النفس وفقه محاسبتها
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيرا، ثم أما بعد:
فإن الحديث عن النفس أمر متشعب ومتعدد الجوانب، وذلك لأهميته وقيمته وخطورته وشدة حاجة الناس إليه، وقد أحببت تذكير نفسي وإخواني في هذه الرسالة التي ضمنتها عدداً من أهم الجوانب التي توضح وترشد العبد المسلم لما ينبغي معرفته في هذا الباب وبخاصة مع جهل أكثر الناس بحقيقة وطبيعة النفس ومعرفة أحوالها وأحكامها وكيفية التعامل معها، ومعلوم أنه كل ما عظم أمر الشيء اشتد الحاجة لمعرفته، والحديث عن أمر النفس طرقه العلماء من عدة نواحي، وأحببت هنا أن أوضح بعض ما أشار إليه العلماء مما يفيد وينفع، وقد كان جهدي فيه الجمع والتلخيص والترتيب والدلالة لما أراه مفيداً ونافعاً لمن أراد الاطلاع في عجالة على بعض جوانب هذا الباب، وراعيت أن أجعل الفصل الأول في التعريف بالنفس وبيان حقيقتها وكما قيل: "حدود الأشياء وتفسيرها الذي يوضحها، تتقدم أحكامها، فإن الحكم على الأشياء فرع عن تصورها، فمن حكم على أمر من الأمور- قبل أن يحيط علمه بتفسيره، وبتصوره تصورًا يميزه عن غيره- أخطأ خطأً فاحشًا"[1]
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزيئات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات وجهل وظلم في الكليات فيتولد فساد عظيم"[2]
وجعلت الفصل الثاني في مفهوم محاسبة النفس ومراتبها، والفصل الثالث في مفهوم السلف الصالح في التعامل مع النفس وجمعهم في أمور إصلاحها ومحاسبتها وتزكيتها بين الجانب العلمي والعملي في ذلك
المطلب الأول: وجود النفس وتأثيرها.
تعددت الأقوال في وجود النفس وتأثيرها وفي هذا يقول ابن قيم الجوزية: "وقد افترق العالم في هذا المقام أربع فرق:
(القول الأول): ففرقة أنكرت تأثير النفس
وهم فرقتان:
فرقة اعترفت بوجود النفوس الناطقة وأنكرت تأثيرها البتة
وهذا قول طائفة من المتكلمين ممن أنكر الأسباب والقوى والتأثيرات.
وفرقة أنكرت وجودها بالكلية وقالت: لا وجود لنفس الآدمي سوى هذا الهيكل المحسوس وصفاته وأعراضه فقط.
وهذا قول كثير من ملاحدة الطبائعيين وغيرهم من الملاحدة المنتسبين إلى الإسلام وهو قول شذوذ من أهل الكلام الذين ذمهم السلف وشهدوا عليهم بالبدعة والضلالة
(القول الثاني): الفرقة الثانية: أنكرت وجود النفس الإنسانية المفارقة للبدن وهذا قول كثير من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم
(القول الثالث): الفرقة الثالثة: بالعكس أقرت بوجود النفس الناطقة المفارقة للبدن وأنكرت وجود الجن والشياطين وزعمت أنها غير خارجة عن قوى النفس وصفاتها وهذا قول كثير من الفلاسفة الإسلاميين وغيرهم، وهؤلاء يقولون إنما يوجد في العالم من التأثيرات الغريبة والحوادث الخارقة فهي من تأثيرات النفس ويجعلون السحر والكهانة كله من تأثير النفس وحدها بغير واسطة شيطان منفصل.
وابن سينا وأتباعه على هذا القول حتى أنهم يجعلون معجزات الرسل من هذا الباب ويقولون إنما هي من تأثيرات النفس في هيولي العالم وهؤلاء كفار بإجماع أهل الملل وليسوا من أتباع الرسل جملة
(القول الرابع): الفرقة الرابعة: وهم أتباع الرسل وأهل الحق أقروا بوجود النفس الناطقة المفارقة للبدن وأثبتوا ما أثبته الله تعالى من صفاتها وشرها واستعاذوا بالله تعالى منها وعلموا أنه لا يعيذهم منه ولا يجيرهم إلا الله تعالى.
فهؤلاء أهل الحق ومن عداهم مفرط في الباطل أو معه باطل وحق، والله تعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم"[3]
المطلب الثاني: حقيقة النفس
غالبا ما يتوارد في أذهان الناس السؤال عن كيفية النفس وقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا السؤال فقال:
"وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: هَلْ لَهَا كَيْفِيَّةٌ تُعْلَمُ؟ فَهَذَا سُؤَالٌ مُجْمَلٌ
إنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا يُعْلَمُ مِنْ صِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا فَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ.
وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا هَلْ لَهَا مِثْلٌ مِنْ جِنْسِ مَا يَشْهَدُهُ مِنْ الْأَجْسَامِ أَوْ هَلْ لَهَا مِنْ جِنْسِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؟ فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ
فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْعَنَاصِرِ: الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَالنَّارِ وَالتُّرَابِ.
وَلَا مِنْ جِنْسِ أَبْدَانِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعْدِنِ.
وَلَا مِنْ جِنْسِ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ
فَلَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ مَشْهُودٌ وَلَا جِنْسٌ مَعْهُودٌ: وَلِهَذَا يُقَالُ؛ إنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَيْفِيَّتُهَا"[4]
وقال ابن قيم الجوزية: "أصُول أهل السّنة الَّتِي تظاهرت عَلَيْهَا أَدِلَّة الْقُرْآن وَالسّنة والْآثَار وَالِاعْتِبَار وَالْعقل وَالْقَوْل أَنَّهَا ذَات قَائِمَة بِنَفسِهَا تصعد وتنزل وتتصل وتنفصل وَتخرج وَتذهب وتجيء وتتحرك وتسكن وعَلى هَذَا أَكثر من مائَة دَلِيل قد ذَكرنَاهَا فِي كتَابنَا الْكَبِير فِي معرفَة الرّوح وَالنَّفس وَبينا بطلَان مَا خَالف هَذَا القَوْل من وُجُوه كَثِيرَة وَإِن من قَالَ غَيره لم يعرف نَفسه.
وَقد وصفهَا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالدُّخُولِ وَالْخُرُوج وَالْقَبْض والتوفي وَالرُّجُوع وصعودها إِلَى السَّمَاء وَفتح أَبْوَابهَا لَهَا وغلقها عَنْهَا فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَات الْمَوْت وَالْمَلَائِكَة باسطوا أَيْديهم أخرجُوا أَنفسكُم} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أيتها النَّفس المطمئنة ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية فادخلي فِي عبَادي وادخلي جنتي} وَهَذَا يُقَال لَهَا عِنْد الْمُفَارقَة للجسد، وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَفس وَمَا سواهَا فألهمها فجورها وتقواها} فَأخْبر أَنه سوى النَّفس كَمَا أخبر أَنه سوى الْبدن فِي قَوْله {الَّذِي خلقك فسواك فعدلك} فَهُوَ سُبْحَانَهُ سوى نفس الْإِنْسَان كَمَا سوى بدنه بل سوى بدنه كالقالب لنَفسِهِ فتسوية الْبدن تَابع لتسوية النَّفس وَالْبدن مَوْضُوع لَهَا كالقالب لما هُوَ مَوْضُوع لَهُ.
وَمن هَا هُنَا يعلم أَنَّهَا تَأْخُذ من بدنهَا صُورَة تتَمَيَّز بهَا عَن غَيرهَا فَإِنَّهَا تتأثر وتنتقل عَن الْبدن كَمَا يتأثر الْبدن وينتقل عَنْهَا فيكتسب الْبدن الطّيب والخبث من طيب النَّفس وخبثها، وتكتسب النَّفس الطّيب والخبث من طيب الْبدن وخبثه فأشد الْأَشْيَاء ارتباطا وتناسبا وتفاعلا وتأثرا من أَحدهمَا بِالْآخرِ الرّوح وَالْبدن وَلِهَذَا يُقَال لَهَا عِنْد الْمُفَارقَة «اخْرُجِي أيتها النَّفس الطّيبَة كَانَت فِي الْجَسَد الطّيب النَّفس واخرجي أيتها النَّفس الخبيثة كَانَت فِي الْجَسَد الْخَبيث»[5]"[6]
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (روح الآدمي مبدعة باتفاق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة، وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غيرُ واحد من أئمة المسلمين، مثل محمد بن نصر المروزي، الإمام المشهور، الذي هو أعلم أهل زمانه بالإجماع والاختلاف، أو من أعلمهم. وكذلك أبو محمد بن قتيبة، قال في (كتاب اللقط) لما تكلم على خلق الروح، قال: "النسم الأرواح، قال: وأجمع الناس أن الله خالق الجثة وبارئ النسمة، أي: الروح".
