الملخص المفيد في أحكام المسلم
مقدمـــة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
فإن نعم الله عز وجل على الإنسان كثيرة وجليلة، لا تُعدُّ ولا تحُصى; قال الله عز وجل: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ ([1]).
وأجلُّ نعم الله عز وجل وأعظمها على الإطلاق، أن يُوَفِّق العبد إلى صراطه المستقيم، وطريقه القويم، ودينه الحق الذي ارتضاه، وأمر الناس أن يتعبدوه به; قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ ([2]).
إن ذلك أجلّ نعمة، وأعظم هدية يُنعم بها على العبد; إذ بها تكون السعادة والراحة في الدنيا، والنجاة والفوز العظيم في الآخرة; قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾ ([3]).
ولما كان الإسلام هو دين الله الذي لا دين غيره، ولا حق سواه، وهو دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهو دين الأنبياء والمرسلين جميعاً، القائم على توحيد الله تعالى، وإفراده بالعبادة، والاستسلام والانقياد لشرعه; فإنَّ الله سبحانه وتعالى لن يَقبل من الناس في الآخرة سواه; كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾([4])؛ فالإسلام هو الطريق الوحيد للسعادة والنجاة والفوز في الدارين.
ولقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم حرصاً شديداً على دعوة الناس جميعاً إلى الإسلام، وهدايتهم إلى توحيد رب الأرض والسماء; فما ترك صلى الله عليه وسلم من سبيل ولا طريقة مشروعة لدعوة الناس وهدايتهم إلى الإسلام إلا واتبعها وسلك سبيلها; حرصاً على سعادتهم، ورجاء لنجاتهم، حتى قال الله الله عز وجل له: ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ ([5])، أي: لعلَّك مهلك نفسك من الغمِّ والهمِّ بسبب عدم إيمانهم وهدايتهم.
وكما كان حرصه صلى الله عليه وسلم عظيماً على هداية الناس إلى الإسلام, كانت فرحته وسعادته صلى الله عليه وسلم عظيمة بمن يدخل الإسلام; فهو عليه الصلاة والسلام أكثر الناس إدراكاً لجلالة وقَدْر هذه النعمة, وما يترتب عليها من السعادة والنعيم المقيم، وصدق الله عز وجل لمّا وصفه بقوله: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ ([6]).
وحيث إنك أيها المسلم، ممن أنعم الله عز وجل عليه بهذه النعمة العظيمة; فأنت في أمسِّ الحاجة إلى معرفة أحكام دينك وتعاليمه ومبادئه; مما حقق لك سلامة المعتقد، وصحة أداء المفروض من العبادة، وأسس التعامل مع المجتمع من حولك; لاسيما أولئك الذين لا يزالون على غير دين الإسلام; فجمعنا لك أهم الأحكام والمسائل التي تحتاج إلى معرفتها في كتاب واحد أسميناه:
(الملخص المفيد في أحكام المسلم)
راجين من الله العَليِّ العظيم أن نكون وفقنا في اختيار موضوعاته، وتحرير مسائله.
ونود التنويه في هذا المقام إلى أن دين الإسلام هو دين الله تعالى، وهو دين معصوم من الخطأ والانحراف، أما البشر فما يزالون يجتهدون في العلم والفهم; فمنهم من يصيب ومنهم من يخطئ، وهم على ذلك إلى أن يرِث اللهُ الأرض ومن عليها.
فهذا جهدنا واجتهادنا; فما كان فيه من صواب فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو زلل فمن أنفسنا ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان.
منهجنا في الكتاب:
لقد سار العمل في هذا الكتاب وفق المنهجية التالية:
1) الحرص على تقديم الكتاب بعبارة سهلة ولغة بسيطة، يسهل على المسلم فهمها واستيعابها، ومن ثمَّ التزامها وتطبيقها.
2) الاقتصار في الكتاب على ذكر أهم المسائل التي تبصر المسلم بعقيدة الإسلام وأحكامه التي لا يسعه جهلها.
3) تم تقسيم موضوعات الكتاب إلى أربعة فصول: الفصل الأول يتناول تعريفاً مجملاً بدين الإسلام، والفصل الثاني يتناول أهم المسائل في باب الإيمان والتوحيد، أما الفصل الثالث فيتناول جملة من الأحكام الفقهية والواجبات التعبدية, والفصل الرابع والأخير يتناول أحكام العلاقات الاجتماعية والمالية للمسلم.
ولا يسعنا في الختام; إلا أن نتضرع إلى المولى جل وعلا أن يتقبل مناهذا العمل, وأن يجعله صالحاً ولوجهه خالصاً، وأن ينفع به ويبارك فيه، إنه سبحانه بكل جميلٌ كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بين يدي الكتاب
إن من أخصِّ خصائص دين الإسلام أنه دين ميسَّرٌ ومسهَّل لكل أحد من البشر; لأن العلاقة بين الإنسان وربِّه علاقة مباشرة لا تحتاج إلى واسطة; قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقر: 186].
فها أنت أخي المسلم; يا من رغبت في ِ دين الإسلام; رأيت وأدرَكت كيف أنََّ الدُّخول في الإسلام لم يتَطلَّب تَدخُّل أحد من البَشر، ولا مُوافقَتَه على ذلك، بل إنََّ غاية ما فَعَلتَ أنَّك حرَّكت لسانَك َ وشفتَيك لتَنطق بأعظم جملتين:
(أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن ً محمداً رسول الله) إقراراً وتصديقاً بهما وبما تضمَّنتاه من:
أ - الإقـرار بالعُبوديَّة لله سبحانه وتعـالى، وحدَه لا شريك له.
ب - الإقرار بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو عبد الله ورسوله.
فإذا استقرَّت هذه المعاني في قلبك، ونطَقت بالشَّهادتين، صرت مُسلماً صادقاً، لك ما للمسلمين من حقوق، وعليك ما عليهم من واجبات، نُجلِّيها لك في صفحات هذا الكتاب; لتَعبد الله على نور وبصيرة، وتجدَّ وتجتهِد في تحقيق أعلى مَراتب الإيمان.
فنسأل اللهَ أن يُباركَ لك في إسلامَك وإيمانك، وأن يُثبِّت على الهدى قَلبَك ويرزقك التَّوفيق والسَّداد في عملك وعبادتك إنه سميع قريب مجيب.
الفصل الأول
إن الدين عند الله الإسلام
إن الدين عند الله الإسلام
لقد أرسل الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بدينٍ ختم به سائر الأديان، وجعله حاكماً عليها وناسخاً لأحكامها، وقد تكفل الله بحفظه من التحريف والتغيير، ووصفه بأنه الصراط المستقيم الذي من سلكه نجا في الدنيا والآخرة ومن حاد عنه وسلك غيره ضل وهلك; لأن مخالفتَه تَعني انتكاسَ الإنسان عن فطرته التي فطره الله وجبَله عليها; قال تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: 30].
أولاً: الإسلام دين الفطرة:
لقد خلق الله النفس البشرية تميل إلى كل ما فيه خير وصلاح ومنفعة، وتنفر من كل ما فيه شر وإفساد وضرر; فأنت ترى الإنسان يميل بطبعه إلى الطعام والشراب الطيب المفيد، وينفر منه إذا كان خبيثاً ضاراً، وتراه يميل إلى مصاحبة ذي الخُلُق الكريم والصفات الفاضلة، وينفر من كل ذي خُلُق قبيح وسلوك رذيل، وهو يحب ويحترم ويُقدِّر من كان متصفاً بالكمال; فيوليه كل احترام وتقدير وتبجيل، في حين أنه لا يعامل من كان متصفاً بالنقص والعجز والضعف بمثل هذا الحب والاحترام والتقدير.
هذه هي الفطرة التي خلقها الله في نفس الإنسان وقَلْبِه; فجعل القلوبَ مؤهلة لقبولِ الحقِّ، كما خَلق الأعين قابلة لأن ترى، والآذان قابلة لأن تسمع وما دامت هذه القلوب باقيةً على فطرتها قبلت الحقِّ وأدركته واهتدت إليه، وإذا تغيرَّت بسبب الهوى والشهوات ضلت عن الحق واتبعت الباطل; فعن عياض رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين. وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا» [رواه مسلم].
ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما من إنسان يولد إلا وهو على الفطرة التي خلقه الله تعالى عليها، حتى يأتي من المؤثرات الخارجية ما يغير هذه الفطرة; فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟»، ثم قال أبو هريرة: واقرؤا إن شئتم: ﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ ..الآية [الروم: 30]» [رواه البخاري ومسلم].
فالنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن الفطرة تكون باتباع دين الإسلام وليس باتباع غيره من الديانات المُحَرَّفة والمِلَل التي لم يشرعها اللهُ ولم يأمر بها، ألا تراه لم يقل في الحديث (أو يُسْلِمانِهِ); ليدلل لنا على أن الإسلام هو دين الفطرة.
ومما يؤكد أن الإسلام دين الفطرة ما جاء صريحاً في الرواية الأخرى للحديث: «ما من مولود يولد إلا على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه» [رواه مسلم].
إن من يتعرَّف على تعاليم الإسلام يدرك بوضوح أنه الحق الذي يجب اتباعه; لأن تعاليمه تراعي الفطرة السليمة وترعاها ولا تتمرد عليها; فهي:
1) تأمر بعبادة الله وحده لا شريك له; خالق الكون كله، وبيده الملك كله وهو على كل شيء قدير، ومقتضى الفطرة السليمة أن من اتصف بالكمال كان مستحقاً للاحترام والتقدير، فكيف بمن كان كماله مطلقاً لا منتهى له ولا حدود؟!
2) وأحلت تعاليم الشريعة الطيبات وحرمت الخبائث; لأن الفطرة السليمة تميل إلى كل طيب, وتنفر من كل خبيث.
3) وحثت تعاليم الإسلام على التحلي بكريم الأخلاق والفضائل ونهت عن الرذائل والقبائح; لأن النفوس المستقيمة تحب كل حسن وترفض كل قبيح.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثم أتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر. فقال: اشرب أيهما شئت، فأخذت اللبن فشربته. فقيل لي: أخذت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك» [رواه البخاري ومسلم].
ثانياً: ما هو الإسلام؟
ما من ديانة على وجه الأرض إلا وترجع في نسبتها إلى رجل بِعَينِهِ أو أُمّةٍ من الأممِ; فاليهوديَّة تُنسب إلى " يهَُوذا ", والنصرانيَّة تُنسب إلى "النَّصارى", والبُوذيَّة ُتنسب إلى "بُوذا"، وهكذا.
أما "الإسلام" فإنه يرجع في نسبته إلى صفة خاصة يتضمنها ذلك الاسم وهي:
الاستسلام والانقياد والخضوع والامتثال لمن شرع هذا الدين وأمر باتباعه، فالله تعالى سمى دينه "الإسلام"; لأن المسلم يجب عليه أن يستسلم لله تعالى بتوحيده والإيمان به، وينقاد لأمره ونهيه امتثالاً وطاعة من غير اعتراض ولا صدود.
وبذلك يظهر أن لفظ "الإسلام" يدل على أن هذا الدين ليس من صنع أحد من البشر، ولا هو خاص بأُمَّة من الأمم، وإنما غايته أن يتصف جميع الناس بصفته التي تميزه.
ولا يخرج "الإسلام" بمفهومه الخاص الذي هو الدِّين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عن هذه الخصِّيصة التي يتضمنها اسم "الإسلام"; فلقد قامت دعوته على إخراج الناس من العبودية للخلق والهوى والشهوة إلى تجريد العبودية لله تعالى والخضوع له سبحانه، والانقياد والطاعة لكل ما أمر به واجتنابكل ما نهى عنه.
فــ "الإسلام": استسلام لله تعالى بالتوحيد، وانقياد له بالطاعة; حتى يستقر حبه في قلب المسلم، وهو تنقية وتصفية للقلب من الشرك والكفر بجميع صوره ومعانيه، حتى تنخلع شوائبه من قلب المسلم; كما أرشد إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» [رواه البخاري ومسلم].
ثالثاً: الإسلام دين الأنبياء جميعاً:
إن كل إنسان على هذه الأرض يجب أن يكون مستسلماً لله تعالى, خاضعاً له، مطيعاً لأمره، مجتنباً لنهيه، بقطع النظر عن اختلاف الزمان والمكان، ولكن لما بدّل الناس دينهم واتبعوا أهواءهم وشهواتهم، انحرفوا عن الحق واتبعوا الباطل، فأرسل الله تعالى الرسل ليأخذوا بأيدي الناس إلى طريق الهداية واتباع الحق، والعودة بهم إلى توحيد الله وعبادته، قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25]. فمن استجاب لهم كان مستحقاً لوصف "مسلم" الذي سمى الله به عباده الموحدين; قال تعالى: ﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ [الحج:78].
وقد أخبرنا القرآن الكريم أن دعوة الأنبياء كانت دعوة إلى الإسلام، وأن من اتبعهم كان من المسلمين; فقال عن نوح عليه السلام: ﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: 72].
وقال عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ [البقرة: 128].
وقال في وصية يعقوب لأبنائه: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون﴾ [البقرة: 133].
وقال عن موسى عليه السلام: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾ [يونس: 84].
وقال عن يوسف عليه السلام: ﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف: 101].
وقال عن سليمان عليه السلام: ﴿ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل: 31].
وقال عن لوط عليه السلام: ﴿ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الذاريات: 36].
وقال عن حواري عيسى عليه السلام: ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 52].
فدعوة الأنبياء دعوة واحدة إلى الإسلام; لأن ربَّهم واحدٌ، ودينَهم واحدٌ، وإن اختلفت شرائعهم –كما سيأتي-، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد» [رواه البخاري ومسلم]. والعَلاَّت: هم الإخوة لأبٍ من أُمَّهات شتَّى.
فدين الله الذي جاء به كلُّ الرُّسل هو الإسلام; قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: 19]، ولا يقبل الله من الخلق غير الإسلام; كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85].
رابعاً: أركان الإسلام:
الإسلام بُنيان كبير، ولا بد لهذا البنيان من أسس وأركان يقوم عليها، بيَّنها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان » [رواه البخاري ومسلم].
الركن الأول: شهادة أن لا إل إلا الله، وأن محمداً رسول الله:
وهذه الشهادة هي عنوان الدخول في الإسلام، فلا بد لمن أراد الدخول في الإسلام أن ينطق بها، وهي تتكون من ركنين:
الأول: (لا إله إلا الله):
وهي تعني أنه ليس هناك معبود يستحق العبادة إلا الله سبحانه وتعالى; فهي تنفي عبادة ما سوى الله من ملائكة، وأنبياء، وصالحين وأولياء، وأشجار، وشمس، وقمر، وأحجار، وقبور; لأن هذه الأشياء كلها مخلوقة لله رب العالمين، فكيف يَعبُد الإنسانُ المخلوقُ مخلوقاً مثله ويترك عبادة الخالق ?! وبالتالي لا تثبت العبودية إلا لله رب العالمين الذي خضع له الكون كُلُّه بما فيه; قال تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18].
ومن هنا كانت هذه الكلمة (لا إله إلا الله) عنوان الإسلام وشعاره ومفتاح الدخول إليه; لأنها تعني أن الإنسان يُقرُّ بطاعته، وانقياده لعبودية الله، ويتبرأ ويتخلص من عبادة ما سواه، أو أن يعبد معه غيره.
الثاني: (محمَّد رسول الله):
وهذه الشهادة تتضمن ثلاثة أمور مهمة، وهي:
1) الإقرار بأن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق بشيراً ونذيراً إلى الناس كافة العربي والأعجمي، والأبيض والأسود، يدعوهم إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك والكفر; قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [سبأ: 28].
2) وجوب تصديق النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به; لأنه وحي من الله; كما قال تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3-4].
3) وجوب طاعة النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر به; واجتناب كل ما نهى عنه وزجر; لأنه مبلغ عن الله، والله أمر بطاعته; قال تعالى: ﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7].
الركن الثاني: إقام الصلاة:
الصلاة: عبادة ذات أقوال وأفعال مخصوصة، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم، وهي عمود الدِّين، وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، ولذا كانت أمراً مفروضاً من الله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: 13].
ولشرفها وعظيم قَدْرها فرَضَها اللهُ تعالى في السماوات العلى.
وإقامتها تكون بتأديتها بإخلاصٍ وخشوعٍ وحضور قلبٍ، مع مراعاة شروطها وأركانها وواجباتها وسننها. فمن أدَّاها على هذه الصفة كانت له نوراً; كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والصلاة نور» [رواه مسلم], أي أنها تهدي المصلي إلى الصواب، وتنير له طريق الهداية َفتحُولُ بينه وبين المعاصي, وتنهاه عن الفحشاء والمنكر; كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45].
الركن الثالث: إيتاء الزكاة:
الزكاة هي: القدر الواجب إخراجه لمستحقيه من المال الذي بلغ نصاباً بشروط مخصوصة.
وهي فرض واجب على أغنياء المسلمين في أموالهم لإخوانهم المستحقين من الفقراء والمساكين وغيرهم ممَّن بيَّنهم القرآن الكريم; قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ﴾ [التوبة: 6].
فتُعطى لهم امتثالاً لأمر الله تعالى، وإحساناً إلى خلقه، ويُطَهِّر المُسلم بها نفسه من الذنوب والآثام، ويزكيها من البخل والشح; قال تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة: 103].
فالزكاة ليست منَّــةً من الإنسان على أخيه الإنسان, بل هي حق الله في هذا المال; قال تعالى: ﴿ وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ﴾ [النور: 33]، فينبغي للمسلم أن يؤديها بطيب نفس وكريم خلق؛ حتى لا يضيع أجره؛ قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾ [البقرة: 262-264].
وبهذه الفريضة العظيمة تتحقق صورة من صور تراحم وتلاحم المجتمع المسلم، فتحفظ عليه وحدته وألفته وتماسكه.
الركن الرابع: صوم رمضان:
وهو الإمساك في شهر رمضان عن الطعام والشراب وسائل المفطرات، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنيَّة التعبُّد لله تعالى.
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].
فالصيام عبادة ترتقي بالمسلم لتقويم سلوكه; فهو يقوِّي لديه جانب تقوَى الله، والبُعد عن كل ما نهى عنه، ويُعوِّدُه التَّحكُم بإرادته وعَدم الانسياق وراء رغباته وشهواته، فليس المقصود من الصوم: مجرد الامتناع عن الطعام والشراب؛ ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لمْ يَدَعْ قولَ الزورِ والعملَ بِهِ، فليسَ للهِ حاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طعَامَهُ وشرَابَهُ» ] رواه البخاري].
ومن الصيام يتعلم المسلم كيف يشعر بمعاناة الآخرين من إخوانه الفقراء والمحتاجين الذين لا يجدون ما يسدُّ جوعهم ويطفئ ظمأهم، فالصائم يشعر بقهر الجوع والعطش مع قدرته على الطعام والشراب، وبالتالي يدرك أن من إخوانه من يقاسي ويعاني، ولا يجد ما يسد حاجته، فتراه يسرع ويبادر إلى البذل لهم، والإنفاق عليهم.
الركن الخامس: حج بيت الله الحرام:
وهو قصد مكة في أشهر مخصوصة لأعمال مخصوصة.
والحج عبادة بدنية فرضها الله في العمر مرة واحدة; استجابة للأمر الرباني الذي أمر الله به نبيه إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج: 27].
فبالحج تتجلى مظاهر العبودية لله تعالى وتوحيده الخالص في أداء المسلم لأعمال الحج والتجرد من زينة الدنيا; خضوعاً وطاعة لله تعالى، وترديد نداء التوحيد: (لَبَّيْكَ لاَ شرَِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ).
وبالحج يتجلى مظهر المساواة والوحدة بين جميع المسلمين؛ بتلبيتهم الواحدة ولباسهم الواحد، وعلى صعيد واحد، رغم اختلاف ألوانهم، وأجناسهم, وأحوالهم.
فهذا هو الإسلام وهذه أركانه العظام، من قام بها حق القيام ذاق طعم الإيمان، وكان مستحقَّاً لمغفرة الرحمن; قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ذاقَ طعمَ الإيمانِ، من رضيَ باللَّهِ ربًّا، وبالإسلامِ دينًا، وبمحمَّدٍ رسولاً » [رواه مسلم]، وقال صلى الله عليه وسلم: « من رَضِي باللهِ ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا، وجبَتْ له الجنَّةُ » [رواه مسلم].
خامساً: العلاقة بين الإسلام وغيره من الشرائع السابقة:
لما كانت الشرائع السابقة كلها من عند الله تعالى; نجد أنها تتفق في أصولها وجوهرها; كما أرشد إلى ذلك القرآن الكريم; قال تعالى: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: 13].
ولكنها قد تختلف في فروعها وتفاصيلها كما قال تعالى: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48].
فالصلاة أََمرَت بها الشرائعُ كلها، ولكنها تختلف في كيفيتها وهيئتها من شريعة إلى شريعة.
والصيام مأمور به في الشراِئع كلِّ ها، ولكن صورته تختلف بين شريعة وشريعة.
وهنا أمر مهم لا بد من الوقوف عنده; وهو أن الله سبحانه وتعالى عَهِد إلى الأُمم السابقة رعاية كُتبها التي أنزلها عليهم، وأوكلهم بحفظها; قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاء﴾ [المائدة: 44].
فكان مآلها إلى التحريف والتبديل والضياع، كما أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم حيث قال: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ [المائدة: 15].
وقال جلَّ شأنه: ﴿ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ [النساء: 46].
وقال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُون﴾ [البقرة: 79].
ولما كان دين الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأديان وكتابه هو المهيمن على ما سبقه من الكتب – كما قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائدة: 48] أي أميناً وشاهداً ومصدقاً على كل كتاب قبله-.
لذلك تكفَّل الله تعالى بحفظ هذا الدِّين كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9].
فليس بعد القرآن كتاب مُنزل، وليس بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي مرسل.
ولهذا وجب على كل من سمع عن الإسلام وعرفه أن يؤمن به، حتى لو كان متَّبعاً لديانة أخرى، ومن لم يؤمن به ويتبعه؛ لا يوصف بأنه "مسلم"; وقد بينَّ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بقوله: «والذي نفسُ محمدٍ بيده، لا يَسْمَعُ بي أحدٌ مِن هذه الأمةِ يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ، ثم يموتُ ولم يُؤْمِنْ بالذي أُرْسِلْتُ به، إلا كان مِن أصحابِ النارِ» [رواه مسلم].
الفصل الثاني
عقـــيدة المســـــلم
ربط القلوب بالله تعالى
إن قلب المؤمن ينشد السعادة في الدنيا والآخرة، إلا أن هذه السعادة القلبية واللذة التامة لا تتحقق إلا بمحبة الله تعالى ومعرفته، والتقرب إليه بما يحبه ويرضاه، واجتناب كل ما يغضبه ويجلب سخطه.
أولاً: قلب المؤمن بين الخوف والرجاء والمحبة:
إن هذه القلوب تحتاج إلى أن تتعلق بربها وخالقها; لضمان سيرها في الطريق إلى الله، الذي رسمه لها. وأهم ما يدفع العبد للعمل ويُيسرِّ سَيرَْهُ إلى الله ويحثه على الطاعة والالتزام: أعمال القلوب، وأعظم هذه الأعمال محبة الله تعالى، ورجاؤه، والخوف منه.
فالعبد المؤمن ليس في قلبه إلا محبة الله ورسوله، ومحبة ما يحبه الله ورسوله، فهو يحب الطاعات والعبادات، ويحب عباد الله الموحدين; عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثٌ مَن كُنَّ فيهِ وجَد حلاوَةَ الإيمانِ: أن يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سِواهما، وأن يُحِبَّ المرءَ لا يُحِبُّه إلا للهِ، وأن يَكرهَ أن يَعودَ في الكُفرِ كما يَكرهُ أن يُقْذَفَ في النارِ» [رواه البخاري ومسلم].
والعبد المؤمن في قلبه خوف من الله; ذلك الخوف الذي يجعل القلب يضطرب من توقع غضب الله وانتقامه وشديد عقابه; إذا ارتكب ما حرَّم الله، أو فرَّط فيما أوجبه عليه; فيكون مانعاً للمؤمن من اتباع هواه، والانسياق وراء شهواته، ويحثه ليكون ملتزماً بطاعته وأمره.
والعبد المؤمن في قلبه رجاء لنيل رحمة الله ورضاه ومحبته وثوابه ونعيمه في الدنيا والآخرة; رجاءٌ يحمل المؤمن على المداومة على طاعة الله، والمسابقة إلى الخيرات; لأن قلبه معلق بنعيم الله، وما أعده للمتقين الطائعين من عباده; قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 218].
إن قلب المؤمن ينبغي أن يكون في سَيرِهِ إلى الله تعالى متوازناً بين هذه المقامات الثلاثة; لأنه إذا غلَّب جانباً على جانب انحرف في عبادته، وحاد عن الصراط المستقيم; يقول ابن القيم - رحمه الله -: "القلبُ في سَيرِهِ إلى الله بمنزلة الطائر; فالمحبَّة رأسُه، والخوفُ والرجاءُ جناحاه" [مدارج السالكين: [1/517].
تخيل أخي المسلم وتأمل ما سيحل بهذا الطائر لو فقد أحد جناحيه، أو فقد
رأسه; لا شك أنه سيصبح عُرْضَةً لكل مُفترَسٍ وكاسرٍِ.
فالمسلم الذي يؤدي ما أمر الله تعالى بهمن الطاعات ينبغي أن يُقبل على أدائها حُباً ورغبة في التقرب من ربه تعالى، يرجو منه قبولها; طمعاً في ثوابه ونعيمه وجنته.
ويحرص على أدائها كما أمره بها خشية أن يردها عليه ولا يقبلها منه، وخوفاً من عقابه وغضبه على تقصيره.
واعلم - رحمك الله - أن هذا التوازن بين هذه المقامات الثلاثة هو طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام; فقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن حالهم فقال: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 90].
ثانياً: قلب المؤمن يستشعر عظمة الله سبحانه وتعالى:
إن من أجلِّ وأعظمِ ما ينبغي أن يستقرَّ في قلب المؤمن استشعار عظمة الله سبحانه وتعالى; لأن استشعار هذه العظمة تجعل من ذلك القلب قلباً متنبِّهاً يقظاً, يراقب الله تعالى في كل أفعاله وأقواله، فلا يُقدِمُ على ما يغضب الله تعالى، ويحرص على امتثال أوامره.
وقد أخبرنا القرآن الكريم أن المشركين إنما تجرَّؤوا على الشرك والكفر؛ لأنهم لم يستشعروا عظمة الله جل وعلا، فقَسَت قلوبهُم وتحجَّرت; وساووا بين الخالق والمخلوق; قال تعالى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر: 67]..
وقد ذم سبحانه وتعالى أولئك الذين ضعفت هيبة الله في قلوبهم; فقال جل شأنه: ﴿ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ [نوح: 13]. قال المفسرون: "ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته".
ولك أن تسأل أخي المسلم: كيف أستشعر عظمة الله تعالى في قلبي؟
إن استشعار المؤمن لعظمة الله تعالى في قلبه ونفسه أرشدنا القرآن إلى وسائلها وطرقها، ومن أهم هذه الوسائل وأعظمها:
1) النظر والتفكر في ملكوت الله تعالى وعظيم خلقه:
كلما نظر المسلم وتفكر في هذا الملكوت الواسع العظيم زاده ذلك تعظيماً لمن خلقه وأبدعه; ولأجل هذا دعا الله سبحانه وتعالى أصحاب العقول السليمة
إلى هذا التفكر والتدبر; ليستدلوا به على عظمة الله وقدرته وربوبيته، فيهتدوا بذلك إلى ألوهيته وأحقيته بالعبادة وحده لا شريك له; قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار﴾ [آل عمران: 190-191].
يقول النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآيات: «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيا» [رواه ابن حبان].
وقال جل ثناؤه: ﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ [الغاشية: 17-20].
انظر إلى السماء من فوقك، وتأمَّل صفاءَها وتلألئ نجومها لتدرك بديع صنعها وعظمة صانعها، وتأمل تبدُّلَ أحوالها من ليل ونهار، وصحو وغيم، وكسوف وخسوف; ليزداد في قلبك تعظيم الذي خلقها ونظمها، وجعلها آية لمن خاف مقام ربه وخاف الوعيد، وتأمل اتِّساعها وعظيم خلقها ودقَّة صنعها، ثم يتزايد نوره ويتكامل حتى ينتهي إلى أن يصبح بدراً الدقيقً لتدرك عظمة خالقها; فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «بين السماءِ الدنيا، والتي تليها خمسُمائةِ عامٍ، وبين كلِّ سماءٍ وسماءٍ خمسُمائةِ عامٍ، وبين السماءِ السابعةِ والكرسيِّ خمسُمائةِ عامٍ، وبين الكرسيِّ والماءِ خمسُمائةِ عامٍ، والعرشُ فوق الماءِ، واللهُ فوق العرشِ، لا يخفى عليه شيءٌ من أعمالِكم» [رواه الدارمي في "الرد على الجهمية", وابن خزيمة في " التوحيد"، وابن منده في " الإيمان"].
وإن َتعْجَب فَعَجَبٌ أمرُ هذه السماء; على اتساعها وشاهق ارتفاعها إلا أنها بغير أعمدة تسندها; قال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ [الرعد: 2].
وتفكر في تعاقب الليل والنهار; لتدرك عظيم فضل الله على خلقه; قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُون﴾ [القصص: 71-72].
فماذا سيفعل الخلق لو لم تطلع الشمس?! وماذا سيفعل الخلق لو لم يظهر القمر?! كيف سيعملون?! وكيف سيزرعون?! وكيف سينامون؟! وكيف...?! وكيف؟!
وتأمل هذا القمرَ الذي جعله الله آية من آياته العجيبة; حيث يبدو كالخيط مكتملاً, ثم يأخذ في النقصان حتى يعود إلى حالته الأولى; جعله الله تعالى على هذه الحال ليكون مواقيت للناس في معاشهم وعباداتهم، وهو في الوقت نفسه مثال للجمال والنور; ليكون ذلك كله دليلاً على عظمة خالقه سبحانه وتعالى.
وإذا نظرت إلى الأرض التي تعيش عليها وتسير في طرقها; كيف جعلها الله تعالى ممهَّدة منبسطة، وجعل فيها أرزاق الناس وأقواتهم، وثبَّتها بالجبال الرَّواسي الشامخات; ترى فيها عجائب الزرع والثمر، تخُرج نباتاً مختلفاً ألوانه, وزروعاً مختلفاً أُكُلُها; والأرض هي الأرض.
وانظر أيها المؤمن إلى الجبال العظيمة التي يقف الإنسان أمام هيبتها وشاهق عُلوِّها; لتستشعر شيئاً من عظمة الله تعالى الذي خلقها; قال سبحانه: ﴿ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ [فاطر: 27].
هذه الجبال التي سوف يدكها الجبار يوم القيامة دكَّاً; قال جلَّ جلاله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا﴾ [طه: 105-107].
وقال تعالى: ﴿ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ﴾ [القارعة: 5].
2) التفكر في النفس البشرية وبديع صنعها:
إذا أردت أيها المسلم أن تتعرف أكثر على قدرة الله وعظمته، ويتعلق قلبك بمحبته; فما عليك إلا أن تقترب أكثرمن نفسك لتنظر في خلقها وتركيبها، وتتدبر دقيق وبديع صنع الله فيها، بدءاً من التكوين، وانتهاء بالموت; حيث يصور الله لك هذه الأطوار التي يمر بها هذا المخلوق البشري تصويراً دقيقاً ومفصَّلاً; قال تعالى: ﴿أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا﴾ [الحج: 5].
ويقول عز وجل: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين﴾ [المؤمنون: 12-14]
ثم تأمل وتفكر في هذا التركيب الداخلي للإنسان; كيف ركب الله فيه من الأنظمة والأجهزة ما يعجز البشر عن تصوره من حيث بديع الصنع، ودقة العمل، قلب يعمل ليل نهار بلا توقف, حواس تدرك ما يحيط حولها من المرئيات والمسموعات والمحسوسات, دماغ يدير جميع تصرفات الإنسان من فرح وحزن، وضحك وبكاء, وقيام وقعود, ونوم واستيقاظ; فتأمل في نفسك أيها المؤمن ليعظم في قلبك إجلال الله وتوقيره ومحبته; وتدبر دائماً الحكمة من قول الله تعالى: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذايات: 21].
إن هذه الدعوة الربانية للتأمل والتفكر, لك أيها المؤمن خاصة، ولجميع الناس عامة; ليستقر في القلب حب الله وتعظيمه وتوحيده; فترتبط القلوب بربها، وخالقها، ورازقها، ومدبِّر أمرها.
3) المداومة على قراءة القرآن الكريم:
القرآن الكريم كتاب الله العظيم، ورسالته إلى البشر أجمعين; فيه أخبار من
قبلنا، وأنباء من بعدنا، لا تنقضي عجائبه، ولا تنتهي معجزاته; جعله الله نوراً، وهدى للناس أجمعين; قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2].
وقال سبحانه: ﴿ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9].
إن تدبر آيات القرآن الكريم من أعظم ما يحيي القلوب ويربطها بربها; قال تعالى: ﴿يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24].
فالله تعالى أنزل هذا القرآن، وجعله شفاءً للقلوب والأبدان; قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء: 82].
فكيف لا تخشع القلوب اللَّينة لسماع كلام ربها، وقد خشعت وخضعت له الجمادات القاسية; قال تعالى: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحشر: 21].
إن من أَّحب شيئاً وتعلَّق قلبه به أكثر من ذكره والحديث عنه، ومن أكثر من تلاوة القرآن الذي هو كلام الله، كان ذلك علامة على طهارة قلبه، وتعلُّق وُجدانِه بالله تعالى، وحبِّه له، حتى جعله لا يملُّ ولا يفترُ عن قراءة القرآنِ وتدبُّرِه; رُوي عن عثمان، أنه قال: «لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم» [أخرجه عبد الله بن أحمد في "الزهد"].
4) معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته:
إن المسلم الذي يقرأ كتاب الله تعالى يدرك أنه لا تكاد تخلو آية من آياتهذا الكتاب العظيم من ذكر اسم من أسماء الله تعالى، أو صفة من صفاته الجليلة.
وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على أهمية معرفة هذه الأسماء والصفات بالنسبة للمسلم; لأن معرفتها تورث في قلب المؤمن تعظيم الله تعالى ومحبته.
كما أن معرفتها تورث في قلب المؤمن التعظيم والخشية والخوف والمهابة من
الله تعالى; لإيمانه بأنه تعالى مُطَّلعٌ على أفعالِ العباد وأقوالهم، ولا يخفى عليه ما تُكِنُّ قلوبهم.
ومعرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته تورث في قلب المؤمن زيادة في الإيمان ورسوخاً في اليقين; يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله -: "وبحسب معرفته -أي العبد - بربه، يكون إيمانه; فكلما ازداد معرفة بربه، ازداد إيمانه، وكلما نقص نقص، وأقرب طريق يوصله إلى ذلك تدبر صفاته وأسمائه من القرآن" [تيسير الكريم الرحمن: 1/35].
فما الذي ينبغي على المسلم معرفته في أسماء الله وصفاته; ليجني الثمرة، وتتحقق له الفائدة، ويرتبط قلبه بالواحد الأحد الذي ليس له كُفواً أحدٌ؟
إن التعرف على الله تعالى بأسمائه وصفاته يتحقق من خلال الأسس الآتية:
أ- أسماء الله تعالى كلها حسنى، وفاته كلها عليا:
إن من تعظيم العبد المؤمن لربه أن يعتقد أن أسماء الله تعالى كلها حُسنى، وأن صفاته التي وصف بها نفسه كلها عُليا; تصديقاً لما أخبر الله تعالى به في كتابه الكريم; قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف: 180].
وقال سبحانه: ﴿ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الإسراء: 110].
وقال جل ثناؤه: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [طه: 8].
وقال أيضاً: ﴿ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الحشر: 24].
ومعنى كون أسماء الله حسنى: أنها غاية في الكمال، ولا نقص فيها بأي وجه من الوجوه; فأسماؤه سبحانه لا أحسنَ، ولا أكملَ، ولا أجملَ، ولا أجلَّ منها، ذلك لما تتضمنه من المعاني الجميلة الجليلة، والصفات الحميدة التي تدل على عظمة وجلال الله الذي تسمى بها.
ب- طريق معرفة أسماء الله وصفاته:
لا طريق لمعرفة أسماء الله وصفاته إلا كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى هو الذي سمى نفسه بهذه الأسماء ووصف نفسه بهذه الصفات; فهو سبحانه أعرف بنفسه من جميع خلقه، وإذا علمنا أن القرآن الكريم هو كتاب الله تعالى إلى خلقه، وأن فيه الهدى والنور والحق; علمنا أن أعظم مصدر لمعرفة أسماء الله وصفاته هو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وإذا علمنا أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم مُرسلٌ من ربه عز وجل، وأنه لا ينطق عن الهوى، وأن الله أوْكلَه مُهمَّة تعريف الناس بربهم، وتبليغهم دينه الذي ارتضاه لهم، علمنا أن السنة النبوية الصحيحة هي الطريق الآخر لمعرفة أسماء الله وصفاته، لأنه لا أحد أعلم بالله بعد الله تعالى من رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم; يقول الإمام أحمد –رحمه الله-: "لا يُوصفُ اللهُ إلاَّ بما وصَفَ به نفسه, أو وصَفَه به رسولُه، لا يتجاوز القرآن والحديث" [مجموع الفتاوى: 5/26].
ج- موقف المسلم من أسماء الله وصفاته:
ينبغي على المسلم المؤمن بأسماء الله وصفاته أن يلتزم المنهج الحق، والطريق الصواب في الإيمان بأسماء الله وصفاته، ولا يتحقق ذلك الإيمان إلا بالأمور الآتية:
1) إثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، ونفي ما نفاه الله عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم; لأنه لا أحد أعلم بالله من الله تعالى: ﴿ قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ [البقرة: 140]، كما أنه لا أحد أعلم بالله من رسوله صلى الله عليه وسلم الذي قال الله فيه: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3-4].
2) تنْزيه الله تعالى عن مماثلة خلقه؛ قال تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]؛ فالله تعالى ليس له مثيل من خلقه; بل إنه سبحانه المتصف بصفات الكمال والجلال التي لا تنبغي لأحد إلا له سبحانه وتعالى.
3) قطع الطمع في إدراك كيفية صفات الله; لأنها من علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه، والعقل يعجز عن إدراك المغيَّبات; يقول تعالى: ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: 11]، وقال سبحانه: [مريم: 65].
وقال سبحانه: ﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [طه: 11]. أي: نظيراً ومماثلاً ومُسامِيّاً.
د- تعظيم الله تعالى بأسمائه وصفاته:
إن من أعظم الدلالات على تعظيم العبد لله تعالى، وارتباط قلبه به: أن يظهر أثر الإيمان بأسماء الله وصفاته في حياته، وعلى سلوكه، والمؤمن صادق القلب هو الذي يتعبد الله تعالى بأسمائه وصفاته; ومن صور ذلك:
1) دعاء الله بأسمائه وصفاته:
إن من إجلال الله تعالى وتعظيمه: أن يتوجه إليه المسلم بالدعاء بقلبه وجوارحه; طاعة لأمره; قال جل ثناؤه: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾ [الأعراف: 180].
2) التحليِّ بما يحبه الله تعالى من الصفات، والبعد عما يبغضه منها:
إن من مقتضيات الإيمان بأسماء الله وصفاته أن يتحلى المؤمن بالصفات التي يحبها الله تعالى; كاتصافه بالعلم، والعدل، والرحمة، والحلم، والعفو, وفي المقابل يتجنب الصفات التي تغضب الله تعالى، والتي لا تنبغي إلا له سبحانه؛ كالكبر، والعظمة، والجبروت، والقهر; فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: الكبرياءُ رِدائي، والعظمةُ إِزاري، فمن نازعَني واحدًا منهما، قذفْتُه في النارِ» [رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه].
فتَحليِّ المسلم بالأوصاف المحبوبة إلى الله تعالى، واجتنابه للأوصاف التي تغضب الله; دليل صادق على استقرار الإيمان في قلبه، وتعلق ذلك القلب بالله تعظيماً وتمجيداً وإجلالاً.
وفي الختام أخي المسلم!
أنت في نعمة ما بعدها نعمة; أنعم الله عليك بنعمة الإيمان والهداية، وجنبك الوقوع في نار أهل الضلال والغواية; فاحمد الله على نعمته، واسأله مزيداً من فضله.
واعلم أن فرحتك بهذه النعمة لا تكتمل إلا إذا جرَّدت قلبك لله جل جلاله, وأنت في هذه العجالة السريعة تعلمت كيف تعلق قلبك بالله، فاحرص على الإخلاص والعمل; لتتذوق حلاوة الإيمان ولذة الطاعة.
التوحيدُ وأقسامُهُ
إنّ أوّلَ واجبٍ يجبُ على المسلمِ معرفتُهُ وتحقيقُه هو توحيدُ اللهِ جلّ جلالهُ، الّذي لا نجاةَ للعبدِ عند اللهِ سبحانه إلاّ بتحقيقِهِ، والعملِ بمقتضاهُ وتطبيقِهِ، وهو أوّلُ ما ُيسألُ عنه العبدُ في قبرِهِ، ويومَ القيامةِ عند لقاءِ ربِّهِ; ولهذا أنزلَ اللهُ تعالى الكتبَ، وأرسلَ الرَُّسل - عليهم السّلامُ - جميعاً بالدّعوةِ إليهِ; كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25].
وفي هذا المبحثِ بيانٌ لتعريفِ التّوحيدِ، وأقسامِهِ، وفضائلِهِ، ومعنى كلمةِ التّوحيد (لا إلا الله), وشروطِها، وما يناقضُ التّوحيدَ; وهو الشرِّكُ وأقسامُهُ، ثمّ نبينُّ أخيراً حقيقةَ الكبائرِ، والفرقَ بينها وبينَ الصّغائرِ، وحكمَ مرتكبِ الكبيرةِ في الدُّنيا والآخرةِ، وباللهِ التُّوفيق.
أولاً: من هو الله تعالى؟
الله هو الإلهُ الواحدُ الأحدُ الّذي لم يلدْ ولم يُولدْ، المتّصفُ بصفاتِ الكمالِ والجلالِ، المنزُّه عن كلِّ عيبٍ ونقصٍ، الّذي لا يشبهُ أحداً من خلقِه، خالقُ هذا الكونِ ِومدبِّرُ شؤونِه; الّذي لا يغيبُ عنه شيءٌ, ولا يقعُ فيه شيءٌ إلا بإذنِه, ذو الفضلِ والإنعامِ على عبادِه، المستحقُّ للعبادةِ وحدَه دون غيرِه، الجامعُ عبادَه للحسابِ في يومٍ لا ريبَ فيهِ.
ثانياً: تعريف التوحيد:
هو إفرادُ اللهِ تعالى بما يختص به: من الربوبيّةِ, والألوهيّةِ, والأسماءِ والصفاتِ.
ثالثاً: أقسام التوحيد:
أقسامُ التّوحيدِ ثلاثة: توحيدُ الرُّبوبيّةِ، وتوحيدُ الألوهيّةِ، وتوحيدُ الأسماءِ والصِّفات.
الأول: توحيد الربوبية:
وهو إفرادُ اللهِ تعالى بأفعالِه; كالخلقِ، والملكِ، والتّصُّرفِ والتّدبيرِ، والاعتقادُ الجازمُ بأَنّ الله عز وجل هو ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكُه، وهو مدبِّرُ العالمِ والمتصرِّفُ فيه، خالقُ الخلقِ ورازقُهم ومحييهم ومميتُهم; قال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الروم: 40].
فلا خالقَ، ولا مالكَ، ولا رازقَ، ولا مدبِّرَ إلا الله سبحانهُ; كما قال سبحانه: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ [الأعراف: 154]، وقال عز وجل: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة: 17].
وهذا النوعُ من التّوحيدِ قد أقرّ به الكفُّار - من حيث الجملة - في زمنِ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم ولم يخالفْ فيه أكثرُ أَصحابِ المللِ والدِّياناتِ; كما قال عز وجل: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُون﴾ [يونس: 31].
وتوحيدُ الرّبوبيّةِ لا يكفي وحدَه في الدُّخولِ إلى الإسلامِ دون تحقيقِ بقيّة أقسامِ التّوحيدِ; لأنّ من كان رباً خالقاً، رازقاً، مالكاً، متصرًّفا: وَجَبَ أَن يكونَ إلهاً واحداً لا شريكَ لهُ، وأن لا تُصْرَفَ العبادةُ إلا إليهِ. ولهذا لم يكفِ مشركي العربِ إقرارُهم بتوحيدِ الرّبوبيّةِ في الجملةِ; بل أمرهم الله عز وجل وطالبهم بإفراده بالعبادة; وهو توحيدُ الألوهيّةِ، وبينّ لهم أنّ إقرارَهم بأنّ اللهَ وحدَه هو الخالقُ المالكُ المدبِّرُ، وإشراكَ غيره معه في العبادةِ تناقضٌ; فقال سبحانه: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [الزخرف: 87]. أي: فكيف يصرفون عن عبادة الله وحدَُه؟!
الثاني: توحيد الألوهية:
ويسمّى توحيدَ العبادةِ: وهو إفرادُ اللهِ تعالى بالعبادةِ، والاعتقادُ الجازمُ بأن َالله عز وجل هو الإلهُ الحقُّ المعبود، وكلَّ معبودٍ سواه باطلٌ، وأنّه سبحانه المستحقُّ لأن يُفردَ بالعبادةِ والخضوعِ والطاعةِ المطلقةِ، ولا يُشركَ معه في ذلك أَحدٌ كائناً من كان; كما قال سبحانه: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء: 36].
فتُصرفُ جميعُ أنواعِ العبادةِ للهِ وحده لا شريكَ لهُ; سواء كانت قلبيّةً؛ كالخوفِ، والرّجاءِ، والتّوكِّل. أو قوليّةً; كالدُّعاءِ، والاستعاذةِ. أو فعليّةً; كالصّلاةِ، والحجِّ، والصِِّيام.
فلا نخاف إلا الله, ولا نرجو غيره, ولا نتوكل إلا عليه, ولا ندعو سواه, ولا نستعيذ إلا به, ولا نصلِّي إلا له, ولا نصوم لغيره, ولا نحجُّ إلا له; كما قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162- 163].
وهذا النّوعُ من التّوحيدِ هو الذي أنكره الكفّارُ قديماً وحديثاً; كما قال تعالى حكاية عن قولهم: ﴿ أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص: 5].
ولهذا أرسلَ اللهُ تعالى الرّسلَ، وأنزلَ الكتبَ من أجلِ دعوتهِم، وردِّهم إلى توحيدِه سبحانه، وإفرادِه بالعبوديّةِ; قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36].
والطاغوتُ: كلُّ ما عُبد من دونِ اللهِ وهو راضٍ بذلك.
الثالث: توحيد الأسماء والصفات:
وهو إفراد الله تعالى بما له من الأسماء والصفات.
ويكون ذلك بالإيمانُ بما أثبته الله تعالى لنفسِه، وما أثبته له رسولُه صلى الله عليه وسلم من الأسماءِ والصِّفاتِ في القرآنِ والسنّةِ الصّحيحةِ، والاعتقادُ الجازمُ بأَنَّ الله عز وجل لهُ الأَسماءُ الحُسنى والصفاتُ العُلى, وأنّه متَّصفٌ بجميعِ صفاتِ الكمالِ، ومنزَّهٌ عن جميعِ صفاتِ النقصِ، متفرِّدٌ بذلك عن جميعِ الكائناتِ; كما قال تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى:11].
وقال عز وجل: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4﴾ [الإخلاص: 1-4].
رابعاً: فضائل التوحيد:
توحيد الله تعالى له فضائل كثيرةٌ; منها:
1) أنّ صاحبَه يحصلُ له الأمن والاهتداء بحسب تحقيقه للتوحيد؛ فكلما قوي توحيده؛ كان له من ذلك النصيب الأوفى، وكلما نقص؛ نص.
2) أنّه سببٌ لدخولِ الجنّةِ، والنّجاةِ من النّارِ، حتّى لو عُذِّب العبدُ على بعضِ الذُِّنوب والمعاصي فإنّه لا يخُلَّدُ في النّارِ; وذلك لوجودِ التّوحيدِ عنده.
3) أنّه سببٌ في مغفرةِ الذنوبِ، وتكفيرِ السيّئاتِ، كما أنّه سببٌ للفوزِ بشفاعةِ النّّبي صلى الله عليه وسلم يومَ القيامةِ.
4) أنّه السّببُ الأعظمُ لتفريجِ كرباتِ الدّنيا والآخرةِ، ودفعِ عقوبتِهما.
5) أنّ جميعَ الأقوالِ الظاهرةِ والأعمالِ الظاهرةِ والباطنةِ متوقّفةٌ في قبولهِا وفي كمالهِا وفي ترتيبِ الثوابِ عليها على التّوحيدِ; فكلَّما قَوِيَ التّوحيدُ والإخلاصُ للهِ جل وعلا كلّما كمُلتْ هذه الأمورُ وتمّت.
6) أنّه يحرّرُ العبدَ من رقِّ المخلوقين والتّعلُّقِ بهم وخوفِهم ورجائِهم والعملِ لأجلِهم، وهذا هو العزُّ الحقيقيُّ والشرفُ العالي، ويكونُ مع ذلك متعبِّداً لله سبحانه، لا يرجو سواهُ، ولا يخشى إلاّ إياهُ، ولا ينيبُ إلا إليه، وبذلك يتمُّ فلاحُه ويتحقّق نجاحُه.
7) أنّ الله جل وعلا تكفّلَ لأهلِ التّوحيدِ بالفتحِ والنّصرِ في الدّنيا، والعزِّ والشرفِ والتّيسيرِ لليُسرى, ِوإصلاح الأحوالِ, والتّسديدِ في الأقوالِ والأفعالِ.
خامساً: معنى كلمة التوحيد:
كلمةُ التّوحيد: لا َ إلهَ إلاّ اللهُ.
ومعناها: لا معبودَ بحقٍّ إلا اللهُ وحدَهُ; فهي نفيٌ للإلهيَّة عماّ سوى اللهِ تبارك وتعالى، وإثباتهُا كلُّها للهِ وحدَهُ لا شريكَ ُله.
والإله: هو المعبودُ; فمن عبد شيئاً فقد اتخّذهُ إلهاً, وجميعُ ذلك باطلٌ إلاَّ واحدٌ وهو اللهُ وحده; قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [الحج: 62].
والعبادة: هي كلُّ ما يحبُّه اللهُ ويرضاهُ من الأقوالِ والأعمالِ الظاهرةِ والباطنةِ؛ كالدُّعاءِ، والخوفِ، والتّوكلِ، والصّلاةِ، والذكرِ، وغيرِها.
فيجبُ أن تُكونَ جميعُها للهِ وحدَه لا شريكَ لهَ; فمن جعل منها شيئاً لغيرِ اللهِ فقد أشرك; قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [المؤمنون:117].
سادساً: شروط كلمة التوحيد:
شهادةُ التّوحيدِ لا تنفعُ صاحبَها إلا بتوفُّرِ سبعةِ شروطٍ; هي:
الأول: العلمُ بمعناها المرادِ منها نفياً وإثباتاً; لقولِهِ عز وجل: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمد: 19].
