان يُذيق أتباع المسيح سوءَ العذاب، إيمانه بالمسيح بعد زعمه رؤيته عند عودته من دمشق، مؤنباً له على اضطهاده لأتباعه، آمراً له بنشر تعاليمه بين الأمم، ودافع عنه برنابا الحواري وقدمه إلى الحواريين فقبلوه، وبما يمتلكه من حدة ذكاء وقوة فاستطاع أن يأخذ مكاناً مرموقاً بين الحواريين وتسمَّى بـ بولس.

- انطلق الحواريون للتبشير بين الأمم اليهودية في البلدان المجاورة، فذهب مَتَّى إلى الحبشة، وقُتل هناك بعد أن أسس فيها كنيسة ورسَّم – عيَّن- لهم أسقفها. وكذلك فعل مرقس في الإسكندرية بعد أن أسس أول مدرسة لاهوتية وكنيسة فيها بتوجيه من بطرس الذي أسس كنيسة روما وقتل في عهد نيرون عام 62م.

- أما بولس فذهب إلى روما وأفسس وأثينا وأنطاكية، وأسس فيها كنائس نصرانية نظير كنيسة أورشليم ورسَّم لهم أساقفة. وفي أحد جولاته في أنطاكية صحبه برنابا فوجدا خلافاً حادًّا بين أتباع الكنيسة حول إكراه الأمميين على إتباع شريعة التوراة فعادا إلى بيت المقدس لعرض الأمر على الحواريين لحسم الخلاف بينهم.

 بداية الانحراف :

- فيما بين عام 51 – 55م عُقد أول مجمع يجمع بين الحواريين – مجمع أورشليم – تحت رئاسة يعقوب بن يوسف النجار المقتول رجماً سنة 62م ليناقش دعوى استثناء الأمميين، وفيه تقرر – إعمالاً لأعظم المصلحتين – استثناء غير اليهود من الالتزام بشريعة التوراة إن كان ذلك هو الدافع لانخلاعهم من ربقة الوثنية، على أنها خطوة أولى يُلزم بعدها بشريعة التوراة. كما تقرر فيه تحريم الزنا، وأكل المنخنقة، والدم، وما ذُبح للأوثان، بينما أبيحت فيه الخمر ولحم الخنزير والربا، مع أنها محرمة في التوراة.

- عاد بولس بصحبة برنابا إلى أنطاكية مرة أخرى، وبعد صحبة غير قصيرة انفصلا بعد حدوث مشادة عظيمة بينهما نتيجة لإعلان بولس نسخ أحكام التوراة وقوله أنها: "كانت لعنة تخلَّصنا منها إلى الأبد" و"أن المسيح جاء ليبدل عهداً قديماً بعهد جديد" ولاستعارته من فلاسفة اليونان فكرة اتصال الإله بالأرض عن طريق الكلمة، أو ابن الإله، أو الروح القدس، وترتيبه على ذلك القول بعقيدة الصلب والفداء، وقيامة المسيح وصعوده إلى السماء؛ ليجلس على يمين الرب ليحاسب الناس في يوم الحشر. وهكذا كرر بولس نفس الأمر مع بطرس الذي هاجمه وانفصل عنه مما أثار الناس ضده، لذا كتب بولس رسالة إلى أهل غلاطية ضمَّنها عقيدته ومبادئه، ومن ثم واصل جولاته بصحبة تلاميذه إلى أوروبا وآسيا الصغرى ليلقى حتفه أخيراً في روما في عهد نيرون سنة 65م.

- استمرت المقاومة الشديدة لأفكار بولس عبر القرون الثلاثة الأولى ، وظهر بولس الشمشاطي في القرن الثالث، وبذرت بذور التثليث والوثنية في النصرانية، أما باقي الحواريين والرسل فإنهم قُتلوا على يد الوثنيين في البلدان التي ذهبوا إليها للتبشير فيها.

 الاضطهاد :

- عانت الدعوة النصرانية أشدَّ المعاناة من سلسلة الاضطهادات والتنكيل على أيدي اليهود الذين كانت لهم السيطرة الدينية، ومن الرومان الذين كانت لهم السيطرة والحكم، ولذلك فإن نصيب النصارى في فلسطين ومصر كان أشد من غيرهم.

- من أعنف الاضطهادات وأشدها:

1- اضطهاد نيرون سنة 64م الذي قُتل فيه بطرس وبولس.

2- واضطهاد دمتيانوس سنة 90م وفيه كتب يوحنا إنجيله في أفسس باللغة اليونانية.

3- واضطهاد تراجان سنة 106م وفيه أمر الإمبراطور بإبادة النصارى وحرق كتبهم، فحدثت مذابح مُروِّعة قُتل فيها يعقوب البار أسقف أورشليم.

4- ومن أشدها قسوة وأعنفها اضطهادُ الإمبراطور دقلديانوس 284م الذي صمم على أن لا يكف عن قتل النصارى حتى تصل الدماء إلى ركبة فرسه، وقد نفذ تصميمه؛ وهدم الكنائس وأحرق الكتب،مما دفع النصارى من أقباط مصر إلى اتخاذ يوم 29 أغسطس 284م بداية لتقويمهم تخليداً لذكرى ضحاياهم.

- هكذا استمر الاضطهاد في التصاعد حتى اعتلى قسطنطين عرش الإمبراطورية.

- سعى قسطنطين إلى استمالة النصارى فأعلن مرسوم ميلان الذي يقضي بمنحهم الحرية في الدعوة والترخيص لديانتهم ومساواتها بغيرها من ديانات الإمبراطورية الرومانية، وشيَّد لهم الكنائس، وبذلك انتهت أسوأ مراحل التاريخ النصراني قسوة، التي ضاع فيها إنجيل عيسى عليه الصلاة والسلام، وقُتل الحواريون والرسل، وبدأ الانحراف والانسلاخ عن شريعة التوراة، ليبدأ النصارى عهداً جديداً من تأليه المسيح عليه الصلاة والسلام وظهور اسم المسيحية.

 نشأة الرهبانية والديرية وتأثير الفلسفة على النصرانية:

ظهرت الرهبنة في النصرانية في مصر أولاً على يد القديس بولس الطبي 241 – 356م والقديس أنطوان المعاصر له، إلا أن الديرية – حركة بناء الأديرة – نشأت أيضاً في صعيد مصر عام 315 – 320م أنشأها القديس باخوم، ومنها انتشرت في الشام وآسيا الصغرى. وفي نفس الوقت دخلت غرب أوروبا على يد القديس كاسليان 370 – 425م ومارتن التوري 316 – 387م

 العهد الذهبي للنصارى:

- يطلق مؤرخو الكنيسة اسم العهد الذهبي للنصارى ابتداء من تربُّع الإمبراطور قسطنطين على عرش الإمبراطورية الرومانية عام 312م لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل تاريخ النصرانية.

ويمكن تقسيم ذلك العهد إلى مرحلتين رئيسيتين:

مرحلة جمع النصارى على عقيدة واحدة (عصر المجامع أو عهد الخلافات والمناقشات):

- ما إن أعلن قسطنطين إعلان ميلان حتى قرَّب النصارى وأسند إليهم الوظائف الكبيرة في بلاط قصره، وأظهر لهم التسامح، وبنى لهم الكنائس، واتخذ الصليب المقدس شعاراً لدولته بجانب الشعار الوثني، فنشطت الدعوة إلى النصرانية، ودخل الكثير من الوثنيين أصحاب الفلسفات في النصرانية، مما كان له أثره البالغ في ظهور الكثير من العقائد والآراء المتضاربة، والأناجيل المتناقضة، حيث ظهر أكثر من خمسين إنجيلاً، وكل فرقة تدعي أن إنجيلها هو الصحيح وترفض الأناجيل الأخرى.

- وفي وسط هذه العقائد المختلفة والفرق المتضاربة مابين من يُؤَلِّه المسيح وأمه (الريمتين) أو من يؤله المسيح فقط، أو يدعي وجود ثلاثة آلهة: إله صالح، وإله طالح، وآخر عدل بينهما (مقالة مرقيون). أعلن آريوس أحد قساوسة كنيسة الإسكندرية صرخته المدوية بأن المسيح عليه الصلاة والسلام ليس أزليَّا، وإنما هو مخلوق من الأب، وأن الابن ليس مساوياً للأب في الجوهر، فالتف حوله الأنصار وكثر أتباعه في شرق الإمبراطورية حتى ساد مذهبه التوحيدي كنائس مصر والإسكندرية وأسيوط وفلسطين ومقدونيا والقسطنطينية وأنطاكية وبابل، مما أثار بطريرك الإسكندرية بطرس ضده ولعنه وطرده من الكنيسة، وكذلك فعل خلفه البطريرك إسكندر، ثم الشماس إثناسيوس، وضماناً لاستقرار الدولة أمر الإمبراطور قسطنطين عام 325م بعقد اجتماع عام يجمع كل أصحاب هذه الآراء للاتفاق على عقيدة واحدة يجمع الناس حولها، فاجتمع في نيقية 2048 أسقفاً  منهم 338 يقولون بألوهية المسيح، وانتهى ذلك المجمع بانحياز الإمبراطور إلى القول بألوهية المسيح ولينفضّ على القرارات التالية:

1- لعن آريوس الذي يقول بالتوحيد ونفيه وحرق كتبه.

2- وضع عشرين قانوناً لتنظيم أمور الكنيسة والأحكام الخاصة بالأكليريوس.

3- الاعتراف بأربعة أناجيل فقط: (متى، لوقا، مرقس، يوحنا) وبعض رسائل العهد الجديد والقديم، وحرق باقي الأناجيل لخلافها عقيدة المجمع.

- أنشأ قسطنطين مدينة روما الجديدة عام 324م في بيزنطة القديمة باليونان على نفس تصميم روما القديمة، وأنشأ بها كنيسة كبيرة (أجياصوفيا) ورسم لهم بطريركاً مساوياً لبطاركة الإسكندرية وأنطاكية في المرتبة على أن الإمبراطور هو الرئيس الأعلى للكنيسة. وعُرفت فيما بعد بالقسطنطينية، ولذلك أطلق عليها بلاد الروم، وعلى كنيستها كنيسة الروم الشرقية أو كنيسة الروم الأرثوذكس.

اجتمع قسطنطين بآريوس وأعلن موافقته له على عقيدته، وعقد مجمع صور سنة 334م ليعلي من عقيدة آريوس، ويلغي قرارات مجمع نيقية، ويقرر العفو عن آريوس وأتباعه، ولعن أثناسيوس ونفيه، وهكذا انتشرت تعاليم آريوس أكثر بمساندة الإمبراطور قسطنطين.

 مرحلة الانفصال السياسي :

- قسَّم قسطنطين الإمبراطورية قبل وفاته عام 337م على أبنائه الثلاثة: فأخذ قسطنطين الثاني الغرب، وقسطنطيوس الشرق، وأخذ قنسطانس الجزء الأوسط من شمال أفريقيا، وعمد كل منهم إلى تأييد المذهب السائد في بلاده لترسيخ حكمه. فاتجه قسطنطيوس إلى تشجيع المذهب الآريوسي، بينما شجع أخوه قسطنطين الثاني المذهب الأثناسيوسي مما أصَّل الخلاف بين الشرق اليوناني والغرب اللاتيني.

- توحدت الإمبراطورية تحت حكم قسطنطيوس عام 353 – 361م بعد وفاة قسطنطين الثاني، ومقتل قنسطانس، ووجد الفرصة سانحة لفرض مذهبه الآريوسي على جميع أجزاء الإمبراطورية شرقاً وغرباً.

- لم يلبث الأمر طويلاً حتى اعتلى فلؤديوس عرش الإمبراطورية 379 – 395م الذي اجتهد في إلغاء المذهب الآريوسي والتنكيل بأصحابه، والانتصار للمذهب الأثناسيوسي. ولذا ظهرت في عهده دعوات تنكر الأقانيم الثلاثة ولاهوت الروح القدس، فقرر عقد مجمع القسطنطينية الأول 382م، وفيه فرض الإمبراطور العقوبات المشددة على أتباع المذهب الآريوسي. كما تقرر فيه أن روح القدس هو روح الله وحياته، وأنه من اللاهوت الإلهي، وتم زيادته في قانون الإيمان النيقاوي، ولعن من أنكره مثل مكدنيوس.

 نشأة البابوية:

- على إثر تقسيم الإمبراطورية إلى شرقية وغربية، ونتيجة لضعف الإمبراطورية الغربية تم الفصل بين سلطان الدولة والكنيسة، بعكس الأمر في الإمبراطورية الشرقية حيث رسخ الإمبراطور قسطنطين مبدأ القيصرية البابوية، ومن هنا زادت سلطات أسقف روما وتحوَّل كرسيه إلى بابوية لها السيادة العليا على الكنيسة في بلدان العالم المسيحي الغربي (روما – قرطاجة). وفي عهده تم ترجمة الإنجيل إلى اللغة اللاتينية، ثم تابعه خلفه البابا سيرى كيوس 384 – 399م في تأليف المراسم البابوية.

 بداية الصراع والتنافس على الزعامة الدينية بين الكنيستين:

- ظهر الصراع والتنافس بين كنيسة روما وبين كنيسة القسطنطينية في مجمع أفسس الأول عام 431م حيث نادى نسطور أسقف  القسطنطينية بانفصال طبيعة اللاهوت عن الناسوت في السيد المسيح عليه السلام، وبالتالي فإن اللاهوت لم يولد ولم يصلب، ولم يقم مع الناسوت، وأن المسيح يحمل الطبيعتين منفصلتين: اللاهوتية والناسوتية، وأنه ليس إلهاً، وأمه لا يجوز تسميتها بوالدة الإله، وانتهى المجمع بلعن نسطور ونفيه، والنص في قانون الإيمان بأن مريم العذراء والدة الإله.

- وبسبب دعوى أوطاخي باتحاد الطبيعتين في السيد المسيح عقد له أسقف القسطنطينية فلافيانوس مجمعاً محليًّا وقرر فيه قطعه من الكنيسة ولعنه؛ لكن الإمبراطور ثاؤديوس الصغير قبل التماس أوطاخي، وقرر إعادة محاكمته، ودعا لانعقاد مجمع أفسس الثاني عام 449م برئاسة بطريرك الإسكندرية ديسقورس لينتهي بقرار براءته مما نسب إليه.

