وجازة الفوائد العقدية في شرح اللامية (⮫)


 وجازة الفوائد العقدية في شرح اللامية

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

إن من نِعمِ الله على عبده أن يُيسِّر له البحث في بعض مسائل العقيدة، وتأتي "اللامية" المنسوبة لشيخ الإسلام ابن تيميّة ضمن المنظومات التي عُنِيت بمسائل العقيدة، وتناولتْ عقيدة أهل السنّة والجماعة في أصحاب النبي  صلى الله غليه وسلم وفي آيات الصفات ورؤية المؤمنين لربهم في الآخرة، وتناولتْ أمور المعاد والقبر، والحوض والميزان والصراط، والجنة والنار، وقد يسّر الله لي شرح أبياتها في جهد مُتواضِع، أسميتها (وجازة الفوائد العقدية في شرح اللامية)، وقام أحد الإخوة بطباعتها، أسأل الله أن يجزيه خيرًا، وأن يغفر له ولوالديه، وأسأل الله أن يُعلِّمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علّمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.


 القصيدة اللامية المنسوبة لشيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن عبدالحليم ابن تيميّة الحراني

1- يا سائِلي عنْ مذْهبِي وعقِيدتِي = رُزِق الْهُدى منْ لِلْهِدايةِ يسْألُ

2- اسْمعْ كلام مُحقِّقٍ فِي قولِهِ = لا ينْثنِي عنْهُ ولا يتبدّلُ

3- حُبُّ "الصّحابةِ" كُلِّهِمْ لِي مذْهبٌ = ومودّةُ القُرْبى بِها أتوسّلُ

4- ولِكُلِّهِمْ قدْرٌ علا وفضائلٌ = لكِنّما "الصِّدِّيقُ" مِنْهُمْ أفْضلُ 5- وأقُولُ فِي "الْقُرْآنِ" ما جاءتْ بِهِ = آياتُهُ فهُو الْكرِيمُ الْمُنْزلُ 6- وأقُولُ قال اللهُ جلّ جلالُهُ = و"الْمُصْطفى" الْهادِي ولا أتأوّلُ 7- وجمِيعُ "آياتِ الصِّفاتِ" أُمِرُّها = حقًّا كما نقل الطِّرازُ الأوّلُ

8- وأرُدُّ عُهْدتها إِلى نُقّالِها = وأصُونُها عنْ كُلِّ ما يُتخيّلُ 9- قُبْحًا لِمنْ نبذ "القُران" وراءهُ = وإِذا اسْتدلّ يقُولُ قال "الأخْطلُ" 10- والْمُؤْمِنُون "يروْن" حقًّا ربّهُمْ = وإلى السّماءِ بِغيْرِ كيْفٍ "ينْزِلُ" 11- وأُقِرُّ بِـ"الْمِيزانِ" و"الْحوْضِ" الّذِي = أرْجُو بِأنِّي مِنْهُ رِيًّا أنْهلُ 12- وكذا "الصِّراطُ" يُمدُّ فوْق جهنّمٍ = فمُسلّمٌ ناجٍ وآخرُ مُهْملُ 13- و"النّارُ" يصْلاها الشّقِيُّ بِحِكْمةٍ = وكذا التّقِيُّ إِلى "الجِنانِ" سيدْخُلُ 14- ولِكُلِّ حيٍّ عاقِلٍ فِي قبْرِهِ = عملٌ يُقارِنُهُ هُناك ويُسْألُ

15- هذا اعْتِقادُ "الشّافِعِيِّ" و"مالِكٍ" = و"أبِي حنِيفة" ثُمّ "أحْمد" يُنْقلُ 16- فإِنِ اتّبعْت سبِيلهُمْ فمُوفّقٌ = وإِنِ ابْتدعْت فما عليْك مُعوّلُ

انتهت بحمد الله - عزّ وجلّ.


 ترجمة مختصرة لشيخ الإسلام ابن تيميّة

 اسمه:

هو علمٌ على رأسه نارٌ ونورٌ، الشيخ الإمام، العالِم الحبر الجهبذ، وحيد عصره، وفريد دهره، شيخ الإسلام، أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن عبدالله بن أبي القاسم بن تيميّة الحرّاني.

 مولده:

وُلِد في حرّان - بلد في شمال العراق - يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل سنة 661هـ.

 نشأته ومكانته العلمية:

لأسرةِ ابن تيميّة شهرة علميّة؛ فجدُّه عبدالسلام بن عبدالله كان إمامًا من أئمّة الحنابلة ومشهورًا بالعلم، ووالده عبدالحليم كان من العُلماء المشهورين، فنشأ شيخ الإسلام في بيئة علميّة، وترعرع في بيت والده في دمشق، حفظ القرآن عن ظهر قلب، وأقبل على العلوم الشرعية واللغوية حتى أتقن تعلُّمها وهو ابن بضع عشرة سنة، فبهر العُلماء بذكائه وقوّة حفظه، حتى رأوا أنه أهلٌ للفتوى؛ فأجازه العُلماء وهو في سنِّ الحادية عشرة، درس وطالع وبحث في مختلف العلوم؛ كالفلك والرياضيات والجغرافيا والطب، وكان أعلم بمذاهب أهل الباطل من أهل الباطل أنفسِهم، فتصدّى للفلاسفة والباطنية، والملاحِدة والجهمية، والمعتزلة والأشاعرة.

قال عنه الحافظ المزي: "ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه".

وقال عنه تلميذه الذهبي: "شيخنا وشيخ الإسلام وفريد العصر علمًا ومعرفةً، وشجاعةً وذكاءً، وكرمًا ونصحًا للأمّة، وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر".

وقال الشيخ عماد الدين الواسِطيُّ: "والله ثم والله ثم والله لم يُر تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تيميّة؛ علمًا وعملاً، وحالاً وخلقًا، واتِّباعًا وكرمًا، وحلمًا وقيامًا في حقِّ الله عند انتهاك حرماته..."، وكان يتكلّم العبرية أيضًا.

 شيوخه:

حكى البرزالي: "أن شيوخه أكثر من مائة شيخ"، وقال تلميذه ابن عبدالهادي: "وبلغ عدد شيوخه أكثر من مائتي شيخ"، ومنهم شمس الدين عبدالرحمن بن قدامة المقدسي، وكذلك أمين الدين عبدالصمد بن عساكر الدمشقي، وشمس الدين بن بدران المرداوي.

 تلاميذه:

كثيرٌ، ومن أشهرهم شيخ الإسلام ابن قيِّم الجوزية، والحافظ الذهبي، والفقيه ابن وردي، وابن عبدالهادي، وشمس الدين بن مُفْلِح صاحب كتاب "الفروع".

 مؤلفاته:

ألّف كثيرًا من المؤلّفات، ولو قُسِّمت على أيّام حياته لكان نصيب كلِّ يومٍ سبع عشرة ورقة، فهو من المُكثِرين من التصنيف، ومن أبرزها: "العقيدة الواسطية"، و"الفتوى الحموية"، وكتاب "السياسة الشرعية"، و"منهاج السنة"، وغيرها كثير، ويقول الذهبي: "جمعتُ مصنّفات شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيميّة فوجدتها ألف مصنّف، ثم له مُصنّفات أُخر"، وله من الفتاوى والأجوبة ما لا ينضبط عددها، وقد كتب لسائلٍ يسأل عن فتوى، فكتب له في مائتين وثلاثين صفحة، وقال: "كتبتها وصاحبها مُستوفِز يُرِيدها".

وأمّا هذه القصيدة اللاميّة التي بين أيدينا فاختُلِف في نسبتها لشيخ الإسلام ابن تيميّة على قولين: منهم من نسبها له؛ لأنها وُجِدت ضمن مخطوطاته، ومنهم من نفاها عنه؛ ولذا بعضهم يقول: المنسوبة لشيخ الإسلام ابن تيميّة، والخلاف هنا لا يضرُّ ما دام أن ما فيها حقٌّ، وحوتْ مسائل في الاعتقاد اتّفق عليها العُلماء، فهي منظومة ثمِينة على اختصارها.

 محنته:

لقد كثرت الافتراءات على شيخ الإسلام من أعدائه من الصوفيّة وأهل الكلام والمبتدِعة، حتى حُبِس في الشام وفي القاهرة وفي الإسكندرية، وتُوُفِّي في أحد تلك السجون، وسُجِن وأُوذِي وصبر، وقال كلمته المشهورة: "ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنّتي وبستاني في صدري أنّى رحتُ فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة"، وكان يقول: "المحبوس من حُبِس قلبه عن ربِّه، والمأسور من أسره هواه".

وكان ممّن قاتل ضدّ التتار عندما أرادوا غزو دمشق سنة 702هـ.

 وفاته:

تُوفِّي شيخ الإسلام ابن تيميّة وهو سجِين في قلعة دمشق في شهر ذي القعدة سنة 728 للهجرة وعمره 67 عامًا، وقد حضر جنازته ما بين 60 ألفًا إلى 65 ألفًا من الناس، حزِن على فراقه الرجال والنساء والأطفال، وقال أهل التاريخ: لم يُسمع عن جنازة فيها مثل هذا الجمع إلا جنازة الإمام أحمد بن حنبل.

وشيخ الإسلام لم يتزوّج لاشتغاله بالعلم، ويُقال: أنه اتّخذ سرية يتسرّى بها ثم تركها.

* * *


 - قال المصنف رحمه الله:

1- يا سائِلي عنْ مذْهبِي وعقِيدتِي = رُزِق الْهُدى منْ لِلْهِدايةِ يسْألُ

2- اسْمعْ كلام مُحقِّقٍ فِي قولِهِ = لا ينْثنِي عنْهُ ولا يتبدّلُ

 - لغة البيتين:

- (سائلي): سؤال هداية واسترشاد، والسائل قد يسأل طعامًا ونحوه، وقد يسأل علمًا، وهنا يسأل ويستفسِر عن العلم.

- (مذهبي): مأخوذة من ذهب؛ أي: مضى، والمقصود: ما أذهب وأمِيل إليه بقلبي واعتقادي.

- (عقيدتي): العقيدة في اللغة: مأخوذة من العقْدِ وهو ربط الشيء، واعتقدت كذا عقدت عليه القلب والضمير، والعقيدة ما يدين به الإنسان، وسيأتي معناها شرعًا - بإذن الله.

- (مُحقِّق)؛ أي: في دينه لا يعترِيه شكٌّ ولا رجوع عمّا اعتقده.

- (في قوله): القول له عِدّة معانٍ، وهنا معناه الاعتقاد؛ أي: في اعتقاده.

- (لا ينثني)؛ أي: لا يرجع عنه.

 - الفوائد:

- يجب إجابة السائل إن كان يسأل عن العلم، والمسؤول يملك إجابتها، ولا يُوجد مانع يمنعه؛ قال - تعالى -: ﴿وإِذْ أخذ اللهُ مِيثاق الّذِين أُوتُوا الْكِتاب لتُبيِّنُنّهُ لِلنّاسِ ولا تكْتُمُونهُ فنبذُوهُ وراء ظُهُورِهِمْ واشْتروْا بِهِ ثمنًا قلِيلاً فبِئْس ما يشْترُون﴾ [آل عمران: 187].

وقال - تعالى -: ﴿إِنّ الّذِين يكْتُمُون ما أنْزلْنا مِن الْبيِّناتِ والْهُدى مِنْ بعْدِ ما بيّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِك يلْعنُهُمُ اللهُ ويلْعنُهُمُ اللاّعِنُون * إِلاّ الّذِين تابُوا وأصْلحُوا وبيّنُوا فأُولئِك أتُوبُ عليْهِمْ وأنا التّوّابُ الرّحِيمُ﴾ [البقرة: 159- 160].

وعن أبي هريرة - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله  صلى الله غليه وسلم: ((من سُئِل عن علمٍ فكتمه ألجمه الله بلجامٍ من نار يوم القيامة))؛ رواه أبو داود والترمذي، والسؤال في قول الناظم هو سؤال علم.

- (عن مذهبي): مذهب شيخ الإسلام - رحمه الله -: نشأ حنبليًّا؛ فجدُّه أبو البركات مجد الدين من كبار أئمّة الحنابلة، ووالده كذلك، وأخوه أبو محمد شرف الدين، ولكن شيخ الإسلام ترك الالتزام بالمذهب وأخذ بالدليل.

قال الذهبي: "وله الآن عِدّة سنين لا يُفتِي بمذهب معيّن، بل بما قام الدليل عليه عنده".

- (وعقيدتي): العقيدة في الشرع: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، وتسمى هذه الستّة أركان الإيمان، فلا بُدّ من الإيمان بها وبما يتبعها من الأمور الاعتقادية إيمانًا جازمًا لا يُخالِطه شك.

- العقيدة توقيفيّة فلا تثبت إلا بدليلٍ من الشارع، ولا مجال للرأي والاجتهاد فيها؛ ولذا يجب أن تُؤخذ من الكتاب والسنّة فقط؛ ولذا كان السلف الصالح يؤمنون ويعتقدون ويعملون بما دلّ عليه الكتاب والسنّة وإلا فلا، ولهذا لم يحصل بينهم اختلافٌ في المُعتقد، فحصل لهم من القوّة واجتماع الكلمة ما لم يكن في عصرٍ آخر غير عصرهم، ولذا لِمّا غيّر من بعدهم أصابهم التفرُّق والاختلاف والتشتُّت والضّياع فيما بينهم، والانحراف عن العقيدة الإسلامية (بسبب الغلوِّ بالصالحين وتقليد المنحرِفين من الفِرق الضالّة؛ كالجهمية والصوفية والأشاعرة، وعدم التحرُّز من نواقِض العقيدة وعدم المُدافعة عنها، وتعصُّب لما كان عليه الآباء والأجداد من جهل وانحراف في العقيدة)، وأصابهُم أيضًا نزْعٌ في البركة في حياتهم وخيراتهم وحيرة وشكوك للفرد، ووساوس وهموم وغموم؛ ممّا يُورِث الضعف والوهن في النفوس، فينشأ المجتمع ضعيفًا مُعرّضًا للهلاك والدمار، وهذا كله بسبب عدم الأخذ من الكتاب والسنّة فقط.