الثّاني: اليقينُ المنافيِ للشّكِّ; بأن يكونَ قائلُها مستيقناً بما تدلُّ عليهِ; فإنْ كان شاكَّاً مرتاباً بما تدلُّ عليه لم تنفعْهُ; لقولِهِ تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ [الحجرات: 15].
الثالث: الإخلاصُ المنافيِ للشرِّكِ; بأن لا يقصدَ بقولهِا شيئاً من أمورِ الدُّنيا؛ لقولِهِ سبحانه: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: 5]. حنفاء: أي: مائلين عن الشرِّكِ إلى التّوحيدِ الخالصِ.
الرابع: الصِّدقُ المنافي للكذبِ; بأن يقولَ هذه الكلمةَ صدقاً من قلبِه; لقولِهِ صلى الله عليه وسلم: «ما مِن أحدٍ يشهدُ أن لا إله إلا اللهُ، وأَنَّ محمداً رسولُ اللهِ، صِدْقًا من قلبِه إلا حَرَّمَهُ اللهُ على النارِ» [رواه البخاريُّ ومسلم، واللفظ للبخاري].
الخامس: المحبّةُ لهذهِ الكلمةِ، ولمقتضاها، ولأهلِها العاملينَ بها; لقولِهِ عز وجل: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة: 165].
ولقولِهِ صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ مَن كُنَّ فيهِ وجَد حلاوَةَ الإيمانِ: أن يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سِواهما، وأن يُحِبَّ المرءَ لا يُحِبُّه إلا للهِ، وأن يَكرهَ أن يَعودَ في الكُفرِ كما يَكرهُ أن يُقْذَفَ في النارِ» [رواه البخاري ومسلم].
السادس: الانقيادُ لما دلّتْ عليهِ هذهِ الكلمةُ; لقولِهِ تعالى: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾ [الزمر: 54].
السابع: القَبولُ لما اقتضَتْهُ هذهِ الكلمةُ من عبادةِ اللهِ وحدَهُ، وتركِ عبادةِ ما سواهُ; فمن قالهَا ولمْ يقبلْ عبادةَ اللهِ وحدَهُ كان منَ الّذينَ قال اللهُ فيهم: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾ [الصافات: 35-36].
سابعاً: مايناقض التوحيد:
يناقضُ توحيدَ الله سبحانه الشرِّكُ به جلّ جلاله.
وإذا كان توحيدُ الله عز وجل، وإفرادُهُ بالعبادةِ أهمَّ الواجباتِ وأعظمَها; فإنّ الشرِّكَ أكبرُ المعاصيِ عند اللهِ تعالى; إذ هو الذنبُ الوحيدُ الّذي لا يغفرُه اللهُ; قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 116].
ولما سُئلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن أيِّ الذّنبِ أعظمُ عند اللهِ ? قال: «أن تجعل لله نداً وهو خلقك» [رواه البخاري ومسلم].
والشركُ يُفسدُ الطاعاتِ ويبطلُها; فلا ُتقبلُ طاعةٌ، ولا يُثابُ عليها العبدُ مع وجودِ الشرِّكِ; لقولِهِ سبحانه: ﴿ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 88].
والشرك يُوجبُ لصاحبِه الخلودَ في النّارِ إذا ماتَ صاحبُهُ وهو مشركٌ; لقولِ اللهِ عزّ شأنه: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ﴾ [المائدة: 72].
ثامناً: أقسام الشرك:
الشركُ قسمان: الأوّلُ: شركٌ أكبرُ منافٍ لأصلِ التّوحيدِ، ومخرجٌ من الملّةِ.
والثّاني: شركٌ أصغرُ منافٍ لكمالِ التّوحيدِ الواجبِ، ولا يخرجُ من الملّةِ.
القسم الأول: الشرك الأكبر:
وهو صرفُ شيءٍ من أنواعِ العبادةِ لغيرِ اللهِ تعالى; كدعاءِ غيرِ الله – فيما لا يقدرُ عليه إلا الله سبحانه -، والتّوكّلِ على غيرِهِ ([7])، والسُّجودِ لغيرِهِ على جهةِ التعبد، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [يونس: 106]. أي من المشركين. وقال سبحانه: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23]، وقال عز وجل: ﴿فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا﴾ [النجم: 62].
فإذا كان الدُّعاءُ والتّوكّلُ والسّجودُ من العباداتِ الّتي أمر اللهُ بها; فمن صرَفَها للهِ كان موحِّداً لهُ، ومن صرَفَها لغيرِ اللهِ كان مشركاً بهِ.
وممّا يدخلُ في هذا ِالقسم: شركُ الطاعةِ في التّحليلِ والتّحريمِ; كما قال تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون﴾ [التوبة: 31].
وهذه الآيةُ نزلتْ في اليهودِ والنّصارى الّذين أطاعُوا رُهبانهَم وأحبارَهم في تحليلِ ما حرَّمَ ُالله، وتحريمِ ما أحلَّ اللهُ; فعن عديِّ بن حاتم رضي الله عنه قال: «أتيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليبٌ من ذَهبٍ. فقالَ يا عديُّ اطرح عنْكَ هذا الوثَنَ وسمعتُهُ يقرأُ في سورةِ براءةٌ ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ قالَ أما إنَّهم لم يَكونوا يعبدونَهم ولَكنَّهم كانوا إذا أحلُّوا لَهم شيئًا استحلُّوهُ وإذا حرَّموا عليْهم شيئًا حرَّموه» [رواه الترمذي].
القسم الثاني: الشرك الأصغر:
وهو ما كان وسيلةً إلى الشرّكِ الأكبرِ، وهو نوعان: شركٌ ظاهرٌ، وشركٌ خفي.
1) شركٌ ظاهرٌ: ويكونُ بالألفاظِ والأفعالِ; فالألفاظُ: كالحلفِ بغيرِ الله (والنّبيِّ، أو: بالمسيحِ), وقولِ: ما شاء اللهُ وشئتَ; فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» [رواه الترمذي]، وقال لمن قال له: يا رسول الله؛ ماشاء الله وشئت: «جعلتني لله عدلاً! بل ما شاء الله وحده» [رواه أحمد].
والأفعال ِ كلبس ِ الحلقة ِ والخيط ِ لرفع ِ البلاء، ِ واعتقاد ّ أنها سببٌ لذلك.
2) شركٌ خفيٌّ: وهو شركُ النيّاتِ والإراداتِ; كالرِّياءِ والسُّمعةِ; وذلك بأن يعمل عملاً مما يتقرب به إلى الله؛ ويريد بذلك مدحَ النّاسِ له, وثناءَهم عليهِ; كأن يُظهر صدقته ليصفه الناس بالكرم; وذلك لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ أخوفَ ما أخافُ علَيكم الشِّركُ الأصغرُ قالوا: وما الشِّركُ الأصغرُ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: الرِّياءُ، يقولُ اللَّهُ عز وجل لهم يوم القيامة إذا جزَى النَّاسَ بأعمالِهِمِ: اذهبوا إلى الَّذينَ كنتُمْ تُراءونَ في الدُّنيا فانظروا هل تجدونَ عندَهُم جزاءً» [رواه أحمد].
هذا إذا كان يؤدي العبادة لله ويريد ثناء الناس، وأما إذا أدى العبادة لغير الله أصالةً؛ كمن يدعو غير الله أو يصلي لغير الله؛ فهذا من الشرك الأكبر – عافانا الله وإياكم-.
تاسعاً: تعريف الكبائر، والفرق بينها وبين الصغائر:
تنقسمُ الذُُّنوب والمعاصي الّتي تقعُ من المسلمِ إلى كبائرَ وصغائرَ; قالَ عز وجل: ﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ [النساء: 31].
والكبائر: جمعُ كبيرةٍ، وهي:كلُّ ما فيه حدٌّ في الدُّنيا، أو وعيدٌ خاصٌّ في الآخرة.
والمرادُ بالحدِّ في الدُّنيا: العقوبةُ المقدّرةُ; كالقتلِ لمن يقتلُ، والقطعِ لمن َيسرقُ، والجلدِ لمن يَزني.
والمرادُ بالوعيدِ الخاصِّ في الآخرةِ: الوعيدُ بالنّارِ، أو اللّعنِ، أو الغضبِ، أو نفيُِ دخولِ الجنّةِ، أو أن لا يجَد ريحَها، أو نفيُِ الإيمانِ وأن لا يَكونَ من المسلمينَ، ونحو ذلك.
والصغُيرة على هذا: ما ليس فيه حدٌّ في الدُّنيا، ولا وعيدٌ خاصٌّ في الآخرةِ.
عاشراً: حكم مرتكب الكبيرة:
مرتكبُ الكبيرةِ - غير الشرِّكِ والكفر- لا يخرجُ من الإسلامِ بكبيرتِهِ; بل هُو في الدُّنيا مؤمنٌ ناقصُ الإيمان - مؤمن بإيمانِه، فاسقٌ بكبيرتِه -، وهُو في الآخرةِ تحتَ مشيئةِ اللهِ تعالى; إنْ شاءَ غفَر لهُ، وإن شاءَ عذّبَهُ، وإذا عُذِّبَ لا يخُلّدُ في النارِ; بل يخرجُ منها بما معه من الإيمانِ، وإنْ كانَ مثقالَ ذرّةٍ; لقولِهِ صلى الله عليه وسلم: «يَخْرُجُ مِن النارِ مَن قال: لا إلهَ إلا اللهُ، وفي قلبِه وزنُ شعيرةٍ مِن خيرٍ، ويَخْرُجُ مِن النارِ مَن قال: لا إله إلا الله، وفي قلبِه وزنُ بُرَّةٍ مِن خيرٍ، ويَخْرُجُ مِن النارِ مَن قال: لا إلهَ إلا اللهُ، وفي قلبِه وزنِ ذرَّةٍ مِن خيرٍ» [رواه البخاري ومسلم]. والبرُّة: حبّةُ القمحِ.
الركن الثاني
الإيمان بالملائكة
من ِأركان الإيمانِ الّتي يجبُ على المسلمِ أن يعتقدَها، ولا يصحُّ إيمانُه إلاّ بالإقرار بها: الإيمانُ بالملائكةِ الكرامِ; لقول اللهِ تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ [البقرة: 177].
وسنتناولُ في هذا ِالمبحث: التعريفَ بالملائكةِ, ووجوبَ الإيمانِ بهم، وصفاتهِم الخَلقيّةَ والخُلُقيّةَ، َوأعدادهم، وأسماءَهم، ووظائفَهم، وعلاقتَهم ببني آدمَ، وثمرَاتِ الإيمانِ بهم.
أولاً: التعريف بالملائكة:
الملائكة خلقٌ من مخلوقاتِ اللهِ، خلقُوا من نُورٍ, وقد أوجدهم اللهُ تعالى لعبادتِه، وتنفيذِ أوامرِه في الكونِ; فلا يعصُون اللهَ ما أمرَهم، ويفعلُون ما يُؤمَرون.
وهم من عالمِ الغيبِ; إذ لا نراهُم، ولكنْ نؤمنُ بهم إيمانًا جازمًا لا يتطرّقُ إليه شكٌّ; لأنّ اللهَ جل وعلا أخبرَ عنهم، كما أخبرَ عنهم رسولُه صلى الله عليه وسلم; إخباراً قطعيَّاً يجعلُنا نوقنُ بوجودِهم.
ثانياً: وجوب الإيمان بالملائكة:
يجبُ على المسلمِ أن يعتقدَ اعتقاداً جازماً بأنّ الله تعالى خلقَ خلقاً من خلقِه همُ الملائكةُ, وأنهّم لا يتخلّفون عن أمرِه، ولا يَفترُونَ عن عبادتِه، وأنهّم كثيرون لا يحصيهم إلاّ الله سبحانه; فمنهم من عُرف باسمه; فيجبُ الإيمانُ بهم, وبما ذُكرَ من أعمالهِم تفصيلاً، ومنهم من لم يُعرف اسمُه; فيجبُ الإيمانُ بهم إجمالاً.
قال تعالى: ﴿ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ [البقرة: 285].
والإيمانُ بهم هو الرُّكنُ الثّاني من أركانِ الإيمانِ السِّتَّةِ الواردةِ في حديث جبريل عليه السلام حين سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الإيمانِ; فقال عليه الصّلاةُ والسّلامُ: «أنْ تُؤمن بِاللهِ ومَلائِكتِه، وكُتُبِهِ، و رُسُلِهِ، و اليومِ الآخِرِ، وتُؤمن بِالقَدَرِ خَيرِهِ و شَرِّهِ » ] رواه مسلم].
و يتضمّنُ الإيمانُ بالملائكةِ أربعةَ أمور:
الأوُّل: التصديقُ بوجودِهم.
الثاني: الإيمانُ بما ورد من صفاتهِم، وعددِهم، وأسمائِهم، ووظائفِهم.
الثالث: إنزالهُم منازلهَم، وأنهّم عبادٌ لله سبحانه، مأمورون مكلّفون، ولا يقدرون إلاّ على ما أقدرَهم اللهُ عليه، وليس لهم في الألوهيّةِ والرّبوبيّةِ نصيبٌ; بل هم كما قال تعالى: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِين﴾ [الأنبياء: 27-29].
ثالثاً: صفات الملائكة:
أولاً: صفاتُهم الخَلْقية:
جاء في الكتاب والسنة كثير من صفات الملائكة التي يشتركون فيها جميعاً والتي قد يختص بعضهم بها دون بعض، فمن ذلك:
1) أنهّم مخلوقُون من نورٍ: قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «خُلقيت الملائكة من نور» [رواه مسلم].
ولما كات الملائكةُ أجساماً نورانيّةً; فإنّ العبادَ لا يستطيعون رؤيتَهم، خاصةً أنّ اللهَ لم يعطِ أبصارَنا القدرةَ على هذهِ.
2) عظيم الخلق: ميّز الله تعالى الملائكةَ عن الجنّ والإنسِ بعظمِ الخِلقَة والقوّةِ; قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون﴾ [التحريم: 6]..
وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريلَ عليه السلام حين رآهُ في ليلةِ الإسراءِ: «رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض» [رواه مسلم].
3) الجمالُ: كما قال تعالى عن جبريل عليه السلام: ﴿ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى﴾ [النجم: 6]. قال ابنُ عبّاس رضي الله عنهما: "ذو مِرّة: منظر حسن".
4) القدرة على التمثيل في صورة البشر: جعل الله عز وجل الملائكةَ قادرةً على التمثّلِ بصورةِ البشرِ; كما تمثّل جبريلُ لمريم عليهما السّلامُ; قال تعالى: ﴿ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ [مريم:17].
5) أنّ لهم أجنحةً: وهي تتفاوتُ من حيثُ العددُ والضّخامةُ; قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾ [فاطر: 1].
وعن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح» [رواه البخاري ومسلم].
ثانياً: صفاتهم الخُلُقية:
1) أنهّم معصومُونَ من المعاصي: قال تعالى عن الملائكةِ: ﴿ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6].
2) أنهّم يخافُونَ الله تعالى ويخشَوْنَه: قال جل وعلا عنهم: ﴿ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [النحل: 50]، وقال أيضاً: ﴿ وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ [الأنبياء: 28].
3) أنهّم لا يفترُون عن ذكرِ اللهِ تعالى ولا يسأمون: قال الله سبحانه عنهم: ﴿ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ﴾ [فصلت: 38].
ولا يفترون: أي لا يضعفون.
4) أنهّم كِرامٌ بَرَرَةٌ: قال تعالى: ﴿ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ [عبس: 15-16].
وسفرة: أي: سفراءُ الله إلى رسلِه. وكرامٌ بررَةٌ: أي: خلقُ هم كريمٌ حسنٌ شريفٌ، وأخلاقهم وأفعالهُم بارّةٌ طاهرةٌ فاضلةٌ.
5) أنهّم منَظَّمون في شؤونهِم: ويدلُّ على ذلك قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾ [النبأ: 38].
و"الرّوحُ": هو جبريلُ عليه السلام وعن جابرِ بن سمُرةَ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا تَصُفُّون كما تَصُفُّ الملائكةُ عند ربِّها؟ فقلنا:يا رسولَ اللهِ وكيف تَصُفُّ الملائكةُ عند ربِّها؟ قال: يتمون الصفوفَ الأُولَ ويتراصون في الصفِّ» [رواه مسلم].
6) الحياء: فقد قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن عثمانَ بنِ عفّانَ: «ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة» [رواه مسلم].
رابعاً: أعدادُ الملائكة:
الملائكة خلق كثير لا يعلم عددهم إلا الله الذي خلقهم.
فقد جاء في الآثار: أن بعض السماوات: ما من موضع فيها إلا وعليه ملك ساجد أو قائم لله تعالى. [تفسير عبدالرزاق، وتفسير الطبري، و"الصلاة" لمحمد ابن نصر، و"معجم الطبراني"].
ومما يدل على كثرتهم: أن سبعين ألفاً منهم يدخلون البيت المعمور في السماء السابعة كل يوم يصلون فيه، ثم لا يعودون إليه. [أخرجه البخاري ومسلم].
خامساً: أسماء الملائكة:
للملائكةِ أسماءُ، ولا يُعرفُ من أسماءِ الملائكةِ إلا القليلُ، وإليك أسماء الملائكة الّذين ورد ذكرُهم في القرآنِ الكريمِ، والسنّة النبويّةِ الصّحيحةِ:
1، 2) جبريلُ وميكائيلُ:
قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِين﴾ [البقرة: 97-98].
3) إسرافيلُ:
وهو الّذي ينفخُ في الصُّور.
وجبريلُ وميكائيلُ وإسرافيلُ هم الّذين كان يذكرُهم النّّبي صلى الله عليه وسلم، في دعائه عندما يستفتح صلاته من الليل: فعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: «كانَ إذا قامَ منَ اللَّيلِ افتتحَ صلاتَهُ، فقالَ : اللَّهمَّ ربَّ جبرئيل ، وميكائيلَ، وإسرافيلَ، فاطرَ السَّمواتِ والأرضِ ، عالمَ الغيبِ والشَّهادةِ ، أنتَ تحكمُ بينَ عبادِكَ فيما كانوا فيهِ يختلفونَ ، اهدني لما اختلفَ فيهِ منَ الحقِّ بإذنِكَ ، إنَّكَ على صراطٍ مستقيمٍ» ] رواه مسلم].
4) مالكٌ:
وهو خازنُ النَّارِ; قال الله عز وجل عن أهل النار: قال تعالى: ﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ [الزخرف: 77].
5، 6) منكرٌ ونكيرٌ:
ثبت في السنّة الصّحيحة: أنّ الملَ كينِ اللّذين يسألانِ الميت في قبره يسمّيانِ منكراً ونكيراً. [سنن الترمذي، وصحيح ابن حبان].
7، 8) هاروت وماروت:
هما ملكان ذكرهما اللهسبحانه وتعالى في قوله قال تعالى: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُر﴾ [البقرة: 102].
ويبدو من سياقِ الآيةِ أنّ اللهَ تعالى بعثهما فتنةً للنّاسِ في فترةٍ من الفتراتِ، وقد نُسجتْ حولهَما أساطيرُ كثيرةٌ; لم يثبتْ شيءٌ منها في الكتابِ والسنّة.
سادساً: وظائف الملائكة:
دلت النّصوصُ من الكتابِ والسّنّة على أنّ الملائكةَ يقوموٍنَ بأعمالٍ عظيمةٍ كثيرة في السماوات والأرضِ، وهذه الأعمال لا يحصيها كثرةً إلاّ الله جل وعلا، والملائكةُ بالنّسبةِ إلى الأعمالِ الّتي وكّلهم الله تعالى بالقيامِ بها أصنافٌ عديدةٌ؛ فمنهم:
1) الموكّلُون بحملِ العرشِ: والعرش في اللُّغةِ: موضع جلوس الملك.
والمرادُ به هنا: عرشُ الرّحمنِ سبحانه; الّذي هو أعظمُ المخلوقاتِ وأعلاها؛ فهو كالسّقفِ والقبّةِ للعالمِ، ولا يقدر َقدْرَه إلا الله، وله حملة من الملائكة; قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا﴾ [غافر: 7].
2) ومنهم الموكّلُ بالوحيِ: وهو ما أنزله اللهُ تعالى على أنبيائِه ورسلِه عليهم الصّلاةُ والسُّلام من كتبٍ وشرائعَ، والملكُ الموكّلُ بذلك هو جبريلُ u، فقد قال سبحانه عن القرآنِ ِالكريم: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ [الشعراء: 194-195].
3) ومنهم خزنةُ الجنّةِ: قال تعالى: ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ [الزمر: 73].
4) ومنهم خزنةُ النّارِ: قال جل وعلا: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِين﴾ [الزمر: 71].
5) ومنهم الموكّلونَ بالقَطْرِ والرّياحِ والسّحابِ: الموكّلُ بالقطرِ هو ميكائيلُ عليه السلام، ومع ميكائيلَ أعوانٌ من الملائكةِ; قال تعالى: ﴿فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا﴾ [الصافات: 2]. أي: الملائكةُ يزجُرون السَّحاب.
6) ومنهم الموكّل بالنّفخِ في الصُّورِ: وهو إسرافيلُ عليه السلام، قال سبحانه: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ [الزمر: 68].
وقال صلى الله عليه وسلم: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ» [رواه الترّمذيّ].
7) الموكّلُ بالجِبالِ: وهو ملكُ الجبالِ; فقد ثبت في حديثِ أمِّ المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها في قصّةِ خروجِ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى الطّائفِ لدعوةِ أهلِها; حيثُ لم يقبلُوا دعوتَهُ، وأثاروا عليه سُفهاءَهم أنّ النّّبي صلى الله عليه وسلم قال: «فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا» [رواه البخاري ومسلم].
سابعاً: علاقة الملائكة ببني آدم:
علاقةُ الملائِكة بابن آدمَ علاقةٌ وثيقةٌ; فمنهم من يقومُ عليهِ وهو في بطنِ أمِّهِ، ومنهم من يُكَلَّف بحراستِهِ وحفظِهِ، ومنهم من يسجّلُ أعمالَه وتصرفاتِه، ومنهم من يحرّكُ باعثَ الخيرِ في نفسِهِ، ومنهم من ينزعُ روحَه إذا جاء أجلُه; وفيما يلي بيان ذلك:
1) الموكّلُون بالأجنّةِ في الأرحامِ:
قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وكَّلَ اللهُ بالرَّحِمِ مَلَكًا ، فيقول : أي ربِّ نطفةٌ ، أي ربِّ علقةٌ ، أي ربِّ مضغةٌ ، فإذا أراد اللهُ أن يقضيَ خَلْقَها ، قال : أي ربِّ ، ذكرٌ أم أنثى ، أشقيٌّ أم سعيدٌ ، فما الرزقُ ، فما الأجَلُ ، فيُكْتَبُ كذلك في بطنِ أُمِّهِ » [رواه البخاري ومسلم].
2) الموكّلون بحفظِ الإنسانِ وحراستِه:
قال جل وعلا: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد: 11].
وقد بين ترجمانُ القرآنِ عبدُ اللهِ بنُ عباس رضي الله عنهما: أنّ المعقّباتِ من اللهِ همُ الملائكةُ; جعلهُم اللهُ ليحفظُوا الإنسانَ من أمامِه ومن ورائِه; فإذا جاءَ قدرُ اللهِ -الذي قدّرَ أن يَصلَ إليهِ - خلُّوا عنه.
3) الموكّلون بحفظِ أعمالِ بني آدمَ:
وتسجيلِ صالحِ أعمالهِم وسيِّئِها; قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار: 10-12].
وقد َّوكلَ اللهُ تعالى بكلِّ إنسانٍ ملكينِْ حاضريْنِ، لا يُفارقانِه، يحُصيانِ عليهِ أعمالَه وأقوالَه; قال تعالى: ﴿ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 17-18].
ومعنى قعيد; أي: مترصِّد. ورقيب عتيد. أي: مراقِبٌ معدٌّ لذلك لا يتركُ كلمةً تفلتُ.
وكتابةُ الملائكةِ لأعمالِ بني آدمَ كتابةٌ حقيقيّةٌ; ولهذا فإنهّا تحُفظُ، ثمّ تحُضرُ يومَ القيامةِ فتُنشرُ; قال تعالى: ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء: 13-14].
4) الموكّلُونَ بتحريكِ بواعثِ الخيرِ في نفوسِ العبادِ:
فقد وكّل اللهُ بكلِّ إنسانٍ قريناً من الملائكةِ; يحثُّه على الخيرِ، ويرغِّبُه فيهِ، وقريناً من الجنِّ; يأمرُهُ بالشرَِّّ ويزيّنُه له; قال النُّّبي صلى الله عليه وسلم: «ما منكم مِن أحَدٍ إلَّا وقد وُكِّل به قرينُه مِن الجنِّ) قالوا: وإيَّاك يا رسولَ اللهِ؟ قال: وإيَّاي إلَّا أنَّ اللهَ قد أعانَني عليه فأسلَم فلا يأمُرُني إلَّا بخيرٍ » [رواه مسلم].
5) الموكّلُون بقبضِ أرواح العباد:
وهو ملك الموتِ الّذي يقومُ بنزعِ ِالأرواحِ، وتسليمِها لمن معه من الملائكةِ الّذين يحملونها إلى السّماءِ بأمرِ عز وجل، قال تعالى: ﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ [السجدة: 11].
وتنزعُ الملائكةُ أرواحَ الكفرةِ والمجرمينَ نزعاً شديداً عنيفاً، أمّا المؤمنُون فإنّ الملائكةَ تنزعُ أرواحَهم نزعاً رفيقاً.
ثامناً: ثمرات الإيمان بالملائكة:
للإيمانِ بالملائكةِ ثمراتٌ كثيرةٌ; منها:
1) العلمُ بعظمةِ خالقِ هم تبارك وتعالى، وقوّتِه، وسلطانِه.
2) شكرُه تعالى على عنايتِه بعبادِه; حيثُ وكّل بهِم من هؤلاءِ الملائكةِ من يقومُ بحفظِهم، وكتابةِ أعمالهِم، وغير ذلك من مصالحِهم.
3) محبّةُ الملائكةِ واحترامُهم; لما يقومُون بهِ من عبادةِ اللهِ تعالى على الوجهِ الأكملِ، واستغفارِهم للمؤمنينَ.
الركن الثالث
الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام
اقتضت حكمة الله تعالى ورحمته أن يرسل في كل أمة رسولاً; يبين لهم شرعته ومنهاجه، ويأخذ بأيديهم إلى طريقه المستقيم، وفي ذات الوقت يبشِّر الطائعين السالكين على درب الجادة بالنعيم والثواب الجزيل، وينذر العاصين المنحرفين عن هذه الجادة بالعقاب الأليم; قال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: 24].
ذلك لأن الله عز وجل هو الحكم العدل، ومن مقتضيات عدله سبحانه ألا يعذب أحداً من خلقه إلا بعد أن تقوم عليه الحجة، ويتضح له الطريق، ويستبين له الهدى والرشاد، ويعرف الحق من الباطل، والضلال من الهدى; قال الله تعالى: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 15].
وهذا كله لا يتحقق إلا بإرسال الرسل الذين هم سفراء بين الله وخلقه، ومبلِّغون عن الله هديه وشرعه. ومن ثمَّ كان الإيمان بهم واجباً عظيماً، وركناً أصيلاً من أركان الإيمان بالله عز وجل لا يصح إيمان العبد إلا به.
وفي هذا المبحث نحاول إلقاء الضوء على هذا الركن العظيم الذي هو رابع أركان الإيمان بالله عز وجل، فنقول وبالله التوفيق:
أولاً: معنى الإيمان بالرسل:
الإيمان بالرسل معناه: التصديق الجازم بأنهم جميعاً مرسلون من عند الله عز وجل، وأن الله تعالى قد بعث في كل أُمَّة رسولاً منهم، يدعوهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه; قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36].
وأن جميع هؤلاء الأنبياء والرسل صادقون راشدون كِرام أتقياء أُمناء، وأنهم بلَّغوا جميع ما أرسلهم الله به; لم يكتموا، ولم يُغيرِّوا، ولم يزيدوا فيه من عند أنفسهم ًحرفا ولم ينقصوه، وأنهم كلهم على الحقِّ المبين.
ثانياً: حكم الإيمان بالرسل:
الإيمان بأنبياءالله ورسله واجب من واجبات هذا الدين، وركن عظيم من أركان الإيمان; فلا يصح إيمان العبد إلا به; قال الله تعالى: ﴿ آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ﴾ [البقرة: 285]. فجعل الله تعالى الإيمان بالرسل من أركان الإيمان، وأنه من جملة ما آمن به الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، وبينَّ أنهم لا يُفرِّقون بينهم; فيؤمنون ببعضهم دون بعض، بل يؤمنون بهم جميعًا.
وقد بينَّ الله تعالى في كتابهكُفْر من لم يؤمن بأنبيائه ورسله، أو فرَّق بينهم فآمن ببعضهم، وكفر ببعضهم; فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ﴾ [النساء: 150-151].
ثمّ قال بعد ذلك ِّمبيناً حال أهل الإيمان: ﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 152].
ثالثاً: عدد الأنبياء والرسل:
أنبياء الله ورسله كثيرون; منهم من أخبرنا الله عنهم في كتابه وهم: آدم، ونوح، وإدريس، وهود، وصالح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، ولوط، وشعيب، ويونس، وموسى، وهارون، وإلياس, وزكريا، ويحيى، واليَسَع، وذو الكفل، وداود، وسليمان، وأيوب، والأسباط (أولاد يعقوب عليه السلام), وعيسى، ومحمد; وهو آخرهم; صلى الله عليهم وسلَّم أجمعين.
-ومنهم من لم يُذكر لنا شيء عن خبره، قال تعالى: ﴿ وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ﴾ [النساء: 164].
رابعاً: أنبياء الله ورسله من البشر:
هؤلاء الأنبياء والرسل كلهم من البشر، ليس لهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء، فلا يصرف لهم شيء من العبادة، بل لا يملكون لأنفسهم نفعاً
ولا ضر ا; قال الله تعالى عن نوح عليه السلام: ﴿ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ﴾ [هود: 31].
وأمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول: ﴿ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ﴾ [الأعراف: 188].
- وإنما هم عباد مكرمون; اصطفاهم الله عز وجل وأكرمهم بالرسالة، قال تعالى: ﴿ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [إبراهيم: 11].
* لماذا كان الرسل من البشر؟
لقد كثر اعتراض أعداء الرسل على بعثة الرسل من البشر، قال الله تعالى: ﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 94]. فقد اعتبروا اتِّباع الرسل بسبب كونهم بشراً أمراً قبيحاً, وخُسراناً مبيناً; قال الله تعالى حكاية عنهم: ﴿ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ﴾ [المؤمنون: 34].
وعند التأمل والتدبر تتجلى حكمةُ الله عز وجل في جَعْلِه الرسل والأنبياء من البشر، وأن ذلك لأمور; منها:
1) أن البشر أقدر على القيادة والتوجيه، وهم الذين يَصلحون للقُدوة والأسوة، وهذه الحكمة تظهر حين التأمل في رسالة أي رسول منهم.
2) صعوبة رؤية الملائكة; وذلك نظراً لاختلاف طبيعة الملائكة عن طبيعة البشر; إذ الاتصال بالملائكة فيه عناء وجهد شديدان لا يحتمله جميع البشر; فقد جاء في الأحاديث ما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعاني من التنزيل شدَّة، وكان إذا نزل عليه الوحي تغيرَّ لونُه، وتصبَّبَ عرقُه، وارتعدتْ فرائصُه، وكان مَنْ حوله يرون ذلك فيه، فكان إرسال الرسل من البشر ضرورياً; كي يتمكنوا من مخاطبتهم والفهم عنهم والاختلاط بهم، ولو أرسل الله ملائكةً لما أمكنهم ذلك.
3) أن الرسول لا يأتي للتبليغ فقط، أي: إنه لا يأتي ليُبلِّغ أمراً معيناً من عند الله ثم يمضي، وإنما يمكث مع الناس حتى يُ ربيِّ فئة منهم على الحق، يكون هو بذاته القدوة العملية لهم، ويكونون هم بدورهم قدوة للناس، فإذا كان الرسول من غير البشر فلن تتحقق هذه القدوة; لأن الناس سيقولون حينئذ: هذا مَلَك، ونحن بشر لنا أجساد ونزعات وشهوات، وبالتالي سيمتنعون عن الاقتداء به; بحجة أن هذا الاقتداء ليس في وسع البشر ولا هو من شأنهم، إنما هو من شأن الملائكة الذين لا يسكنون هذه الأرض، ولا يشعرون بما يشعر به أهل الأرض من رغبات وشهوات، وعندئذ سيقولون: كيف يرسل الله إلينا مَلَكاً ويطلب منا الاقتداء به في أعماله ?! أفلا يرسل إلينا بشراً مثلنا; يحس كما نحس ويفكر كما نفكر، يشعر بضرورياتنا وبحدود طاقتنا ? لذلك اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون الرسل بشراً.
خامساً: التفاضل بين الرسل:
الرسل يتفاضلون فيما بينهم، فبعضهم أفضل عند الله من بعض; كما قال الله تعالى: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ [البقرة: 253].
وأفضلهم خمسة هم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد; عليهم جميعاً الصلاة والسلام، وهم المذكورون في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [الأحزاب: 7].
وأفضل هؤلاء الخمسة: محمد وإبراهيم; عليهما الصلاة والسلام وأفضلهما: محمد صلى الله عليه وسلم; قال عليه الصلاة والسلام: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة» [رواه مسلم].
سادساً: دين الأنبياء واحد وشرائعهم مختلفة:
دين الأنبياء ًجميعاً واحد; هو الإسلام الذي يدعو إلى توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبودية، وترك عبادة ما سواه; قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ﴾ [النحل: 36]. وقال أيضاً: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25].
فجميع المُرسلين جاؤوا بدين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد سواه; كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19].
ولذا كان من الخطأ قول البعض: (الأديان السماوية); لأنه دين واحد فقط هو الإسلام الذي يدعو إلى عبادة الله وحده، وبه أُرسل جميع الأنبياء والمرسلين.
وإنما الاختلاف بينهم في الشرائع; يعني في مسائل الحلال والحرام والأمر والنهي; فقد يكون الشيء حلالاً في شريعة نبيٍّ، لكنه حرام في شريعة نبي آخر, وقد يكون مشروعاً في شريعة ٍّنبي، لكنه غير مشروع في شريعة نبي آخر, وهكذا...
فالله تعالى يشرع لكل أمة ما يناسب حالها ووقتها، ويكون كفيلاً بإصلاحها متضمناً لمصالحها. أما العقيدة فهي واحدة عند جميع الأنبياء; ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد» [رواه البخاري ومسلم].
والمراد: أن الأنبياء كالإخوة لأب; دينهم - وهو توحيد الله عز وجل- واحد, وأمهاتهم - والمراد بها الشرائع - مختلفة.
وينبغي أن يُعلم: أنه بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم اختص اسم الإسلام عند الإطلاق بالدين الذي أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن "الإسلام" –كما في حديث عمر رضي الله عنه-؟ قال: «أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ...»، فلا يجوز لأحد بعد بعثته أن يتدين بغير شريعته.
سابعاً: وظائف الرسل ومهماتهم:
الرسل سفراء الله تعالى إلى عباده، وحمََلَة وَحْيِه، وقد اختارهم الله عز وجل واصطفاهم للقيام بوظائف محددة جاء ذكرها في القرآن والسنة، وهذه الوظائف هي:
1) البلاغ المبين:
وهذه الوظيفة هي المهمة الأساسية للرسل; لأن الله تعالى ما بعثهم إلا لإبلاغ الناس ما نُزِّل إليهم من ربهم، وبيانه لهم قولاً أو فعلاً ً كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل مع أصحابه. وقد جاء في القرآن الكريم ثلاث عشرة آية تَنصُّ على أن مهمة الرسول إنما هي البلاغ، وقال الله تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ [المائدة: 67].
2) الدعوة إلى الله تعالى:
لا تقف مهمّة الرسل عند حدّ بيان الحقِّ وإبلاغه، بل مع ذلك يدعون الناس إلى الأخذ بدعوتهم، والاستجابة لها، وتحقيقها في أنفسهم اعتقاداً وقولاً وعملاً، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]. وكل رسول قال لقومه: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ [آل عمران: 50].
ومن تأمل أحوال الأنبياء مع أقوامهم – كما جاء في القرآن - يدرك مدى الجهد العظيم الذي بذله الرسل في سبيل دعوة الناس إلى الله عز وجل، وحسبك في هذا أن تقرأ سورة نوح لترى الجهد الذي بذله نوح عليه السلام على مدار تسعمائة وخمسين عاماً; فقد دعاهم ليلاً ونهاراً، سرَّاً وعلانية، واستعمل أساليب الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وحاول أن يفتح عقولهم، وأن يوجهها إلى ما في الكون من آيات، ولكنهم أعرضوا وكذَّبوا; قال سبحانه: ﴿قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [نوح: 21].
3) البشارة والنذارة:
وهذه الوظيفة مرتبطة بالدعوة إلى الله تعالى; فالرسل يدعون الناس إلى الله عز وجل، وإلى طاعته بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وفي الوقت نفسه يُبشِّرون الطائعين الممتثلين بالفوز الكبير والحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، ويُنذرون العاصين المخالفين بالشقاء في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة; قال الله تعالى: ﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ﴾ [الأنعام: 48].
ومن كمال رحمة الله وعدله أنه بَيَّن للناس صنوف النعيم وألوان المُتع التي أعدها لعباده المؤمنين، كما بينَّ أنواع العذاب المهلك التي أعدها للمجرمين الكافرين.
4) تقويم الفكر المنحرف والعقائد الزائفة:
فقد خلق الله تعالى عباده على الفطرة السليمة; يعبدون الله وحده ولا يشركون به شيئاً، ولكنْ جاءتهم الشياطين فزينوا لهم الباطل، وأثاروا فيهم الشبه والضلالات حتى زاغوا وانحرفوا عن الطريق المستقيم، وحادوا عن هذه الفطرة السليمة التي كانوا عليها، فكان من رحمة الله تعالى وفضله كلما حدث ذلك أن يرسل رسله; ُّليردوهم إلى جادة الصواب، وإلى الطريق المستقيم، قال الله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ﴾ [البقرة: 213].
أي: كان الناس أُمَّة واحدة على التوحيد والإيمان وعبادة الله تعالى وحده فاختلفوا، فأرسل الله تعالى النبيين مبشرين ومنذرين.
ومع دعوة كل نبي قومه إلى توحيد الله وترك عبادة ما سواه، فقد كان كل
رسول يختص بتقويم الانحراف الحادث في عصره وموطنه; ذلك لأن الانحراف عن الصراط المستقيم يختلف باختلاف ظروف الزمان والمكان; فنوح عليه السلام أنكر على قومه عبادة الأصنام التي كانت عامة فيهم، وكذلك إبراهيم عليه السلام، وهود عليه السلام أنكر على قومه الاستعلاء في الأرض والتجبر فيها، وصالح عليه السلام أنكر على قومه الفساد في الأرض واتباع المفسدين، ولوط عليه السلام حارب الشذوذ الجنسي المتفشي في قومه، وشعيب عليه السلام قاوم جريمة الإفساد الاقتصادي المتمثل في تطفيف المكيال والميزان، وهكذا...
5) إقامة الحجة على العباد:
فقد أرسل الله عز وجل الرسل وأنزل الكتب; كي لا يبقى للناس حجّة ولا عذر يوم القيامة; كما قال تعالى: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [النساء: 165].
ولو لم يرسل الله عز وجل الرسل إلى الناس لجاءوا يوم القيامة يخاصمون الله جل وعلا، ويقولون: كيف تعذبنا وتدخلنا النار، وأنت لم ترسل إلينا مَنْ يُبلِّغنا مرادك منّا? كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ﴾ [طه: 134]. أي: لو أهلكهم الله بعذابٍ جزاء كفرهم قبل أن يرسل إليهم رسولاً لقالوا: هلا أرسلت إلينا رسولاً; كي نعرف مرادك، ونتبع آياتك، ونسير على النهج الذي تريد ? فأراد الله عز وجل برحمته أن لا يبقى لأحد حجة ولا عذر; فأرسل الرسل، وأنزل الكتب; قال النبي صلى الله عليه وسلم «ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين» [رواه البخاري ومسلم].
ثامناً: معجزات الرسل:
معجزات الرسل: هي الآيات التي أجراها الله على أيديهم؛ تصديقاً لهم، وبرهاناً على الحق الذي معهم؛ ولهذا سماها الله في كتابه (آيات) أي علامات دالة على صدقهم.
وتأييد الله لرسله بالمعجزات من كمال عدله ورحمته، ومحبته للعذر، وإقامته للحجة على العباد; إذْ لم يبعث نبياً من الأنبياء إلا ومعه آية تدل على صدقه فيما أخبر به; قال تعالى: ﴿ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ [الحديد: 25].
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياءِ إلا قد أُعطِيَ من الآيات ما مثلُه آمن عليه البشرُ وإنما كان الذي أوتيتُ وحيًا أوحاه اللهُ إليَّ فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعًا يومَ القيامةِ» [رواه البخاري ومسلم].
ومن عظيم حكمة الله عز وجل أن جعل معجزات كل رسول من جنس ما أبدع فيه القوم المرسل إليهم; إمعاناً في إقامة الحجة، وقطعاً للعذر، فلو جعلت معجزة الرسول في أمر يجهله مَنْ أُرسل إليهم، لكان لهم عذر في عدم إحسان ما يجهلونه. فموسى عليه السلام أُرسل في قوم كان السِّحرُ شائعاً بينهم، فآتاه الله من الآيات ما فاق به قدرة السحرة على أن يأتوا بمثله، فلما رأى السحرة ذلك علموا أن هذا أمر ليس من فعل السحر، وإنما هي المعجزة الربانية التي أيَّدَ الله بها نبيه موسى، فما كان من َّالسحرَ ة إلا أن آمنوا وأذعنوا.
ولما بعث الله تعالى عيسى عليه السلام في بني إسرائيل كان فن الطب فيهم شائعاً، فاقتضت حكمته تعالى أن جعل كثيراً من معجزاته عليه السلام من قبيل أعمال أهل الطب; فأبرأ الله على يديه الأبرص والأكمه - الذي ولد أعمى - وأحيا الموتى، وكُلٌ من البَرص والكَمَه وغيرهما من الأمراض المستعصية لم يكن بمقدور الأطباء في ذلك الزمان التسبب في الشفاء منها، فآتى الله عيسى عليه السلام معجزة الشفاء منها بلمسة ودعاء; تأييداً وتصديقاً وإعلاماً لهم أن هذا من عند الله عز وجل.
ومثل ذلك مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم; فقد بُعث في قوم كانوا أهل فصاحة وبيان، وكان صلى الله عليه وسلم أميّاً لا يقرأ ولا يكتب، فلما بعثه الله عز وجل جعل معجزته من جنس ما نبغ فيه العرب، وهو الكلام الفصيح، فآتاه الله القرآن، وتحدَّى العرب أن يأتوا بمثله فعجزوا، ثم تَحدَّاهم أن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بمثل سورة منه فعجزوا، ثم أعلمهم بأنه لو اجتمع البشر كلهم، وتظاهرت الجن معهم على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ما استطاعوا أن يأتوا بمثله; قال الله تعالى: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88].
تاسعاً: الوحي:
هو الطريقة أو الكيفية التي يتم بها إعلام الله تعالى لأنبيائه ورسله ما يريده وما يأمر به وما ينهى عنه. وهذا يكون من خلال عدة أمور منها:
1) الرؤيا المنامية: فإن رؤيا الأنبياء حق، وهي وحي من الله تعالى لهم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «أولُ ما بُدىء به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم من الوحيِ الرؤيا الصالحةُ في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثلَ فلَقِ الصبحِ » [رواه البخاري ومسلم].
2) تكليم الله تعالى لرسله من وراء حجاب: وذلك كما كلَّم الله تعالى نبيه موسى عليه السلام، وكما كلَّم نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج.
3) أن يرسل إليه رسولاً من الملائكة: وهو جبريل عليه السلام في الغالب، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ﴾ [الشورى: 51].
عاشراً: واجبنا تجاه الرسل:
لقد أوجب شرعنا الحنيف على كل مسلم حقوقاً تجاه أنبياء الله ورسله; قياماً بما أمر الله به من تعظيمهم وتوقيرهم، واعترافاً بما فضَّلهم الله به على سائر الخلق من تبليغ رسالته وتبيين دينه. ومن هذه الحقوق:
1) الإيمان بهم جميعاً، وعدم التفريق بينهم:
وذلك بأن يُؤمن ببعض، ويُكفر ببعض; كحال النصارى الذي آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد، أو كحال اليهود الذين آمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه; قال الله تعالى: ﴿ قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 136].
ومما يجب معرفته هنا أنه لا يجوز لأحد من الثقلين (الإنس والجن) اتِّ باع شريعة أحدٍ من الرسل السابقين بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث للناس كافة; لأن شريعته جاءت رافعةً و ناسخةً لجميع شرائع الأنبياء قبله; فلا دين إلا ما بعثه الله به، ولا متابعة إلا لهذا النبي الكريم; قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [سبأ: 28].
2) موالاتهم جميعاً ومحبتهم والحذر من بغضهم وعداوتهم:
فمن أبغض نبياً من الأنبياء فقد كفر; قال تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 98].
3) النظر إليهم بعين الكمال والتوقير:
فلا يجوز للمسلم أن ينتقص أحداً منهم، بل يجب أن يعتقد أنهم أدَّوا رسالة الله على أكمل وجه، وأنهم بَلَغوا درجة الكمال البشري; فلا نقص يعيبهم، ولا عيب يشينهم; قال الله تعالى بعد أن ذكر طائفة كبيرة من الأنبياء والمرسلين: ﴿وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 86].
4) دفع غلو الغالين فيهم:
كغلو النصارى في المسيح ابن مريم عليهما السلام حيث ادعوا أنه ابن الله، وإنما هو عبد الله ورسوله; قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾ [النساء: 171].
5) الصلاة والسلام عليهم:
فقد أخبر الله تعالى بإبقائه الثناء الحسن على رسله، وتسليم الأمم عليهم مِنْ بعدهم; قال تعالى عن نوح عليه السلام: ﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات: 78، 79]، وقال عن إبراهيم عليه السلام: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الصافات: 108-109]، وقال تعالى: ﴿ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الصافات: 181].
6) عدم المفاضلة بينهم:
على سبيل المفاخرة والتنقيص من حق بعضهم، وهذا من تمام إجلالهم واحترامهم وكمال الإيمان بهم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك; فقال: «لا تفاضلوا بين أنبياء الله» [بواه مسلم].
خاتم الأنبياء محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم
إن الحديث عن نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم ليس كحديثٍ عن غيره; إنه حديث عن أعظم إنسانٍ خلقه الله عز وجل، وأكمل بشرٍ مشى على ظهر هذه الأرض، وأفضل رسول أرسله الله جل وعلا إلى هذه البشرية، فهو إذاً سيّد العالمين، وإمام المتقين، وخاتم النَّبيين، وحبيب ِربِّ العالمين.
وفي هذا المبحث نحاول أن نُعرِّف القارئ الكريم بشيءٍ مما يتعلق بشخصيته صلى الله عليه وسلم وحياته وسيرته; فنقول وبالله التوفيق:
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف; ينتهي نسبه إلى نبي الله إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام.
وأُمُّه هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة.
وقد ولدته أُمُّه سَويّ الخِلْقة، جميل الصورة، صحيح الجسم. وكانت ولادته عام الفيل الموافق لعام خمسمائة وإحدى وسبعين للميلاد.
وُلد في مكة المكرمة، ونشأ بها يتيماً; فقد مات أبوه وهو حَمْلٌ في بطن ثم ماتت أمه وهو في السادسة من عمره، فتكفَّل به جدّه عبد المطلب ثم مات، فتكفَّل به عمه أبو طالب، ونشأ في كنفه ورعايته.
- عمل برعي الغنم في صباه كما هي سنّة الله في أنبيائه; قال صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله نبياً إلا رعة الغنم، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» [رواه البخاري].
ثم عمل بالتجارة، وتزوج من خديجة بنت خويلد القرشيّة رضي الله عنها وأنجب منها من الذكور: القاسم، وهو الذي كان يُكنَّى به، وعبد الله. ومن الإناث: زينب، ورُقيّة، وأُمّ كلثوم، وفاطمة رضي الله عنهم جميعاً. وأنجب إبراهيم من مارية القبطية التي أهداها إليه المُقَوْقس مَلِك مصر في زمانه.
وقد مات جميع الذكور في حياته وهم صغار، وأما بناته فماتوا أيضاً في حياته لكن بعدما كبرنَ وأسلمنَ وتزوجنَ، إلا فاطمة رضي الله عنها فإنها ماتت بعده بستة أشهر.
شبَّ نبينا صلى الله عليه وسلم على الأخلاق الفاضلة الكريمة، والخصال الجميلة الحميدة حتى عُرف بين قومه بالصادق الأمين. وبالرغم من العادات السيئة التي كانت موجودة في وقته وفي بيئته; كشرب الخمر إلا أنه لم يكن يفعل شيئاً من ذلك; فلم يشرب خمراً قط، وبرغم عبادة قومه للأوثان والأصنام التي صنعوها بأيديهم عبادة الأصنام منتشرة انتشاراً كبيراً عند العرب فكان لكل قبيلة صنم يعبدونه من دون الله عز وجل برغم ذلك كله فقد صانه الله عز وجل فلم يسجد لصنمٍ قط، ولم يحضر حفلاً من الحفلات التي كانوا يمارسون فيها طقوسهم الكُفْرية، ولم يعمل شيئاً مما كان يعمله قومه من الفواحش والمنكرات.
وكانت أخلاقه وأحواله تدل على اصطفاء الله واختياره له لهداية الناس إلى الله، وردِّهم إلى جادة الصواب، وإلى الفطرة السليمة التي هي عبادة الله وحده لا شريك له.
وعلى رأس الأربعين من عمره أرسل اللهُ –عز وجل- إليه أمين الوحي جبريل عليه السلام ليُعْلِمه أنه رسول الله إلى الناس كافة، وأنه مُكلَّف بدعوة الناس إلى عبادة الله وحده، وإلى دين الإسلام الذي ارتضاه الله عز وجل وختم به الرسالات، وأنزل عليه القرآن ليقرأه على الناس، وينذرهم به، ويكون دستوراً ومنهجاً لحياتهم.
ومن وقتها نشط النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى عبادة الله وحده وتَرْكِ ما هم عليه من عبادة الأوثان، وأخذ يقرأ عليهم كلام الله عز وجل الذي كان يتنزل عليه، فكذَّبه قومه، وعاندوه، وآذوه، ورموه بالجنون تارة، وبالسحر تارة، وأخذوا يصدون الناس عنه وينهونهم عن اتباعه وتصديقه.
وبرغم ذلك كلِّه آمن به بعض الناس، وكان على رأسهم زوجه خديجة، وصاحبه أبو بكر، وابن عمه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعاً، ثم توالى دخول الناس في دين الله، فاشتدَّ عليه أذى المشركين، وتعرض أصحابه وأتباعه لأشدِّ ألوان الأذى والتعذيب; حتى قُتل بعضهم، فأمر أصحابه بالهجرة إلى المدينة.