وقال أبو إسحاق بن شاقلا فيما أجاب به في هذه المسألة: "سألت رحمك الله عن الروح مخلوقة أو غير مخلوقة، قال: هذا مما لا يشك فيه من وفق للصواب"، إلى أن قال: "والروح من الأشياء المخلوقة، وقد تكلم في هذه المسألة طوائف من أكابر العلماء والمشايخ، وردوا على من يزعم أنها غير مخلوقة". وصنف الحافظ أبو عبد الله بن مندة في ذلك كتاباً كبيراً في (الروح والنفس) وذكر فيه من الأحاديث والآثار شيئاً كثيراً، وقبله الإمام محمد بن نصر المروزي وغيره، والشيخ أبو يعقوب الخراز، وأبو يعقوب النهرجوري، والقاضي أبو يعلى، وقد نص على ذلك الأئمة الكبار، واشتد نكيرهم على من يقول ذلك في عيسى ابن مريم، لا سيما في روح غيره كما ذكره أحمد في كتابه في (الرد على الزنادقة والجهمية)"[7]
قال ابن قيم الجوزية عن الروح بعد أن ذكر الأقوال المختلفة في حقيقتها[8]: "أَنه جسم مُخَالف بالماهية لهَذَا الْجِسْم المحسوس وَهُوَ جسم نوراني علوي خَفِيف حَيّ متحرك ينفذ فِي جَوْهَر الْأَعْضَاء ويسري فِيهَا سريان المَاء فِي الْورْد وسريان الدّهن فِي الزَّيْتُون وَالنَّار فِي الفحم فَمَا دَامَت هَذِه الْأَعْضَاء صَالِحَة لقبُول الْآثَار الفائضة عَلَيْهَا من هَذَا الْجِسْم اللَّطِيف بَقِي ذَلِك الْجِسْم اللَّطِيف مشابكا لهَذِهِ الْأَعْضَاء وأفادها هَذِه الْآثَار من الْحس وَالْحَرَكَة الإرادية وَإِذا فَسدتْ هَذِه الْأَعْضَاء بسب اسْتِيلَاء الأخلاط الغليظة عَلَيْهَا وَخرجت عَن قبُول تِلْكَ الْآثَار فَارق الرّوح الْبدن وانفصل إِلَى عَالم الْأَرْوَاح
وَهَذَا القَوْل هُوَ الصَّوَاب فِي الْمَسْأَلَة هُوَ الَّذِي لَا يَصح غَيره وكل الْأَقْوَال سواهُ بَاطِلَة وَعَلِيهِ دلّ الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الصَّحَابَة وأدلة الْعقل والفطرة"[9]
المطلب الثالث: مسكن النفس من الجسد
وأما مسكن الروح في الجسد فالروح تسري في بدن الإنسان كله،
يقول ابن تيمية: (لا اختصاص للروح بشيء من الجسد، بل هي سارية في الجسد كما تسري الحياة التي هي عرض في جميع الجسد، فإن الحياة مشروطة بالروح، فإذا كانت الروح في الجسد كان فيه حياة، وإذا فارقته الروح فارقته الحياة)[10]
ويقول ابن تيمية: (الإنسان عبارة عن البدن والروح معاً، بل هو بالروح أخص منه بالبدن، وإنما البدن مطية للروح، كما قال أبو الدرداء: (إنما بدني مطيتي، فإن رفقت بها بلغتني، وإن لم أرفق بها لم تبلغني)، وقد رواه ابن مندة وغيره عن ابن عباس، قال: (لا تزال الخصومة يوم القيامة بين الخلق حتى تختصم الروح والبدن، فتقول الروح للبدن: أنت عملت السيئات، فيقول البدن للروح: أنت أمرتني، فيبعث الله ملكاً يقضي بينهما فيقول: إنما مثلكما كمثل مقعد وأعمى دخلا بستاناً، فرأى المقعد فيه ثمراً معلقاً، فقال للأعمى: إني أرى ثمراً ولكن لا أستطيع النهوض إليه، وقال الأعمى: لكني أستطيع النهوض إليه، ولكني لا أراه، فقال المقعد: تعال فاحملني حتى أقطفه، فحمله وجعل يأمره فيسير به إلى حيث يشاء فقطع الثمرة، قال المَلَكُ: فعلى أيهما العقوبة؟ قالا: عليهما جميعاً، قال: فكذلك أنتما)[11]
قال ابن قيم الجوزية: "قَالَ تَعَالَى: {وَالله أخرجكم من بطُون أُمَّهَاتكُم لَا تعلمُونَ شَيْئا وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تشكرون} فَهَذِهِ الْحَال الَّتِي أخرجنَا عَلَيْهَا هِيَ حَالنَا الْأَصْلِيَّة وَالْعلم وَالْعقل والمعرفة وَالْقُوَّة طارئ علينا حَادث فِينَا بعد أَن لم يكن وَلم نَكُنْ نعلم قبل ذَلِك شَيْئا الْبَتَّةَ إِذْ لم يكن لنا وجود نعلم ونعقل بِهِ"[12]
المطلب الرابع: الرّوح هَل تَمُوت أم الْمَوْت للبدن وَحده
قال ابن قيم الجوزية: "الْعُقَلَاء كلهم متفقون على أَن الْإِنْسَان هُوَ هَذَا الْحَيّ النَّاطِق المتغذي النامي الحساس المتحرك بالإرادة وَهَذِه الصِّفَات نَوْعَانِ صِفَات لبدنه وصفات لروحه وَنَفسه الناطقة"[13]
وقال ابن قيم الجوزية: "الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة وَهِي أَن الرّوح هَل تَمُوت أم الْمَوْت للبدن وَحده اخْتلف النَّاس فِي هَذَا
(القول الأول) فَقَالَت طَائِفَة: تَمُوت الرّوح وتذوق الْمَوْت لِأَنَّهَا نفس وكل نفس ذائقة الْمَوْت
قَالُوا: وَقد دلّت الْأَدِلَّة على أَنه لَا يبْقى إِلَّا الله وَحده قَالَ تَعَالَى: {كل من عَلَيْهَا فان وَيبقى وَجه رَبك ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام} وَقَالَ تَعَالَى: {كل شَيْء هَالك إِلَّا وَجهه} قَالُوا وَإِذا كَانَت الْمَلَائِكَة تَمُوت فالنفوس البشرية أولى بِالْمَوْتِ قَالُوا: وَقد قَالَ تَعَالَى عَن أهل النَّار أَنهم قَالُوا: {رَبنَا أمتنَا اثْنَتَيْنِ وأحييتنا اثْنَتَيْنِ} فالموتة الأولى هَذِه المشهودة وَهِي للبدن وَالْأُخْرَى للروح.
(القول الثاني): وَقَالَ آخَرُونَ: لَا تَمُوت الْأَرْوَاح فَإِنَّهَا خلقت للبقاء وَإِنَّمَا تَمُوت الْأَبدَان قَالُوا وَقد دلّت على هَذَا الْأَحَادِيث الدَّالَّة على نعيم الْأَرْوَاح وعذابها بعد الْمُفَارقَة إِلَى أَن يرجعها الله فِي أجسادها وَلَو مَاتَت الْأَرْوَاح لانقطع عَنْهَا النَّعيم وَالْعَذَاب وَقد قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ فرحين بِمَا آتَاهُم الله من فَضله ويستبشرون بالذين لم يلْحقُوا بهم من خَلفهم} هَذَا مَعَ الْقطع بِأَن أَرْوَاحهم قد فَارَقت أَجْسَادهم وَقد ذاقت الْمَوْت.
(القول الثالث): وَالصَّوَاب أَن يُقَال: موت النُّفُوس هُوَ مفارقتها لأجسادها وخروجها مِنْهَا فَإِن أُرِيد بموتها هَذَا الْقدر فَهِيَ ذائقة الْمَوْت وَإِن أُرِيد أَنَّهَا تعدم وتضمحل وَتصير عدما مَحْضا فهي لَا تَمُوت بِهَذَا الِاعْتِبَار بل هِيَ بَاقِيَة بعد خلقهَا فِي نعيم أَو فِي عَذَاب وكما صرح بِهِ النَّص انها كَذَلِك حَتَّى يردهَا الله فِي جَسدهَا"[14] يقول ابن تيمية: (والأرواح مخلوقة بلا شك، وهي لا تعدم ولا تفنى، ولكن موتها بمفارقة الأبدان، وعند النفخة الثانية تعاد الأرواح إلى الأبدان)[15]
وقد تعرَّض شارح الطحاوية لهذه المسألة، فقال: (واختلف الناس هل تموت الروح أم لا؟ فقالت طائفة: تموت لأنها نفس، وكل نفس ذائقة الموت، وإذا كانت الملائكة تموت، فالنفوس البشرية أولى بالموت،
وقال آخرون: لا تموت الأرواح، فإنها خلقت للبقاء، وإنما تموت الأبدان، قالوا: وقد دل على ذلك الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها،
والصواب أن يقال: موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر، فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتفنى بالكلية فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب، وقد أخبر سبحانه أن أهل الجنة {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى}] الدخان: 56 [، وتلك الموتة هي مفارقة الروح للجسد) [16]
المبحث الثاني: مسميات الروح والنفس والعقل والعلاقة بينها
المطلب الأول: استعمالات لفظ الروح والنفس في القرآن والسنة.