 انفصال الكنيسة مذهبيًّا:

- لم يعترف أسقف روما ليو الأول بقرارات مجمع أفسس الثاني 449م وسعى الإمبراطور مركيانوس لعقد مجمع آخر للنظر في قرارات ذلك المجمع، فوافق الإمبراطور على عقد المجمع في القسطنطينية، ثم في كلدونية 451م لمناقشة مقالة بابا الإسكندرية ديسقورس: من أن للمسيح طبيعتين في طبيعة واحدة (المذهب الطبيعي – المونوفيزتية)، ليتقرر لعن ديسقورس وكل من شايعه ونفيه، وتقرير أن للمسيح طبيعتين منفصلتين. فكان ذلك دافعاً أن لا تعترف الكنيسة المصرية بهذا المجمع ولا بالذي يليه من المجامع. ومنذ ذلك التاريخ انفصلت في كنيسة مستقلة تحت اسم الكنيسة المرقسية – الكنيسة الأرثوذكسية – أو القبطية تحت رئاسة بطريرك الإسكندرية، وانفصلت معها كنيسة الحبشة وغيرها، ليبدأ الانفصال المذهبي عن الكنيسة الغربية. بينما اعترفت كنيسة أورشليم الأرثوذكسية بقرارات مجمع كلدونية وصارت بطريركية مستقلة تحت رئاسة البطريرك يوفيناليوس.

 نشأة الكنيسة اليعقوبية:

- واجه الإمبراطور جستنيان 527 – 565م صعوبة بالغة في تحقيق طموحه بتوحيد مذهبي الإمبراطورية لتتحقق له سلطة الإمبراطورية والبابوية معاً. وبعد انتصاره في إيطاليا ودخول جيوشه روما حاول إرضاء زوجته بفرض مذهب الطبيعة الواحدة(المونوفيزتية) على البابا فجليوس الذي رفض ذلك بشدة، مما عرضه إلى القبض عليه وترحيله إلى القسطنطينية، ليعقد مجمع القسطنطينية الخامس سنة 553م الذي انتهى بتقرير مذهب الطبيعة الواحدة، ولعن أصحاب فكرة تناسخ الأرواح، وتقرير أن عيسى عليه السلام كان شخصية حقيقية وليست بخيالية.

- ومن آثار هذا المجمع استقلالُ أصحاب مذهب الطبيعة الواحدة إقامةُ كنيسة منفصلة لهم، تعرف بالكنيسة اليعقوبية، تحت رئاسة مؤسسها يعقوب البرادعي أسقف الرَّها مما زاد في عداء البابوية للإمبراطورية الشرقية.

 نشأة الكنيسة المارونية:

في عام 678 – 681م عمل الإمبراطور قسطنطين الرابع على استرضاء البابا أجاثون فتم عقد مجمع القسطنطينية الثالث عام 680م للفصل في قول يوحنا مارون من أن للمسيح طبيعتين ومشيئة واحدة. وفيه تقرر أن للمسيح طبيعتين ومشيئتين، ولعن وطرد من يقول بالطبيعة الواحدة أو بالمشيئة الواحدة، ولذلك انفصلت طائفة المارونية ولحقت بسابقتها من الكنائس المنفصلة.

 انفصال الكنيسة إداريًّا:

- جاء هذا الانفصال بعد النزاع والصراع الطويل ابتداءً من الإمبراطور ليو الثالث 726م الذي أصدر مرسوماً يُحرِّم فيه عبادة الأيقونات، ويقضي بإزالة التماثيل والصور الدينية والصلبان من الكنائس والأديرة والبيوت على أنها ضرب من الوثنية، متأثراً بدعوة المسلمين لإزالة هذه التماثيل التي بالكنائس في داخل الدولة الإسلامية.

- تصدى لهذه الدعوة البابا جريجوري الثاني، ثم خَلَفه البابا جريجوري الثالث ليصدر الإمبراطور قراراً بحرمان الكراسي الأسقفية في صقلية وجنوب إيطاليا من سلطة البابا الدينية والقضائية وجعلها تحت سلطان بطريرك القسطنطينية. واستمر الوضع على ذلك إلى أن جاء الإمبراطور قسطنطين الخامس 741 – 775م ، وازدادت الثورات اشتعالاً ضد دعاة اللاأيقونية، فعقد مجمعاً في القسطنطينية لتبرير سياسة تحريم الصور والأيقونات. وقد رفضت البابوية حضوره، ولم يحضره سوى ثلاثمائة وأربعين أسقفاً تحت رئاسة بطريرك القسطنطينية ليقضي بتحريم تصوير المسيح في أي شكل، وكذلك تحريم عبادة صور القديسين، وتحريم طلب الشفاعة من مريم؛ لأن كل هذا من ضروب الوثنية.

- ولكن هذه القرارات لم تدم طويلاً حيث أمرت الإمبراطورة الأيقونية إيرين وتعيينها للبطريرك خرسيوس المتحمس للآيقونية بطريركاً على القسطنطينية، وانتهى المجمع على تقديس صور المسيح ووالدته والقديسين، ووضع الصور في الكنائس والأديرة والبيوت والطرقات بزعم أن النظر إليهم يدعو للتفكير فيها.

- في عام 869م أثار بطريرك القسطنطينية فوسيوس مسألة انبثاق الروح القدس من الأب وحده، فعارضه – كالعادة – بطريرك روما وقال إن انبثاق الروح القدس من الأب والابن معاً، وعقد لذلك مجمع القسطنطينية الرابع 869م (مجمع الغرب اللاتيني) الذي تقرَّر فيه أن الروح القدس منبثقة من الأب والابن معاً، وأن جميع النصارى في العالم خاضعون لمراسيم بابا روما، وأن من يريد معرفة ما يتعلق بالنصرانية وعقائدها عليه برفع دعواه إلى بابا روما. ولذلك تم لعن وعزل فوسيوس وحرمانه وأتباعه، إلا أن فوسيوس استطاع أن يعود إلى مركزه مرة أخرى. وفي عام 879م عقد المجمع الشرقي اليوناني (القسطنطينية الخامس) ليلغي قرارات المجمع السابق، ويعلن أن الروح القدس منبثقة من الأب وحده، ويدعو إلى عدم الاعتراف إلا بالمجامع السبعة التي آخرها مجمع نيقية 787م.

- وهكذا تم الانفصال المذهبي للكنيسة الشرقية تحت مسمى الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية، أو كنيسة الروم الأرثوذكس برئاسة بطريرك القسطنطينية، ومذهباً  بأن الروح القدس منبثقة من الأب وحده، على أن الكنيسة الغربية أيضاً تميَّزت باسم الكنيسة البطرسية الكاثوليكية، وأن لبابا روما سيادة على كنائس الإمبراطورية وأنها أم الكنائس ومعلمتهن، وتميزت بالقول بأن الروح القدس منبثقة عن الأب والابن معاً. ولم يتم الانفصال النهائي – الإداري – إلا في عام (1054م)، وبذلك انتهى عهد المجامع المسكونية، وحلت محلها المؤتمرات الإقليمية أو سلطات البابا المعصوم لتستكمل مسيرة الانحراف والتغيير في رسالة عيسى عليه السلام.

ومن أبرز سمات هذه المرحلة الأخيرة – القرون الوسطى – الفساد، ومحاربة العلم والعلماء والتنكيل بهم والاضطهاد لهم، وتقرير أن البابا معصوم له حق الغفران، مما دفع إلى قيام العديد من الحركات الداعية لإصلاح فساد الكنيسة، وفي وسط هذا الجو الثائر ضد رجال الكنيسة انعقد مؤتمر ترنت عام 1542 – 1563م لبحث مبادئ مارتن لوثر التي تؤيدها الحكومة والشعب الألماني، وانتهى إلى عدم قبول آراء الثائرين أصحاب دعوة الإصلاح الديني. ومن هنا انشقَّت كنيسة جديدة هي كنيسة البروتستانت ليستقر قارب النصرانية بين أمواج المجامع التي عصفت بتاريخها على ثلاث كنائس رئيسية لها النفوذ في العالم إلى اليوم، ولكل منها نحلة وعقيدة مستقلة، وهي: الأرثوذكس، الكاثوليك، البروتستانت، بالإضافة إلى الكنائس المحدودة مثل: المارونية، والنسطورية، واليعقوبية، وطائفة الموحدين، وغيرهم.

 أهم الأفكار والمعتقدات:

يمكن إجمال أفكار معتقدات النصرانية بشكل عام فيما يلي :

الألوهية والتثليث: بعد ضياع الإنجيل وظهور العشرات من الأناجيل والمجامع والدعاوى المنحرفة استقرت أصول عقائد النصرانية على ما يلي:

- الإله: الإيمان بالله الواحد، الأب مالك كل شيء، وصانع ما يرى وما لا يرى.

- المسيح: إن ابنه  الوحيد يسوع المسيح بكر الخلائق ولد من أبيه قبل العوالم، وليس بمصنوع ﴿تعالى الله عن كفرهم علوًّا كبيراً﴾، ومنهم من يعتقد أنه هو الله نفسه -سبحانه وتعالى عن إفكهم- وقد أشار القرآن الكريم إلى كلا المذهبين، وبيَّن فسادهما، وكفَّر معتقدهما؛ قال تعالى: ﴿لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيحُ ابنُ مَريم﴾‏‏. [المائدة: 72].

ـ روح القدس: إن روح القدس الذي حلَّ في مريم لدى البشارة، وعلى المسيح في العماد على صورة حمامة، وعلى الرسل من بعد صعود المسيح، الذي لا يزال موجوداً، وينزل على الآباء والقديسين بالكنيسة يرشدهم ويعلمهم ويحل عليهم المواهب، ليس إلا روح الله وحياته، إله حق من إله حق.

- الأقانيم: ولذلك يؤمنون بالأقانيم الثلاثة: الأب، الابن، الروح القدس، بما يُسمونه في زعمهم وحدانية في تثليث  وتثليث في وحدانية. وذلك زعمٌ باطل صعُب عليهم فهمه، ولذلك اختلفوا فيه اختلافاً متبايناً، وكفرت كل فرقة من فرقهم الأخرى بسببه، وقد حكم الله تعالى بكفرهم جميعاً إن لم ينتهوا عما يقولون، قال تعالى: ﴿لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة، وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم﴾‏‏. [المائدة: 72].

- الصلب والفداء: المسيح في نظرهم مات مصلوباً فداءً عن الخليقة، لشدة حب الله للبشر ولعدالته، فهو وحيد الله – تعالى الله عن كفرهم – الذي أرسله ليخلص العالم من إثم خطيئة أبيهم آدم وخطاياهم، وأنه دفن بعد صلبه، وقام بعد ثلاثة أيام متغلباً على الموت ليرتفع إلى السماء.

- قال تعالى مبيناً حقيقة ما حدث: ﴿وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا إتباع الظن وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً﴾‏‏. [النساء: 157، 158].

الدينونة والحساب: يعتقدون بأن الحساب في الآخرة سيكون موكولاً للمسيح عيسى ابن مريم الجالس – في زعمهم – على يمين الرب في السماء؛ لأن فيه من جنس البشر مما يعينه على محاسبة الناس على أعمالهم.

الصليب: يعتبر الصليب شعاراً لهم، وهو موضع تقديس الأكثرين، وحملُه علامة على أنهم من أتباع المسيح، ولا يخفى ما في ذلك من خفة عقولهم وسفاهة رأيهم، فمن الأولى لهم أن يكرهوا الصليب ويحقروه لأنه كان أحد الأدوات التي صلب عليه إلههم وسبب آلامه. وعلى حسب منطقهم فكان الأولى بهم أن يعظموا قبره الذي زعموا أنه دفن فيه، ولامس جسده تربته فترة أطول مما لامس الصليب.

مريم البتول: يعتقد النصارى على ما أضيف في قانون الإيمان أن مريم ابنة عمران والدة المسيح عليه السلام، هي والدة الإله، ولذا يتوجَّه البعض منهم إليها بالعبادة.

الدين: يؤمن النصارى بأن النصرانية دين عالمي غير مختص ببني إسرائيل وحدهم.

الكتاب المقدس: يؤمن النصارى بقدسية الكتاب المشتمل على:

العهد القديم: والذي يحتوي التوراة – الناموس – وأسفار الأنبياء التي تحمل تواريخ بني إسرائيل وجيرانهم، بالإضافة إلى بعض الوصايا والإرشادات.

العهد الجديد: والذي يشمل الأناجيل الأربعة: (متى، مرقس، لوقا، يوحنا) فقط، والرسائل المنسوبة للرسل، على أن ما في العهد الجديد يلغي ما في العهد القديم، لأنه في اعتقادهم كلمة الله، وذلك على خلاف بين طوائفهم في الاعتقاد في عدد الأسفار والرسائل بل وفي صحة التوراة نفسها.

المجامع (التقليد): يؤمن النصارى بكل ما صدر عن المجامع المسكونية من أمور تشريعية سواء في العقيدة أو في الأحكام، وذلك على خلاف بينهم في عددها.

الختان: يؤمن النصارى بعدم الختان للأطفال على عكس شريعة التوراة.

الشعائر والعبادات :

- الصلاة: الأصل عندهم في جميع الصلوات إنما هي الصلاة الربانية، والأصل في تلاوتها أن يتلوها المصلي ساجداً، أو تكون بألفاظ منقولة أو مرتجلة أو عقلية بأن تنوي الألفاظ ويكون الابتهال قلبيًّا، وذلك على خلاف كبير بين طوائفهم في عددها وطريقة تأديتها. ليس لها عدد معلوم مع التركيز على صلاتي الصباح والمساء.

- الصوم: هو الامتناع عن الطعام الدسم وما فيه شيء من الحيوان أو مشتقاته مقتصرين على أكل البقول، وتختلف مدته وكيفيته من فرقة إلى أخرى.

- الأسرار السبعة: والتي ينال بها النصراني النعم غير المنظورة في صورة نعم منظورة، ولا تتم إلا على يد كاهن شرعي، ولذا فهي واجبة على كل نصراني ممارستها وإلا أصبح إيمانه ناقصاً. وبالجملة فإنها من ضمن التشريعات التي لم يُنزل الله بها من سلطان، وإنما هي من تخرُّصات البابوات.

- سر التعميد: ويقصد به تعميد الأطفال عقب ولادتهم بغطاسهم في الماء أو الرش به باسم الأب والابن والروح القدس، لتمحي عنهم آثار الخطيئة الأصلية، بزعم إعطاء الطفل شيئاً من الحرية والمقدرة لعمل الخير، وهذا أيضاً على خلاف بينهم في صورته ووقته.

- سر التثبيت (الميرون): ولا يكون إلا مرة واحدة، ولا تكمل المعمودية إلا به، حيث يقوم الكاهن بمسح أعضاء المعتمد بعد خروجه من جرن المعمودية في ستة وثلاثين موضعاً – الأعضاء والمفاصل – بدهن الميرون المقدس.

- سر العشاء الرباني: ويكون بالخمر أو الماء ومعه الخبز الجاف؛ حيث يتحول في زعمهم الماء أو الخمر إلى دم المسيح، والخبز إلى عظامه، وبذلك فإن من يتناوله فإنما يمتزج في تعاليمه بذلك، وكذلك ففرقُهم على خلاف في الاستحالة بل وفي العشاء نفسه.