قال ابن القيِّم - رحمه الله -:

يا منْ يُرِيدُ نجاتهُ يوْم الْحِسا = بِ مِن الْجحِيمِ وموْقِدِ النِّيرانِ

اتْبعْ رسُول اللهِ فِي الْأقْوالِ والْـ = ـأعْمالِ لا تخْرُجْ عنِ الْقُرْآنِ

وخُذِ الصّحِيحيْنِ اللّذيْنِ هُما لِعِقْـ = ـدِ الدِّينِ والْإِيمانِ واسِطتانِ

واقْرأْهُما بعْد التّجرُّدِ مِنْ هوًى = وتعصُّبٍ وحمِيّةِ الشّيْطانِ

واجْعلْهُما حكمًا ولا تحْكُمْ على = ما فِيهِما أصْلاً بِقوْلِ فُلانِ

- (رُزِق الهدى): هذه دعوة صالحة يُرجى فيها أمران: الرزق للمدعوِّ له، خصوصًا وأنها بظهر الغيب، والأجر من الله للداعي؛ كما جاء في حديث أمِّ الدرداء وأبي الدرداء أن النبي  صلى الله غليه وسلم قال: ((دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مُستجابة عند رأسه ملكٌ مُوكّل كلّما دعا لأخيه بخيرٍ قال الملك المُوكّل: آمِين، ولك بمثل))؛ رواه مسلم.

 - هداية الله للإنسان على أربعة أوجه:

- الهداية التي تعمُّ كلّ مكلّف من العقل والفطنة ومعرفة الأشياء.

- الهداية التي جعل الله للناس على ألسنة الأنبياء وإنزال القرآن ونحو ذلك.

- التوفيق الذي يختصُّ به من اهتدى.

- الهداية في الآخرة إلى الجنة.

وكل هذه الأنواع الأربعة لا تخرج عن نوعين هما:

- دلالة إرشاد.

- دلالة توفيق وإلهام.

- (من للهداية يسأل): هنا السائل يسأل علمًا كما سبق، وأجابه الشيخ وزاده بأنْ دعا له ولغيرِه، والأصل أن يأتي الجواب على قدر السؤال، ولكن قد يأتي هكذا للحاجة كما في قوله - تعالى -: ﴿وما تِلْك بِيمِينِك يا مُوسى * قال هِي عصاي أتوكّأُ عليْها وأهُشُّ بِها على غنمِي ولِي فِيها مآرِبُ أُخْرى﴾ [طه: 17- 18].

وكما جاء في حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه - لمّا سُئِل النبي  صلى الله غليه وسلم عن طهوريّة ماء البحر قال: ((هو الطهور ماؤه الحلُّ ميتته))؛ رواه أصحاب السنن.

قال الإمام القرطبي عند قوله - تعالى -: ﴿وقُلْ ربِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114]: لو كان شيء أفضل من العلم لأمر الله نبيّه بالاستزادة منه؛ فدلّ عن أن العلم أفضل شيء.

- أراد الناظم في البيت الثاني أن يبيِّن أنّ من وصل إلى الاعتقاد الصحيح فإنه لن يرجع عنه ولن يتبدّل، وهذا هو مذهب السّلف وأهل الاعتقاد الصحيح.

* * *

- قال المصنف - رحمه الله -:

3- حُبُّ "الصّحابةِ" كُلِّهِمْ لِي مذْهبٌ = ومودّةُ القُرْبى بِها أتوسّلُ

4- ولِكُلِّهِمْ قدْرٌ علا وفضائلٌ = لكِنّما "الصِّدِّيقُ" مِنْهُمْ أفْضلُ

 - لغة البيتين:

(الصحابة): الصحابيُّ: هو من لقِي النبي  صلى الله غليه وسلم مؤمنًا به ومات على ذلك.

(القربى): قرابة رسول الله  صلى الله غليه وسلم وهم أهل بيت رسول الله  صلى الله غليه وسلم وهم الذين حرمت عليهم الصدقة، وهم آل علي وآل جعفر، وآل عقيل وآل العباس، وبنو الحارث بن عبدالمطلب؛ لقوله  صلى الله غليه وسلم: ((إنهم لم يفارِقُونا في جاهلية وإسلام))؛ رواه النسائي، وأزواج النبي  صلى الله غليه وسلم وبناته؛ لقوله - تعالى -: ﴿واذْكُرْن ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنّ مِنْ آياتِ اللهِ والْحِكْمةِ إِنّ الله كان لطِيفًا خبِيرًا﴾ [الأحزاب: 34].

(أتوسّل): التوسُّل: التقرُّب إلى الشيء، والوسيلة هي الطريقة والقربة أيضًا؛ قال - تعالى -: ﴿يا أيُّها الّذِين آمنُوا اتّقُوا الله وابْتغُوا إِليْهِ الْوسِيلة وجاهِدُوا فِي سبِيلِهِ لعلّكُمْ تُفْلِحُون﴾ [المائدة: 35].

(الصديق)؛ يعني: أبا بكر - رضِي الله عنه - واسمه عبدالله بن عثمان بن أبي قحافة.

 - الفوائد:

- قال المرداوي في "اللآلئ البهيّة": "لمّا كانت مسألة حبِّ الصحابة من أهمِّ مسائل الاعتقاد وهي أمرٌ مُجمع عليه عند أهل السنّة والجماعة لسابقتهم في الإسلام، والكتاب والسنّة مملوءان من الثناء عليهم - ابتدأ بهم".

- تفاضُل الصحابة، وهم على النحو التالي:

- الخلفاء الأربعة أفضل الصحابة؛ وهم:

 - أبو بكر:

عبدالله بن عثمان الصديق - رضِي الله عنه - قال - تعالى -: ﴿والّذِي جاء بِالصِّدْقِ وصدّق بِهِ أُولئِك هُمُ الْمُتّقُون﴾ [الزمر: 33]، وعن أبي الدرداء - رضِي الله عنه - أن النبي  صلى الله غليه وسلم قال: ((هل أنتم تاركو لي صاحبي، إني قلت: يا أيها الناس، إني رسول الله إليكم جميعًا، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت))؛ رواه البخاري.

مناقِبه في الإسلام كثيرة جدًّا، وكان رئيسًا في الجاهلية، وكان إليه معرفة الأنساب وتأويل الرؤيا، وأسلم على يديه جماعةٌ منهم خمسة مُبشّرون بالجنة؛ وهم: عثمان، والزبير، وطلحة بن عبيدالله، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأعتق أعْبُدًا من المشركين يعذِّبونهم ومنهم بلال بن رباح، وحثّ النبيُّ  صلى الله غليه وسلم على الصدقة فجاء بكلِّ ماله، خلافتُه سنتان وتُوُفِّي عن ثلاثٍ وستِّين سنة في سنة ثلاث عشرة للهجرة.

 - عمر بن الخطاب:

الفاروق أبو حفص - رضِي الله عنه - قال  صلى الله غليه وسلم: ((لقد كان فيمن قبلكم من الأُمم ناسٌ مُحدّثُون، فإن يكُ في أمّتي أحدٌ فإنه عمر))؛ رواه البخاري عن أبي هريرة، (مُحدّثون؛ أي: مُلهمون).

وعن سعد بن أبي وقاص - رضِي الله عنْه - قال: قال رسول الله  صلى الله غليه وسلم: ((إيهًا يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكًا فجًّا قطُّ إلا سلك فجًّا غير فجِّك))؛ متفق عليه.

ومناقِبه في الإسلام كثيرة شهيرة، قُتِل لأربعٍ بقين من ذي الحجة سنة ثلاثٍ وعشرين للهجرة عن ثلاثٍ وستين سنة، طعنه أبو لؤلؤة المجوسي في صلاة الصبح.

 - عثمان بن عفّان:

ذو النورين سُمِّي بذلك لأنه تزوّج بنتي الرسول  صلى الله غليه وسلم رقيّة وأم كلثوم - رضِي الله عنهما - قال العُلماء: لا يُعرف أحدٌ تزوّج بنتي نبيٍّ غيره.

وفي الحديث المتفق عليه عن عائشة - رضِي الله عنْها - أن النبي  صلى الله غليه وسلم جمع ثيابه حين دخل عثمان - رضِي الله عنْه - وقال: ((ألا أستحي من رجلٍ تستحي منه الملائكة))، ولمّا جهّز جيش العسرة في غزوة تبوكٍ بألف بعير وخمسين فرسًا، عليها أقتابها وأحلاسها، وعشرة آلاف دينار، قال  صلى الله غليه وسلم: ((ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم...)) مرّتين؛ رواه الترمذي.

قُتِل - رضِي الله عنْه وأرضاه - والمصحف بين يديه ثاني أيام التشريق في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين للهجرة النبوية.

 - علي بن أبي طالب:

أبو السبطين (سيدي شباب الجنة، الحسن والحسين) صِهْرُ رسول الله  صلى الله غليه وسلم تزوّج فاطمة الزهراء البتُول ابنته، حمل اللواء في كثيرٍ من الحروب، وقال  صلى الله غليه وسلم: ((أما ترضى أن تكون مِنِّي بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبيّ بعدي))؛ رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص.

وعن سهل بن سعد أن النبي  صلى الله غليه وسلم قال: ((لأُعطِينّ الراية غدًا رجلاً يفتح الله على يديه، يحبُّ الله ورسوله، ويحبُّهُ اللهُ ورسولهُ))، فلمّا أصبح أعطاها عليًّا؛ رواه البخاري ومسلم.

وهو أوّل من أسلم من الصبيان، وقتله عبدالرحمن بن مُلجم الخارجي صبِيحة يوم الجمعة وهو خارِجٌ لصلاة الفجر في التاسع عشر من رمضان سنة أربعين للهجرة وعمره ثلاث وستون سنة.

- وأبو بكر أفضل الأربعة، ثم على الترتيب عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم بقيّة العشرة، وهم: طلحة بن عُبيدالله، والزبير بن العوام، وعبدالرحمن بن عوف، وأبو عبيدة عامر بن الجرّاح، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد - رضِي الله عنهم وأرضاهم.

قال اللقاني (أحد شيوخ المالكية) في "شرح جوهرة التوحيد": "أفضلُ الصحابة أهلُ الحديبية، وأفضل أهل الحديبية أهلُ أحد، وأفضلُ أهل أحدٍ أهلُ بدر، وأفضلُ أهل بدر العشرةُ، وأفضلُ العشرة الخلفاءُ الأربعة، وأفضلُ الأربعة أبو بكر الصديق - رضي الله عنهم أجمعين".

- أهل السنّة والجماعة يُقِرُّون بأن خير هذه الأمّة أبو بكر ثم عمر، وهذا ثابت بالنص والإجماع، ويُثلِّثون بعثمان، ويُربِّعون بعلي - رضي الله عنهم أجمعين - ويتبرّؤون من طريقة الرّوافِض الذين يُبغِضون الصحابة ويسبُّونهم، ومن طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل.

- وأهل السنّة والجماعة يُمسِكون عمّا شجر بين الصحابة ويقولون: إن هذه الآثار المرويّة في مساوئهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زِيد فيه ونقص، وغُيِّر عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون، إمّا مُجتهِدون مُصِيبون، وإمّا مُجتهِدون مُخطِئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كلّ واحدٍ من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يُوجِب مغفرة ما يصدر عنهم إن صدر، حتى إنهم يُغفر لهم من السيِّئات ما لا يُغفر لِمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيِّئات ما ليس لِمن بعدهم، وقد ثبت هذا بقول رسول الله  صلى الله غليه وسلم أنهم خير القرون، وأن المُدّ من أحدهم إذا تصدّق به كان أفضل من جبلِ أُحُدٍ ذهبًا ممّن بعدهم؛ كما جاء في "صحيح البخاري" ومسلم من حديث ابن مسعود.

روي عن عبدالله بن عمر - رضِي الله عنه - قال: "كُنّا نقول والنبي  صلى الله غليه وسلم حيٌّ: أفضل هذه الأمّة بعد نبيِّها أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، فيبلغ ذلك النبيّ  صلى الله غليه وسلم فلا يُنكِره"؛ رواه الترمذي.

وجاء معناه عند البخاري في الفضائل، وجاء عند أحمد في "المسند" أنّ عليًّا قال: "خير هذه الأمّة بعد نبيِّها أبو بكر ثم عمر، ولو شئت لسمّيت الثالث".

قال الذهبي في "لوامع الأنوار" (2/ 312): "وهذا متواتر عن عليٍّ - رضِي الله عنْه - فلعنة الله على الرافضة ما أجهلهُم".

- ويجب السكوت عمّا شجر بين الصحابة من المخالفة والحروب والفِتن التي جرتْ بعد قتل عثمان بإجماع أهل الحلِّ والعقد الذين يُعتدُّ بإجماعهم، وما أجمل ما قاله إمامُ أهل السنّة أحمد بن حنبل - رحمه الله - وقد سُئِل عن الفِتن أيّام الصحابة فقال تاليًا قول الله - عزّ وجلّ -: ﴿تِلْك أُمّةٌ قدْ خلتْ لها ما كسبتْ ولكُمْ ما كسبْتُمْ ولا تُسْألُون عمّا كانُوا يعْملُون﴾ [البقرة: 134].

- ترتيب الخُلفاء الأربعة في الخلافة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، بلا خلاف - رضي الله عنهم أجمعين - وكذلك ترتيبهم في الأفضليّة أبو بكر ثم عمر بلا خلاف عند أهل السنّة، واختلفوا في الثالث على قولين:

القول الأول: أن عثمان أفضل من عليٍّ، وهو قول جمهور أهل السنّة؛ لِما يلي:

- أن عثمان من المهاجرين الأوّلين.

- أنه هاجر إلى الحبشة.

- أنه تزوّج بنتين من بنات النبي  صلى الله غليه وسلم حتى قِيل: لم يكن هناك أحدٌ من الدنيا تزوّج بنتي نبيٍّ إلا عثمان - رضي الله عنه.

- جهّز جيش العسرة على نفقته الخاصة.

- اشترى بئر روميّة من اليهود وجعله سبيلاً للمسلمين، إلى غير ذلك من فضائله الكثيرة.

والقول الثاني: وهو قول فريقٍ من أهل السنة وهم قليل: يُثلِّثون بعليٍّ ثم عثمان في الأفضلية لا في الخلافة؛ لما يلي:

- أنه قريب النبي  صلى الله غليه وسلم ويجتمع معه في الجد الأوّل عبدالمطلب، بخلاف عثمان فإنه يجتمع معه في الجد الرابع عبدمناف.

- قال فيه النبي  صلى الله غليه وسلم: ((أما ترضى أن تكون مِنِّي بمنزلة هارون من موسى))، إلى غير ذلك من فضائله الكثيرة - رضي الله عنه.

والصحيح أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، وينبغي التفريقُ بين مسألة الخلافة وبين مسألة التفضيل، فالخلافة ليس هناك خلافٌ في ترتيبهم، ومن قدّم عليًّا على عثمان في الخلافة فهو مُبتدِع، وأمّا الأفضليّة فهي مسألة اجتهادية، وسبق قول الجمهور فيها.