قال ابن قيم الجوزية "وَالروح فِي الْقُرْآن على عدَّة أوجه:
أَحدهَا: الْوَحْي كَقَوْلِه تَعَالَى {وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيْك روحا من أمرنَا} وَقَوله تَعَالَى {يلقِي الرّوح من أمره على من يَشَاء من عباده} وسمى الْوَحْي روحا لما يحصل بِهِ من حَيَاة الْقُلُوب والأرواح.
الثَّانِي: الْقُوَّة والثبات والنصرة الَّتِي يُؤَيّد بهَا من شَاءَ من عباده الْمُؤمنِينَ كَمَا قَالَ {أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان وأيدهم بِروح مِنْهُ}.
الثَّالِث: جِبْرِيل كَقَوْلِه تَعَالَى {نزل بِهِ الرّوح الْأمين على قَلْبك} وَقَالَ تَعَالَى: {من كَانَ عدوا لجبريل فَإِنَّهُ نزله على قَلْبك} وَهُوَ روح الْقُدس قَالَ تَعَالَى: {قل نزله روح الْقُدس}.
الرَّابِع: الرّوح الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا الْيَهُود فأجيبوا بِأَنَّهَا من أَمر الله وَقد قيل أَنَّهَا الرّوح الْمَذْكُورَة فِي قَوْله تَعَالَى {يَوْم يقوم الرّوح وَالْمَلَائِكَة صفا لَا يَتَكَلَّمُونَ} وَأَنَّهَا الرّوح الْمَذْكُور فِي قَوْله {تنزل الْمَلَائِكَة وَالروح فِيهَا بِإِذن رَبهم}
الْخَامِس: الْمَسِيح ابْن مَرْيَم قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم رَسُول الله وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وروح مِنْهُ}.
وَأما أَرْوَاح بنى آدم فَلم تقع تَسْمِيَتهَا فِي الْقُرْآن إِلَّا بِالنَّفسِ
قَالَ تَعَالَى: {يَا أيتها النَّفس المطمئنة}
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا أقسم بِالنَّفسِ اللوامة}
وَقَالَ تَعَالَى: {إِن النَّفس لأمارة بالسوء}
وَقَالَ تَعَالَى: {أخرجُوا أَنفسكُم}
وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَفس وَمَا سواهَا فألهمها فجورها وتقواها}
وَقَالَ تَعَالَى: {كل نفس ذائقة الْمَوْت}
وَأما فِي السّنة فَجَاءَت بِلَفْظ النَّفس وَالروح "[17]
وقال ابن قيم الجوزية: "
(أولاً): النَّفس فِي الْقُرْآن تطلق:
1 ـ على الذَّات بجملتها:
كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَسَلمُوا على أَنفسكُم}
وَقَوله تَعَالَى: {يَوْم تَأتي كل نفس تجَادل عَن نَفسهَا}
وَقَوله تَعَالَى: {كل نفس بِمَا كسبت رهينة}
2 ـ وَتطلق على الرّوح وَحدهَا:
كَقَوْلِه تَعَالَى: {يَا أيتها النَّفس المطمئنة}
وَقَوله تَعَالَى: {أخرجُوا أَنفسكُم}
وَقَوله تَعَالَى: {وَنهى النَّفس عَن الْهوى}
وَقَوله تَعَالَى: {إِن النَّفس لأمارة بالسوء}
وَأما الرّوح فَلَا تطلق على الْبدن لَا بانفراده وَلَا مَعَ النَّفس
(الإطلاقات الأخرى للروح في القرآن)
1 ـ تطلق الرّوح على الْقُرْآن الَّذِي أوحاه الله تَعَالَى إِلَى رَسُوله:
قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيْك روحا من أمرنَا}
2 ـ وعَلى الْوَحْي الَّذِي يوحيه إِلَى أنبيائه وَرُسُله:
قَالَ تَعَالَى: {يلقِي الرّوح من أمره على من يَشَاء من عباده لينذر يَوْم التلاق}
وَقَالَ تَعَالَى: {ينزل الْمَلَائِكَة بِالروحِ من أمره على من يَشَاء من عباده أَن أنذروا أَنه لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاتقون} وسمى ذَلِك روحا لما يحصل بِهِ من الْحَيَاة النافعة فَإِن الْحَيَاة بِدُونِهِ لَا تَنْفَع صَاحبهَا الْبَتَّةَ بل حَيَاة الْحَيَوَان البهيم خير مِنْهَا وَأسلم عَاقِبَة
ولفظ الروح له عدة معان غير الروح التي تفارق البدن بالموت التي هي النفس، فمن إطلاقات الروح ما يلي:
1 ـ تطلق الروح على الهواء الخارج من البدن والهواء الداخل فيه.
2 ـ وتطلق على البخار الخارج من تجويف القلب من سويداه الساري في العروق.
3ـ وتطلق الروح على جبرائيل _ عليه السلام
قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء: 193].
4 ـ وتطلق على ما يؤيد الله به أولياءه من الروح،
كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22].
5 ـ وتطلق على الروح الذي أيد الله به روحه المسيح بن مريم عليه السلام
كما قال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [المائدة: 110].
6 ـ وتطلق على الروح التي يلقيها الله على من يشاء من عباده.
7 ـ وتطلق الروح على القوى التي في البدن؛ فإنها تسمى أرواحاً، فيقال: الروح الباصر، والروح السامع، والروح الشامّ؛ فهذه الأرواح قوى مُوْدَعَةٌ في البدن تموت بموت الأبدان، وهي غير الروح التي لا تموت بموت البدن، ولا تبلى كما يبلى.
8 ـ ويطلق الروح على ما هو أخص مما مضى كله، وهو قوة المعرفة بالله والإنابة إليه، ومحبته، وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته ونسبة هذه الروح إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن؛ فإذا فقدته الروح كانت بمنزلة البدن إذا فقد روحه، وهي الروح التي يؤيد الله بها أهل ولايته.
ولهذا يقول الناس: فلان فيه روح، وفلان ليس فيه روح، وهو قصبةٌ فارغة، ونحو ذلك.
9 ـ ويطلق الروح على غير ما ذكر مما فيه معنى الحياة المعنوية، فللعلم روح، وللإحسان روح، وللإخلاص روح، وللمحبة والإنابة روح، وللتوكل والصدق روح.
والناس متفاوتون في هذه المعاني أعظم تفاوت؛ فمنهم من تغلب عليه هذه الأرواح، فيصير روحانياً، ومنهم من يفقدها أو أكثرها فيصير بهيمياً، والله المستعان"[18]
المطلب الثاني: وَهِي هَل النَّفس وَالروح شَيْء وَاحِد أَو شَيْئَانِ متغايران
" اختلف النَّاس فِي ذَلِك
فَمن قَائِل أَن مسماهما وَاحِد وهم الْجُمْهُور
وَمن قَائِل أَنَّهُمَا متغايران وَنحن نكشف سر الْمَسْأَلَة بحول الله وقوته فَنَقُول النَّفس تطلق على أُمُور:
أَحدهَا: الرّوح
قَالَ الْجَوْهَرِي: النَّفس الرّوح يُقَال خرجت نَفسه قَالَ أَبُو خرَاش
نجما سالما وَالنَّفس مِنْهُ بشدقه ... وَلم ينج إِلَّا جفن سيف ومئزر
أَي بجفن سيف ومئزر وَالنَّفس وَالدَّم قَالَ سَالت نَفسه وَفِي الحَدِيث "مَالا نفس لَهُ سَائِلَة لَا ينجس المَاء إِذا مَاتَ فِيهِ"[19].
الثاني: وَالنَّفس الْجَسَد
قَالَ الشَّاعِر
نبئت أَن بني تَمِيم أدخلُوا ... أَبْنَاءَهُم تامور نفس الْمُنْذر
والتامور: الدَّم. وَالنَّفس: الْعين. يُقَال أَصَابَت فلَانا أَي عين
قلت لَيْسَ كَمَا قَالَ بل النَّفس هَا هُنَا الرّوح وَنسبَة الْإِضَافَة إِلَى الْعين توسع لِأَنَّهَا تكون بِوَاسِطَة النّظر الْمُصِيب وَالَّذِي أَصَابَهُ إِنَّمَا هُوَ نفس العائن كَمَا تقدم"[20]
وَقَالَت فرقة أُخْرَى من أهل الحَدِيث وَالْفِقْه والتصوف الرّوح غير النَّفس
قَالَ مقَاتل بن سُلَيْمَان: للْإنْسَان حَيَاة وروح وَنَفس فَإِذا نَام خرجت نَفسه الَّتِي يعقل بهَا الْأَشْيَاء وَلم تفارق الْجَسَد بل تخرج كحبل ممتد لَهُ شُعَاع فَيرى الرُّؤْيَا بِالنَّفسِ الَّتِي خرجت مِنْهُ وَتبقى الْحَيَاة وَالروح فِي الْجَسَد فِيهِ يتقلب ويتنفس فَإِذا حرك رجعت إِلَيْهِ أسْرع من طرفَة عين فَإِذا أَرَادَ الله عز وَجل أَن يميته فِي الْمَنَام أمسك تِلْكَ النَّفس الَّتِي خرجت.