- سر الاعتراف: وهو الإفضاء إلى رجل الدين بكل ما يقترفه المرء من آثام وذنوب، ويتبعه الغفران والتطهير من الذنب بسقوط العقوبة، وكان الاعتراف يتكرر عدة مرات مدى الحياة، ولكن منذ سنة 1215م أصبح لازماً مرة واحدة على الأقل، وهذه الشعيرة عندهم أيضاً مما اختُلِف في وجوبها وإسقاطها.

- سر الزواج: يُسمح الزواج بزوجة واحدة مع منع التعدد الذي كان جائزاً في مطلع النصرانية، ويُشترط عند الزواج حضور القسيس ليقيم وحده بين الزوجين، والطلاق لا يجوز إلا في حالة الزنى – على خلاف بينهم – ولا يجوز الزواج بعده مرة أخرى، بعكس الفراق الناشئ عن الموت، أما إذا كان أحد الزوجين غير نصراني فإنه يجوز التفريق بينهما.

- سر مسحة المرضى: وهو السر السادس بزعم شفاء الأمراض الجسدية المتسببة عن العلل الروحية وهي الخطيئة، ولا يمارس الكاهن صلوات القنديل السبع إلا بعد أن يتثبَّت من رغبة المريض في الشفاء.

- سر الكهنوت: وهو السر الذي ينال به الإنسان بزعمهم النعمة التي تؤهِّله لأن يؤدي رسالة السيد المسيح بين إخوانه من البشر، ولا يتم إلا بوضع يد الأسقف على رأس الشخص المنتخب ثم تتلى عليه الصلوات الخاصة برسم الكهنة.

- الرهبانية: اختلفت طوائفهم في مدى لزوم الرهبنة التي يأخذ رجال الدين أنفسهم بها.

* التنظيم الكهنوتي: تختلف كل كنيسة – فرقة – عن الأخرى في التنظيم  الكهنوتي، ولكنه بوجه عام هو تنظيمٌ استعارته الكنيسة في عهودها الأولى من الرومان حيث كان يرأسها أكبرهم سنًّا على أمل عودة المسيح، ويقدسون رهبانهم ورجال كنيستهم، ويجعلون لهم السلطة المطلقة في الدين وفي منح صكوك الغفران؛ يقول تعالى مبيناً انحرافهم: ﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله﴾‏‏. [التوبة: 31].

* الهرطقة ومحاربتها: حاربت الكنيسة العلوم والاكتشافات العلمية وكل المحاولات الجديدة لفهم كتابهم المقدس، ورمت ذلك كله بالهرطقة، وواجهت هذه الاتجاهات بمنتهى العنف والقسوة، مما أوجد ردة فعل قوية تمثَّلت في ظهور المذاهب العلمانية والأفكار الإلحادية.

 - الجذور الفكرية والعقائدية:

أساسها نصوص العهد القديم، فقد انعكست الروح والتعاليم اليهودية من خلاله، ذلك أن النصرانية قد جاءت مكملة لليهودية .

- عندما دخل الرومان في الديانة النصرانية نقلوا معهم إليها أبحاثهم الفلسفية وثقافتهم الوثنية، ومزجوها بالمسيحية التي صارت خليطاً من كل ذلك.

- لقد كانت فكرة التثليث التي أقرَّها مجمع نيقية 325م انعكاساً للأفلوطونية الحديثة التي جلبت معظم أفكارها من الفلسفة الشرقية، وكان لأفلوطين المتوفى سنة 270م أثر بارز على معتقداتها،فمن أقواله: قوله بأن العالم في تدبيره وتحركه يخضع لثلاثة أمور:

1- المُنشئ الأزلي الأول.

2- العقل.

3- الروح التي هي مصدر تتشعب منه الأرواح جميعاً.

بذلك يضع أساساً للتثليث إذ أن المنشئ هو الله، والعقل هو الابن، والروح هو الروح القدس.

- كما تأثرت النصرانية بديانة متراس التي كانت موجودة في بلاد فارس قبل الميلاد بحوالي ستة قرون التي تتضمن قصة مثيلة لقصة العشاء الرباني.

- في الهندوسية تثليث، وأقانيم، وصلب للتكفير عن الخطيئة، وزهد ورهبنة، وتخلُّص من المال للدخول في ملكوت السموات، والإله لديهم له ثلاثة أسماء فهو (فشنو) أي الحافظ و(سيفا) المهلك و(برهما) المُوجِد. وكل ذلك انتقل إلى النصرانية بعد تحريفها.

- انتقلت بعض معتقدات وأفكار البوذية التي سبقت النصرانية بخمسة قرون إلى النصرانية المحرَّفة، وإن علم مقارنة الأديان يكشف تطابقاً عجيباً بين شخصية بوذا وشخصية المسيح عليه السلام .

- خالطت عقيدة البابليين القديمة النصرانية إذ أن هناك محاكمة لبعل إله الشمس تُماثِل وتطابق محاكمة المسيح عليه السلام.

وبالجملة فإن النصرانية قد أخذت من معظم الديانات والمعتقدات التي كانت موجودة قبلها، مما أفقدها شكلها وجوهرها الأساسي الذي جاء به عيسى عليه السلام من لدن رب العالمين.

الانتشار ومواقع النفوذ:

تنتشر النصرانية اليوم في معظم بقاع العالم، وقد أعانها على ذلك الاستعمار والتنصير الذي تدعمه مؤسسات ضخمة عالمية ذات إمكانات هائلة.

 يتضح مما سبق:

لم تكن عقيدة التثليث معروفة في عصر الحواريين (العصر الرسولي) تقول دائرة المعارف الفرنسية: "وإن تلاميذ المسيح الأوّلين الذين عرفوا شخصه وسمعوا قوله كانوا أبعد الناس عن اعتقاد أنه أحد الأركان الثلاثة المكوِّنة لذات الخالق، وما كان بطرس حواريه يعتبره أكثر من رجل يوحي إليه من عند الله". وتستشهد على ذلك بأقوال قدماء المؤرخين مثل جوستن ماراستر من القرن الثاني الميلادي حيث يصرح بأنه كان في زمنه في الكنيسة مؤمنون يعتقدون أن عيسى هو المسيح، ويعتبرونه إنساناً بحتاً، وأنه كان أرقى من غيره من الناس، وحدث بعد ذلك أنه كلما تنصَّر عدد من الوثنيين ظهرت عقائد جديدة لم تكن من قبل.

لضياع النصوص الأصلية من الأناجيل نتيجة للاضطهاد من جانب وللاحتكاك والتأثر بالفلسفات والحضارات الشرقية والوثنية من جانب آخر، حملت الديانة النصرانية المحرفة عوامل اختلافها وتناقض نصوصها، الذي ظهر بشكل واضح من خلال المجامع المختلفة التي عقدت لوضع أصول الدين وتشريعاته بشكل لم يَرِد عن المسيح عليه السلام ولا عن حوارييه.

سيطرت عقائد وأفكار بولس على النصرانية؛ يقول دبليو ريد "إن بولس قد غيَّر النصرانية لدرجة أنه أمسى مؤسسها الثاني، إنه في الواقع مؤسس المسيحية الكنسية".

كل ما ذكر عن برنابا وبطرس في رسائل بولس فإنما هي قبل الافتراق، حيث كان لتلاميذ بولس من أمثال لوقا ويوحنا دورٌ كبير في إخفاء تاريخهما بعد الخلاف بينهما، وهذا ما أيدته دائرة المعارف البريطانية من أن قوة نفوذ وأتباع بولس أخفت تاريخ كل من يعارض بولس مثل برنابا وبطرس.

- هناك رسالتان تُنسبان لبطرس يوافق فيهما أفكار بولس، أثبتت دائرة المعارف البريطانية أنهما ليستا له وأنهما مزوَّرتان عليه حيث تتعلق بتاريخ ما بعد موته، ولم تقبلهما كنيسة روما إلا في سنة(264م) بينما اعترفت بهما الإسكندرية في القرن الثالث، وكذلك بالنسبة للرسالة المنسوبة ليعقوب، يؤكد العلماء عدم صحة نسبتها إليه أيضاً حيث أوصى يعقوب بولس بأداء الكفارة لخلافة شريعة التوراة، وألزمه بالعمل بها.

لم تُعرف الأناجيل الأربعة المتفق عليها عند النصارى اليوم المعرفة الكاملة قبل مجمع نيقية (335م) حيث تم اختيارها من بين عشرات الأناجيل، وأما الرسائل السبع فلم يعترف المجمع المذكور بالكثير منها، وإنما تم الاعتراف بها فيما بعد.

- إن تلاميذ المسيح عليه السلام ليسوا بكتَّاب هذه الأناجيل فهي مقطوعة الإسناد، والنصوص الأصلية المترجَم عنها مفقودة، بل ونصوص الإنجيل الواحد متناقضة مع بعضها فضلاً عن تناقضها مع غيرها من نصوص الأناجيل الأخرى مما يبطل دعوى أنها كُتبت بإلهام من الله تعالى.

- بعد الدراسة المتأنية لنصوص الإنجيل نجد فضلاً عن التناقضات، لا بين نصوص الإنجيل الواحد أو الأناجيل المختلفة فقط، وإنما بين نصوص الأناجيل ورسائل الرسل المزعومة، وأيضاً بينها وبين نصوص العهد القديم ما يدلِّل ويؤكد التحريف سواء كان بقصد أو بغير قصد.

- هناك مئات النصوص في الأناجيل الأربعة تدل على أن عيسى إنسان وليس إلهاً، وأنه ابن الإنسان وليس ابن الله، وأنه جاء رسولاً إلى بني إسرائيل فقط، مكملاً لشريعة موسى وليس ناقضاً لها.

- وهناك نصوص أخرى تدل على أن عيسى لم يُصلب وإنما أنجاه الله ورفعه إلى السماء، وتدحض كذلك عقيدة الغفران، وتبين أن الغفران يُنال بالتوبة وصلاح الأعمال. وهناك نصوص إنجيلية تؤكد بشارة عيسى بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم.

- بل إن هناك نصوصاً عديدة في الرسائل تثبت زيف زعم بولس بأنه يوحي إليه، وتبين كذلك تناقضه مع نفسه ومع عيسى عليه السلام.

رأينا كيف تدخلت السياسة والحكام في تقرير عقائد الكنيسة وتبديلها من خلال المجامع المختلفة، وأن الأصل في الخلاف بين الكنيستين الشرقية والغربية نشأ لا عن موقف عقدي بقدر ما هو محاولة إثبات الوجود والسيطرة.

لقد ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن في آيات عديدة إفكَ النصارى وقولهم في مريم، واعتقادهم في المسيح على اختلاف مذاهبهم، مبيِّناً انحرافهم، ومصحِّحاً عقائدهم، وداعياً إياهم عدم الغلو في الدين وأن لا يقولوا على الله إلا الحق.

وعموماً فإن النصارى يُعتبرون بالنسبة للمسلمين أهل كتاب مثل اليهود، وحكمهم في الإسلام سواء، فقد كذَّبوا برسول الله وآياته، وأشركوا بالله، فهم بذلك كفار لهم نار جهنم خالدين فيها. يقول تعالى: ﴿إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية﴾‏‏. [البينة: 6]. لكنهم مع ذلك يعاملون بما أمر الله تعالى به من الإحسان والبر والقسط إليهم، وأكل طعامهم والتزوج من نسائهم، طالما أنهم لم يقاتلونا في الدين ولم يخرجونا من ديارنا، فهم أهل ذمة إذا عاشوا في ديار المسلمين،؛ ما لم ينقضوا عهدهم فإن نكثوا عهدهم وتجرؤوا على الإسلام والمسلمين؛ بأن حاولوا الدعوة إلى باطلهم وكفرهم بين أبناء المسلمين، أو طعنوا في الدين مثلاً، فلا بد من قتالهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.


 الهندوسية

 التعريف :

الهندوسية- ويطلق عليها أيضاً البرهمية- ديانة وثنية تتكون من مجموعة من العقائد والعادات والتقاليد التي تشكلت عبر مسيرة طويلة من القرن الخامس عشر قبل الميلاد إلى وقتنا الحاضر.

إنها ديانة تضم القيم الروحية والخلقية إلى جانب المبادىء القانونية والتنظيمية متخذة عدة آلهة بحسب الأعمال المتعلقة بها، فلكل منطقة إله، ولكل عمل أو ظاهرة إله.

 التأسيس وأبرز الشخصيات:

لا يوجد للديانة الهندوسية مؤسس معين، ولا يعرف لمعظم كتبها مؤلفون معينون، فقد تمّ تشكُّل الديانة وكذلك الكتب عبر مراحل طويلة من الزمن.

الآريُّون الغزاة الذين قدموا إلى الهند في القرن الخامس عشر قبل الميلاد هم المؤسسون الأوائل للديانة الهندوسية.

- ديانة الفاتحين الجديدة لم تمح الديانة القديمة للهنود، بل مازجتها وتأثرت كل منهما بالأخرى.

- في القرن الثامن قبل الميلاد زعم الكهنة البراهمة أن في طبائعهم عنصراً إلهيًّا.

 الأفكار والمعتقدات :

نستطيع فهم الهندوسية من خلال كتبها :

للهندوسية عدد هائل من الكتب عسيرة الفهم غريبة اللغة وقد أُلّفت كتب كثيرة لشرحها وأخرى لاختصار تلك الشروح، وكلها مقدسة وأهمها:

1- الفيدا veda: وهي كلمة سنسكريتية معناها الحكمة والمعرفة، وتصور حياة الآريين، ومدارج الارتقاء للحياة العقلية من السذاجة إلى الشعور الفلسفي، وفيه أدعية تنتهي بالشك والارتياب كما أن فيه تأليهاً يرتقي إلى وحدة الوجود، وهي تتألف من أربعة كتب هي:

1- رج فيدا أو راجا فندا (أي الفيدا الملكية) وترجع إلى 3000 سنة قبل الميلاد، فيها ذكر لإله الآلهة(إنذار) ثم لإله النار (أغني) ثم الإله (فارونا) ثم الإله سوريه (إله الشمس).

2- يجور فيدا Yajur veda يتلوها الرهبان عند تقديم القرابين.

3- سم فيدا Sama veda: ينشدون أناشيده أثناء إقامة الصلوات والأدعية.

4- أثروا فيدا Atharva veda: عبارة عن مقالات من الرقي  والتمائم  لدفع السحر والتوهم والخرافة والأساطير والشياطين. وكل واحد من هذه الفيدات يشتمل على أربعة أجزاء هي:-

أ -سمهتا: تمثل مذهب الفطرة، وأدعيته كان يقدمها سكان الهند الأقدمون لآلهتهم قبل زحف الآريين.

ب -البراهمن: يقدمها البراهمة للمقيمين في بلادهم مبينة أنواع القرابين.

ت- آرانياك: وهي الصلوات والأدعية التي يتقدم بها الشيوخ أثناء إقامتهم في الكهوف والمغاور وبين الأحراش والغابات.

ث-آبا نيشادات: وهي الأسرار والمشاهدات النفسية للعرفاء من الصوفية.