- توسّل الناظم بمحبّة قرابة النبي  صلى الله غليه وسلم لأن محبّتهم قربة لله - عزّ وجلّ - فهي من الأعمال الصالحة، وهذا من التوسُّل المشروع كما في قصّة الثلاثة الذين انطبقت على غارهم صخرة، وستأتي، ولا يُفهم من توسُّل الناظم أنه توسّل بذوات أصحاب النبي  صلى الله غليه وسلم ولا بجاههم ولا بحقهم؛ لأن هذا توسُّل ممنوع، وسيأتي.

- التوسُّل نوعان: توسُّل مشروع، وتوسُّل ممنوع.

 أ- أنواع التوسُّل المشروع:

- التوسُّل بتوحيد الله - عزّ وجلّ -: كما في قول يونس - عليه السلام -: ﴿فنادى فِي الظُّلُماتِ أنْ لا إِله إِلاّ أنْت سُبْحانك إِنِّي كُنْتُ مِن الظّالِمِين﴾ [الأنبياء: 87].

- التوسُّل بالأسماء والصفات؛ قال - تعالى -: ﴿ولِلّهِ الأسْماءُ الْحُسْنى فادْعُوهُ بِها﴾ [الأعراف: 180]، وفي الحديث: ((يا حيُّ يا قيومُ، برحمتك أستغيث...))، وهذا كان يقوله النبي  صلى الله غليه وسلم إذا كربه أمرٌ كما جاء عند الترمذي من حديث أنس - رضِي الله عنه.

- التوسُّل لله بالأعمال الصالحة كما في قصّة الثلاثة الذين انطبقتْ عليهم الصخرة فتوسّلوا بصالح أعمالهم ففرّج الله عنهم، ومنه توسُّل الناظم بقوله: "ومودة القربى بها أتوسّل".

- التوسُّل بإظهار الضعف والفقر والحاجة؛ كما قال أيوب: ﴿وأيُّوب إِذْ نادى ربّهُ أنِّي مسّنِي الضُّرُّ وأنْت أرْحمُ الرّاحِمِين﴾ [الأنبياء: 83].

- التوسُّل بالاعتراف بالذنوب والخطايا وإظهار التوبة والإنابة؛ قال - تعالى -: ﴿قال ربِّ إِنِّي ظلمْتُ نفْسِي فاغْفِرْ لِي﴾ [القصص: 16].

- التوسُّل بدعاء الصالحين كما فعل عمر - رضِي الله عنْه - حينما طلب من العباس - رضِي الله عنْه - الدعاء وخرج يستسقي به وقال: "اللهم إنّا كُنّا نتوسّل إليك بنبيِّنا فتسقينا، وإنا نتوسّل إليك بعمِّ نبيِّنا فاسقنا"، قال: فيُسقون؛ رواه البخاري، وهذا النوع من التوسُّل الذي هو بدعاء الصالحين لا يشرع إلا في حال حياة الداعي لا بعد موته.

 ب. أنواع التوسُّل الممنوع:

- التوسُّل بدعاء الميت أو بشفاعته لا يجوز؛ لعدم قدرته على ذلك، فالصحابة - رضوان الله عليهم - لم يذهبوا إلى قبر الرسول  صلى الله غليه وسلم ويطلبوا منه شيئًا، ولو كان جائزًا ما تركوه.

- التوسُّل بذات أو بجاه النبي  صلى الله غليه وسلم أو غيره وهذا غير جائز؛ لأن العبادات توقيفيّة ولا دليل على جواز ذلك.

- التوسُّل بحقِّ المخلوق، وهذا أيضًا لا يجوز؛ لأن الله ليس عليه حقٌّ لأحد؛ لأن عطاءه تفضُّلاً منه ومِنّة - سبحانه.

* * *

- قال المصنف - رحمه الله -:

5- وأقُولُ فِي "الْقُرْآنِ" ما جاءتْ بِهِ = آياتُهُ فهُو الْكرِيمُ الْمُنْزلُ

 - لغة البيت:

(أقول)؛ أي: أعتقد، وأُبدِي اعتقادي في القرآن الكريم.

(القرآن): هو كلام الله المعجِز، ووحيُه المنزّل على محمد  صلى الله غليه وسلم المنقول بالتواتر، المكتوب في المصاحف، المتعبّد بتلاوته.

 - الفوائد:

- مذهب السلف في كلام الله - سبحانه -: أن الله موصوف بالكلام، وكلامه - سبحانه - قديم النّوْعِ حادِث الآحاد، لم يزل متكلمًا ولا يزال، وكلامه من حيث جنسُ الكلام صفة قائمة به، وصفة فعل لتعلُّقها بمشيئته وقدرته، فيتكلّم - سبحانه - متى شاء ومع من يشاء كيف شاء، بكلام مسموع بحرف وصوت.

قديم النوع؛ أي: إن الله مُتّصف بهذه الصفة أزلاً؛ والمعنى: إنّ اتِّصافه بهذه الصفة غير مسبوق بعدم.

حادث الآحاد؛ أي: إن الله يتكلم إذا شاء متى شاء.

ومن أشهر من خالف السلف في صفة الكلام طائفتان:

أ- المعتزلة والجهمية: (والمعتزلة أتباع واصل بن عطاء وهم قدرية، وبنوْا مذهبهم على خمسة أصول، والجهميّة أتباع الجهم بن صفوان وهم مُعطِّلة ومرجئة وجبرية).

المعتزلة والجهمية يقولون: إن الكلام مخلوق وليس من صفات الله، فهم يعتقدون أن الله - تعالى - لا تقوم به صفة الكلام، وكلام الله شيء منفصل عنه فهو مخلوق، يقولون: كما أن الله - تعالى - خلق السموات والسموات منفصلة عنه فكذلك أيضًا يتكلم بالقرآن والقرآن مخلوق منفصل عنه، فجاءت مقالتهم الضالّة المشهورة بخلق القرآن؛ لأنهم لا يُثبِتون صفة الكلام التي تقوم به - تبارك وتعالى - وقصّتهم مشهورة مع الإمام أحمد.

والردُّ على اعتقادهم في كلام الله بما يلي:

1- أنه خلاف إجماع السلف.

2- أنه خلاف المعقول؛ لأن الكلام صفة للمتكلم، وليس شيئًا قائمًا بنفسه مُنفصِلاً عن المتكلم.

3- أن موسى سمع الله يقول: ﴿إِنّنِي أنا اللهُ لا إِله إِلاّ أنا فاعْبُدْنِي وأقِمِ الصّلاة لِذِكْرِي﴾ [طه: 14]، ومُحالٌ أن يقول ذلك أحدٌ إلا الله - سبحانه وتعالى.

4- أنه جاء في الصحيح عن خولة بنت حكيم - رضِي الله عنْها - أن النبي  صلى الله غليه وسلم قال: ((من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامّات من شرِّ ما خلق، لم يضرّه شيءٌ حتى يرحل من منزله ذلك))، فاستدلّ العلماء بذلك على أن كلام الله غير مخلوق، قالوا: لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك، وقال الله - تعالى -: ﴿ولوْ أنّما فِي الأرْضِ مِنْ شجرةٍ أقْلامٌ والْبحْرُ يمُدُّهُ مِنْ بعْدِهِ سبْعةُ أبْحُرٍ ما نفِدتْ كلِماتُ اللّهِ إِنّ الله عزِيزٌ حكِيمٌ﴾ [لقمان: 27]، فهذا دليلٌ على أن كلام الله غير مخلوق؛ لأن كلّ مخلوق ينفد ويبِيد، وكلماته لا تنفد ولا تبِيد، وهذا الوصف لا يكون لمخلوق.

ب- الأشعرية: وهم أتباع أبي الحسن الأشعري الذي تاب ورجع، والأشعرية لا يُثبِتون من الصفات إلا سبعًا ويقولون بأن العقل دلّ عليها.

والأشعرية يقولون: نُثبِت صفة الكلام، لكن الكلام الذي نُثبِته هو الكلام النفسي القائم بذاته ولا ينفصل عنه، ومن ثمّ قالوا: إنه بغير حرف وصوت، وقالوا: إنه لا يتكلّم بإرادته ومشيئته، فالكلام عندهم هو المعنى القائم بالنفس، كخواطر النفس وما أشبه ذلك.

والردُّ على اعتقادهم في كلام الله بما يلي:

1- أنه خلاف إجماع السلف.

2- أنّه خلاف الأدلّة؛ لأنها تدلُّ على أن كلام الله يُسمع، ولا يُسمع إلا الصوت، فلا يُسمع المعنى القائم بالنفس، ومن الأدلّة حديث عبدالله بن أُنيس مرفوعًا: ((يحشر الله الخلائق يوم القيامة عُراةً حُفاةً غُرْلاً بُهْمًا، فيُنادِيهم بصوت يسمعه من بعُد كما يسمعه من قرُب: أنا الملك، أنا الديّان))؛ رواه الأئمّة، واستشهد به البخاري.

3- خلاف المعهود؛ لأن الكلام المعهود هو ما ينطق به المتكلم لا ما يُضمِره في نفسه.

- ومن الفِرق التي خالفت السلف نذكرها على وجه الاختصار، ما يلي:

ج- الكُلاّبية: (وهم أتباع عبدالله بن سعيد بن كُلاّب البصري، لهم مخالفات في الكلام والصفات)، ويقولون: إنّه معنى قائم بذاته لازم له كلزوم الحياة والعلم فلا يتعلّق بمشيئته، والحروف والأصوات حكاية عنه، خلقها الله لتدلّ على ذلك المعنى القائم بذاته، ومنهم السالمية (وهم أتباع ابن سالم، كان يُشبِّه الله بإنسان له جوارح وحواس).

د- الاتِّحادية: وهم القائلون بوحدة الوجود، وأن كلّ كلامٍ في الوجود كلام الله؛ ولذا من جعل الرب هو العبد فإمّا أن يقول بحلوله فيه أو اتِّحاده به، وعلى التقديرين إمّا أن يجعل ذلك مختصًّا ببعض الخلق كالمسيح، أو يجعله عامًّا لجميع الخلق.

هـ- فلاسفة المتأخِّرين: وهم أتباع الفيلسوف اليوناني أرسطو، وكذلك الكرّامية أتباع محمد بن كرّام أيضًا من الذين خالفوا مذهب السلف، (انظر: "شرح لمعة الاعتقاد"؛ لابن عثيمين، و"تيسير لمعة الاعتقاد"؛ للمحمود، و"التنبيهات السنية"؛ للرشيد).

- قال شيخ الإسلام ابن تيميّة: "أوّل من أظهر إنكار التكليم والمخالّة الجعْدُ بن درهم في أوائل المائة الثانية، وأمر عُلماء الإسلام كالحسن البصري وغيره بقتله، فضحّى به خالد بن عبدالله القسري أمير العراق بواسط، وقال: أيُّها الناس، ضحُّوا تقبّل الله ضحاياكم، فإني مُضحٍّ بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يتّخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلِّم موسى تكليمًا، تعالى الله عمّا يقول الجعد عُلُوًّا كبيرًا، ثم نزل فذبحه، وأخذ ذلك عنه الجهم بن صفوان فأنكر أن يكون الله يتكلم، ثم نافق المسلمين وأقرّ بلفظ الكلام، وقال: كلامه يخلق في محلٍّ كالهواء وورق الشجر.

- قال المرداوي في "اللآلئ البهية" (ص52): "من قال: إن القرآن الذي يقرؤه المسلمون ليس هو كلام الله وهو كلام غيره، فهو مُلحِد مُبتدِع ضالٌّ، بل هذا القرآن هو كلام الله، وهو مثبت في المصاحف، وهو كلام الله - تعالى - مبلغًا عنه مسموعًا من القرّاء".

وقال أيضًا (ص47): "وقد أخبر الله بتنزيله، وشهد بإنزاله على رسوله، فقال: ﴿إِنّا نحْنُ نزّلْنا الذِّكْر وإِنّا لهُ لحافِظُون﴾ [الحجر: 9]، وقال - جل شأنه -: ﴿لكِنِ اللهُ يشْهدُ بِما أنْزل إِليْك أنْزلهُ بِعِلْمِهِ والْملائِكةُ يشْهدُون وكفى بِاللهِ شهِيدًا﴾ [النساء: 166]، والمنزّل على الرسول هو هذا الكتاب، قال أبو حامد الإسفرائيني: "مذهبي ومذهب الشافعي وفُقهاء الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: مخلوق، فهو كافر".

- (الكريم المنزل): إذا قيل في القرآن: إنه (القديم المنزل)؛ يعني: قديم النوع حادث الآحاد، ولا يصلح لهذه الكلمة (القديم) إلا هذا المعنى على مذهب أهل السنّة والجماعة، وهذا إن ثبت من قول الناظم، ولكن الصحيح من قول الناظم (الكريم المنزل) لمناقضتها تصريح شيخ الإسلام في مواضع كثيرة بأن لفظة (قديم) ليست من كلام السّلف، بل مذهب السّلف أن كلام الله ممّا يتعلّق بمشيئته، فإذا شاء تكلّم، ويتكلّم متى شاء كيف يشاء بلا كيف.

قال شيخ الإسلام في كتابه "التسعينية" (ص143): "الوجه الثاني: أن أحدًا من السّلف والأئمّة لم يقل: أن القرآن قديم، وأنه لا يتعلّق بمشيئته وقدرته".

-الصحيح أن القرآن نزل إلى السماء الدنيا ليلة القدر جملةً واحدة، ثم نزل بعد ذلك منجمًا في ثلاث وعشرين سنة.

* * *

 - قال المصنف رحمه الله:

6- وأقُولُ قال اللهُ جلّ جلالُهُ = و"الْمُصْطفى" الْهادِي ولا أتأوّلُ

 - لغة البيت:

- (أقول): أعتقد في قولي هذا الحق، وأن الله قال وتكلّم حقيقة كما يليق بجلاله وعظمته.

- (المصطفى): المقصود به نبينا محمد  صلى الله غليه وسلم

- (جلاله): جلال الله وعظمته.

 - الفوائد:

- قال الشيخ صالح البليهي في "العقيدة" 2/ 149: "القرآن الكريم، والنور المبين، والصراط المستقيم، والذكر الحكيم، هو قول ربنا وخالقنا، هو قوله - تعالى - حقيقةً لا قول غيره، هذا هو مُعتقد أهل السنة والجماعة، صحابة وتابعين، وهو الإيمان والتصديق بأن القرآن قول الله وكلامه، تكلّم الله به كما شاء تعالى".