وَقَالَ أَيْضا: "إِذا نَام خرجت نَفسه فَصَعدت إِلَى فَوق فَإِذا رَأَتْ الرُّؤْيَا رجعت فَأخْبرت الرّوح ويخبر الرّوح فَيُصْبِح يعلم أَنه قد رأى كَيْت وَكَيْت"
قَالَ أَبُو عبد الله بن مندة: "ثمَّ اخْتلفُوا فِي معرفَة الرّوح وَالنَّفس
1 ـ فَقَالَ بَعضهم: النَّفس طينية نارية وَالروح نورية روحانية
2 ـ وَقَالَ بَعضهم الرّوح لاهوتية وَالنَّفس ناسوتية وَأَن الْخلق بهَا ابتلى.
3 ـ وَقَالَت طَائِفَة وهم أهل الْأَثر أَن الرّوح غير النَّفس وَالنَّفس غير الرّوح وقوام النَّفس بِالروحِ وَالنَّفس صُورَة العَبْد والهوى والشهوة وَالْبَلَاء معجون فِيهَا وَلَا عَدو أعدى لِابْنِ آدم من نَفسه فَالنَّفْس لَا تُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا وَلَا تحب إِلَّا إِيَّاهَا، وَالروح تَدْعُو إِلَى الْآخِرَة وتؤثرها وَجعل الْهوى تبعا للنَّفس والشيطان تبع النَّفس والهوى وَالْملك مَعَ الْعقل وَالروح وَالله تَعَالَى يمدهما بإلهامة وتوفيقه"[21]
المطلب الثالث: أصل تسمية الروح والنفس
هنا ثلاث مسائل:
لماذا سميت الروح روحاً.
ولماذا سميت النفس روحاً.
ولماذا سميت النفس نفساً.
قال ابن قيم الجوزية:
(أولاً):" وَسميت الرّوح روحا لِأَن بهَا حَيَاة الْبدن وَكَذَلِكَ سميت الرّيح لما يحصل بهَا من الْحَيَاة وَهِي من ذَوَات الْوَاو وَلِهَذَا تجمع على أَرْوَاح قَالَ الشَّاعِر:
إِذا ذهبت الْأَرْوَاح من نَحْو أَرْضكُم ... وجدت لمسرها على كَبِدِي بردا
وَمِنْهَا الرّوح وَالريحَان والاستراحة
(ثانياً): وسميت النَّفس روحا لحُصُول الْحَيَاة بهَا
(ثالثاً): وَسميت نفسا إِمَّا
١-من الشَّيْء النفيس لنفاستها وشرفها
٢-وَإِمَّا من تنفس الشَّيْء إِذا خرج فلكثرة خُرُوجهَا ودخولها فِي الْبدن سميت نفسا وَمِنْه النَّفس بِالتَّحْرِيكِ فَإِن العَبْد كلما نَام خرجت مِنْهُ فَإِذا اسْتَيْقَظَ رجعت إِلَيْهِ فَإِذا مَاتَ خرجت خُرُوجًا كليا فَإِذا دفن عَادَتْ إِلَيْهِ فَإِذا سُئِلَ خرجت فَإِذا بعث رجعت إِلَيْهِ
فَالْفرق بَين النَّفس وَالروح فرق بِالصِّفَاتِ لَا فرق بِالذَّاتِ وَإِنَّمَا سمي الدَّم نفسا لِأَن خُرُوجه الَّذِي يكون مَعَه الْمَوْت يلازم خُرُوج النَّفس وَإِن الْحَيَاة لَا تتمّ إِلَّا بِهِ كَمَا لَا تتمّ إِلَّا بِالنَّفسِ فَلهَذَا قَالَ:
تسيل على حد الظباة نفوسنا ... وَلَيْسَت على غير الظباة تسيل
وَيُقَال فاضت نَفسه وَخرجت نَفسه وَفَارَقت نَفسه كَمَا يُقَال: خرجت روحه وَفَارَقت وَلَكِن الْفَيْض الاندفاع وهلة وَاحِدَة وَمِنْه الْإِفَاضَة وَهِي الاندفاع بِكَثْرَة وَسُرْعَة لَكِن أَفَاضَ إِذا دفع باختياره وإرادته إِذا انْدفع قسرا وقهرا فَالله سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يفيضها عِنْد الْمَوْت فتفيض هِيَ"[22]
وَقَالَ بَعضهم: الْأَرْوَاح من أَمر الله أخْفى حَقِيقَتهَا وَعلمهَا على الْخلق
وَقَالَ بَعضهم: الْأَرْوَاح نور من نور الله وحياة من حَيَاة الله"
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والروح المدبرة للبدن هي الروح المنفوخة فيه، وهي النفس التي تفارقه بالموت"[23].
وقال: "لكن تسمى نفساً باعتبار تدبيره للبدن، وتسمى روحاً باعتبار لطفه".
وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله: "أما الروح التي تتوفى وتُقبض فهي روح واحدة، وهي النفس"[24]
المبحث الثالث: العقل والقلب وعلاقتهما بالنفس والروح.
المطلب الأول: التعريف بالعقل والقلب.
تعريف العقل:
قال ابن تيمية: "الْعَقْلُ الْغَرِيزَةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ فِي الْعَبْدِ الَّتِي يَنَالُ بِهَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ"[25]
وأما مسكن العقل:
قال ابن تيمية: "أَيْنَ مَسْكَنُ الْعَقْلِ فِيهِ؟ فَالْعَقْلُ قَائِمٌ بِنَفْسِ الْإِنْسَانِ الَّتِي تَعْقِلُ وَأَمَّا مِنْ الْبَدَنِ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَلْبِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: بِمَاذَا نِلْت الْعِلْمَ: قَالَ: " بِلِسَانِ سَئُولٍ وَقَلْبٍ عَقُولٍ "[26]
وأما تعريف القلب:
"فلَفْظَ " الْقَلْبِ "
١-قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمُضْغَةُ الصَّنَوْبَرِيَّةُ الشَّكْلِ الَّتِي فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مِنْ الْبَدَنِ الَّتِي جَوْفُهَا عَلَقَةٌ سَوْدَاءُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ"[27].
٢-وَقَدْ يُرَادُ بِالْقَلْبِ بَاطِنُ الْإِنْسَانِ مُطْلَقًا فَإِنَّ قَلْبَ الشَّيْءِ بَاطِنُهُ كَقَلْبِ الْحِنْطَةِ وَاللَّوْزَةِ وَالْجَوْزَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْقَلِيبُ قَلِيبًا لِأَنَّهُ أَخْرَجَ قَلْبَهُ وَهُوَ بَاطِنُهُ"[28]
"وَعَلَى هَذَا فَإِذَا أُرِيدَ بِالْقَلْبِ هَذَا (أي باطن الإنسان) فَالْعَقْلُ مُتَعَلِّقٌ بِدِمَاغِهِ أَيْضًا وَلِهَذَا قِيلَ: إنَّ الْعَقْلَ فِي الدِّمَاغِ. كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْأَطِبَّاءِ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَيَقُولُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: إنَّ أَصْلَ الْعَقْلِ فِي الْقَلْبِ فَإِذَا كَمُلَ انْتَهَى إلَى الدِّمَاغِ."[29]
المطلب الثاني: العلاقة بين النفس والقلب والعقل.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الرُّوحَ الَّتِي هِيَ النَّفْسُ لَهَا تَعَلُّقٌ بِهَذَا وَهَذَا وَمَا يَتَّصِفُ مِنْ الْعَقْلِ بِهِ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا وَهَذَا لَكِنَّ مَبْدَأَ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ فِي الدِّمَاغِ وَمَبْدَأَ الْإِرَادَةِ فِي الْقَلْبِ.