2- قوانين منو: وضعت في القرن الثالث قبل الميلاد في العصر الويدي الثاني، عصر انتصار الهندوسية على الإلحاد الذي تمثل في (الجينية والبوذية). وهذه القوانين عبارة عن شرح للويدات بين معالم الهندوسية ومبادئها وأسسها.

1- كتب أخرى:

أ‌- مها بهارتا: ملحمة هندية تشبه الإلياذة والأوديسة عند اليونان ومؤلفها (وياس) ابن العارف (بوسرا) الذي وضعها سنة 950 ق.م وهي تصف حرباً بين أمراء من الأسر المالكة، وقد اشتركت الآلهة في هذه الحرب.

ب‌- كيتا: تصف حرباً بين أمراء من أسرة ملكية واحدة، وينسب إلى كرشنا فيها نظرات فلسفية واجتماعية.

ت‌- يوجا وأسستها: تحتوي على أربعة وستين ألف بيت، ألفت إبتداء من القرن السادس عبر مرحلة طويلة على أيدي مجموعة من الناس، فيها أمور فلسفية ولاهوتية.

ث‌- رامايانا: يعتني هذا الكتاب بالأفكار السياسية والدستورية وفيه خطب لملك أسمه (راما).

نظرة الهندوسية إلى الآلهة:

- التوحيد: لا يوجد توحيد بالمعنى الدقيق، لكنهم إذا أقبلوا على إله من الآلهة أقبلوا عليه بكل جوارحهم حتى تختفي عن أعينهم كل الآلهة الأخرى، وعندها يخاطبونه برب الأرباب أو إله الآلهة.

- التعدد: يقولون بأن لكل طبيعة نافعة أو ضارة إلهاً يُعبد: كالماء والهواء والأنهار والجبال.. وهي آلهة كثيرة يتقربون إليها بالعبادة والقرابين.

التثليث: في القرن التاسع قبل الميلاد جمع الكهنة الآلهة في إله واحد أخرج العالم من ذاته وهو الذي أسموه:

1- براهما: من حيث هو موجود.

2- فشنو: من حيث هو حافظ.

3- سيفا: من حيث هو مهلك.

فمن يعبد أحد الآلهة الثلاثة فقد عبدها جميعاً أو عبد الواحد الأعلى ولا يوجد أي فارق بينها. وهم بذلك قد فتحوا الباب أمام النصارى للقول بالتثليث.

- يلتقي الهندوس على تقديس البقرة وأنواع من الزواحف كالأفاعي وأنواع من الحيوان كالقردة ولكن تتمتع البقرة من بينها جميعاً بقداسة تعلو على أي قداسة ولها تماثيل في المعابد والمنازل والميادين ولها حق الانتقال إلى أي مكان ولا يجوز للهندوكي أن يمسها بأذى أو بذبحها وإذا ماتت دفنت بطقوس دينية.

- يعتقد الهندوس بأن آلهتهم قد حلت كذلك في إنسان اسمه كرشنا وقد التقى فيه الإله بالإنسان أو حل اللاهوت في الناسوت، وهم يتحدثون عن كرشنا كما يتحدث النصارى عن المسيح، وقد عقد الشيخ محمد أبو زهرة – رحمه الله – مقارنة بينهما مظهراً التشابه العجيب، بل التطابق، وعلق في أخر المقارنة قائلاً: "وعلى المسيحيين أن يبحثوا عن أصل دينهم".

 الطبقات في المجتمع الهندوسي:

- منذ أن وصل الآريون إلى الهند شكَّلوا طبقات ما تزال قائمة إلى الآن، ولا طريق لإزالتها لأنها تقسيمات أبدية من خلق الله (كما يعتقدون) :

1- البراهمة: وهم الذين خلقهم الإله براهما من فمه: منهم المعلم والكاهن، والقاضي، ولهم يلجأ الجميع في حالات الزواج والوفاة، ولا يجوز تقديم القرابين إلا في حضرتهم.

2- الكاشتر: وهم الذين خلقهم الإله من ذراعيه: يتعلمون ويقدمون القرابين ويحملون السلاح للدفاع.

3- الويش: وهم الذين خلقهم الإله من فخذه: يزرعون ويتاجرون ويجمعون المال، وينفقون على المعاهد الدينية.

4- الشودر: وهم الذين خلقهم الإله من رجليه، وهم مع الزنوج الأصليين يشكلون طبقة المنبوذين، وعملهم مقصور على خدمة الطوائف الثلاث السابقة الشريفة ويمتهنون المهن الحقيرة والقذرة.

- يجوز للرجل أن يتزوج من طبقة أعلى من طبقته ويجوز أن يتزوج من طبقة أدنى على أن لا تكون الزوجة من طبقة الشودر الرابعة ولا يجوز للرجل من طبقة الشودر أن يتزوج من طبقة أعلى من طبقته بحال من الأحوال.

- البراهمة هم صفوة الخلق، وقد ألحقوا بالآلهة، ولهم أن يأخذوا من أموال عبيدهم "شودر" ما يشاؤون.

- البرهمي الذي يكتب الكتاب المقدس هو رجل مغفور له ولو أباد العوالم الثلاثة بذنوبه.

- لايجوز للملك – مهما اشتدت الظروف – أن يأخذ جباية أو إتاوة من البرهمي.

- إن استحق البرهمي القتل لم يجز للحاكم إلا أن يحلق رأسه ، أما غيره فيقتل.

- البرهمي الذي هو في العاشرة من عمره يفوق الشودري الذي ناهز المائة كما يفوق الوالد ولده.

- لا يصحُّ لبرهمي أن يموت جوعاً في بلاده.

- المنبوذون أحط من البهائم وأذل من الكلاب بحسب قانون منو.

- من سعادة المنبوذين أن يخدموا البراهمة وليس لهم أجر أو ثواب.

- إذا مدّ أحد المنبوذين إلى برهمي يداً أو عصاً ليبطش به قطعت يده، وإذا رفسه فُدِعت رجله.

- إذا هَمَّ أحد من المنبوذين بمجالسة برهمي فعلى الملك أن يكوي استه وينفيه من البلاد.

- إذا ادّعى أحد المنبوذين أنه يعلِّم برهمياً فإنه يسقى زيتاً مغليًّا.

- كفارة قتل الكلب والقطة والضفدعة والوزغ والغراب والبومة ورجل من الطبقة المنبوذة سواء.

- ظهر مؤخراً بعض التحسن البسيط في أحوال المنبوذين خوفاً من استغلال أوضاعهم ودخولهم في أديان أخرى ، لكن كثيراً من المنبوذين وجدوا العزة والمساواة في الإسلام فاعتنقوه.

معتقداتهم:

1- الكارما: قانون الجزاء أي أن نظام الكون إلهي قائم على العدل المحض، هذا العدل الذي سيقع لا محالة إما في الحياة الحاضرة أو في الحياة القادمة، وجزاء حياةٍ يكون في حياة أخرى، والأرض هي دار الابتلاء كما أنها دار الجزاء والثواب.

2- تناسخ الأرواح: إذا مات الإنسان يفنى منه الجسد وتنطلق منه الروح لتتقمص وتحل في جسد آخر بحسب ما قدم من عمل في حياته الأولى، وتبدأ الروح في ذلك دورة جديدة.

3- الانطلاق: صالح الأعمال وفاسدها ينتج عنه حياة جديدة متكررة لتثاب فيها الروح أو لتعاقب على حسب ما قدمت .

4- وحدة الوجود: التجريد الفلسفي ارتقى بالهنادكة إلى أن الإنسان يستطيع خلق الأفكار والأنظمة والمؤسسات كما يستطيع المحافظة عليها أو تدميرها، وبهذا يتحد الإنسان مع الآلهة وتصير النفس هي عين القوة الخالقة.

أ‌- الروح كالآلهة أزلية سرمدية، مستمرة، غير مخلوقة.

ب‌- العلاقة بين الإنسان وبين الآلهة كالعلاقة بين شرارة النار والنار ذاتها، وكالعلاقة بين البذرة وبين الشجرة.

ت‌- هذا الكون كله ليس إلا ظهوراً للوجود الحقيقي، والروح الإنسانية جزء من الروح العليا.

أفكار ومعتقدات أخرى :

- الأجساد تحرق بعد الموت لأن ذلك يسمح بأن تتجه الروح إلى أعلى وبشكل عمودي لتصل إلى الملكوت الأعلى في أقرب زمن، كما أن الاحتراق هو تخليص للروح من غلاف الجسم تخليصاً تاماً.

- عندما تتخلص الروح وتصعد، يكون أمامها ثلاثة عوالم:

1- إما العالم الأعلى: عالم الملائكة.

2- وإما عالم الناس: مقر الآدميين بالحلول.

3- وإما عالم جهنم: وهذا لمرتكبي الخطايا والذنوب.

- ليس هناك جهنم واحدة، بل لكل أصحاب ذنب جهنم خاصة بهم.

- البعث في العالم الآخر إنما هو للأرواح لا للأجساد.

- يترقى البرهمي في أربع درجات:

1- التلميذ وهو صغير.

2- رب الأسرة.

3- الناسك ويقوم بالعبادة في الغابات إذا تقدم به السن.

4- الفقير: الذي يخرج من حكم الجسد وتتحكم فيه الروح ويقترب من الآلهة.

- المرأة التي يموت عنها زوجها لا تتزوج بعده، بل تعيش في شقاء دائم، وتكون موضعاً للإهانات والتجريح، وتكون في مرتبة أقل من مرتبة الخادم.

- قد تحرق المرأة نفسها إثر وفاة زوجها تفادياً للعذاب المتوقع الذي ستعيش فيه، وقد حرم القانون هذا الإجراء في الهند الحديثة.

- الديانة الهندية تجيز عقد القران للأطفال وهم يَحْبُون، ويحدث أن يموت الولد فتشب البنت أرملة ابتداء، ولكن القانون الهندي الحديث حرم ذلك ومنع عقد القران إلا في سن الشباب.

- ليس للفرد أهمية إلا إذا كان عضواً في جماعة، وتكون هذه الجماعة عضواً في جماعة أكبر، ذلك لأن العناية للجماعة لا للفرد.

- يلاحظ هبوط المستوى الاقتصادي لمعتنقي الهندوسية لأن بعض الطبقات لا تعمل؛ ذلك لأن العمل لا يليق بمكانتها السامية كطبقة البراهمة مثلاً.

- نظام الطبقات يعطل مبدأ تكافؤ الفرص.

- رفضت الهندوسية حركة الإصلاح الداخلي المتمثلة في الإسلام وقاومتها محتفظة بتعليماتها ومعتقداتها.

- حاول الزعيم الهندي (غاندي) تقليص الحدة بين الطبقات وبين المنبوذين ولكن محاولاته ذهبت أدراج الرياح، بل كان هو ذاته ضحية لهذه المحاولة.

- حاولت جماعة (السيخ) إنشاء دين موحد من الهندوسية والإسلام لكنهم فشلوا إذ سرعان ما انغلقوا على أنفسهم وصاروا طبقات متميزة يرفضون التزاوج مع غيرهم.

الجذور الفكرية والعقائدية:

في القرن الخامس عشر قبل الميلاد كان هناك سكان الهند الأصليين من الزنوج الذين كانت لهم أفكار ومعتقدات بدائية.

جاء الغزاة الآريون واستقروا في الهند فحصل تمازج بين المعتقدات تولدت عنه الهندوسية كدين فيه أفكار بدائية من عبادة الطبيعة والأجداد والبقر بشكل خاص.

وفي القرن الثامن قبل الميلاد تطورت الهندوسية عندما وُضع مذهب البرهمية وقالوا بعبادة براهما.

عصفت بالديانة الهندية حركتان قويتان هما الجينية والبوذية.

ظهرت قوانين منو فأعادت إليها القوة وذلك في القرن الثاني والثالث قبل الميلاد.

انتقلت فكرة التثليث من الفكر الهندي إلى الفكر النصراني بعد رفع المسيح عليه السلام.

انتقل فكر التناسخ والحلول ووحدة الوجود  إلى بعض المسلمين الذين ضلُّوا فظهرت هذه العقائد عند بعض المتصوفة، وعند الإسماعيلية وبعض الفرق الضالة كالأحمدية.

 الانتشار ومواقع النفوذ :

كانت الديانة الهندوسية، تحكم شبه القارة الهندية وتنتشر فيها على اختلاف في التركيز، ولكن البون الشاسع بين المسلمين والهندوس في نظرتيهما إلى الكون والحياة وإلى البقرة التي يعبدها الهندوس ويذبحها المسلمون ويأكلون لحمها؛ كان ذلك سبباً في حدوث التقسيم حيث أُعلن عن قيام دولة الباكستان بجزأيها الشرقي والغربي والتي معظمها من المسلمين، وبقاء دولة هندية معظم سكانها هندوس والمسلمون فيها أقلية كبيرة.

 ويتضح مما سبق :

أن الديانة الهندوسية مزيج من الفلسفة الهندية والديانتين اليهودية والمسيحية كما أنها عقيدة محدودة الأتباع. ويعتقد الهندوس أنها جاءت عن طريق الوحي، ولو صح هذا فلا بد أنه قد حصل لها الكثير من التحريف والتبديل حتى أصبحت أسلوباً في الحياة أكثر مما هي عقيدة واضحة المعالم. وتشمل من العقائد ما يهبط إلى عبادة الأشجار والأحجار والقرود والأبقار.. إلى غير ذلك من أنواع الوثنية التي تتنافى مع أبسط قواعد التوحيد. كما أن التقسيم الطبقي فيها يتعارض مع كرامة الإنسان ويجعلها بعيدة عن الوحي الرباني.


 البوذية

 التعريف :

هي فلسفة وضعية انتحلت الصبغة الدينية، وقد ظهرت في الهند بعد الديانة البرهمية الهندوسية في القرن الخامس قبل الميلاد. وكانت في البداية تناهض الهندوسية وتتجه إلى العناية بالإنسان، كما أن فيها دعوة إلى التصوف والخشونة ونبذ الترف والمناداة بالمحبة والتسامح وفعل الخير. وبعد موت مؤسسها تحولت إلى معتقدات باطلة، ذات طابع وثني، وغالى أتباعها في مؤسسها حتى ألَّهوه.

وهي تعتبر نظاماً أخلاقياً ومذهباً فكرياً مبنياً على نظريات فلسفية، وتعاليمها ليست وحياً، وإنما هي آراء وعقائد في إطار ديني. وتختلف البوذية القديمة عن البوذية الجديدة في أن الأولى صبغته أخلاقية، في حين أن البوذية الجديدة هي تعاليم بوذا مختلطة بآراء فلسفية وقياسات عقلية عن الكون والحياة.