وقال شيخنا ابن عثيمين: "اللفظ بالقرآن هل يصحُّ أن نقول: إنه مخلوق أو غير مخلوق، أو يجب السكوت؟ فالجواب: أن يُقال: إن إطلاق القول في هذا نفيًا أو إثباتًا غير صحيح، وأمّا عند التفصيل فيُقال: إنْ أُرِيد باللفظ التلفُّظ الذي هو فعل العبد فهو مخلوق؛ لأن العبد وفعله مخلوقان، وإن أُرِيد باللفظ: (الملفوظ) فهو كلام الله غير مخلوق؛ لأن كلام الله من صفاته، وصفاته غير مخلوقة".

- (المصطفى الهادي): يعني به محمدًا  صلى الله غليه وسلم حيث اصطفاه الله واختاره، وهو الهادي الذي هدى الله به أمّته من العمى والضلال، ومن كلامه  صلى الله غليه وسلم: ((ينزل ربُّنا إلى السماء الدنيا كلّ ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له...))؛ متفق عليه، وهداية النبي  صلى الله غليه وسلم هنا هداية دلالة وإرشاد.

- (ولا أتأوّل): التأويل المقصود به تأويل النصوص الواردة فيها عن ظاهرها؛ كتأويل الوجه بالنعمة، والاستواء بالاستيلاء.

 - حكم التأويل:

التأويل على ثلاثة أقسام:

الأول: أن يكون صادرًا عن اجتهاد وحسن نيّة، بحيث إذا تبيّن له الحق رجع عن التأويل فهذا معفوٌّ عنه؛ لأن هذا مُنتهى وُسعِه، وقد قال الله - تعالى -: ﴿لا يُكلِّفُ اللهُ نفْسًا إِلاّ وُسْعها﴾ [البقرة: 286].

الثاني: أن يكون صادرًا عن هوى وتعصُّب وله وجه في اللغة العربية، فهو فسق وليس بكفر، إلا أن يتضمّن نقصًا أو عيبًا في حقِّ الله فيكون كفرًا.

الثالث: أن يكون صادرًا عن هوى وتعصُّب وليس له وجه في اللغة العربية، فهذا كفر؛ لأن حقيقته التكذيب حيث لا وجه له. (انظر: "شرح لمعة الاعتقاد"؛ لابن عثيمين ص 34).

* * *

- قال المصنف - رحمه الله -:

7- وجمِيعُ "آياتِ الصِّفاتِ" أُمِرُّها = حقًّا كما نقل الطِّرازُ الأوّلُ

8- وأرُدُّ عُهْدتها إِلى نُقّالِها = وأصُونُها عنْ كُلِّ ما يُتخيّلُ

 - لغة البيتين:

- (الطراز الأول): الطراز: علمُ الثوب، والطراز الأول: الرّعِيل الأوّل من العُلماء الأفذاذ؛ كالإمام أحمد بن حنبل، والثوري، وسفيان بن عُييْنة، وغيرهم من أئمّة السلف كثيرٌ - رحمهم الله تعالى.

- (نُقّالها): النقّال: هم الأئمّة الثقات الذين نقلوها إلينا صافية نقيّة.

- (أصونها): الصيانة: الحفظ والحماية.

- (يُتخيّل): يُتوهم ويُظنُّ به.

 - الفوائد:

- مذهب السلف الصالح في أسماء الله - تعالى - وصفاته: أنهم يُؤمِنون بكلِّ ما ورد من أسماء الله وصفاته، سمّى بها نفسه أو أنزلها في كتابه، أو علّمها أحدًا من خلقه، أو استأثر بها في علم الغيب عنده، من غير تحريف ولا تشبيه، ولا تعطيل ولا تكييف، ويجعلون الكلام في ذات الله وصفاته بابًا واحدًا؛ فالكلام في الصفات فرعٌ عن الكلام في الذات، وقد يُعبِّرون عن ذلك بقولهم: "تُمرُّ كما جاءت بلا تأويل"، كما قال الإمام أحمد: "لا يُوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسولُه، ولا يتجاوز القرآن والحديث"، والسلف الصالح في أسماء الله - تعالى - وصفاته:

أولاً: يُثبِتون على التفصيل وينفون على الإجمال؛ تبعًا لقوله - تعالى -: ﴿ليْس كمِثْلِهِ شيْءٌ وهُو السّمِيعُ الْبصِيرُ﴾ [الشورى: 11].

أ- وقد يُجْمِلون في الإثبات كإثبات الكمال المطلق والمجد المطلق.

ب- وقد ينفُون على التفصيل تبعًا لما ورد كتنزيهه عن الصاحبة والولد والشّرِيك، والنِّدِّ والضدِّ، والجهل والعجز، والضلال والنسيان، والسِّنة والنوم...

ثانيًا: والسّلف لا ينفُون نفيًا محْضًا، بل كانوا يُثبِتون الضدّ من ذلك، فإذا نفوا عنه الجهل، أثبتوا له العلم المطلق بكلِّ شيء - سبحانه - وإذا نفوا عنه السِّنة والنوم والموت، أثبتوا له كمال حياته وقيُّوميّته، وكذلك إذا أثبتوا الأحدِيّة تضمّن نفي المشاركة والمماثلة وهكذا. (انظر: "شرح الواسطية"؛ للهراس ص109).

- عبارة "أمِرُّوها كما جاءت" أُثِرت عن كثيرٍ من السلف، قال شيخنا ابن عثيمين في "شرح الحموية" الباب السابع: قولهم: "أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف" عن مكحول والزهري ومالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي، وفي هذه العبارة ردٌّ على المعطِّلة والمشبِّهة، ففي قولهم: "أمِرُّوها كما جاءت" ردٌّ على المعطِّلة، وفي قولهم: "بلا كيف" ردٌّ على المشبِّهة، وفيه أيضًا أنهم كانوا يُثبِتون لنصوص الصفات المعاني الصحيحة التي تلِيق بالله".

- من القواعد في صفات الله - تعالى -:

أ- صفات الله كلها عُليا: صفات كمال ومدح، ليس فيها نقص بوجهٍ من الوجوه؛ كالحياة والقدرة، والسمع والبصر، والحكمة والرحمة، والعلو وغير ذلك؛ لقوله - تعالى -: ﴿ولِلّهِ الْمثلُ الأعْلى﴾ [النحل: 60].

- إذا كانت الصفة نقصًا لا كمال فيها، فهي ممتنِعة في حقِّه - سبحانه - كالموت والجهل والعجز، ونحو ذلك.

- إذا كانت الصفة كمالاً من وجهٍ ونقصًا من وجه (كالمكر والكيد والخداع) لم تكن ثابتة لله ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق، بل لا بُدّ من التفصيل، فنُثبِتها لله في حال الكمال، وتكون كمالاً إذا كانت في مقابلة مثلها؛ لأنها تدلُّ على أن فاعلها ليس بعاجز عن مُقابلة عدوِّه بمثل فعله، وتكون نقصًا في غير هذه الحال، فلا نثبتها لله في حالة النقص.

مثال ذلك: قال - تعالى -: ﴿ويمْكُرُون ويمْكُرُ اللهُ واللّهُ خيْرُ الْماكِرِين﴾ [الأنفال: 30]، ﴿إِنّهُمْ يكِيدُون كيْدًا * وأكِيدُ كيْدًا﴾ [الطارق: 15- 16]، ﴿إِنّ الْمُنافِقِين يُخادِعُون الله وهُو خادِعُهُمْ﴾ [النساء: 142].

 ب - صفات الله تنقسم إلى قسمين: ثبوتية وسلبية:

فالثبوتية: ما أثبتها الله لنفسه؛ كالحياة والعلم والقدرة، ويجب إثباتها لله على الوجه اللائق به؛ لأن الله أثبتها لنفسه وهو أعلم بصفاته.

والسلبية: هي التي نفاها الله عن نفسه كالظلم، فيجب نفيها عن الله؛ لأن الله نفاها عن نفسه، لكن يجب اعتقاد ثبوت ضدِّها لله على الوجه الأكمل؛ لأن النفي لا يكون كمالاً حتى يتضمّن ثبوتًا.

مثال ذلك: في قوله - تعالى -: ﴿ولا يظْلِمُ ربُّك أحدًا﴾ [الكهف: 49]، يجب نفي الظلم عن الله مع اعتقاد ثبوت العدل لله على الوجه الأكمل.

 ج- الصفات الثبوتيّة تنقسم إلى قسمين: ذاتية وفعلية:

فالذاتية: هي التي لم يزل ولا يزال مُتّصفًا بها كالسمع والبصر، فهي لازمة له - سبحانه - أزلاً وأبدًا لا تتعلّق بمشيئته - سبحانه - كصفة اليدين مثلاً.

والفعلية: هي التي تتعلّق بمشيئته؛ إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها؛ كصفة الاستواء على العرش، والمجيء والرضا، والمحبّة والغضب.

وقد تكون الصفة ذاتية فعلية؛ كالكلام: فهي صفة ذاتية لأن الله لم يزل ولا يزال متكلمًا، وصفة فعلية لأن الكلام متعلِّق بمشيئته يتكلم بما شاء متى شاء.

 د- إثبات جميع ما ورد في الكتاب والسنّة من الصفات:

فأهل السنة والجماعة يُثبِتون كلّ ما ورد في الكتاب والسنّة من الصفات بغير تأويل ولا تعطيل، وبغير تشبيه ولا تمثيل، وخالف أهل السنّة والجماعة في ذلك كلٌّ من:

الجهمية: الذين ينفُون الأسماء والصفات جميعًا.

المعتزلة: الذين يُثبِتون الأسماء والأحكام وينفُون الصفات فيقولون: عليم بلا علم، وقدير بلا قدرة، وحي بلا حياة، وهذا القول غايةٌ في الفساد؛ فإن إثبات موصوف بلا صفة مُحالٌ في العقل كما هو باطل في الشرع.

الأشعرية: الذين يُثبِتون سبع صفات فقط ويقولون: هي التي دلّ عليها العقل وهي: (الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام). (انظر: "شرح العقيدة الواسطية"؛ للهراس ص160، و"شرح لمعة الاعتقاد"؛ لابن عثيمين ص24).

- تفسير آيات الصفات وأحاديثها على نوعين:

أ- تفسير مقبول: وهو ما كان عليه الصحابة والتابعون من إثبات المعنى اللائق بالله - عزّ وجلّ - المُوافِق لظاهر الكتاب والسنة.

ب- تفسير غير مقبول: وهو ما كان بخلاف ذلك من المعاني التي ابتكرها المعطِّلة والمشبِّهة وغيرهم، وحرّفوا بها نصوص الكتاب والسنّة عن ظاهرها، فأخرجوا لنا معاني لا تلِيق بالله - عزّ وجلّ - وعليه يُحمل قول الإمام أحمد في حديث النزول وشبهه: "نؤمن بها ونصدق، لا كيف ولا معنى"، فهو نفى المعنى الذي ابتكره المعطِّلة من الجهمية وغيرهم.

- (أصُونها عن كل ما يتخيل)؛ أي: أصون آيات الصفات عن كل ما وصلني من تأويل وتحريف وتعطيل وتكييف، الناتجة عن التوهُّمات التي تخطر في بال البشر، قال الإمام أحمد بن حنبل: "كل ما أخبر الله - تعالى - به في كتابه من صفاته فهو كما أخبر، لا كما يخطر للبشر"، فأراد الإمام أحمد بمقولته أن الذي يخطر على بال البشر من تأويل وتعطيل وتحريف وتكييف ليس هو المراد الصحيح، وإنما الواجب أن تُصان عن ذلك كله، وألاّ يتخيّلها الإنسان؛ لأن هذا يسُوقه إلى الضلال؛ قال الفخر الرازي:

نِهايةُ إِقْدامِ العُقُولِ عِقالُ = وغايةُ سعْيِ الْعالمِين ضلالُ

وأرْواحُنا فِي وحْشةٍ مِنْ جُسُومِنا = وحاصِلُ دُنْيانا أذًى ووبالُ

ولمْ نسْتفِدْ مِنْ بحْثِنا طُول عُمْرِنا       = سِوى أنْ جمعْنا فِيهِ قِيل وقالُوا

لقد تأمّلت الطرق الكلاميّة والمناهج الفلسفيّة، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق إليه طريقة القرآن؛ اقرأ في الإثبات: ﴿الرّحْمنُ على الْعرْشِ اسْتوى﴾ [طه: 5]، ﴿إِليْهِ يصْعدُ الْكلِمُ الطّيِّبُ﴾ [فاطر: 10]، واقرأ في النفي: ﴿ليْس كمِثْلِهِ شيْءٌ وهُو السّمِيعُ الْبصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، ﴿ولا يُحِيطُون بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: 110]، ثم قال: ومن جرّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي".

وقال الآخر:

لعمْرِي لقدْ طُفْتُ الْمعاهِد كُلّها = وسيّرْتُ طرْفِي بيْن تِلْك الْمعالِمِ

فلمْ أر إِلاّ واضِعًا كفّ حائِرٍ = على ذقنٍ أوْ قارِعًا سِنّ نادِمِ

وقال أبو المعالي الجويني إمام الحرمين: "يا أصحابنا، لا تشتغلوا بالكلام؛ فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به، وقال عند موته: لقد خضت البحر الخِضمّ، وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربِّي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمِّي، أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور".

* * *

- قال المصنف - رحمه الله -:

9- قُبْحًا لِمنْ نبذ "القُران" وراءهُ = وإِذا اسْتدلّ يقُولُ قال "الأخْطلُ"

 - لغة البيت:

- (قبحًا): القبح: ضد الحسن.

- (الأخطل): شاعر نصراني اسمه غيّاث بن غوث التغلبي، نشأ في العراق بين قومه تغلب، فصيحٌ سلِيطُ اللسان، مدمن لشرب الخمر، توفي سنة (92هـ) وعمره (70 سنة).