وَالْعَقْلُ يُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ وَيُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ فَالْعِلْمُ وَالْعَمَلُ الِاخْتِيَارِيُّ أَصْلُهُ الْإِرَادَةُ وَأَصْلُ الْإِرَادَةِ فِي الْقَلْبِ وَالْمُرِيدُ لَا يَكُونُ مُرِيدًا إلَّا بَعْدَ تَصَوُّرِ الْمُرَادِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ مُتَصَوِّرًا فَيَكُونُ مِنْهُ هَذَا وَهَذَا وَيَبْتَدِئُ ذَلِكَ مِنْ الدِّمَاغِ وَآثَارُهُ صَاعِدَةٌ إلَى الدِّمَاغِ فَمِنْهُ الْمُبْتَدَأُ وَإِلَيْهِ الِانْتِهَاءُ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ."[30]
قال ابن تيمية: "إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْقَلْبَ لِلْإِنْسَانِ يَعْلَمُ بِهِ الْأَشْيَاءَ كَمَا خَلَقَ لَهُ الْعَيْنَ يَرَى بِهَا الْأَشْيَاءَ وَالْأُذُنَ يَسْمَعُ بِهَا الْأَشْيَاءَ كَمَا خَلَقَ لَهُ سُبْحَانَهُ كُلَّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ لِأَمْرِ مِنْ الْأُمُورِ وَعَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ. فَالْيَدُ لِلْبَطْشِ وَالرِّجْلُ لِلسَّعْيِ وَاللِّسَانُ لِلنُّطْقِ وَالْفَمُ لِلذَّوْقِ وَالْأَنْفُ لِلشَّمِّ وَالْجِلْدُ لِلَّمْسِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ."[31]
قال ابن قيم الجوزية: "وَمَعْلُومٌ: أَنَّ أُمُورَ الْقَلْبِ أَكْمَلُ وَأَقْوَى مِنْ أُمُورِ النَّفْسِ. لَكِنَّ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ نُكْتَةً لَطِيفَةً. وَهِيَ أَنَّ النَّفْسَ مِنْ جُنْدِ الْقَلْبِ وَرَعِيَّتِهِ. وَهِيَ مِنْ أَشَدِّ جُنْدِهِ خِلَافًا عَلَيْهِ، وَشِقَاقًا لَهُ. وَمِنْ قِبَلِهَا تَتَشَوَّشُ عَلَيْهِ الْمَمْلَكَةُ، وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ الدَّاخِلُ، فَإِذَا حَصَلَ لَهُ كَمَالٌ بِالْغِنَى: لَمْ يَتِمَّ لَهُ إِلَّا بِغِنَاهَا أَيْضًا. فَإِنَّهَا مَتَى كَانَتْ فَقِيرَةً عَادَ حُكْمُ فَقْرِهَا عَلَيْهِ. وَتَشَوَّشَ عَلَيْهِ غِنَاهُ. فَكَانَ غِنَاهَا تَمَامًا لِغِنَاهُ وَكَمَالًا لَهُ. وَغِنَاهُ أَصْلًا بِغِنَاهَا. فَمِنْهُ يَصِلُ الْغِنَى إِلَيْهَا. وَمِنْهَا يَصِلُ الْفَقْرُ وَالضَّرَرُ وَالْعَنَتُ إِلَيْهِ."[32]
وقال ابن قيم الجوزية: "اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ فِي الْعَيْنِ قُوَّةً بَاصِرَةً، كَمَا جَعَلَ فِي الْأُذُنِ قُوَّةً سَامِعَةً، وَفِي الْأَنْفِ قُوَّةً شَامَّةً، وَفِي اللِّسَانِ قُوَّةً نَاطِقَةً وَقُوَّةً ذَائِقَةً، فَهَذِهِ قُوًى أَوْدَعَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَجَعَلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا رَابِطَةً، وَجَعَلَ لَهَا أَسْبَابًا مِنْ خَارِجٍ، وَمَوَانِعَ تَمْنَعُ حُكْمَهَا، وَكُلُّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ انْطِبَاعٍ، وَمُقَابَلَةٍ، وَشُعَاعٍ، وَنِسْبَةٍ، وَإِضَافَةٍ: فَهُوَ سَبَبٌ وَشَرْطٌ، وَالْمُقْتَضَى هُوَ الْقُوَّةُ الْقَائِمَةُ بِالْمَحَلِّ، وَلَيْسَ الْغَرَضُ ذِكْرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَالْمَقْصُودُ أَمْرٌ آخَرُ.
وَأَمَّا مُعَايَنَةُ الْقَلْبِ: فَهِيَ انْكِشَافُ صُورَةِ الْمَعْلُومِ لَهُ، بِحَيْثُ تَكُونُ نِسْبَتُهُ إِلَى الْقَلْبِ كَنِسْبَةِ الْمَرْئِيِّ إِلَى الْعَيْنِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقَلْبَ يُبْصِرُ وَيَعْمَى، كَمَا تُبْصِرُ الْعَيْنُ وَكَمَا تَعْمَى، قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] فَالْقَلْبُ يَرَى وَيَسْمَعُ، وَيَعْمَى وَيَصِمُّ، وَعَمَاهُ وَصَمَمُهُ أَبْلَغُ مِنْ عَمَى الْبَصَرِ وَصَمَمِهِ.
وَأَمَّا مَا يُثْبِتُهُ مُتَأَخِّرُو الْقَوْمِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَهُوَ رُؤْيَةُ الرُّوحِ، وَسَمْعُهَا وَإِرَادَتُهَا، وَأَحْكَامُهَا، الَّتِي هِيَ أَخَصُّ مِنْ أَحْكَامِ الْقَلْبِ فَهَؤُلَاءِ اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ الرُّوحَ غَيْرُ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَاهُنَا أُمُورًا مَعْلُومَةً، وَهِيَ: الْبَدَنُ، وَرُوحُهُ الْقَائِمُ بِهِ، وَالْقَلْبُ الْمُشَاهَدُ فِيهِ، وَفِي سَائِرِ الْحَيَوَانِ وَالْغَرِيزَةِ، وَهِيَ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ الَّتِي مَحَلُّهَا الْقَلْبُ، وَنِسْبَتُهَا إِلَى الْقَلْبِ كَنِسْبَةِ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ إِلَى الْعَيْنِ، وَالْقُوَّةِ السَّامِعَةِ إِلَى الْأُذُنِ، وَلِهَذَا تُسَمَّى تِلْكَ الْقُوَّةُ قَلْبًا، كَمَا تُسَمَّى الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ بَصَرًا، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] وَلَمْ يُرِدْ شَكْلَ الْقَلْبِ، فَإِنَّهُ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْقُوَّةَ وَالْغَرِيزَةَ الْمُودَعَةَ فِيهِ.
وَالرُّوحُ: هِيَ الْحَامِلَةُ لِلْبَدَنِ، وَلِهَذِهِ الْقُوَى كُلِّهَا، فَلَا قِوَامَ لِلْبَدَنِ وَلَا لِقُوَاهُ إِلَّا بِهَا، وَلَهَا بِاعْتِبَارِ إِضَافَتِهَا إِلَى كُلِّ مَحَلٍّ حُكْمٌ وَاسْمٌ يَخُصُّهَا هُنَاكَ، فَإِذَا أُضِيفَتْ إِلَى مَحَلِّ الْبَصَرِ سُمِّيَتْ بَصَرًا، وَكَانَ لَهَا حُكْمٌ يَخُصُّهَا هُنَاكَ، وَإِذَا أُضِيفَتْ إِلَى مَحَلِّ السَّمْعِ سُمِّيَتْ سَمْعًا، وَكَانَ لَهَا حُكْمٌ يَخُصُّهَا هُنَاكَ، وَإِذَا أُضِيفَتْ إِلَى مَحَلِّ الْعَقْلِ وَهُوَ الْقَلْبُ سُمِّيَتْ قَلْبًا، وَلَهَا حُكْمٌ يَخُصُّهَا هُنَاكَ، هِيَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ رُوحٌ.
فَالْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ وَالْعَاقِلَةُ وَالسَّامِعَةُ وَالنَّاطِقَةُ رُوحٌ بَاصِرَةٌ وَسَامِعَةٌ وَعَاقِلَةٌ وَنَاطِقَةٌ، فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ هَذَا الْعَاقِلُ، الْفَاهِمُ الْمُدْرِكُ، الْمُحِبُّ الْعَارِفُ، الْمُحَرِّكُ لِلْبَدَنِ الَّذِي هُوَ مَحِلُّ الْخِطَابِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَهُ صِفَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهِ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى نَفْسًا مُطْمَئِنَّةً وَنَفْسًا لَوَّامَةً، وَنَفْسًا أَمَّارَةً، وَلَيْسَ هُوَ ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ بِالذَّاتِ وَالْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ هُوَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ لَهَا صِفَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ.
وَهُمْ يُشِيرُونَ بِالنَّفْسِ إِلَى الْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ، فَيَقُولُونَ: فُلَانٌ لَهُ نَفْسٌ، وَفُلَانٌ لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ فَارَقَتْهُ نَفْسُهُ لَمَاتَ، وَلَكِنْ يُرِيدُونَ تَجَرُّدَهُ عَنْ صِفَاتِ النَّفْسِ الْمَذْمُومَةِ.
وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ النَّفْسَ إِذَا تَلَطَّفَتْ وَفَارَقَتِ الرَّذَائِلَ صَارَتْ رُوحًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَمْ تُعْدَمْ، وَيُخْلَقُ لَهُ مَكَانَهَا رُوحٌ لَمْ تَكُنْ، وَلَكِنْ عُدِمَتْ مِنْهَا الصِّفَاتُ "الْمَذْمُومَةُ، وَصَارَتْ مَكَانَهَا الصِّفَاتُ الْمَحْمُودَةُ، فَسُمِّيَتْ رُوحًا.