 التأسيس وأبرز الشخصيات:

أسسها سدهارتا جوتاما الملقب ببوذا 560 – 480 ق.م وبوذا تعني العالم ويلقب أيضاً بسكيا موني ومعناه المعتكف. كان بوذا أميراً نشأ مترفاً وتزوج في التاسعة عشرة من عمره ولما بلغ السادسة والعشرين هجر زوجته منصرفاً إلى الزهد والتقشُّف والخشونة في المعيشة والتأمل في الكون ورياضة النفس وعزم على أن يعمل على تخليص الإنسان من آلامه التي منبعها الشهوات ثم دعا إلى تبني وجهة نظره حيث تبعه أناس كثيرون.

وبعد وفاته اجتمع أتباعه في مؤتمر كبير في قرية راجاجراها عام 483 ق.م لإزالة الخلاف بين أتباع المذهب ولتدوين تعاليم بوذا خشية ضياع أصولها وعهدوا بذلك إلى ثلاثة رهبان هم:

1- كاشيابا وقد اهتم بالمسائل العقلية.

2- أويالي وقد اهتم بقواعد تطهير النفس.

3- أناندا وقد دون جميع الأمثال والمحاورات.

 الأفكار والمعتقدات:

يعتقد البوذيون أن بوذا هو ابن الله، وهو المخلّص للبشرية من مآسيها وآلامها وأنه يتحمل عنهم جميع خطاياهم.

يعتقدون أن تجسد بوذا قد تم بواسطة حلول روح القدس على العذراء مايا.

ويقولون إنه قد دل على ولادة بوذا نجم ظهر في أفق السماء ويدعونه نجم بوذا.

ويقولون أيضاً إنه لما ولد بوذا فرحت جنود السماء ورتلت الملائكة أناشيد المحبة للمولود المبارك.

وقد قالوا: لقد عرف الحكماء بوذا وأدركوا أسرار لاهوته. ولم يمض يوم واحد على ولادته حتى حيَّاهُ الناس، وقد قال بوذا لأمه وهو طفل إنه أعظم الناس جميعاً ، وأن الشيطان حاول أن يغويه فلم يفلح .

يصلي البوذيون لبوذا ويعتقدون أنه سيدخلهم الجنة. والصلاة عندهم تؤدى في اجتماعات يحضرها عدد كبر من الأتباع.

لما مات بوذا قال أتباعه: صعد إلى السماء بجسده بعد أن أكمل مهمته على الأرض.

يؤمنون برجعة بوذا ثانية إلى الأرض ليعيد السلام والبركة إليها.

يعتقدون أن بوذا هو الكائن العظيم الواحد الأزلي وهو عندهم ذاتٌ من نور غير طبيعية، وأنه سيحاسب الأموات على أعمالهم.

يقول بعض الباحثين إن بوذا أنكر الألوهية والنفس الإنسانية وأنه كان يقول بالتناسخ.

الجانب الأخلاقي في الديانة البوذية:

في تعاليم بوذا دعوة إلى المحبة والتسامح والتعامل بالحسنى والتصدق على الفقراء وترك الغنى والترف وحمل النفس على التقشف والخشونة وفيها تحذير من النساء والمال وترغيب في البعد عن الزواج.

يجب على البوذيِّ التقيد بثمانية أمور حتى يتمكن من الانتصار على نفسه وشهواته:

1- الاتجاه الصحيح المستقيم الخالي من سلطان الشهوة واللذة وذلك عند الإقدام على أي عمل.

2- التفكير الصحيح المستقيم الذي لا يتأثر بالأهواء.

3- الإشراق الصحيح المستقيم.

4- الاعتقاد المستقيم الذي يصحبه ارتياح واطمئنان إلى ما يقوم به.

5- مطابقة اللسان لما في القلب.

6- مطابقة السلوك للقلب واللسان.

7- الحياة الصحيحة التي يكون قوامها هجر اللذات.

8- الجهد الصحيح المتجه نحو استقامة الحياة على العلم والحق وترك الملاذ.

في تعاليم بوذا أن الرذائل ترجع إلى أصول ثلاثة:

1- الاستسلام للملاذ والشهوات.

2- سوء النية في طلب الأشياء.

3- الغباء وعدم إدراك الأمور على وجهها الصحيح.

من وصايا بوذا: لا تقض على حياة حي، لا تسرق ولا تغتصب، لا تكذب، لا تتناول مسكراً، لا تزن، لا تأكل طعاماً نضج في غير أوانه، لا ترقص ولا تحضر مرقصاً ولا حفل غناء، لا تتخذ طبيباً، لا تقتن فراشاً وثيراً، لا تأخذ ذهباً ولا فضة.

ينقسم البوذيون إلى قسمين:

1- البوذيون المتدينون: وهؤلاء يأخذون بكل تعاليم بوذا وتوصياته.

2- البوذيون المدنيون: هؤلاء يقتصرون على بعض التعاليم والوصايا فقط.

الناس في نظر بوذا سواسية لا فضل لأحد إلا بالمعرفة والسيطرة على الشهوات.

وقد احتفظت البوذية ببعض صورها الأولى في منطقة جنوب آسيا وخاصة في سيلان وبورما، أما في الشمال -وعلى الأخص في الصين واليابان- فقد ازدادت تعقيداً وانقسمت إلى مذهبين هما:

1- مذهب ماهايانا (مذهب الشمال) ويدعو إلى تأليه بوذا وعبادته.

2- مذهب هنايانا (مذهب الجنوب) وقد حافظ على تعاليم بوذا، ويعتبر أتباع هذا المذهب أن بوذا هو المعلم الأخلاقي العظيم الذي بلغ أعلى درجة من الصفاء الروحي.

وقد عبروا عن بلوغ النفس الكمال الأسمى والسعادة القصوى وانطلاقها من أسر المادة وانعتاقها من ضرورة التناسخ بالنيرفانا وتعني الخلاص من أسر المعاناة والرغبة، واكتساب صفاء الدين والروح، والتحرر من أسر العبودية واللذة، وانبثاق نور المعرفة عن طريق تعذيب النفس ومقاومة النزعات، مع بذل الجهد والتأمل والتركيز الفكري والروحي، وهو هدف البوذية الأسمى.

علاقتهم بالمسلمين الآن لا تحمل طابع العداء العنيف ويمكن أن يكونوا مجالاً خصباً للدّعوة الإسلامية.

كتب البوذية: كتبهم ليست منزلة ولا هم يدّعون ذلك بل هي عباراتٌ منسوبة إلى بوذا أو حكاية لأفعاله سجلها بعض أتباعه، ونصوص تلك الكتب تختلف بسبب انقسام البوذيين، فبوذيو الشمال اشتملت كتبهم على أوهام كثيرة تتعلق ببوذا أما كتب الجنوب فهي أبعد قليلاً عن الخرافات.

 تنقسم كتبهم إلى ثلاثة أقسام:

1- مجموعة قوانين البوذية ومسالكها.

2- مجموعة الخطب التي ألقاها بوذا.

3- الكتاب الذي يحوي أصل المذهب والفكرة التي نبع منها.

وتعتمد جميع كتبهم على الآراء الفلسفية ومخاطبة الخيال وتختلف في الصين عنها في الهند لأنها تخضع لتغيرات الفلاسفة.

شعار البوذية عبارة عن قوس نصف دائري وفي وسطه قائم ثالث على رأسه ما يشبه الوردة وأمام هذا التمثال صورة مجسمة لجرة الماء وبجوارها فيل يتربع عليه بوذا في لباسه التقليدي.

الجذور الفكرية والعقائدية:

يوجد تشابه بين الديانات الوضعية التي سبقت البوذية في بعض الجوانب مثل:

الهندوسية: في القول بالتناسخ والاتجاه نحو التصوف.

الكونفوشيوسية: في الاتجاه إلى الاعتناء بالإنسان وتخليصه من آلامه.

ينبغي أن يلاحظ التشابه الكبير بينها وبين النصرانية وبخاصة فيما يتعلق بظروف ولادة المسيح وحياته والظروف التي مرّ بها بوذا مما يؤكد تأثر النصرانية بها .

 الانتشار ومواقع النفوذ:

الديانة البوذية منتشرة بين عدد كبير من الشعوب الآسيوية حيث يدين بها أكثر من ستمائة مليون نسمة، ولهم معبد ضخم في كاتمندو بالنيبال، والبوذية مذهبان كما تقدم:

المذهب الشمالي: وكتبه المقدسة مدونة باللغة السنسكريتية، وهو سائد في الصين واليابان والتبت ونيبال وسومطره.

المذهب الجنوبي: وكتبه المقدسة مدونة باللغة البالية، وهو سائد في بورما وسيلان وسيام.

ويمكن تقسيم انتشار البوذية إلى خمس مراحل:

1- من مطلع البوذية حتى القرن الأول الميلادي وقد دفع الملك آسوكا البوذية خارج حدود الهند وسيلان.

2- من القرن الأول حتى القرن الخامس الميلادي وفيها أخذت البوذية في الانتشار نحو الشرق إلى البنغال ونحو الجنوب الشرقي إلى كمبوديا وفيتنام ونحو الشمال الغربي إلى كشمير وفي القرن الثالث اتخذت طريقها إلى الصين وأواسط آسيا ومن الصين إلى كوريا.

3- من القرن السادس حتى القرن العاشر الميلادي وفيه انتشرت في اليابان ونيبال والتبت وتعد من أزهى مراحل انتشار البوذية.

4- من القرن الحادي عشر إلى القرن الخامس عشر وفيها ضعفت البوذية واختفى كثير من آثارها لعودة النشاط الهندوسي وظهور الإسلام في الهند فاتجهت البوذية إلى لاوس ومنغوليا وبورما وسيام.

5- من القرن السادس عشر حتى الآن وفيه تواجه البوذية الفكر الغربي بعد انتشار الاستعمار الأوروبي وقد اصطدمت البوذية في هذه الفترة بالمسيحية ثم بالشيوعية.

ويتضح مما سبق:

أن البوذية فلسفة وضعية انتحلت الصبغة الدينية وقد ظهرت في الهند بعد الديانة البرهمية، وقامت على أساس أن بوذا هو ابن الله ومخلص البشرية من مآسيها، وقد قال لأمه وهو طفل إنه أعظم الناس جميعاً، ولما مات بوذا قال أتباعه: إنه صعد إلى السماء بجسده بعد أن أكمل مهمته على الأرض وإنه سيرجع ثانية إلى الأرض ليعيد السلام والبركة إليها، ويقول البعض: إن بوذا أنكر الألوهية والنفس الإنسانية وأنه كان يقول بالتناسخ، وتعتمد جميع كتب البوذيين على الآراء الفلسفية ومخاطبة الخيال وتختلف البوذية في الصين عنها في الهند بحسب نظرة الفلاسفة.


 التنصير

 التعريف:

التنصير حركة دينية سياسية استعمارية بدأت بالظهور إثر فشل الحروب الصليبية بغية نشر النصرانية بين الأمم المختلفة في دول العالم الثالث بعامة وبين المسلمين بخاصة.

ويساعدهم في ذلك ثلاثة عوامل:

- انتشار الفقر والجهل والمرض في معظم بلدان العالم الإسلامي.

- النفوذ الغربي في كثير من بلدان المسلمين.

- ضعف بعض حكام المسلمين الذين يسكتون عنهم أو ييسرون لهم السبل رغباً ورهباً أو نفاقاً لهم.

 التأسيس وأبرز الشخصيات:

ريمون لول: أول نصراني تولَّى التبشير بعد فشل الحروب الصليبية في مهمتها ، فتعلم اللغة العربية بكل مشقة متجولا في بلاد الشام مناقشاً علماء المسلمين.

دخل المبشرون الكاثوليك إلى إفريقيا بعد حركة الاكتشافات البرتغالية، وبعد ذلك بكثير أخذت ترد الإرساليات التبشيرية البروتستانتية إنجليزية وألمانية وفرنسية.

بيتر هلينغ: احتك بمسلمي سواحل إفريقيا منذ وقت مبكر.

البارون دوبيتز: دعا في عام 1664م إلى تأسيس كلية لتعليم التبشير المسيحي.

المستر كاري: فاق أسلافه في مهنة التبشير، وقد ظهر إبّان القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر.

كان للمبشر هنري مارتن ت 1812م يد طولى في إرسال المبشرين إلى بلاد آسيا الغربية، وقد ترجم التوراة إلى الهندية والفارسية والأرمنية.

في عام 1795م تأسست جمعية لندن التبشيرية وتبعتها أخريات في اسكوتلانده ونيويورك.

في سنة 1819م اتفقت جمعية الكنيسة البروتستانتية مع النصارى في مصر وكونت هناك إرسالية عهد إليها نشر الإنجيل في إفريقيا.

دافيد ليفنستون 1813 – 1873م: رحالة بريطاني، اخترق أواسط إفريقيا، وقد كان مبشراً قبل أن يكون مستكشفاً.

في سنة 1849م أخذت ترد إرساليات التبشير إلى بلاد الشام، وقد قامت بتقسيم المناطق بينها.

وفي سنة 1855م تأسست جمعية الشبان المسيحية من الإنجليز والأمريكان، وقد انحصرت مهمتها في إدخال ملكوت المسيح بين الشبان كما يزعمون.

في سنة 1895م تأسست جمعية اتحاد الطلبة المسيحيين في العالم.

صموئيل زويمر Zweimer: رئيس إرسالية التبشير العربية في البحرين ورئيس جمعيات التنصير في الشرق الأوسط، كان يتولى إدارة مجلة العالم الإسلامي الإنجليزية التي أنشأها سنة 1911م وما تزال تصدر إلى الآن ، ويعد زويمر من أكبر أعمدة التنصير في العصر الحديث، وقد أُسس معهداً باسمه في أمريكا لأبحاث تنصير المسلمين.

كنيث كراج K.Cragg: خلف صموئيل زويمر على رئاسة مجلة العالم الإسلامي، وقام بالتدريس في الجامعة الأمريكية بالقاهرة لفترة من الوقت وهو رئيس قسم اللاهوت المسيحي في هارتيفورد بأمريكا، وهو معهد للمبشرين، ومن كتبه دعوة المئذنة صدر عام 1956م.

دون هك كري: كان أكبر شخصية في مؤتمر لوزان التبشيري عام 1974م، وهو بروتستانتي، عمل مبشراً في الباكستان لمدة عشرين سنة، وهو أحد طلبة مدرسة فلر للتبشير العالمي. وبعد مؤتمر كولورادو التبشيري عام 1978م أصبح مديراً لمعهد صموئيل زيمر الذي يضم إلى جانبه داراً للنشر ولإصدار الدراسات المختصة بقضايا تنصير المسلمين ومقرها في كاليفورنيا، وهو يقوم بإعداد دورات تدريبية لإعداد المبشرين وتأهيلهم.