 - الفوائد:

- ذمّ شيخُ الإسلام في هذا البيت من ترك حجّة القرآن والسنّة وراءه ظهريًّا وأعرض عنها، ثم يأتي بأقوال واعتقادات باطلة فهمها وتصوّرها مُستنِدًا ومُستدِلاًّ عليها بقول شاعر نصراني، فتارةً يقول: القرآن عبارة عن كلام الله - تعالى - وهو كلامه القائم بنفسه المقدّسة، وتارةً يقول: إن القرآن حكايةٌ عن كلام الله، وتارةً يقول بالكلام النفسي في الفؤاد فقط، ويستدلُّ بقول شاعر نصراني يُقال له: الأخطل، حيث قال:

إِنّ الْكلام لفِي الفُؤادِ وإِنّما = جُعِل اللِّسانِ على الْفُؤادِ دلِيلا

وقيل: إن هذا البيت ليس من شعر الأخطل بل هو محرّف، وإلا فقول الأخطل:

إِنّ الْبيان لفِي الْفُؤادِ وإِنّما = جُعِل اللِّسانُ على الْفُؤادِ دلِيلا

وإذا قدّرنا أن هذا البيت صحيحٌ، فإنه لا يجوز الاستدلال بقول شاعر نصراني أصلاً كالأخطل؛ لأنه ليس بمستغربٍ أن يقول مثل هذا الكلام شاعر نصراني، فهذه هي عقيدته ودينه الذي يدِين به، فالنصارى قد ضلُّوا في مفهوم الكلمة؛ حيث إنهم جعلوا عيسى - عليه السلام - هو نفس الكلمة، فهم يقولون: الكلمة تجسّدتْ في عيسى، وعندهم أن عيسى هو كلام الله؛ بمعنى: أنه هو ذات كلمة الله، وأمّا نحن فنعتقد أن عيسى كلمة الله كما أخبر الله - سبحانه وتعالى - في قول الملائكة لمريم: ﴿إِذْ قالتِ الْملائِكةُ يا مرْيمُ إِنّ الله يُبشِّرُكِ بِكلِمةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمسِيحُ عِيسى ابْنُ مرْيم وجِيهًا فِي الدُّنْيا والآخِرةِ ومِن الْمُقرّبِين﴾ [آل عمران: 45]، وكما جاء أيضًا في الحديث الصحيح: ((وأن عيسى عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم))، وسُمِّي بالكلمة لأنه وُجِد بكلمة من الله، فالله - عزّ وجلّ - قال له: كن، فكان؛ ﴿إِنّ مثل عِيسى عِنْد اللهِ كمثلِ آدم خلقهُ مِنْ تُرابٍ ثُمّ قال لهُ كُنْ فيكُونُ﴾ [آل عمران: 59]، فلأنه وُجِد بالكلمة خرج عن عادة خلق الناس حيث وُلِد من أمٍّ بلا أبٍ فأُطلِقت عليه الكلمة، لا كما تعتقد النصارى أن عيسى نفس الكلمة، فالنصارى هذا دينهم وهذا فهمهم، فكيف نأخذ كلامهم؟! حتى لو قال الأخطل هذا البيت وثبت عنه، فلا نأخذ بكلام شاعر نصراني هذه عقيدته.

- قال الإمام أحمد وغيره: "لم يزل الله متكلمًا إذا شاء، وكماله المقدّس مقتضٍ لكلامه، وكماله من لوازم ذاته، فلا يكون إلا كاملاً، والمتكلِّم أكمل ممّن لم يتكلم".

- قال المصنف - رحمه الله -:

10- والْمُؤْمِنُون "يروْن" حقًّا ربّهُمْ = وإلى السّماءِ بِغيْرِ كيْفٍ "ينْزِلُ"

 - لغة البيت:

- (يرون حقًّا ربهم): المقصود به يوم القيامة؛ يعني: في الجنة حقيقةً لا مجازًا.

 - الفوائد:

في هذا البيت مسألتان عظيمتان: (مسألة رؤية الله - عزّ وجلّ - ومسألة نزوله - سبحانه وتعالى).

 أولاً: مسألة الرؤية:

وهي مسألة عظيمة من مسائل الاعتِقاد أثبتها أهل السنّة من السّلف والخلف بأن المؤمنين يروْن ربهم في الآخِرة؛ ومن الأدلّة على ذلك ما يلي:

1- قوله - تعالى -: ﴿وُجُوهٌ يوْمئِذٍ ناضِرةٌ * إِلى ربِّها ناظِرةٌ﴾ [القيامة: 22- 23].

قال الإمام الحافظ البيهقي في كتابه "الرؤية": "هذا تفسيرٌ قد استفاض واشتهر فيما بين الصحابة والتابعين، ومثله لا يُقال إلا بتوقيف، وفسّروا قوله - تعالى -: ﴿وُجُوهٌ يوْمئِذٍ ناضِرةٌ * إِلى ربِّها ناظِرةٌ﴾ [القيامة: 22- 23]، قال ابن عباس - رضِي الله عنهما -: حسنة، ﴿إِلى ربِّها ناظِرةٌ﴾ قال: ناظرة إلى الخالق، وقال عكرمة: ﴿ناضِرةٌ﴾ من النعيم، ﴿إِلى ربِّها ناظِرةٌ﴾ قال: تنظر إلى الله نظرًا.

2- قوله - تعالى -: ﴿لِلّذِين أحْسنُوا الْحُسْنى وزِيادةٌ﴾ [يونس: 26]، فالحُسنى الجنّة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم، وروى مسلم في "صحيحه" عن صُهيب قال: قرأ رسول الله  صلى الله غليه وسلم: ﴿لِلّذِين أحْسنُوا الْحُسْنى وزِيادةٌ﴾ [يونس: 26] قال: ((إذا دخل أهلُ الجنّةِ الجنّة، وأهلُ النارِ النار، نادى مُنادٍ: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن يُنجِزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويُجِرْنا من النار؟! فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئًا أحبّ إليهم من النظر إليه وهي الزيادة))، كذا فسّرها الصحابة - رضوان الله عليهم - منهم أبو بكر الصديق، وحُذيفة، وأبو موسى وابن عباس - رضي الله عنهم.

3- قوله - تعالى -: ﴿لهُمْ ما يشاؤُون فِيها ولديْنا مزِيدٌ﴾ [ق: 35]، قال علي بن أبي طالب وأنس - رضي الله عنهما -: هو النظر إلى وجه الله - عزّ وجلّ.

4- حديث أبي هريرة المتّفق عليه قال: إن أُناسًا قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله  صلى الله غليه وسلم: ((هل تُضارُّون في رؤية القمر ليلة البدر؟) قالوا: لا، يا رسول الله، قال: ((هل تُضارُّون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟) قالوا: لا، قال: ((فإنكم تروْنه كذلك...)) الحديث.

5- حديث أبي سعيد وحديث جرير بن عبدالله المتّفق عليه، قال: "كُنّا جلوسًا مع النبيِّ  صلى الله غليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة، فقال: ((إنكم ستروْن ربّكم عِيانًا كما تروْن هذا لا تُضامُّون في رؤيته)).

خالف في الرؤية الجهمية والمعتزلة والرافضة والزيدية والإباضية؛ فأنكروا رؤية الله - عزّ وجلّ - واعتمدُوا على شبهات واهِية وتعليلات باطلة.

قال الإمام أحمد: من لم يقل بالرؤية فهو جهمي، وقال مرّة: هو زنديق، وقال أيضًا: وقد بلغه عن رجلٍ قال: إن الله لا يُرى في الآخرة، فغضب غضبًا شديدًا، وقال: من قال: إن الله لا يُرى في الآخرة فهو كافر، أو فقد كفر، عليه لعنةُ الله وغضبُه كائنًا من كان من الناس، أليس يقول الله - عزّ وجلّ -: ﴿وُجُوهٌ يوْمئِذٍ ناضِرةٌ * إِلى ربِّها ناظِرةٌ﴾ [القيامة: 22- 23]، وقال: ﴿كلاّ إِنّهُمْ عنْ ربِّهِمْ يوْمئِذٍ لمحْجُوبُون﴾ [المطففين: 15]، وقال أيضًا: "يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتِل"، وقال أيضًا: "نؤمن بها - أي: الرؤية - وأحاديثها، ونعلم أنها حق"، (انظر: "لوامع الأنوار" 2/ 246].

 مسألة: اتّفقت الأمّة على أن الله - جلّ وعلا - لا يراه أحدٌ بعينه في الدنيا، فمن هم الذين يرونه في الآخرة؟

وللجواب عن هذا نقول ما يلي:

1- اتّفق السلف والخلف على أن المؤمن يرى ربّه في الآخرة؛ للأدلّة السابقة في الموقف والجنة.

2- واتّفقوا أيضًا أن الله - سبحانه - لا يراه أحدٌ بعينيه في الدنيا.

قال الشيخ تقي الدين - رحمه الله -: "أهل السنّة مُتّفقون على أن الله - سبحانه - لا يراه أحدٌ بعينه في الدنيا، لا نبي ولا غير نبي، وإنما يُروى ذلك بإسناد موضوع باتِّفاق أهل المعرفة".

3- واتّفقوا أيضًا في أن الكافر لا يرى ربّه في الآخرة؛ ويدلُّ على ذلك قوله - تعالى -: ﴿كلاّ إِنّهُمْ عنْ ربِّهِمْ يوْمئِذٍ لمحْجُوبُون﴾ [المطففين: 15].

4- وأمّا المنافق ففيه خلاف هل يرى ربه في الموقف أم لا؟

فقيل: إنه لا يرى ربّه في الموقف.

وقيل: إنه يرى ربّه في الموقف.

واستدلّ من قال: يراه، بحديث أبي هريرة في الصحيحين بعد ذكر من كان يعبد غير الله، قال النبي  صلى الله غليه وسلم: ((... وتبقى هذه الأمّة فيها مُنافِقوها، فيأتيهم الله - تبارك وتعالى - في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله - تعالى - في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه...)) الحديث.

وردّ أصحاب القول الأوّل بأن هذا الحديث ليس فيه دلالة على أن المنافقين يرون ربهم.

قال النووي في "شرح صحيح مسلم" 1/ 35: "ثم اعلم أن هذا الحديث قد يُتوهّم منه أن المنافقين يرون الله - تعالى - مع المؤمنين، وقد ذهب إلى ذلك طائفة حكاه ابن فورك؛ لقول النبي  صلى الله غليه وسلم: ((وتبقى هذه الأمّة فيها منافقوها، فيأتيهم الله تعالى))، وهذا الذي قالوه باطل، بل لا يراه المنافقون بإجماع من يُعتدُّ به من علماء المسلمين، وليس في هذا الحديث تصريحٌ برؤيتهم الله - تعالى - وإنما فيه أن الجمع الذي فيه المؤمنون والمنافقون يرون الصورة، ثم بعد ذلك يرون الله - تعالى - وهذا لا يقتضي أن يراه جميعهم، وقد قامت دلائل الكتاب والسنّة على أن المنافق لا يراه - سبحانه وتعالى - والله أعلم".

والأحاديث في هذا الباب كثيرة؛ أخرج اللالكائي في "السنة": قال يحيى بن معين: عندي سبعة عشر حديثًا في الرؤية كلها صِحاح.

 ثانيًا: نزول الله - تبارك وتعالى -:

مذهب أهل السنّة والجماعة أن الله ينزل إلى السماء الدنيا على ما ورد في الأحاديث الصحيحة نزولاً يلِيق بجلاله وعظمته بدون تحريف ولا تكييف ولا تمثيل، وأن تأويله بنزول رحمته أو أمره خطأ وبدعة، عن حرب بن إسماعيل قال: "هذا مذهب أئمّة العلم، وأصحاب الحديث والأثر، وأهل السنّة المعروفين بها، وهو مذهب أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، والحُميدي وغيرهم، كان قولهم: إن الله ينزل كلّ ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء وكما شاء؛ ﴿ليْس كمِثْلِهِ شيْءٌ وهُو السّمِيعُ الْبصِيرُ﴾ [الشورى: 11].

وخالف في معنى النزول طوائف؛ فمنهم من يقول: إنه ينزل كنزول المخلوق وهم المشبِّهة، ومنهم من أوّله فقالوا: إن المعنى في النزول نزول الأمر والإرادة والرحمة والنيّة... إلى غير ذلك من التأويلات.

 - الأدلّة على نزول الرب - تبارك وتعالى -:

قال الذهبي في كتاب "العلو": "إن أحاديث النزول متواترة تُفِيد القطع".

ومن الأدلّة على ذلك:

1- حديث أبي هريرة - رضِي الله عنْه - أن النبي  صلى الله غليه وسلم قال: ((ينزل ربُّنا إلى السماء الدنيا كلّ ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخِر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟))؛ متفق عليه.

2- حديث عائشة - رضِي الله عنها - أن النبي  صلى الله غليه وسلم قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يُباهِي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء))؛ رواه مسلم.

3- حديث جابر بن عبدالله - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله  صلى الله غليه وسلم: ((ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله - تبارك وتعالى - إلى السماء الدنيا فيُباهِي بأهلِ الأرض أهل السماء فيقول: انظروا إلى عبادي شعثًا غبرًا ضاحِين من كلِّ فجٍّ عميق))؛ رواه ابن حبّان في "صحيحه".

قال شيخ الإسلام ابن تيميّة ردًّا على من قال: (كيف ينزل؟): "فقول السائل: كيف ينزل؟ بمنزلة قوله: كيف استوى؟ كيف يسمع؟ كيف يُبصِر؟ وكيف يعلم ويقدر؟ وكيف يخلق؟ وكيف يرزق؟ وقد أجاب عن مثل هذا السؤال أئمّة الإسلام مثل: مالك بن أنس، وشيخِه ربيعة بن أبي عبدالرحمن، فإنه قد رُوِي من غير وجهٍ أن سائلاً سأل مالكًا عن قوله: ﴿الرّحْمنُ على الْعرْشِ اسْتوى﴾ [طه: 5] كيف استوى؟ فأطرق مالك حتى علاه الرُّحضاء ثم قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا رجل سوء، ثم أمر به فأُخرِج، ومثل هذا الجواب ثابتٌ عن ربيعة شيخ مالك.

قال رجلٌ لابن عباس - رضِي الله عنهما -: "كيف يُحاسِب الله العِباد في ساعة واحدة؟ قال: كما يرزقهم في ساعة واحدة.

 - فائدة:

قد يخطر على بعض الناس في مسألة نزول الله - تبارك وتعالى - في الثلث الآخر من الليل، أن الثلث الآخِر من الليل يختلف من منطقةٍ إلى أخرى، ويدخل في توهُّمات وخواطر باطلة، ومن هنا يجب أن يحذر الإنسان من أن يتوهّم أن صفات الله مثل صفات المخلوقين - سبحانه وتعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا - فالله - تبارك وتعالى - له نزول يلِيق بجلاله، نؤمن به من غير تأويل أو تشبيه، أو تعطيل أو تكييف.