ثم هاجر هو أيضاً إلى المدينة، وهناك جعل الله عز وجل له أنصاراً وأعواناً ينصرونه، وينصرون دينه حتى مَكَّن الله له ولدينه، وانتشر الإسـلام في جزيرة العرب، وفُتحت مكة بلده، وبلد الله الحرام، وهُدّمت الأصنام، وسُوّيت القبور المُشرْفة -المرتفعة عن الأرض -; إظهاراً للتوحيد، وإيذاناً بانتهاء دولة الشرك والوثنية في جزيرة العرب; قال عليّ رضي الله عنه لأبي الهَيّاج الأسدي: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته» [رواه مسلم]. وأقرَّ الله عز وجل عينه بعز الإسلام وظهور المسلمين.
ثم تَوفَّاه الله عز وجل وعمره ثلاث وستون سنة; أربعون منها قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبياً رسولاً.
وبه ختم الله عز وجل الأنبياء والرسل، وختم بشريعته جميع الشرائع; فلا نبي بعده، ولا شريعة بعد شريعته، وشريعته ناسخة لجميع الشرائع السابقة، فلا إيمان لأحدٍ حتى يؤمن به ويتبعه على دينه وشريعته; قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به، إلا كان من أصحاب النار» [رواه مسلم].
وبعدما توفاه الله عز وجل تابع أصحابه مسيرته، وبلَّغوا دعوته، وفتحوا البلدان بالإسلام، ونشروا الدِّين الحق حتى بلغ مشارق الأرض ومغاربها. ودينه باقٍ إلى يوم القيامة.
من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم:
كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس أخلاقاً، وأعلاهم فضائل وآداباً، امتاز بذلك قبل عهد النبوة فكيف بأخلاقه بعد النبوة? وقد خاطبه ربُّه تبارك وتعالى بقوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].
ولما سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خلقه؟ قالت: «خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن» [أخرجه مسلم]، فمن أخلاقه الكريمة:
- أنه صلى الله عليه وسلم كان أحلم الناس، وأعدلهم، وأعفَّهم، وأكرمهم, وأشجعهم وكان أشدّ الناس تواضعاً; يصلح نعله بنفسه، ويخيط ثوبه، ويُعِين زوجته في المنزل ويساعدها. يجيب الدعوة من أيّ أحد، ويقبل الهدية ولو قَلَّت, ويكافئ عليها. وكان يغضب لربِّه، ولا يغضب لنفسه. وكان يجوع أحياناً فيعصب الحجر على بطنه من الجوع، وكان يأكل ما حضر، ولا يردُّ ما وجد من المباح، ولا يَعيب طعاماً قط إن اشتهاه أكله، وإن لم يشتهه تركه. وكان يلبس ما وجد من المباح، ويركب ما تيسرَّ; مرة فرساً، ومرة جملاً، ومرة بغلة، ومرة حماراً، أو يمشي راجلاً. يجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين، ويَ صِ لُ ذوي القرابة والرحم من غير أن يُميّزهم على من هو أفضل منهم. ولم يكن قاسياً، ولا غليظاً، ولا صخَّاباً – أي يصيح ويصرخ - في الأسواق، وما كان يقابل السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ويقبل معذرة من اعتذر إليه. يمزح ولا يقول إلا حقاً، ويضحك من غير قهقهة. وكان أشد الناس حياءً. وكان يعود المرضى، ويشهد الجنائز، ويمشي وحده بين أعدائه بلا حارس. لا يحتقر فقيراً لفقره، ولا يهاب مَلِكاً لمُِلْكِهِ. وكان من خُلُقه أنْ يبدأ مَنْ لقيه بالسلام، وإذا لقي أحداً من أصحابه بدأه بالمصافحة، ولا يأتيه أحد لحاجة إلا قام معه في حاجته. وكان يدعو أصحابه بِكُناهم – أي يخاطب الواحد من صحابته فيقول: يا أبا فلان -; إكراماً لهم، واستمالة لقلوبهم. وكان أرحم الناس بالناس، وخير الناس للناس، وأنفع الناس للناس.
- وكان يحب اليُسرْ، ويكره العُسرْ، ولا يواجه أحداً بما يكره، ومن رآه بديهة هابه، ومن خالطه أحبه. وكان لا يمضي عليه وقت في غير عمل لله تعالى، أو فيما لابد له منه من صلاح نفسه. هذه بعض أخلاقه الكريمة، وصفاته الجميلة فتبارك مَنْ أدَّبه وعلَّمه وربَّاه.
بشارات الأنبياء السابقين به:
لقد حدثنا القرآن الكريم عن بشارات الأنبياء السابقين ببعثته صلى الله عليه وسلم، وأن ذِكْره موجود في الكتب السابقة، ومن ذلك قول الله عز وجل: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 81].
فقد دلَّت هذه الآية -كما قال بعض أهل العلم - على أنّ الله أخذ العهد والميثاق على كلّ نبيٍ لئن بُعث محمد صلى الله عليه وسلم في حياته ليؤمنن به، ويترك شرعه لشرعه. ويُفهم من هذا: أن ذِكْرَه موجود عند كل الأنبياء السابقين.
وقال الله عز وجل عنه - وذلك في سياق الحديث عن قوم موسى عليه السلام : ﴿ أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: 156-157].
- وأخبرنا الله عز وجل أن عيسى عليه السلام بشَّر برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم; فقال: ﴿ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الصف:6].
و(أحمد) من أسماء نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن لي أسماء؛ فإنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد» [رواه البخاري ومسلم].
- وجاء وصفه صلى الله عليه وسلم في التوراة; فعن عطاء بن يسار قال: «لقِيتُ عبدَ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العَاصِ رضي الله عنهما : قلتُ : أخبِرنِي عن صفةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في التورَاةِ ، قالَ : أَجَلْ ، واللهِ إنَّهُ لموصوفٌ في التورَاةِ ببعضِ صِفَتِهِ في القرآنِ : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وحِرْزًا للأُمِّيِّينَ ، أنتَ عَبْدِي ورَسُولِي ، سَمَّيْتُكَ المُتَوَكِّلَ ، ليسَ بِفَظٍّ ولا غَلِيظٍ ، ولا سَخَّابٍ في الأسْوَاقِ ، ولا يَدْفَعُ بالسَّيئَةِ السَّيِّئَةَ ، ولكنْ يعفُو ويغْفِرُ ، ولنْ يَقْبِضَهُ اللهُ حتى يقِيمَ بهِ المِلَّةَ العوجَاءَ ، بأنْ يقولوا : لا إلهَ إلَّا اللهُ ، ويفْتَحُ بهَا أعْيُنًا عُمْيًا ، وآذَانًا صُمًا ، وقُلُوبًا غُلْفًا » [رواه البخاري].
وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ﴾ [البقرة: 146، الأنعام:20].
وغير ذلك من البشارات ببعثته صلى الله عليه وسلم.
- ولقد كانت هذه البشارات ذائعة ومنتشرة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الذي يتولى إذاعتها ونشرها هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى; ظناً منهم أنه سيبعث منهم، فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفوه، ورأوا صفته كما جاءت في كتبهم؛ كفروا به وكذبوه وحاربوه; قال الله عز وجل: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ﴾ [البقرة: 89].
هذا في الوقت الذي انتفع منهم كثير من أهل المدينة النبوية بسماع هذه البشارات منهم، فما إنْ سمعوا ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم حتى سارعوا إلى الإيمان به واتباعه، ونقلوا لنا أحاديث اليهود قبل البعثة عن هذه البشارات.
معجزاته صلى الله عليه وسلم:
- لقد أيَّد الله عز وجل رسله بالآيات والمعجزات، وهي أمور خارقة للعادة يجريها الله عز وجل على أيديهم; تصديقاً وتأييداً لهم، وبرهاناً على الحق الذي معهم، فما من نبيٍّ من الأنبياء إلا وجعل الله عز وجل معه من الآيات ما يدل على صدقه; كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياءِ إلا قد أُعطِيَ من الآيات ما مثلُه آمن عليه البشرُ وإنما كان الذي أوتيتُ وحيًا أوحاه اللهُ إليَّ فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعًا يومَ القيامةِ» [رواه البخاري ومسلم].
- وكان لنبينا حظٌّ وافر من هذه الآيات وتلك المعجزات; فقد أيَّده الله عز وجل بكثير من المعجزات الدَّالة على صدقه، وأنه مُرسل من عند ربِّه، وعلى رأس هذه المعجزات:
1) القرآن الكريم: كتاب الله الخالد الذي لا يطرأ عليه التغيير ولا التبديل، قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 41-42].
- فقد تحدَّ ى بهذا الكتاب فصحاء العرب –وكانت الفصاحة والبيان وجوْدَة القول أعظم ما برع فيه العرب –؛ تحدَّاهم أن يأتوا بمثله أو بمثل بعض آياته فعجزوا، ثم أعلمهم بأنّه لو اجتمع الإنس والجنّ كلهم على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ما استطاعوا أن يأتوا بمثله; قال الله تعالى: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88].
2) ومن معجزاته -عليه الصلاة والسلام- العظيمة أيضاً: الإسراء والمعراج، قال الله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ﴾ [الإسراء: 1].
فقد أخذه جبريل عليه السلام وسار به ليلاً راكباً على دابة يقال لها البراق من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس، وهناك جمع الله له الأنبياء فصلى بهم إماماً، ثم عرج به –أي صعد به – جبريل عليه السلام إلى السماوات العُلا، وتجاوزها حتى وصل إلى مكان يُقال له سدرة المنتهى، ورأى أموراً عظيمة; منها: رؤيته لجبريل عليه السلام على صورته الحقيقية التي خلقه الله عليهـا، ثـم كلَّمـه ربـُّه وقرَّبـه، وفرض عليه الصلـوات الخمس; قـال الله –عز وجل-: ﴿ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾ [النجم: 12-18].
ثم عاد إلى مكة، وقد استغرق ذلك كله جزءاً من الليل; فالله على كل شيء قدير.
3) ومن معجزاته أيضاً: إبراء المرضى: وقد حدث ذلك مع غير واحد من صحابته الكرام رضي الله عنهم, منهم: عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه في غزوة خيبر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عنه ليعطيه الراية فقال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: هو يشتكي عينيه، فاستدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وتفل في عينيه فبرأ بإذن الله وقام كأنْ لم يكن به وجع [رواه البخاري ومسلم].
وغير ذلك كثير من معجزاته صلى الله عليه وسلم التي أيده الله بها; تأييداً وتصديقاً ونُصرةً له.
خصائصه صلى الله عليه وسلم:
لقد خص الله تبارك وتعالى نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بكثير من الخصائص والمناقب التي فضَّله بها على غيره من المرسلين، وميَّزه بها عن سائر العالمين. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه المنحة الربانية، وتلك المنّة الإلهية فقال: «أعطيت ما لم يُعط أحد من الأنبياء» [رواه أحمد]. وفيما يلي نعرض لأهم هذه الخصائص:
1) عموم رسالته لكافة الثقلين من الجن والإنس; فلا بد لهم من اتباعه والإيمان برسالته; قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾ [سبأ: 28]، وقال تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «... وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس عامة» [رواه البخاري ومسلم]. وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: «والذي نفْسُ محمدٍ بيدِهِ ، لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمةِ ، يهودِيٌّ ، و لا نصرانِيٌّ ، ثُمَّ يموتُ ولم يؤمِنْ بالذي أُرْسِلْتُ به ، إلَّا كان من أصحابِ النارِ» [رواه مسلم].
2) أنه خاتم الأنبياء والمرسلين فلا نبي بعده; قال الله تعالى: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ [الأحزاب: 40]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مَثَلي ومَثَلَ الأنبياءِ من قبلي ، كمَثَلِ رجلٍ بنى بيتًا ، فأحسَنه وأجمَله إلَّا موضِعَ لبِنةٍ من زاويةٍ ، فجعَل النَّاسُ يطوفونَ به ، ويعجَبونَ له ويقولون : هلَّا وُضِعَت هذه اللَّبِنةُ ؟ قال : فأنا اللَّبِنةُ ، وأنا خاتمُ النَّبيِّينَ» [رواه البخاري ومسلم].
3) أنَّ أمته خير الأمم، وأكثر أهل الجنة; قال الله تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110]، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «كنا معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في قُبَّةٍ، فقال : أتَرضَونَ أن تكونوا رُبُعَ أهلِ الجنةِ. قُلنا : نعم، قال : أتَرضَون أن تكونوا ثُلُثَ أهلِ الجنةِ . قُلنا : نعم، قال : أتَرضَون أن تكونوا شَطرَ أهلِ الجنةِ . قُلنا : نعم، قال : والذي نفسُ محمدٍ بيدِه، إني لأرجو أن تكونوا نِصفَ أهلِ الجنةِ، وذلك أن الجنةَ لا يَدخُلُها إلا نفسٌ مسلمةٌ، وما أنتم في أهلِ الشِّركِ إلا كالشعرةِ البيضاءِ في جلدِ الثَّورِ الأسودِ، أو كالشعرةِ السوداءِ في جلدِ الثَّورِ الأحمرِ» [رواه البخاري ومسلم].
4) أنه سيد ولد آدم يوم القيامة; فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيِّدُ ولدِ آدمَ يومَ القيامةِ. وأوَّل من ينشقُّ عنه القبرُ . وأوَّل شافعٍ وأوَّلُ مُشفَّعٍ» [رواه مسلم].
5) أنه صاحب الشفاعة العظمى يوم القيامة; وذلك عندما يشفع للناس في أن يقضي بينهم ربُّهم، وذلك بعد أن يطلب الإعفاء منها أفضل الرسل. وهذه الشفاعة هي المقام المحمود المذكور في قوله تعالى: ﴿ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 79]، [صحيح البخاري].
6) أنه صاحب الوسيلة; وهي درجة عالية في الجنة، لا تكون إلا لعبد واحد، وهي أعلى درجات الجنة; فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سَمِعَ النَِّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتُمُ المؤذِّنَ فقولوا مثلَ ما يقولُ. ثمَّ صلُّوا عليَّ . فإنَّهُ مَن صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى اللَّهُ عليه بِها عشْرًا. ثمَّ سلوا اللَّهَ ليَ الوسيلَةَ . فإنَّها منزِلةٌ في الجنَّةِ لا تنبغي إلَّا لعبدٍ من عبادِ اللَّهِ. وأرجو أن أكونَ أنا هو. فمن سأل ليَ الوسيلةَ حلَّتْ لهُ الشَّفَاعةُ» [رواه مسلم].
إلى غير ذلك من خصائصه ومناقبه صلى الله عليه وسلم الكثيرة، والتي تدلُّ على علو درجته عند ربه، وسمو مكانته في الدنيا والآخرة.
حقوقه صلى الله عليه وسلم على أمته:
يجب على الأُمَّة تجاه النبي صلى الله عليه وسلم أمور كثيرة; قياماً بحقه صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك:
1) وجوب الإيمان بأنه صلى الله عليه وسلم بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة; فما من خيرٍ إلا ودلّ الأمة عليه ورغبها فيه، وما من شر إلا ونهى الأمة عنه وحذرها منه، قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة:3]. وفي حجَّة الوداع خطبهم خطبة بليغة; بينّ لهم فيها ما أوجبه الله عليهم، وما حرَّمه عليهم، وأوصاهم بكتاب الله إلى أن قال لهم: «وأنتم تُسأَلونَ عنِّي فما أنتم قائلون ؟ قالوا: نشهَدُ أنْ قد بلَّغْتَ فأدَّيْتَ ونصَحْتَ فقال بإصبَعِه السَّبَّابةِ يرفَعُها إلى السَّماءِ وينكُتُها إلى النَّاسِ: اللَّهمَّ اشهَدْ» [رواه مسلم]، وقال أبو ذر رضي الله عنه: «لقد تركنا محمد صلى الله عليه وسلم وما يحرك طائر جناجيه في السماء إلا أذكرنا منه علماً » [رواه أحمد].
2) محبته صلى الله عليه وسلم وتقديمها على محبة النفس والولد والناس أجمعين; قال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» [البخاري ومسلم]، ولماَّ قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا رسولَ اللهِ ، لأَنْتَ أحبُّ إليَّ مِن كلِّ شيءٍ إلا مِن نفسي ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لا ، والذي نفسي بيدِه ، حتى أكونَ أحبَّ إليك مِن نفسِك.فقال له عمرُ : فإنه الآن ، واللهِ ، لأَنتَ أحبُّ إليَّ مِن نفسي، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمرُ » [رواه البخاري].
3) تعظيمه صلى الله عليه وسلم وتوقيره وإجلاله; فإن هذا من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم التي أوجبها الله في كتابه; قال تعالى: ﴿ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ﴾ [الفتح:9].
قال ابن عباس رضي الله عنه: تُعزِّروه: أي تجُِلّوه. وتوقروه: أي تُعظّموه. وتعظيمه صلى الله عليه وسلم واجب بعد موته كتعظيمه في حياته; وذلك عند ذكره صلى الله عليه وسلم، وذكر حديثه وسنّته، وسماع اسمه وسيرته.
4) الصلاة والتسليم عليه صلى الله عليه وسلم، والإكثار من ذلك كما أمر الله سبحانه بذلك، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
5) تجََنُّب الغُلو فيه والحذر من ذلك; فإن في ذلك أعظم الأذية له صلى الله عليه وسلم; قال الله تعالى آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخاطب الأمة بقوله: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف:110]، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده؛ فقولوا: عبدالله ورسوله» [رواه البخاري]. والإطراء -كما في لسان العرب -: هو مجُاوَزَةُ الحَدِّ في المَدْحِ. وفي هذا تحذير منه صلى الله عليه وسلم من الغلو فيه، وإنزاله فوق منزلته التي أنزله الله عز وجل.
6) محبة أصحابه، وأهل بيته، وأزواجه، وموالاتهم جميعًا، والحذر من تَنقّصهم، أو سبِّهم، أو الطعن فيهم بشيء; فإن الله تعالى قد أوجب على هذه الأمة موالاة أصحاب نبيه، وحَثَّ مَنْ جاء بعدهم على الاستغفار لهم، وسؤال الله أن لا يجعل في قلوبهم ِ غ لا لهم; فقال بعد أن ذكر المهاجرين والأنصار: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي . لا تسبوا أصحابي . فوالذي نفسي بيدِه ! لو أن أحدَكم أنفق مثلَ أحدٍ ذهبًا ، ما أدرك مدَّ أحدِهم ، ولا نصيفَه» [رواه البخاري ومسلم].
فهذه بعض الحقوق الواجبة للنبيصلى الله عليه وسلم على أمته. فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا من القائمين بها المحافظين عليها، وأن يثبتنا على دينه واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يحشرنا تحت لوائه، إنه سبحانه ولي ذلك ومولاه.
الركن الرابع
الإيمان بالكتب
من عظيم رحمة الله تعالى بعباده أن بعث إليهم رسله; ليردُّوهم إلى جادَّة الصواب، وإلى طريق الحق والهداية - وذلك بعدما وقعوا في براثن الشرك والوثنية، وانحرفوا عن الفطرة التي خلقهم الله تعالى عليها - وكان من تمام منته سبحانه أن أنزل على هؤلاء الرسل كُتباً ضمَّنها سبحانه أحكامه وتعاليمه وهدايته; حتى تكون منهج حياة، ودستوراً لهم; يهتدون بهديها، ويستضيئون بنورها; فتقودهم بما فيها من حكمة وهداية إلى كل خير وراحة وسعادة في الدنيا والآخرة، وتنير لهم دروب الحياة كلها، وأيضاً لتكون لهم نوراً تحيا به نفوسهم وتزكو.
لذا كان من أركان الإيمان التي لا بد من تحقيقها والإتيان بها: الإيمان بكتب الله تعالى التي أنزلها على رسله. وفي هذا المبحث نحاول إلقاء الضوء على هذا الركن العظيم، وما يتعلق به; فنقول وبالله التوفيق.
أولاً: المراد بالكتب:
المراد بالكتب هنا: التعاليم التي أنزلها الله تعالى على رسله; رحمة للخلق، وهداية لهم; ليصلوا بها إلى سعادة الدنيا والآخرة. والكتب التي أخبرنا الله عز وجل في القرآن أنه أنزلها على رسله هي:
1) التوراة: وهي كتاب الله الذي أنزله على موسى عليه السلام; قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ ﴾ [القصص:43].
وفي حديث الشفاعة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ائتوا موسى؛ عبداً كلمه الله، وأعطاه التوراة» [رواه البخاري ومسلم].
2) الإنجيل: وهو كتاب الله الذي أنزله على عيسى ابن مريم عليهما السلام قال الله تعالى: ﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 46].
3) الزبور: وهو كتاب الله الذي أنزله على داود عليه السلام، قال الله تعالى: ﴿ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴾ [النساء: 163].
4) صحف إبراهيم وموسى: وقد جاء ذكرهما في موضعين من كتاب الله:
الأول: في سورة النجم; في قول الله تعالى: ﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [النجم: 36-38].
والثاني: في سورة الأعلى، قال الله تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾ [الأعلى: 14-19].
فأخبر الله عز وجل عن بعض ما جاء في هذه الصحف من وحيه الذي أنزله على رسوليه إبراهيم وموسى عليهما السلام.
5) القرآن العظيم: وهو كتاب الله الذي أنزله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو آخر كتب الله نزولاً وأشرفها وأكملها، والناسخ لما قبله من الكتب، وكانت دعوته لعامة الثقلين من الإنس والجن; قال الله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48]. ومهيمنًا: أي شهيدًا على ما قبله من الكتب وحاكماً عليها، وقال تعالى: ﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴾ [الأنعام: 19].
وللقرآن أسماء كثيرة، أشهرها: القرآن، والفرقان، والكتاب، والتنزيل، والذكر.
ثانياً: حكم الإيمان بالكتب:
الإيمان بكتب الله التي أنزلها على رسله ركن عظيم من أركان الإيمان، وأصل كبير من أصول الدين، لا يتحقق الإيمان إلا به; قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء:136].
فأمر الله عباده المؤمنين بالإيمان بالله، وبرسوله; وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وبالكتاب الذي أنزل على رسوله وهو القرآن، وبالكتاب الذي أنزل من قبل وهو جميع الكتب السابقة; كالتوراة، والإنجيل، والزبور، والصحف, ثم بينَّ في ختام الآية أن من كفر بشيءٍ من أركان الإيمان -ومن بينها الإيمان بكتب الله - فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً.
ثالثاً: كيفية الإيمان بالكتب:
الإيمان بكتب الله عز وجل يشتمل على عدة أمور لا بد من اعتقادها وتقريرها، وذلك لتحقيق هذا الركن العظيم، وهي:
1) التصديق الجازم بأنها كلها مُنزَّلة من عند الله عز وجل وأنها كلام الله تعالى لا كلام غيره.
2) الإيمان بأنها كُلَّها دَعَت إلى عبادة الله وحده، وأنها جاءت بالخير والهدى والنور.
3) الإيمان بما سمَّى الله عز وجل من هذه الكتب على وجه الخصوص والتصديق بها، وبإخبار الله ورسوله عنها. وهذه الكتب هي: (القرآن والتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى)، وأما ما لم يسمِّه الله لنا من الكتب المُنزَّلة فنؤمن به إجمالاً; كما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه: ﴿وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ ﴾ [الشورى:15].
4) الاعتقاد الجازم بنسخ - أي رفع - وتغيير الأحكام التي اشتملت عليها جميع الكتب والصحف التي أنزلها الله على رسله بأحكام القرآن الكريم; فقد رفع الله عز وجل بالقرآن جميع الأحكام التي كانت في الكتب السابقة، إلا ما أقرَّه القرآن، من ثمَّ لا يجوز لأحدٍ من الإنس أو الجن - لا من أصحاب الكتب السابقة، ولا من غيرهم - أن يعبدوا الله بعد نزول القرآن بغير ما جاء فيه، أو يتحاكموا إلى غيره من الكتب السابقة; قال الله تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان:1]، وقال عز وجل: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴾ [المائدة:15 وقال تعالى آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين أهل الكتاب بالقرآن: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [المائدة:48].
رابعاً: تعريف أهل الكتاب لكلام الله:
لقد أخبرنا الله عز وجل في القرآن الكريم أنَّ أهل الكتاب من اليهود والنصارى حرَّفوا، وبدَّلوا، وغيرَّوا في كتب الله المنزلة عليهم; فقال تعالى في حق اليهود: ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة:75].
وقال في حقِّ النصارى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [المائدة:15].
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة والأحاديث الدَّالة على تحريفهم لكلام الله عز وجل. أما القرآن العظيم فهو سليم مما طرأ على الكتب السابقة من التحريف والتبديل، وهو محفوظ من كل ذلك بحفظ الله له، وصيانته إياه; كما أخبر الله عن ذلك بقوله: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر:9].
خامساً: خصائص الإيمان بالقرآن:
لما كان القرآن العظيم هو الكتاب الناسخ للكتب السابقة، والمهيمن عليها، والمتعبد به لعامة الثقلين - الإنس والجن - بعد بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ونزول هذا فقد اختُص بها الإيمان به بخصائص ومميزات لا بد من تحقيقها والإتيان الكتاب عليه; وذلك حتى يتحقق الإيمان به، وهذه الخصائص هي:
1) اعتقاد عموم دعوته وشمول الشريعة التي جاء بها لعموم الثقلين من الجن والإنس; فلا يسع أحداً منهم إلا الإيمان به; قال تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان:1].
2) اعتقاد نسخه لجميع الكتب السابقة; فلا يجوز لأهل الكتاب ولا لغيرهم أن يعبدوا الله بعد نزول القرآن بغيره، فلا دين إلا ما جاء به، ولا عبادة إلا ما شرع الله فيه، ولا حلال إلا ما أحل فيه، ولا حرام إلا ما حرم فيه; قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [آل عمران:85].
3) سماحة الشريعة التي جاء بها القرآن ويُسرْها; وذلك بخلاف الشرائع في الكتب السابقة;قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف:157].
4) أن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد من بين الكتب الإلهية الذي تكفَّل الله بحفظ لفظه ومعناه من أن يتطرق إليه التحريف اللفظي أو المعنوي; قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر:9]، وقال تعالى: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت:42].
5) أن الله تعالى بيَّن في القرآن كلَّ شيءٍ مما يحتاج إليه الناس في أمر دينهم ودنياهم، ومعاشهم ومعادهم; قال الله تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل:89]، وقال تعالى: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام:38].
6) أن الله تعالى يسَّر القرآن للمتذكر والمتدبر وهذا من أعظم خصائصه; قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر:47]. أي: يسرنا تلاوته على الألسنِ.
7) أن القرآن تضمَّن خُلاصة تعاليم الكتب السابقة وأصول شرائع الرسل، قال الله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48]، وقال تعالى: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى:13].
فهذه بعض خصائص القرآن الكريم على سائر الكتب الأخرى مما لا يتحقق
الإيمان به إلا باعتقادها، وتحقيقها عِلْماً وعَمَلاً.
الركن الخامس
الإيمان باليوم الآخر
من أركانِ ِالإيمان التي يجبُ على المسلمِ أن يعتقدَها، ولا يصحُّ إيمانُه إلاّ بالإقرارِ بها; الإيمانُ باليومِ الآخِر; لقول اللهِ تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾ [البقرة:177].
وسنتناولُ في هذا المبحث: التّعريفَ باليومِ الآخرِ، وأسماءَه، ووجوبَ الإيمانِ بهِ، وأشراطَ السّاعةِ، وفتنةَ القبرِ، وعذابَ القبرِ ونعيمَه، والنّفخَ في الصُّورِ، والبعثَ والحشرَ، وأهوالَ يومِ القيامةِ، والحسابَ َوالجزاء، والميزانَ، والحوضَ، والصرّاطَ، والجنّةَ وصفتَها، والنّارَ وصفتَها، وثمراتِ الإيمانِ به.
أولاً: المراد باليوم الآخر:
اليومُ الآخرُ: هو يومُ القيامةِ الّذي يبعثُ اللهُ تعالى فيه الناسَ من قبورِهم; للحسابِ والجزاءِ، وسُمّي باليومِ الآخرِ; لأنّه لا يومَ بعده; حيثُ يستقرُّ أهلُ الجنّةِ في منازِلهم، وأهلُ النّارِ في منازِلهِم.
ويشملُ الإيمانُ باليومِ الآِخر: كلَّ ما ورد في أخبارِ ذلك اليومِ، وما يتعلّقُ بهِ، فيدخلُ في َذلك: الإيمانُ بأشراطِ الساعةِ وأماراتهِا الّتي تكونُ علامةً لقُربهِا، وبالموتِ وما بعده من فتنةِ القبرِ وعذابِه ونعيمِه، وبالنفخِ في الصورِ الّذي هو إيذانٌ ببدء اليومِ الآخرِ، وبخروجِ الخلائقِ من القبورِ، وبالحسابِ، والجزاءِ، وما في القيامةِ من الأهوالِ، ِوبنشر الصُّحفِ الّتي فيها أعمالُ العبادِ، ووضعِ الموازينِ لوزنِ الحسناتِ والسيّئاتِ، وبالصراطِ; وهو جسرٌ على النّارِ يمرُّ النّاسُ عليهِ، فينجو المؤمنُ، ويسقطُ الكافرُ، وبحوضِ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي يُسقى منه المؤمنونَ فيروي عطشَهم في ذلك اليومِ، وبالجنّةِ ونعيمِها الذي أعلاه وأعظمه النّظرُ إلى وجهِ الله عز وجل، وبالنّارِ وعذابهِا الّذي أشدُّه حجبُ غيرِ المسلمينَ عن ربهِّم عز وجل .
ثانياً: أسماء اليوم الآخر:
سمِّى اللهُ تعالى اليومَ الآخرَ الذي تكونُ فيه نهايةُ العالمِ بأسماءَ كثيرةٍ في القرآنِ الكريم; فيُسمَّى: يومَ القيامةِ; لأنّه يقومُ فيه العبادُ بين يديِ الله تعالى، ويوم البعثِ; لأنّه يُبعثُ فيه النّاسُ من قبورِهم، ويومَ الفصلِ; لأنّه يُفصلُ فيهِ بينَ الخلائقِ، ويوم الحسابِ، ويومَ الخُروجِ، وغيرَ ذلك من الأسماءِ والأوصافِ الّتي تدلُّ على أهميّةِ هذا اليومِ، وعظيمِ شأنهِ.
ثالثاً: وجوبُ الإيمان باليوم الآخر:
يجبُ على المسلمِ أن يعتقدَ اعتقاداً جازماً بأنّ هناك يوماً - استأثر اللهُ تعالى بعلمِه - تنتهي فيه الحياةُ في دارِ الدُّنيا، وينتقلُ العبادُ إلى دارٍ أُخرى، يومٌ يجمعُ اللهُ تعالى فيه الأوّلينَ والآخِرينَ; فيُجازِي كلا بعملِه، ويكونُون فريقينِ; فريقٌ في الجنّةِ، وفريقٌ في النّار.
قال الله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾ [البقرة:177].
والإيمانُ باليومِ الآخرِ هو الرُّكنُ الخامسُ من أركانِ الإيمانِ السِّتَّةِ الواردةِ في حديث الملكِ جبريلَ عليه السلام حين سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الإيمانِ; فقال عليه الصّلاةُ والسُّلام: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسوله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» [رواه مسلم].
ولا يصحُّ إيمانُ العبدِ دونَ الإيمانِ باليومِ الآخرِ; لقوله جل وعلا: ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء:136].
رابعاً: أشراط الساعة:
ممّا يجبُ الإيمانُ بهِ مقدِّماتُ اليوم ِ الآخرِ الّتي أخبر بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وهي علاماتُ السّاعةِ وأماراتهُا، وقد قسّم العلماءُ هذهِ العلاماتِ إلى قسِمين:
الأول: علامات صغرى: وهي التي تدلُّ على اقترابِ يومِ القيامةِ، ونهايةِ العالمِ، وهي كثيرة جداً، وكثيرٌ منها قد وقع.
ومنها: ضياعُ الأمانةِ، وتقاربُ الزمن، وظهور القلاقلِ في العالمِ، وكثرةُ القتل، وكثرة الزِّنا والفسوقِ، وغيرُها.
قال تعالى: ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ﴾ [القمر:1].
الثاني: علامات كبرى: وهي الّتي تكونُ بين يديِ السّاعةِ وتنذرُ ببدءِ وقوعِها، وهي عشرُ علاماتٍ, ولم يظهرْ منها شيءٌ.
عن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال: «اطَّلع النبيَّ صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر . فقال: ما تذاكرون ؟ قالوا : نذكر الساعةَ. قال: إنها لن تقومَ حتى ترَون قبلَها عشرَ آياتٍ . فذكر الدخانَ ، والدجالَ، والدابةَ ، وطلوعَ الشمسِ من مغربِها ، ونزولَ عيسى ابنِ مريم صلى الله عليه وسلم ، ويأجوجَ ومأجوجَ . وثلاثةَ خُسوفٍ : خَسفٌ بالمشرقِ، وخَسفٌ بالمغربِ ، وخَسفٌ بجزيرةِ العربِ . وآخرُ ذلك نارٌ تخرج من اليمنِ ، تطردُ الناسَ إلى مَحشرِهم » [رواه مسلم].
خامساً: فتنة القبر:
إذا وضع الميّتُ في قبرِه جاءه ملكانِ; يقال لهما: منكرٌ، ونكيرٌ; فيسألانِه عن ربِّه، ودينِه، ونبيِّه; فيثبِّتُ اللهُ تعالى المؤمن؛ فيقول: «ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم» [رواه مسلم]. وأمّا الكافرُ، أو المنافق، فيقول: «هاه! هاه! هاه! لا أدري» [رواه أبو داود].
وفي رواية يقُول: «سمعت الناس يقولون قولاً فقلته، لا أدري!» [رواه الترّمذيّ].
فيجبُ الإيمانُ بما دلّتْ عليه الأحاديثُ من سؤالِ الملكينِ، وكيفيةِ ذلك، وما يجيبُ به المؤمنُ، وما يجيبُ به الكافر والمنافقُ.
وهذه الفتنةُ في القبرِ عامّةٌ لجميعِ المكلّفين، إلاّ النّبيّينَ، والشّهداء، والمرابطينَ في سبيل الله، والذي يموتُ يومَ الجمعةِ، والّذي يموتُ بداءِ البطنِ; كما صحّت بذلك ُالأحاديث.
سادساً: عذاب القبر ونعيمه:
يجبُ الإيمانُ بعذابِ القبرِ ونعيمِه، وأنّ القبرَ يكونُ لصاحبِه إمّا روضةً من رياض الجنّةِ، أو حفرةً من حفرِ النّار، وأنّ النَّعيمَ والعذابَ في القبرِ يقعانِ على الرُّوحِ والجسدِ جميعاً، وقد تنفردُ الروحُ بهما أحياناً، وأنّ نعيمَه يكونُ للمؤمنينَ الصادقينَ، وعذابَه يكونُ للكافرينَ، ولبعضِ العُصاةِ من الموحِّدين.
وقد دلّ على الإيمانِ بعذابِ القبرِ ونعيمِه النّقلُ، والعقلُ.
أمّا النّقلُ; فقد قال اللهُ جل وعلا: ﴿ وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ [غافر:45-46].
فبينَّ سبحانه أنّ فرعونَ وجماعتَه يُعذّبون عذابَينِْ; أحدُهما: قبلَ يومِ القيامةِ، وهم في القبرِ غدوَّاً وعشيَّاً، والثّاني: يومَ تقومُ السّاعةُ لهم أشدُّ العذاب في جهنّمَ.
وجاء في حديثِ البراءِ بن ٍعازب رضي الله عنه في سؤالِ الملكينِ للميّتِ في قبرِه في شأنِ المؤمنِ أنّ النَّّبي صلى الله عليه وسلم قال: «فيُنادِي مُنادٍ من السماءِ أنْ صَدَقَ عَبدِي ، فَأفْرِشُوه من الجنةِ ، وألْبِسُوهُ من الجنةِ ، وافْتَحُوا له بابًا إلى الجنةِ، فيَأتِيهِ من رَوْحِها وطِيبِها ، ويُفسحُ له في قَبرِهِ مَدَّ بَصرِهِ »، وأما الكافر فقال في شأنه: « فيُنادِي مُنادٍ من السماءِ : أنْ كَذَبَ عَبدِي ، فأفْرِشُوهُ من النارِ، وافْتَحُوا له بابًا إلى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ من حَرِّهَا وسَمُومِهَا، ويُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ، حتى تَخْتَلِفَ عَلَيْهِ أضْلَاعُهُ» [رواه أحمد، وأبو داود].
ودليلُ الإيمانِ به من ِالعقل: أنّ النّائمَ قد يرى الرُّؤيا ممّا يُسرَ به; فيتلذّذُ بها، وينعمُ بتأثيرِها في نفسِه; كما أنّه قد يرى ما يكره; فيستاءُ لها، ويغتمُّ.
فهذا النّعيمُ أو العذابُ في النّومِ يجري على الرُّوحِ حقيقةً، وتتأثّر به، وهو غيرُ محسوسٍ ولا مشاهدٌ لنا، ولا ينكرهُ أحدٌ; فكيف يُنكَرُ عذابُ القبر ونعيمُه، وهو نظيرُ هذا تماماً؟!
سابعاً: النفخ في الصور:
الصُور: قرنٌ ينفُخُ فيه المَلَكُ إسرافيلُ عليه السلام فينفخُ النّفخةَ الأولى فتموتُ الخلائقُ جميعاً إلاّ من شاءَ اللهُ، ثمّ ينفخُ النّفخةَ الثّانيةَ فتُبعثُ الخلائقُ أجمعُ منذُ خلقَ ُالله الدُّنيا إلى قيامِ السّاعةِ; قال تعالى: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ﴾ [الزمر:68].
ثامناً: البعث والحشر:
وهو إحياءُ اللهِ الموتَى حينَ يُنفخُ في الصُّورِ النّفخةَ الثانيةَ; فيقومُ الناسُ لربِّ العالمينَ، فإذا أذِنَ اللهُ سبحانه بالنّفخِ في الصُّورِ وبرجوعِ الأرواحِ إلى أجسادِها حينئذٍ يقومُ النّاسُ من قبورِهم، ويخرجونَ مسرعينَ; ُفيحشرون ويُساقون إلى أرضِ الموقفِ لحسابهِم، وجزائهم، والقضاءِ فيما بينهم.
قال تعالى: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾ [يس:51].
وقال سبحانه: ﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ﴾ [الكهف:47].
فيجبُ على ِالمسلم الإيمانُ بالبعثِ; إذ قد دلَّ عليه الشَّرعُ، كما دلَّ عليه الحسُّ أيضاً.
أمّا الشرُّع: فقال جل وعلا: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾ [الحج:5-7].
وقال صلى الله عليه وسلم: « يُنفخُ في الصُّورِ . فلا يسمعُه أحدٌ إلا أصغى لَيْتًا ورفع لَيْتًا –أي: أمال صفحة عنقه مصغياً-...، ويصعق الناس، ثم يُرسل اللهُ - أو قال يُنزل اللهُ - مطرًا كأنه الطَّلُّ أو الظِّلُّ ، فتنبتُ منه أجسادُ الناسِ . ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيامٌ ينظرون » [رواه مسلم].
وأمّا الحسُّ: فقد أرى اللهُ تعالى عبادَه إحياءَ الموتَى في هذه الدُّنيا، وفي سورةِ البقرةِ خمسةُ أمثلةٍ على ذلك، وهي: قومُ موسى الذين أحياهُم اللهُ بعد إماتتِهم، وقتيلُ بني إسرائيلَ، والقومُ الّذين خرجُوا من ديارِهم فراراً من الموتِ، والّذي مرّ على قريةٍ، فقال: أنّى يحُيي هذه اللهُ بعد موتهِا ? وطيرُ إبراهيمَ عليه السلام.
تاسعاً: أهوال يوم القيامة:
ليومِ القيامةِ أهوالٌ عظيمةٌ، وشدائدُ جسيمةٌ; تُذهِلُ المراضعَ، وتشيبُ الأولادَ، وقد وصف اللهُ تعالى أهوالَ ذلك اليومِ في آياتٍ كثيرةٍ، ومن ذلك قولُه تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج:1-2].
ومن أعظمِ تلكَ الأهوالِ ذلكَ الدَّمارُ الكونيُّ الشاملُ الرهيبُ الّذي يصيبُ الأرضَ وجبالهَا، والسماءَ ونجومَها، وشمسَها، وقمرَها; حيثُ أخبرنا ربُّنا تبارك وتعالى أنّ الأرضَ تُزلزلُ وتُدَكُّ، والجبالَ تُسَيَّر وتنسفُ، والبحارَ تُفجّرُ وتُسجَّر، والسماءَ تتشقّقُ وتمورُ، والشمسَ تُكوَّرُ وتذهبُ، والقمرَ يخُسفُ، والنجومَ تَنْكَدرُ ويذهبُ ضوؤُها.
ولهولِ ذلك اليومِ يودُّ الكافرُ أن لو بذَلَ كلَّ شيءٍ في سبيلِ الخلاصِ من العذابِ، كما قال جل وعلا: ﴿ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ ﴾ [يونس:54].
ويصلُ الحالُ بالكافرِ أن يتمنّى لو دفَعَ بأعزِّ النّاسِ عنده في النّارِ; لينجوَ هو منها; قال تعالى: ﴿ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى ﴾ [المعارج:11-15].
وقد وردت الأحاديثُ الصّحيحةُ بأنّ العبادَ يحشرُونَ يومَ القيامةِ حفاةً غيرَ منتعلينَ، ًعراةغيرَ مستورينَ، غُرْلاً غيرَ مختُونينَ، بهُْ ماً ليس معهم شيءٌ.
وأنّ الموقفَ يطولُ في ذلك اليومِ، وتدنُو الشّمسُ من الخلائقِ كمقدارِ مِيلٍ، ويلجمُهم العرقُ; فمنهُم من يبلغُ العرقُ إلى كعبيهِ، ومنهُم من يبلغُ العرقُ إلى ركبتيهِ، ومنهُم من يبلغُ إلى حقويهِ، ومنهم من يبلغُ إلى ثدييهِ، ومنهم من يبلغُ إلى منكبيهِ، ومنهم من يُلجمُه العرقُ إلجاماً، وذلك كلُّه بقدرِ أعمالهِم .
عاشراً: الحساب والجزاء:
المرادُ بالحسابِ والجزاء: أن يوقفَ الحقُّ تبارك وتعالى عبادَه بين يديهِ، ويعرِّفَهم بأعمالهِم التي عملُوها.
ويشملُ الحسابُ ما يقولُه اللهُ تعالى لعبادِه، وما يجيبُوه به، وما يقيمُه عليهم من حججٍ وبراهينَ، وشهادةِ الشُّهودِ، والقصاصِ بين العبادِ، ووزنٍ للأعمالِ، وغيرِ ذلك.
قال تعالى: ﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ [الغاشية:25-26].
وقال سبحانه: ﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المجادلة:6].
والحسابُ متفاوتٌ; فمنه العسيرُ، ومنه اليسيرُ، ومنه حسابُ التّقريرِ والتّكريمِ، وحساب التّوبيخِ والتّقريعِ، ومنه الفضلُ والصّفحُ، ومنه المؤاخذةُ والمجازاةُ، ومتوليّ ذلك أكرمُ الأكرمينَ، وأحكمُ َالحاكمين.
والمؤمنُون المتّقون تكون محاسبتُهم بعرضِ أعمالهِم عليهم حتّى يعرِفُوا منّةَ الله عليهم في سترِها عليهم في الدُّنيا، وعفوِه عنهم في الآخرةِ، وأمّا المكذِّبونَ المعرِضونَ فيحاسبُون محاسبةً عسيرةً دقيقةً على كل صغيرةٍ وكبيرة.
وفي وقتِ الحسابِ تُحضرُِ الملائكةُ كُتُبَ الأعمالِ الّتي أُحصيتْ فيها أعمالُ وتصرفاتُ العبادِ، وهو كتابٌ لا يغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها; قال عز وجل: ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [الإسراء:13-14].
ومن العبادِ من يعطى كتابَهُ بيمينِه، ومنهم من يعطى كتابَهُ بشمالِه من وراء ظهرِه; كما فصّل ذلك المولى جل وعلا في غيرِ ما آيةٍ من كتابهِ; كقوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا ﴾ [الانشقاق:7-12].
وقد ثبت في السُّنّةِ الصّحيحة: أنّ أوّلَ من يحاسبُ من الأممِ هم أمّةُ محمّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وأنّ أوّلَ ما يحاسبُ عليه العبدُ من حقوقِ اللهِ تعالى الصلاةُ، وأوّلَ ما يُقضى فيه بين النّاسِ من الحقوقِ الدماء.
كما أنّه يجري القِصَاصُ بين العبادِ; فيقتصُّ للمظلومِ من الظالمِ.
الحادي عشر: الميزان:
المرادُ بالميزان: ما ينصبُه اللهُ تعالى يومَ القيامةِ لوزنِ أعمالِ العبادِ.
وهو ميزانٌ حسّي له كفّتانِ ولسانٌ، توزنُ به الأعمالُ; فتوضعُ الحسناتُ في كفّةٍ، والسيئاتُ في كفّةٍ.
قال تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء:47].
وقال تعالى: ﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ﴾ [الأعراف:8-9].
وقال صلى الله عليه وسلم: «الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان» [رواه مسلم].
الثاني عشر: الحوض:
وهو حوضُ الماءِ النّازلِ من نهرِ الكوثرِ للنبي صلى الله عليه وسلم في موقف الحساب يوم القيامةِ قبل المرورِ على الصراط.
قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ [الكوثر:1].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «حوضي مسيرةُ شهرٍ ، ماؤُه أبيضُ من اللبنِ ، وريحُه أطيبُ من المِسكِ ، وكيزانُه كنجومِ السماءِ ، من شرِبَ منها فلا يظمأُ أبدًا » [رواه البخاري ومسلم].
وهذا الحوضُ ممّا يكرمُ اللهُ به عبدَه ورسولَه محمداً صلى الله عليه وسلم في ذلك اليومِ العظيمِ، فيردُه المؤمنونَ من أمّتهِ، ويُذَادُ عنه، ويُطْرَدُ كلُّ من ارتدَّ عن دينِ اللهِ، أو أحدث فيه ما لا يرضاهُ الله سبحانه; فقد قال صلى الله عليه وسلم: «أنا فرَطُكم على الحوْضِ ، وليُرفَعنَّ رجالُ منكم ثمَّ ليختلِجن دوني ، فأقولُ: يا ربِّ أصحابي ؟ فيُقالُ : إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك » [رواه البخاري ومسلم]. والفرطُ: المتقدّمُ إلى الشيءِ. واختُلِجُوا: اقتُطِعوا وأُبْعِدُوا.
الثالث عشر: الصراط:
وهو جسرٌ منصوبٌ على متنِ جهنّمَ يمرُّ النّاسُ عليهِ إلى الجنَّة.
قال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم:71-72].
فسَّرها جماعةٌ من العلماءِ بمرورِ المؤمنينَ على الصِّراطِ، وأمّا الكفّارُ فإنّ ورودَهم بدخولِ النّارِ مباشرةً.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « فيُضرَبُ الصِّراطُ بينَ ظَهْرانَي جَهَنَّمَ قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : فأَكونُ أَنا وأمَّتي أوَّلَ مَن يجوزُ على الصِّراطِ ولا يتَكَلَّمُ يومئذٍ إلا الرُّسلُ وقولُهُم يومئذٍ : اللَّهمَّ سلِّم سلِّم قالَ أبو هُرَيْرةَ : قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : فأجيزُ أمَّتي وفي النَّارِ كلاليبُ مثلُ شوكِ السَّعدانِ هل رأيتُمْ شوكَ السَّعدانِ ؟ قالوا : نعَم يا رسولَ اللَّهِ ، قالَ : فإنَّها نحوُ شوكِ السَّعدانِ غيرَ أنَّها لا يعلمُ عظمَها إلا اللَّهُ عز وجل يخطفُ الناس بأعمالِهِم كالمَوبِقِ في جهنَّمَ بعملِهِ والمتخَردِلُ-أي: تقطّعهُ الكلاليب- ثُمَّ يَنجو» [رواه البخاري ومسلم].
ومن صفتِه: أنّه أحدُّ من السّيفِ، وأدقُّ من الشَّعرِ، مَزِلَّةٌ لا تثبتُ عليه قدمُ إلاّ من ثبّتَهُ ُالله عز وجل ويمرُّ المؤمنونَ عليهِ بحسبِ أعمالهِم; فمنهم من يمرُّ كطرْفِ العينِ، ومنهم من يمرُّ كالبرَْقِ، ومنهم كالرِّيحِ، ومنهم كالطَّيرِ، ومنهم كأجاويدِ الخيلِ، ومنهممن يمرُّ كهرولةِ الرَّاجلِ، وآخرُ المارِّين عليه من يُسحبُ سحباً.
الرابع عشبر: القنطرة بين الجنة والنار:
وهي موضعٌ بينَ الجنّةِ والنّارِ، يُوقفُ فيه المؤمنونَ الّذينِ جاوزُوا الصِّراطَ، ونجوا من النَّارِ; لأجلِ أن ُيقتصَّ لبعضِهم من بعضٍ قبلَ دُخولِ الجنّةِ، فإذا هُذِّبوا ونُقّوا أُذِنَ لهم في دخولهِا.
قال صلى الله عليه وسلم: « يخلُصُ المؤمنون من النَّارِ ، فيُحبَسون على قنطرةٍ بين الجنَّةِ والنَّارِ ، فيقتصُّ لبعضِهم من بعضٍ مظالمَ كانت بينهم في الدُّنيا، حتَّى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِن لهم في دخولِ الجنَّةِ ، فوالَّذي نفسُ محمَّدٍ بيدِه، لأحدُهم أهدَى بمنزلِه في الجنَّةِ منه بمنزلِه كان في الدُّنيا» [رواه البخاريّ].
الخامس عشر: الجنة وصفتها:
الجنُّة: هي دارُ النّعيمِ الّتي أعدَّها اللهُ تعالى في الآخرةِ للمؤمنينَ.
قال اللهُ جل وعلا: ﴿ وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ﴾ [إبراهيم:23].
ومن صفتِها الواردةِ في نصوصِ الكتابِ والسّنّة: أنّ فيها أنهاراً جاريةً، وغُرُفاً عاليةً، وأزواجاً حِساناً، وفيها ما تشتهيهِ الأنفسُ، وتلذُّ الأعينُ; ممّا لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، وريحُها يُوجدُ من مسيرةِ أربعين عاماً، وأعظمُ نعيمِها رؤيةُ المؤمنينَ لربهِّم عياناً.
وفي الجنّةِ مائةُ درجة; بين كلِّ درجةٍ وأُخرى كما بينَ السَّماءِ والأرضِ، وأعلى الجنّةِ الفردوسُ الأعلى، وسقفُه عرشُ الرَّحمنِ، ولها ثمانيةُ أبواب]; ما بينَ جانِبَيْ كلِّ بابٍ كما بين مكةَ وهجر (الأحساء) ([8])، وأدنى أهلِ الجنَّةِ منزلةً لهُ مثلُ الدُّنيا وعشرةِ أمثالهِا.
وهي مخلوقةٌ موجودةٌ الآنَ; أعدّها الله سبحانه لعبادِه الصّالحينَ المتّقينَ؛ قال عز وجل: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران:133].
ونعيمُ الجنّةِ لا ينفدُ ولا يزولُ، بل هو دائمٌ بلا انقطاعٍ، وأهلُها خالدونَ فيها أبداً; قال تعالى:﴿ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رضي الله عنهم وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾ [البينة:8].
السادس عشر: النار وصفتها:
النُّار: هي دارُ العذابِ الّتي أعدَّها اللهُ تعالى في الآخرةِ للكافرينَ، وللعصاةِ َالفاجرين; قال اللهُ عز وجل: ﴿ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ [غافر:6]..