يرى بابا الفاتيكان بعد سقوط الشيوعية أن من مصلحة الكنيسة ومصلحة رجال السياسة توجيه عموم الشعب المسيحي نحو خصم جديد يخيفه به وتجنده ضده، والإسلام هو الذي يمكن أن يقوم بهذا الدور في المقام الأول. ويقوم البابا بمغادرة مقره بمعدل أربع رحلات دولية لكسب الصراع مع الأيديولوجيات العالمية وعلى رأسها الإسلام. وتوجد بلايين الدولارات تحت تصرفه للإنفاق منها على إرسال المنصرين وإجراء البحوث وعقد المؤتمرات والتخطيط لتنصير أبناء العالم الثالث وتنظيم وتنفيذ ومتابعة النشاط التنصيري في كل أنحاء العالم وتقويم نتائجه أولاً بأول.

 الأفكار والمعتقدات:

 أفكارهم:

- محاربة الوحدة الإسلامية: يقول القس سيمون: "إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب الإسلامية وتساعد على التخلص من السيطرة الأوروبية، والتبشير عامل مهم في كسر شوكة هذه الحركة، من أجل ذلك يجب أن نحول بالتبشير اتجاه المسلمين عن الوحدة الإسلامية".

- لقد دأب المنصرون على بث الأكاذيب والأباطيل بين أتباعهم ليمنعوهم من دخول الإسلام وليشوهوا جمال هذا الدين ، ومن تلك الأكاذيب :

- انتشار الإسلام بالسيف: يقول المبشر نلسون: "وأخضع سيف الإسلام شعوب إفريقيا وآسيا شعباً بعد شعب".

- لطفي ليفونيان وهو أرمني ألف بضعة كتب للنيل من الإسلام يقول: "إن تاريخ الإسلام كان سلسلة مخيفة من سفك الدماء والحروب والمذابح".

- المبشر جب يقول: "إن الإسلام مبني على الأحاديث أكثر مما هو مبني على القرآن، ولكننا إذا حذفنا الأحاديث الكاذبة لم يبق من الإسلام شيء".

- أما القس صموئيل زويمر فيقول في كتابه العالم الإسلامي اليوم: "يجب إقناع المسلمين بأن النصارى ليسوا أعداء لهم".،  يجب نشر الكتاب المقدس بلغات المسلمين لأنه أهم عمل مسيحي".

"تبشير المسلمين يجب أن يكون بواسطة رسول من أنفسهم ومن بين صفوفهم لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أعضائها".

- وقال صموئيل زويمر كذلك في مؤتمر القدس التنصيري عام 1935م:

"… لكن مهمة التبشير التي ندبتكم لها الدول المسيحية في البلاد الإسلامية ليست في إدخال المسلمين في المسيحية فإن في هذا هداية لهم وتكريماً، وإنما مهمتكم هي أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله وبالتالي لا صلة له بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها".

"… إنكم أعددتم نَشْئاً لا يعرف الصلة بالله ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية، وبالتالي فقد جاء النشء طبقاً لما أراده الاستعمار لا يهتم بعظائم الأمور ويحب الراحة والكسل، فإذا تعلم فللشهرة وإذا تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهرة يجود بكل شيء".

- وقد كتب أحد المبشرين في بداية هذا القرن الميلادي يقول: "سيظل الإسلام صخرة عاتية تتحطم عليها كل محاولات التبشير ما دام للمسلمين هذه الدعائم الأربع: القرآن والأزهر واجتماع الجمعة الأسبوعي ومؤتمر الحج السنوي العام".

 مؤتمراتهم:

لقد كان لهم وما يزال الكثير من المؤتمرات الإقليمية والعالمية ومن ذلك:

- مؤتمر القاهرة عام 1324هـ/ 1906م وقد دعا إليه زويمر بهدف عقد مؤتمر يجمع الإرساليات التبشيرية البروتستانتية للتفكير في مسألة نشر الإنجيل بين المسلمين، وقد بلغ عدد المؤتمرين 62 شخصاً بين رجال ونساء، وكان زويمر رئيساً لهم.

- المؤتمر التبشيري العالمي في أدنبرة باسكوتلندة عام 1328هـ/ 1910م، وقد حضره مندوبون عن 159 جمعية تبشيرية في العالم.

- مؤتمر التبشير في لكهنؤ بالهند عام 1339هـ/ 1911م حضره صموئيل زويمر، وبعد انفضاض المؤتمر وزعت على الأعضاء رقاع مكتوب على أحد وجهيها "تذكار لكهنؤ سنة 1911م" وعلى الوجه الآخر "اللهم يا من يسجد له العالم الإسلامي خمس مرات في اليوم بخشوع انظر بشفقة إلى الشعوب الإسلامية وألهمها الخلاص بيسوع المسيح".

 مؤتمرات التبشير في القدس:

1- في عام 1343هـ/ 1924م.

2- في عام 1928م مؤتمر تبشيري دولي.

3- في عام 1354هـ/1935م وقد كان يضم 1200 مندوب.

4- في عام 1380هـ/ 1961م.

- مؤتمر الكنائس البروتستانتية عام 1974م في لوزان بسويسرا.

- وأخطر المؤتمرات مؤتمر كولورادو في 15 أكتوبر 1978م تحت اسم (مؤتمر أمريكا الشمالية لتنصير المسلمين) حضره (150) مشتركاً يمثلون أنشط العناصر التنصيرية في العالم، استمر لمدة أسبوعين بشكل مغلق وقدمت فيه بحوث حول التبليغ الشامل للإنجيل. وتقديمه للمسلمين والكنائس الديناميكية في المجتمع المسلم وتجسيد المسيح وتحبيبه إلى قلب المسلم ومحاولات نصرانية جديدة لتنصير المسلمين وتحليل مقاومة واستجابة المسلم واستخدام الغذاء والصحة كعنصرين في تنصير المسلمين وتنشيط دور الكنائس المحلية في تنصير العالم الإسلامي.

وقد انتهى المؤتمر بوضع استراتيجية بقيت سرية لخطورتها مع وضع ميزانية لهذه الخطة مقدارها 1000 مليون دولار، وقد تم جمع هذا المبلغ فعلاً وتم إيداعه في أحد البنوك الأمريكية الكبرى.

- المؤتمر العالمي للتنصير الذي عقد في السويد في شهر أكتوبر 1981م تحت إشراف المجلس الفيدرالي اللوثراني الذي نوقشت فيه نتائج مؤتمري لوزان وكولورادو وخرج بدراسة مستفيضة عن التنصير لما وراء البحار بهدف التركيز على دول العالم الثالث.

- ومن مؤتمراتهم كذلك:

1-                   مؤتمر استانبول.

2-                   مؤتمر حلوان بمصر.

3-                   مؤتمر لبنان التبشيري.

4-                   مؤتمر لبنان بغداد التبشيري.

5-                   مؤتمر قسنطينة التبشيري في الجزائر وذلك قبل الاستقلال.

6-                   مؤتمر شيكاغو.

- مؤتمر مِدراس التبشيري في بلاد الهند، وكان ينعقد هذا المؤتمر كل عشر سنوات.

- مؤتمر بلتيمور بالولايات المتحدة الأمريكية 1942م وهو مؤتمر خطير جداً، وقد حضره من اليهود بن غوريون.

- بعد الحرب العالمية الثانية اتخذت النصرانية نظاماً جديداً إذ ينعقد مؤتمر للكنائس مرة كل ست أو سبع سنوات متنقلاً من بلد إلى آخر.

1-                   مؤتمر امستردام 1948م – هولندا.

2-                   مؤتمر ايفانستون 1954م – أمريكا.

3-                   مؤتمر نيودلهي 1961م – الهند.

4-                   مؤتمر أوفتالا 1967م – أوفتالا بأوروبا.

5-                   مؤتمر جاكرتا 1975م – أندونيسيا، وقد اشترك فيه 3000 مبشر نصراني.

- عقد المؤتمر السادس لمجلس الكنائس العالمي في يوليو سنة 1980م في كاليفورنيا بالولايات المتحدة وقد حث المؤتمر على ضرورة زيادة البعثات التنصيرية بين مسلمي الشرق الأوسط خاصة في دول الخليج العربي.

أشهر المراكز والمعاهد التنصيرية:

- معهد صموئيل زويمر في ولاية كاليفورنيا.

- المركز العالمي للأبحاث والتبشير في كاليفورنيا الذي قام بتقديم الأشخاص اللازمين للإعداد لمؤتمر كولورادو مع تهيئة عوامل نجاح هذا المؤتمر.

- الجامعة الأمريكية في بيروت (الكلية السورية الإنجيلية سابقاً) أنشئت عام 1865م.

- الجامعة الأمريكية في القاهرة أنشئت لتكون قريبة من الأزهر ومنافسة له.

- الكلية الفرنسية في لاهور.

- جمعية التبشير الكنسية الإنجليزية وهي أهم جمعية بروتستانتية وقد مضى على إنشائها قرابة قرنين من الزمان.

- إرساليات التبشير الأمريكية، أهمها الجمعية التبشيرية الأمريكية والتي يرجع عهدها إلى سنة 1810م.

- جمعية إرساليات التبشير الألمانية الشرقية، أسسها القسيس لبسيوس سنة 1895م. وقد بدأ عملها فعلاً سنة 1900م.

- أسس الإنجليز في سنة 1809م الجمعية اللندنية لنشر النصرانية بين اليهود وبدأ عملها بأن ساقت اليهود المتفرقين في شتات الأرض إلى أرض فلسطين.

 بعض الكتب ووسائل الدعاية التنصيرية:

- جمعت موضوعات مؤتمر القاهرة 1906م في كتاب كبير اسمه وسائل التبشير بالنصرانية بين المسلمين.

- صنف زويمر كتاباً جمع فيه بعض التقارير عن التبشير أسماه العالم الإسلامي اليوم تحدث فيه عن الوسائل المؤدية للاحتكاك بالشعوب غير المسيحية وجلبها إلى حظيرة المسيح مع بيان الخطط التي يجب على المبشر إتباعها.

- تاريخ التبشير: للمبشر أدوين بلس البروتستانتي.

- كتاب المستر فاردنر: ركز فيه حديثه عن إفريقيا وسبل نشر النصرانية فيها وعوائق ذلك ومعالجاته.

- مجلة إرساليات التبشير البروتستانتية التي تصدر في مدينة بال بسويسرا والتي تحدثت عن مؤتمر أدنبره سنة 1910م.

- مجلة الشرق المسيحي الألمانية تصدرها جمعية التبشير الألمانية منذ سنة 1910م.

- دائرة المعارف الإسلامية التي صدرت بعدة لغات حية.

- موجز دائرة المعارف الإسلامية.

- طبع الإنجيل بشكل أنيق وبأعداد هائلة وتوزيعه مجاناً وإرساله بالبريد لمن يطلبه وأحياناً لمن لا يطلبه أيضاً.

- توزيع أشرطة الفيديو والكاسيت المسجل عليها ما يصرف المسلم عن دينه واستخدام الموجات الإذاعية والتليفزيونية التي تبث سمومها وتصل إلى المسلمين في مخادعهم وتعتمد على التمثيليات والبرامج الترفيهية والثقافية والرياضية من أجل خدمة أهدافهم الخبيثة.

وسائل أخرى لها تأثير واسع:

- من هذه الوسائل :

1-                   تقديم الخدمات الطبية بهدف استغلال هذه المهنة في التنصير:

1. بول هاريسون له كتاب الطبيب في بلاد العرب يقول: "لقد وُجدنا نحن في بلاد العرب لنجعل رجالها ونساءها نصارى".

2. س.أ. موريسون محرر في مجلة العالم الإسلامي يقول: "وحينئذٍ تكون الفرصة سانحة حتى يبشر هذا الطبيب بين أكبر عدد ممكن من المسلمين في القرى الكثيرة في طول مصر وعرضها".

3. المبشرة ايد هاريس تقول: "يجب على الطبيب أن ينتهز الفرصة ليصل إلى أذان المسلمين وقلوبهم".

4. المستر هاربر يقول بوجوب الإكثار من الإرساليات الطبية لأن رجالها يحتكون دائماً بالجمهور ويكون لهم تأثير على المسلمين أكثر مما للمبشرين الآخرين (مؤتمر القاهرة 1906م).

5. من المبشرين الأطباء: آن أساوودج، فورست، كار نيليوسي فانديك، جورج بوست، وتشالرز كلهون، ماري أوي، الدكتور طومسون.

2-                   التعليم :

1. إنهم يضعون كل ثقلهم في استغلال التعليم وتوجيهه بما يخدم أهدافهم التنصيرية.

2. إنشاء المدارس والكليات والجامعات والمعاهد العليا وكذلك إنشاء دور للحضانة ورياض للأطفال واستقبال الطلبة في المراحل الإبتدائية والمتوسطة والثانوية.

3. لقد وزعوا خلال مائة وخمسين عاماً ما يزيد عن ألف مليون نسخة من نسخ العهد القديم والجديد مترجمة إلى 1130 لغة عدا النشرات والمجلات التي تبلغ قيمتها بما يقدر بـ 7000 مليون دولار.

4. الاستشراق والتنصير يتعاونان تعليمياً في خدمة أهدافهما المشتركة.

3-                   الأعمال الإجتماعية:

1.  إيجاد بيوت للطلبة من الذكور والإناث.

2.  إيجاد الأندية.

3.  الاهتمام بدور الضيافة والملاجىء للكبار ودور لليتامى واللقطاء.

4.   الاعتناء بالأعمال الترفيهية وحشد المتطوعين لأمثال هذه الأعمال.

5. إنشاء المكتبات التبشيرية واستغلال الصحافة بشكل واسع.

6.  إنشاء مخيمات الكشافة التي تستغل أفضل استغلال في التنصير.

7.  زيارة المسجونين والمرضى في المستشفيات وتقديم الهدايا والخدمات لهم.

8.   تكلمت المس ولسون ومس هلداي في مؤتمر القاهرة 1906م عن دور المرأة كمبشرة لتقوم بنشر ذلك بين نساء المسلمين المسلمات.

4-                   النسل:

في اجتماع البابا شنودة في 5/3/1973م مع القساوسة والأثرياء في الكنيسة المرقسية بالإسكندرية طرحوا بعض المقررات وقد كان منها تحريم تحديد النسل أو تنظيمه بين شعب الكنيسة وتشجيع الإكثار من النسل بوضع الحوافز والمساعدات المادية والمعنوية مع تشجيع الزواج المبكر بين النصارى. وبالمقابل تحديد النسل وتنظيمه بين المسلمين خاصة علماً بأن أكثر من 65% من الأطباء وبعض القائمين على الخدمات الصحية هم من شعب الكنيسة.

5-                   الفتن والحروب :

1.   يعملون على تشجيع الحروب والفتن وذلك لإضعاف الشعوب الإسلامية.

2.  إثارة الاضطرابات المختلفة بإذكاء نار العداوة والبغضاء وإيقاظ روح القوميات الإقليمية الطائفية الضيقة كالفرعونية في مصر والفينيقية في الشام وفلسطين ولبنان، والآشورية في العراق والبربرية في شمال إفريقيا واستغلال جميع ذلك في التنصير.