قال الشيخ عبدالرحمن المحمود: "وأحبُّ أن أقف وقفةً مع صفة النزول لله - سبحانه وتعالى - فإن بعض الناس قد يخطر بباله خواطر تتعلّق بهذه الصفة، ومنها كون جميع البلاد فيها ثلث الليل الآخر، ومنها أن الله عظيم أكبر من المخلوقات، كيف ينزل إلى السماء الدنيا؟

والجواب على ذلك: أن هذه الخواطر إنما نشأت من توهُّم التشبيه؛ أي: من توهُّم أن صفات الله مثل صفات المخلوقين، وهذه هي العلّة التي نفى بها المحرِّفون صفات الله... وهذا خطأ ناشئ من أن الإنسان ما عظّم ربّه حقّ تعظيمه، ولا فهم أن الله - سبحانه وتعالى - لا يُقاس بخلقه؛ يقول الله - تبارك وتعالى -: ﴿وما قدرُوا الله حقّ قدْرِهِ والأرْضُ جمِيعًا قبْضتُهُ يوْم الْقِيامةِ والسّماواتُ مطْوِيّاتٌ بِيمِينِهِ سُبْحانهُ وتعالى عمّا يُشْرِكُون﴾ [الزمر: 67].

والمسألة الثانية: مسألة اختلاف الليل والنهار، فنقول: نحن نقطع يقِينًا بأننا ونحن في هذا البلد حين يأتي ثلث الليل، فإن الله ينزل ونزوله يدلُّ على قرب، كما أن نزوله - سبحانه وتعالى - عشيّة عرفة يدلُّ على قربه - تبارك وتعالى - من أهل عرفة وهذا القرب هو كما يلِيق بجلاله وعظمته، لكن نُثبِته لله - سبحانه وتعالى - حقيقةً ولا نتأوّله"، ("تيسير لمعة الاعتقاد" ص117).

* * *


- قال المصنف - رحمه الله -:

11- وأُقِرُّ بِـ"الْمِيزانِ" و"الْحوْضِ" الّذِي = أرْجُو بِأنِّي مِنْهُ رِيًّا أنْهلُ 12- وكذا "الصِّراطُ" يُمدُّ فوْق جهنّمٍ = فمُسلّمٌ ناجٍ وآخرُ مُهْملُ 13- و"النّارُ" يصْلاها الشّقِيُّ بِحِكْمةٍ = وكذا التّقِيُّ إِلى "الجِنانِ" سيدْخُلُ 14- ولِكُلِّ حيٍّ عاقِلٍ فِي قبْرِهِ = عملٌ يُقارِنُهُ هُناك ويُسْألُ

 - لغة الأبيات:

 - الإقرار باللسان والاعتقاد بالجنان، وهو الإذعان للحق والاعتراف به.

- (الميزان): أداة العدل، وهو ميزان حقيقي له لسان وكفّتان، كما جاء في حديث البطاقة وغيره من الأحاديث.

- (الحوض) لغةً: مُجتمع الماء، واصطلاحًا: موْرِدٌ عظيم ترِدُه أمّة محمد  صلى الله غليه وسلم ممّن اتّبع هدي النبي  صلى الله غليه وسلم لم يتغيّر أو يتبدّل وستأتي أوصافه.

- (رِيّا): بكسر الراء وبفتح الياء؛ أي: تروى وارتوى، وأنهلُ؛ أي: أشرب.

الصراط: قال الجوهري: الصراط والسراط والزراط: الطريق، والمقصود به هنا: الجسر الذي بين الجنة والنار منصوب على متن جهنم.

- (بحكمة)؛ أي: حكمة أحكم الحاكمين.

- (حي عاقل)؛ أي: مكلّف.

 - فوائد الأبيات:

انتقل رحمه الله إلى أمور المعاد وهي من المغيّبات التي يؤمن بها أهل السنّة والجماعة تحدث بعد البعث والنشور؛ ومنها: الميزان، والحوض، والصراط، والجنة، والنار، وهي ممّا يجب على المسلم الإيمان بها.

 أولاً: الإيمان بالميزان:

الإيمان بالميزان ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.

قال - تعالى -: ﴿فأمّا منْ ثقُلتْ موازِينُهُ﴾ [القارعة: 6]، وقال: ﴿ونضعُ الْموازِين الْقِسْط لِيوْمِ الْقِيامةِ فلا تُظْلمُ نفْسٌ شيْئًا﴾ [الأنبياء: 47]، وأخرج الترمذي من حديث أنس - رضِي الله عنه - قال: سألت رسول الله  صلى الله غليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة فقال: ((أنا فاعل - إن شاء الله) قلت: أين أطلبك؟ قال: ((على الصراط) قلت: فإن لم ألقك على الصراط؟ قال: ((فاطلبني عند الميزان) قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: ((فاطلبني عند الحوض، فإني لا أخطئ هذه الثلاث المواطن)).

وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم))، إلى غير ذلك من الأدلّة، وأجمع السلف على ثبوت الميزان.

 - اختلف العلماء: أي شيء يوزن؟

قيل: العمل.

وقيل: العامل.

وقيل: الصحف.

والصحيح - والله أعلم - أن كلّ ذلك يُوزن في الميزان، وبه تجتمع الأدلّة، ومن الأدلّة على ذلك ما يلي:

فمن الأدلّة التي تدلُّ على أن العمل هو الذي يُوزن، ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه - أن النبي  صلى الله غليه وسلم قال: ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)).

وممّا يدلُّ على أن العامل هو الذي يُوزن ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي  صلى الله غليه وسلم قال: ((إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، واقرؤوا: ﴿فلا نُقِيمُ لهُمْ يوْم الْقِيامةِ وزْنًا﴾ [الكهف: 105])).

وأيضًا ما رواه أحمد من حديث ابن مسعود أنه كان دقيق الساقين فجعلت الريح تلقيه، فضحك القوم منه، فقال  صلى الله غليه وسلم: ((ممّ تضحكون؟) قالوا: يا نبي الله، من دقّة ساقيه، قال: ((والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أُحُدٍ)).

وممّا يدلُّ على أن الصحف هي التي تُوزن: حديث البطاقة الذي رواه الترمذي وابن ماجه وابن حبّان من حديث عبدالله بن عمرو أن رسول الله  صلى الله غليه وسلم قال: ((إن الله يستخلص رجلاً من أمّتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلاًّ، كل سجل مد البصر، ثم يقول: أتُنكِر من هذه شيئًا؟ أظلمك كتبتِي الحافِظُون؟ فيقول: لا يا ربِّ، فيقول: ألك عذر أو حسنة؟ فيقول: لا يا ربِّ، فيقول: بلى؛ إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: يا ربِّ، ما هذه البطاقة مع هذه السجلاّت؟ فيُقال: فإنك لا تُظلم، وتُوضع السجلاّت في كفّة والبطاقة في كفّة، فطاشت السجلاّت وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء)).

قال ابن كثير في "تفسيره" 3/ 202: "وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحًا، فتارةً تُوزن الأعمال، وتارةً تُوزن محالُّها، وتارةً يُوزن فاعلُها - والله أعلم".

 - اختلف العلماء: هل هو ميزان واحد أو موازين كثيرة؟

القول الأوّل: أنه موازين كثيرة بحسب الأُمم والأفراد أو الأعمال؛ لأنه لم يرد في القرآن إلا مجموعًا، وأمّا إفراده في الحديث فباعتبار الجنس.

القول الثاني: أنه ميزان واحد؛ لأنه ورد في الحديث مفردًا، وأمّا جمعه في القرآن فباعتبار الموزون.

قال شيخنا ابن عثيمين: والصحيح: أن كلا الأمرين مُحتمل، (انظر: "شرح لمعة الاعتقاد"؛ لابن عثيمين).

 ثانيًا: الإيمان بالحوض:

الحوض ثابت بإجماع أهل الحق كما جاءت به الأدلّة الكثيرة، قال ابن القيِّم: "قد روى أحاديث الحوض أربعون من الصحابة، وكثيرٌ منها أو أكثرها في الصحيح"، قال السيوطي - رحمه الله تعالى -: "ورد ذكر الحوض من رواية بضعة وخمسين صحابيًّا؛ منهم الخُلفاء الأربعة الراشدون، وحُفّاظ الصحابة المُكثِرون - رضوان الله عليهم أجمعين".

ومن الأدلّة في ذلك: حديث جندب - رضِي الله عنْه - المتفق عليه أن النبي  صلى الله غليه وسلم قال: ((أنا فرطكم على الحوض))، والفرط هو الذي سبق إلى الحوض.

وحديث سهل بن سعد - رضِي الله عنْه - المتفق عليه أن النبي  صلى الله غليه وسلم قال: ((أنا فرطُكم على الحوض، من ورد شرِب، ومن شرِب لا يظمأ أبدًا، وليردنّ عليّ أقوامٌ أعرفهم ويعرفوني، ثم يُحال بيني وبينهم))، وغيرها من الأحاديث، وقد أجمع أهل السنّة على إثبات الحوض.

ويرِدُ الناسُ الحوض حينما يشتدُّ عليهم الكرب في الموقف، وتدنو الشمس من الرؤوس بقدر ميل، ويعرق الناس عرقًا شديدًا فيشتدُّ بالناس العطش ويكثر الخوف، فيا بُشرى من شرِب من حوض النبي  صلى الله غليه وسلم شربة لا يظمأ بعدها أبدًا.

  

 - صفة الحوض:

صفاته وردتْ في حديث عبدالله بن عمرو - رضِي الله عنهما - المتفق عليه أن النبي  صلى الله غليه وسلم قال: ((حوضي مسِيرة شهر، ماؤه أبيضُ من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكِيزانُه كنجوم السماء، من شرِب منه لم يظمأ أبدًا) وفي لفظ: ((حوضي مسِيرة شهر، وزواياه سواء، وماؤه أبيض من الورِق) ولمسلمٍ من حديث أبي ذر مرفوعًا: ((ماؤه أشدُّ بياضًا من اللبن وأحلى من العسل) ولمسلمٍ أيضًا من حديث ثوبان مرفوعًا: "يغُتُّ فيه ميزابان من الجنّة: أحدهما من ذهب، والآخر من ورِق))، يغتُّ؛ أي: يصب.

 - مقدار الحوض:

جاء في روايةٍ عند أحمد: ((كما بين عدن وعمان) وجاء في روايةٍ أخرى في الصحيح: ((كما بين أيلة إلى مكة) وفي أخرى: ((كما بين المدينة وصنعاء) ولمسلمٍ من حديث عقبة: ((وإنّ عرضه كما بين أيلة إلى الجحفة) وكلها مُتقارِبة توافق رواية: ((مسيرة شهر)).

- يُردُّ عن الحوض أقوامٌ بدّلوا وغيّروا في دين الله.

عن أبي مُليكة عن أسماء أن النبي  صلى الله غليه وسلم قال: ((إني على الحوض حتى أنظر من يرِدُ عليّ منكم، وسيُؤخذ ناسٌ دُونِي فأقول: يا ربِّ، مِنِّي ومن أمّتي، فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم) وكان ابن أبي مُليكة يقول: اللهم إنّا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا، أو نُفتن في ديننا؛ رواه البخاري.

وفي لفظٍ لمسلم عن أم سلمة: ((فيُقال: إنّك لا تدري ما أحدثُوا بعدك، فأقول: سُحقًا)).

وجاء عند مسلمٍ أيضًا من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه - مرفوعًا: ((... وإنِّي لأصدُّ عنه كما يصُدُّ الرجل إبل الناس عن حوضه) قالوا: يا رسول الله، أتعرفنا يومئذ قال: ((نعم، لكم سِيما ليستْ لأحدٍ من الأُمم، ترِدُون عليّ غُرًّا محجلين من أثر الوضوء)).

والحوض مخلوق الآن؛ فقد روى عقبة عند البخاري أن النبي  صلى الله غليه وسلم خرج يومًا فصلّى على أهل أُحُدٍ صلاته على الميِّت، ثم انصرف على المنبر، فقال: ((إني فرطٌ لكم، وأنا شهيدٌ عليكم، وإنِّي والله لأنظر إلى حوضي الآن...)).

- أنكرت المعتزلة الميزان والحوض فلم يقولوا بثبوتهما، وأيضًا ممّن أنكر الحوض الخوارج، وقد سبقت الأدلّة على ثبوتهما، وأجمع أهلُ السنّة والجماعة على ذلك.

قال بعض أهل العلم: إن الكوثر أيضًا يُسمّى حوضًا.

قال القرطبي: "هما حوضان: الأوّل قبل الصراط وقبل الميزان على الأصحِّ، فإن الناس يخرجون عطاشًا من قبورهم فيردونه قبل الميزان، والثاني في الجنة، كلاهما يُسمّى كوثرًا؛ كما روى مسلم في "صحيحه" عن أنس قال: بينا رسول الله  صلى الله غليه وسلم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءةً ثم رفع رأسه مُبتسِمًا فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: ((أُنزِلت عليّ آنِفًا سورة))، فقرأ ﴿إِنّا أعْطيْناك الْكوْثر﴾ [الكوثر: 1] ثم قال: ((أتدرون ما الكوثر؟) قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((هو نهرٌ وعدنيه ربِّي عليه خير كثير، وهو حوضي، ترِدُ عليه أمّتي يوم القيامة، آنيته عدد نجوم السماء يختلج العبد منهم، فأقول: يا ربِّ، إنه من أمّتي، فيُقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك)(انظر: "التعليقات السنية"؛ للرشيد).

 ثالثًا: الإيمان بالصراط:

الصراط ممّا يجب اعتقاده عند أهل السنّة والجماعة، فقال الناظم: (وكذا الصراط)؛ أي: وأقرُّ بالصراط كالإقرار بالميزان والحوض، قال المرداوي في "اللآلئ البهية" (ص103): "اعلم - وفّقك الله - أن الصراط حقٌّ ثابت في الكتاب والسنّة واتِّفاق الأمّة، وهو في اللغة: الطريق الواضح، وفي الشرع: جسر ممدود على جهنم، فيرده الأوّلون والآخِرون، فهو قنطرة جهنم بين الجنة والنار".

 - صفة الصراط:

جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد - رضِي الله عنْه - وصف الصراط: ((مدْحضةٌ مزِلّةٌ عليه خطاطِيف وكلاليب) وعند مسلم قال أبو سعيد: بلغني أن الجسر أدقُّ من الشعر وأحدُّ من السيف.

وجاء عند الحاكم من حديث سلمان مرفوعًا أنه كحدِّ الموسى.

(مدحضة مزِلّة؛ أي: زلق تزلق فيه الأقدام، كلاليب: جمع كلُّوب بفتح الكاف وضم اللام المشدّدة، وهي حديدة معطوفة الرأس يُعلّق فيها اللحم، ويُرسل إلى التنُّور، خطاطِيف: الخطف: استلاب الشيء وأخذه بسرعة).