ومن صفتِها الواردةِ في نصوصِ الكتابِ والسّنّة: أنّ فيها أشدَّ أنواعِ العذابِ وصنوفِ العقابِ; فوقودُها النّاسُ والحجارةُ، وطعامُ أهلِها الزَّقومُ، وشرابهُم الصّديدُ والحميمُ، ونارُ الدُّنيا جزءٌ من سبعينَ جزءاً من نارِ جهنّمَ; فإنهّا فضِّلتْ عليها بتسعةٍ وستين جُزءاً، كلُّها مثلُ حرِّها.
وهي دركاتٌ متفاوتةٌ في العذابِ، ولها سبعةُ أبوابٍ; لكلِّ بابٍ منهم جزءٌ مقسومٌ، وخزنتُها ملائكةٌ غلاظٌ شدادٌ، ولا تسأمُ ممّن يوضعُ فيها، ويُقذفُ في قعرِها; بل إنهّا تقولُ: هل من مزيد؟
وهي مخلوقةٌ موجودةٌ الآنَ; أعدّها الله سبحانه للكافرينَ، وعذابهُا دائمٌ لا يفنى ولا ينقطعُ، وأهلُها الكافرونَ خالدونَ فيها أبداً; قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [الأحزاب:64-65].
وأمّا العصاةُ المذنبون من أهلِ الإيمانِ; فإنهّم يعذّبون فيها ثمّ يخرجُون منها برحمةِ أرحمِ الرّاحمينَ ابتداءً، ثمَّ بشفاعةِ الشّافعينَ; فقد قال عليه الصلاةُ والسّلامُ «يُدْخِل اللهُ أهل الجنةِ الجنةَ، يُدْخِلُ من يشاءَ برحمتهِ، ويُدْخل أهل النارِ النار، ثم يقول: انْظُروا من وجدتُم في قلبهِ مثقالُ حبةٍ من خردلٍ من إيمانٍ فأخرجوهُ . فيُخْرجونَ منها حممًا قد امتُحشُوا –أي احترقوا حتى ظهرت العظام- . فيُلقونَ في نهرِ الحياةِ أو الحيا، فينبتونَ فيهِ كما تَنبتُ الحبّةُ –بذة العُشب- إلى جانبِ السّيلِ » [البخاري ومسلم].
السابع عشر: ثمرات الإيمان باليوم الآخر:
للإيمانِ باليومِ الآخرِ ثمراتٌ جليلةٌ; منها:
أ - أن الإيمانَ باليومِ الآخر يبعثُ في نفسِ المؤمنِ الطّمأنينةَ; لأنّه يوقن أنّ هذه الدنيا فانيةٌ، وأنهّا دارُ ممرٍّ، وأنّ الآخرةَ هي الدّارُ الباقيةُ، وفيها السعاُدة أو الشقاءُ السَّرمَديُّ.
ب - أنّه يجعلُ العبدَ يُسابقُ ويُسارعُ إلى الخيراتِ، ويتوقّى ويتجافى عن المحرّماتِ; لأنّه يُوقنُ أنّ كلَّ ذلك محاسبٌ عليه بين يديِ الله تعالى.
ج - أنّ فيه تسليةً للمؤمنِ عماّ يفوته من الدُّنيا ومتاعِها بما يرجُوه من نعيمِ الآخرةِ وثوابهِا.
د - أن الإيمان باليومِ الآخرِ هو أصلُ صلاحِ الفردِ والمجتمعِ، فإنّ الإنسانَ إذا آمنَ بأنّ الله تعالى سيبعثُ الخلقَ بعد موتهِم، ويحاسبُهم، ويجازِيهم على أعمالهِم، ويقتص للمظلوم من الظالمِ منهم; استقام على طاعةِ اللهِ، وانقطع دابرُ الشرِّ، وساد الأمنُ والخيرُ في ِالمجتمع.
هـ - العلمُ بعدلِ الله تعالى، وفضلِه، وحكمتِه; حيث يجازي من يستحقُّ الثواب بفضلِهِ، ويجازي من يستحقّ العذابَ بعدلِه.
الركن السادس
الإيمان بالقدر
الإيمانُ بالقَدَرِ هو الرُّكنُ السّادسُ من أركانِ الإيمانِ الّتي يجبُ على المسلمِ اعتقادُها، ولا يصحُّ إيمانُه إلاّ بها; لما ثبت في حديثِ َالملَكِ جبريلَ عليه السلام حين سأل النَّّبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمانِ; فقال عليه الصّلاةُ والسّلامُ: «أن تؤمن بًالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بًالقدر خيره وشره » [رواه مسلم].
والإيمانُ بالقدر: هو الاعتقادُ الجازمُ بأنّ اللهَ تعالى خالقُ كلِّ شيءٍ وربُّه ومليكُه، قد قَدَّر مقاديرَ الخلائقِ قبلَ أن يخلقَهم، وقدَّر آجالهَم، وأرزاقَهم، وأعمالهَم، وما هم صائرون إليه من سعادةٍ أو شقاوةٍ، وكتبَ ذلكَ عندهُ في اللّوحِ ِالمحفوظِ; فكلُّ خيرٍ وشرٍّ فهو بقضاءِ اللهِ وقدرِه; لا يكونُ شيءٌ في هذا إلا بعلمهِ، وإرادتِه، ولا يخرجُ شيءٌ عن مشيئتِه، وتقديرِه.
قال تعالى: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49].
وقال سبحانه: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحج: 70].
ٍفاللهُ جل وعلا يعلمُ ما كانَ، وما يكونُ، وما لم يكنْ لو كان كيف يكونُ، وما شاءَ اللهُ من شيء كانَ، وما لمْ يشأْ لم يكُنْ.
والله تعالى هو خالقُ العبادِ وخالقُ أفعالهِم; كما قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: 96].
والعبادُ هم الفاعلُون لأفعالهِم حقيقةً; لأنّ الله عز وجل جعل لهم إرادةً وقدرةً عليها، ومشيئةُ العبدِ وقدرتُه واقعتانِ بمشيئةِ الله تعالى وقدرتِه; لقولِه تعالى: ﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 28-29].
والواجبُ على المسلمِ الإيمانُ بالقدَرِ كلِّه; خيرِه وشرِّهِ، حلوِه ومرِّه، وأنّه من الله تعالى، وإذا أصابه خيرٌ فالواجبُ عليه أن َيحمدَ اللهَ سبحانه ويَشكرَه على حُسنِ تقديرِه، وعلى ما أنعم به عليهِ من فضلِه وإحسانِه; فقد قال تعالى: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53].
وحقُّ النّعمةِ والفضلِ من اللهِ سبحانه أن يشكرَه العبدُ بلسانِه، وأن يَستعملَه ويستعينَ به على طاعة اللهِ جلّ جلالهُ; كما قال تعالى: ﴿ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا ﴾ [سبأ: 13]. أي: عملاً تؤدون به شكراً.
كما ينبغي أن يظهرَ عليه أثرُ تلك النِّعمةِ; لأنّ إظهارَ النّعمةِ، والتّحدُّثَ بها وجهٌ من وجوهِ شكرِها; كما قال: ﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ [الضحى: 11].
وأمّا إذا أصابَ العبدَ ما يكرهُ ممّا قدَّرَه الله تعالى; فإنّ الواجبَ عليهِ جملةُ أمورٍ:
الأول: أن يَصبرَ على المقدورِ; ولا يجزعَ ولا ييأسَ، ويعلمَ أنّ ما أصابَه لم يكنْ ليخطئَه، وما أخطأَه لم يكنْ ليصيبَه; كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنك لم تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك» [رواه أبو داود].
الثاني: أن يَرضَى ويُسلّمَ للقدَرِ; لأنّ ذلك من تمامِ الإيمانِ بربوبيّة اللهِ، وأنّ فعلَه وقضاءَه خيرٌ كلُّه، وعدلٌ، ٌوحكمة.
ومتى حقّق المسلمُ ذلك وجد طمأنينةً وراحةً نفسيّةً لما يجَري عليه من أقدارِ تعالى، فلا يقلقُ بفواتِ محبوبٍ، أو حصولِ مكروهٍ، بل يحمدُ اللهَ تعالى ويَشكرُه على كلِّ حالٍ; لأنّه يعلمُ أنّ جميعَ ما يجري عليهِ بقدرِ اللهِ الّذي له ملكُ السموات والأرضِ، وهو كائنٌ لا محالةَ، وفي ذلك يقول جل وعلا: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [الحديد: 22-23].
ويقول النّبيُّ صلى الله عليه وسلم: « عجبًا لأمرِ المؤمنِ، إن أمرَه كلَّه خيرٌ، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمنِ، إن أصابته سراءُ شكرَ، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر، فكان خيرًا له » [رواه مسلم].
ولا حرج على العبد أن يتّخِذَ من الأسبابِ ما يعينُه على دفعِ ما يكرهُ من المقاديرِ; لأنّ الله تعالى جعل لهذه المقاديرِ أسباباً تدفعُها وترفعُها; من الدُّعاءِ، والصَّدَقةِ، والدَّواءِ، وغيرِها.
والأخذُ بالأسبابِ لا ينافي الإيمانَ بالقدرِ، ولا التّوكُّلَ والاعتمادَ على اللهِ في جلبِ الخيرِ، ودفعِ الشَّرِّ، بل ذلك من تمامِ التّوكلِ عليه سبحانه، وإلى هذا أرشدَ النبي صلى الله عليه وسلم بقولِه: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» [رواه مسلم].
مخالفات تقدح في عقيدة المسلم
أولاً: السحر:
1) تعريفه:
السحر: عبارة عـن عُقَـدٍ يَنفثُ فيها، ورُقى شرِْكيَّـة غيرِ مفهومة يتكلم بها، أو يكتبها الساحر، أو يعمل شيئاً يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله، من غير مباشرة له.
ومنه ما يسمى الشَّعوذة: وهي خِفَّة في اليد، تُوهِمُ من يرى الشيءَ أنه حقيقة، وهو ليس كذلك.
2) أقسام: السحر:
ينقسم السحر إلى قسمين:
أ - الحيل والشعوذة والإيهام، وهي أشياء ليس لها حقائق، أو قد يكون لها حقائق، ولكن لا يدركها الإنسان إلا إذا كشف أمرها.
ب - سحر له حقيقة ووجود وتأثير في الأبدان; فيتسبب في إلحاق المرض والضرر بالمسحور.
3) حكمُ السحر وتعلُّمه:
السحر من الأعمال التي حرمها الإسلام، بل وحرَّمته جميع الشرائع السماوية، وهو أحد نواقض الإسلام، وكبيرة من كبائر الذنوب، وقد نص على تحريمه القرآن والسنة وإجماع الأمة; قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ [طه: 69]، وقال سبحانه: ﴿ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾ [البقرة:102].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يارسول الله! وما هُنَّ؟ قال: الشرك بالله، والسحر» [رواه البخاري ومسلم].
فبينَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن السحر من كبائر الذنوب التي ينبغي اجتنابها وتحَرُم ممارستها.
وبناء عليه نعلم أن َتعلُّمَ السِّحر حرامٌ، وهو باب من أبواب الدخول إلى الكفر والشرك بالله تعالى; لأن الساحر لا يكون كذلك إلا إذا فعل أموراً يكفر بها; كالتقرب إلى الجن والشياطين، والاستغاثة بهم.
والساحر غالباً لا يستعمل سحره إلا في إلحاق الضرر بالآخرين والتسبب في أذيتهم، وقد نبه الله تعالى إلى ذلك فقال سبحانه: ﴿ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ﴾ [البقرة: 102].
والشعوذة والحيل ِّالسحريَّ ة داخلة في التحريم; لأنها نوع من السحر; وقد ذمَّ نبيُّ اللهِ موسى عليه السلام سَحَرَةَ فِرعَونَ ووصفهم بالمفسدين; قال سبحانه: ﴿ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [يونس: 81]، مع أن ما جاؤوا به تخيلات وأوهام; قال تعالى: ﴿ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ﴾ [طه:66].
وهي وإن لم تكن سحراً في حقيقتها، إلا أن فيها مشابهة لفعل السحرة، وتترك أثراً للخرافة والشعوذة في عقول وقلوب من يتابعها.
4) حكم الذهاب إلى السحرة:
يذهب الإنسان إلى السحرة لأحد أمرين:
أ - أن يطلب علاج مريض من الساحر.
ب - أن يقصده لعمل سحر بقصد إلحاق الأذى بغيره، أو تقريب حبيب أو البحث عن شيء مفقود.
وأياً كان السبب; فالذهاب إليهم محرم في دين الله; لما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «من أتى عرافاً أو ساحراً أو كاهناً، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» [رواه أبويعلى]، وعن عِمران بن حُصَين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من تكهن أو تكهن له، أو تطير أو تطير له» أظنه قال: «أو سحر أو سحر له» [رواه الطبراني]، وعن جابر رضي الله عنه قال: «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن النشرة؟ فقال: من عمل الشيطان» [رواه أحمد وأبو داود]، قال الحسن: النُّشرْة من السحر. ومعنى النشرة هنا: هو أن يحَُلَّ السِّحرَ بالسِّحرِ.
وبالإضافة إلى النهي الصريح; فإن ذهاب الإنسان إلى الساحر للأغراض السابقة فيه تعلق بغير الله تعالى الذي بيده النفع والضر، وفيه إقرار للساحر على فعله وما يمارسه من كفر، وهذا لا ينبغي أن يكون من مسلم يؤمن بالله تعالى.
ثانياً: الكهانة والعرافة والتنجيم:
1) تعريفها:
الكهانة هي: الإخبار عن الأمور المغيبة سواء كانت في الماضي أو المستقبل، عن طريق مخالطة الجن. والذي يفعل ذلك يقال له: كاهن.
أما العِرافَة فهي: ادِّعاء علم الغيب عن طريق الخط بالأرض أو قراءة الكف وغير ذلك، ويُسمَّى من يفعله: عَرَّافاً.
أما التَّنْجيم فهو: ادِّعاء قراءة حركة النجوم، وأن لها تأثيراً بالعالم السفلي والمنجم هو: من ينظر في النجوم والكواكب مدَّعياً أنها هــي التي تؤثــر في الأحداث الكونية من مطر وريح، وحرارة وبرودة، وخير وشر، وسعادة وشقاوة.
2) حكم الكهانة والعرافة والتنجيم:
الكهانة والعرافة والتنجيم محرمة في دين الله تعالى، وهي من كبائر الذنوب، وباب من أبواب الكفر بالله تعالى; فلا يجوز للمسلم أن يتعلمها، ولا أن يمارسها أو أن يذهب إلى أهلها; وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم خطورة هذه الأعمال على إيمان الإنسان وعمله الصالح; فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أتى كاهتاً أو عرافاً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» [رواه أحمد والحاكم والبيهقي]، وعن صفية عن بعض ازواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى عرافاً فسأله تقبل له صلاة أربعين ليلة» [رواه مسلم]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد» [رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه]. وهذا الوعيد الشديد لمن قصد العرافين والكهان والمنجمين يدل دلالة واضحة على عظم هذا الذنب، وذلك لما يلي:
أ - أن الكهانة والعرافة والتنجيم نوع من أنواع السحر.
ب - أن الكهانة والعرافة والتنجيم ادعاء لعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
ج - أن الكهانة والعرافة والتنجيم فتح لباب الخرافة والدجل، والتعلق بغير الله جل وعلا.
3) أعمال وصور في معنى الكهانة والعرافة والتنجيم:
يدخل في الكهانة والعرافة أمور كثيرة; منها:
أ - تحضير الأرواح: وهو ادِّعاء استحضار أرواح الموتى ومناجاتهم واستفتائهم في المشكلات، والاستعانة بهم في علاجِ المرضى، وكشفِ المغيَّبات والتنبؤ بالمستقبل.
ب - قراءة الكفِّ والفنجان والورق (الكوتشينة): وهي ادِّعاء معرفة صفات ومستقبل الشخص من خلال النظر في خطوط ِكفِّه، أو تعرجات أثر القهوة على جدار الفنجان، أو النظر في ورق الكوتشينة.
ج - الضَّربُ بالوَدَعِ: وهو استعمال الودع (الأصداف), وتحريكه بشكل عشوائي لمعرفة الطالع والمستقبل.
د - الخطُّ على الرَّمْل: وهو ادِّعاء معرفة المستقبل لشخص ما من خلال قراءة ما يرسمه المُنجِّم من خطوطٍ على الرمل.
هـ - قراءة الأبراج: وهو ادعاء معرفة صفات الأشخاص والتنبؤ بمستقبلهم بناء على البرج الفلكي الذي ينتمي إليه الشخص.
ولا شك أن هذه الصور والأعمال كلها داخل في الكهانة والعرافة والتنجيم، وادِّعاء علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
ومن تعاطَى واحدة منها كان داخلاً في المحذور الشرعي والوعيد النبوي; فلا يجوز تعلم هذه الأشياء، ولا الذهاب إلى من يتعامل بها، ولا تصديقهم فيما يخبرون به، ولو كان هناك توافق بين ما قالوه وبين ما وقع; لأن هذه الأشياء إنما وقعت بتقدير من الله سبحانه وتعالى، أما هم فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يخبرون الخبر بعد أن يلقيه إليهم خادمهم من الجن ويكذبون فوقه مائة كذبة، فيظن الجاهل بحالهم أن الأخبار تقع كما أخبروا، ولا يلتفت إلى ما في كلامهم من الكذب; فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء ، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال : الحق ، وهو العلي الكبير ، فيسمعها مسترق السمع ، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض - ووصف سفيان بكفه فحرفها ، وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته ، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن ، فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائة كذبة ، فيقال : أليس قد قال لنا : يوم كذا وكذا ، كذا وكذا ، فيصدق بتلك الكلمة التي سمع من السماء» [رواه البخاري].
ثالثاً: التمائم والحُجب:
من الأمور التي حذر منها الإسلام ونهى التاس عنها – نظراً لخطورتها على إيمانهم وتوحيدهم -: التعلُّقُ بالتَّمائم والعَزائم والحُجُب، والاعتمادُ عليها في صرَْف ما يَخشَونَ ضرَُّهُ، أو جَلْبِ ما ينفعهم.
1) تعريف التمائم:
التمائم جمع تميمة; وهي: كل ما يُعَلَّقُ على الإنسان أو الحيوان أو المركبة من خرَزٍ، أو قماشٍ، أو عَظْمٍ، أو خَيْطٍ، أو صَدَفَةٍ، وما شابه ذلك; لدفع العين والشر، أو جلب الخير والنفع.
2) حكم تعليق التمائم:
تعليق التمائم من الأعمال التي حرمها الإسلام; إذ هي من أعمال المشركين في الجاهلية، وقد حذّر منها النبي صلى الله عليه وسلم أشد التحذير، وبين أنها من وسائل الوقوع في الشرك; فعن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» [رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه].
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهطٌ فبايع تسعةً وأمسك عن واحدٍ فقيل له يا رسولَ اللهِ بايعْتَ تسعةً وتركتَ هذا قال إنَّ عليه تميمةً فأدخل يدَه فقطَعها فبايعَه وقال من علَّقَ تميمةً فقد أشرَكَ» [رواه أحمد وأبو يعلى والحاكم].
فإذا اعتقد الإنسان أن التمائم تنفع وتضر بذاتها من دون الله تعالى فهذا شرك أكبر مخرج من الملة - والعياذ بالله -، وإن اعتقد أنها أسباب جعلها الله لدفع الشر والعين والجن; فهذا من الشرك الأصغر; لأن الله لم يجعلها سبباً لذلك.
3) من صور التمائم المحرمة:
للتمائم المحرمة صور وأشكال متعددة; بعضها موروث قديم، وبعضها مستحدث جديد; إلا أن القصد من جميعها واحد، وهو دفع البلاء واستجلاب النفع، وهي لا تختلف في الحكم من حيث كونها محرمة، ومن صورها وأشكالها:
التَِّولَة: وهي شيء تعمله الزوجةُ لزوجِها بِزَعْمِ أنه يحُبِّبُ كلاً منهما إلى الآخر.
ومن ذلك أيضاً: حذوةُ الفَرَس، الحِذاءُ الصغيرُ، الخَرزُ الأزرقُ، صورةُ العَينِْ، صورة الكَفِّ، تَعليقُ خَيطٍ أو قِطعةِ قماشٍ على اليَدِ أو حَولَ العُنُقِ، تَعليقُ نَوعٍ مُعينٍَّ من َّالصدَفِ (الوَدَعِ), الأَوراقُ التي تحتوي رُموزاً وطَلاسِمَ.
رابعاً: التطير والتشاؤم:
ومن الأمور التي حذر منها الإسلام، وأمر باجتنابها لما لها من أثر على صفاء الإيمان والتوحيد: التشاؤم والتطير.
1) تعريف التطير:
هو أن يتشاءم الإنسان بما يكره مما رآه أو سمعه; كالتشاؤم بصوت الغُرابِ، أو رؤية ُالبومَةِ.
2) صور التطير والتشاؤم:
تتعدد صور التطير والتشاؤم عند الناس; ومن ذلك: التشاؤم من رؤية الأعور، أو الغراب والبومة، أو القط الأسود، أو وقوع حادث، أو التشاؤم من شهر معين، أو يوم معين، أو التشاؤم من عدد معين، أو التشاؤم من اضطراب عينه، أو غير ذلك.
3) حكم التطير:
التطير من الأمور التي حرمها الإسلام; لما لها من أثر في ضعف اليقين، وعدم الثقة بقضاء الله وقدره، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم عدَّه نوعاً من الشرك; فعن ابن مسعود رضي الله عنه عـن النبي صلى الله عليه وسلم قـال: «الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك» [رواه أبو داود والترمذي].
وعن عبد الله بن عمرو –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ردته الطيرة من حاجة فقد أشرك» [رواه أحمد].
وإنما جعل التطير من الشرك; لأنهم يعتقدون أن تلك الأمور التي يتطيرون منها هي التي تجلب النفع أو تدفع الضر; فكأنهم جعلوا منها شريكاً مع الله في ذلك، وهذا ينافي ما ينبغي للمسلم أن يعتقده من أن ذلك بيد الله وحده; قال تعالى: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ﴾ [يونس:107]، كما أن التطير ينافي عبادة التوكل على الله سبحانه وتعالى، ويفتح على الإنسان باب الخوف والتعلق بغير الله.
4) علاح التطير والتشاؤم:
قد يقع في قلب الإنسان شيء من التطير; فيصيبه قلق واضطراب; وهذا إنما يدخل إلى القلب بسبب وسواس الشيطان، وضعف التوكل على الله; وهنا نجد النبي صلى الله عليه وسلم يعالج هذا الأمر; فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ردَّتهُ الطِّيَرةُ مِن حاجةٍ فقد أشرَكَ قالوا يا رسولَ اللَّهِ ما كفَّارةُ ذلِكَ؟ قالَ أن يَقولَ أحدُهُم اللَّهمَّ لا خَيرَ إلَّا خيرُكَ ولا طيرَ إلَّا طيرُكَ ولا إلَهَ غَيرُكَ» [رواه أحمد].
كما أن هذا الغمَّ القلبي الناشئ عن التطير لا يكاد يخلو منه قلبٌ، ولكن يمكن إذهابه بالتوكل; كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: «وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل» ] رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه].
خامساً: دعاء غير الله:
الدعاء عبادة لها منزلة عظيمة في دين الله; لأنها صلة بين العبد وربِّه جلَّ جلاله; قال: عز وجل: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة:186]، ونظراً لهذه المنزلة العظيمة جعله النبي صلى الله عليه وسلم أهم أنواع العبادة فقال: «الدعاء هو العبادة» [ رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه].
1) الدعاء عنوان التوحيد:
من تأمل عبادة الدعاء يدرك أنها تتضمن أنواع التوحيد الثلاثة; فالعبد بالدعاء يحقق توحيد الربوبية; لأنه لا يتوجه إلا إلى الله ليقضي له حاجته ويدفع عنه كربته، لإقراره بأنه سبحانه القادر على كل شيء، والذي بيده تصريف الأمور كلها.
وهو بالدعاء يحقق توحيد الألوهية; لأنه بإخلاص الدعاء لله يعلن افتقاره وعجزه بين يدي ربه سبحانه وتعالى، ويعلن التجاءَه إليه وتوكلَه عليه، ويرجع وينيب إليه; رَهبةً منه ورَغبةً إليه، خوفاً من عقابه، وطمعاً في ثوابه.
وهو بالدعاء يحقق توحيد الأسماء والصفات; لأنه حينما يتوجه إلى الله بالدعاء يقدم بين يدي سؤاله ثناءً على الله بأسمائه وصفاته التي تليق به جل ثناؤه, وتقدست أسماؤه.
2) دعاء غير الله سبحانه وتعالى:
أمر الله سبحانه وتعالى جميع عباده أن يخلصوا في دعائهم، وأن لا يشركوا في الدعاء معه أحداً من المخلوقين; سواء كان المَدْعُوُّ مَلَكاً مقرَّباً أو نبياً مُرسلاً, أو عبداً صالحاً; قال تعالى: ﴿فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [غافر: 65].
وبين سبحانه أن من توجه بالدعاء لغيره وقع في الضلال الأعظم وكان مضاهياً في فعله أهل الجاهلية الأولى من المشركين; قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ﴾ [الأحقاف:5]، وقال جل ثناؤه: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المؤمنون:117]، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار» [رواه البخاري].
ومن هنا نعلم أن التوجه إلى المخلوقين بالسؤال والدعاء والاستغاثة بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، يوقع فاعله في الشرك الأكبر المخرج من دين الإسلام، المحبط لجميع الأعمال، الموجب لصاحبه الخلود في نار جهنم والعياذ بالله.
أما إذا كان سؤال المخلوق:
1- فيما يقدر عليه.
2- وكان هذا المخلوق حيا غير ميِّت.
3- حاضراً غير غائبٍ.
فإنه لا بأس حينئذ بسؤالهم وطلب المساعدة منهم.
فإن اختل شرط من هذه الشروط، يكون العبد قد صرف عبادة من العبادات لغير الله تعالى.
وتأمل أخي المسلم كيف أن الله تعالى أبطل دعاء المخلوقين والاستغاثة بهم ببيان ضعفهم وعجزهم عن إجابة من يدعوهم; قال تعالى: ﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا ﴾ [الإسراء:56]، وقال جل ثناؤه: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ [الأحقاف:4-6].
فهذا بيانٌ شافٍ قاطعٌ ٍأنه لا ينبغي التوجه بالدعاء إلى ما سوى الله تعالى من
المخلوقين; لأنهم عاجزون عن نفع أحد، أو إلحاق الضُّرِّ بأحدٍ، وهم لم يشاركوا الله سبحانه وتعالى في خلقه فضلاً عن أن يخلقوا شيئاً استقلالاً; فبأي وجه وبأي حق يتوجه إليهم الخلق بالدعاء؟!
سادساً: التبرك بالآثار:
1) تعريف التبرك:
التبرك مأخوذ من البركة التي معناها كثرة الخير في الشيء وثباته ولزومه.
والتبرك: هو طلب الخير الكثير، وطلب ثباته ولزومه.
2) أنواع التبرك:
الخير والبركة أمران بيد الله عز وجل خصَّ بهما بعض الأمور، فجعل فيها فضلاً وبركة، وهذه الأمور تتنوع إلى أنواع كثيرة; منها:
أ - التبرك بالأقوال: كالتبرك بالقرآن الكريم، أو التبرك بأسماء الله وصفاته، والأدعية والأذكار المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم; وليس معنى التبرك بها أن تزين بها البيوت وجدران المنازل وصدور المجالس، وإنما بمداومة العبد على ذكر الله وتسبيحه والثناء عليه بأسمائه وصفاته، والحرص على تلاوة القرآن حق تلاوته، والعمل بأحكامه; طلباً لبركة الأجر والثواب، وطمأنينة القلب، ومغفرة الذنوب، والشفاعة يوم القيامة.
ب - التبرك بالأمكنة: كالتبرك بمكة ومسجدها الحرام، والمدينة المنورة ومسجدها، والمسجد الأقصى، ومسجد قباء، وسائر بيوت الله; وذلك لأن الله اختص هذه الأماكن بمزيد فضل وعظيم أجر.
ج - التبرك بالأزمنة: كالتبرك بشهر رمضان، وليلة القدر، والعشر الأول من ذي الحجة، ويوم الجمعة، والثلث الأخير من الليل.
فيتحرّى العبد فعل العبادات والإكثار من الطاعات في الأمكنة والأزمنة الفاضلة المباركة; ليتحقق له فيها جزيل الأجر، وعظيم الثواب، ومضاعفة الحسنات، ورفعة الدرجات الناتجة عن فعل هذه الطاعات.
د - التبرك بالأشياء: كالتبرك بماء زمزم، وشجرة الزيتون; لما جعل فيهما من الشفاء، وكالتبرك بماء المطر; لما جعل الله فيه من تحصيل الخير والنفع، وإنبات الزرع، وإحياء الأرض الميتة.
هـ - التبرك بالأعمال: كالتبرك بفعل الأعمال الصالحة.
و - التبرك بالأشخاص: كالتبرك بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وآثارهم، وكالتبرك بالصالحين من عباد الله حال حياتهم; باتباع هديهم والتأسي بهم والانتفاع بدعائهم وعلمهم; فيتحقق للمسلم منافع دنيوية وأخروية.
3) حكم التبرك الممنوع:
التبرك من الأمور التوقيفية التي لا بد أن يستند المسلم في فعلها إلى دليل شرعي من القرآن أو السنة، ولا يجوز له أن يحُدِثَ فيها شيئاً من غير دليل ومستند شرعي صحيح، وإلا صار تبركاً ممنوعاً غير مشروع.
والتبرك الممنوع من أخطر الأمور على الإيمان، ومن أعظم الوسائل المخلَّة بالتوحيد; لأن من اعتقد حلول البركة بنوع معين من الأشجار أو الأحجار أو بعض القبور، أو بعض البقاع، أو نوع معين من التراب، أو بعض الجبال، أو بعض الكهوف والمغارات، من غير مستند شرعي، واستباح التمسح أو أخذ شيء من أثرها، وقع في محظور عظيم، ومخالفة للشرع الحنيف.
فعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن حديثو عهد بكفر –وكانوا أسلموا يوم الفتح-، فانتهينا إلى شجرة كان المشركون يعلقون عليها أسلحتهم يعكفون عندها في السنة، يقال له: ذات أنواط، فقلنا: اجعل لنا ذات أنواط. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، قلتم كما قال قوم موسى: ﴿اجعل لنا آهلة كما لهم آلهة﴾ [الأعراف:138]، ثم قال: إنكم ستركبون سنن من كان قبلكم» [رواه أحمد والترمذي والطبراني].
فالنبي صلى الله عليه وسلم شبه طلبهم اتخاذ شجرة للتبرك بها، وتعليق الأسلحة، والعكوف حولها; بما طلبه بنو إسرائيل من اتخاذ إلهٍ مع الله، مع أنهم لم يعبدوها ولم يسألوها.
وعن نافع «أن عمر رضي الله عنه بلغه أن قوماً يأتون الشجرة - أي شجرة الرُّضوان- فيصلون عندها، فتوعدهم، ثم أمر بقطعها فقطعت» [رواه ابن أبي شيبة، وابن سعد في الطبقات].
وعن المعرور بن سويد قال: «خرجنا مع عمر في حجة حجها، فقرأ با في الفجر: ﴿ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل﴾ و ﴿لإيلاف قريش﴾، فلما قضى حجه ورجع، والناس يبتدرون، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: هكذا هلك أهل الكتاب اتخذوا آثار أنبيائهم بيعاً، من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل، ومن لم تعرض له منكم فيه الصلاة فلا يصل» [رواه ابن أبي شيبة].
فمن اعتقد أن تلك الأمور تضر وتنفع بذاتها، أو أنها تمنح وتمنع البركة والخير مما هو من خصائص الرب سبحانه وتعالى، فهذا من الشرك الأكبر المخرج من الدِّين، وأما من فعل ذلك يرجو البركة من الله بالتبرك بها، فقد أحدث في دين الله ما لم يأذن به ويشرعه.
سابعاً: تناسخ الأرواح:
هو اعتقاد أن الروح تنتقل من الجسد بعد موته لتسكن في جسد آخر، فإن كان الإنسان سيئاً انتقلت روحه إلى جسد حيوان عقوبة له، وإن كان حسناً انتقلت روحه إلى جسد إنسان آخر، وتستمر هذه الروح في الانتقال من أجساد إلى أجساد أخرى إلى ما لا نهاية.
حكم الاعتقاد بتناسخ الأرواح:
إن الناظر في عقيدة تناسخ الأرواح يدرك أنها تتناقض مع ما جاءت به الشرائع والديانات السماوية; وذلك من عدة وجوه:
أ - أن الرُّوحَ عالمٌ غيبيٌّ، وسِرٌّ من أسرارِ الله تعالى التي استأثر بعلمها، فلا يعلم حقيقتها إلا هو سبحانه; قال تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85].
ب - أن الأمور الغيبية - ومنها الرُّوح - طريق معرفتها هو الوَحي الإلهي الذي أنزله الله على رسله وأنبيائه; فأين الدليل الصحيح على هذه الخرافة الفاسدة؟!
ج - أن واقع الحياة الدنيوية والمبادئ العلمية يؤكدان بطلان هذه الخرافة، لأن العلم الحديث لم يكتشف أي ظاهرة تشير إلى تقمص الأرواح أو تناسخها أو حلولها في المخلوقات، وأن أسرار الموت وعالم البرزخ والقبر لا يمكن اكتشافها أو اختراقها. وهذا يؤكد أن الروح أمر غيبي لا قدرة للبشر على معرفة أسراره وحقائقه بالتجربة والمشاهدة.
ثامناً: الخوف من الجن والشياطين:
ينقسم الخوف عند البشر إلى ثلاثة أقسام:
الأول: الخوف الطبيعي: كالخوف من عدوٍّ أو سَبُعٍ أو غير ذلك. وهذا النوع ليس بمذموم; فإن هذا النوع من الخوف موجود في جميع البشر، حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام; قال تعالى عن موسى عليه السلام: ﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ﴾ [القصص:21].
الثاني: الخوف من المخلوق المؤدي إلى ترك الواجبات أو فعل المحرمات كأن يشهد الإنسان شهادة زور خوفاً من صاحب سلطان ونفوذ، وهذا الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يقول بالحق إذا شهده أو علمه» [رواه أحمد وابن حبان].
وهذا النوع من الخوف محرَّم; لأنه يتعلق بحقوق العبادة ومكملاتها.
الثالث: خوف السر؛ وهو الخوف من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى; كالخوف من الجن والشياطين، أو السحرة والمشعوذين; اعتقاداً بأن لهم قدرة ذاتية على إلحاق الضر أو الشر بالإنسان.
وهذا النوع من الخوف نوع من أنواع العبادات القلبية التي لا ينبغي صرفها إلا لله تعالى; فلا ينبغي أن يكون في قلب الإنسان إلا الخوف من الله; لأنه سبحانه هو النافع الضار، وهو خالق الخير والشر، وهو الذي يُقدِّر هذه الأشياء على المخلوقين، ويجعلها أسباباً مؤثرةً.
فالخلق من جن وشياطين ما هم إلا أسباب يجعلها الله لتنفيذ القدر الكوني الذي قدَّره سبحانه وقضاه، فلا يخاف منها الإنسان المسلم لذاتها; لأن الله تعالى قال: ﴿ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175].
فمن صرف هذا النوع وجعله لغير الله كان واقعاً في الشرك الأكبر -والعياذ بالله-.
ومما لا شك فيه أن الجن والشياطين أضعف من الإنسان المؤمن الذي َملأ قلبه بالإيمان وعمّره بطاعة الرحمن; بدليل قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء:76]؛ ولأن الله تعالى لم يجعل لهم سلطاناً على عباد الله المؤمنين، قال تعالى: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا﴾ [الإسراء:65].
وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن الشيطان يخاف المؤمنين; كما خاطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: «إن الشيطان ليخاف منك يا عمر» [رواه الترمذي], وليس هذا خاصاً بعمر رضي الله عنه؛ بل إنَّ كل من قَوِيَ إيمانُه، وتعلَّق قلبُهُ بالله الواحد الأحد، يتحقق له ما تحقق لعمر رضي الله عنه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن المؤمن ليُنضي شياطينه كما يُنضي أحدكم بعيره في السفر» [رواه أحمد]، ومعنى ينضي: أي يهزله ويتعبه.
ومما يؤكد ضعف الجن والشياطين أمام الإنسان أنها لا تقوى على سماع ذكر الله، أو سماع الأذان، أو التكبير، بل وتفر من المكان الذي يذكر فيه اسم الله، ولا تستطيع فتح الأبواب المغلقة والآنية المغطاة إذا ذكر عليها اسم الله.
ولكن كييف ينشأ الخوف عند الإنسان من الجن والشياطين؟
والإجابة عن ذلك في قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ [النحل:100]، فمن أطاع الجن والشياطين وأذل نفسه وخضع لهم أصابه الضعف والوهن والخوف كما قال تعالى: ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ﴾ [الجن:6]، وقال عز شأنه: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ﴾ [مريم:83]. أي تحُرِّكُهم وتهُيِّجُهُم; فمن خلا ُقلبه من الإيمان، وانصرف عن ذكر الله والالتجاء به والاعتصام بذكره، تسلطت عليه الشياطين وآذته، ومُلِئَ قلبُه بالخوف منها; لعدم ثقته بالله تعالى وبنصره وحفظه; فلم يبق له دِرعٌ منيعة، ولا سِترٌ يَصونُه منها.
فإذا وصل الخوف من الجن بالإنسان إلى درجةٍ يعتقد أنَّ له قدرةً وتصرُّفاً في إلحاق الأذى به من غير سبب; فهذا هو خوف السِّر، الذي هو شرك أكبر -والعياذ بالله-.
أما إذا كان الخوف منها بسبب ضعف الإنسان، وهو يخاف من إيذائهم واعتدائهم لسبب من الأسباب; كالدخول إلى الأماكن المهجورة أو المظلمة، فهذا يدخل في الخوف الطبيعي; لأن الجن والشياطين من طبعهم أذية بني آدم، ولا يدخل في الخوف المحرم، ولا الخوف الشركي.
تاسعاً: الاحتفال بأعياد غير المسلمين ومشاركتهم فيها:
تُعدُّ أعياد الأمم والشعوب والديانات عنواناً وشعاراً لمعتقداتهم الدينية; فما من أمة من الأمم إلا ولها عيد تحتفل به، وتمارس به طقوساً محددة بناءً على ما ورد في معتقداتها; وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فقال: «إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدُنا» [رواه البخاري ومسلم].
1) احتفال المسلم ومشاركته في أعياد غير المسلمين:
لما كان العيد يمثل عقيدة من يحتفل به وشعاره الذي يعتز به; حرص الإسلام على أن يتميز بأعياده لتكون دالة على عقيدته الخالدة الراسخة; فمنع الاحتفال بغير ما شرعه الله لهذا الدين من أعياد; فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما، يوم الأضحى، ويوم الفطر» [رواه أحمد وأبو داود]; فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يُقِرَّ أصحابه على اللعب في أعياد الجاهلية وفق ما جرت به العادة، وبينَّ لهم أن الله قد أبدلهم خيراً منها، فلا يصح الجمع بين البدل والمبدل.
وقد استقرَّ هذا المعنى لدى سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، فحذروا من مشاركة غير المسلمين في أعيادهم; فعن عمر رضي الله عنه قال: «اجتنبوا أعداء الله في عيدهم» [رواه البخاري في التاريخ الكبير].
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: «من بنى ببلاد الأعاجم، فصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك، حُشر معهم يوم القيامة» [رواه البيهقي].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ﴾ [الفرقان: 72]، قال: "أعياد المشركين" [رواه الخطيب في تاريخ بغداد]، وعن ابن سيرين قال: "(لا يشهدون الزور) هو والشعانين". والشعانين: من أعياد النصارى. وعن الربيع بن أنس قال: "هو أعياد المشركين".
فالمسلم مأمور بمخالفة غير المسلمين في معتقدهم وعاداتهم وهيئتهم; لأن المشابهة في الظاهر تولد مشابهة في الباطن; وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: «من تشبه بقوم فهو منهم» [ رواه أحمد وأبو داود].
2) تهنئة غير المسلمين في أعيادهم:
التهنئة تعني الدعاء بعد السرور لتجدد نعمة أو دفع نقمة، وهي تكون بين الناس على قدر المودَّة التي بينهم بسبب المعرفة والخلطة.
وقد بيَّن أئمة الإسلام أن تهنئة غير المسلمين بشعائر دينهم وأعيادهم المختصة بهم من الأمور المتفق على تحريمها; فلا يُبارك لهم في احتفالهم، ولا يهنؤوا بأعيادهم، ولو هنَّأ غيرُ المسلمِ المسلمَ بأعياده; فإن المسلم يعتقد أن دينه الحق وما جاء به حق، وأن غيره مما حرَّفه أهله أو وضعوه بأيديهم إنما هو الباطل.
ولما كانت الأعياد جزءًا لا يتجزأ من العقائد، كانت أعياد غير المسلمين من جملة باطلهم الذي لا يجوز للمسلم أن يقرَّهم عليه; ولا يقدم لهم التهنئة عليه، لأن التهنئة بها إقرار لها، ولما فيها من الباطل، ولا ينبغي للمسلم أن يقر أهل الباطل على باطلهم.
وختاماً! فهذه القضايا التي عرضنا جانباً منها، في غاية الأهمية والخطورة، ولذا ينبغي على المسلم أن يهتم بمعرفة أحكامها حتى يحافظ على دينه ومعتقده من أن يختلط بما َيشُوبُه أو يُذهِبُه; لكي يَلْقَى اللهَ سبحانه وتعالى راضياً مرضياً، مثاباً مجزياً.
الفصل الثالث
عبـــــادة المســــــلم
أحكام الطهارة
الطهارة شطرُ الإيمانِ، وهي مفتاحُ الصّلاةِ، وآكدُ شروطِها، وأوّلُ أعمالِ مريدِها; لأنّ الشرطَ يتقدّمُ على المشروط، وهي عبادةٌ يتقرّبُ بها المصليّ إلى الله تعالى; ولهذا أثنى الله سبحانه على أهلِ قباءَ بقوله: ﴿ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [التوبة:108]، وقال صلى الله عليه وسلم: «الطهور شطر الإيمان» [رواه مسلم].
وسنتناولُ في هذا المبحث: تعريفَ الطّهارة في اللّغةِ والاصطلاحِ، وأقسامَ الماءِ الّذي يُتطهّر به، وأحكامَ الآنيةِ الّتي يُوضعُ فيها الماءُ، وآدابَ التّخليّ والاستنجاءِ الّذي يكون عادةً بين يدي الوضوءِ، ثمّ أحكامَ الوضوءِ، وما يتبعه من المسحِ على الخفّينِ، ثمّ أحكامَ الغسلِ، ثمّ أحكامَ التيمّم الّذي يكون عند عدمِ الماءِ، أو العجزِ عن استعمالِه.
أولاً: تعريف الطهارة:
الطّهارةُ لغة: النّظافةُ من الأقذارِ الحسيّةِ; كالبولِ والغائطِ، والأقذارِ المعنويّةِ، كالشرّك والمعاصي. قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ [الأحزاب: 33].
وفي الاصطِلاح: هي رفعُ الحدَثِ، وزوالُ الخبثِ.
والمراد بالحدَث: الوصفُ القائمُ بالبدنِ المانعُ من الصّلاةِ وغيرها.
والحدثُ نوعان: حدثٌ أصغرُ; وهو ما يجب به الوضوء; وذلك كخروجِ الرِِّيح. وحدثٌ أكبرُ; وهو ما يجب به الغسل; كخروجِ المنيِّ بشهوةٍ. ومن قامَ به الحدَثُ يسمّى: المحدِثَ.
والمراد بزوال الخَبَث: زوالُ النّجاسةِ من البَدَنِ، والثّوبِ، والمكانِ.
ثانياً: أقسام الماء:
الماءُ ثلاثةُ أقسام:
1) الطهور:
وهو: الماءُ المطلقُ الباقي على خِلْقَتِه التي خُلق عليها; سواء نبع من الأرض، أو نزل من السماء; كماء العيون، والبحار، والأنهار، والآبار، والأمطار.
وحكمُه: أنّه طاهرٌ في نفسه مطهّرٌ لغيره; فيرفعُ الحدَثَ الأصغرَ; فيُ توضّأُ به والحدثَ الأكبرَ; فُيغتسلُ بهِ من الجنابةِ، ويُزيل الخبَثَ; لقوله تعالى: ﴿ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ﴾ [الأنفال:11].
وقال صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» [رواه أبو داود، والترمذيّ، والنّسائي، وابن ماجه].
وإذا خالط الماءَ شيءٌ طاهر – كأوراق الأشجار، أو السِّدْر، أو غير ذلك، ولم يغلب ذلك المخالط عليه; فإنّه طهور; يجوز التَّطهُّر به.
2) الطاهر غير المطهر:
وهو: ما تغيرّ كثيرٌ من لونه أو طعمه أو ريحه بشيءٍ طاهرٍ غيرّ اسمَه – حتّى صار خلاًّ مثلاً -، وسلب منه وصف الطَّهوريّة.
وحكمُه: أنّه يجوزُ استعمالُه في غيرِ رفعِ الحدث، وإزالةِ الخبث، ونحوِهما.
4) النجس:
وهو: ما وقعت فيه نجاسةٌ فغيرّت أحدَ أوصافِه الثّلاثةِ: طعمه، أو لونه، أو ريحه.
والنّجاُسة: هي القَذارةُ الّتي يجبُ على المسلمِ أن يَتنزَّهَ عنها، ويغسلَ ما أصابَه منها; كبولِ الآدميِّ، وغائطِه، والدّمِ المسفوحِ، وغيرِها.
وإذا شكَّ المسلمُ في نجاسةِ ماءٍ أو طهارتِه بنى على اليقين، وهو: الأصلُ في في الأشياءِ الطهُارة.
وإن وجد مائين: أحدهما مما يتطهر به والآخر مما لا يتطهر به، ولم يدر أيهما الطهور؛ فإنه يتركهما جميعاً ويتيمّم.
ثالثاً: أحكام الآنية:
1) تعريف الآنية:
الآنية: جمعُ إناءٍ، وهو الوعاءُ الّذي يحُفظُ فيه الماءُ وغيرُهُ.
والأصلُ في الآنيةِ الحِلُّ والإباحةُ; لقوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة:29].
2) شروط الآنية:
يُشترطُ في الآنيةِ ثلاثةُ شروط:
الأوُّل: أن تكونَ طاهرةً; فلا يجوزُ استعمالُ الآنيةِ المصنوعةِ من جلدِ كلبٍ، أو خنزيرٍ في الطّهارةِ; لأنهّما لا يطهرانِ بالذّكاةِ،، ولا بالدّبغِ وهو: مُعالجََةُ الجِلْدِ بِالمِْلحِ وَنَحْوِهِ; لِيَزُولَ مَا بِهِ مِنْ نَتْنٍ، وَفَسَادٍ، وَرُطُوبَة.
كما لا يجوزُ استعمال الآنيةِ المصنوعةِ من جلدِ الميتة، إلاّ إذا كانتِ لحيوانٍ مأكول اللّحمِ، ودُِبغ جلدُه; لقولِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر» [رواه مسلم].
الثّاني: أن تكونَ مملوكةً لمن يستعملها، أو مأذوناً له في استعمالهِا; فلا يُباحُ التّطهّرُ بالآنيةِ المغصوبةِ، ولا الّتي لم يأذنْ مالكُها في استعمالهِا.
الثّاُلث: أن لا يكون منهيّاً عن استعمالها; فلا يجوزُ استعمال آنيةِ الذَّهبِ والفضّةِ، ِوالمطليِّ بمائِهما في الطّهارةِ; لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة» [رواه البخاري ومسلم]; والاستعمالُ في الطّهارةِ كالاستعمالِ في الأكلِ ِ والشرّب. ويستوي في النّهي عن ذلك الرّجال والنّساء. وأما لبس حلي الذهب والفضة فيجوز للإناث فقط دون الذكور.
فإن تطهّر بها أو بالإناءِ المغصوبِ ونحوِه: أثمَ على استعمالِه، وصحّتْ طهارتُهُ.
- ويُباح استعمالُ الإناءِ المُضَبَّب بضبّةٍ يسيرةٍ من الفِضّة عند الحاجةِ; لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر، فاتخذ مكان الشعب -يعني: الشق- سلسلة من فضة [رواه البخاري].
والضبَّة: هي ما يُسَدُّ به مكان الكَسرْ في الإناء من حديد وغيره.
3) حكم آنية غير المسلمين وثيابهم:
أ - الأصلُ في آنيةِ غيرِ المسلمين الطّهارةُ; لأَِنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم أفرغ من مزادة امرأة مشركة ماء، فسقى الناس وأعطى رجلاً أصابته جنابة ماء ليغتسل به. [رواه البخاري].
ب - إذا عُلم عن غير المسلمين استعمالهُم الآنيةَ في النّجاساتِ; فإنّه يجبُ غسلُها قبل استعمالهِا; لما روى أبو ثعلبة الخُشَّني رضي الله عنه قال: «قلت: يا رسول الله! إنا بأرض قوم أهل كتاب؛ أفنأكل في آنيتهم؟ قال: إو جدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها» [رواه البخاري ومسلم].
ج - ما نسجوه وصنعوه من الثّيابِ فهو طاهرٌ، ويباحُ لبس ثيابهِم الّتي لبسوها، ِلكن إن كانت ممّا يلي عوراتهِم; فيجب غسلُها قبلَ الاستعمالِ; لعدمِ تحرّزِهم من النّجاسة.
د - لا ينجسُ شيءٌ بالشكِّ في نجاستِه، ما لم تعلم نجاستُه يقيناً; لأنّ الأصلَ الطُّهارة.
رابعاً: آداب التخلي والاستنجاء:
1) تعريف الاستنجاء:
الاستنجاءُ: إزالةُ الخارجِ من السَّبِيلينِ بالماءِ.
والاستُجمارُ: إزالةُ الخارجِ من السبيلين بحجرٍ، أو ورقٍ، ونحوِهما.
والاستنجاءُ بالماءِ أفضلُ من الاستجمارِ بالحجارةِ; لأنّه أقطعُ للنّجاسةِ، وأبلغُ في التّنظيفِ; فإن جمع بين الاستجمارِ والاستنجاءِ كان أكملَ.
2) حكم الاستنجاء:
الاستنجاءُ واجبٌ لكلِّ ما خرج من َّالسبيلين – القُبُلُ والدُّبُرُ -; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا ذهب احدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنها تُجزئ عنه» [رواه أبو داود]، ولقوله صلى الله عليه وسلم في المذي: «يغسل ذكره ويتوضأ» [رواه البخاري ومسلم].
فإن كان الخارجُ ليس له أثر مطلقاً كالرّيح; فلا يجبُ الاستنجاءُ منه.
3) آداب التخلي والاستنجاء:
أ - أن لا يستنجيَ بيدِهِ اليمنى، ولا بأقلَّ من ثلاثةِ أحجارٍ، ولا بعظمٍ، أو روثٍ، أو طعامٍ.
ب - أن لا يستقبلَ القبلةَ ولا يستدبرَها أثناءَ قضاءِ الحاجةِ.
ج - أن يبتعدَ عن النّاسِ ويستترَ عنهم، ولاسيما عند الغائطِ.