وَهَذَا اصْطِلَاحٌ مُجَرَّدٌ، وَإِلَّا فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَمَّاهَا نَفْسًا فِي الْقُرْآنِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا أَمَّارَةً، وَلَوَّامَةً، وَمُطْمَئِنَّةً قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] وَيَدْخُلُ فِي هَذَا جَمِيعُ أَنْفُسِ الْعِبَادِ حَتَّى الْأَنْبِيَاءِ، وَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُوحًا عَلَى الْإِطْلَاقِ مُؤْمِنَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً، بَرَّةً أَوْ فَاجِرَةً كَقَوْلِهِ: «إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ»[33] ، وَقَوْلِهِ: «إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا حَيْثُ شَاءَ، وَرَدَّهَا حَيْثُ شَاءَ»[34] ، وَقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ قَبْضِ الرُّوحِ وَصِفَتِهِ إِنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا كَانَ كَذَا وَكَذَا فَسَمَّى الْمَقْبُوضَ رُوحًا كَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ نَفْسًا وَهَذَا الْمَقْبُوضُ وَالْمُتَوَفَّى شَيْءٌ وَاحِدٌ، لَا ثَلَاثَةٌ وَلَا اثْنَانِ، وَإِذَا قُبِضَ تَبِعَتْهُ الْقُوَى كُلُّهَا الْعَقْلُ، وَمَا دُونَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ حَامِلَ الْجَمِيعِ وَمَرْكَبِهِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَالْمُعَايَنَةُ نَوْعَانِ:
مُعَايَنَةُ بَصَرٍ،
وَمُعَايَنَةُ بَصِيرَةٍ،
فَمُعَايَنَةُ الْبَصَرِ: وُقُوعُهُ عَلَى نَفْسِ الْمَرْئِيِّ، أَوْ مِثَالِهِ الْخَارِجِيِّ، كَرُؤْيَةِ مِثَالِ الصُّورَةِ فِي الْمِرْآةِ وَالْمَاءِ.
وَمُعَايَنَةُ الْبَصِيرَةِ: وُقُوعُ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ عَلَى الْمِثَالِ الْعِلْمِيِّ الْمُطَابِقِ لِلْخَارِجِيِّ، فَيَكُونُ إِدْرَاكُهُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ إِدْرَاكِ الْعَيْنِ لِلصُّورَةِ الْخَارِجِيَّةِ، وَقَدْ يَقْوَى سُلْطَانُ هَذَا الْإِدْرَاكِ الْبَاطِنِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ الْحُكْمُ لَهُ، وَيَقْوَى اسْتِحْضَارُ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ لِمُدْرِكِهَا، بِحَيْثُ يَسْتَغْرِقُ فِيهِ، فَيَغْلِبُ حُكْمُ الْقَلْبِ عَلَى حُكْمِ الْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ، فَيَسْتَوْلِي عَلَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، بِحَيْثُ يَرَاهُ، وَيَسْمَعُ خِطَابَهُ فِي الْخَارِجِ، وَهُوَ فِي النَّفْسِ وَالذِّهْنِ، لَكِنْ لِغَلَبَةِ الشُّهُودِ، وَقُوَّةِ الِاسْتِحْضَارِ، وَتَمَكُّنِ حُكْمِ الْقَلْبِ وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى الْقُوَى، صَارَ كَأَنَّهُ مَرْئِيٌّ بِالْعَيْنِ، مَسْمُوعٌ بِالْأُذُنِ، بِحَيْثُ لَا يَشُكُّ الْمُدْرِكُ وَلَا يَرْتَابُ فِي ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، وَلَا يَقْبَلُ عَذْلًا.
وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ: أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ شَوَاهِدُ وَأَمْثِلَةٌ عِلْمِيَّةٌ تَابِعَةٌ لِلْمُعْتَقِدِ، فَذَلِكَ الَّذِي أَدْرَكَ بِعَيْنِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ، إِنَّمَا هُوَ شَاهِدٌ دَالٌّ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَيْسَ هُوَ نَفْسُ الْحَقِيقَةِ"[35]
المطلب الثالث: القلب وعلاقته بقوة التفكير والنظر وقوة الإرادة والمحبة.
قد أودع الله تعالى في الإنسان قوتان:
قوة في التفكير والنظر: وهي قوة علمية.
وقوة في الإرادة والعمل: وهي قوة عملية.
وصدق النبي إذ قال: «تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ، وَهَمَّامٌ»([36])، حارثٌ لأن الإنسان دائماً في كسبٍ وعمل، وهمام لأن الإنسان في إرادة دائمة، ولذلك كان من دعاء النبي ﷺ أنه يقول: « اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي، وَأَعِذْنِي مِنْ شَرِّ نَفْسِي »([37])، اللهم ألهمني رشدي تلك هي القوة العلمية، وقني شر نفسي تلك هي القوة العملية؛ لأن الإنسان إنما تؤتى من بابين:
باب الشهوات.
وباب الشبهات.
فالشيطان يحاول أن يغوي الإنسان من هذين البابين فهما عبارة عن جيشين من الباطل: جيش الشهوات، وجيش الشبهات، فيسلط جيش الشبهات على القوة العلمية، ويسلط جيش الشهوات ــ وما أكبر هذا الباب وما أكثر طرقه على القوة العملية.
لذلك الله ﷻ لما زكى نبيه ﷺ قال تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}[النجم:2]، لأن الضلالة ضد الهداية، والغواية ضد الرشد، فبالتالي زكى الله ﷻ نبيه ﷺ بأن أخبر أنه في سلامة في الفكر والاعتقاد، وفي سلامة في الإرادة والعمل، وهكذا زكى النبي ﷺ الخلفاء الراشدين، فقال: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسَنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ »([38])، الراشدين المهديين أي أنهم في سلامة في التفكير والاعتقاد، وسلامة في الإرادة والعمل.
فمن هذا يتقرر: أن الإنسان فيه قوتان أودعهما الله ﷻ فإما أن يستغل هذا في الخير، أو أن يستغل هذا في الشر، ولذا تلاحظ أن الإنسان من حين استيقاظه يبدأ في هاتين القوتين: قوة التفكير وقوة العمل، وأحيانا ًيسخر هذا للخير وأحياناً يسخر هذا للشر، وانظر إلى نفسك في أي الطريقين تسير.
ولقد بين الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز وفي سنة رسوله ﷺ كيف أن الإنسان باستطاعته بعد توفيق الله وفضله أن يجعل هاتين القوتين تسخران في الخير، وتسيران في الخير، وصدق الله إذ قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[ الشمس7 :10].
فالله سبحانه وتعالى جعل في الإنسان من القوة بحيث لو أنه التزم هدى الله ﷻ وسار على النهج الذي رسمه الله ﷻ في كتابه وفي سنة رسوله ﷺ لوفق لأفعال الخير وعمل الخير.
المطلب الرابع: أقسام القلوب.
اعلم أن القلوب أربعة كما قال حذيفة بن اليمان t الصحابي الجليل:
" الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ:
قَلْبٌ مُصَفَّحٌ فَذَاكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ،
وَقَلْبٌ أَغْلَفُ، فَذَاكَ قَلْبُ الْكَافِرِ،
وَقَلْبٌ أَجْرَدُ كَأَنَّ فِيهِ سِرَاجًا يَزْهُو، فَذَاكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ
وَقَلْبٌ فِيهِ نِفَاقٌ وَإِيمَانٌ فَمِثْلُهُ مِثْلُ قُرْحَةٍ يَمُدُّهَا قَيْحٌ وَدَمٌ، وَمِثْلُهُ مِثْلُ شَجَرَةٍ يَسْقِيهَا مَاءٌ خَبِيثٌ وَمَاءٌ طَيِّبٌ، فَأَيُّ مَاءٍ غَلَبَ عَلَيْهَا غَلَبَ "([39])
فالقلوب أربعة: فإما أن يكون قلبك قلب المؤمن الذي إيمانه مثل الجبال في رسيها إيمان من عرف الله ﷻ وعبد الله ﷻ ولم تضره بعد ذلك شهوة من الشهوات، أو شبهة من الشبهات، فهذا قلبٌ أنار الله ﷻ بصيرة صاحبه بالإيمان، وكيف لا يكون الإيمان نور والله ﷻ يقول ممتناً على نبيه ﷺ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ }[الشورى:52]، وهل يستغنى الإنسان عن النور، وأعظم نورٍ هو نور الإيمان؛ إذا الله ﷻ قذفه في قلب المؤمن.