 - حال الناس على الصراط:

جاء في "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة وحذيفة - رضِي الله عنهما - قالا: قال رسول الله  صلى الله غليه وسلم فذكر حديث الشفاعة وفيه: ((فيأتون محمدًا، فيقوم فيُؤذن له وتُرسل الأمانة والرّحِم، فتقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالاً، فيمرُّ أولكم كالبرق) قال: قلت: بأبي أنت وأمِّي، أي شيء كمرِّ البرق؟ قال: ((ألم تروْا إلى البرق كيف يمرُّ ويرجع في طرفة عين؟ ثم كمرِّ الرِّيح ثم كمرِّ الطير، وشد الرجال، تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط، يقول: ربِّ سلِّم سلِّم، حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السّيْر إلا زحفًا، قال: وفي حافّتي الصراط كلاليب مُعلّقة مأمورة بأخذ من أُمِرت به، فمخدوش ناجٍ، ومكدوس في النار)).

وقوله: ((فمخدوش ناجٍ ومكدوس في النار) هو ما أراده الناظم بقوله: "فمسلّم ناجٍ وآخر مُهْمل".

قال شيخ الإسلام: "يمرُّ الناس عليه على قدر أعمالهم، فمنهم من يمرُّ كلمح البصر، ومنهم من يمرُّ كالبرق، ومنهم من يمرُّ كالريح، ومنهم من يمرُّ كالفرس الجواد، ومنهم من يمرُّ كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدْوًا، ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يزحف زحفًا، ومنهم من يُخطف ويُلقى في جهنم". (انظر: "العقيدة الواسطية").

قال ابن حجر في "الفتح" 11/ 461: عند ذكر الأمانة والرّحِم في الحديث السابق: "أي: يقفان في ناحية الصراط؛ والمعنى: أن الأمانة والرّحِم - لعِظم شأنهما وفخامة ما يلزم العباد من رعاية حقهما - يُوقفان هناك للأمين والخائن، والواصل والقاطع، فيُحاجّان عن المُحِقِّ، ويشهدان على المُبطِل".

- أوّل من يعبُر الصراط من الأنبياء محمد  صلى الله غليه وسلم ومن الأُمم أمّته.

روى البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي  صلى الله غليه وسلم قال: ((فأكون أنا وأمّتي أوّل من يُجِيزها ولا يتكلّم يومئذٍ إلا الرسل، ودعاء الرسل يومئذٍ: سلِّم سلِّم)).

والمرور على الصراط عامٌّ للمؤمنين، ومن ادّعى الإيمان (كالمنافقين)؛ ولكنهم يتساقطون، ولا يمكن الوصول إلى الجنة إلا بعد تجاوز الصراط.

 - القنطرة:

لم يذكرها المؤلف؛ جاء بيانها في "صحيح البخاري" من حديث أبي سعيد - رضِي الله عنْه - أن رسول الله  صلى الله غليه وسلم قال: ((إذا خلص المؤمنون من الصراط حُبِسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فاقتصّ لهم مظالم كانتْ بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِن لهم بدخول الجنة، فلأحدُهم أهدى إلى منزله في الجنة من منزله الذي كان في الدنيا)).

والقنطرة عِبارة عن صراط ومكان خاص بالمؤمنين، وليس يسقط أحد منهم في النار.

 رابعًا: الإيمان بالجنّة والنار:

الجنّة والنار كلُّ واحدةٍ منهما حقٌّ ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمّة، والإيمان بهما واجب، والجنة دار الثواب، والنار دار العقاب.

قال ابن القيِّم في "مفتاح دار السعادة": "فإنه قد اتّفق أهل السنّة والجماعة على أن الجنّة والنار مخلوقتان، وقد تواترت الأحاديث عن النبي  صلى الله غليه وسلم بذلك، كما في الصحيحين عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي  صلى الله غليه وسلم أنه قال: ((إن أحدكم إذا مات عُرِض عليه مقعده بالغداة والعشِيِّ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار يُقال: هذا مقعدك من النار حتى يبعثك الله يوم القيامة))؛ متفق عليه.

ولقد تواترت الأحاديث - وقبلها الآيات - بأخبار النار وما أعدّ الله فيها للفجّار والكفّار، ومن ذلك قوله - تعالى -: ﴿فأنْذرْتُكُمْ نارًا تلظّى لا يصْلاها إِلاّ الأشْقى﴾ [الليل: 14- 15].

وأيضًا ما جاء في الصحيحين في حديث الكسوف: ((... ورأيت النار فلم أر كاليوم منظرًا قطُّ أفظع))، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنْه - مرفوعًا: ((نار بني آدم التي تُوقِدون جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم) فقالوا: يا رسول الله، إن كانت لكافية، فقال: ((إنها فُضِّلتْ عليها بتسعٍ وستِّين جزءًا)).

وفي الصحيحين أيضًا من حديث النعمان بن بشير - رضِي الله عنْه - مرفوعًا: ((إن أهون أهل النار عذابًا يوم القيامة لرجلٌ تُوضع في أخمص قدميْه جمرةٌ يغلي منها دماغه))، إلى غير ذلك من الأدلّة المُستفِيضة من الكتاب والسنّة.

وأمّا الجنّة فهي الدار التي أعدّها الله للمتّقين من عباده، فيها ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر؛ كما جاء في حديث أبي هريرة المتفق عليه، قال - تعالى -: ﴿سابِقُوا إِلى مغْفِرةٍ مِنْ ربِّكُمْ وجنّةٍ عرْضُها كعرْضِ السّماءِ والأرْضِ أُعِدّتْ لِلّذِين آمنُوا بِاللهِ ورُسُلِهِ ذلِك فضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ منْ يشاءُ واللهُ ذُو الْفضْلِ الْعظِيمِ﴾ [الحديد: 21].

وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنْه - مرفوعًا: ((أوّل زُمْرة تلِجُ الجنّة صورهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصُقون فيها، ولا يمتخِطون فيها، وأمشاطُهم الذهب والفضة، ومجامِرُهم من الألُوّة، ورِيحُهم المسك، ولكلِّ واحدٍ منهم زوجتان، يُرى مُخُّ ساقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغُض، قلوبهم على قلب واحد، يُسبِّحون الله بكرة وعشية))، إلى غير ذلك من الأدلّة المستفِيضة من الكتاب والسنّة.

فالنار أعدّها الله للكفّار على اختلاف أصنافهم، فهي مأوًى لهم خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض، والجنّة إليها يؤُول المؤمن فهي مأواه، وأن من دخل من أهل الإسلام النار سوف يؤُول إلى الجنّة، وهذا اعتقاد أهل السنّة والجماعة، خلافًا للمذاهب الباطلة الذين يُخلِّدون من دخل في النار فيها من المؤمنين، وهو مذهب الخوارج والمعتزلة، وهذا مذهب باطل مخالِف للكتاب والسنة.

 خامسًا: الإيمان بالقبر نعيمه وعذابه:

مسألة البرزخ ونعيمه وعذابه من المسائل المهمّة، وهي مرحلة بين الدنيا والآخرة، بل هي أوّل منازِل الآخرة، وفيها ينعم المرء المكلّف أو يُعذّب، وعذاب القبر أو نعيمه حاصل، ولا بُدّ لكلِّ إنسان أن يناله أحدُ الأمرين ولو لم يُقبر، ولو احترق، ولو أكلتْه السباع أو الطيور، فإنه لا بُدّ أن يناله ذلك الألم أو ذلك النعيم؛ لأن حكم الآخرة غير حكم الدنيا، فالإنسان مُركّب من جسد وروح، وهذه الرُّوح بعد الموت تخرج من الجسد، فتبقى إمّا معذّبة أو مُنعّمة، وهل عذاب القبر أو نعيمه على الروح أو البدن؟

قال شيخ الإسلام ابن تيميّة: "مذهب سلفِ الأمّة وأئمّتها أن العذاب والنعيم يحصل لرُوح الميت وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مُفارقة البدن مُنعّمة أو مُعذّبة، وأنها تتّصل بالبدن أحيانًا فيحصل له معها النعيم أو العذاب". اهـ.

ومرحلة البرزخ هي مرحلة تسبق المراحل السابقة (الجنة والنار والصراط والحوض والميزان)، وأهل السنّة والجماعة يؤمنون به وبنعيمه وعذابه؛ لتواتر الأخبار عن الرسول  صلى الله غليه وسلم في ثبوت نعيم القبر وعذابه وسؤال الملكين، ويُوجِبون الإيمان به؛ فقد روى البخاري عن أبي هريرة - رضِي الله عنْه - قال: كان رسول الله  صلى الله غليه وسلم يدعو: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجّال)).

وفي الصحيحين عن أمِّ المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق - رضِي الله عنْها وعن أبيها - أنها قالت: سألت رسول الله  صلى الله غليه وسلم عن عذاب القبر؟ قال: ((نعم؛ عذاب القبر حقٌّ)).

وأخرج أيضًا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: مرّ رسول الله  صلى الله غليه وسلم على قبرين فقال: ((إنهما ليُعذّبان وما يُعذّبان في كبيرٍ) ثم قال: ((بلى؛ أمّا أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأمّا الآخر فكان لا يستتر من بوله) قال: ثم أخذ عودًا رطبًا فشقّه باثنين ثم غرز كلّ واحدٍ منهما على قبر، ثم قال: ((لعلّه يُخفِّف عنهما ما لم ييبسا))؛ متفق عليه.

وفي حديث البراء الطويل وفيه عن سؤال الملكين ونعيم المؤمن: ((... فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به وصدّقت، فيُنادِي مُنادٍ من السماء: أنْ صدق عبدي، فافرِشوه من الجنة، وألبِسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة...) ثم قال في حق الكافر: ((... فيقول: هاه، هاه، لا أدري، فيُنادِي مُنادٍ من السماء: أنْ كذب، فافرشوا له من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتِيه من حرِّها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه...))؛ رواه أحمد وأبو داود وصحّحه الحاكم.

جاء في "سنن الترمذي" أن اسم الملكين (مُنكر ونكِير) عن أبي هريرة - رضِي الله عنْه - قال: قال رسول الله  صلى الله غليه وسلم: ((فيأتِيانِه ملكان أسودان أزرقان، يُقال لأحدهما: المنكر، والآخر: النكير...))؛ صحّحه ابن حبّان وحسّنه الألباني.

قال السيوطي - رحمه الله تعالى -:

وضبْطُ مُنْكرٍ بِفتْحِ الْكافِ = فلسْتُ أدْرِي فِيهِ مِنْ خِلافِ

وجاء في حديثٍ أن اسم الملكين (مبشر وبشير) وجاء في حديث آخر أن عددهم أربعة، وأن اسم الثالث والرابع (ناكور ورومان)، وكلها أحاديث ضعيفة.

- عذاب القبر باتِّفاق أهل السنّة والجماعة أنه للنفس والبدن، والرُّوح تتعلّق بالبدن في خمسة مواطن:

- تعلُّقها في بطن الأمِّ جنينًا.

- تعلُّقها به بعد ولادته.

- تعلُّقها به في حال النوم.

- تعلُّقها به في البرزخ.

- تعلُّقها به يوم البعث.

 - فائدة: شهيد المعركة والمُرابِط في سبيل الله يؤمنان من فتنة القبر، فهم مُستثنون من فتنة القبر، ويدلُّ على ذلك:

عن رجل من أصحاب النبي  صلى الله غليه وسلم قال: يا رسول الله، ما بال المؤمنين يُفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ فقال رسول الله  صلى الله غليه وسلم: ((كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة))؛ رواه النسائي.

وعن فضالة بن عُبيد أن رسول الله  صلى الله غليه وسلم قال: ((كلُّ الميِّت يُختم على عمله إلا المُرابِط، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويُؤمّن من فتّان القبر) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.

 - هل تأكل الأرض أجساد الشُّهداء كسائر الناس أم لا؟

معلومٌ أن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء؛ كما جاء في السنن، وأمّا الشهيد فقد شُوهِد منهم من لم يتغيِّر بعد مُدّة من دفنه؛ كما جاء في "صحيح البخاري": أن جابر بن عبدالله - رضِي الله عنْه - استخرج أباه بعد ستّة أشهر من دفنه، وكان أبوه قُتِل يوم أحد، يقول جابر - رضِي الله عنه -: "فاستخرجته فإذا هو كيوم وضعته هنيهة"، فيحتمل بقاء أجسادهم، ويحتمل فناؤها بعد زمن، والله أعلم.

 - مسألتان:

 المسألة الأولى: هل يستمرُّ عذاب القبر؟

قال ابن عثيمين: "أمّا إذا كان الإنسان كافرًا - والعِياذ بالله - فإنه لا طريق إلى وصول النعيم أبدًا، ويكون عذابه مُستمرًّا، وأمّا إن كان عاصيًا وهو مؤمن، فإنه إذا عُذِّب في قبره يُعذّب بقدر ذنوبه، وربما يكون عذاب ذنوبه أقلّ من البرزخ الذي بين موته وقيام الساعة، وحينئذٍ يكون منقطعًا". (انظر: "الممتع" ج3، ص253).

 المسألة الثانية: أين يكون مأوى الأرواح بعد دخولها القبر؟

إذا مات العبد تصعد روحه إلى السماء، فإن كان مؤمنًا فُتِحت له أبواب السماء حتى تصعد روحُه إلى السماء السابعة، ثم يُنادِي منادٍ من السماء: أن اكتُبوا كتاب عبدي في عليِّين، وأعِيدُوه إلى الأرض؛ فإني منها خلقتهم، وفيها أُعِيدهم، ومنها أُخرِجهم تارةً أخرى، ثم تُعاد روحُه في جسده، ويُسأل ثم ينْعم.

وإن كان كافرًا أو مُنافِقًا صعدتْ روحه إلى السماء، فيستفتحون لها فلا يُفتح لها، ويُنادِي مُنادٍ من السماء: أن اكتبوا كتاب عبدي في سِجِّين، وأعِيدوه إلى الأرض؛ فإني منها خلقتهم... كما جاء في حديث البراء في "مسند الإمام أحمد" وبعض السنن.


 - وهل تتفاوت الأرواح في مستقرِّها في البرزخ؟

قال ابن القيِّم: الأرواح مُتفاوِتة في مستقرِّها في البرزخ أعظم تفاوُت:

فمنها: أرواح في أعلى عليِّين في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - وهم مُتفاوِتون في منازِلهم كما رآها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ليلة الإسراء.

ومنها: أرواح في حواصِل طير خُضْرٍ تسْرح في الجنة حيث شاءتْ، وهي أرواح بعض الشُّهداء لا جميعهم، بل من الشُّهداء من تُحبس روحه عن دخول الجنة لِديْنٍ عليه أو غيره؛ كما في "المسند" عن محمد بن عبدالله بن جحش أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: يا رسول الله، ما لي إن قُتِلْتُ في سبيل الله؟ قال: ((الجنة))، فلمّا ولّى، قال: ((إلا الدّين، سارّني به جبريل آنفًا)).