د - أن يُقدِّمَ رجلَهُ اليُسرى عند دخولِ الخلاءِ - دورة المياهِ -، ويقولَ: «بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث»، ويقدّم رجلَهُ اليُمنى عند الخروجِ من الخلاءِ، َويقول: «غفرانك».
هـ - أن يَطلبَ لبولِهِ مكاناً لا يتطايرُ منه الرّشاشُ إليهِ، ولا يعودُ إليهِ منحدراً، لئلاّ يتنجّس.
والأفضل أن َ يبولَ الرجلُ قاعدا، ولا ُ يكره بولُه قائماً إن أمن التلوّث.
و - أن لا يصطحبَ معه حالَ قضاء ِ الحاجة شيئاً فيه ذكرُ الله تعالى إلا لحاجةٍ.
ز - أن لا يتكلّم مع ِ غيره إلا لضرورةٍ; كإرشاد أعمى يخشى عليه من السقوط.
ح - أن لا يبول أو يتغوَّط في طريق الناس، أوفي ظلِّهم، أو في مورد ماء، أو تحت شجرة مثمرة، أو غير ذلك مما يستفيد منه الناس.
ط – أن يغسل ما أصابته نجاسة من الثّوب بالماء; فإن خفي عليه موضعُها غسل الثوب كلَّه.
خامساً: أحكام الوضوء:
1) تعريف الوضوء:
الوضوء في الشرع: استعمال ماء طَهُور في الأعضاء الأربعة - الوجه، واليَدين، والرأس، والرِّجْلين – على صفة مخصوصة في الشَّرع; بأن يأتي بها مُرَتَّبة، متوالية مع باقي الفُروض.
2) حكم الوضوء:
الوضوء واجب على المُحْدِث إذا أراد الصلاة، وما في حكمها -كالطواف، ومسِّ المصحف -; قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ﴾ [المائدة:6].
ولا تُقبل الصلاة بدونه; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» [رواه البخاري ومسلم].
3) فضل الوضوء:
وردت أحاديث كثيرةٌ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم تدلُّ على فضلِ الوُضوءِ، ومنها قوله عليه الصّلاةُ والسُّلام: «إذا توضأ العبدُ المسلمُ -أو المؤمنُ- فغسل وجهَه ، خرج من وجهِه كلُ خطيئةٍ نظر إليها بعينيه مع الماءِ - أو مع آخرِ قطرِ الماءِ - فإذا غسل يديه خرج من يديه كلُ خطيئةٍ كان بطشتها يداه مع الماءِ - أو مع آخرِ قطرِ الماءِ - فإذا غسل رجليه خرجت كلُّ خطيئةٍ مشتها رجلاه مع الماءِ - أو مع آخرِ قطرِ الماءِ - حتى يخرجَ نقيًا من الذنوبِ» [رواه مسلم].
4) فروض الوضوء:
فروضُ الوضوءِ ستٌّة:
الأوُّل: غسلُ الوجهِ.
الثّاني: غسلُ اليدينِ مع المرفقينِ.
الثّاُلث: مسحُ الرّأسِ كلِّه، ومنه الأذنانِ.
الراُبع: غسلُ الرِّجلينِ مع الكعبينِ. وهما العظمانِ النّاتئانِ من جانبَ ي القدمِ.
الخاُمس: التَّرتيبُ بين أعضاءِ الوضوءِ; بأن يغسلَ الوجهَ أولاً، ثمّ اليدينِ، ثمّ يمسحَ الرأس، ثمّ يغسلَ الرِّجلين.
السُّادس: الموالاةُ بين الأعضاءِ; بأن لا يفصلَ بين غسلِ عُضوٍ والعضوِ الذي قبله بفاصلٍ طويلٍ.
5) سنن الوضوء
سننُ الوضوءِ هي:
أ - السِّواكُ.
ب - التّسميةُ في أوّل الوضوء.
ج - غسلُ الكفّينِ في أوّلِ الوضوءِ. وإذا كاِن مستيقظاً من نوم; فإنّه يجبُ غسلُهما ثلاثاً قبل أن يدخلَهما في الإناء.
د - المضمضةُ والاستنشاقُ، والبدءُ بهما قبلَ غسلِ الوجهِ، وغسلُهما بغرفةٍ
واحدةٍ، والمبالغةُ فيهما إن كان غيرَ ٍصائم.
هـ - تخليلُ اللِّحيةِ الكثيفةِ، وأصابعِ اليدينِ والرِّجلينِ.
و - التّيامن; وهو البدء باليُمنى من اليدينِ والرِّجلين قبل اليسرى.
ز - الدَّلْك; وهو إمرار اليد على العضو مع الماءِ، أو بعده.
ح - الغسلةُ الثّانيةُ والثّالثةُ لأعضاءِ الوضوءِ.
ط - إسباغُ الوضوءِ، والمبالغةُ في غسلِ أعضاءِ الوضوءِ.
ي - الذّكرُ والدعاءُ بعد الوضوءِ –وسيأتي-.
ك - صلاةُ ركعتينِ بعد الوضوءِ.
6) صفة الوضوء:
صفةُ الوضوءِ الكاملِ المشتملِ على الفروضِ والسُّننِ كالتالي:
أ - أن ينويَ الوضوءَ بقلبِه، دون أنْ يتلفّظَ بالنيّةِ.
ب - ثمّ يقولَ: بسم الله.
ج - ثمّ يغسلَ كفّيهِ ثلاثَ مرّاتٍ. ولا بد أن يزيلَ ما علَق باليدينِ قبل الغسلِ من صبغ ونحو ذلك; ممّا يمنعُ وصولَ الماءِ إلى البشرة.
د - ثمّ يُمضمضَ ويستنشقَ من كفٍّ واحدةٍ بيده اليمنى، ويستنثر بيده اليسرى. يفعل ذلك ثلاث مراتٍ، مع المبالغة في الاستنشاق إلا أن يكونَ صائماً.
هـ - ثمّ يغسلَ وجهَه ثلاثَ مرّاتٍ من الأذن إلى الأذن عرضاً، ومن منابت شعر الرّأس إلى أسفل اللِّحية والذِّقن طولاً، ويخلِّلَ لحيتَه.
و - ثمّ يغسلَ يدَه اليُمنى ثلاثَ مرّاتٍ من رؤوسِ الأصابعِ إلى المِرفقِ، ويدلك ذراعَه، ويغسل مرفقَ ه، ويخلل بين الأصابع، ثمّ يغسلَ يدَه اليسرى مثلَ ذلك.
ز - ثمّ يمسحَ رأسَه مرّةً واحدةً; يبلّ يديهِ بالماءِ ثمّ يُمِرّ هما من مُقدّمِ رأسِه إلى قفاه، ثمّ ّيردهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثمّ يُدخل أُ ِصبعَيْهِ السبَّابتين في أذنيه; فيمسح بهما باطنَ أُذنيه، ويمسح بإبهاميهِ ظاهرَ أُذنيه.
ح - ثمّ يغسلَ رجلَه اليُمنى ثلاثَ مرّاتٍ من رُؤوس ِالأصابعِ إلى الكعبِ، ويغسلَ كعبَه، ويخلِّلَ بين الأصابع، ثمّ يغسلَ رجلَه اليسرى َمثل ذلك.
ط - ثمّ يقولَ: (أشهدُ أن لاّ َ إلاّ اللهُ، وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهد أنّ محمّدًا عبدُه ورسولُه، اللَّهمَّ اجعلني من التَّوَّابين، واجعلني من المتطهرين).
7) نواقض الوضوء:
نواقضُ الوضوءِ خمسةٌ:
الأوُّل: الخارجُ من السبيلينِ (مخرج البول والغائط).
الثّاني: خروجُ النّجاسةِ من بقيّةِ البدنِ.
الثّاُلث: زوالُ العقلِ أو تغطيتُه بجنونٍ، أو سكرٍ، أو إغماءٍ،، أو نومٍ.
الرُّابع: مسُّ الفرجِ بشهوةٍ.
الخاُمس: الرِّدَّةُ عن الإسلامِ.
سادساً: أحكام المسح على الخفين ونحوهما:
1) تعريف المسح على الخفين أثناء الوضوء:
الخُفُّ: هو ما يُلبَسُ على الرِّجْلِ من جلدٍ ونحوِه، وجمعُه: خِفافٌ. ويلحق بالخفّين كلُّ ما يلبسُ على الرِّجلينِ من صوفٍ ونحوِه.
ويُقصد بالمسحِ على الخفّينِ: إمرارُ اليد المبلولة بالماء عليهما بنيَّة التطهُّر، ويسقُطُ عنه غسلُ الرِّجلين.
2) حكم المسح على الخفين:
هو رخصةٌ من الله عز وجل تخفيفاً منه على عبادِه، ودفعاً للحرجِ والمشقّةِ عنهم، وإذا كان الإنسان لابساً للخفّينِ كان المسحُ عليهما أفضلَ من نزعِهما وغسلِ الرِّجلين; لأنّ النَّّبي صلى الله عليه وسلم لم يكنْ يتكلفُ ضدَّ حالِه التي عليها قدماهُ; بل إن كانتا في الخفّين مسحَ على الخفّينِ، وإن كانتا مكشوفتين غسلَ القدمين.
3) مدة المسح على الخفين:
يجوزُ المسحُ على الخفّينِ يوماً وليلةً للمقيمِ، وثلاثةَ أيّامٍ بلياليهنَّ ِللمسافر.
وتبدأُ مدّةُ المسحِ من الحدثِ بعدٍلبسِ الخفّينِ على طهارةٍ، وتنتهي بعد يومٍ وليلة (أربعٌ وعشرونَ ساعة) بالنسبة للمقيمِ، وبعد ثلاثةِ أيّامٍ ولياليهنّ (اثنتانِ وسبعونَ ساعةُ) بالنسبةِ للمسافرِ.
4) شروط المسح على الخفين:
يشترطُ في المسحِ على الخفِّ ما يلي:
أ - أن يكونَ ملبوساً على طهارةٍ كاملةٍ.
ب - أن يكونَ الخفُّ مباحاً، ولا يكونَ مغصوباً، أو مسروقاً، أو حريراً بالنّسبةِ للرّجال.
ج - أن يكونَ طاهراً، ولا يكون مصنوعاً من جلد خنزيرٍ، أو كلبٍ، أو ميتةٍ.
د - أن يكونَ ساتراً للمفروضِ غسلُه من الرِّجلِ.
هـ - أن يكونَ صفيقاً، لا يصفُ البشرةَ تحتَه.
و - أن يكونَ المسحُ في المدّةِ المحدّدةِ شرعاً.
5) صفة المسح على الخفين:
المحلُّ المشروعُ مسحُه هو ظاهرُ الخفِّ، دونَ أسفلِه، وعقبِِه.
وكيفيةُ ِالمسح: أن يضعَ يديهِ مبلولتينِ بالماءِ على أصابعِ رجليهِ، ثم يمرَّهما إلى أوّلِ ساقِه; يمسحُ ِالرِّجلَ اليُمنى باليدِ اليُمنى، والرِّجلَ اليُسرى باليدِ اليُسرى، مرّةً واحدةً، ولا يكرِّرُ َالمسح.
6) مبطلات المسح على الخفين:
يبطل المسحُ على الخفّينِ بأحدِ ثلاثةِ َأشياء:
أ - إذا وُجدَ ما يوجبُ الغسلَ; كالاحتلامِ وغيرِه.
ب - انقضاءُ مدّةِ المسحِ.
ج - نزعُ الخفّينِ.
ويشرع للمسلم أن يمسح على جوربيه (والجورب: هو الشُّرَّاب)، مراعياً الشروط السابق ذكرها في المسح على الخفين; فلا يمسح على الجوربين إذا كانا رقيقين، أو مخرّقين، أو غير ساترين لمحل الفرض من القدمين.
7) المسح على الجبيرة:
يجوزُ المسحُ على الجبيرة – وهي أعوادٌ ولفائفُ ونحوهما تربطُ على الكسر- ِأثناءَ الوضوءِ، وعلى الضِّمادِ الذي يكونُ على الجُرحِ، وعلى اللّصوقِ الذي يجُعلُ على القُروحِ، في الحدثِ الأصغرِ والأكبرِ; بشرطِ أن تكونَ على قدرِ الحاجة – على الكسر أو الجرح وما قرب منه -، ويُمسحُ على جميعِ الجبيرةِ، وليس للمسحِ عليها وقتٌ محدّدٌ، بل يمسح عليها إلى نزعِها، أو ُبرءِ ما تحتها، ولا يشترطُ تقدُّمُ الطّهارةِ على شدِّها.
سابعاً: أحكام الغسل:
1) تعريف الغسل:
استعمالُ ماءٍ طهورٍ في جميعِ البدنِ على صفةٍ مخصوصةٍ; سيأتي بيانها.
2) حكم الغسل:
الغسلُ واجبٌ على المسلمِ عند وجودِ موجبِه; لقولِ الله تعالى: ﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ [النساء:43]، وقولِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «إذا جلس بين شُعبها الأربع ومسَّ الختان الختان؛ فقد وجب الغسل» [رواه مسلم].
3) موجبات الغسل:
موجباتُ الغسلِ ستّةُ أشياءَ; هي:
أ - خروجُ المنيِّ دفقاً بلذّةٍ من رجلٍ أو امرأةٍ. والنّائمُ يغتسلُ بمجرد رؤيةِ المنيِّ، وإن كان لا يذكرُ احتلاماً.
ب - تغييبُ الحشَفةِ – رأس الذَّكَرِ - في فرجِ المرأةِ.
ج - موتُ المسلمِ، إلا شهيدَ المعركةِ; فإنّه لا يُغسّلُ.
د - انقطاعُ دمِ الحيضِ. وهو الخارجُ من رحمِ المرأةِ بعد البلوغِ.
هـ - انقطاعُ دمِ النِّفاس. وهو الخارجُ من رحمِ المرأةِ بسببِ الولادةِ.
4) الأغسال المستحبة:
هناك جملةٌ من الأغسالِ الّتي لا تجبُ على المسلمِ، ولكن يستحبُّ له المحافظةُ عليها، ومنها:
أ - الاغتسالُ لصلاةِ الجمعةِ.
ب - الاغتسالُ لصلاةِ العيدِ.
ج - الاغتسالُ للإحرامِ بحجٍ أو عمرةٍ.
د - الاغتسالُ لدخولِ مكّةَ.
هـ - الاغتسالُ للوقوفِ بعرفةَ.
و - الاغتسالُ من غسلِ الميّتِ.
ز - الاغتسالُ من الإغماءِ.
ح - الاغتسالُ للدخول في الإسلام.
5) فروضُ الغسل:
فروضُ الغسلِ هي:
أ - النّيّةُ: وهي أن ينويَ رفعَ الحدثِ; سواء كان جنابةً، أو حيضاً، أو نفاساً، أو ينويَ ما أراده من غسلٍ ٍمستحبٍّ.
ب - تعميمُ البَدنِ بالماءِ، ويشملُ إيصالَ الماءِ إلى ظاهرِ البدنِ وباطنِه; كالفمِ، والأنفِ، والسُّرَّةِ، وما تحت الذقن، والإبطين، وما بين الأليتين، وباطن الركبة... إلخ.
ج - تخليلُ الشّعرِ; لإيصالِ الماءِ إلى أصولِهِ.
د - نقضُ المرأةِ شعرَها في غسلِ الحيضِ والنّفاسِ، لا في غسلِ الجنابةِ.
6) سننُ الغُسلِ:
سننُ الغسلِ هي:
أ - التّسميةُ: وهي قولُ: "بسم الله".
ب - غسلُ الكفّينِ ثلاثاً.
ج - البدايةُ بإزالةِ الأَذى، مع دلكِ يدِه وغسلِها.
د - الوضوءُ.
هـ - صبُّ الماءِ على الرّأسِ ثلاثاً.
و - التّيامنُ في غسلِ رأسِه، وسائرِ جسدِهِ.
ز - التّدليكُ بإمرارِ اليدِ على سائرِ الجسدِ.
ح - غسلُ الرّجلينِ بمكانٍ آخرَ إن كان بمكان الغسل شيء يَعْلُقُ بهما.
ط - الاقتصادُ في الماءِ، وعدمُ الإسرافِ فيهِ.
ي - الذكرُ والدُّعاءُ في آخرِ الغسل; كالوضوءِ.
7) صفُ الغُسلِ:
للغسلِ صفتان: صفةُ كمالٍ، وصفةُ إجزاءٍ.
ًأولا: صفةُ الغسلِ الكاملِ: وهو المشتمل على الفرائضِ والسُّننِ.
- أن ينويَ الغسلَ بقلبِه.
- ثم يسمِّيَ، ويغسلَ يديْهِ ثلاثاً.
- ثمّ يغسلَ فرجَه بشمالِه، ويغسلَها بالماءِ والصّابونِ; ليزيلَ ما بها من أَذىً.
- ثمّ يتوضّأَ وُضوءاً كاملاً، مع غسلِ رجلَيْهِ، وأحياناً يؤخّرُ غسلَ الرِّجلينِ إلى آخرِ الغُِسل.
- ثمّ يصُبَّ على رأسِه ثلاثَ حفناتٍ بيديهِ; يبدأ بشقِّ رأسِه الأيمنِ، ثمّ الأيسرِ، ثمّ الأوسطِ، ويخلّل شعرَه حتّى يُروِّيَ أصولَهُ بالماءِ.
- ثمّ يعمّ بدنَه بالغسلِ مرّةً واحدةً، ويستحبُّ أن يتيامنَ، وأن يدلكَ بدنَه بيديْهِ; ليصل اُلماء إليهِ.
- ثمّ يأتي بالأذكارِ الواردةِ فيِ الوضوءِ.
ثانياً: صفةُ الغسلِ المجزِئ: وهو: أن ينويَ، ويعُمَّ بالماءِ جمِيعَ بدنِهِ، مع المضمضة والاستنشاقِ.
8) ما يحرُمُ على المحدثِ حدثاً أكبرَ:
يحرمُ عليه ما يلي:
أ - الصلاةُ.
ب - الطوافُ بالكعبةِ.
ج - المكثُ في المسجدِ.
د - مسُّ المصحفِ الشَّريفِ.
هـ - قراءةُ القرآنِ الكريمِ.
ثامناً: أحكامُ التيمُّمِ:
1) تعريفُ التيمُّمِ:
مسحُ الوجهِ واليدينِ بترابٍ طَهورٍ على وجهٍ مخصوصٍ; سيأتي بيانُه.
2) حكمُ التيمُّمِ:
من أرادَ أن يتوضّأَ للصّلاةِ أو غيرِها، ولم يجدْ ماءً أو عجز عن استعماله; شرُِعُ له التيمُّمُ، وهو رخصةٌ من الله عز وجل لعبادِه; قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [المائدة: 6].
وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير» [رواه أبو داود والترّمذيُّ].
فالتيمُّمُ بالترّابِ ونحوِهِ رافعٌ للحدثِ - الأصغرِ والأكبرِ - كالماءِ إلى زوالِ العذرِ الّذي من أجلِه تيمّمَ، أو وجودِ الماءِ; فإذا زالَ العذرُ، أو وُجد الماءُ َبطل تيمُّمُه.
3) من يشرعُ له التيمُّم؟
أ - عادمُ الماءِ; إمّا لفقدِه، أو لبعدِه، ولا يمكنه الوصولُ إليه.
ب - الخائفُ من استعمالِ الماءِ لمرضٍ في الجسمِ، أو شدّةِ بردٍ.
ج - من كان معه ماءٌ يحتاجُهُ لشربِه – أو شربِ غيرِه - وخافَ العطشَ.
وإذا لم يجدْ من الماءِ ما يكفيهِ في وضوئِه أو غسلهِ; فإنّه يتوضّأُ بما وجَد، أو يغتسلُ إن كان عليه جنابةٌ، ثم يتيمُّم للأعضاءِ الّتي لم يصلْ إليها الماءُ.
4) فروضُ التيمُّمِ:
فروضُ التيمُّمِ هي:
أ - النيّةُ; فينوي بتيمّمه رفعَ الحدثِ عنه.
ب - مسحُ الوجهِ.
ج - مسحُ الكفّينِ إلى الرّسغينِ (الرّسغُ: هو مفصلُ اليدِ).
د - الموالاةُ بين مسحِ الوجهِ واليدينِ.
5) سننُ التّممُّمِ:
سننُ التّممُّمِ هي:
أ - التسميةُ، وهي قولُ: «بسم الله».
ب - الترتيبُ بين مسحِ الوجهِ واليدينِ.
ج - تخليلُ الأصابعِ.
د - نفخُ أو نفضُ اليدين إذا علِق بهما شيءٌ من الأرضِ.
6) صفةُ التّممُّمِ:
أن ينويَ، ثمّ يُسمِّيَ، ويضربَ الأرضَ بكفّيهِ ضربةً واحدةً، ثمّ يمسحَ بهما وجهَهُ، ويمسحَ الكفَّيْنِ بعضهما ببعضٍ من أطرافِ الأصابعِ إلى مفصلِ الكفِّ.
7) مبطلاتُ التّممُّمِ:
يبطلُ التيمُّمُ بأحدِ ِأمرين:
الأوُّل: وجودُ الماءِ، أو زوالُ العذرِ الّذي من أجلِه شُرِع التَّيمّمُ.
الثّاني: وجودُ ناقضٍ من نواقضِ الوضوءِ، أو نواقضِ الغسلِ السّابقةِ; لأنّ التّيمّمَ بدلٌ عن الوُضوءِ والغُسلِ، وناقضُ الأصلِ ناقضٌ لبدلِه.
وإذا فقد المسلمُ الماءَ أو عجز عن استعمالِهِ فتيمّمَ وصلَّى، ثمّ وجد الماءَ أو قدِر على استعمالِه بعد الفراغِ من الصلاةِ; فإنّه لا يُعيدُ الصّلاةَ، ولو كان الوقتُ باقياً.
أما إذا وَجَدَ الماءَ، أو قَدِرَ على استعماله في أثناء الصلاة; بطلت صلاته، ووجبَ عليه التطهر بالماء.
8) حكمُ الطَّهورين (الماء والتّراب):
إذا لم يجدِ المسلمُ الماءَ ولا التُّرابَ، ولم يستطعِ الحصولَ عليهما، أو وجدَهما ولكنْ عجَز عن استعمالهِما; فإنّه يُصلِّي على حسبِ حالِه; كالمربوطِ الّذي لا يستطيعُ الوضوءَ ولا التّيمَُّم.
أحكام الصلاة
أولاً: تعريف الصلاة:
الصلاة:عبادة ذات أقوال وأفعال مخصوصة، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم. ويأتي تفصيل ذلك فيما يلي إن شاء الله تعالى.
ثانياً: حكم الصلاة:
الصلاة أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وأظهر شعائره، وهي عمود الإسلام; كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد فرضها الله تعالى على نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فوق سبع سموات، وهذا يدلُّ على علوِّ منزلتها ومكانتها عند الله عز وجل ويدلك ذلك على أهميتها في حياة المسلم، ولذا جاء الأمر بالمحافظة عليها; فقال الله تعالى: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ [البقرة: 238].
ثالثاً: فضل الصلاة:
بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم فضل الصلاة وعِظم أجرها في كثير من أحاديثه; منها:
قوله صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمسُ، والجُمعة إلى الجُمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر» [رواه مسلم]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أرأيتم لو أنَّ نهرًا ببابِ أحدِكم يغتسلُ منهُ كل يومٍ خمسَ مراتٍ . هل يَبقى من درنِه شيٌء ؟ قالوا : لا يَبقى من درنِه شيٌء . قال فذلك مثلُ الصلواتِ الخمسِ . يمحو اللهُ بهنَّ الخطايا» [رواه البخاري ومسلم]. والدَّرَنُ: الوسخ.
رابعاً: عدد الصلوات المفروضة ومواقيتها:
عدد الصلوات المفروضة خمس صلوات في اليوم والليلة; هي: الفجر (ركعتان)، الظهر (أربع ركعات), العصر (أربع ركعات), المغرب (ثلاث ركعات), العشاء (أربع ركعات). ولكل صلاة من هذه الصلوات وقت محدد تُؤدَّى فيه; قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103]. يعني: مفروضاً في أوقات محددة.
وهذه المواقيت هي كما يلي:
1) صلاة الظهر: ويبدأ وقتها بزوال الشمس أي: ميلها عن وسط السماء إلى جهة المغرب، ويمتد وقتها إلى أن يصير ظلُّ كل شيء مثله في الطول ثم ينتهي بذلك.
2) صلاة العصر: ويبدأ وقتها من نهاية وقت الظهر، أي: من صيرورة ظلِّ كل شيء مثله، ويمتد إلى غروب الشمس.
3) صلاة المغرب: ويبدأ وقتها من غروب الشمس، ويمتد إلى مغيب الشفق الأحمر.
4) صلاة العشاء: ويبدأ وقتها من مغيب الشفق الأحمر، ويمتد إلى منتصف
الليل. والليل في اللغة والشرع: يبدأ من غروب الشمس وينتهي بطلوع الفجر. ونصف الليل: هو منتصف هذه المدة (وليس الساعة الثانية عشرة كما هو شائع).
5) صلاة الفجر: ويبدأ وقتها من طلوع الفجر الصادق، ويمتد إلى طلوع
الشمس.
فهذه مواقيت الصلوات الخمس التي فرضها الله فيها; فيجب على المسلم أن يتقيّد بها; بحيث لا يُصلِّيها قبل وقتها، ولا يؤخرها عنه; فقد توعد الله تعالى الذين يؤخرونها عن وقتها; فقال جلَّ وعلا: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴾ [الماعون:4-5]. أي: الذين يؤخرون الصلاة عن أوقاتها.
ومَنْ نسيها أو نام عنها فيجب عليه أن يبادر إلى قضائها على الفور; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها» [رواه مسلم].
وليعلم المسلم أن أداء الصلوات في أوقاتها من أحب الأعمال إلى الله وأفضلها، فقد سُئـل النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها» [رواه البخاري ومسلم].
خامساً: على من تجب الصلاة؟
تجب الصلاة على كل مسلم بالغ عاقل، وتجب كذلك على كل مسلمة بالغة عاقلة غير حائض ولا نُفَساء; فلا تجب الصلاة على الكافر، ولا الصغير، ولا المجنون، ولا الحائض ولا النفساء; لقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل» [رواه أبوداود].
ولحديث معاذة العدوية قالت: «سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة» [رواه مسلم].
ولكن يُؤْمر بها الأولاد إذا بلغوا سبع سنين; ليتعوَّدوا عليها، ويُضربون على تركها إذا بلغوا عشر سنين; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع» [رواه أبو داود].
سادساً: شروط صحة الصلاة:
يشترط للصلاة - حتى تكون صحيحة - عدة شروط هي:
1) الإسلام: فلا تصح الصلاة من الكافر.
2) العقل: فلا تصح الصلاة من المجنون، ولا السكران.
3) الطهارة من الحدثين (الأصغر والأكبر); فلا تصح الصلاة من غير متطهر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تُقبل صلاة بغير طهور» [رواه مسلم]. والحدث الأصغر: هو الذي يجب منه الوضوء كالبول أو الغائط. والأكبر: هو الذي يجب منه الغسل كخروج ِالمنيِّ.
4) دخول وقت الصلاة: لقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: 103]. فلا تصح الصلاة قبل دخول وقتها.
5) ستر العورة مع القدرة بشيء لا يصف البشرة: لقول الله تعالى: ﴿ يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ [الأعراف: 31]. أي: عند كل صلاة. وعورة الرجل البالغ ما بين السرّة والركبة. والمرأة كلها عورة إلا وجهها وكفيها.
6) اجتناب النجاسة مع القدرة: وذلك بأن يبتعد عنها المصلِّي، ويخلو منها تماماً في بدنه وثوبه والمكان الذي يقف عليه للصلاة.
7) استقبال القبلة - وهي الكعبة المشرَّفة - مع القدرة: لقوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ [البقرة: 144].
8) النية: وذلك بأن ينوي بقلبه أنه يصلي الظهر مثلاً أو العصر أو المغرب... وهكذا; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» [رواه البخاري ومسلم]. ولا يُشرع التلفظ بها; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتلفظ بها.
9) تمييز الصبيّ: فتصح الصلاة من الصبي دون البلوغ إذا كان مميِّزاً.
والمميِّز: هو مَنْ بلغ سبع سنوات، أو يستطيع أن يُميِّز بين العادة والعبادة.
سابعاً: أركان الصلاة:
والمراد بها: الأقوال والأفعال التي تتكوَّن منها الصلاة، وهي أربعة ركناً لابد من الإتيان بها جميعاً، وإلا لم تصح الصلاة حتى لو تركها المصلي سهواً أو جهلاً.
وهذه الأركان هي:
1) أن يصلي قائماً - في صلاة الفريضة - إذا كان قادراً على القيام. أما في صلاة النافلة فلا يلزم فيها القيام.
2) تكبيرة الإحرام: وهي أن يقول في أوَّل الصلاة: الله أكبر. ولا يجزئه غيرها.
3) قراءة الفاتحة.
4) الركوع.
5) الرفع من الركوع والاعتدال قائماً.
6) السجود: ويكون على سبعة أعضاء هي: الجبهة مع الأنف، واليدان، والركبتان، والقدمان.
7) الرفع من السجود.
8) الجلوس بين السجدتين.
9) الطمأنينة والسكون في أداء هذه الأركان.
10، 11) التشهد الأخير والجلوس له: وذلك بأن يقول في آخر الصلاة قبل وهو جالس: (التَّحِيَّاتُ للهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلامُ عَلىَ النَّبِيِّ وَرَحمَْةُ الله وَبَرَكَاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلىَ عِبَادِ اللهِ الصَّالحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إلهََِ إِلا الله وَأَشْهَدُ أَنَّ محَُمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُه).
12) الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: وذلك بأن يقول بعد التشهد الأخير: (اللهمّ صلِّ على محمد). والأفضل أن يأتي بالصيغة الكاملة وهي: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلىَ محَُمَّدٍ وَعَلىَ آلِ محََُّمدٍ، كَماَ صَلَّيْتَ عَلىَ إِبْرَاهِيمَ وَعَلىَ آلِ إِبْرَاهِيمَ، ٍإِنَّكَ حمَِيدٌ مجَِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلىَ محَُمَّدٍ وَعَلىَ آلِ محَُمَّد، كَماَ بَارَكْتَ عَلىَ إِبْرَاهِيمَ وَعَلىَ آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حمَِيدٌ مجَِيد).
13) التسليم: وهو أن يقول مرتين - بعد الانتهاء من التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: (السلام عليكم ورحمة الله).
14) أن يأتي بهذه الأركان مُرتَّبة على هذا النحو الذي ذُكر. وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى في صفة الصلاة.
ثامناً: سنن الصلاة:
وهي مجموعة الأقوال والأفعال التي يستحب للمصلي أن يأتي بها في صلاته، فإذا أتى بها أُثيب عليها وكانت زيادة في أجره، وإن لم يأت بها فلا شيء عليه وصلاته صحيحة.
وهذه السنن نوعان: سنن أفعال، وسنن أقوال، فأما سنن الأفعال فهي:
1) رفع اليدين إلى الكتفين أو إلى الأذنين; عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع وعند الرفع منه، وعند القيام إلى الركعة الثالثة.
2) وضع كف اليد اليمنى على كف اليد اليسرى، أو على ذراعه اليسرى، ووضعهما على صدره في حال القيام.
3) النظر إلى موضع سجوده.
4) وضع اليدين على الركبتين في الركوع.
5) مد ظهره في الركوع معتدلاً، وجَعْلُ رأسه حياله; فلا يخفضه ولا يرفعه.
6) تمكينُ أعضاءِ السُّجودِ من الأرضِ.
7) مجُافاةُ عضُديْهِ عن جنْبَيْه في السجود: وذلك بأن يباعد عضديه عن جنبيه، وكذا يباعد بطنه عن فَخِذيه، وفخِذَيْه عن ساقيهِ.
8) الافتراشُ عند الجلوس بين السَّجدتين وفي التَّشهدِ الأولِ: وذلك بأن يفرش رجله اليسرى، ويجلس عليها، وينصب اليمنى، ويضع يديه على فخذيه.
9) التَّورُّكُ في التشهد الأخير: وذلك بأن يجعل مقعدته على الأرض، ورجله اليسرى تحت فخذه وساقه الأيمن، وينصب رجله اليمنى.
وأما سنن الأقوال فهي:
1) دُعاءُ الاستفتاحِ: وذلك بأن يدعو سرَّاً بعد تكبيرة الإحرام وقبل قراءة
الفاتحة بأحد الأدعية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بها في هذا الموطن, ومنها: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك).
2) قول (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) قبل قراءة الفاتحة.
3) البسملة بعد التعوّذ وقبل قراءة الفاتحة.
4) قولُ: (آمين) بعد الانتهاء من الفاتحة.
5) قراءةُ سورة أو ما تيسَّر من القرآن بعد الفاتحة; وذلك في صلاة الفجر، والركعة الأولى والثانية من بقية الصلوات الخمس.
6) الجهر بالقراءة في ركعتي الفجر، والركعة الأولى والثانية من صلاة المغرب والعشاء، والإسرار بالقراءة فيما عدا ذلك من الركعات.
7) التَّكبير عند الانتقال من هيئة إلى هيئة أخرى في الصلاة; فيكبِّر عند الركوع، وعند السجود، وعند الرفع منه، وعند القيام إلى الركعة التي تليها... وهكذا. أما تكبيرة الإحرام; وهي التي تكون في أول الصلاة; فهي ركن - كما سبق-.
8) قول: (سبحان ربي العظيم) ثلاث مرات أو أكثر في الركوع.
9) قول: (سمع الله لمن حمده) - سواء كان إماماً أو منفرداً -; وذلك عند الرفع من الركوع.
10) قول: (ربنا ولك الحمد) - سواء كان إماماً أو مأموماً أو منفرداً -; وذلك بعد قول: (سمع الله لمن حمده). ويستحب له أن يزيد عليه فيقول: (مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُماَ وَمِلَْء مَا شِئْتَ مِنْ شيءٍ بَعْدُ)، أو يزيد غيرها مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
11) قول: (سبحان ربي الأعلى) ثلاث مرات أو أكثر في السجود.
12) قول: (رب اغفر لي، رب اغفر لي) بين السجدتين.
13) الدعاء بعد التشهد الأخير وقبل السلام، والتعوذُ من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدَّجال.
تاسعاً: صفة الصلاة:
بعد أن بيَّنا أركان الصلاة وسننها القولية والفعلية يجدر بنا أن نذكر صفة الصلاة كاملة مشتملة على تلك الأركان والسنن حسبما وردت بها النصوص من صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم; لتكون قدوة للمسلم في صلاته; عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم «صلوا كما رأيتموني أصلي» [رواه البخاري ومسلم]، وإليك سياق ذلك.
- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة استقبل القبلة، ورفع يديه إلى كتفيه أو إلى أذنيه، واستقبل ببطون أصابعهما القبلة، وقال: الله أكبر.
- ثم يضع كف يـده اليمنى على كف يده اليسرى أو ذراعـه الأيسر، ويضعهما على صدره.
- ثم يدعو بدعاء الاستفتاح (وقد مرَّ في السنن القولية).
- ثم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.
- ثم يقرأ فاتحة الكتاب، فإذا ختمها قال: آمين.
- ثم يقرأ بعد ذلك سورةً (طويلة تارة، وقصيرة تارة، ومتوسطة تارة) -كما وردت به السُّنَّة -، وكان يطيل قراءة الفجر أكثر من سائر الصلوات، وكان يجهر بالقراءة في صلاة الفجر والركعة الأولى والثانية من صلاة المغرب والعشاء, ويُسرُّ القراءة فيما سوى ذلك، وكان يُطيل الركعة الأولى من كل صلاة أكثر من الثانية.
- ثم يرفع يديه كما رفعهما عند تكبيرة الإحرام، ثم يقول: الله أكبر، ويخرُّ راكعاً، ويضع يديه على ركبتيه مفرجتي الأصابع، ويُمَكِّنُهما، ويَمُدُّ ظهره، ويجعل رأسه حياله، لا يرفعه ولا يخفضه، ويقول: (سبحان ربي العظيم) ثلاث مرات.
- ًثم يرفع رأسه قائلا: (سمع الله لمن حمده)، ويرفع يديه كما رفعهما عند الركوع.
- فإذا اعتدل قائماً قال: ربنا ولك الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد. وكان يطيل هذا الاعتدال.
- ثم يكبر دون أن يرفع يديه، ويخرُّ ساجداً; فيسجد على جبهته وأنفه ويديه وركبتيه وأطراف قدميه، ويستقبل بأصابع يديه ورجليه القبلة، ويعتدل في سجوده، ويُمَكِّن جبهته وأنفه من الأرض، ويعتمد على كفيه، ويرفع مرفقيه عن الأرض، ويجافي عضديه عن جنبيه، ويرفع بطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، ويقول في سجوده: (سبحان ربي الأعلى) ثلاث مرات.
- ًثم يرفع رأسه قائلاً: (الله أكبر)، ثم يفرش رجله اليسرى، ويجلس عليها, وينصب اليمنى، ويضع يديه على فخذيه، ثم يقول: (ربِّ اغفر لي، ربِّ اغفر لي)، أو يقول: (اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وعافني وارزقني).
- ثم يكبر ويسجد، ويصنع في السجدة الثانية كما صنع في السجدة الأولى.
- ثم يرفع رأسه مُكبرِّاً، ويقعد على رجله اليسرى معتدلاً; حتى يرجع كل عَظْم إلى موضعه، ثم ينهض معتمداً على يديه إلى الركعة الثانية.
- فإذا استتم قائماً; أخذ في القراءة، ويصلي الركعة الثانية كالأولى.
- ثم يجلس للتشهد الأوَّل مفترشاً كما يجلس بين السجدتين، ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، ويضع إبهام يده اليمنى على أصبعه الوسطى، أو يحلق بهما كهيئة الحلقة، ويشير بأصبعه السبابة, وينظر إليها، ويقول: التحيات لله، والصلوات والطيبات... إلى آخر التشهّد.
- ثم ينهض مكبراً، فيصلي الركعة الثالثة والرابعة، ويخَُففهما عن الأولى والثانية، ويقرأ فيهما بفاتحة الكتاب.
- ثم يجلس للتشهُّد الأخير مُتَوَرِّكاً; وذلك بأن يجعل مقعدته على الأرض ورجله اليسرى تحت فخذه وساقه الأيمن، وينصب رجله اليمنى.
- ثم يتشهد التشهد الأخير، وهو التشهد الأول نفسه ويزيد عليه: (اٍللَّهُمَّ صَلِّ عَلىَ محَُمَّدٍ وَعَلىَ آلِ محَُمَّد، كَماَ صَلَّيْتَ عَلىَ إِبْرَاهِيمَ وَعَلىَ آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حمَِيدٌ مجَِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلىَ محَُمَّدٍ وَعَلى آلِ محَُمَّدٍ، كَماَ بَارَكْتَ عَلىَ إِبْرَاهِيمَ وَعَلىَ آلِ إِبْرَاهَِيم، إِنَّكَ حمَِيدٌ مجَِيد).
- ثم يستعيذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، ويدعو بما أحبَّ من خير الدنيا والآخرة.
- ثم يُسلِّم عن يمينه فيقول: السلام عليكم ورحمة الله. وعن يساره كذلك.
أذكار دُبر الصلاة:
- فإذا سلَّم قال: أستغفر الله (ثلاثاً)، اللهم أنت السلام، ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام. ثم يقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون).
- ثم يسبح الله ثلاثاً وثلاثين مرة (يقول: سبحان الله،) ويحمد الله ثلاثاً وثلاثين مرة (يقول: الحمد لله), ويكبر الله ثلاثاً وثلاثين مرة (يقول: الله أكبر)؛ فهذه تسعة وتسعون، ثم يقول تمام المائة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير).
عاشراً: مبطلات الصلاة:
تبطل الصلاة ويجب على المصلي أن يعيدها إذا فعل أمراً من الأمور التالية:
1) تركُ شرطٍ من شروط الصلاة السابقة، من غير عذر.
2) ترك ركنٍ من أركانها; سواء تركه عمداً، أم سهواً. وسيأتي بيان ذلك في سجود السهو.
3) الأكلُ أو الشربُ عمدًا.
4) الكلامُ عمدًا.
5) الضَّحِكُ.
6) العمل الكثير والحركة الكثيرة من غير أعمال الصلاة.
7) تعمُّد زيادةِ ركنٍ فِعْليٍّ في الصلاة; كزيادة ركوع أو سجود ونحو ذلك.
الحادي عشر: سجود السهو:
ينبغي على المصلي أن يصلي بخشوع وخضوع وإقبال على الله عز وجل وتَدبُّر لما يقرؤه من القرآن في صلاته، فالخشوع روح الصلاة ولذَّتهُا، والصلاة بلا خشوع كالجسد بلا روح، وقد أثنى الله على الخاشعين في صلاتهم; فقال جل وعلا: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ [المؤمنون:1-2].
ومع ذلك فالإنسان في صلاته مُعَرَّض للسهو والنسيان والذهول، لاسيما مع حرص الشيطان على أن يُشوِّش عليه صلاته بالوسوسة، وتذكيره بأمور الدنيا وإشغاله بها; فيترتب على ذلك أحياناً زيادة في الصلاة، أو نقص فيها، أو شك هل زاد أو نقص؟
لذلك شرع الله عز وجل للمصلي إذا حدث له شيء من ذلك في الصلاة أن يسجد في آخر صلاته سجدتين كسجدتي الصلاة; إرغاماً للشيطان، وجبراً للنقصان، وإرضاءً للرحمن، وهذا السجود هو ما يسميه العلماء بسجود السهو. وفيما يلي توضيح لأحكامه:
سجود السهو يكون عند أمور ثلاثة: الزيادة في الصلاة، النقص منها، الشك في الزيادة أو النقصان:
- فإذا زاد المصلي في صلاته فعلاً من أفعال الصلاة; كأن يزيد ركوعاً أو سجوداً أو قياماً أو قعوداً; فيجب عليه أن يسجد للسهو. فإذا علم بالزيادة وهو في الصلاة وجب عليه أن يتركها ويكمل صلاته ويسجد للسهو.
- أما إذا نقص من الصلاة سهواً; بأن ترك منها شيئاً; فإن كان هذا المتروك ركنا، وكان هذا الركن هو تكبيرة الإحرام، لم تنعقد صلاته، ولا يغني عنه سجود السهو; فعليه أن يكبر تكبيرة الإحرام ويدخل في الصلاة من جديد.
- وإن كان المتروك ركناً غير تكبيرة الإحرام، كركوع أو سجود.
فإن ذَكَرَ هذا المتروك قبل أن يبدأ في قراءة ركعة أخرى; فحينئذٍ يجب عليه أن يعود فيأتي بهذا المتروك وبما بعده ويُكْمل صلاته ويسجد للسهو.
وإن ذكره بعد أن بدأ في قراءة ركعة أخرى، بطلت الركعة التي تركه منها، وحينئذٍ يجعل الركعة التي تليها مكانها، ويكمل صلاته ويسجد للسهو.
- وإن لم يعلم بالرُّكن المتروك إلا بعد السلام; فإنه يعده كَترَْكِ ركعة كاملة فإذا ذكره بعد الصلاة مباشرةً، أو بعدها بمدة يسيرة، وهو باق على طهارته، أتى بركعة كاملة، ويسجد للسهو، ويُسلِّم، وإن ذكره بعد مدة طويلة، أو انتقض وضوؤه، أعاد الصلاة من جديد.
- وإن كان المتروك هو التشهد الأول; فعليه أن يسجد للسهو. وفي هذه الحالة إن تذكَّر أنه نسيه قبل أن يستتمَّ قائماً إلى الركعة الثالثة; فحينئذٍ يلزمه الرجوع للإتيان به، فإذا استتم قائماً; كُره رجوعه، فإن رجع لم تبطل صلاته. أمّا إذا بدأ في قراءة الركعة الثالثة; فحينئذٍ يحرم عليه الرجوع.
- وأما إذا شكَّ في صلاته: هل صلىَّ ركعتين أو ثلاثاً ? أو هل صلَّى ثلاثاً أو أربعاً ? ونحو ذلك... فإذا لم يترجّح له أحد الاحتمالين; فحينئذٍ يأخذ بالأقل ويكمل صلاته بناءً عليه، ويسجد سجدتين للسهو. أما إذا غلب على ظنه وترجح له أحد الاحتمالين; فحينئذٍ يعمل به، ويكمل صلاته بناءً عليه، ويسجد أيضاً سجدتين للسهو.
تنبيه: يجزئه أن يسجد للسهو قبل السلام أو بعده.
أحكام الجنائز
اقتضت حكمة الله تعالى في هذه الدنيا أن الإنسان مهما عاش وطال عمره فإن مصيره إلى الزوال والانتهاء; فيقبض الله روحه, ويُوارَى جثمانه التراب ليجد نفسه - في يوم لا يعلم ميعاده إلا الله - واقفاً بين يدي رب العالمين للحساب، فلا يجد أمامه إلا ما قدَّم.
إنه الموت الذي ما إن يسمعه الإنسان إلا ويرتج له قلبه، ويقشعر منه جلده، خوفاً من أن يأتيه بغتة وهو لم ُيعدَّ لذلك عُدَّته، ولم يعمل له حساباً.
ولذا فإن من أعظم البلاء أن ينسى الإنسان ذكر الموت، ويتشاغل عنه باللهث والجري وراء ملذات الدنيا وشهواتها، جاء جبريل عليه السلام يوماً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا محمد! عِشْ ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقة، واعمل ما شئت فإنك مجزي به» [رواه الطبراني في "الأوسط", والحاكم].
َتذكَّر أخي المسلم هذه الساعة العظيمة، وأن كل إنسان ستأتيه ساعته لا محالة، قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ [آل عمران: 185]. فماذا أعددت للقاء ربك حين يسألك عن عمرك فيم أفنيته? وعن شَبابكَ فيم أبليته? وعن عِلمكَ ماذا عملت فيه? وعن مَالكَ من أين اكتسبته وفيم أنفقته? فهل أعددت لمثل هذا اليوم جواباً؟!
لا تظن أن مالك سينجيك، أو أن جاهك وسلطانك َسيَحمِيانِك من الموت، ففي تلك اللحظة يستوي من مات وقد ترك وراءه أموالاً وجاهاً مع من مات ولم يخلّف درهماً ولا ديناراً، وفي تلك الساعة يستوي من مات وحيداً مع من مات وقد أحاط به الأطباء والأهل والأصحاب.
فينبغي على المسلم أن يستعد دوماً لقدوم هذه اللحظة العظيمة; بالإكثار من الأعمال الصالحات، واجتناب فعل المحرمات، وأن يجعل من هذه الدنيا محطة للعبور إلى الآخرة; فيتزود منها ما يوصله إلى رضوان الله ورحمته ومغفرته وجنته.
أولاً: حال المسلم عند المرض والاحتضار:
1) إنَّ وقوع المرض بالإنسان أمرٌ قدَّره الله عليه وكتبه عليه; ابتلاءً واختباراً، فعلى المسلم أن يرضى بقضاء الله، ويصبر على قدره، ويحسن الظن بربه; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمرِ المؤمنِ ، إنَّ أمرَه كلَّهُ له خيرٌ ، و ليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمنِ ، إن أصابتْهُ سرَّاءُ شكر فكان خيرًا لهُ، و إن أصابتْهُ ضرَّاءُ صبرَ فكان خيرًا له» [رواه مسلم]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى» [رواه مسلم].
2) لا يجوز للمسلم إذا اشتد به المرض أو عظم به البلاء أن يتمنى الموت، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يَتمنَّينَّ أحدُكمُ الموتَ مِن ضُرٍّ أصابَهُ، فإن كانَ لا بدَّ فاعِلًا ، فليقُلْ اللَّهُمَّ أحيِني ما كانتِ الحياةُ خَيرًا لي ، وتوفَّني إذا كانتِ الوفاةُ خَيرًا لي» [رواه البخاري ومسلم].
3) من أحسَّ بقُرب أَجَلِهِ وله شيءٌ يريد أن يُوصيَِ به أو عليه حق لغيره، فعليه أن يكتب وصيته; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين، وله شيء يريد أن يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه» [رواه البخاري ومسلم].
4) إذا حضر المريضَ الموتُ وبلغَ لحظةَ الاحتضارِ; فعلى من حَضرَهُ من أهلهِ أن ِيذكِّره بالشَّهادَةِ، ويُلَقِّنهُ (لا إلا الله) حتى تكون آخر كلامه من الدنيا إذا فارقها; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لقِّنوا موتاكم لا إلهَ إلَّا اللهُ فإنَّه مَن كان آخرُ كلمتِه لا إلهَ إلَّا اللهُ عندَ الموتِ دخَل الجنَّةَ يومًا مِن الدَّهرِ وإنْ أصابه قبْلَ ذلك ما أصابه» [رواه ابن حبان].
5) إذا فاضت الرُّوحُ وتَيقَّن أهلُ المحتضر نزول الموت به أغلقوا عينيه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على أبي سلمة وقد شَخَصَ بَصرُهُ، أَغْمَضه ثم قال: «إن الروح إذا قُبض تبعه البصرُ» [رواه مسلم].
6) على من حضر الميت بعد خروج روحه أن يدعو له; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَدْعوا على أنفسِكم إلَّا بخيرٍ فإنَّ الملائكةَ يُؤمِّنُونَ على ما تقولونَ ) ثمَّ قال : اللَّهمَّ اغفِرْ لأبي سلَمةَ وارفَعْ درجتَه في المهديِّين واخلُفْه في عقِبِه في الغابِرينَ واغفِرْ له ولنا يا ربَّ العالَمينَ اللَّهمَّ وافسَحْ له في قبرِه ونوِّرْ له فيه » [رواه مسلم].
7) على أهل الميت إغلاق فَمِه، وتغطية جَسدِه بشيء يستره، حتى لا يكون عرضة للناظرين. فإن كان الميت محُْرِماً بحجٍّ أو عُمرةٍ، فلا يُغطَّى رأسُهُ ووجُهُه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي وَقَصَتْهُ ناقتُه: «اغسلواه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» [رواه البخاري ومسلم].
8) على أهل الميت المبادرة والإسراع في قضاء دين الميت إن كان عليه دين
من ماله الذي تركه وقبل قسمة التركة، فإن لم يكن له مال جاز أن يتطوع أحد لقضائه.
ثانياً: تغسيل الميت:
تغسيل الميت فرض من فروض الكفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، فيجب على أهل الميت المبادرة إلى غسله وتكفينه وتجهيزه.
وينبغي في غسل الميت مراعاة الأحكام الآتية:
1) أن يتقدَّم لغسله رجلٌ مسلمٌ عارفٌ بأحكام الغسل، ويكون ثقةً أميناً، ليستر ما يراه في جسد الميت من مكروه; كظُلمة في وجهه، أو آثار عيب في جسده، ونحو ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من غسل مسلماً فتم عليه، غفر الله له أربعين مرة» [رواه الطبراني في "الكبير"، والحاكم، والبيهقي].
- أولى الناس بتغسيل الرجل الميت من أوصى له الميت بذلك، ثم أبو الميت، ثم ابنه، ثم الأقرب فالأقرب.
- فإن كان الميت أنثى، كان أولى الناس بتغسيلها وصيَّتها، ثم أمها، ثم ابنتها، ثم الأقرب فالأقرب من النساء.
- يجوز لكلا الزوجين أن يغسل أحدهما الآخر; لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك» [رواه أحمد وابن ماجه والنسائي في "الكبرى"]. وغسَّلت أسماءُ بنت عُميسٍ زوجَها أبا بكر الصدِّيق [رواه مالك].