قلب أجرد: خالص لله ﷻ فيه مثل السراج يزهر أي فيه نور الإيمان فذاك قلب المؤمن،
وقلبٌ أغلف: وذاك قلب الكافر والغلاف هو الغشاء والغطاء، قلبٌ شاء الله ﷻ أن يطمس بصيرة صاحبه، فلم يعد يعرف أن الحق حقاً وأن الباطل باطلاً، بل يرى الحق باطلاً والباطل حقا، فهذا قلب الكافر.
وقلب منكوس: عرف ثم أنكر وهذا قلب المنافق؛ لأنه عرف الحق ثم أنكر الحق وحاد عنه.
وقلبٌ فيه مادتان: مادة نفاق ومادة إيمان، لذلك لا تعجب أن أصحاب النبي ﷺ كانوا يخشون على أنفسهم من النفاق.
فنفاق القلب النفاق الاعتقادي نوعان:
نوعٌ يعرفه الكثير من الناس، وهو أن يكون الإنسان على اعتقاد الكفر أساساً ثم يُظهر الإيمان.
لكن النوع الآخر هو ما ذكره هذا الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان، الذي كان يقول: " كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي "([40]).
فوصف النوع الثاني من أنواع النفاق قلبٌ فيه مادتان: مادة إيمان ومادة نفاق، فأيهما غلب كان إليه أقرب، فبعض الناس هذا حاله، فتراه على الاستقامة أحياناً وتراه على الضد أحياناً، فيُخشى عليه أن يُختم بخاتمة سوء، تحول بينه وبين الإيمان فتلك هي قلوب الناس أربعة، كما بينها هذا الصحابي الجليل.
فقلبك يا تُرى من أي هذه الأربع؟ فإن معرفة الله ﷻ والعمل لله ﷻ هي أساسٌ في هداية هذا الإنسان، ولذلك ينبغي على الإنسان أن يعلم كيف يُمد هاتين القوتين بما يحقق لهما السلامة والاستقامة.
واعلم أن الأساس في ذلك وحي الله ﷻ، فإن الله ﷻ أخبر عن كتابه فقال تعالى: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }، وقال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة:2]، وقال تعالى: { قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ }[يونس:57].
فالقرآن شفاء، وضياء، ونور وهدى، فإذا الإنسان التزم بذلك علماً، وتعلماً وعملاً ودعوة فإن في هذا أعظم الأمور والأسباب التي تجلب لهذا القلب السلامة والنجاة بإذن الله ﷻ، فاحرص على ذلك.
وهكذا شأن سنة المصطفى ﷺ، فقد قال الله تعالى عنه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الشورى:52]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الجمعة:2].
فعلى المسلم أن يعرف ما لسنة المصطفى ﷺ من منزلة ومكانة وفضلٍ وخير، وعليه أن يدرسها، وعليه أن يتعلمها؛ لأن الخير والهدى فيها، وقد قال النبي ﷺ: « قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ »([41]).
المبحث الرابع: أنواع النفوس البشرية.
المطلب الأول: أقسام النفس باعتبار طباعها.
قال ابن قيم الجوزية: " فإن النفوس:
كلبية
وسبعية
وملكية.
فالكلبية: تقنع بالعظم والكسرة والجيفة والقذرة،
والسبعية: لا تقنع بذلك بل بقهر النفوس، تريد الاستيلاء عليها بالحق والباطل.
وأما الملكية: فقد ارتفعت عن ذلك وشمرت إلى الرفيق الأعلى، فهمتها العلم والإيمان ومحبة الله تعالى والإنابة إليه وإيثار محبته ومرضاته، وإنما تأخذ من الدنيا ما تأخذ من لتستعين به على الوصول إلى فاطرها وربها ووليها، لا لتنقطع به عنه".[42]
ويفصل ابن قيم الجوزية رحمه الله النفوس الحيوانية ويقسمها على النحو الآتي: "فَأَمَّا مَشْهَدُ الْحَيَوَانِيَّةِ وَقَضَاءِ الشَّهْوَةِ فَمَشْهَدُ الْجُهَّالِ الَّذِينَ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ الْحَيَوَانِ إِلَّا فِي اعْتِدَالِ الْقَامَةِ وَنُطْقِ اللِّسَانِ، لَيْسَ هَمُّهُمْ إِلَّا مُجَرَّدَ نَيْلِ الشَّهْوَةِ بِأَيِّ طَرِيقٍ أَفْضَتْ إِلَيْهَا، فَهَؤُلَاءِ نُفُوسُهُمْ نُفُوسٌ حَيَوَانِيَّةٌ لَمْ تَتَرَقَّ عَنْهَا إِلَى دَرَجَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ فَضْلًا عَنْ دَرَجَةِ الْمَلَائِكَةِ، فَهَؤُلَاءِ حَالُهُمْ أَخَسُّ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ مُتَفَاوِتُونَ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي هُمْ عَلَى أَخْلَاقِهَا وَطِبَاعِهَا.
فَمِنْهُمْ مَنْ نَفْسُهُ كَلْبِيَّةٌ، لَوْ صَادَفَ جِيفَةً تُشْبِعُ أَلْفَ كَلْبٍ لَوَقَعَ عَلَيْهَا وَحَمَاهَا مِنْ سَائِرِ الْكِلَابِ وَنَبَحَ كُلَّ كَلْبٍ يَدْنُو مِنْهَا، فَلَا تَقْرَبُهَا الْكِلَابُ إِلَّا عَلَى كُرْهٍ مِنْهُ وَغَلَبَةٍ، وَلَا يَسْمَحُ لِكَلْبٍ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَهَمُّهُ شِبَعُ بَطْنِهِ مِنْ أَيْ طَعَامٍ اتَّفَقَ: مَيْتَةٍ أَوْ مُذَكًّى، خَبِيثٍ أَوْ طَيِّبٍ، وَلَا يَسْتَحِي مِنْ قَبِيحٍ، إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ، إِنْ أَطْعَمْتَهُ بَصْبَصَ بِذَنَبِهِ وَدَارَ حَوْلَكَ، وَإِنْ مَنَعْتَهُ هَرَّكَ وَنَبَحَكَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ نَفْسُهُ حِمَارِيَّةٌ لَمْ تُخْلَقْ إِلَّا لِلْكَدِّ وَالْعَلَفِ، كُلَّمَا زِيدَ فِي عَلَفِهِ زِيدَ فِي كَدِّهِ، أَبْكَمُ الْحَيَوَانِ وَأَقَلُّهُ بَصِيرَةً، وَلِهَذَا مَثَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ مِنْ حَمْلِهِ كِتَابَهُ فَلَمْ يَحْمِلْهُ مَعْرِفَةً وَلَا فِقْهًا وَلَا عَمَلًا، وَمَثَّلَ بِالْكَلْبِ عَالِمَ السُّوءِ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ آيَاتِهِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا وَأَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعْ هَوَاهُ، وَفِي هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ أَسْرَارٌ عَظِيمَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ نَفْسُهُ سَبُعِيَّةٌ غَضَبِيَّةٌ هِمَّتُهُ الْعُدْوَانُ عَلَى النَّاسِ وَقَهْرُهُمْ بِمَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ قُدْرَتُهُ، طَبِيعَتُهُ تَتَقَاضَى ذَلِكَ كَتَقَاضِي طَبِيعَةِ السَّبُعِ لِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ نَفْسُهُ فَأْرِيَّةٌ فَاسِقٌ بِطَبْعِهِ مُفْسِدٌ لِمَا جَاوَرَهُ، تَسْبِيحُهُ بِلِسَانِ الْحَالِ: سُبْحَانَ مَنْ خَلَقَهُ لِلْفَسَادِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ نَفْسُهُ عَلَى نُفُوسِ ذَوَاتِ السُّمُومِ وَالْحُمَاتِ كَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذَا الضَّرْبُ هُوَ الَّذِي يُؤْذِي بِعَيْنِهِ فَيُدْخِلُ الرَّجُلَ الْقَبْرَ وَالْجَمَلَ الْقِدْرَ، وَالْعَيْنُ وَحْدَهَا لَمْ تَفْعَلْ شَيْئًا وَإِنَّمَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ السُّمِّيَّةُ تَكَيَّفَتْ بِكَيْفِيَّةٍ غَضَبِيَّةٍ مَعَ شِدَّةِ حَسَدٍ وَإِعْجَابٍ، وَقَابَلَتِ الْمَعِينَ عَلَى غِرَّةِ مِنْهُ وَغَفْلَةٍ وَهُوَ أَعْزَلُ مِنْ سِلَاحِهِ فَلَدَغَتْهُ كَالْحَيَّةِ الَّتِي تَنْظُرُ إِلَى مَوْضِعٍ مَكْشُوفٍ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ فَتَنْهَشُهُ، فَإِمَّا عَطَبٌ وَإِمَّا أَذًى، وَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ أَذَى الْعَائِنِ عَلَى الرُّؤْيَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ بَلْ إِذَا وُصِفَ لَهُ الشَّيْءُ الْغَائِبُ عَنْهُ وَصَلَ إِلَيْهِ أَذَاهُ وَالذَّنْبُ لِجَهْلِ الْمَعِينِ وَغَفْلَتِهِ وَغِرَّتِهِ عَنْ حَمْلِ سِلَاحِهِ كُلَّ وَقْتٍ، فَالْعَائِنُ لَا يُؤَثِّرُ فِي شَاكِي السِّلَاحِ كَالْحَيَّةِ إِذَا قَابَلَتْ دِرْعًا سَابِغًا عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ لَيْسَ فِيهِ مَوْضِعٌ مَكْشُوفٌ، فَحَقٌّ عَلَى مَنْ أَرَادَ حِفْظَ نَفْسِهِ وَحِمَايَتَهَا أَنْ لَا يَزَالَ مُتَدَرِّعًا مُتَحَصِّنًا لَابِسًا أَدَاةَ الْحَرْبِ مُوَاظِبًا عَلَى أَوْرَادِ التَّعَوُّذَاتِ وَالتَّحْصِينَاتِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ وَالَّتِي فِي السُّنَّةِ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ طَبْعُهُ طَبْعُ خِنْزِيرٍ يَمُرُّ بِالطَّيِّبَاتِ فَلَا يَلْوِي عَلَيْهَا، فَإِذَا قَامَ الْإِنْسَانُ عَنْ رَجِيعِهِ قَمَّهُ، وَهَكَذَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَسْمَعُ مِنْكَ وَيَرَى مِنَ الْمَحَاسِنِ أَضْعَافَ أَضْعَافِ الْمَسَاوِئِ فَلَا يَحْفَظُهَا وَلَا يَنْقُلُهَا وَلَا تُنَاسِبُهُ، فَإِذَا رَأَى سَقْطَةً أَوْ كَلِمَةً عَوْرَاءَ وَجَدَ بُغْيَتَهُ وَمَا يُنَاسِبُهَا فَجَعَلَهَا فَاكِهَتَهُ وَنُقْلَهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ عَلَى طَبِيعَةِ الطاووس لَيْسَ لَهُ إِلَّا التَّطَوُّسُ وَالتَّزَيُّنُ بِالرِّيشِ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ عَلَى طَبِيعَةِ الْجَمَلِ أَحْقَدِ الْحَيَوَانِ، وَأَغْلَظِهِ كَبِدًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ عَلَى طَبِيعَةِ الدُّبِّ أَبْكَمُ خَبِيثٌ وَعَلَى طَبِيعَةِ الْقِرْدِ.