ومنهم: من يكون محبوسًا على باب الجنة؛ كما في الحديث الآخر: ((رأيت صاحبكم محبوسًا على باب الجنة)).

ومنهم: من يكون محبوسًا في قبره كحديث صاحب الشّمْلة التي غلّها ثم استُشهِد، فقال الناس: هنِيئًا له الجنة، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((والذي نفسي بيده إن الشّمْلة التي غلّها لتشتعل عليه نارًا في قبره)).

ومنهم: من يكون مقرُّه باب الجنة؛ كما في حديث ابن عباس: ((الشُّهداء على بارقِ نهرٍ بباب الجنّة في قبّة خضراء، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية))؛ رواه أحمد.

وهذا بخلاف جعفر بن أبي طالب؛ حيث أبدله الله من يديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء.

ومنهم: من يكون محبوسًا في الأرض لم تعلُ رُوحه إلى الملأ الأعلى، فإنها كانت رُوحًا سفليّة أرضية، فإن الأنفس الأرضيّة لا تُجامِع الأنفس السماوية كما تجامعها في الدنيا، والنفس التي لم تكتسب في الدنيا معرفة ربها ومحبّته وذكره والأنس به والتقرُّب إليه بل هي أرضية سفلية.

ومنها: أرواح تكون في تنور الزُّناة والزواني وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتلتقم الحجارة، فليس للأرواح سعيدها وشقيِّها مستقرٌّ واحد، بل روح في أعلى عليِّين، وروح أرضية سفليّة لا تصعد عن الأرض". (انظر: كتاب "الروح"؛ لابن القيم ص187).

 - تنبيه: 

هناك مسألة عظيمة لم يذكرها الناظم - رحمه الله - وهي مسألة (الشفاعة).

الشفاعة لغةً: من الشفع وهو ضد الوتر، وهو ضمُّ الشيء إلى مثيله.

اصطلاحًا: سؤال الخير للغير، وضمُّ الصوت إلى الصوت في سؤال التجاوُز عن الذنوب.

وهي من المسائل العظيمة في الاعتقاد، وهي ملك لله وحده؛ قال - تعالى -: ﴿قُلْ لِلّهِ الشّفاعةُ جمِيعًا﴾ [الزمر: 44].

 أنواع الشفاعة:

الشفاعة باعتبار حكمها نوعان:

 - النوع الأول: شفاعة شرعيّة وهي الشفاعة المثبتة، وهي شفاعة مقبولة ولا بُدّ فيها من توفُّر شرطين:

الأوّل: الإذن للشافع أن يشفع.

 الثاني: الرضا عن المشفوع له.

قال الله - تعالى -: ﴿وكمْ مِنْ ملكٍ فِي السّماواتِ لا تُغْنِي شفاعتُهُمْ شيْئًا إِلاّ مِنْ بعْدِ أنْ يأْذن اللهُ لِمنْ يشاءُ ويرْضى﴾ [النجم: 26].

 - النوع الثاني: شفاعة شركيّة وهي الشفاعة المنفيّة وهي شفاعة مردودة.

قال - تعالى -: ﴿فما تنْفعُهُمْ شفاعةُ الشّافِعِين﴾ [المدثر: 48].

- تنقسم الشفاعة باعتبار خصوصها وعمومها إلى قسمين: شفاعة خاصة وشفاعة عامّة:

أولاً: الشفاعة الخاصة برسول الله  صلى الله غليه وسلم وهي ثلاثة أنواع:

 الأولى: الشفاعة العظمى:

وهي شفاعةٌ لفصل القضاء حين يتدافعها الرسل فتنتهي إليه  صلى الله غليه وسلم كما قال - تعالى -: ﴿عسى أنْ يبْعثك ربُّك مقامًا محْمُودًا﴾ [الإسراء: 79]، وفي الحديث الطويل حين يقول كلُّ واحدٍ من الأنبياء: نفسي، نفسي، فيأتون إلى النبي  صلى الله غليه وسلم فيقول: ((أنا لها))، والحديث متفق عليه عن أبي هريرة - رضِي الله عنه.

 الثانية: في دخول الجنة:

عن أنس - رضِي الله عنْه - قال: قال النبي  صلى الله غليه وسلم: ((أنا أوّل الناس يشفع في الجنة، وأنا أكثر الأنبياء تبعًا) وفي رواية: ((فأستفتِح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أُمِرت لا أفتح لأحدٍ قبلك))؛ رواه مسلم.


 الثالثة: شفاعته في عمِّه أبي طالب:

يشفع له رسول الله  صلى الله غليه وسلم فيُخفّف عنه العذاب بدون أن يخرج من النار؛ لأنه مات كافرًا.

جاء في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رضِي الله عنْه - أن رسول الله  صلى الله غليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال: ((لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة؛ فيُجعل في ضحْضاح من نار يغلي منه دماغه) وفي رواية: ((ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار)).

 ثانيًا: الشفاعة العامّة وهي على خمسة أنواع:

الأولى: الشفاعة في رفع درجات أقوام من أهل الجنة.

الثانية: في قوم استوجبوا النار ألاّ يدخلوها.

الثالثة: في قوم دخلوا النار أن يخرجوا منها، وهذه الثلاثة أنواع تنكرها المعتزلة.

جاء في "صحيح البخاري" عن عمران بن حصين - رضِي الله عنْه - عن النبي  صلى الله غليه وسلم قال: ((يخرج قومٌ من النار بشفاعة محمد، ويدخلون الجنة ويُسمّون بالجهنّميِّين)).

ومن ذلك أيضًا ما جاء عند الترمذي من حديث أنس - رضِي الله عنْه - أن رسول الله  صلى الله غليه وسلم قال: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي))، وأنكرت الخوارج والمعتزلة إخراج أهل الكبائر من النار.

الرابعة: فيمن استوتْ حسناتهم وسيئاتهم، وهم أهل الأعراف على قول بعض أهل العلم.

الخامسة: شفاعة النبي  صلى الله غليه وسلم في قومٍ من أمّته يدخلون الجنّة بغير حساب ولا عذاب، كشفاعة عُكّاشة بن مِحْصن أن يجعله الله من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.

فأصبح عدد الشفاعات ثمانيًا، بالإضافة للشفاعات الخاصة.

 - من الأعمال الموجبة لشفاعة النبي  صلى الله غليه وسلم:

1- قول: (لا اله إلا الله) خالصة من القلب:

عن أبي هريرة - رضِي الله عنْه - قال: قلت: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: ((ظننت ألا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أوّل منك؛ لما رأيت حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: (لا اله إلا الله) خالِصًا من قلبه))؛ رواه البخاري.

2- قول الذكر الوارد بعد الأذان:

عن جابر - رضِي الله عنْه - قال: قال رسول الله  صلى الله غليه وسلم: ((من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامّة والصلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، إلا حلّت له الشفاعة))؛ رواه البخاري.

3- الصبر على جدب المدينة ولأوائها:

عن سعد بن أبي وقّاص - رضِي الله عنْه - قال: قال رسول الله  صلى الله غليه وسلم: ((لا يثبت أحدٌ على لأْواءِ المدينة وجدبها إلا كنتُ له شفِيعًا أو شهِيدًا يوم القيامة))؛ رواه مسلم.

4- الموت في المدينة:

عن ابن عمر - رضِي الله عنهما - أن رسول الله  صلى الله غليه وسلم قال: ((من استطاع أن يموت بالمدينة فليمُتْ بها؛ فإني أشفع لِمن يموت بها))؛ رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وصحّحه الألباني.

يشفع النبيُّون والملائكة والشُّهداء والصالحون على قدر مراتِبهم ومقاماتِهم عند ربهم؛ فالشهيد مثلاً يشفع في سبعين من أهل بيته كما ورد عند أبي داود وابن حبان.

* * *

- قال المصنف - رحمه الله تعالى -:

15- هذا اعْتِقادُ "الشّافِعِيِّ" و"مالِكٍ" = و"أبِي حنِيفة" ثُمّ "أحْمد" يُنْقلُ 16- فإِنِ اتّبعْت سبِيلهُمْ فمُوفّقٌ = وإِنِ ابْتدعْت فما عليْك مُعوّلُ

 - لغة البيتين:

- (هذا)؛ أي: ما مضى من جوابِي للسائل واعتقادي هو اعتقاد هؤلاء الأئمّة الأعلام.

- (يُنقل): بضم الياء، إشارة إلى ما نقله عنهم أئمّة النقل.

- (السبيل): هو الطريق، والمقصود هو ذلك الاعتقاد الذي اعتقدوه، بدون تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل.

 - الفوائد:


 ترجمة مختصرة للأئمّة مُرتّبة ترتيبًا زمنيًّا:

 الإمام الأوّل: أبو حنيفة:

- النعمان بن ثابت التّيمي الكوفي الفقيه المجتهد، فارسي الأصل ووُلِد بالكوفة سنة80 هـ ونشأ بها، وهو من تابعي التابعين، إمامُ أهل الرأي، وفقيهُ أهل العراق، قال عنة الشافعي: "الناس عِيال في الفقه على أبي حنيفة".

- من تلامذته الإمام أبو يوسف القاضي، فقيه حافظ، وهو الذي دوّن أصول إمامه ونشر مذهب الحنفية، ومنهم أيضًا محمد بن الحسن الشيباني، الذي انتهتْ إليه رئاسة الفقه في العراق بعد أبي يوسف.

- صنّف أبو حنيفة "الفقه الأكبر" في العقيدة، وتوفي سنة 150هـ.

 الإمام الثاني: مالك:

- هو مالك بن أنس الأصبحي الحميدي المدني، وُلِد عام 93هـ، وهو إمام دار الهجرة في الفقه والحديث، وهو من أكابر من روى عنه الإمامان أبو حنيفة والشافعي.

- فُتِن - رحمه الله - وضُرِب بالسياط لمّا وُشِي به إلى جعفر عمِّ المنصور العباسي، فضربه سِياطًا انخلعتْ منها كتفه.

- أرسل إليه الخليفة الرشيد العباسي ليأتيه فيحدِّثه فقال: "العلم يُؤتى"، فجاء الرشيد إلى منزله واستند إلى الجدار، فقال مالك: يا أمير المؤمنين، من إجلال رسول الله  صلى الله غليه وسلم إجلال العلم، فجلس الخليفة بين يديه فحدثه.

- أخذ العلم عن: عبدالرحمن بن هرمز، ونافع مولى ابن عمر، وابن شهاب الزهري، وربيعة الرأي.

- ومن تلامذته: عبدالرحمن بن قاسم، وأشهب بن عبدالعزيز مفتي الديار المصرية، وتتلمذ عليه الشافعي.

- صنّف "الموطأ"، وله رسائل في الوعظ والردِّ على القدرية، و"تفسير غريب القرآن"، وتوفي عام 179هـ.

 الإمام الثالث: الشافعي:

- محمد بن إدريس الشافعي المطّلبي، ولد في غزة عام 150هـ، وحُمِل إلى مكّة وعمره سنتان، ونشأ بمكّة وأخذ الفقه وعلوم القرآن عن مسلم الزِّنجي، ثم رحل إلى المدينة وتفقّه على الإمام مالك بن أنس وسمع منه "الموطأ"، وأخذ الحديث وعلومه عن سفيان بن عُييْنة وعلماء المدينة، ثم رحل إلى العراق وأخذ عن تلميذ أبي حنيفة محمد بن الحسن (فقه الرأي).

- كان آدب الناس، وبرع في اللغة وأيام العرب وفي الشعر حتى قيل: شاعر الفقهاء، وفقيه الشعراء وهو الذي يقول:

ولوْلا الشِّعْرُ بِالْعُلماءِ يُزْرِي = لكُنْتُ الْيوْم أشْعر مِنْ لبِيدِ

قال عنه الإمام أحمد: "ما أحدٌ ممّن بيده محبرة أو ورق إلا وللشافعي في رقبته مِنّة".

- ومن تلامذته: أبو يعقوب يوسف البُويطي، وهو الذي جمع كتاب "الأم"؛ للشافعي، وإسماعيل المُزنِيُّ الذي اختصر كتاب "الأم"، ومن تلامذته: الإمام أحمد بن حنبل.

- له رسالة في أصول الفقه، وله كتاب الفقه الكبير "الأم"، توفي سنة 204هـ.

 الإمام الرابع: أحمد بن حنبل:

- هو أحمد بن حنبل الشيباني، أصله من مرو، وأبوه والي سرخس، ولد ببغداد عام 164 هـ.

- أسمر اللون، حسن الوجه، طويل القامة، يلبس الأبيض، يخضب بالحنّاء.

- طلب العلم في كثير من البلاد، وتفقّه على الشافعي حين قدم بغداد، واهتمّ بالحديث وجمعه حتى صار إمام المحدِّثين في عصره.

- فُتِن وعُذِّب في فتنة القول بخلق القرآن، ولكنّه صمد ووقف في وجه القائلين بها حتى نصره الله، قال علي بن المديني: لقد عصم الله الأمّة زمن الردّة بأبي بكر الصديق، وزمن المحنة بأحمد بن حنبل.

- من تلامذته: ابناه صالح وعبدالله، فالأوّل عُنِي بالفقه، والثاني بالحديث وله الزوائد، ومنهم أبو بكر المرُّوذي أحمد بن الحجاج عالم بالفقه والحديث وله كثير من التصانيف.

- صنّف بالحديث كتابه الكبير "المسند".

ختم الناظم أبياته ببيان أن هؤلاء الأئمّة هذا اعتقادهم الذي ذكر لك - أيُّها السائل - في الصفات، وإمرارها كما جاءت، ويؤمنون بعلم الغيب وأن الله استأثر به، وأن من أنكر هذه المغيبات مثل: القبر والصراط والحوض والميزان والقنطرة والجنة والنار وما فيهما من عذاب ونعيم - أن من أنكرها فقد كفر، ولا يُثبِتون إلا ما ورد إثباته، ولا ينفون إلا ما ورد نفيه، وذكر الشيخ أن الخاسر من زاغ عن طريقهم، وانحرف عن منهجهم، منهج أهل السنّة والجماعة، بل وعد المبتدِعين الذين يُحكِّمُون عقولهم فقط في إثبات ما يتعلّق بالله ويعترضون على كلِّ ما لا تستجيب له عقولهم، فنبذوا الكتاب والسنّة والإجماع بالخسران والهوان واتِّباع الجدل والمِراء، جعلني الله وإيّاك ممّن يجعل الكتاب والسنّة له نِبراسًا في هذه الحياة، ونجاة في حياة الآخرة.

والله أعلم، وصلّى الله وسلّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.