- يجوز للمرأة والرجل تغسيل الميت الذي له أقل من سبع سنوات ذكراً كان أو أنثى.
- إذا كان الميت رجلاً بين نساء أجنبيات، أو امرأة بين رجال أجانب ولم يوجد من يغسله من جنسه أو محارمه، فإنه يُيَمَّمُ; فيضرب المُيَمِّمُ له التراب بيديه، ثم يمسح بهما وجهه وكفيه.
2) يجرد الميت عند غسله من ثيابه، ويوضع عليه ما يستر عورته، ويجعل في مكان يستره عن أعين الناس.
3) يستحب للمغسِّلِ أن يُلَيَّن مفاصل الميت إن سهل عليه ذلك, وإلا ترك ذلك إذا خشي أن تنكسر أعضاؤه.
4) يرفع المُغَسِّلُ رأسَ الميتِ حتى يصل إلى هيئةٍ قريبةٍ من الجلوس، ويَعْصِرُ بطنه برفق ليخرج ما به من الفضلات.
5) يقوم المغسِّل بغَسل عَورَةِ الميت; فيلف على يده خرقة أو يلبس قفازاً يدْلِكُ به العَورة، من غير أن يلمسها بيده مباشرة، أو ينظر إليها.
6) بعد غَسل عَورَةِ الميت، يُسمِّي الغاسل ويوضِّئُ الميتَ كوضوء الصلاة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن غسّل ابنته زينب: «ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها» [رواه البخاري ومسلم]، ويجتنب إدخال الماء إلى أنف الميت وفمه، ولكن يلف أصبعه بخرقة مبلولة ينظف بها أسنانه ومنخريه.
7) يجعل المغسل في الماء شيئاً من السِّدْرِ - شيئاً من المنظفات – لغسل الميت، فيبدأ بغسل رأسه ولحيته ثلاث مرات.
8) ثم يقوم بغسل جسد الميت بدءاً بالجنب الأيمن; فيجعل الميت على شقه الأيسر، ويغسل جنبه الأيمن من الأمام والخلف، ثم يجعل على شقه الأيمن، ويغسل الجنب الأيسر من الأمام والخلف.
9) يستحب أن يعيد المغسل غسل جسد الميت ثلاثاً، وله أن يزيد عن ثلاث إذا احتاج إلى ذلك، ولو بلغ سبع مرات أو أكثر; لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن غسَّل ابنته: «اغسلها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً، أو أكثر من ذلك إذا رأيتن ذلك» [رواه البخاري ومسلم].
10) إذا خرج شيء من القَذَرِ من الميت بعد الغسل، فينظف الموضع الذي خرج منه القذر، ثم يحُشى بقطن، ثم يُوضَّأ الميتُ كوضوء الصلاة. أما إذا خرج شيء بعد تكفينه، فلا يعاد غسله.
11) يُسنُّ للغاسل أن يجعلَ في الغَسلة الأخيرةِ كافوراً أو شيئاً من الطِّيبِ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن غسَّل ابنته: «اجعلن في الغسلة الأخيرة كافوراً، أو شيئاً من كافور» [رواه البخاري ومسلم]. والكافور: طيب بارد تطرد رائحته الحشرات.
أما إذا كان الميت مُحْرِماً، فلا يُطيَّبُ لا في جسده ولا في كفنه.
12) إذا كان الميت رَجلاً فلا يستحبُّ تسريحُ شعره، أو تقليمُ أظفاره، أو حلقُ عانته، أو نتفُ إبطه، أما المرأة فيُجعل شَعرُها بعد الانتهاء من الغسل ثلاث ضَفائر، ويجعل وراء ظهرها.
13) السِّقْطُ - وهو الجنين الذي يسقط من بطن أمه قبل تمامه - إذا لم يبلغ أربعة أشهر ولم يَتبيَّن خَلقُه، فإنه لا يُغسَّل ولا يُصلَّى عليه - كما سيأتي -وإنما يُلَفُّ في خِرْقَةٍ ويُدْفَنُ، فإذا بلغ أربعة أشهر أو أكثر فإنه يُغَسَّلُ ويُصلَّى عليه; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «والسقط يُصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة» [رواه أحمد وأبو داود].
14) يستحب لمن غسَّل الميت أن يغتسل، وليس ذلك بواجب; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من غسل ميتاً فليغتسل» [رواه الترمذي وابن ماجه]، وقول ابن عمر رضي الله عنهما: «كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل، ومنا من لا يغتسل» [رواه الدارقطني].
ثالثاً: تكفين الميت:
بعد تغسيل الميت وتجفيف بدنه يجب تكفينه بما يستر جميع بدنه، ويكون التكفين على النحو الآتي:
1) يكفن الرجل في ثلاث لفائف بيضاء مُطيَّبة توضع فوق بعضها البعض، ويجعل بينها طيباً خاصاً بالموتى يسمى (الحنوط).
أما المرأة فتكفن في خمسة أثواب: إزار يغطي أسفل البدن، وخمار يغطي الرأس، وقميص، ولفافتان لجميع الجسد.
2) يوضع الميت فوق اللفائف الثلاث مستلقياً على ظهره.
3) يوضع قطن مُطيَّب بين إِليتي (مؤخرة) الميت حتى لا تخرج منه رائحة كريهة، ويوضع الطيب على بقية جسده ومواضع السجود منه.
4) يوضع طرف اللفافة الأولى على شقه الأيمن، ثم طرفها الآخر على شقه الأيسر، وتسحب الخرقة التي كانت تغطي عورته، ثم يفعل باللفافة الثانية مثل الأولى، ثم الثالثة مثل ذلك.
أما المرأة فيجعل عليها الإزار أولاً، ثم القميص فوقه، ثم يوضع الخمار على رأسها ورقبتها، ثم تلف باللفافتين كالرجل.
5) تعقد أطراف اللفائف من جهة الرأس ومن جهة القدمين حتى لا تتفرق، ويربط بقية الكفن الذي يغطي جسد الميت بشريط يثبت أطرافه.
رابعاً: الصلاة على الميت:
بعد الانتهاء من تكفين الميت، يجب على من حضره من المسلمين أن يُصلُّوا
عليه، وصفة صلاة الجنازة هي:
1) يوضع الميت على الأرض إلى جهة القبلة.
2) يسن للإمام أن يقف عند رأس الميت إذا كان رجلاً، وعند وسطه إذا كان الميت امرأة، و يكون رأس الميت عن يمين الإمام.
3) يَصطفُّ المصلون خَلفَ الإمام، ويجوز عند ضِ يق المكان أن يقفوا عن يمين الإمام ويساره، ويستحب أن يقف المصلون خلف الإمام ثلاثة صفوف.
4) يكبرّ الإمام أربع تكبيرات وهو قائم، يرفع يديه مع كل تكبيرة، ويكبر المصلون خلفه.
- يقرأ الإمام والمأموم بعد التكبيرة الأولى سورة الفاتحة بعد الاستعاذة والبسملة.
- بعد التكبيرة الثانية يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلىَ محَُمَّدٍ وَعَلىَ آلِ محََُّمدٍ، كَماَ صَلَّيْتَ عَلىَ إِبْرَاهِيمَ وَعَلىَ آلِ إِبْرَاهِيمَ، ٍإِنَّكَ حمَِيدٌ مجَِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلىَ محَُمَّدٍ وَعَلىَ آلِ محَُمَّد، كَماَ بَارَكْتَ عَلىَ إِبْرَاهِيمَ وَعَلىَ آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حمَِيدٌ مجَِيد».
- بعد التكبيرة الثالثة يدعون للميت: «اللَّهُمَّ اغفِرْ لحَيِّنا ومَيّتِنا، وصَغيرِنا وكبيرِنا، وذَكرِنا وأُنْثانا، وشاهِدِنا وغائِبِنا، اللَّهُمَّ من أحيَيتَهُ منَّا فأحيهِ علَى الإيمانِ، ومن تَوَفَّيتَهُ منَّا فَتَوَفَّهُ علَى الإسلامِ ، اللَّهُمَّ لا تَحرِمنا أجرَهُ ولا تُضِلَّنا بعدَهُ» [رواه مسلم].
- ثم يكبِّر التكبيرة الرابعة ولا يدعو بعدها، ثم يسلِّم عن يمينه وعن يساره، ويجوز أن يسلِّم تسليمة واحدة، ويسلم المأموم وراءه.
5) إذا فات المأمومَ بعضُ تكبيرات صلاة الجنازة مع الإمام، فعليه متابعة الإمام فيما أدرك من التكبير، ثم بعد التكبيرة الرابعة يتم ما فاته منها، ويأتي بما فاته من الذكر بعدها، ثم يُسلِّم إذا أمكنه ذلك قبل رفع الجنازة، وإلا أتى بما فاته من التكبير متوالياً من غير ذكرٍ بينها، ويسلّم مع الإمام، ولا شيء عليه.
6) من فاتته الصلاة على الميت مع الإمام، جاز له أن يصلي على القبر، فيجعل القبر بينه وبين القبلة، ويصلي عليه على النحو المذكور سابقاً.
خامساً: حمل الجنازة ودفنها:
حمل الميت ودفنه من فروض الكفاية; إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين; ذلك أن دفن الميت فيه تكريم له من أن يكون عُرْضَةً للسِّباعِ والطيورِ، وفيه تكريم للحيِّ من أن يتعرض للأذى بسبب نتن ورائحة الأموات بعد التحلل والتعفن.
وعلى المسلم عند حمل الجنازة أن يراعي الأمور الآتية:
1) يوضع الميت بعد تجهيزه وتكفينه في نَعْشٍ أو محَْمَلٍ ليَسْهُلَ حمَْلُهُ، ويحُمَلُ
النَّعش من جهاته الأربع على الأكتاف، ويجوز حمل الجنازة على السيارة إذا كانت المقبرة بعيدة، أو كان الجو ماطراً، أو غير ذلك من الأعذار التي يشق معها حمل الجنازة على الأكتاف.
2) من السنة الإسراع في المشي عند حمل الجنازة; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخيرٌ تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشرٌ تضعونه عن رقابكم» [رواه البخاري ومسلم].
3) لا يشرع أثناء حمل الجنازة رفع الصوت بالذِّكر أو تلاوة القرآن، ولا يجوز اتباعها بما يخالف الشريعة من رفع الصوت بالبكاء، أو اتباعها بالبخور أو النار، لأن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى أن تُتبع جنازة معها رانَّة –أي: صوت» [رواه ابن ماجه]، وقد أوصى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه حين حضره الموت فقال: «لا تتبعوني بمجمر، قالوا له: أسمعت فيه شيئاً؟ قال: نعم، من رسول الله صلى الله عليه وسلم» [رواه ابن ماجه].
فإن كان وقت الدفن ليلاً، جاز لهم حمل ما يضيء لهم الطريق أثناء حمل الجنازة ودفنها.
4) يكره للنساء اتباع الجنازة; لقول أم عطية رضي الله عنها: «نُهينا عن اتباع الجنائز، ولم يُعزم علينا» [رواه البخاري ومسلم].
أما عند الدفن، فينبغي مراعاة الأمور الآتية:
1) أن لا يدفن الميت في أوقات النهي الثلاثة، إلا لضرورة; لورود النهي من النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهذه الأوقات هي:
أ - من شروق الشمس حتى ترتفع قليلاً بنحو ربع ساعة.
ب - عندما تكون الشمس وسط السماء حتى تتحرك إلى جهة الغرب; وهو قبل أذان الظهر بعشر دقائق.
ج - إذا مالت الشمس إلى الغروب حتى تغرب.
وذلك لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: « ثلاثُ ساعاتٍ كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نُصلِّيَ فيهنَّ . أو أن نَقبرَ فيهن موتانا : حين تطلعُ الشمسُ بازغةً حتى ترتفعَ . وحين يقومُ قائمُ الظهيرةِ حتى تميلَ الشمسُ . وحين تيَضيَّفُ - أي تميل- الشمسُ للغروبِ حتى تغربَ» [رواه مسلم].
2) يدفن المسلم في مقابر المسلمين، ولا يجوز دفنه في مقابر غير المسلمين.
3) يجعل القبر عميقاً واسعاً; ليُؤْمَنَ على الميت من وصول السباع إليه أو خروج رائحته، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «احفروا وأوسعوا وأعمقوا» ] رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه].
4) يجُعل في القبر لحَْدٌ يوضع فيه الميت، وهو أفضل من الشَّقِّ; إذا كانت تربة القبر صلبة لا ينهال ترابها، فإن كانت رخوة تنهار، فالشق أفضل.
واللَّحْدُ: حفرة تكون في أسفل جدار القبر من جهة القبلة بحيث تتسع لإدخال الميت.
أما الشَّقُّ: فهو حفرة في وسط القبر طولاً، بحيث يكون القبر كالحوض، ويُبنى جانباه من اللَّبِن (الطوب من الطين) ونحوه; يوضع فيه الميت، ويسقف عليه بأحجار بحيث لا تلامس الميت.
5) أولى الناس بإدخال الميت إلى قبره: من أوصى له بذلك، ثم الأقرب فالأقرب من أهله.
6) من السُّنة إدخال الميت إلى القبر من عند رجلي القبر، فإن لم يتيسر أدخل من جهة القبلة.
7) يقول الذي يدخل الميت إلى القبر: «بسم الله، وعلى ملة رسول الله».
8) يجعل الميت في القبر على جنبه الأيمن، مستقبلاً بوجهه القبلة، ويكون رأسه يمين القبلة، ورجلاه يسار القبلة، ويسند من خلف ظهره بتراب; لكي لا ينقلب على ظهره. ولا يوضع تحت رأسه شيء.
9) بعد وضع الميت في القبر، تحل عقد الكفن من عند رأسه ورجليه، ولا يكشف عن وجهه، إلا إذا كان محرماً – كما سبق-.
10) بعد وضع الميت في اللَّحد، يُنْصَبُ اللَّبِنُ صفاً مرصوصاً على فتحة اللحد، ويُسدُّ ما بين اللَّبِن من شقوق وفتحات بالطين; حتى لا يصل التراب إلى الميت.
11) يهُال التراب على القبر، ويُسن أن يُرفع عن مستوى القبر مقدار شِبرٍْ، ليُعلم أنه قبر فيُصان ولا يهان، ويكون مُسَنَّماً على هيئة سنام البعير، ثم توضع عليه الحصباء (الحصى الصغير), ثم ترش الحصباء بالماء.
12) يوضع عند رأس القبر حَجَرٌ، ليُعرفَ ويتميَّز عن غيره.
13) يحرم وضع الجِصِّ (الجِبْس), أو البناء على القبر، أو الجلوس عليه، أو وطؤه بالأقدام; لأن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى أن يُجصص القبر، وأن يُقعد عليه، وأن يُبنى عليه» [رواه مسلم].
14) يستحب لمن حضر دفن الميت أن يقف بعد الفراغ منه عند القبر زمناً
يدعو للميت بالمغفرة ويسأل الله له التثبيت; لأن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يُسأل» [رواه أبو داود والحاكم والبيهقي].
سادساً: التعزية:
يقصد من التعزية تصبير أهل الميت ومواساتهم والتخفيف عنهم بسبب ما أصابهم من مكروه وحزن وكرب بفقد هم.
وينبغي عند التعزية مراعاة الأمور الآتية:
1) أن يستعمل في تعزيته الألفاظَ التي تُصبِّر المصابَ وتُسلِّيه، وتحَمِله على الرضىَ والثقة بالله تعالى; كأن يقول: «أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك»; ومن ذلك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في تعزيته لابنته: «إن لله ما أخذ، ولله ما أعطى، وكل شيء عنده إلى أجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب» [رواه البخاري ومسلم].
2) ليس للتعزية عددٌ محدَّدٌ من الأيام; فيجوز للمسلم أن يُعزِّي أخاه المسلم ولو بعد ثلاثة أيام; لأن الغرض من التعزية تخفيف المصيبة، وتسلية المصاب حتى يزول عنه الحزن، والنبي صلى الله عليه وسلم عزَّى آل جعفر بعد ثلاثة أيام [رواه أحمد].
3) يُسنُّ لأقرباء أهل الميت، أو جيرانهم أن يصنعوا لأهل الميت طعاماً يشبعهم; لأن المصيبة التي حلَّت بهم تشغلهم عن ذلك; وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم» [رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه].
أحكام الزكاة
أولاً: تعريف الزكاة:
الزكاة هي: القَدْرُ الواجبُ إخراجُه لمُستحقِّيه من المال الذي بَلغَ نِصاباً بشروط مخصوصةٍ; سيأتي بيانها.
ثانياً: حكم الزكاة:
الزكاة فريضة من فرائض الإسلام, وركن من أركانه الخمسة, وهي أهم ركن بعد الصلاة; قال تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [البقرة: 43]، وقال سبحانه: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ [التوبة:103].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان» [رواه البخاري ومسلم].
فالزكاة واجبة على كل مسلم, ذَكَرٍ أو أُنثَى, صَغيرٍ أو كَبيرٍ, بِشروطٍ مَعيَّنةٍ، ولا يصحُّ إسلامٌ ممن أنكرَ وجوبهَا.
ثالثاً: الحكمة من مشروعية الزكاة:
شرعَ اللهُ تعالى الزكاة وأوجبها لحِكَمٍ عظيمةٍ; منها:
1) تطهير النفس البشرية من خُلُق البُخل والطَّمع, وتعويدُ ها على البَذْل والإنفاق في سبيل الله.
2) تنميةُ المالِ وتطهيرُه, وإحلالُ البركة فيه.
3) مُواساةُ الفقراءِ, وسَدُّ حاجاتِ المُعْوِزينَ والمَحرومينَ.
4) إقامةُ المصالح العامة التي تتوقَّف عليها حياة الأمة وسعادتها.
5) الحدُّ من تضخُّم الأموال عند الأغنياء والتُّجَّار; حتى لا تحُصرَ الأموال في يد طائفة محدَّدة من المجتمع.
رابعاً: شروط وجوب الزكاة:
تجب الزكاة إذا توفرت الشروط الآتية:
1) الإسلام: فلا تجب الزكاة على غير المسلم; لأنها عبادة يتقرب بها المسلم إلى الله، قال تعالى: ﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ ﴾ [التوبة:54]
2) الحريَّة: فلا تجب الزكاة على العبد; لأن ما يملكه العبد مِلكٌ لسيِّده.
3) المِلكُ التام المستقرُّ للمال: الزائد عن الحاجات الضرورية التي لا غنى للإنسان عنها; كالطعام واللباس والسكن.
4) أن يمرُّ على المال سنةٌ هجريةٌ كاملةً: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» [رواه ابن ماجه]. وهذا الشرط خاص ببهيمة الأنعام, والأثمان، وعروض التجارة. أما الزروع والثمار والمعادن والرِّكاز, فلا يشترط لها الحول، وإنما تجب زكاتها عند حصادها أو استخراجها; لقوله تعالى: ﴿ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ [الأنعام:141].
5) أن يبلغ المالُ نِصاباً: وهو أن يبلغ المال قدراً معيناً؛ بحيث لو نقص عنه لم تجب فيه الزكاة, وسيأتي بيان هذه الأنصبة.
خامساً: الأموال التي تجب فيها الزكاة وأنصبتها:
الأموال التي تجب فيها الزكاة أربعة, هي:
الأثمان (النَّقدان), وبهيمة الأنعام, والخارج من الأرض, وعروض التجارة.
1) الأثمان (النَّقدان):
وهي الذهب والفضة والأوراق المالية (النقود). فتجب فيها الزكاة إذا بلغت النصاب على النحو التالي:
- نصاب الذهب: وهو ما يعادل (85 غراماً) من الذهب الخالص، فإذا بلغ هذا القدر من الوزن أو أكثر; فزكاته ربع العشر(2.5%).
- نصاب الفضة: وهو ما يعادل (595 غراماً) من الفضة, فإذا بلغ هذا القدر من الوزن أو أكثر; فزكاته ربع العشر (2.5%) أيضاً.
- أما الأوراق المالية (النقود,) فإنها تقدّر وتقوّم على أساس ما يعادل قيمة الذهب أو الفضة, مع مراعاة الأحظ منهما للفقير, وفيها ربع العشر (2.5%)) أيضاً.
* زكاة الحلي:
الحُليُِّ: هو ما يتخذه الإنسان من ذهب أو فضة للاستعمال المباح في الزينة.
- والحُليُّ المعدُّ للاستعمال في الزينة المباحة -كالذهب الذي تستعمله المرأة - لا تجب فيه الزكاة إذا كان في حدود ما يتحلى به, فإن زاد عن حدود ذلك وجبت زكاته إذا بلغ الزائد نصاباً.
- وتجب الزكاة أيضاً في الحُليِّ إذا قصد به مالكه الادِّخار والاسترباح.
2) بهيمة الأنعام:
وبهيمة الأنعام هي الإبل والبقر والغنم, ولا تجب فيها الزكاة إلا بشروط:
أ - أن تتخذ للدَّرِّ (الحَلْبِ) والنَّسْلِ, ولا تكون عاملة في حرث الأرض، أو نقل المتاع, أو حمل الأثقال.
ب - أن ترعى السنة كلها أو أكثرها في المراعي التي ينبت فيها الزرع بفعل
الله تعالى دون أن يزرعه أحد.
ج - أن تبلغ نصاباً; فنصاب الإبل خمس, ونصاب البقر ثلاثون, ونصاب الغنم أربعون; فلا تجب الزكاة في أقل من هذا المقدار من بهيمة الأنعام.
د- أن يمر على ملكه النصاب سنة هجرية كاملة.
المقدار الواجب إخراجه في زكاة الإبل:
لا تجب الزكاة في الإبل إلا إذا بلغت خمساً; فإذا بلغت خمساً فأكثر فزكاتها على النحو الآتي:
العدد | المقدار الواجب | |
من | إلى | |
5 | 9 | شاة من الضأن لها سنة, أو ماعزٌ لها سنتان |
10 | 14 | شاتان |
15 | 19 | ثلاث شياه |
20 | 24 | أربع شياه |
25 | 35 | بنت مخاض (ما تم لها سنة من الإبل) |
36 | 45 | بنت لبون (ما تم لها سنتان من الإبل) |
46 | 60 | حِقَّة (ما تم لها ثلاث سنين من الإبل) |
61 | 75 | جَذَعَة (ما تم لها أربع سنين من الإبل) |
76 | 90 | بنتا لبون |
91 | 120 | حقتان |
121 | 129 | ثلاث بنات لبون |
130 | 139 | حقة وبنتا لبون |
140 | 149 | حقتان وبنت لبون |
150 | 159 | ثلاث حقاق |
160 | 169 | أربع بنات لبون |
- إذا زادت الإبل على مائة وعشرين; ففي كل أربعين: بنت لبون, وفي كل خمسين: حِقَّة.
* المقدار الواجب إخراجه في زكاة البقرة:
لا تجب الزكاة في البقر إلا إذا بلغت ثلاثين بقرة; فإذا بلغت ثلاثين فأكثر ففيها الزكاة على النحو الآتي:
العدد | المقدار الواجب | |
من | إلى | |
30 | 39 | تََبيعٌ (ما تم له سنة واحدة من البقر) |
40 | 59 | مُسِنَّة (ما تم لها سنتان من البقر) |
60 | 69 | تبيعان |
70 | 79 | تبيع ومسنة |
80 | 89 | مسنتان |
90 | 99 | ثلاثة أتبعة |
100 | 109 | تبيعان ومسنة |
110 | 119 | تبيع ومسنتان |
120 | 129 | أربعة أتبعة أو ثلاث مسنات |
- إذا زاد البقر عن تسع وسبعين, ففي كل ثلاثين تَبيعٌ, وفي كل أربعين مُسِنَّة.
* المقدار الواجب إخراجه في زكاة الغنم:
لا تجب الزكاة في الغنم إلا إذا بلغت أربعين شاة; فإذا بلغت أربعين فأكثر ففيها الزكاة على النحو الآتي:
العدد | المقدار الواجب | |
من | إلى | |
40 | 120 | ماعز لها سنة, أو شاة لها ستة أشهر |
121 | 200 | شاتان |
201 | 399 | ثلاث شياه |
400 | 499 | أربع شياه |
500 | 599 | خمس شياه |
600 | 699 | ست شياه |
700 | 799 | سبع شياه |
-إذا بلغت الغنم أربعمائة; ففي كل مائة شاة.
- إذا كانت بهيمة الأنعام معدَّة للتجارة; فتزكى زكاة عروض التجار، ويخرج من قيمتها ربع العشر (2.5%).
3) الخارج من الأرض:
تجب الزكاة في الحبوب كلها, وفي كل ثمر يكال ويدخر; كالتمر والزبيب.
ولا تجب فيها الزكاة إلا إذا بلغت النصاب, وهو ثلاثمائة صاع نبوي; أي ما يعادل (624) كجم تقريباً; فإذا بلغت النصاب فأكثر, فتجب فيها الزكاة على النحو الآتي:
أ - إذا كان الزرع أو الثمر يسقى بماء المطر ولا كلفة في سقيه, ففيه العشر (10%).
ب - إذا كان الزرع أو الثمر يسقى بكلفة ومؤونة; كمياه الآبار; ففيه نصف العشر (5%).
ج - إذا كان الزرع أو الثمر يسقى تارة بكلفة ومؤونة, وتارة بغير كلفة ومؤونة; ففيه ثلاثة أرباع العشر (7.5%).
- لا تجب الزكاة في الزروع والثمار إلا إذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر.
- لا زكاة في الخضروات والفواكه, إلا إذا أُعدَّت للتجارة; فيُزكَّى من قيمتها ربع العشر (2.5%).
- تجب الزكاة في الرِّكاز; وهو ما وجد في الأرض من دفن الجاهلية ذهباً أو فضةً أو غيرهما مما عليه علامة الكفر; فيجب فيه الخمس (20%) مهما بلغ قدره، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وفي الركاز الخُمس» [رواه البخاري ومسلم]، أما الباقي وهو أربعة أخماسه, فهو ملك لمن وجده.
4) عروض التجارة:
وهي ما أُعِدَّ للبيع والشراء بقصد الرِّبح; سواء كان عقاراً, أو حيواناً، أو طعاماً, أو آلات, أو أسهماً, أو سندات, ونحو ذلك.
- تجب الزكاة في عروض التجارة إذا بلغت قيمتها – بعد خصم الديون والمصاريف - نصاباً, وحال عليها الحول, فتُقوَّم بالأحظ للفقراء من قيمة الذهب أو الفضة, ويخرج منها ربع العشر (2.5%).
- تجب الزكاة في عروض التجارة; سواء ظهر ربح أو خسارة; ما دام المال المتبقي يبلغ نصاباً.
- العبرة في قيمة العروض هو قيمتها في السوق عند تمام الحول, لا قيمة التكلفة التي اشتريت بها.
- يجوز إخراج الزكاة من عين السِّلعة التجارية التي لدى التاجر, إذا كان الفقير محتاجاً إليها.
سادساً: إخراج الزكاة:
إذا تحققت الشروط السابقة, وجب على المسلم إخراج زكاته, ودفعها إلى من يستحقها وفق الأحكام الآتية:
1) وقت إخراج الزكاة:
- يجب إخراج الزكاة على الفور عند حلول وقتها; وهو انتهاء الحول، ولا يجوز تأخيرها إلا لحاجة; كانتظار قريب أو جار.
- يجوز تعجيل إخراج الزكاة إذا كان المال المُزكَّى قد بلغ النصاب; لمدّة لا تزيد عن عامين; لحديث عليٍّ رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم تعجل من العباس صدقة سنتين» [رواه أبو داود والترمذي].
2) مصاريف الزكاة:
الأصناف الذين يجوز صرف الزكاة إليهم ثمانية; حددهم الله تعالى في قوله: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة:60].
وإليك تفصيل ذلك:
أ - الفقراء: وهم الذين ليس عندهم ما يسد حاجتهم وحاجة عيالهم, بألا يجدوا شيئاً, أو يجدوا أقل من نصف الكفاية; فيعطوا من الزكاة ما يكفيهم سنة كاملة.
ب - المساكين: وهم الذين يجدون نصف كفايتهم أو أكثر من النصف، كمن معه مائة ويحتاج إلى مائتين; فيعطى من الزكاة ما يكفيه سنة كاملة.
ج - العاملون عليها: وهم الذين يُعيِّنهم وليُّ الأمر لتحصيل الزكاة وحفظها وتفريقها على مستحقيها; فيُعطون من الزكاة ما يكفيهم مدة ذهابهم وإيابهم ولو كانوا أغنياء.
د - المؤلفة قلوبهم: وهم الذين يُرجى إسلامهم, أو كفُّ شرِّهم, أو تثبيتهم على الإيمان.
هـ - الرِّقاب: وهم الرَّ قيق الذين يُشترونَ من مال الزكاة ويُعتقون, أو يكونون مُكاتَبينَ فيُعطَون من الزكاة ما يَشترون به أنفسَهُم من أسيادهم.
و - الغارمون: وهم الذين تغرَّموا وتحمَّلوا دُيوناً في غير معصية الله, وليس عندهم وفاؤها; سواء كان دينهم لأنفسهم, أو لغيرهم; كإصلاح ذات البين.
ز - سبيل الله: وهم الغزاة المتطوِّعون الذين يجاهدون في سبيل الله والدعوة إلى الله.
ح - ابن السبيل: وهو المسافر المنقطع عن بلده, وليس معه ما يوصله إلى بلده, ولم يجد من يقرضه.
- لا يشترط على المزكِّي استيعاب الأصناف الثمانية عند تفريق الزكاة ويجزئ دفعها لأي صنف من الأصناف الثمانية.
3) من لا يجوز إعطاؤهم من الزكاة:
لا يجوز صرف الزكاة إلى أي من الأصناف التالية:
أ - الأغنياء والأقوياء المكتسبون; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب» [رواه أحمد وأبو داود والنسائي].
ويُستثنى من ذلك: العاملون على الزكاة, والغارمون إذا كانوا أغنياء, والقادر على الكسب إذا كان متفرغاً لطلب العلم الشرعي, وليس له مال ينفق منه.
ب - من تجب نفقتهم على المزكِّي; كالآباء والأمهات, والأجداد والجدات، والأولاد, وأولاد الأولاد; فهؤلاء لا يعطون من الزكاة; لأن نفقتهم وإعالتهم واجبة على المزكي.
ج - الكفار غير المؤلَّفين; فلا يجوز دفع الزكاة إليهم; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «تؤخذ من أغنيائهم وتُرد في فقرائهم» ] رواه البخاري ومسلم]. أي: أغنياء المسلمين وفقراؤهم دون غيرهم.
د - آل النبي صلى الله عليه وسلم; فلا تحل الزكاة لهم; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنها لا تحل لآل محمد، إنما هي اوساخ الناس» [رواه مسلم]. وآل النبي صلى الله عليه وسلم: هم كلُّ من انتسب إلى بني هاشم وبني المطلب.
4) نقل الزكاة من بلد إلى آخر:
يجوز نقل الزكاة من البلد الذي وجبت فيه الزكاة إلى بلد آخر قريب أو بعيد إذا دعت الحاجة; كأن يكون البلد البعيد أشد فقراً, أو كان لصاحب الزكاة أقارب فقراء في بلد بعيد.
سابعاً: زكاة الدَّين:
إذا كان للمسلم دينٌ على أحد, وبلغ هذا َالدَّين نصاباً وحال عليه الحول، فلا يخلو حاله من أحد أمرين:
الأول: أن يرجو سَدادَ الدَّين; بأن يكون دَينُه على غَنيٍّ مقرٍّ به; فتجب زكاته على صاحبه, ولكن لا يجب عليه إخراج زكاته إلا بعد قبضه; فإذا قبضه زكاه لكل ما مضى من السِّنين.
الثاني: أن لا يرجو سَدادَ الدَّين; بأن كان دَينُه على مماطلٍ أو فقيرٍ أو مُعسرٍِ، فلا تجب عليه زكاته إلا إذا قبضه; فيضمه إلى سائر ماله, ويزكيه عند مضي السَّنة بعد القبض, فإن لم يكن له مال غيره احتسب له سنةً جديدةً.
أحكام الصيام
أولاً: تعريف الصيام:
الصيامُ: هو الإمساكُ عن الطَّعامِ والشرَّابِ والجِماعِ وسائر المفطرات; من طلوع الفجر إلى غروب الشمس, بنيَّة التعبُّد لله تعالى.
ثانياً: فضل الصيام:
للصيام فضائل جليلة, وفوائد عظيمة تعود على المسلم بخير الدنيا والآخرة، ومن فضائله:
1) الصيام سُترةٌ للصائم من الآثام والنار: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصيام جُنة، فلا يرفث، ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه، فليقل إني صائم، مرتين» [رواه البخاري]. وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصيام جُنة يستجن به العبد من النار» [رواه أحمد].
2) في الجنة باب يقال له "الريان" لا يدخل منه إلا الصائمون: عن سهل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ في الجنَّةِ بابًا يُقالُ له: الرَّيَّانُ يدخُلُ منه الصَّائمونَ يومَ القيامةِ لا يدخُلُ منه أحدٌ غيرُهم يُقالُ: أين الصَّائمونَ؟ فيقومون فيدخُلونَ منه فإذا دخَل آخِرُهم أُغلِق فلم يدخُلْ منه أحدٌ » [رواه البخاري ومسلم].
3) للصائم فرحة عند لقاء ربه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه» [رواه البخاري ومسلم].
4) (الصيام عبادة يجزى عليها المسلم بلا حساب: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل عمل ابن آدم يضاعف؛ الحسنة عشر امثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله –عز وجل-: إلا الصوم فإنه لي وأنا اجزي به» [رواه ومسلم].
5) الصيام سبب لتكفير الذنوب: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر» [رواه مسلم].
6) الصيام يشفع لصاحبه يوم القيامة: عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصيامُ والقرآنُ يشفعانِ للعبدِ يومَ القيامةِ، يقولُ الصيامُ: أيْ ربِّ إنِّي منعتُه الطعامَ و الشهواتِ بالنهارِ فشفعْنِي فيهِ، ويقولُ القرآنُ منعتُهُ النومَ بالليلِ فشفعْنِي فيهِ، قال فيُشَفَّعَانِ» [رواه أحمد].
ثالثاً: حكم صيام شهر رمضان:
فرض الله تعالى صيام شهر رمضان, وجعله ركناً من أركان الإسلام التي لا يُقبل الإسلامُ بدونها; قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة:183].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان» [رواه البخاري ومسلم].
رابعاً: ثبوت شهر رمضان:
يثبت دخول شهر رمضان بأحد أمرين:
1) رؤية هلال شهر رمضان: وهو أن يُرى هلال رمضان ليلة الثلاثين من شعبان, فإذا رُئي فقد دخل شهر رمضان ووجب صيامه; قال تعالى: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185].
2) إكمال عِدَّة شهر شعبان ثلاثين يوماً: وذلك إذا تعذَّر رؤية هلال شهر رمضان; فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمي عليكم الشهر فعُدُّوا ثلاثين» [رواه البخاري ومسلم].
- يكفي في ثبوت رؤية هلال رمضان شهادة عدل من المسلمين.
خامساً: على من يجب صيام رمضان؟
يجب الصيام على: المسلم, البالغ, العاقل, المقيم, المستطيع, السَّالم من الموانع الشرعية.
- فلا يجب الصوم على غير المسلم, ولا الصغير غير المميِّز, ولا المجنون، ولا الحائض ولا النفساء; ولو صاموا لم يصح صومهم, ولم يقبل منهم.
- ولا يجب الصوم على الصبي المميِّز - وهو من بلغ سبع سنين -, ولا المسافر, ولا المريض الذي يشق عليه الصوم أو يتضرر به; فإن صام صح صومه، وأجزأ عنه.
سادساً: أركان الصيام:
للصيام ركنان هما:
1) النِّيَّة: وهي أن يقصد الصائم بصيامه عبادة الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» [رواه البخاري ومسلم].
ونية الصيام في رمضان تكون على صورتين:
أ - نيَّة عامة: وهي أن ينوي صيام شهر رمضان كاملاً عند ثبوته طاعة لله وتقرباً إليه.
ب - نيَّة خاصَّة: وهي أن ينوي كل ليلة صيام اليوم الذي بعدها; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له» [رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه].
2) الإمساك عن جميع المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس: قال تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ﴾ [البقرة: 187].
- يبدأ وقت الإمساك من طلوع الفجر الصادق - الذي يكون عند الأذان الثاني للفجر -, وينتهي الإمساك بتحقق غروب الشمس.
سابعاً: العذار المبيحة للفطر فيرمضان:
يباح الفطر في رمضان لأحد الأعذار الآتية:
1) المرض والشيخوخة: يجوز الفطر في رمضان للمريض الذي يُرجى شفاؤه من المرض; فإذا برئ وجب عليه قضاء الأيام التي أفطرها; قال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184].
- والمرض الذي يرخص معه في الفطر هو المرض الذي يشق على المريض الصيام بسببه; كأن يؤدي الصيام إلى إلحاق الضرر به, أو تأخر شفائه.
- المريض الذي لا يرجى شفاؤه, أو العاجز عن الصيام عجزاً دائماً؛ كالكبير; فإنه يفطر ويطعم عن كل يوم أفطره مسكيناً, ولا يجب عليه قضاء الأيام التي أفطرها; لقوله تعالى: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [البقرة:184]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما؛ فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً» [رواه البخاري].
- مقدار الإطعام لكل مسكين: نصف صاعٍ من قمح, أو تمر, أو أرز أو نحوها من قُوتِ البلد. ومقدار الصَّاع: ملء الكفَّين المتوسطتين أربع مرات، وهو ما يعادل (2.5 كجم) من الأرز, فيكون الإطعام عن كل يوم: (1.25كجم) من الأرز.
2) السفر: يباح للمسافر مسافة قصر الصلاة أن يفطر في رمضان, ويجب عليه القضاء; لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184].
- مسافة القصر التي يباح فيها الترخص بالفطر وقصر الصلاة هي ثمانون كيلومتراً (80كم).
- لا يباح الفطر إذا كان السفر لمعصية, أو أراد به التحايل على الفطر.
- الأفضل للمسافر في نهار رمضان أن يفعل ما هو أيسر له من الصوم، أو الإفطار فيه مع القضاء; فإن صام صح صومه وأجزأه, ولا قضاء عليه; عن أنس –رضي الله عنه- قال: «كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على الفطر، ولا المفطر على الصائم» [رواه البخاري ومسلم]. أما إذا شق عليه الصوم أو أضرَّ به; فالفطر في حقه أفضل; فعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من البر الصوم في السفر» [رواه البخاري ومسلم].
3) الحيض والنفاس: يجب الفطر على المرأة التي يصيبها دم الحيض أو النفاس, ويحرم عليها الصوم; لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم» [رواه البخاري]. ويترتب عليها قضاء الأيام التي أفطرتها; لما ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان يصيبنا ذلك –أي الحيض- فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة» [رواه مسلم].
4) الحمل والرضاع: يباح الفطر للمرأة إذا كانت حاملاً أو مرضعاً، وخافت على نفسها أو على ولدها بسبب الصوم; لحديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن المسافر والحامل والمرضع الصوم أو الصيام» [رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه].
- تقضي الحاملُ أو المرضِعُ مكان كل يوم أفطرته; إذا كان فِطرُها خَوفاً على نفسها.
- إذا خافت الحاملُ أو المرضِعُ على وَلَدِها, فإنها تُطعِمُ مع القَضاء عن كل يوم مسكيناً; لقول ابن عباس رضي الله عنهما : «والحبلى والمرضع إذا خافتا –يعني على أولادهما- أفطرتا وأطعمتا» [رواه أبوداود].
- يباح الفِطْر لأصحاب المِهَنِ والأعمالِ الشَّاقَّة; إذا بَدَؤوا الصيام وشقَّ عليهم, وكانوا بحاجة ماسة إلى مِهنَتِهِم والاستمرار في عَمَلِهم أثناء النهار.
ثامناً: سنن الصيام وآدابه:
يستحب للصائم ما يلي:
1) السُّحُور: وهو الأكل وقت السَّحَر آخر الليل بنيَّة الصوم.
- يتحقق السُّحُور بكثير الطعام وقليله, ولو كان جرعة ماء; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «السحور أكله بركة، فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله عز وجل وملائكته يصلون على المتسحرين» [رواه أحمد].
- ويستحب تأخير السُّحور إلى آخر الليل قبل طلوع الفجر; لحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: «تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة قلت: كم كان قدر ما بينهما؟ قال: خمسين آية» [رواه البخاري ومسلم].
2) تعجيل الفطر: وهو أن يكون عقب تحقق غروب الشمس مباشرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر» [رواه البخاري ومسلم].
3) أن يفطر على رطب، فإن لم يجد فتمر، ويجعله وتراً: ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً; فإن لم يجد فعلى ماء; لحديث أنس رضي الله عنه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات، فإن لم تكن حسا حسوات من ماء» [رواه أبو داود والترمذي].
4) الدعاء عند الإفطار وأثناء الصيام: لقوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ترد دعوتهم الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم» [رواه الترمذي]، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم بعد الإفطار: «ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله» [رواه أبو داود والنسائي في الكبرى].
5) الإكثار من الطاعات والعبادات: كالصدقة, وقراءة القرآن, وتفطير الصائمين; فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن؛ فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة» [رواه البخاري ومسلم].
6) الاجتهاد في قيام الليل وصلاة التراويح: لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» [رواه البخاري ومسلم].
7) أداء العمرة: لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «عمرة في رمضان تعدل حجة» [رواه البخاري ومسلم].
8) حسن الخلق والصبر على الأذى: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم» [رواه البخاري ومسلم].
تاسعاً: مباحات الصيام:
يباح للصائم في نهار رمضان فعل أي من الأمور الآتية:
1) الاغتسال في نهار رمضان: فقد: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصب الماء على رأسه وهو صائم من العطش أو من الحر» [رواه أحمد وأبو داود].
2) تذوق الطعام لحاجة: بشرط أن لا يصل الطعام إلى حلقه .
3) التطيب والتعطر: بشرط أن لا تصل جزيئات المادة المكونة منه إلى الحلق; كما في دخان البخور.
7) أن يطلع الفجر على الصائم وهو جُنب: فقد: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من جماع، ثم يغتسل ويصوم» [رواه البخاري ومسلم]. ومثله الحائض والنفساء إذا طهرت قبل الفجر, صح صيامها, ولو لم تغتسل إلابعد طلوع الفجر.
8) القُبلة لمن قدر على ضبط نفسه ولم تحرك شهوته: لأن عمر رضي الله عنه خشي على صومه حينما قبّل امرأته وهو صائم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أرأيت لو تمضمضمت بماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس بذلك، قال: ففيم؟» [رواه أحمد وأبو داود].
9) المضمضمة والاستنشاق من غير مبالغة.
عاشراً مبطلات الصيام:
يُبطل الصيامَ أحد الأمور التالية:
1) الردة عن الإسلام: لأن الكفر لا تصح معه العبادة, وهو محبط للعمل، قال تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾ [الزمر:65].
2) الأكل أو الشرب عمداً: أما إن أكل أو شرب ناسياً، صح صومه، وعليه الإمساك إذا تذكر; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه» [رواه البخاري ومسلم].
3) إدخال شيء إلى حلقه متعمداً: كالبخور والدخان والسعوط; سواء دخل عن طريق الفم أو الأنف.
- البَخَّاخُ أو الكماَّمُ الذي يستعمله المرضى المصابون بالرَّبو يُعدُّ من المفطِّرات إذا استعمله المريض في نهار رمضان, ويجب عليه قضاء الأيام التي استعمله فيها إن كان استعماله على فترات متقطعة, أما إن كان استعماله مستمراً ولا يستغني عنه فيجب عليه الفدية فقط.
3) إبطال نية الصوم بالعزم على الفطر: فمن نوى الفطر قبل وقت الإفطار وهو صائم, بطل صومه, ولو لم يتناول شيئاً من المفطرات; لأنه أبطل ركناً من أركان الصيام.
4) التردد في نية الفطر: لأن التردد ينافي الجزم في نية الصوم
5) القيء عمداً: وهو إخراج ما في المعدة من طعام أو شراب عن طريق الفم بأي وسيلة; سواء كان القيء كثيراً أو قليلاً.
- إذا غلبه القيء وخرج منه بغير اختياره, صح صيامه; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمداً فليقض» ] رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه].
6) خروج دم الحيض أو النفاس: فإذا رأت المرأة دم الحيض أو النفاس أفطرت, ولو كان خروجه قبل غروب الشمس بلحظة.
7) إنزال المني بتكرار النظر أو الملاعبة أو الاستمناء باليد: لأنه يحصل بها تلذذ; فصار في معنى الجماع.
- أما إذا أنزل الصائم المني لغير شهوة; بسبب مرضٍ أو بَرْدٍ أو احتلامٍ؛ فلا يفسد صومه بالإجماع.
8) الجماع: إذا جامع الصائم متعمداً ذاكراً مختاراً في نهار رمضان فقد أبطل صومه, أنزل أو لم ينزل, ويجب عليه القضاء والكفارة; وهي: عتق رقبة, فإن لم يجد فصيامشهرين متتابعين, فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.
الحادي عشر: مكروهات الصيام:
يكره للصائم كل ما من شأنه أن يؤدي إلى إفساد الصوم, وهو:
1) المبالغة في المضمضمة والاستنشاق: خشية أن يدخل الماء إلى جوفه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً» [رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه].
2) تقبيل الزوجة، أو مداومة النظر إليها، أو مباشرتها فيما دون الفرج: لما يسببه ذلك من تحرك شهوته, أو خروج المني; فيؤدي إلى إفساد الصوم.
3) التفكير فيما يثير الشهوة: لأنه تلذذٌ قد يسبب خروج المن.
4) تذوق الطعام لغير حاجة: لما فيه من تعريض الصوم للفساد بوصول شيء منه إلى حلقه.
5) تأخير الفطر بعد غروب الشمس لغير حاجة: لما فيه من مشابهة اليهود لما يسببه من ضعف أثناء النهار فيؤدي إلى الفطر.
7) الوصال في الصيام: وهو أن يصوم يومين فأكثر ولا يتناول بينهما شيئاً من طعام أو شراب; وهذا مآله إلى الضعف.
8) جمع الريق وابتلاعه، وبلع النخامة التي لم تخرج إلى الفم: لمنافاته الحكمة من الصيام.
9) الحجامة: وهي شق الجلد ومص الدم الخارج منه بالمحكم (القارورة التي يجمع فيها دم الحجامة) وهي مكروهة في حق من كان يضعف بسببها.
الثاني عشر: زكاة الفطر:
شرع الله عز وجل زكاة الفطر في آخر شهر رمضان لتطهير عبادة الصيام مما احتف بها من اللغو والرفث, وجعلها الله تعالى في الوقت نفسه عوناً للمساكين المحتاجين; فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طُعرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين» [رواه أبو داود وابن ماجه].
وإليك أخي المسلم بيان أحكام زكاة الفطر.
1) حكم زكاة الفطر:
زكاة الفطر واجبة على كل مسلم; سواء كان ذكراً أو أنثى, صغيراً أو كبيراً، حرَّاً أو عبداً; فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين» [رواه البخاري ومسلم].
- يجب على المسلم أن يخرج زكاة الفطر عن نفسه, وعمن تلزمه نفقته من زوجة أو قريب.
- يستحب إخراج زكاة الفطر عن الجنين الذي في بطن أمه, إذا نفخت فيه الروح.
2) شروط وجوب زكاة الفطر:
لا تجب زكاة الفطر إلا بشرطين:
أ - الإسلام: فلا تجب على الكافر.
ب - أن يوجد لديه ما يزيد عن قوته وقوت عياله وحوائجه الأصلية في يوم العيد وليلته.
3) مقدار زكاة الفطر وما تُخرج منه:
الواجب في زكاة الفطر عن كل نفس مسلمة صاع نبوي من غالب قوت البلد، كالقمح, أو الشعير, أو التمر, أو الزبيب, أو الأقط (اللبن المجفف), أو الأرز، أو الذرة, ونحو ذلك.
مقدار الصاع: هو أربعة أمداد, والمد: ما يعادل ملء الكفين المتوسطتين، وهو بالموازين المعاصرة ما يعادل نحواً من (2,5 كجم) من الأرز, ويراعى الفرق بما يملأ الصاع فيما هو أثقل أو أخف من الأرز.
4) متى تخرج كاة الفطر؟
تجب زكاة الفطر على كل مسلم أدرك غروب شمس آخر يوم من رمضان; وأفضل وقت يخرجها فيه: من طلوع فجر يوم العيد إلى قبيل أداء صلاة العيد، ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين.
- من أخَّر زكاة الفطر إلى ما بعد صلاة العيد فإن عليه أن يخرجها فوراً إخراجها قبل أن تغرب عليه شمس يوم العيد; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات» [رواه أبو داود وابن ماجه].
- من أخَّر زكاة الفطر متعمداً أثم على تأخيرها, وتبقى ديناً في ذمته يجب عليه قضاءً.
5) مصرف زكاة الفطر:
تصرف زكاة الفطر في الأصناف التي تصرف إليها زكاة المال, إلا أن الأولى صرفها في الفقراء والمساكين; لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين» [رواه أبو داود وابن ماجه]; فبين أن المساكين يعطون هذه الزكاة, والفقراء من باب أولى.
الثالث عشر: صيام التطوع:
شرع الإسلام صيام التطوع; وهو صيامٌ مُستحبٌّ غيرُ واجبٍ, رغَّبَ فيه النبي صلى الله عليه وسلم, وحثَّ الأمَّة عليه; لما فيه من مزيد الأجر وعظيم الفضل, والأيام التي رغب الإسلام بصيامها هي:
1) يوم الاثنين والخميس: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تُعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس؛ فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم» [أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه].
2) ثلاثة أيام من كل شهر: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر» [رواه البخاري ومسلم].
3) يوم عاشوراء: وهو اليوم العاشر من شهر محرَّم; فعن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله» [رواه مسلم].
ويُسنُّ للمسلم أن يجَمع بين صيام اليوم التاسع والعاشر من محُرَّم; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع» [رواه مسلم].
4) يوم عرفة: وهو اليوم التاسع من ذي الحجة; فعن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده» [رواه مسلم].
5) تسع من ذي الحجة: وهي الأيام التسعة الأولى من ذي الحجة; فعن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة...» ] رواه أحمد وأبو داود والنسائي].
6) ستة أيام من شوال: عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر» [رواه مسلم].
7) صيام يوم وإفطار يوم: عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يفطر يوماً ويصوم يوماً» [رواه البخاري ومسلم].
8) أكثر أيام شهر شعبان: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهر أكثر من شعبان، فإنه يصوم شعبان كله، وكان يقول: خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا» [رواه البخاري ومسلم].
9) شهر محرم: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله الحرام» [رواه مسلم].
الرابع عشر: الأيام التي يكره صيامها:
يُكرهُ من الصيام ما يلي:
1) إفراد يوم الجمعة بصوم: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله، أو يصوم بعده» [رواه البخاري ومسلم [.
2) إفراد يوم السبت بصوم: عن الصماء بنت بُسر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فلمضغه»[رواه أحمد وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه].
3) صيام يوم الشك: وهو اليوم الذي يلي التاسع والعشرين من شعبان إذا لم يتبين هلال رمضان, إلا إذا وافق ذلك يوماً اعتاد المسلم صيامه بنية التطوع; فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم» [رواه البخاري ومسلم].