3.  يقول زويمر في مؤتمر التبشير في لكهنؤ بالهند 1911م: "إن الانقسام السياسي الحاضر في العالم الإسلامي دليل بالغ على عمل يد الله في التاريخ واستثارة للديانة المسيحية كي تقوم بعملها".

6-                   الإمكانات:

أ‌- في أندونيسيا يسيطرون على وسائل الإعلام، ولديهم إذاعات تبشيرية وصحف قومية، ففي إحصائية عام 1975م تكشف بأن فيها 8919 كنيسة لطائفة البروتستانت و3897 قسيساً و8504 مبشرين متفرغين، ولطائفة الكاثوليك 7250 كنيسة و2630 قسيساً  و5393 مبشراً متفرغاً وقد وضعوا خطة للانتهاء من تنصيرها في عام 2000 ميلادية.

ب‌- في بنجلاديش إرساليات تبشيرية كثيرة لتنصير المسلمين هناك.

ت‌- في كينيا: يعدون لتنصيرها تماماً في عام 2000 ميلادية أيضاً.

ث‌- إن التنصير يلقي بثقله في ماليزيا ودول الخليج وإفريقيا.

ج‌- ذكر في مؤتمر عدم الإنحياز في كوالالمبور بأن هناك حوالي 2500 محطة إذاعية بـ 64 لغة قومية تشن هجوماً صريحاً وضارياً ضد الإسلام.

ح‌- مجموع الإرساليات الموجودة في 38 بلداً إفريقياً يبلغ 111.000 إرسالية بعضها يملك طائرات تنقل الأطباء والأدوية والممرضات لعلاج المرضى في الغابات وأحراش الجبال.

خ‌- يوجد الآن في العالم ما يربو على 220 ألف مبشر منهم 138.000 كاثوليكي والباقي 82.000 بروتستانتي، وفي إفريقيا وحدها 119.000 مبشر ومبشرة ينفقون بليوني دولار سنوياً.

د‌- يستخدمون سفناً معدة إعداداً خاصاً يسمح بإقامة الحفلات على ظهرها للاستعانة بها في توزيع المطبوعات الكنسية وإقامة الحفلات التي تستغل لأهدافهم الخاصة في التنصير ويعلنون عنها باسم إقامة معرض عائم للكتاب.

ذ‌- يقوم مجلس الكنائس العالمي والفاتيكان وهيئات أخرى بالإشراف والتوجيه والدعم المالي لكافة الأنشطة التنصيرية وتتوفر مصادر تمويل ثابتة من مختلف الحكومات والمؤسسات في الدول الغربية وعن طريق المشروعات الاقتصادية والأراضي الزراعية والأرصدة في البنوك والشركات التابعة لهذه الحركات التنصيرية مباشرة وحملات جمع التبرعات التي يقوم بها القساوسة من حين لآخر. وتوجد هيئات ومراكز للبحوث والتخطيط يعمل بها نخبة ممتازة من الباحثين المؤهلين ومن أهم هذه المراكز:

1-                   مركز البحوث التابع للفاتيكان.

2-                   مركز البحوث التابع لمجلس الكنائس العالمي.

3-                   حركة الدراسات المسيحية في كاليفورنيا.

4-                   مركز البحث في كولورادو.

5-                   المركز المسيحي في نيروبي (كينيا وقد أنشىء في عام 1401هـ).

6-                   مركز المعلومات المسيحي في نيجيريا.

7-                   المركز المسيحي الدراسي في روالبندي (باكستان) وقد تأسس سنة 1966م ويعتبر من أكبر المراكز في آسيا.

 الجذور الفكرية والعقائدية:

يبلغ عدد المبشرين في أنحاء العالم ما يزيد على 220 ألف منهم 138000 كاثوليكي والباقي وعددهم 62000 من البروتستانت.

لقد بدأ التنصير وتوسع إثر الانهزامات التي مني بها الصليبيون طوال قرنين من الزمان 1099 – 1254م أنفقوهما في محاولة الاستيلاء على بيت المقدس وانتزاعه من أيدي المسلمين.

يرى المستشرق الألماني بيكر Becker بأن "هناك عداء من النصرانية ضد الإسلام بسبب أن الإسلام عندما انتشر في العصور الوسطى أقام سدّاً منيعاً في وجه انتشار النصرانية، ثم إن الإسلام قد امتد إلى البلاد التي كانت خاضعة لصولجانها".

التنصير في أساسه يهدف إلى تمكين الغرب النصراني من البلاد الإسلامية وهو مقدمة أساسية للاستعمار وسبب مباشر لتوهين قوة المسلمين وإضعافها.

الانتشار ومواقع النفوذ:

لقد انتشر التنصير وامتد إلى كل دول العالم الثالث.

إنه يتلقى الدعم الدولي الهائل من أوروبا وأمريكا ومن مختلف الكنائس والهيئات والجامعات والمؤسسات العالمية.

إنه يلقي بثقله بشكل كثيف حول العالم الإسلامي عن طريق فتح المدارس الأجنبية وتصدير البعوث والإرساليات التبشيرية وتشجيع انتشار المجلات الخليعة والكتب العابثة والبرامج التلفزيونية الفاسدة والسخرية من علماء الدين والترويج لفكرة تحديد النسل والعمل على إفساد المرأة المسلمة ومحاربة اللغة العربية وتشجيع النعرات القومية.

إنه يتمركز في أندونيسيا وماليزيا وبنجلاديش والباكستان وفي إفريقيا بعامة.

يزداد تيار التنصير نتيجة لسياسة التساهل من قبل الحكام في بعض البلدان الإسلامية فبعضهم يحضر القداس بنفسه وبعضهم يتبرع بماله لبناء الكنائس وبعضهم يتغافل عن دخول المسيحيين بصورة غير مشروعة. والمطلوب اتخاذ سياسة حازمة لإيقاف تيار التنصير قبل فوات الأوان.

ويتضح مما سبق:

أن التنصير حركة سياسية استعمارية تستهدف نشر النصرانية بين الأمم المختلفة في دول العالم الثالث عامة وبين المسلمين على وجه الخصوص. ويستغل زعماؤها انتشار الجهل والفقر والمرض للتغلغل بين شعوب تلك الأمم متوسلين بوسائل الإعلام التقليدية من كتب ومطبوعات وإذاعة وتلفاز وأشرطة سمعية ومرئية فضلاً عن المخيمات والتعليم والطب إلى جانب الأنشطة الاجتماعية الإنسانية والإغاثية الموجهة لمنكوبي الفتن والحروب وغفلة وتساهل حكام بعض الدول الإسلامية. وتعتمد تلك الحركة في تحقيق أهدافها على تشويه صورة الإسلام وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم مسخرين إمكاناتهم الضخمة لتحقيق مآربهم.


 الإلحاد

 التعريف:

الإلحاد هو: مذهب فلسفي يقوم على فكرة عدمية أساسها إنكار وجود الله الخالق سبحانه وتعالى إذ يدّعي الملحدون بأن الكون وُجد بلا خالق.

وأن المادة أزلية أبدية، وهي الخالق والمخلوق في نفس الوقت.

 التأسيس وأبرز الشخصيات:

الإلحاد بدعة جديدة لم توجد في القديم إلا في النادر في بعض الأمم والأفراد.

يعد أتباع العلمانية (كالشيوعيين) هم المؤسسون الحقيقيين للإلحاد.

وكان للحركة الصهيونية دور كبير في نشر الإلحاد في العالم  ،فنشر اليهود نظريات ماركس في الاقتصاد والتفسير المادي للتاريخ ونظريات فرويد في علم النفس ونظرية دارون في أصل الأنواع ونظريات دور كايم في علم الاجتماع، وكل هذه النظريات من أسس الإلحاد في العالم.

أما انتشار الحركات الإلحادية بين المسلمين في الوقت الحاضر، فقد بدأت بعد سقوط الخلافة الإسلامية.

فصدر كتاب في تركيا عنوانه: مصطفى كمال للكاتب قابيل آدم يتضمن مطاعن قبيحة في الأديان وبخاصة الدين الإسلامي. وفيه دعوة صريحة للإلحاد  وإشادة بالعقلية الأوروبية.

وفي مصر: حاول إسماعيل أحمد أدهم نشر الإلحاد في مصر، وألف رسالة بعنوان "لماذا أنا ملحد؟" وطبعها بمطبعة التعاون بالإسكندرية حوالي سنة 1926م

-    إسماعيل مظهر أصدر في سنة 1928م مجلة العصور في مصر، وكانت قبل توبته تدعو للإلحاد والطعن في العرب والعروبة طعناً قبيحاً. معيداً تاريخ الشعوبية ، ومتهماً العقلية العربية بالجمود والانحطاط، ومشيداً بأمجاد بني إسرائيل ونشاطهم وتفوقهم واجتهادهم.

-    وفي عام 1928م أُسست جماعة لنشر الإلحاد تحت شعار الأدب واتخذت دار العصور مقراً لها واسمها رابطة الأدب الجديد وكان أمين سرها كامل كيلاني.. وقد تاب إلى الله بعد ذلك.

ومن أعلام الإلحاد في العالم:

-    كارل ماركس 1818- 1883م اليهودي الألماني.

-    وإنجلز عالم الاجتماع الألماني والفيلسوف السياسي الذي التقى بماركس في إنجلترا وأصدرا سوياً المانيفستو أو البيان الشيوعي سنة 1820- 1895م.

جان بول سارتر ، وسيمون دوبرفوار ، وألبير كامي ، وأتباع الداروينية.

ومن الفلاسفة والأدباء ، والفيلسوف الألماني نيتشه.

وبرتراند راسل 1872- 1970م

والفيلسوف الألماني هيجل 1770- 1831م .

فولتير 1694- 1778م أديب فرنسي.

ومن الشعراء الملاحدة الذين كانوا ينشرون في مجلة العصور.

الشاعر عبد اللطيف ثابت الذي كان يشكك في الأديان في شعره..

والشاعر الزهاوي الذي يعد عميد الشعراء المشككين في عصره.

·    الأفكار والمعتقدات:

-    إنكار وجود الله سبحانه ، تعالى الله عمّا يقولون -علواً كبيراً.

-    إن الكون والإنسان والحيوان والنبات وجد صدفة وسينتهي كما بدأ ولا توجد حياة بعد الموت.

-    إن المادة أزلية أبدية وهي الخالق والمخلوق في نفس الوقت.

-    النظرة الغائية للكون والمفاهيم الأخلاقية تعيق تقدم العلم.

-    إنكار معجزات الأنبياء لأن تلك المعجزات لا يقبلها العلم، كما يزعمون. ومن العجب أن الملحدين الماديين يقبلون معجزات الطفرة الوحيدة التي تقول بها الداروينية ولا سند لها إلا الهوس والخيال.

-    عدم الاعتراف بالمفاهيم الأخلاقية ولا بالحق والعدل ولا بالأهداف السامية، ولا بالروح والجمال.

-    ينظر الملاحدة للتاريخ باعتباره صورة للجرائم والحماقة وخيبة الأمل وقصته لا تعني شيئاً.

-    الإنسان مادة تنطبق عليه قوانين الطبيعة التي اكتشفتها العلوم كما تنطبق على غيره من الأشياء المادية.

-    الحاجات هي التي تحدد الأفكار، وليست الأفكار هي التي تحدد الحاجات.

·    نظريات ماركس في الاقتصاد والتفسير المادي للتاريخ ونظرية فرويد في علم النفس ونظرية دارون في أصل الأنواع ونظرية دور كهايم في علم الاجتماع من أهم أسس الإلحاد في العالم.. وجميع هذه النظريات هي مما أثبت العلماء أنها حدس وخيالات وأوهام شخصية ولا صلة لها بالعلم.

·    الجذور الفكرية والعقائدية:

نشأ الإلحاد الحديث مع العقلانية والشيوعية والوجودية.

وقد نشر اليهود الإلحاد في الأرض، مستغلين حماقات الكنيسة ومحاربتها للعلم، فجاءوا بثورة العلم ضد الكنيسة، وبالثورة الفرنسية والداروينية والفرويدية، وبهذه الدعوات الهدامة للدين والأخلاق تفشى الإلحاد في الغرب، والهدف الشرير لليهودية العالمية الآن هو إزالة كل دين على الأرض ليبقى اليهود وحدهم أصحاب الدين!!

·    الانتشار وأماكن النفوذ:

انتشر الإلحاد أولاً في أوروبا، وانتقل بعد ذلك إلى أمريكا.. وبقاع من العالم.

وعندما حكمت الشيوعية في ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي قبل انهياره وتفككه، فرضت الإلحاد فرضاً على شعوبه.. وأنشأت له مدارس وجمعيات.

وحاولت الشيوعية نشره في شتى أنحاء العالم عن طريق أحزابها. وإن سقوط الشيوعية في الوقت الحاضر ينبئ عن قرب سقوط الإلحاد- بإذن الله تعالى.

يوجد الآن في الهند جمعية تسمى جمعية النشر الإلحادية، وهي حديثة التكوين وتركز نشاطها في المناطق الإسلامية، ويرأسها جوزيف إيدا مارك، وكان مسيحيًّا من خطباء التنصير، ومعلماً في إحدى مدارس الأحد، وعضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وقد ألف في عام 1953م كتاباً يدعى: "إنما عيسى بشر" فغضبت عليه الكنيسة  وطردته فتزوج بامرأة هندوكية وبدأ نشطاه الإلحادي، وأصدر مجلة إلحادية باسم إيسكرا أي شرارة النار. ولما توقفت عمل مراسلاً لمجلة كيرالا شبدم أي صوت كيالا الأسبوعية. وقد نال جائزة الإلحاد العالمية عام 1978م ويعتبر أول من نالها في آسيا.

يتضح مما سبق:

أن الإلحاد مذهب فلسفي يقوم على إنكار وجود الله سبحانه وتعالى، ويذهب إلى أن الكون بلا خالق، ويعد أتباع العقلانية هم المؤسسون الحقيقيين للإلحاد الذي ينكر الحياة الآخرة، ويرى أن المادة أزلية أبدية، وأنه لا يوجد شيء اسمه معجزات الأنبياء فذلك مما لا يقبله العلم في زعم الملحدين، الذين لا يعترفون أيضاً بأية مفاهيم أخلاقية ولا بقيم الحق والعدل ولا بفكرة الروح. ولذا فإن التاريخ عند الملحدين هو صورة للجرائم والحماقات وخيبة الأمل وقصته ولا تعني شيئاً، والإنسان مجرد مادة تطبق عليه كافة القوانين الطبيعية وكل ذلك مما ينبغي أن يحذره الشاب المسلم عندما يطالع أفكار هذا المذهب الخبيث.


 القاديانية

 التعريف:

القاديانية حركة نشأت سنة 1900م بتخطيط من الاستعمار الإنجليزي في القارة الهندية، بهدف إبعاد المسلمين عن دينهم وعن فريضة الجهاد بشكل خاص، حتى لا يواجهوا المستعمر باسم الإسلام.