4) صيام الدهر: وهو أن يصوم كل أيام السنة من غير أن يفطر; فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا صام من صام الدهر» [رواه البخاري ومسلم].
5) الوصال في الصيام: وهو أن يصل الصائم بين الأيام من غير أن يفطر بينها; إلا أنه يباح له أن يواصل الصيام إلى وقت السحور; فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تواصلوا؛ فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر. قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله! قال: لست كهيئتكم؛ إني أبيت لي مُطعم يطعمني وساقٍٍ يسقين» [رواه البخاري].
الخامس عشر: الأيام التي يحرم صيامها:
يحرم صيام ما يلي من الأيام:
1) يومي عيد الفطر وعيد الأضحى: فعن عمر رضي الله عنه قال: «هذان يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما؛ يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم» [رواه البخاري ومسلم].
2) أيام التشريق الثلاثة: وهي أيام الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة التي تكون بعد عيد الأضحى; فعن نبيشة الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله» [رواه مسلم].
أحكام الحج والعمرة
الحج ركن من أركان الإسلام الخمسة, وفرض من فرائضه العظام, لا يصح إسلام من أنكر وجوبه; فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا» [رواه مسلم].
وقد قرن الله تعالى بين الحج والعمرة وأمر بأدائهما; فقال سبحانه: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ [البقرة:196]، كما حث النبي صلى الله عليه وسلم على المتابعة بين الحج والعمرة فقال: «تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة» [رواه أحمد والترمذي والنسائي]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» [رواه البخاري ومسلم].
أولاً: تعريف الحج والعمرة:
الحج هو: قصدُ بيتِ اللهِ الحرامِ في أشهر مخصوصة; للطَّواف والسَّعي والوقوف َبعرَفَة, وغيرها من المناسك التي سيأتي بيانها.
أما العمرة فهي: زيارةُ بيتِ اللهِ الحرام للطَّواف والسَّعي.
ثانياً: شروط وجوب الحج والعمرة:
1) الإسلام: فلا يجب الحج على المشرك ولا الكافر ولا المرتد عن الإسلام
قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ﴾ [التوبة:28].
2) العقل: فلا يجب الحج على المجنون; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل» [رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه].
3) البلوغ: فلا يجب الحج على الصغير الذي لم يبلغ, فإن حج صح حجه، وينوي عنه وليه; فعن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لقى ركبا بالروحاء فقال: من القوم؟ قالوا: المسلمون. فقالوا: من أنت؟ قال: رسول الله. فرفعت إليه امرأة صبياً فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر» [رواه مسلم].
إلا أنه لا يجزئه عن حجة الإسلام، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما صبي حج، ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى» [رواه الطبراني وابن خزيمة والحاكم والبيهقي].
4) الاستطاعة: لقوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: 97].
ويقصد بالاستطاعة: القدرة على الزاد وآلة الركوب والنفقة مدة ذهابه ورجوعه, وتكون نفقته زائدة على نفقة عياله ومن تلزمه نفقتهم مدة ذهابه وإيابه.
- ومن الاستطاعة: القدرة البدنية للحاج; بأن يكون بدنه سالماً من الأمراض والعاهات التي تعوق عن الحج; كالشيخ الكبير, أو المصاب بعاهة تمنعه من أن يثبت على راحلته, ويتحمل مشاق السفر.
- ومن الاستطاعة: أن يكون الطريق آمناً; بحيث يأمن فيه على نفسه وماله.
5) وجود المَحْرَم: وهذا الشرط خاص بالمرأة; فيشترط لها إذا أرادت السفر للحج أو العمرة أن يصحبها زوجها أو أحد محارمها - وهو الرجل المأمون البالغ العاقل الذي يحرم عليه تزوج المرأة على التأبيد -; لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسافر المرأة ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم» [رواه البخاري ومسلم].
6) عدم العِدَّة: يشترط في المرأة أيضاً أن لا تكون معتدة عن طلاق أو وفاة مدة إمكان السير إلى الحج; لقوله تعالى: ﴿ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ﴾ [الطلاق:1].
صفة العمرة
إذا أراد المسلم العمرة, فعليه اتباع الأعمال التالية:
1) الذهاب إلى أحد المواقيت المكانية([9]) التي حددها النبي صلى الله عليه وسلم وجعل لكل جهة ميقاتهم الذي يخصهم, وهي خمسة مواقيت:
أ-ذو الحليفة: وهي ميقات أهل المدينة ومن مرَّ بها من غير أهلها, وتسمى الآن "آبار علي".
ب-الجحفة: وهي ميقات أهل الشام ومن جاء من ناحيتها من مصر والمغرب, ويحرم الحاج الآن من "رابغ", وهي قبل الجحفة إلى جهة البحر.
ج-قرن المنازل: وهي ميقات أهل نجد ومن جاء من ناحيتها, وتسمى الآن "السيل الكبير".
د-يلملم: وهي ميقات أهل اليمن وتهامة والهند, وتقع في جنوب مكة، وتسمى الآن "السعدية".
هـ-ذات عرق: وهي ميقات أهل العراق, وسائر أهل المشرق, وتسمى الآن "الضريبة".
فهذه المواقيت لا يجوز لمن قصد مكة وأراد الحج أو العمرة أن يتجاوزها من غير إحرام, سواء كان الذي مر عليها من أهلها, أو من غير أهلها.
- أما من كان مسكنه بعد هذه المواقيت المكانية; كمنطقة قديد أو عُسفان أو مَـرِّ الظهران أو جدَّة, فميقاته هو موضعه الذي يسكن فيه; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ» [رواه البخاري ومسلم].
- ومن كان من أهل مكة فإنه يخرج إلى أدنى الحل; كالتنعيم; فيُحرم منه.
2) إذا وصل المعتمر إلى الميقات تجرد من ثيابه المخيطة, واستُحب له أن يزيل شعر العانة والإبطين (إن لم يكن أزالهما قبل السفر إلى العمرة), ويغتسل, ويتطيب في رأسه ولحيته وبدنه, ولا يضره إذا بقي أثر الطِّيب بعد الإحرام, ولكن يتجنب تطييب ثيابه.
أما المرأة فتغتسل حتى ولو كانت حائضاً أو نفساء, إلا أنها لا تضع الطيب.
3) بعد الانتهاء من الاغتسال والتطيب يلبس ثياب الإحرام: وهي بالنسبة للرجل: إزار يضعه على النصف الأسفل من جسمه, ورداء يضعه على النصف الأعلى من جسمه, ويشترط أن يكونا غير مخيطين, أما المرأة فلها أن تلبس ما تشاء من الثياب غير متبرجة بزينة, وتجتنب تغطية وجهها وكفيها, إلا إذا خشيت الفتنة، فيجوز لها ستر وجهها بغير النقاب ([10]).
4) بعد لبس ملابس الإحرام يستحب للمعتمر أن يصلي في الميقات إن كان وقت صلاة فريضة, وإلا صلى ركعتين ًتطوعا, وأحرم بعدهما.
5) إذا فرغ من الصلاة ركب دابته وأحرم بالعمرة قائلاً: (لبيك عمرة), ثم يلبي ًقائلا: (لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك). ويرفع الرجل صوته بذلك, أما المرأة فتُلبِّي بقَدْرِ ما تُسمِعُ نفسَها. وهنا يكون المسلم قد تلبَّس بالإحرام الذي هو الركن الأول من أركان العمرة.
6) يجوز للمحرم إن كان خائفاً من عائق يعوقه أو مانع يمنعه من إتمام عمرته ونسكه أن يشترط فيقول - بعد التلبية بالعمرة -: "فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني"; فإذا حبسه حابس أو منعه مانع من إتمام النسك؛ جاز له أن يحل من إحرامه ولا شيء عليه.
وينبغي للمحرم أن يكثر من التَّلبية, أثناء سيره إلى مكة ويقطعها إذا ابتدأ بالطواف.
7) إذا وصل المعتمر إلى مكة يسن له الاغتسال قبل دخوله إلى مكة ويتوضأ لأجل الطواف, فإذا دخل المسجد الحرام قدَّم رجله اليمنى, وقال: "بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله, اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم".
8) بعد ذلك يتوجه المعتمر إلى الحجر الأسود فيستلمه بيده اليمنى ويقبِّله، فإن لم يتيسر له تقبيله استلمه وقبَّل يده, فإن لم يتيسر له استلامه, فإنه يستقبل الحجر ويشير إليه بيده, قائلاً: "بسم الله, والله أكبر".
ثم يجعل الحجر الأسود والكعبة عن يساره, ليبتدئ بالطواف سبعة أشواط حول الكعبة, ابتداءً من الحجر الأسود. وهذا الطواف هو الركن الثاني من أركان العمرة.
يبتدئ الشوط في الطواف من الحجر الأسود, وينتهي بالحجر الأسود; يفعل ذلك سبعة أشواط.
9) يُسنُّ للرَّجل المعتمر في ابتداء الطواف أن يضطبع; بأن يكشف عن كتفه الأيمن ويجعل وسط ردائه تحت إبطه الأيمن, وطرفيه على كتفه الأيسر, فإذا فرغ من طواف السبعة أشواط أعاد الرداء إلى حالته قبل الاضطباع.
10) ويسن للرَّجُل المعتمر أيضاً الرَّمَل في الأشواط الثلاثة الأولى; بأن يسرع المشي مع مقاربة الخطوات, ويمشي بقية الأشواط الأربعة كمشيه المعتاد.
11) ينبغي على المعتمر أن يجتنب الطواف داخل الحِجْر, وهو القوس المبني أمام الكعبة من جهة الميزاب; لأنه جزء من الكعبة; فمن مرَّ بينه وبين الكعبة لا يكون قد طاف حول الكعبة.
12) إذا وصل المعتمر في الطواف إلى الركن اليماني, وهو الركن الذي قبل الحجر الأسود, فيُسن له استلامه من غير تقبيل, وإن لم يتمكن بسبب الزحام فيمشي عنه ولا ُيقبِّ له ولا يشير إليه.
13) إذا كان المعتمر في الطواف بين الركن اليماني والحجر الأسود فإنه يقول: ﴿ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة:201].
14) فإذا وصل إلى الحجر الأسود استلمه وقبَّله; بحسب ما يتيسر له، أو يشير إليه بيده, ويقول: "بسم الله والله أكبر", ثم يبدأ بالشوط الثاني ويفعل فيه كما فعل في الشوط الأول، إلى أن ينتهي من الأشواط السبعة.
15) للمعتمر أثناء طوافه أن يذكر الله تعالى ويدعوه بما شاء, وله أن يقرأ القرآن, ويجتنب لغو الحديث, والكلام في أمر الدنيا –قدر الإمكان-.
16) يجب على المعتمر أن يوالي بين أشواط الطواف ولا يفصل بينها بشيء، فإن فصل بينها بشيء وكان الفاصل طويلاً – غير الصلاة -؛ وجب عليه إعادة الطواف من جديد.
وعلى المعتمر أثناء الطواف المحافظة على وضوئه, فإذا انتقض وضوؤه أثناء الطواف وجب عليه أن يتوضأ, فإن كان الزمن الذي احتاجه للوضوء قصيراً أكمل الطواف من حيث انتهى.
17) الحائض والنفساء تجتنبان الطواف حول الكعبة; لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها لما حاضت: «افعلي كما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري» [رواه البخاري ومسلم]. فتؤخِّران الطواف إلى حين حصول الطُّهر.
18) إذا أتم المعتمر أشواطه السبعة توجه إلى مقام إبراهيم: وهو البناء القائم أمام الكعبة; فيقرأ قوله تعالى: ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [البقرة:125]، ثم يصلي ركعتين خلف المقام إن تيسر له, وإلا صلاهما في أي مكان في الحرم, يقرأ في الأولى سورة الفاتحة و﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴾ كاملة, وفي الثانية الفاتحة و ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ كاملة.
19) إذا فرغ من صلاته رجع إلى الحجر الأسود فاستلمه إن تيسر له.
20) بعد ذلك يخرج المعتمر إلى المسعى للسعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط, وهذا هو الركن الثالث من أركان العمرة, فيبتدئ بالصفا; فإذا دنا منه قرأ: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة:158]، ثم يصعد على الصفا فيستقبل الكعبة ويرفع يديه ويكبر الله, ويقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, لا إله إلا الله وحده أنجز وعده, ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده), ويكرر هذا الدعاء ثلاث مرات، ويدعو بما شاء.
21) بعد الانتهاء من الدعاء ينزل من الصفا متوجهاً إلى المروة ماشياً; فإذا بلغ بين العَلَمَين (الخطَّ ين) الأخضرين استُحبَّ له أن يركض ركضاً شديداً بحسب استطاعته، أما المرأة فلا تركض, فإذا بلغ العَلَمَ الثاني عاد إلى مشيه حتى يصل إلى المروة، وهو في أثناء السعي يدعو ويذكر الله ويقرأ القرآن.
22) إذا وصل المعتمر إلى المروة صعد عليه, واستقبل القبلة, وكبرَّ, ورفع يديه بالدعاء, ويقول ما قاله على الصفا, فيكون بذلك قد أتم شوطه الأول.
23) ثم بعد ذلك ينزل عن المروة متوجهاً إلى الصفا, فيمشي في موضع المشي, ويركض إذا بلغ بين العلمين الأخضرين حتى يصل إلى الصفا, فيكون بذلك قد أتم شوطه الثاني, ويفعل ما فعله في الشوط الأول, وهكذا حتى يكمل سبعة أشواط تبتدئ بالصفا وينتهي آخرها عند المروة; بحيث يكون ذهابه من الصفا إلى المروة شوطاً, ورجوعه من المروة إلى الصفا شوطاً.
24) بعد الانتهاء من الأشواط السبعة للسعي بين الصفا والمروة, يحلق المعتمر رأسه إن كان رجلاً أو يُقصِّر بأن يأخذ من جميع أجزاء شعره, أما المرأة فليس لها إلا التقصير; فتأخذ من أطراف شعرها قدر أنملة (2 سم تقريباً).
والحلق للرجال أفضل من التقصير; لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلِّقين ثلاثاً, ودعا للمقصرين واحدة.
وإذا كان وقت الحج قريباً, وكانت عمرته هذه للحج, فيستحب له التقصير حتى يتمكن من الحلق في الحج.
25) بعد الحلق أو التقصير يكون المعتمر قد أتم نسك العمرة وأعمالها، فيتحلل من ملابس الإحرام, ويلبس ملابسه المخيطة, ويتطيب ويفعل كل ما كان محظوراً عليه أثناء الإحرام من الطيب والنساء وإزالة الشعر والأظفار.
صفة أداء الحج
أولاً: أنواع النسك في الحج:
هناك ثلاث طرائق لأداء الحج, وكل طريقة تسمى نسكاً) ([11])، وهي:
أ- الإفـراد: وهو أن ينوي الحاج بإحرامه الحج فقط; بأن يقول عند إحرامه: (لبيك حجَّاً). وهذا النسك لا يسبقه أداء عمرة قبله, ولا يلزم من نواه ذبح الهدي في حجه.
ب- القِـران: وهو أن يجمع الحاج في إحرامه الحج والعمرة معاً بنيَّة واحدة، فيقول عند إحرامه: (لبيك حجَّاً وعمرة); فإذا قدم مكة طاف بالبيت طواف القدوم، ثم إن شاء سعى بين الصفا والمروة ويكفيه هذا عن سعي الحج، وإن شاء أخَّر السعي إلى اليوم العاشر، ثم يبقى على إحرامه إلى حين ينتهي من أعمال الحج كاملة, ويلزمه في آخر حجه ذبح هدي.
ج - التمتع: وهو أن ينوي الحاج بإحرامه العمرة في أشهر الحج, ثم يتحلل منها تحللاً كاملاً, ثم يحرم بعدها بالحج في اليوم الثامن من ذي الحجة; بشرط أن لا يخرج من مكة ويرجع إلى بلده, وإلا انقطع تمتعه, ولزمه أن يؤدي عمرة أخرى.
وأفضل الأنساك الثلاثة: هو التمتع; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو استقبلت من أمري ماستدبرت ما سقت الهدي، ولحللت مع الناس جين حلوا» [رواه البخاري ومسلم].
ثانياً: أعمال الحج في اليوم الثامن من ذي الحجة (يوم التروية) ([12]):
1) إذا دخل اليوم الثامن من ذي الحجة; فإن كان الحاج مفرِداً أو قارناً؛ فهو باقٍ على إحرامه, وإن كان متمتعاً فيُحرم من مكانه الذي هو فيه بعد أن يغتسل ويزيل شعر العانة والإبطين, ويتطيب, ويلبس ملابس الإحرام, ويقول: (لبيك حجاً), فإن كان خائفاً من أن يمنعه عائق من إتمام حجه يشترط ويقول: (وإن حبسني حابس، فمحلي حيث حبستني).
2) ثم يذهب الحاج إلى مِنًى ([13])، وقت الضحى; فيصلي فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء كل صلاة في وقتها, ويصلي الصلاة الرباعية ثنتين (قصراً).
3) يبيت الحاج في مِنًى إلى فجر يوم عرفة, ويكفيه أن يمضي عليه أغلب الليل في منى.
ثالثاً: أعمال الحج في اليوم التاسع من ذي الحجة (يوم عرفة) ([14]):
1) إذا طلعت الشمس في اليوم التاسع, وهو يوم عرفة, سار الحاج من مِنًى إلى عرفة, فينزل َبنمِرَة ويبقى فيها إلى وقت الزوال ([15])، إن تيسر له.
والوقوف بعرفة هو الركن الثاني من أركان الحج بعد الإحرام, وهو الركن الأعظم فيه; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة؛ فمن جاء قبل صلاة الفجر من ليلة جمع ([16])، فقد تم حجه» [رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه]. فمن فاته هذا الركن فقد فاته الحج.
2) بعد الزوال يصلي الحاج الظهر والعصر جمعاً وقصراً جمع تقديم بأذان وإقامتين.
3) بعد الانتهاء من الصلاة يدخل الحاج إلى عرفة ويبقى فيها إلى غروب الشمس, يذكر الله ويتضرع إليه بالدعاء رافعاً يديه مستقبل القبلة، ويكثر من دعاء: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير).
ويجوز للحاج أن يستريح بالنوم, أو الحديث إلى أصحابه بما فيه منفعة, أو قراءة الكتب المفيدة.
4) إذا غربت شمس اليوم التاسع, سار الحاج إلى مزدلفة ([17])، فإذا وصل صلى المغرب والعشاء جمعاً وقصراً, بأذان وإقامتين. ولا يصلي المغرب والعشاء قبل وصوله إلى مزدلفة, إلا إذا خشي خروج وقت صلاة العشاء قبل وصوله بسبب الزحام.
ولا ينبغي للحاج أن ينشغل بجمع حصى الجمرات بمجرد وصوله إلى مزدلفة, بل عليه أن يشتغل بأداء الصلاة, وله أن يجمع الحصى من أي مكان.
5) يبيت الحاج بمزدلفة, ويبقى فيها إلى الفجر, ولا يلزم من المبيت النوم، بل يتحقق المبيت بمجرد البقاءفي مزدلفة.
ويجوزلأهل الأعذار الانصراف من مزدلفة بعد منتصف الليل; ككبار السن، والعجزة والمرضى الذين يشق عليهم الزحام; ويجوز أن ينصرف معهم مرافقوهم. أما من ليس له عذر فيبقى إلى الفجر.
رابعاً: أعمال الحج في اليوم العاشر (يوم النحر):
1) إذا صلى الحاج صلاة الفجر في اليوم العاشر, توجه إلى المَشْعَرِ الحَرام (مسجد مزدلفة), فدعا الله وكبَّر حتى وقت الإسفار; وهو وضوح النهار قبل طلوع الشمس, فإن لم يتَّيسر له الذهاب إلى المَشْعَرِ الحَرام, ذَكَرَ اللهَ ودَعَا في مكانه.
2) إذا أسفر الصبح جداً انطلق الحاج قبل طلوع الشمس إلى منى, فإذا مرَّ بوادي محُسِّر –بين مُزدلفة ومِنى - أسرع في المشي; لأن هذا الوادي هو الذي أهلك الله فيه أبرهة الحبشي وجيشه لما أرادوا هدم الكعبة.
وللحاج أن يجمع حصى الجمرات ([18])، من أي مكان.
3) إذا وصل الحاج إلى منى توجه إلى جمرة العقبة, وهي الجمرة الأخيرة الأقرب إلى مكة, فيرميها بسبع حصيات كأمثال حبة الحمص أو الفول; رمياً متتالياً, واحدة بعد واحدة, يكبر مع كل حصاة، ولا يرمي الجمرتين الأولى والثانية في هذا اليوم.
4) إذا فرغ الحاج من رمي جمرة العقبة ذبح هديه ([19])، إن كان متمتعاً أو قارناً، أما المفرد فلا يجب عليه هدي. والأفضل أن ينحر هديه بنفسه, ويجوز له أن يوكل غيره بالذبح عنه.
5) بعد نحر الهدي يحلق الحاج رأسه إن كان ذكراً, أو يُقصِّر, والحلق أفضل. أما المرأة فتأخذ من شعرها قدر أنملة (كما سبق بيانه في العمرة).
6) إذا فعل الحاج عملين من أعمال اليوم العاشر, تحلل التحلل الأصغر ([20])، فيحل له كل شيء كان محرماً عليه قبل الإحرام, إلا المعاشرة الزوجية.
7) بعد الفراغ من أنساك الحج في منى, يتوجه إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة, وهو الركن الثالث من أركان الحج; فيطوف سبعة أشواط.
ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط; إن كان متمتعاً, وكذا إذا لم يكن سعى مع طواف القدوم.
وبذلك يكون الحاج قد تحلل التحلل الأكبر ([21])، فيحل له كل شيء كان محرماً عليه حتى المعاشرة الزوجية.
8) بعد طواف الإفاضة والسعي يرجع الحاج إلى منى ليبيت فيها أيام التَّشريق الثلاثة ([22])، ويرمي الجمرات الثلاث.
* يجوز للحاج أن يقدِّم أو يؤخر في أعمال اليوم العاشر من غير حرج; فلو قدَّم النحر على الرمي جاز, ولو قدَّم الحلق على النحر جاز, ولو قدم الطواف بالبيت على الرمي جاز.
خامساً: أعمال الحج في أيام التشريق:
أيام التشريق هي الأيام الثلاثة التي بعد يوم النحر, وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة, وهي أيام أكل وشرب لا يجوز صيامها إلا للحاج الذي عليه هدي ولم يَقدِر عليه.
وتتلخص أعمال أيام التشريق بما يأتي:
1) بعد أن يبيت الحاج ليلة الحادي عشر في منى, يبقى حتى زوال الشمس (أذان الظهر)، ثم بعد الزوال يذهب إلى الجمرات الثلاث; فيرمي الجمرة الصغرى – وهي الأقرب إلى مسجد الخيف - بسبع حصيات متتاليات; واحدة بعد الأخرى، ويكبِّر مع كل حصاة يرميها, ثم يتقدم قليلاًجهة اليمين, ويدعو دعاء طويلاً بما شاء إن تيسر له ذلك.
2) ثم يتوجه مباشرة إلى الجمرة الوسطى; فيرميها بسبع حصيات متتاليات، يكبر مع كل حصاة, ثم يتقدم قليلاًجهة اليسار, ويستقبل القبلة ويدعو دعاء طويلاً إن تيسر له ذلك.
3) ثم يتوجه بعدها مباشرة إلى الجمرة الكبرى (جمرة العقبة), ويرميها بسبع
حصيات متتاليات; يكبر مع كل حصاة, ثم ينصرف ولا يدعو بعدها.
4) يبيت الحاج في منى ليلة الثاني عشر, فإذا زالت الشمس في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة, يفعل ما فعله في اليوم الحادي عشر; فيرمي الجمرات الثلاث، فإن كان متعجلاً خرج من منى قبل غروب الشمس, وتوجه إلى مكة لطواف الوداع; فإن أدركه الغروب وهو في منى لغير عذر وجب عليه البقاء إلى اليوم الثالث عشر وهو آخر أيام التشريق; فيرمي الجمرات الثلاث بعد الزوال كما فعل في اليومين قبله.
5) بعد الفراغ من رمي الجمرات في أيام التشريق, وأراد الحاج مغادرة مكة، فعليه أن يتوجه إلى مكة ليطوف طواف الوداع سبعة أشواط, ويصلي بعدها ركعتين, ثم عليه بعدها أن يغادر مكة, ولا يتأخر فيها من أجل التسوق أو التجارة، أو الزيارة, وإلا لزمه طواف وداع آخر; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحدٌ حتى يكون آخر عهده بالبيت» [رواه مسلم].
فإن تأخر بسبب زحام, أو انتظار رفقته في السفر, أو تزوده في طريقه للسفر، فلا حرج عليه, ولا يلزمه طواف آخر.
وإذا أصاب المرأة قبل طواف الوداع حيض أو نفاس, ولا يمكنها أن تتأخر عن رفقتها في السفر; جاز لها أن ترحل من غير أن تطوف للوداع.
وبذلك يكون الحاج قد أنهى نسك الحج.
سادساً: محطورات الإحرام:
وهي الأعمال التي لا يجوز للحاج أو المعتمر فعلها وهو محُرِمٌ, ويترتب على فعلها فدية ([23])، وبعضها يفسد الحج. وهذه المحظورات هي:
1) إزالة الشعر: بأي وسيلة كالحلق أو النتف; سواء أزاله بنفسه أو أزاله له غيره, وسواء كان الشعر قليلاً أو كثيراً; لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ﴾ [البقرة:196]. ويدخل في ذلك شعر الجسم كله.
- من حلق رأسه لغير عذر فهو آثم وعليه الفدية, أما من حلقه لعذر كمرض أو أذى, فلا إثم عليه, إلا أن عليه الفدية وهي: صوم ثلاثة أيام, أو إطعام ستة مساكين, أو ذبح شاة, وهو مخيَّر بفعل أي واحدة من هذه الثلاث.
- يجوز للمُحرِم حَكُّ شعره وغسله وتمشيطه, ولو أدى ذلك إلى سقوط شيء من شعره, ولكن ينبغي عليه أن يفعل ذلك برفق.
2) تقليم الأظافر: لا يجوز للحاج بعد الإحرام بالحج أو العمرة أن يقص أظفاره, وإنما يستحب له ذلك قبل الإحرام. أما بعد الإحرام فيَحرُمُ عليه قصها بالإجماع; لأنه من الترفُّه الذي ينافي مقصود الإحرام; قال تعالى: ﴿ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ﴾ [الحج:29]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: التفث: "وضع الإحرام، وحلق الرأس, ولبس الثيابِ, وقصُّ الأِظافر".
3) تغطية الرأس بملاصق: فلا يجوز للمحرم إذا كان ذكراً أن يغطي رأسه بشيء ملاصق, سواء كان طاقية, أو غترة, أو عمامة, أو يضع رداءه على رأسه، ونحو ذلك مما يعد ًغطاء للرأس.
أما إذا وضع على رأسه شيئاً لا يقصد به التغطية كحمل العفش والحقائب، فلا بأس به.
ومما يجوز للحاج: أن يستظل بسقف السيارة, أو يستظل بخيمة; فهذا لا يُعَدُّ من محظورات الإحرام.
ولا يجوز للمرأة أن تغطي وجهها إلا إذا خشيت الفتنة; فتستره بغير نقاب.
4) لبس المخيط: الأصل في المحرم أن يلبس إزاراً ورداءً ويجتنب لبس الثياب المخيطة التي خيطت لتغطِّي العضو الذي خيطت من أجله; كالقميص, والسراويل، والثوب, والجوارب, والخفين, والقفازين, ونحوها.
أما النعل وإن كان مخيطاً, إلا أنه لا يعد من المخيط المنهي عن لبسه, بل إن الشرع قد ورد بجوازه. ولا يجوز له لبس ما غطَّى الكعبين; كالخُفِّ.
والمرأة لها أن تلبس ما شاءت إلا القفاز والنقاب, وما فيه تبرج.
5) الطيب والعطور: لا يجوز للمحرم أن يضع طِيباً أو عِطراً على بَدَنِه أو إحرامه. أما الطِّيب الذي يضعه على بدنه قبل الإحرام ويبقى أثره, فلا حرج فيه، أما إن كان الطِّيب على ملابس الإحرام, فيجب غسله.
6) الصيد: لا يجوز للمُحرم أن يصيد شيئاً من الحيوانات الوحشية ([24]) مأكولة اللحم; كالغزال والأرنب والطيور, ولا يجوز له الإعانة على صيدها; سواء بالإشارة أو الدلالة عليها, فإن صاد هو أو صيدت له, فلا يجوز الأكل منها، لأنها في حكم الميتة.
وإذا صاد شخص غير محرم صيداً, ولم يقصد بصيده الشخص المحرم, جاز للمحرم الأكل منه.
ويباح للمحرم صيد البحر وطعامه من غير قيد.
7) عَقْدُ النكاح: لا يجوز للمحرم أن يعقد عقد النكاح, ولا أن يعقد له غيره، ولو كان العاقد غير محرم; فإن عقد أو عقد له غيره نكاحاً, لم ينعقد, وكان العقد باطلاً.
8) الجماع: وهو أشد محظورات الإحرام; لأن المحرم إذا جامع زوجته قبل التحلل الأول فسد حجه, وإذا كانت زوجته محرمة فسد حجها أيضاً, وعليهما إتمام حجهما والفدية; وهي ذبح بَدَنَة (إبل) عن كل واحد منهما, ويفرَّق لحمها على فقراء الحرم, وعليهما إعادة الحج من العام القادم.
أما إذا كان الجماع بعد التحلل الأول وقبل التحلل الثاني; فإنه لا يفسد الحج, ويلزمهما فدية; وهي ذبح شاة يفرق لحمها على فقراء الحرم.
9) المباشرة بتقبيل أو لمس أو ضم; لأن ذلك كله من مقدّمات الجماع; فهو داخل في الرَّفث الذي نهى الله عنه في قوله: ﴿ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [البقرة:197].
الأحكام الخاصة بالمرأة المسلمة
أولاً: أحكام الحيض والاستحاضة والنفاس:
1) أحكام الحيض:
أ - تعريفُه: الحيضُ دمٌ يُرخيه الرَّحمُ إذا بلغت المرأةُ, ثم يعتادُها في أوقاتٍ معلومة.
ب - وقـتُـه: يبدأ الحيض من بلوغ المرأة تسع سنين هجريّة; لقول عائشة رضي الله عنها: «إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة» [رواه الترمذي].
وينقطعُ غالباً ببلوغِ المرأةِ سنَّ الخمسينَ; لقول عائشة –رضي الله عنها: «إذا بلغت المرأة خمسين سنة خرجت من حد الحيض» [رواه أحمد]. وقد يستمرُّ بعد الخمسين; فإذا رأتِ المرأةُ الدّمَ بعد الخمسين على هيئتِه قبلَها; فهو دمُ حيضٍ.
ج - مـدّتُه: أقلُّ الحيض يومٌ وليلةٌ, وأكثرُه خمسةَ عشرَ يوماً; قال عطاء: «رَأَيْتُ مَنْ تحَِيضُ يَوْماً, وَتحَِيضُ خمَْسَةَ عَشرَ ».
وغالبُ الحيضِ ستّةُ أيّامٍ أو سبعةٌ; لقوله صلى الله عليه وسلم لحَمْنة بنت جَحْش رضي الله عنها: «تحيضي ستة أيام إلى سبعة في علم الله ثم اغتسلي...» [رواه أحمد وأبو داود والترمذي].
د - ما يحرمُ على الحائضِ: يحرمُ على الحائضِ جملةُ أمورٍ; منها:
- الجِماعُ: لقوله تعالى: ﴿ فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ﴾ [البقرة: 222].
- الطَّلاقُ: لقوله تعالى: ﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ [الطلاق:1].
- الصَّلاةُ: لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة» [رواه البخاري ومسلم].
- الصَّومُ: لقوله صلى الله عليه وسلم: «أليس إحداكن إذا حاضت لم تصم ولم تصل؟ قلن: بلى» [رواه البخاري ومسلم].
- الطَّوافُ: لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة لماّ حاضت: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري» [رواه البخاري ومسلم].
- مسُّ المصحفِ: لقوله تعالى: ﴿ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾ [الواقعة: 79].
- اللُّبْث في المسجد: لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا أحل المسجد لجنب ولا حائض» [رواه أبو داود, وصحّحه ابن خزيمة, وضعّفه جماعةٌ].
هـ - ما يوجبُه الحيضُ:
إذا حاضت المرأة كان ذلك علامةً على بلوغها, ويجبُ عليها الغسلُ عند انقطاعِ دمِ الحيضِ; لقوله صلى الله عليه وسلم: «دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي» [رواه البخاري ومسلم].
و - علامةُ طُهرِ الحائضِ:
- إذا انقطع الدم عن الحائض; بحيث إذا احتشت بقطنة في زمن الحيض لا تتغيرّ فقد طهرت.
- وإذا رأت الصُّفْرةَ والكُدْرةَ في زمن الحيض فهو حيضٌ; لما روى علقمة عن أمّه: «أن النساء كن يرسلن بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة إلى عائشة، فتقول: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء» [رواه مالك, وعلّقه البخاري]. والقَصَّة: ماء أبيض يأتي بعد الحيضةِ يدلُّ على طهارتهِا من ِالحيض.
- وأمّا الصُّفْرةُ والكُدْرةُ في زمن الطهر فهي طهرٌ, ولا تعتدُّ بها المرأةُ; لقول أمِّ عطيّة رضي الله عنها : «كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً» [رواه أبو داود, والبخاري بدون قوله: "بعد الطهر"].
ز - ما تقضيه الحائضُ بعد طهرِها:
تقضي الحائضُ بعد طهرها الصومَ, ولا تقضي الصلاةَ; لحديث معاذة أنهّا سألت عائشة رضي الله عنها : «ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: كان يصيبنا ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة»] رواه البخاري ومسلم].
وإذا طهرتِ الحائضُ قبلَ غُروبِ الشَّمسِ لزمَها أن تُصليَ الظُّهرَ والعَصرَ من هذا اليوم, ومتى طهرتْ قبل طلوعِ الفجرِ لزمَها أن تصليَ المِغربَ والعشاءَ من هذه الليلة.
2) أحكام الاستحاضة:
أ - تعريفُها: سيلانُ الدِّمِ في غيرِ أوقاتِه المعتادةِ من مرضٍ وفسادٍ, من عِرْقٍ في أدنى الرحمِ يسمّى: العَاذِل.
ومن جاوز دمُها خمسة عشر يوماً فهي مستحاضةٌ; لأنّه لا يصلحُ أن يكونَ دمُها حيضاً.
ب - أحوالُ المستحاضةِ: المستحاضةُ لها حالاتٌ:
الأولى: أن تكون لها عادةٌ منتظمةٌ قبل الاستحاضة تعرف عددَها من الأيامِ، ووقتَها من الشّهر; فإنهّا تعمل عليها, وتدعُ الصّلاةَ والصِّيامَ في أيّامِها; سواء كان عندها تمييزٌ لدم الحيض أو لا; فما زاد على أيّام عادتها من الدّم فهو استحاضةٌ، لعمومِ قوله صلى الله عليه وسلم لأمّ حبيبة رضي الله عنها: «امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي» [رواه مسلم].
الثانية: أن لا تكون لها عادةٌ أو كانت لها عادةٌ ولكن نسيتها; فإن كان دمُها متميّزاً بعضه أسود ثخين منتن وبعضه رقيق أحمر, وكان الأسود لا يزيد على أكثر الحيض ولا ينقص عن أقلِّه; فهي مميّزةٌ تدع الصّلاة زمن حيضها الأسود، ثم تغتسل وتصلّي; لحديث فاطمة بنت أبي حُبَيش رضي الله عنها: قالت: «يا رسول الله، إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال: لا! إن ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي» [رواه البخاري ومسلم]، وفي لفظ: «إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي، فإنما هو عرق» [رواه النّسائي].
الثالثة: أن لا يكون لها عادةٌ ولا تمييزٌ; فهي متحيرّةٌ; فتجلس من كلِّ شهرٍ
ستّةَ أو سبعةَ أيام تتحرّاها, ثمّ تغتسل وتصوم وتصلي - بعد أن تغسل المحلّ, وتضع عليه ما يمنع نزول الدّم -; لقوله صلى الله عليه وسلم لحَمْنة بنت جحش رضي الله عنها وكانت تُسْتَحاض حيضة شديدة: «إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام إلى سبعة في علم الله، ثم اغتسلي» [رواه أحمد وأبو داود والترمذي].
ج - أحكامُ المستحاضةِ: للمستحاضةِ أحكامٌ تخصُّها; أهمُّها: أنّه يجب عليها أن تتوضّأ في وقت كلّ صلاة; لحديث فاطمة بنت أبي حُبيش, وفيه: «ثُمَّ تَوَضَّئي لكل صلاة» [رواه البخاري].
3) أحكام النفاس:
أ - تعريفُه: هو الدَّمُ الخارجُ من قُبلِ المرأةِ بسببِ الولادةِ.
ب - مـدّتُه: لا حدّ لأقلِ مدّةِ النِّفاس.
وأما أكثره فأربعون يوماً, وما زاد على ذلك فهو استحاضة; لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: «كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً» [رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه].
ج - ما يحرمُ بالنِّفَاس: يحرم بسبب النِّفاس جميعُ ما يحرم بسبب الحيضِ، وحكمُ النّفساءِ كحكمِ الحائضِ فيما تقضيه.
ثانياً: حجاب المرأة ولباسها:
إنّ من أعظم التّعاليم التي أمر اللهُ بها المرأةَ هو الحجابُ; الّذي جعله اللهُ وِسامَ عزّتهِا, وعنوانَ عفّتِها, ومظهرَ صلاحِها; ولهذا كان من المهمّ أن تعرف النّساءُ ما يتعلّق بالحجابِ من أحكامٍ وآدابٍ.
1) تعريف الحجاب:
الحجابُ في الشرع: هو ما ستر عموم جسم المرأة من ثيابٍ واسعةٍ فضفاضةٍ، لا تصف بشرتهَا, ولا تحدِّدُ مفاتنَها, ولا تظهر شيئاً من بدنهِا.
فالمرأة المحجبة هي التي سترت جسدها, وأخفت مفاتنها إلا ما أباح الشرع إظهاره وهو الوجه والكفان - إذا أمنت الفتنة; كما قال جمهور الفقهاء رحمهم الله قال تعالى: ﴿ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾ [النور:31].
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «الزِّينة الظَّاهرة الوجه وَالكَفَّان» [رواه البيهقي]، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما ظهر منها: الوجه والكفان» [رواه البيهقي].
والأفضل للمرأة أن تستر وجهها; لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين» [رواه البخاري]; فغير المحرمة يشرع لها الانتقاب وستر الوجه.
2) حكم الحجاب:
الحجاب واجب على المرأة المسلمة البالغة; لقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 36].
وقالت أمّ سلمة رضي الله عنها لما نزلت هذه الآية: «﴿ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ﴾ خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان، وعليهن أكسية سود يلبسنها» ] رواه أبو داود, وابن أبي حاتم].
3) أهمية الحجاب وفضائله:
إنّ التزام المرأة بالحجاب هو عبادةٌ تتقرّب بها المسلمةُ إلى ربهّا ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: 36]؛ فليس الحجابُ عادةً اجتماعيّةً توارثها المجتمع; بل هو عبادةٌ وأمرٌ شرعيٌّ واجبُ الاتّباع.
4) شروط الحجاب:
ذكر العلماءُ شروطاً للحجابِ حتّى يكونَ شرعيَّاً, وتكونَ المرأةُ ممتثلةً لأمر الله جل وعلا بارتدائه:
الأوُّل: أن يكون ساتراً لجميع البدن; فلا يبدو منه عضوٌ; لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 36].
ولماّ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من جرّ ثوبه من الخيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، قالت أم سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ قال: ترخينه شبراً، قالت: إذن تنكشف أقدامهن، قال: ترخينه ذراعاً، لا يزدن عليه» [رواه الترمذي والنّسائي].
فالحجاب المشروع ما ستر جميع أجزاء الجسم.
الثّاني: أن يكون صَفيقاً - كثيفاً - غير رَقيقٍ, ولا يَشِفُّ عن البدن; لأن الغرض من الحجاب السِّتر, فإذا لم يكن ساتراً لا يسمّى حجاباً; فقد قال صلى الله عليه وسلم: «صنفانِ من أهلِ النارِ لم أرَهما . قومٌ معهم سياطٌ كأذنابِ البقرِ يضربون بها الناسَ، ونساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ مميلاتٌ مائلاتٌ، رؤوسُهنَّ كأسنِمَةِ البختِ المائلةِ . لا يدخلْنَ الجنةَ ولا يجدْنَ ريحَها، وإن ريحَها لتوجدُ من مسيرةِ كذا وكذا» [رواه مسلم].
ومعنى (كاسيات عاريات): يلبسن ثياباً رقيقة تصف لون الجسد, أو قصيرة تكشف بعضه, أو ضيّقة تبرزه كأنه عارٍ أو قريباً من العاري; فهي كاسية في الاسم عارية في الحقيقة. و(مميلات): أي مميلات غيرهنّ فيُعلِّ مْنَهنّ التبرّج بوسائل متعددة، ومميلات لقلوب الرّجال بَفعلهن. و (مائلات): أي زائغات عن طاعة الله تعالى, وما يلزمهنّ من الحياء والتسترّ, ومائلات في مشيتهن كذلك. ومعنى (رؤوسهن كأسنمة البخت): أي يعملن شعورهنّ بلفّها وتكويرها إلى أعلى كأسنمة الإبل المائلة.
وروى مالكٌ في (الموطّأ) أنّ حفصة بنت عبد الرحمن دخلت على عائشة رضي الله عنها وعليها خمارٌ رقيقٌ فشَقَّتْهُ عائشةُ, وكَسَتْها خماراً كثيفاً.
الثّالثُ: ألاّ يكون زينةً في نفسه; فلا يكون مُبَهرجاً, ولا مطرّزاً, ولا مزركشاً بألوان ُتلفت الأنظار; لقوله تعالى: ﴿ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾ ؛ فإذا كان زينةً في ذاته; فلا يجوزُ ارتداؤُه, ولا يسمّى حجابًا; لأنّ الحجابَ هو ما حجبَ ومنع ظهورَ الزينة للأجانب.
وقال صلى الله عليه وسلم:: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن تفلات» [رواه أحمد وابن حبّان]. ومعنى تفلات: أي غير متطيّبات ولا متزيّنات. وإذا كان هذا وهنّ خارجات للمسجد والعبادة; فلغيره أولى.
ومن هنا يجب على المرأة المسلمة المحجّبة أن تجتنب وضع مساحيق التجميل عند خروجها من بيتها; لما في ذلك من إظهار الزينة التي أُمِرَت بعدم إظهارها لغير المحارم, ولما فيه من لفت انتباه الرجال إليها. ولا فرق في ذلك بين الخفيف أو الثقيل من مساحيق التجميل.
الرُّابع: أن يكون فضفاضاً -واسعاً- غير ضيّق, ولا يجُسِّم العورة, ولا يظهر أماكن الفتنة.
الخاُمس: ألاّ يكون الثوبُ مطيّباً أو معطّراً; لما فيه من إثارةٍ للرّجال; لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً» [رواه مسلم]. فهذا إذا خرجت إلى المسجد, فكيف إذا خرجت إلى غيره؟
الساُدس: ألاّ يُشبِهَ لباسَ الرّجالِ; لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبسلبسة الرجل» [رواه أحمد وأبو داود]. ِواللّعنُ هو الطّردُ من رحمةِ الله عز وجل.
السُابع: ألاّ يكونَ لباسَ شُهرةٍ; يُقصد به الشهرةُ والتباهي أمامَ النّاسِ, أو يجلب النّظر إليه بسبب شهرته أو فخامته أو كونه على خلاف المعتاد المعروف من لباس أهل البلد, ونحو ذلك; لقوله صلى الله عليه وسلم: «من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألسه الله ثوب مذلة يوم القيامة» [رواه أحمد وابن ماجه].
ثالثاً: لباس المرأة في الصلاة:
يجبُ على المرأةِ في صلاتهِا أن تغطيَ سائرَ بدنهِا غيرَ وجهِها وكفّيها; وذلك لقولِ النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة حائض إلابخمار» [رواه أبو داود والترّمذيّ وابن ماجه].
والحائض: من بلغت سنَّ المحيضِ, والخمارُ: ما يغطي الرّأسَ والعنقَ.
وعن أمّ سلمة رضي الله عنها أنهّا قالت في المرأةِ تصليِّ فيِ وَخمَِارٍ لَيْسَ عَلَيْهَا إِزَارٌ: «إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور قدميها» ] رواه أبو داود].
وعليها أن تجمعَ نفسَها في الرُّكوعِ والسُّجود بدلاً من التّجافيِ, وتسدلَ رجليها وتجعلَهما في جانبٍ بدلاً من التّورُّكِ والافتراشِ; لأنّه أسترُ لها.
رابعاً: أحكام زينة المرأة:
1) خصال الفطرة:
يستحبُّ للمرأةِ أن تحافظَ على ما يختصُّ بها من خصالِ الفطرةِ الّتي حثّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على تعهّدها في قولِه: «الفطرة خمس، أو خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب» [رواه البخاري ومسلم]. والاستحدادُ: حلقُ شعرِ العانةِ, وهو الشّعرُ النّابتُ حولَ الفرِْج.
فينبغي على المرأة أن تعتني بإزالةِ شعرِ العانةِ, وشعرِ الإبطين, وبقصِّ أظفارِها كلّما طالت; لما في ذلك من النّظافةِ والحسنِ, ولا تترَكها أكثرَ من أربعين يوماً; لقولِ أنس رضي الله عنه: «وقَّت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ِ في قصِّ ِ الشَّارِب، وتقليم الأظفار، وحلق العانة، ونتف الإبط، أن لا نترك أكثر من أربعين يوماً» [رواه أبو داود، والترّمذيّ, والنّسائيّ, وابنُ ماجه].
2) الخضاب والكحل وصبغ الشعر:
يستحبُّ للمرأة –وخاصة المتزوّجةَ - أن تخضبَ يديها ورجليها بالحِنّاءِ, وأن تكتحلَ بالإثمدِ ونحوِه في بيتِها لا عند خروجِها; فعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: «أومت امرأة من وراء ستر بيدها كتاب إلى رسول الله فقبض النبي صلى الله عليه وسلم يده، فقال: ما أدري أيد رجل أم يد امرأة؟ قالت: بل امرأة. قال: لو كنت امرأة لغيرت أظفارك- يعني بالحناء» [رواه أبو داود والنّسائي].
ولكن لا تصبغُ أظفارَها بما يتجمّدُ عليها, ويمنعُ وصولَ الماءِ إليها عند الطّهارةِ; كـ (المناكير), ولو فعلت فعليها إزالته عند الطهارة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «إن من خير أكحالكم الإثمد، إنه يجلو البصر وينبت الشعر» [رواه أبو داود والترّمذيُّ والنسائيُّ وابنُ ماجه]. والإثمد: حجرٌ أسودُ يضرِبُ إلى الحمرةِ, يستعملُ ِللاكتحال.
كما يجوزُ للمرأة أن تصبغَ شعرَ رأسِها بالحِنّاءِ أو غيرِها, وخاصّةً إذا كان فيه شيبٌ, ولكنْ يكرهُ أن تصبغَه بالسّوادِ; لنهيِه صلى الله عليه وسلم عن الصبغِ بالسَّوادِ; فعن جابرِ بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُتي بأبي قحافة يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد» [رواه مسلم]. والثّغامةُ: نبتٌ أبيضُ الزهرِ والثّمرِ يشبَّه به الشُّيب.
3) قص الشعر وحلقه:
يجوزُ للمرأة أن تقصَّ شعرَ رأسِها وتأخذَ منه; لفعلِ زوجاتِ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فعن أبي سلمةَ بنِ عبد الرّحمنِ قال: «كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يأخذن من رؤوسهن حتى تكون كالوفرة» [رواه مسلم]. والوَفرةُ: شعرُ الرّأسِ إذا بلغَ شحمةَ الأذنِ.
ولكن لا يجوزُ لها َقصُّهُ بقصدِ التَّشبُّهِ بالكافراتِ, أو التَّشبُّهِ بالرِّجالِ; لما ثبت من النّهي عن التشبُّهِ بالكفارِ عمومًا, وعن تشبُّه المرأةِ بالرجالِ; فعن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال» [رواه البخاري].
كما لا يجوزُ للمرأةِ حلقُ شعرِها إلاّ من ضرورة.
4) وصل الشعر:
لا يجوزُ للمرأةِ وصلُ شعرِ رأسِها, والزيادةُ عليه بشعرٍ آخرَ; سواءً كان طبيعيَّاً, أو صناعيَّاً -كالباروكة-; لما في ذلك من التَّزويرِ, وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الواصلة والمتوصلة» [رواه البخاري ومسلم]. والواصلةُ: هي التي تصلُ شعرَها بشعرِ غيرها, والمستوصُِلة: هي التي يُعملُ بها ذلك.
5) الوشم، والنمص، وتفليج الأسنان:
لا يجوزُ للمرأةِ الوشمُ في شيءٍ من جسدِها, ولا الأخذُ من شعرِ حاجِبيها, ولا التُّفريجُ والمباعدةُ بين أسنانهِا; رغبةً في تحسينِ صورتهِا; لما في ذلك من تغييرٍ لخلقِ الله تعالى, وقد لعن النّبيُّ صلى الله عليه وسلم من تفعلُ ذلك; فعن عبد الله ابن مسعودٍ أنّه قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله» [رواه البخاري ومسلم, واللفظ لمسلم].
والوشمُ: غرزُ اليدِ أو الوجهِ بإبرةٍ ونحوِها, ثمّ حشوُ مكانِ الغرزِ بالكحلِ ونحوه. والواشماتُ جمعُ واشمةٍ: وهي الّتي تفعلُ الوشمَ بغيرِها, والمستوشماتُ جمعُ مستوشمةٍ: وهي الّتي تطلبُ من غيرِها أن تفعلَ بها ذلك.
والنُّمص: إزالةُ شعرِ الحاجبينِ أو بعضِه; بحلقٍ, أو نتفٍ, أو مادةٍ مزيلةٍ.
والنُّامصات: جمعُ نامصةٍ: وهي الّتي تفعلُ النّمصَ بغيرِها, والمتنمِّصاتُ: جمع متنمِّصة: وهي الّتي تطلبُ من غيرِها أن تفعلَ بها ذلك.
والمتفلُّجات: جمعُ متفلِّجةٍ: وهي الّتي تطلبُ الفلَجَ, وهو التفريجُ بين أسنانهِا، بأن تبردَها بالمبردِ ونحوِه; حتى تُحدِثَ بينها فرجًا يسيرة; رغبةً في التحسين.
أما إذا كانتِ الأسنانُ فيها تشويهٌ وتحتاجُ إلى عمليّةِ تعديلٍ, أو كان فيها تسوّسٌ, واحتاجتِ المرأةُ إلى إصلاحِها من أجلِ إزالةِ ذلك; فلا بأسَ.
خامساً: أحكام خروج المرأة من بيتها، وتعاملها مع الأجانب:
ِإذا خرجتِ المرأةُ خارجَ بيتِها; فلا بد عليها من مراعاةِ الأحكامِ والآدابِ التالية:
1) أن تكونَ مستترةً بالحجابِ على الوجهِ الّذي سبق بيانُه, وأن تكونَ غيرَ متزيّنةٍ لا بالحليِّ ولا بالأصباغِ ونحوِها, ولا تكون متطيّبةً; فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهن تفلات» [رواه أبو داود].
وتفلات: جمع تفلةٍ; أي: غيرُ ٍ متطيّبات.
2) أن تغضَّ بصرَها عن النّظرِ إلى ما لا يحلُّ لها; فقد أمرها اللهُ تعالى بذلك
كما أمر الرّجالَ; فقال: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ [النور:30-31].
3) أن تحذرَ عند الكلامِ مع الرِّجالِ الأجانبِ من تَرخِيمِ صوتهِا, وعند المشيِ من الضرِّب برجلِها; لما في ذلك من الفتنةِ والإثارةِ للرِّجالِ; فقد نهى الله جل وعلا النّساءَ عن ذلك; فقال: ﴿ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ [الأحزاب: 32]، وقال سبحانه: ﴿ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ﴾ [النور:31].
4) أن تجتنبَ مزاحمةَ الرّجالِ خصوصاً في الأسواقِ ونحوِها, وأن تحذرَ من الخلوةِ بالرّجلِ الأجنبيِّ عنها; فقد قال الرُّسول صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها، فإن ثالثهما الشيطان» [رواه أحمد].
وقد يتساهلُ بعضُ النّساءِ وأولياؤُهنّ بأنواعٍ من الخلوةِ, والاختلاطِ مع الشّبهةِ; كالخلوةِ مع السّائق, والطّبيبِ, والخادمِ, والخلوةِ والاختلاطِ مع الأقاربِ من غيرِ المحارمِ, وهذه أعظمُ خطرًا من غيرِها; لقولِه صلى الله عليه وسلم: «إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت» ] رواه البخاري ومسلم]. والحموُ: قريبُ الزوجِ; كأخ الزوج. ومعنى: (الحمو الموت): أي الخوفُ منه أكثرُ من غيرِه; كما أنّ الخوفَ من الموتِ أكثرُ من الخوفِ من غيرِه.
5) أن لا تصافِحَ رجلاً ليس من محارمِها; لما في ذلك من الفتنةِ; ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«إني لا أصافح النساء» [رواه مالك والنّسائي وابن ماجه]. وقال لأصحابِه رضي الله عنهم: «لأن يُطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له» [رواه الطبرانيّ ].ِولا فرقَ في ذلك بين أن تكونَ المصافحةُ بحائلٍ أو بدون حائلٍ; من قفّازٍ ونحوِه; لما يفضي إليه من الفتنة.
الفصل الرابع
علاقة المسلم بالمجتمع
تمهيد
إن المتأمل لنصوص الشريعة الإسلامية يدرك أن التعدد والاختلاف في توجهات البشر ومعتقداتهم سنة كونية مرتبطة بمشيئة الله وحكمته; قال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ [هود:118-119].
والإسلام باعتباره ديناً سماويَّاً وشرعة ربانية يعترف بهذا الاختلاف, ويتعامل معه كأمر واقع, لا سيما وأن حصول الهداية لجميع الناس أمر متعذر; قال تعالى: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف:103]. ولهذا وضع لأتباعه الأسس والقواعد التي تنظم علاقاتهم بغيرهم, وتحفظ عليهم أصولهم وتعاليمهم وتصونها من الخلل والاضطراب; واضعاً في اعتباره أن كرامة المسلم وعزَّته لها المقام الأول في الحفظ والصيانة, وأن الرحمة والتسامح والبرَّ والعدل مع جميع الخلق جزء لا يتجزأ من نظام الحياة الاجتماعية لهذا الدين العظيم.
وفيما يأتي سنعرض لجملة من المسائل التي تُبيِّن للمسلم, وتحدد له أسس التعامل مع من يحيط به من غير المسلمين; سواء كانوا من الأقربين أو من غيرهم; و ذلك ضمن المباحث التالية:
- العلاقات الأسرية.
- العلاقات المالية.
- العلاقات الاجتماعية والإنسانية.
علاقة الزوجين ببعضهما بعد إسلامهما أو إسلام أحدهما
تُعدُّ الأسرة في أي مجتمع من المجتمعات اللَّبنة الأولى في كيانه, والأساس الأول في تكوينه, وتكتسب الأسرة أهميتها من كونها نظاماً اجتماعياً مهماً; حيث يعتمد عليها المجتمع في رعاية وتوجيه أفراده, بما يحقق له القوة والتطور والرُّقيَّ.
وبالنظر إلى هذه الأهمية العظيمة, والدور الخطير للحياة الأسرية التي مبناها العلاقة الزوجية; اهتم الإسلام بتنظيم هذه العلاقة إلى أبعد الحدود, وحرص على توفير الأسباب التي تهيئ لها دواعي الاستمرار والدوام.
ولما كان الإسلام يدعو جميع الناس إلى الدخول فيه واتباع هديه القويم; راعى أن الداخلين فيه قد يكون بينهم وبين غيرهم ميثاق وترابط أسري متين, ليس بالهيّن حَلُّه وإنهاء عقده; فعمل على تنظيمه وبيان حدوده وأبعاده; فالزوجان غير المسلمين اللَّذَان ارتبطا برباط الزوجية قبل الإسلام إما أن يسلما جميعاً في الوقت نفسه, أو أن يسبق أحدهما الآخر في الدخول إلى الإسلام.
فما حكم عقد الزوجية في هذه الأحوال؟!
أولاً: إسلام الزوجين معاً:
أجمع العلماء على أن الزوجين إذا أسلما معاً في وقت واحد ومجلس واحد, أنهما يَُقرَّان على نكاحهما وعقدهما الذي كان قبل الإسلام, ما لم يوجد مانع شرعي يمنع من دوام هذا النكاح; سواء كان إسلامهما قبل الدخول أو بعد الدخول, وقد أسلم خلق كثير زمن النبي صلى الله عليه وسلم, فأقرَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إسلامهم على عقود النكاح التي عقدوها قبل الإسلام, ولم يسألهم عن كيفيتها أو مدى تحقق شروطها.
أما إذا كان عقد الزوجية الذي أنشئ قبل الإسلام مما لا يصح دوامه; لنسب أو رضاع; فإن النكاح ينفسخ بينهما عند الدخول في الإسلام; كأن يعقد رجل على امرأة من محارمه; كأمه أو أخته أو ابنته أو امرأة أبيه, أو كان من عقد عليها ممن بينه وبينها رضاع محُرِّم; كأمه أو أخته من الرضاع.
ومن أسلم وعنده أكثر من أربع نسوة; فإنه يختار من بينهن أربعاً, ويفارق الباقي; لأن الإسلام لا يبيح له أن يجمع في عصمته إلا أربع نسوة; فعن عبد الله ابن عمر قال: أسلم غيلان الثقفي وعنده عشر نسوة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمسك أربعاً وفارق سائرهن» وفي رواية:«» [رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان].
ومثل ذلك لو كان متزوجاً من أختين; فإنه يختار إحداهما ويفارق الأخرى; لأن الإسلام لا يبيح له أن يجمع بين الأختين; لقوله تعالى في بيان المحرمات من النساء: ﴿ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ﴾ [النساء:23].
ثانياً: إسلام أحد الزوجين:
الصورة الثانية للزوجين غير المسلمين: أن يدخل أحدهما في الإسلام قبل الآخر, وهذه الصورة يتفرع منها عدة حالات:
الأولى: أن يُسلم أحد الزوجين الكتابيين بعد العقد وقبل الدخول:
إذا أسلم الزوج الكتابي قبل الزوجة الكتابية, وكان إسلامه بعد العقد عليها وقبل الدُّخول بها, فإنه يُقرُّ على عقده الذي أنشأه قبل الإسلام; لأن المسلم يجوز له ابتداءً أن يتزوج من الكتابية, فيجوز استدامة هذا النكاح; قال تعالى: ﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ [المائدة:5].
أما إذا أسلمت الزوجة الكتابية قبل زوجها بعد العقد عليها وقبل الدخول بها; فإنه ينفسخ نكاحها منه في الحال; ولا فرق في ذلك بين أن يكون الزوج كتابياً أو غير كتابي; لأنه لا يجوز لغير المسلم أن يتزوج مسلمة مطلقاً; لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ﴾ [الممتحنة:10].
الثانية: أن يُسلم أحد الزوجين غير الكتابيين، أو كان احدهما كتابياً والآخر غير كتابي، بعد العقد وقبل الدخول:
إذا أسلم الزوج سواء كان كتابياً أو غير كتابي قبل زوجته غير الكتابية, وكان دخوله في الإسلام بعد العقد وقبل الدخول بها, فإن ذلك يوجب الفرقة بينهما من وقت إسلامه; لأن المسلم لا يجوز له ابتداءً أن يتزوج من غير الكتابية; لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ [الممتحنة:10].
* إذا كان إسلام أحد الزوجين قبل الدخول ووجبت الفرقة بينهما; فإن للزوجة في هذه الحال نصف المهر إذا كان الزوج هو الذي دخل في الإسلام; لأن المفارقة حصلت بسبب منه, أما إذا كانت الزوجة هي التي دخلت الإسلام فإنها لا تستحق شيئاً فإنها لا تستحق شيئاً من المهر; لأن الفرقة وقعت بسبب منها.
* أما إذا كان إسلام أحدهما بعد الدخول; فإنه يجب على الزوج المهر كاملاً يدفعه للزوجة, سواء كان السابق إلى الإسلام الزوج أو الزوجة.
الثالثة: إسلام أحد الزوجين بعد الدخول:
لا يخلو الأمر في هذه الصورة من أحد الأحوال الآتية:
1) أن يسلم الزوج والزوجة كتابية:
إذا أسلم الزوج قبل زوجته الكتابية, وكان إسلامه بعد الدخول بها; فإنه يقرُّ على عقد النكاح الذي أنشأه قبل الإسلام; لأنه يجوز للمسلم ابتداءً نكاح الكتابية; قال تعالى: [المائدة:5]؛ ﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ فجاز له استدامة هذا النكاح.
2) أن يُسلم الزوج والزوجة غير كتابية:
أما إذا أسلم الزوج قبل زوجته غير الكتابية, وكان إسلامه بعد الدخول بها; فإنه يفارقها, إلا أن بقاء عقد الزواج بينهما وانتهاءه يتوقف على انقضاء العدة; فإن أسلمت قبل انقضاء العدة - وهي ثلاث حيضات لمن تحيض, أو ثلاثة أشهر لمن لا تحيض, أو وضع الحمل للحامل - أُقرَّا على عقدهما السابق وبقيت الزوجية قائمة بينهما, فإن لم تُسلم الزوجة حتى انقضت عدتها وقعت الفرقة بينهما من وقت دخول الزوج في الإسلام. وقد أسلم أبو سفيان ابن حرب قبل امرأته هند بنت عتبة, وأسلمت هي بعده بأيام, فأقرهما النبي صلى الله عليه وسلم على عقدهما الأول.
3) أن تسلم الزوجة والزوج غير مسلم (كتابي أو غير كتابي).
إذا أسلمت الزوجة وكان الزوج غير مسلم, سواء كان كتابياً أو غير كتابي, وكان إسلامها بعد الدخول, فإنه يجب على المرأة مفارقة زوجها, ولا يجوز لها أن تمكنه من نفسها, إلا أن بقاء عقد الزوجية بينهما متوقف على انقضاء عدتها; فإن أسلم الزوج قبل انقضاء عدتها, أُقرَّا على عقدهما السابق, وإن لم يسلم حتى انقضت عدتها؛ وقعت الفرقة بينهما وبانت من زوجها بانقضاء عدتها; فعن داود ابن كردوس قال: «كان رجل من بني تغلب يقال له عباد بن النعمان بن زرعة، كانت عنده امرأة من بني تميم، وكان عباد نصرانياً، فأسلمت امرأته، وأبى أن يسلم، ففرق عمر بينهما» [رواه ابن أبي شيبة]، وعن ابن عباس قال: «إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعة حرمت عليه» [رواه البخاري].
وقد أسلم بعض زوجات الصحابة قبل أزواجهن, وأسلم أزواجهن بعدهن في مدة عدتهن; فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على أنكحتهم, ولم ينشئ عقوداً جديدة; كما حصل مع صفوان بن أمية, وعكرمة بن أبي جهل.
* إذا أسلمت المرأة قبل زوجها فإنه يجب عليها إبلاغه بإسلامها, ويستحب لها دعوته إلى الإسلام بالكلمة الطيبة, وتبيِّن له أن عدم قبوله الإسلام واعتناقه له في فترة عدتها يوجب عليها مفارقته.
علاقة المسلم بأبنائه
أولاً: تبعية الأولاد بعد الإسلام:
الولد إذا كان دون سن البلوغ أو كان مجنوناً فإنه يتبع أبويه في الدِّين الذي ينتميان إليه; فإن كانا يهوديين كان يهودياً مثلهما, وإن كانا نصرانيين كان نصرانياً مثلهما, وإن كانا مسلمين كان مسلماً مثلهما; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه» [رواه البخاري ومسلم].
وإذا أسلم الأبوان أو أحدهما, فإن الولد غير البالغ أو المجنون يصبح مسلماً تبعاً لخير الأبوين ديناً, وهو دين من أسلم منهما; فإن كان المسلمهو الأب تبعه ولده في دينه وصار مسلماً مثله, وإن كان المسلم هو الأم تبعها الولد في دينها وصار مسلماً; لأن الإسلام يَعلو ولا يُعلى عليه, وهو الدين الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى لعباده.
أما إذا أسلم الأبوان بعد أن بَلغَ الولدُ أو عَقلَ المجنونُ البالغ; فإنه لا يحكم بإسلامه إلا إذا أقرَّ بنفسه ِباتِّباع دين الإسلام; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس من مولود يولد إلا على هذه الفطرة حتى يغبر عنه لسانه» [رواه مسلم].
ثانياً: حضانة الأولاد بعد الإسلام:
اتفق العلماء على أنه إذا أسلم الأبوان معاً; فإن حضانة الأولاد تكون لهما جميعاً.
أما إذا أسلم أحد الأبوين قبل الآخر; فإذا أسلمت الزوجة (الأم) قبل زوجها (الأب); فإن حضانة الولد تكون للأم دون الأب, أما إذا أسلم الأب دون الأم; فإن الحضانة تكون للأب المسلم.
وإنما كانت حضانة الولد للمسلم من الأبوين; لأن بقاء الولد مع غير المسلم من أبويه فيه ضررٌ بَيِّنٌ عليه; لأنه سيتأثر في الغالب بدين حاضنه, فيخرج به شيئاً فشيئاً عن دين الإسلام.
كما أن الحضانة نوع من الولاية على الصغير, ومن المقرر شرعاً أن لا ولاية لكافر على مسلم; فعن رافع بن سنان: «أنه أسلم وأبَتِ امرأتُه أن تسلمَ فأتتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت ابنتي وهي فطيمٌ أو شبهُه وقال رافعٌ ابنَتي قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم اقعُدْ ناحيةً وقال لها اقعُدي ناحيةً قال وأَقعدَ الصبيّةَ بينهما ثم قال ادعُواها فمالتِ الصبيَّةُ إلى أُمِّها فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم اللهمَّ اهدِها فمالتِ الصبيَّةُ إلى أبيها فأخذَها» [رواه أبو داود والنسائي في " الكبرى"].
فالصَّبية لما مالت في بادئ الأمر إلى أمِّها دعا النبي صلى الله عليه وسلم لها بالهداية فمالت إلى أبيها, فدلّ دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها بالهداية على أن كونها مع الكافر خلاف هُدى الله الذي أراده.
كما نص على ذلك علماء التابعين رحمهم الله تعالى; فقال الحسن البصري في الصغير: «مع المسلم مِنْ والديه» [علقه البخاري ووصله البيهقي], وعن إبراهيم النخعي أنه قال في نصرانيَّين بينهما ولد صغير وأسلم أحدهما ? قال: «أولاهما به المسلم» [علقه البخاري ووصله عبد الرزاق].
ثالثاً: الولاية في النكاح:
من الأمور المقررة شرعاً أن المرأة لا تتولى نكاح نفسها; وإنما يتولى ذلك وليها; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل» ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. [رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه]، إلا أنه عندما تسلم المرأة ويكون وليُّها غير مسلم, فإنه لا يصح أن يكون ولياً لابنته في الزواج بعد إسلامها; لأن الشرع قد قطع ولاية الكافرين على المسلمين, فقال تعالى: ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ﴾ [النساء:141].
وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم علوَّ دين الإسلام على غيره بقوله: «الإسلام يعلو ولا يُعلى» [رواه الدارقطني]. فلا يتولى أمر المرأة المسلمة إلا من كان مسلماً من أوليائها; لقوله سبحانه: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [التوبة:71]، وغير المسلمين يتولون أمر بعضهم البعض; لقوله جل جلاله: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [الأنفال:73].
وعليه يكون وليُّ المرأة المسلمة قريبَها من المسلمين; فإن لم يوجد فيهم مسلمون; كان وليها الحاكم المسلم أو من يمثله; كالقاضي, أو مسؤول الجالية المسلمة; فإن لم يوجد فتوَكِّلُ رجلاً من صالح المسلمين يتولى عقد نكاحها.
ولا يصحُّ أيضاً أن يتولى الوليُّ المسلم عقد نكاح ابنته غير المسلمة; لأنه لا ولاية له عليها; لأن الآية القرآنية َبَّينت أن غير المسلمين إنما تكون ولايتهم على بعضهم البعض, هذا بالإضافة إلى أن الولاية مبنية على علاقة التوارث بين الآباء والأبناء, والشرع قد قطع هذه العلاقة عند اختلاف الدِّين; فانقطعت الولاية بذلك أيضاً.
رابعاً: الولاية والوصاية على الأولاد:
من الأحكام التي تتأثر باختلاف الدِّين بين الأولاد وآبائهم; ولاية الأب غير المسلم على أولاده المسلمين; فإذا حُكم بإسلام الأولاد, وكان الأب غير مسلم; فإنه لا ولاية له على أموال أولاده إذا كانوا قاصرين أو مجانين أو غير راشدين; وتنتقل الولاية إلى القريب المسلم, أو من يعيِّنه القاضي ولياً عليهم; لأنه لا يلي أمر المسلم إلا مسلم مثله - إذا توفرت فيه بقية الشروط المعتبرة -; لقوله عز وجل: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [ التوبة:71]. أما غير المسلم فلا ولاية له على المسلم; لقوله تعالى: ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 141].
كما لا يجوز للأب - مسلماً كان أو غير مسلم - أن يُوصي لغير المسلم على أولاده المسلمين بعد موته; لأن الوصية نوع من أنواع الولاية, وقد نفى الشرع أن يكون لغير المسلم على المسلم ولاية وسلطة.
علاقة المسلم بوالديه وسائر محارمه وأقاربه
أولاً: البر والإحسان إلى الوالدين غير المسلمين:
إن من أهم ما يُميِّز ديننا الحنيف دعوته إلى التحلِّي بالأخلاق الفاضلة والقيم السَّامية في التعامل مع جميع الناس; فالمسلم الذي ينتمي إلى هذا الدين ينبغي أن يكون أول من يمتثل هذه القيم والأخلاق واقعاً وسلوكاً; قال تعالى: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة:83]، وقال عز وجل: ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل:125]، وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالتَّحلِّي بهذه القيم فقال موجهاً لهم: «صل من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمن ظلمك» [رواه أحمد].
وليس هناك أحدٌ أحق بالبرِّ والإحسان في المعاملة من الوالدين اللَّذَين هما سبب وجود الإنسان بعد الله تعالى; ولذا رفع الله قدرهما وجعل برَّهما والإحسان إليهما في منزلة بعد منزلة الإيمان به سبحانه; قال جل وعلا: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [النساء:36]، وقال أيضاً: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23].
وقد َتجلَّت عظمة الإسلام حينما أوصى بالبرِّ والإحسان إلى الوالدين ولو كانا غير مسلمين; فقال تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان:14-15]، وقال جل ثناؤه: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ [العنكبوت:8].
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: «قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدتهم إذ عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم مع أبيها، فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: نعم، صلي أمك» [رواه البخاري ومسلم].
إن بر الوالدين - ولو كانا غير مسلمين - واجب في حق أولادهم المسلمين; فلا يمتنعوا عن برِّهما, وطاعتهما, والإحسان إليهما, والقيام على رعايتهما, ولا يتعرضوا لهما بالسَّب والشَّتم والإيذاء; لا يجوز أن يفعل ذلك بهما بحجة أنهما غير مسلمين; لأن حرمة طاعتهما مقيَّدة في الإسلام في حال أَمَرا الأولاد بمعصية الله; كأن يطلبا منهم الردَّة عن دين الإسلام, أو ترك الفرائض والواجبات التي أمر الإسلام بالتزامها, أو فعل المحرَّمات التي نهى عن ارتكابها; كشرب الخمر, أو أكل لحم الخنزير, أو ارتكاب الزنا, أو غير ذلك من الأمور التي حرمها الإسلام; والقاعدة العامَّة في دين الله –كما بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» [رواه أحمد والطبراني].
ومن أعظم ما يَبرُّ المسلم به والديه أن يدعوهما إلى الإسلام بالحسنى والمعروف, ويبيِّن لهما عظمة دين الإسلام من خلال سلوكه القويم, وامتثاله تعاليم الإسلام وآدابه وقيمه.
ثانياً: البر والإحسان إلى الأقارب والأرحام غير المسلمين:
ومن سماحة الإسلام أنه أمر المسلم أيضاً بصلة أرحامه والإحسان إلى أقربائه, ولو كانوا غير مسلمين; قال تعالى موجهاً عباده المؤمنين: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى ﴾ [النساء: 36]، وقال سبحانه مبيناً خُلُقَ النبي صلى الله عليه وسلم في التَّودُّدِ إلى أقربائه ولو كانوا غير المسلمين: ﴿ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ [الشورى:23]، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن آل أبي فلان ليسوا بأوليائي، إنما وليِّي اللهُ وصالح المؤمنين، ولكن لهم رحم أبُلُّها ببلالها» [رواه البخاري ومسلم]; أي: أَصِلُها بالمعروف اللائق بها.
فعلى المسلم أن يُحسِنَ معاملة أقاربه; فيَصِلَهم ولو قاطعوه; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها» [رواه البخاري].
وعليه أن َيتودَّد إليهم بالحُسنى والمعروف ترغيباً لهم في دين الإسلام.
وعليه أن يكون عوناً للفقير والمحتاج منهم; فإن هذا كله من البر والمعروف والإحسان الذي أمرنا الله به; قال تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة:8].
وقد أُهدِيَ للنبي صلى الله عليه وسلم أثوابٌ, فأعطى منها واحداً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فأهداه إلى أخٍ له من أهل مكة قبل أن يسلم.
وعلى المسلم أن يعلم أن صلة الأرحام والأقارب مصدر خير له في الدنيا والآخرة; فيبارك الله له في عمره ورزقه, وتكون سبباً لدخوله الجنة; فعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله ! أخبرني بعمل يدخلني الجنَّة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم» [رواه البخاري ومسلم].
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه» [رواه البخاري ومسلم].
ولا ينبغي أن يغفل المسلم أن غايته العظمى هي إنقاذ أقربائه وأهله من سخط الله وعذابه; فيحرص على دعوتهم إلى الإسلام كلَّما سنحت له الفرصة; فقد أوصى الله تعالى نبيه بدعوة أهله وأقربائه; فقال تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، مراعياً في دعوتهم الخطاب بالحسنى والموعظة الحسنة; كما أوصى الله عز وجل بذلك فقال: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل:125].
العلاقات المالية للمسلم
أولاً: النفقة:
النفقة هي: ما يُقدِّمُه الشخصُ للقيام على رعايةِ والديه وزوجته وأبنائه من طعامٍ, وشرَ ابٍ, ومَلبَسٍ, ومَسكنٍ; من غير إسراف.
وهذه النفقة تجب على ُالمنفِقِ ولو اختلف الدِّين بينه وبين المُنفَقِ عليه; لأن الله تعالى قال في حق الوالدين غير المسلمين: ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان:15]، ومن مصاحبتهما بالمعروف أن ينفق عليهما; إذ ليس من الإحسان ولا من المعروف أن يعيش الإنسان ميسور الحال وأبواه في حاجة وفقر.
وكذا الحال بالنسبة للأولاد; فإن إنفاقهم على أبيهم واجب ولو كان غير مسلم; وذلك لأن النفقة صلة ومواساة من حقوق القرابة, والله تعالى قد جعل للقرابة حقَّاً, وبيَّن أن الكفر لا يسقط حق القرابة كما في الآية السابقة.
ومما يؤكد وجوب النفقة مع اختلاف الدِّين ما جاء في حديث أسماء رضي الله عنها حينما استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في صلة أمها, فأجابها النبي صلى الله عليه وسلم: «صِلي أمك».
قال الإمام الخطَّابي: "فيه أن الرَّحم الكافرة تُوصَلُ من المال ونحوه كما توصَلُ المسلمة, ويستنبط منه وجوب نفقة الأب الكافر والأم الكافرة, وإن كان
الولد مسلماً". [فتح الباري 5/234].
ويقول محمد بن الحسن: "يجب على الولد المسلم نفقة أبويه الذمِّيين; لقوله تعالى: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ ، وليس من المصاحبة بالمعروف أن يتقلب في نعم الله, ويدعهما يموتان جوعاً, والنوافل (الأحفاد) والأجداد والجدات من قبل الأب والأم بمنزلة الأبوين في ذلك, استحقاقهم باعتبار الولادة بمنزلة استحقاق الأبوين". [المبسوط: 4/105].
وممن يجب على المسلم نفقتهم: زوجته الذميَّة (نصرانية أو يهودية); لأن النفقة حكم من أحكام عقد الزواج الصحيح, والزواج بالذميَّة مما أباحه الإسلام وأقرَّه, فكان مقتضاه وجوب النفقة عليها.
أما غير الذميَّة, وهي من لا تتبع ديناً سماوياً فلا نفقة لها; لأنه لا يجوز للمسلم أن يُبقيها في عصمته; لقول الله تعالى: ﴿ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ [الممتحنة:10]؛ فإذا بطل عقد الزواج تبعه بطلان الآثار المترتبة عليه ومنها وجوب النفقة.
ثانياً: المهر:
إذا أصدَقَ الرَّجلُ امرأتَه قبل الإسلام مهراً, ثم أسلم الزوجان; وكانت المرأة قد قبضت صَداقها قبل الإسلام ثم أسلما, فلا يُطالبُ الزوج ببَدَلِه بعد الإسلام ولو كان الصداق الذي قبضته مما يحرم تسميته مهراً; كأن يكون خنزيراً أو خمراً.
أما إذا لم تكن المرأة قد قبضت صداقها; فإنه يجب عليه بدل ذلك المهر المحرم, فيعطيها مهر مثيلاتها; لأن الإسلام لا يقر لمسلمة مهراً محرَّماً.
ولو كانت قبضت منه شيئاً وبقي لها منه في ذمته شيء; فإن لها فيما تبقى مثله من مهر مثيلاتها.
ثالثاً: الميراث:
التوارث بين الأقارب من الأحكام التي جاء الإسلام بتشريعها وتنظيمها; فجعل الله تعالى لأصناف من الأقرباء نصيباً في مال قريبهم الميت وفق قواعد وأصول محددة.
وقد بيَّن العلماء أن استحقاق القريب للمال الذي تركه قريبه المورِّث لا يكون إلا عند تحقق شروطه وانتفاء موانعه, ومن أهم هذه الشروط اتحاد الدِّين بين الوارث والمورِّث; ومن هنا قررت الشريعة أن اختلاف الدِّين مانع من التوارث بين الأقرباء; سواء كان المورث كافراً والوارث مسلماً, أو كان المورث مسلماً والوارث كافراً; فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» [رواه البخاري ومسلم], وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتوارث أهل ملتين شتى» [رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه].
رابعاً: المال المكتسب قبل الإسلام:
المال الذي يكتسبه غير المسلم قبل إسلامه إن كان قد اكتسبه من طريق مباح; كالتجارة بالسلع المباحة, أو امتهان حرفة مباحة, أو غير ذلك مما هو مباح في الإسلام أصلاً, فهذا لا خلاف في أنه مال حلال لصاحبه, والعقود التي أنشئت قبل إسلامه وبقي أجلها إلى ما بعد الإسلام عقود صحيحة تترتب عليها آثارها من استحقاق الثمن للبائع, ووجوب تسليم السلعة للمشتري.
أما إن كان قد اكتسبه من طريق محرَّم; كعقود الربا, والميسر, والمتاجرة بالمحرمات; كبيع الخنزير والخمر والمخدرات; فإن كان الشخص قد أنشأ العقد المحرم وقبض ما ترتب عليه منه قبل الدخول في الإسلام; فهذا يعفى له عما قبض ولو كان محرَّماً في الأصل, ولا يلزمه أن يخرج المال الحرام من أصل ماله; لأن ذلك مضى في حال كفره, والإسلام يمحو ما كان قبله; لقول الله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ [الأنفال:38]، وقال جل شأنه في حق الذي يتعامل بالربا: ﴿ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ ﴾ [البقرة:275].
وإن كان إنشاء العقد المحرم قبل الإسلام, وأسلم قبل أن يقبض ما ترتب عليه, فلا يحل له أن يمضي في ذلك العقد المحرم, ويُعدُّ ذلك العقد منفسخاً.
وإن كان قد قبض منه جزءاً, وبقي منه جزء آخر لم يقبضه, فإنه يقرُّ على ما قبضه, وينتقض فيما بقي ولم يقبضه; كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ﴾ [البقرة:278].
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وربا الجاهلية موضوعٌ» [رواه مسلم]; فالنبي صلى الله عليه وسلم أبطل الربا بعد الدخول في الإسلام, ولم يتعرض لما كان قبل الإسلام ولم يأمر بردِّه, فدل على أنه باق على ملك من اكتسبه وقبض ثمنه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل قسم قُسم في الجاهلية فهو على ما قُسم له، وكل قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام» [رواه أبو داود وابن ماجه].
العلاقات الاجتماعية والإنسانية
أولاً: المحبة والنصرة (الموالاة والمعاداة):
مع كون الإسلام حث أتباعه على العدل والإنصاف والبر في التعامل مع خلق الله مهما كانت توجهاتهم ودياناتهم; إلاَّ أنه أكد على أن هذا التعامل ينبغي أن لا يقود المسلم إلى مجاوزة الحد في العلاقة بينه وبين غير المسلم; فيصل به إلى درجة الموالاة والمحبة والنصرة; لأن هذه الموالاة لا تنبغي إلا لمن أخبرنا الله تعالى عنهم في قوله: ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ [المائدة:55]، و ﴿ إِنَّمَا﴾ في اللغة تفيد: الحصر والقصر.
أما غير هؤلاء فلاموالاة لهم; قال تعالى: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران:28]، وقال سبحانه مخاطباً المؤمنين: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾ [المائدة:51]، وقال عز وجل: ﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [الممتحنة:1].
والموالاة التي نهى الله تعالى المسلم عنها دائرة بين نوعين:
أحدهما: موالاة كفرية; وهي التي يترتب عليها مودة ومحبة غير المسلمين من أجل دينهم; أو معاونتهم ومناصرتهم من أجل دينهم, وظهوره على دين الإسلام; قال تعالى: ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ﴾ [المجادلة:22].
فالمسلم يجب أن يتبرأ من أعداء الله وأعداء دينه ولو كانوا من أقربائه; أسوة بنبي الله إبراهيم عليه السلام في إعلان البراءة منهم; فقال جل شأنه: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ﴾ [الممتحنة:4].
الثاني: موالاة محرَّمة; وهي أن تكون موالاة ومحبة غير المسلمين من أجل مصلحة دنيوية, مع بغض المسلم لدينهم وحب المسلمين وتمني عزتهم وانتصارهم, ولكن وقع في قلبه محبة لهم بسبب مصالح دنيوية مشتركة; كمن يتودد إليهم ويحبهم لمساعدته في تحصيل وظيفة معينة, أو أن يتجسس لصالحهم طمعاً فيما يدفعون من أموال طائلة. فهذا النوع من الموالاة وإن كان غير مكفِّر لصاحبه إلا أنه معصية عظيمة وإثم كبير.
أما إذا تعرَّض المسلم لأذى أو إكراه من غير المسلمين على معاداة المسلمين, وخشي على نفسه أن يفتن في دينه أو نفسه أو عرضه, فأظهر موالاتهم مع استقرار معاداتهم في قلبه; فذلك لا إثم فيه ولا حرج; لقول الله تعالى: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾ [آل عمران:28]؛ أي: إذا خفتم على أنفسكم, أو أموالكم أو أعراضكم; فلا بأس أن تتخلصوا منهم بإظهار شيء من الموالاة الظاهرية باللسان ما دامت قلوبكم مطمئنة بالإيمان; كما قال تعالى: ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النحل: 106].
ولا يدخل في الموالاة المنهي عنها ما يكون بين المسلم وغير المسلم من محبة طبيعية لقرابة أو مصاهرة; كمحبة الوالدين أو الزوجة, بحيث لا تتعدى إلى محبة دينه أو ما هو عليه من باطل أو تدعوه إلى ارتكاب محرَّم.
ولا ينهى الإسلام عن التعامل مع غير المسلمين بتجارة, أو إجارة, أو إعارة, أو بيع, أو شراء; فهذا كله لا يدخل في باب الولاء والبراء أبداً, وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مليئة بالحوادث التي تدل على أنهم كانوا يتعاملون مع غير المسلمين بيعاً وشراءً وإجارة وعارية وغير ذلك من التعاملات التجارية.
ثانياً: العدل والإنصاف:
لقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بإقامة العدل في جميع شؤون حياتهم; فقال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [النساء: 135].
ونبه إلى أن بغض الناس ومعاداتهم لا ينبغي أن تحمل المسلم على الظلم والجور; بل ينبغي أن يكون عادلاً حتى مع أعدائه; قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة:8]، وقال تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة:8]. والقسط: هو العدل.
ثالثاً: الالتزام بالعهود والعقود:
لقد أكد الإسلام على أن الالتزام بالعهود والمواثيقوالعقود من أهم الأسس التي قام عليها دين الإسلام; قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة:1]، وقال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء:34]، بل إن الله تعالى نص على الوفاء بالعهود حتى مع غير المسلمين; فقال عز وجل: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة:4]، وقال جل شأنه: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة:7].
وسيَرُ سَلف الأمة رضي الله عنهم ورحمهم رحمة واسعة مليئة بما يدل على التزامهم بالعقود والعهود مع غير المسلمين; فهذا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه حينما أسره المشركون هو وأبوه, وأراد المشركون أن يخلُّوا سبيلهما, اشترط المشركون عليهما أن يذهبا إلى المدينة, ولا يذهبا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بدر, فأعطوهما العهد على أن يلتزما بالشرط, فجاء حذيفة وأبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه الخبر, فقال عليه الصلاة والسلام: «انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم» [رواه مسلم]؛ فانظر كيف حثهم النبي صلى الله عليه وسلم على التزام العهد والوفاء به.
فالمسلم مأمور بأن لا يخلف ولا يغدر ولا يخدع في التزامه وعقده, ما لم يتضمن ذلك العقد مخالفة لشرع الله ودينه; فالقاعدة هنا: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق); لما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما كان من شرط ليس في كتاب الله؛ فهو باطل وإن كان مائة شرط» [رواه البخاري ومسلم].
فإذا كان العقد الذي عقده الإنسان قبل إسلامه يتضمن أمراً محرماً; كأن يكون عقد ربا, أو عقداً على شراء خمر أو لحم خنزير, أو غير ذلك من الأمور التي حرمها الإسلام, كان العقد باطلاً شرعاً, ولا يجوز إمضاؤه, إلا إذا أكره على ذلك.
رابعاً: التزاور والتهادي:
إن من أهم مقاصد الزيارة والتهادي حصول المحبة ودوام الألفة بين المتزاورين والمتهادين; ولما كانت هذه المحبة والألفة خاصة بالمؤمنين; قيد الإسلام التزاور والتهادي بين المسلم وغير المسلم بضابط مهم وهو: أن يكون القصد تأليف قلوبهم على الإسلام, ودعوتهم إلى دين الله, أما إذا كان ذلك لمجرد الأُنس والتوادد; فعلى المسلم اجتناب ذلك; لأنه يفضي إلى عدة مفاسد; منها:
1) أنَّ المسلم قد يتأثر بأخلاق غير المسلمين وعاداتهم; من عدم التورع عن الحرام, وعدم الاحتشام; مما له أثر سيّءٌ في دين المسلم وخُلُقِه.
2) أنه قد يولد في القلب نوعاً من المودَّة والمحبة لدينهم; فيضعف جانب البراءة من الدِّين الباطل.
3) أنه قد يفضي إلى الاعتراض وعدم الرضا بحكم الله تعالى في غير المسلمين, لا سيما عند من يقارن بين أخلاقهم ومَدَنِيَّتِهم المتقدِّمة, وما عليه المسلمون في هذا الزمان.
ونظراً لهذه المفاسد وغيرها نهى النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين عن مخالطتهم فقال: «لا تُصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقيٌ» [رواه أحمد وأبوداود والترمذي].
ولا يعني هذا أن يقاطع المسلم غير المسلم مقاطعة تامة, بل لا بأس بالتزاور والتهادي بقصد تحقيق مصلحة دينية أو حاجة دنيوية مشروعة; كما لو كان غير المسلم ضيفاً نزل على المسلم, أو كان المسلم يدعوه إلى دين الله ويرشده إلى الحق, أو كان بينهما تعامل تجاري تقتضي طبيعته أن يزور بعضهما البعض أو أن يهدي بعضهما لبعض; فعن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: « لما حضرت أبا طالب الوفاة ، دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، وعنده أبو جهل ، وعبدالله بن أبي أمية ، فقال : أي عم قل : لا إله إلا الله ، أحاج لك بها عند الله. فقال أبو جهل ، وعبد الله ابن أبي أمية : يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [التوبة:113]» [رواه البخاري ومسلم].
وعن أنس رضي الله عنه قال: « كان غُلامٌ يَهودِيٌّ يَخدِمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فمَرِض، فأتاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَعودُه، فقعَد عِندَ رَأسِه، فقال له : أسلِمْ . فنظَر إلى أبيه وهو عندَه، فقال له : أطِعْ أبا القاسمِ صلى الله عليه وسلم، فأسلَم، فخرَج النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو يقولُ : الحمدُ للهِ الذي أنقَذه من النارِ » [رواه البخاري].
وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم –كما مر سابقاً - لأسماء بنت أبي بكر في استقبال أمها المشركة, وأهدى عمر رضي الله عنه لأخيه المشرك ثوباً أعطاه إياه النبي صلى الله عليه وسلم.
ويجوز للمسلم قبول هدية غير المسلم إذا لم تتضمن مخالفة شرعية; كالصليب أو الذبيحة التي ذبحت لغير الله, أو غير ذلك; فقد أهدى المقوقس ملك مصر وهو نصراني هدية للنبي صلى الله عليه وسلم, فقبلها منه عليه الصلاة والسلام.
خامساً: الأكل والشرب:
مما ينبغي للمسلم مراعاته عند التعامل مع غير المسلمين, أن لا يتخذ منهم أصحاباً يشاركهم في المأكل والمشرب بحيث يكون ذلك عادة له; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي».
أما إذا نزل غير المسلم ضيفاً على المسلم, أو نزل المسلم ضيفاً على غير المسلم; فإنه لا حرج في أن يقدم له الطعام والشراب, أو أن يأكل من ضيافته إذا خلت من المحرمات التي حرمها الإسلام; وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» [رواه البخاري ومسلم]، فإكرام الضيف مأمور به شرعاً ولو كان غير مسلم; لما في إكرامه من دعوةٍ إلى الإسلام, وتوجيه له إلى الخير ليعرف محاسن هذا الدين وما فيه من مكارم الأخلاق.
وقد َقدِمَ وفدُ ثقيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وهم كفار, فأكرمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, ودعاهم إلى الله عز وجل حتى أسلموا, ودُعيَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطعام من امرأة يهودية فقبل دعوتها وأكل من طعامها, في قصة الشاة المسمومة.
ومثل ذلك ما لو دُعي المسلم إلى وليمة, فاجتمع فيها مع أناس من غير المسلمين; فلا يضره الأكل معهم; لأنه لم يقصد مصاحبتهم, وإنما جمعه معهم الطعام كما يجمعه معهم السوق وغيره من الأماكن العامة.
والحاصل أن الشيء الذي يُنهى عنه في مؤاكلتهم ومشاربتهم ما كان على سبيل الصحبة والصداقة والملازمة والمداومة. أما الحالات العارضة فلا حرج فيها, ولا مانع من مشاركتهم في الطعام والشراب.
وهذا النهي عن المؤاكلة والمشاربة لغير المسلمين من باب صيانة دين المسلم من أن يتأثر بغير المسلمين فيعجب بعاداتهم وأخلاقهم وسلوكهم, أو يفتتن بدينهم.
سادساً: إلقاء التحية والسلام:
يجوز للمسلم أن يبدأ غير المسلم بتحية غير السلام; كأن يقول له: (مرحباً)، أو (أهلاً وسهلاً), وما شابه ذلك من الألفاظ; لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام» [رواه مسلم], وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح كتبه التي أرسلها إلى الملوك والأمراء بقوله: (السَّلام على من اتَّبَع الهُدى).
ويجوز للمسلم أن يَردَّ السَّلام إذا ابتدأه غيرُ المسلم بالسَّلام; لعموم قول الله تعالى: ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ﴾ [النساء:86].
وعن أبي عثمان النهدي قال: (كتب أبو موسى إلى دهقان يُسلم عليه في كتابه، فقيل له: أتسلم عليه وهو كافر؟ قال: إنه كتب إليّ فسلم عليّ فرددت عليه ) [رواه البخاري في "الأدب المفرد"].
وإذا كان المجلس مختلطاً بالمسلمين وغير المسلمين; فإنه يجوز للمسلم أن يبدأ السلام ويقصد المسلمين بسلامه; لما ثبت من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما: « أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ركِب على حمارٍ ، عليه قَطيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ –لباسٌ غليظ له خمل-، وأسامةُ وَراءَه ، يعودُ سعدَ بنَ عُبادَةَ في بني حارثِ بنِ الخَزرَجِ ، قبلَ وَقعةِ بدرٍ ، فسارا حتى مرَّا بمجلسٍ فيه عبدُ اللهِ بنُ أُبَيِّ ابنِ سَلولٍ ، وذلك قبلَ أن يُسلِمَ عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ، فإذا المجلسُ أخلاطٌ منَ المسلمينَ والمشركينَ عبَدَةِ الأوثانِ واليهودِ ، وفي المسلمينَ عبدُ اللهِ بنُ رَواحَةَ ، فلما غَشِيَتِ المجلسُ عُجاجَةُ الدابَّةِ ، خمَّر ابنُ أُبَيٍّ أنفَه برِدائِه وقال : لا تُغَبِّروا علينا ، فسلَّم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عليهم ثم وقَف ، فنزَل فدعاهم إلى اللهِ وقرَأ عليهمُ القرآنَ » [رواه البخاري ومسلم].
الواجبات والتبعات الدينية
أولاً: الإعفاء من تكاليف الإسلام الثابتة قبل دخوله في الإسلام:
أجمعت الأمة على أن غير المسلم إذا أسلم لا يكلف بقضاء ما فاته من عبادات مفروضة, سواء كانت العبادة صلاة أو صياماً أو زكاة أو حجاً; قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ [الأنفال:38]، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحداً ممن أسلم أن يقضي شيئاً من الفرائض; لأن الإسلام يمحو ما كان قبله; كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله عنهما حينما جاء مسلماً; فاشترط على النبي صلى الله عليه وسلم أن يُغْفَرَ له, فقال صلى الله عليه وسلم: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله» [رواه مسلم].
بل إن من تمام فضل الله تعالى على عبده إذا أسلم أنه يثيبه على ما فعله من أعمال صالحة قبل إسلامه; فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أسلم العبد فحسن إسلامه كتب الله له كل حسنة كان أزلفها، ومحيت عنه كل سيئة كان أزلفها...» [رواه النسائي]، وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: «قلت: يا رسول الله! أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة، أو عتاقه، أو صلة رحم، أفيها أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلمت على ما أسلفت من خير» [رواه البخاري ومسلم].
ثانياً: الالتزام بأحكام الإسلام والخضوع لتعاليمه:
يجب على كل من دخل في دين الإسلام -رجلاً كان أو امرأة - أن يلتزم أحكام الإسلام وآدابه; فيجب عليه فعل الفرائض التي فرضها الله تعالى; كالصلوات المكتوبة, وصيام شهر رمضان إن لم يكن له عذر يمنعه من الصيام, وأداء الزكاة إذا ملك النصاب وحال عليه الحول, وحج بيت الله الحرام إن استطاع إليه سبيلاً, والتزام الحجاب بالنسبة للمرأة, وغير ذلك من الواجبات.
كما يجب عليه أن يمتنع عن فعل المحرمات وارتكاب المنكرات; فلا يعتدي على الآخرين في أنفسهم بالقتل, ولا على أعراضهم بارتكاب الزنا أو اللواط, ولا على أموالهم بالسرقة والرشوة وأكل الربا, ولا يعتدي على عقله بتناول المسكرات والمخدرات, إلى غير ذلك مما حرمته الشريعة الإسلامية; قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الممتحنة:12].
ومن الأحكام التي يراعيها المسلم أيضاً في ابتداء إسلامه ما يلي:
أ- الاغتسال:
فيُشرع له أن يغتسل لدخوله في الإسلام; لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن ثُمامة بن أُثال رضي الله عنه أسلم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا به إلى حائط بني فلان فمروه أن يغتسل» ] رواه أحمد[.
وعن قيس بن عاصم: «أنه أسلم، فأمره النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر» [رواه أحمد والترمذي والنسائي].
ب- الاختتان:
والاختتان: إزالة الجلدة الزائدة التي فوق رأس العضو الذكري.
فعلى المسلم أن يختتن إن لم يكن قد اختتن قبل إسلامه; لأن الاختتان من شعائر الإسلام ومن الفطرة, وهي ملة إبراهيم عليه السلام; فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال: «اختُتن إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانين» [رواه البخاري ومسلم].
أما إذا لم يقدر على الاختتان خوفاً على نفسه من التلف بسبب كبر سنه, أو مرضه, أو أخبره الطبيب الثقة أنه يحصل له نزيف قد يودي بحياته; فإنه لا حرج عليه في ترك الختان.
ج- تعلُّم سورة الفاتحة:
قراءة سورة الفاتحة ركن من أركان الصلاة; والصلاة لا تصح إلا بقراءتها; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» [رواه البخاري ومسلم]. ولذا يجب على المسلم أن يبادر إلى تعلم قراءة سورة الفاتحة باللفظ العربي.
فإن لم يتمكن من تعلم الفاتحة على الفور أجزأه أن يسبح الله ويحمده ويهلله ويكبره إلى أن يتعلمها كاملة; لما جاء في حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «فتوضأ كما امرك الله جل وعز، ثم تشهَّد فأقم، ثم كبِّر، فإن كان معك قرآن فاقرأ به، وإلا فاحمد الله وكبِّره وهلِّله» [رواه أبو داود والترمذي].
د- تعلُّم الوضوء:
الوضوء شرط لصحة الصلاة; لقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ﴾ [المائدة:6].
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلاة لا تقبل من غير وضوء; فعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء –يعني موضعه-» [رواه أبو داود [.
هـ- وجوب صيام رمضان:
إذا دخل الإنسان في دين الإسلام أثناء شهر رمضان, فإما أن يكون إسلامه بعد طلوع الفجر; فحينئذ يلزمه أن يمسك بقية اليوم وينوي الصيام من الغد لما تبقى من أيام شهر رمضان. وإما أن يكون إسلامه قبل طلوع الفجر; فيلزمه أن ينوي الصيام لليوم التالي وما بعده من الأيام إلى نهاية الشهر, وفي كلتا الحالتين لا يلزمه قضاء الأيام التي لم يصمها قبل إسلامه.
و- وجوب زكاة الفطر:
إذا أسلم الإنسان قبل غروب شمس آخر يوم من شهر رمضان; يلزمه أن يُخرج صدقة الفطر إذا كان لديه ما يزيد عن قوته وقوت عياله ليلة العيد ويومه.
أما إذا كان إسلامه بعد غروب شمس آخر يوم من شهر رمضان, فلا يلزمه إخراج زكاة الفطر.
* * تمَّ الكتابُ بحمدِ اللهِ * *
([1]) النحل: 18.
([2]) المائدة: 3.
([3]) سورة الكهف، الآيتان: 107-108.
([4]) سورة آل عمران، الآية: 85
([5]) سورة الشعراء، الآية: 3
([6]) سورة التوبة، الآية: 128
([7]) وليس من التّوكّل على غير اللهِ تعالى اتخّاذُ العبدِ للأسبابِ، أو الاستعانةُ ببعضِ العبادِ فيما يقدرون عليه.
([8]) وهي تزيد على ألف وثلاثمائة كيلو متر.
([9]) المواقيت المكانية: هي أماكن تحيط بمكة حددها النبي صلى الله عليه وسلم, لا يجوز لمن أراد السفر لأداء الحج أو العمرة أن يتجاوز أحدها من غير إحرام.
([10]) والنقاب: هو غطاء الوجه الذي يكون فيه نقب أو نقبان تُبصر منهما العين.
([11]) النسك: هو الطريقة التي يؤدي بها الحاج أعمال الحج.
([12]) يوم التروية: سمي بذلك لأن الناس كانوا في هذا اليوم يستقون الماء لحمله معهم إلى عرفة ومزدلفة.
([13]) مِنًى: منطقة تبعد عن شرق مكة مسافة (7 كم), تقع في الطريق بين مكة وعرفة, وهي الموقع الذي توجد فيه الجمرات الثلاث.
([14]) عرفة أو عرفات: منطقة تقع على مسافة (25 كم) جنوب شرق مكة.
([15]) وقت الزوال: هو الوقت الذي تبدأ فيه الشمس بالتحرك عن وسط السماء إلى جهة الغرب، وهو وقت أذان الظهر.
([16]) أي: مزدلفة.
([17]) مزدلفة: منطقة تقع على الطريق بين عرفة ومنى إلى الجنوب الشرقي من منى، وتسمى أيضاً (المشعر الحرام).
([18]) الجمرات: هي ثلاثة مراجم متتالية تقع آخر منطقة منى من جهة مكة, وهي التي يرمي فيها الحاج الحصى يوم العيد وأيام التشريق.
([19]) الهدي: هو ما يذبحه أو ينحره الحاج في منى أو مكة من الإبل والبقر والغنم.
([20]) التحلل الأصغر: هو أن يباح للحاج فعل كل ما كان محظوراً عليه بعد الإحرام; كلبس الثياب المخيطة، وتقليم الأظفار, وقص الشعر, والتطيب, إلا أنه يحرم عليه المعاشرة الزوجية.
([21]) التحلل الأكبر: هو أن يباح للحاج فعل كل ما كان محظوراً عليه بعد الإحرام حتى المعاشرة الزوجية.
([22]) أيام التشريق: هي أيام الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة, وسميت بذلك لأنهم كان يشرقون فيها لحوم الأضاحي, ويبرزونها للشمس لتجفيفها.
([23]) الفدية: هي ما يجب على الحاج من صيام أو طعام أو ذبيحة, بسبب ارتكابه أمراً محظوراً في الحج.
([24]) الوحشية: جمع وحشي، وهو ما لا يستأنس الناس من الدواب التي تعيش في البراري.