 التأسيس وأبرز الشخصيات:

· كان مرزا غلام أحمد القادياني 1839ـ 1908م ، وُلد في قرية قاديان من بنجاب في الهند عام 1839م، وكان ينتمي إلى أسرة اشتهرت بخيانة الدين والوطن، وهكذا نشأ غلام أحمد وفياً للاستعمار مطيعاً له في كل حال، فاختير لدور المتنبئ حتى يلتف حوله المسلمون وينشغلوا به عن جهادهم للاستعمار الإنجليزي. وكان للحكومة البريطانية إحسانات كثيرة عليهم، فأظهروا الولاء لها، وكان غلام أحمد معروفاً عند أتباعه باختلال المزاج وكثرة الأمراض وإدمان المخدرات.

ـ وممن تصدى له ولدعوته الخبيثة، الشيخ أبو الوفاء ثناء الله الأمرتستري أمير جمعية أهل الحديث في عموم الهند، حيث ناظره وأفحم حجته، وكشف خبث طويته، وكفره، وانحراف نحلته. ولما لم يرجع غلام أحمد إلى رشده باهله الشيخ أبو الوفا على أن يموت الكاذب منهما في حياة الصادق، ولم تمر سوى أيام قلائل حتى هلك المرزا غلام أحمد القادياني في عام 1908م مخلفاً أكثر من خمسين كتاباً ونشرة ومقالاً، ومن أهم كتبه: إزالة الأوهام، إعجاز أحمدي، براهين أحمدية، أنوار الإسلام، إعجاز المسيح، التبليغ، تجليات إلهية.

· نور الدين: الخليفة الأول للقاديانية، وضع الإنجليز تاج الخلافة على رأسه فتبعه المريدون. من مؤلفاته: فصل الخطاب.

· محمد علي وخوجه كمال الدين: أمير القاديانية اللاهورية، وهما مُنَظّرا القاديانية وقد قدّم الأول ترجمة محرفة للقرآن الكريم إلى الإنجليزية ومن مؤلفاته: حقيقة الاختلاف، النبوة في الإسلام، والدين الإسلامي. أما الخوجة كمال الدين فله كتاب المثل الأعلى في الأنبياء وغيره من الكتب، وجماعة لاهور هذه تنظر إلى غلام أحمد ميرزا على أنه مجدد فحسب، ولكنهما يعتبران حركة واحدة تستوعب الأولى ما ضاقت به الثانية وبالعكس.

· محمد علي: أمير القاديانية اللاهورية، وهو مُنَظِّر القاديانية وجاسوس الاستعمار والقائم على المجلة الناطقة باسم القاديانية، قدم ترجمة محرفة للقرآن الكريم إلى الإنجليزية. من مؤلفاته: حقيقة الاختلاف، النبوة في الإسلام على ما تقدم.

· محمد صادق: مفتي القاديانية، من مؤلفاته: خاتم النبيين.

· بشير أحمد بن الغلام: من مؤلفاته سيرة المهدي، كلمة الفصل.

· محمود أحمد بن الغلام وخليفته الثاني: من مؤلفاته أنوار الخلافة، تحفة الملوك، حقيقة النبوة.

· كان لتعيين ظفر الله خان القادياني كأول وزير للخارجية الباكستانية أثر كبير في دعم هذه الفرقة الضالة حيث خصص لها بقعة كبيرة في إقليم بنجاب لتكون مركزاً عالمياً لهذه الطائفة وسموها ربوة استعارة من نص الآية القرآنية (وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين) . [سورة المؤمنون، الآية: 50] .

 الأفكار والمعتقدات:

· بدأ غلام أحمد نشاطه كداعية إسلامي حتى يلتف حوله الأنصار ثم ادعى أنه مجدد ومُلْهَم من الله ثم تدرج خطوة أخرى فادعى أنه المهدي المنتظر والمسيح الموعود ثم ادعى النبوة وزعم أن نبوته أعلى وأرقى من نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

· يعتقد القاديانيون أن الله يصوم ويصلي وينام ويصحو ويكتب ويخطئ ويجامع ـ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ـ.

· يعتقد القادياني بأن إلهه إنجليزي لأنه يخاطبه بالإنجليزية!!!.

· تعتقد القاديانية بأن النبوة لم تختم بمحمد صلى الله عليه وسلم بل هي جارية، والله يرسل الرسول حسب الضرورة، وأن غلام أحمد هو أفضل الأنبياء جميعاً.

· يعتقدون أن جبريل عليه السلام كان ينزل على غلام أحمد وأنه كان يوحى إليه، وأن إلهاماته كالقرآن.

· يقولون لا قرآن إلا الذي قدمه المسيح الموعود (الغلام) ، ولا حديث إلا ما يكون في ضوء تعليماته، ولا نبي إلا تحت سيادة غلام أحمد.

· يعتقدون أن كتابهم منزل واسمه الكتاب المبين وهو غير القرآن الكريم.

· يعتقدون أنهم أصحاب دين جديد مستقل وشريعة مستقلة وأن رفاق الغلام كالصحابة.

· يعتقدون أن قاديان كالمدينة المنورة ومكة المكرمة بل وأفضل منهما وأرضها حرم وهي قبلتهم وإليها حجهم.

· نادوا بإلغاء عقيدة الجهاد كما طالبوا بالطاعة العمياء للحكومة الإنجليزية لأنها حسب زعمهم ولي الأمر بنص القرآن!!!.

· كل مسلم عندهم كافر حتى يدخل القاديانية: كما أن من تزوج أو زوج من غير القاديانيين فهو كافر.

· يبيحون الخمر والأفيون والمخدرات والمسكرات.

 الجذور الفكرية والعقائدية:

· كانت حركة سير سيد أحمد خان التغريبية قد مهدت لظهور القاديانية بما بثته من الأفكار المنحرفة.

· استغل الإنجليز هذه الظروف فصنعوا الحركة القاديانية واختاروا لها رجلاً من أسرة عريقة في العمالة.

· في عام 1953م قامت ثورة شعبية في باكستان طالبت بإقالة ظفر الله خان وزير الخارجية حينئذ واعتبار الطائفة القاديانية أقلية غير مسلمة، وقد استشهد فيها حوالي العشرة آلاف من المسلمين ونجحوا في إقالة الوزير القادياني.

· وفي شهر ربيع الأول 1394هـ‍ الموافق إبريل 1974م انعقد مؤتمر كبير برابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة وحضره ممثلون للمنظمات الإسلامية العالمية من جميع أنحاء العالم، وأعلن المؤتمر كفر هذه الطائفة وخروجها عن الإسلام، وطالب المسلمون بمقاومة خطرها وعدم التعامل مع القاديانيين وعدم دفن موتاهم في قبور المسلمين.

· قام مجلس الأمة في باكستان (البرلمان المركزي) بمناقشة زعيم الطائفة مرزا ناصر أحمد والرد عليه من قبل الشيخ مفتي محمود رحمه الله. وقد استمرت هذه المناقشة قرابة الثلاثين ساعة عجز فيها ناصر أحمد عن الأجوبة وانكشف النقاب عن كفر هذه الطائفة، فأصدر المجلس قراراً باعتبار القاديانية أقلية غير مسلمة.

· من موجبات كفر الميرزا غلام أحمد الآتي:

ـ ادعاؤه النبوة  .

ـ نسخه فريضة الجهاد خدمة للاستعمار

ـ إلغاؤه الحج إلى مكة وتحويله إلى قاديان.

ـ تشبيهه الله تعالى بالبشر.

ـ إيمانه بعقيدة التناسخ  والحلول .

ـ نسبته الولد إلى الله تعالى وادعاؤه أنه ابن الإله.

ـ إنكاره ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم وفتح بابها لكل من هبَّ ودبَّ.

· للقاديانية علاقات وطيدة مع إسرائيل وقد فتحت لهم إسرائيل المراكز والمدارس ومكنتهم من إصدار مجلة تنطق باسمهم وطبع الكتب والنشرات لتوزيعها في العالم.

· تأثرهم بالمسيحية واليهودية والحركات الباطنية  واضح في عقائدهم وسلوكهم رغم ادعائهم الإسلام ظاهرياً.

 الانتشار ومواقع النفوذ:

· معظم القاديانيين يعيشون الآن في الهند وباكستان وقليل منهم في إسرائيل والعالم العربي ويسعون بمساعدة الاستعمار للحصول على المراكز الحساسة في كل بلد يستقرون فيه.

· وللقاديانيين نشاط كبير في أفريقيا، وفي بعض الدول الغربية، ولهم في أفريقيا وحدها ما يزيد عن خمسة آلاف مرشد وداعية متفرغين لدعوة الناس إلى القاديانية، ونشاطهم الواسع يؤكد دعم الجهات الاستعمارية لهم.

· هذا وتحتضن الحكومة الإنجليزية هذا المذهب وتسهل لأتباعه التوظف بالدوائر الحكومية العالمية في إدارة الشركات والمفوضيات وتتخذ منهم ضباطاً من رتب عالية في مخابراتها السرية.

· نشط القاديانيون في الدعوة إلى مذهبهم بكافة الوسائل، وخصوصاً الثقافية منها حيث أنهم مثقفون ولديهم كثير من العلماء والمهندسين والأطباء. ويوجد في بريطانيا قناة فضائية باسم التلفزيون الإسلامي يديرها القاديانية.

 ويتضح مما سبق:

أن القاديانية دعوة ضالة، ليست من الإسلام في شيء، وعقيدتها تخالف الإسلام في كل شيء، وينبغي تحذير المسلمين من نشاطهم، بعد أن أفتى علماء الإسلام بكفرهم.


 العقلانية

 التعريف:

العقلانية مذهب فكري يزعم أنه يمكن الوصول إلى معرفة طبيعة الكون والوجود عن طريق الاستدلال العقلي بدون الاستناد إلى الوحي الإلهي أو التجربة البشرية وكذلك يرى إخضاع كل شيء في الوجود للعقل لإثباته أو نفيه أو تحديد خصائصه.

ويحاول المذهب إثبات وجود الأفكار في عقل الإنسان قبل أن يستمدها من التجربة العملية الحياتية أي أن الإدراك العقلي المجرد سابق على الإدراك المادي المجسد.

 التأسيس وأبرز الشخصيات:

العقلانية مذهب قديم جديد بنفس الوقت. برز في الفلسفة اليونانية على يد سقراط وأرسطو، وبرز في الفلسفة الحديثة والمعاصرة على أيدي فلاسفة أثَّروا كثيراً في الفكر البشري أمثال: ديكارت وليبنتز وسبينوزا وغيرهم.

رينيه ديكارت 1596- 1650م فيلسوف فرنسي اعتمد المنهج العقلي لإثبات الوجود عامة ووجود الله على وجه أخص وذلك من مقدمة واحدة عُدت من الناحية العقلية غير قابلة للشك وهي: "أنا أفكر فأنا إذن موجود".

ليبنتز: 1646- 1716م فيلسوف ألماني، قال بأن كل موجود حي وليس بين الموجودات مِنْ تفاوت في الحياة إلا بالدرجة- درجة تميز الإدراك- والدرجات أربع: مطلق الحي أي ما يسمى جماداً، والنبات فالحيوان فالإنسان.

وفي المجتمع الإسلامي نجد المعتزلة تقترب من العقلانية جزئيًّا، إذ اعتمدوا على العقل وجعلوه أساس تفكيرهم ودفعهم هذا المنهج إلى تأويل النصوص من الكتاب والسنة التي تخالف رأيهم. ولعل أهم مقولة لهم قولهم بسلطة العقل وقدرته على معرفة الحسن والقبيح ولو لم يرد بها شيء. ونقل المعتزلة الدين إلى مجموعة من القضايا العقلية والبراهين المنطقية وذلك لتأثرهم بالفلسفة اليونانية.

وقد فنَّد علماء الإسلام آراء المعتزلة في عصرهم، ومنهم الإمام أحمد بن حنبل ثم جاء بعد ذلك ابن تيمية وردَّ عليهم ردًّا قويًّا في كتابه "درء تعارض العقل والنقل" وبيّن أن صريح العقل لا يمكن أن يكون مخالفاً لصحيح النقل. وهناك من يحاول اليوم إحياء فكر المعتزلة إذ يعدونهم أهل الحرية الفكرية في الإسلام، ولا يخفى ما وراء هذه الدعوة من حرب على العقيدة الإسلامية الصحيحة، وإن لبست ثوب التجديد في الإسلام أحياناً.

 العقائد والأفكار:

تعتمد العقلانية على عدد من المبادئ الأساسية هي:

-    العقل- لا الوحي- هو المرجع الوحيد في تفسير كل شيء في الوجود.

-    يمكن الوصول إلى المعرفة عن طريق الاستدلال العقلي وبدون لجوء إلى أية مقدمات تجريبية.

-    عدم الإيمان بالمعجزات  أو خوارق العادات.

-    العقائد الدينية ينبغي أن تختبر بمعيار عقلي.

 الجذور الفكرية والعقائدية:

كانت العقلانية اليونانية لوناً من عبادة العقل وتأليهه وإعطائه حجماً أكبر بكثير من حقيقته. كما كانت في الوقت نفسه لوناً من تحويل الوجد إلى قضايا تجريدية.

وفي القرون الوسطى سيطرت الكنيسة على الفلسفة الأوروبية، حيث سخَّرت العقل لإخراج تحريفها للوحي  الإلهي في فلسفة عقلية مسلَّمة لا يقبل مناقشتها.

وفي ظل الإرهاب الفكري الذي مارسته الكنيسة انكمش نشاط العقل الأوروبي، وانحصر فيما تمليه الكنيسة والمجامع المقدسة، واستمرت على ذلك عشرة قرون.

وفي عصر النهضة ، ونتيجة احتكاك أوروبا بالمسلمين في الحروب الصليبية والاتصال بمراكز الثقافة في الأندلس وصقلية والشمال الإفريقي أصبح العقل الأوربي في شوق شديد لاسترداد حريته في التفكير، ولكنه عاد إلى الجاهلية الإغريقية ونفر من الدين الكنسي، وسخَّر العقل  للبعد عن الله، وأصبح التفكير الحر معناه الإلحاد ، وذلك أن التفكير الديني معناه عندهم الخضوع للفقيد الذي قيدت به الكنيسة العقل وحجرت عليه أن يفكر.

 يتضح مما سبق:

أن العقلانية مذهب فكري فلسفي يزعم أن الاستدلال العقلي هو الطريق الوحيد للوصول إلى معرفة طبيعة الكون والوجود، بدون الاستناد إلى الوحي الإلهي أو التجربة البشرية، وأنه لا مجال للإيمان بالمعجزات أو خوارق العادات، كما أن العقائد الدينية يمكن، بل ينبغي أن تختبر بمعيار عقلي، وهنا تكمن علله التي تجعله مناوئاً ليس فقط للفكر الإسلامي، بل أيضاً لكل دين سماوي صحيح.