وَأَحْمَدُ طَبَائِعِ الْحَيَوَانَاتِ طَبَائِعُ الْخَيْلِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْحَيَوَانَاتِ نُفُوسًا، وَأَكْرَمُهَا طَبْعًا وَكَذَلِكَ الْغَنَمُ، وَكُلُّ مَنْ أَلِفَ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ اكْتَسَبَ مِنْ طَبْعِهِ وَخُلُقِهِ، فَإِنْ تَغَذَّى بِلَحْمِهِ كَانَ الشَّبَهُ أَقْوَى فَإِنَّ الْغَاذِيَ شَبِيهٌ بِالْمُغْتَذَى.
وَلِهَذَا حَرَّمَ اللَّهُ أَكْلَ لُحُومِ السِّبَاعِ وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ لِمَا تُورِثُ آكِلَهَا مِنْ شِبْهِ نُفُوسِهَا بِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ."[43]
المطلب الثاني: أحوال النفس أو الروح باعتبار تعلقاتها بالبدن
قال ابن قيم الجوزية: "الرّوح لَهَا بِالْبدنِ خَمْسَة أَنْوَاع من التَّعَلُّق مُتَغَايِرَة الْأَحْكَام
أَحدهَا: تعلقهَا بِهِ فِي بطن الْأُم جَنِينا.
الثَّانِي: تعلقهَا بِهِ بعد خُرُوجه إِلَى وَجه الأَرْض.
الثَّالِث: تعلقهَا بِهِ فِي حَال النّوم فلهَا بِهِ تعلق من وَجه ومفارقة من وَجه.
الرَّابِع: تعلقهَا بِهِ فِي البرزخ فَإِنَّهَا وَإِن فارقته وتجردت عَنهُ فَإِنَّهَا لم تُفَارِقهُ فراقا كليا بِحَيْثُ لَا يبْقى لَهَا الْتِفَات إِلَيْهِ الْبَتَّةَ وَقد ذكرنَا فِي أول الْجَواب من الْأَحَادِيث والْآثَار مَا يدل على ردهَا إِلَيْهِ وَقت سَلام الْمُسلم وَهَذَا الرَّد إِعَادَة خَاصَّة لَا يُوجب حَيَاة الْبدن قبل يَوْم الْقِيَامَة.
الْخَامِس: تعلقهَا بِهِ يَوْم بعث الأجساد وَهُوَ أكمل أَنْوَاع تعلقهَا بِالْبدنِ وَلَا نِسْبَة لما قبله من أَنْوَاع التَّعَلُّق إِلَيْهِ إِذْ تعلق لَا يقبل الْبدن مَعَه موتا وَلَا نوما وَلَا فَسَادًا"[44]
ويقول ابن قيم الجوزية: "فلهذه الْأَنْفس أَربع دور كل دَار أعظم من الَّتِي قبلهَا:
الدَّار الأولى: فِي بطن الْأُم وَذَلِكَ الْحصْر والضيق وَالْغَم والظلمات الثَّلَاث.
وَالدَّار الثَّانِيَة: هِيَ الدَّار الَّتِي نشأت فِيهَا والفتها واكتسبت فِيهَا الْخَبَر وَالشَّر وَأَسْبَاب السَّعَادَة والشقاوة.
وَالدَّار الثَّالِثَة: دَار البرزخ وَهِي أوسع من هَذِه الدَّار وَأعظم بل نسبتها إِلَيْهِ كنسبة هَذِه الدَّار إِلَى الأولى.
وَالدَّار الرَّابِعَة: دَار الْقَرار وَهِي الْجنَّة أَو النَّار فَلَا دَار بعْدهَا وَالله ينقلها فِي هَذِه الدّور طبقًا بعد طبق حَتَّى يبلغهَا الدَّار الَّتِي لَا يصلح لَهَا غَيرهَا وَلَا يَلِيق بهَا سواهَا وَهِي الَّتِي خلقت لَهَا وهيئت للْعَمَل الْموصل لَهَا إِلَيْهَا.
وَلها فِي كل دَار من هَذِه الدّور حكم وشأن غير شَأْن الدَّار الْأُخْرَى فَتَبَارَكَ الله فاطرها ومنشئها ومميتها ومحييها ومسعدها ومشقيها الَّذِي فاوت بَينهَا فِي دَرَجَات سعادتها وشقاوتها كَمَا فاوت بَينهَا فِي مَرَاتِب علومها وأعمالها وقواها وأخلاقها"[45]
ويقول أيضاً: "فالحاصل أن الدور ثلاث:
دار الدنيا،
ودار البرزخ،
ودار القرار.
وقد جعل الله لكل دار أحكاما تخصها، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس،
وجعل أحكام الدنيا على الأبدان، والأرواح تبع لها،
وجعل أحكام البرزخ على الأرواح، والأبدان تبع لها،
فإذا جاء يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعاً".[46]
المطلب الثالث: هل النفس واحدة أم ثلاث
قال ابن قيم الجوزية: هل النفس واحدة أم ثلاث؟
فقد وقع في كلام كثير من الناس أن لابن آدم ثلاث أنفس: نفس مطمئنة، ونفس لوامة، ونفس أمارة، وأن منهم من تغلب عليه هذه، ومنهم من تغلب عليه الأخرى، ويحتجون على ذلك بقوله تعالى: {يَأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ}، وبقوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}، وبقوله تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}.
والتحقيق: أنها نفس واحدة، ولكن لها صفات متعددة، فتسمى باعتبار كل صفة باسم،
فتسمى مطمئنة باعتبار طمأنينتها إلى ربها؛ بعبوديته ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه والرضا به، والسكون إليه. فالطمأنينة إلى الله سبحانه حقيقة، ترد منه سبحانه على قلب عبده تجمعه عليه، وترد قلبه الشارد إليه، حتى كأنه جالس بين يديه؛ فتسري تلك الطمأنينة في نفسه، وقلبه ومفاصله وقواه الظاهرة والباطنة، ولا يمكن حصول الطمأنينة الحقيقية إلا بالله وبذكره: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ الله أَلَا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
وأما النفس اللوامة، وهي التي أقسم بها سبحانه في قوله: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} فاختلف فيها،
فقالت طائفة: هي التي لا تثبت على حال واحدة؛ أخذوا اللفظة من التلوم، وهو التردد، فهي كثيرة التقلب والتلون، وهي من أعظم آيات الله، فإنها مخلوق من مخلوقاته تتقلب، وتتلون في الساعة الواحدة -فضلاً عن اليوم والشهر والعام والعمر ألوانًا عديدة؛ فتذكر وتغفل، وتقبل وتعرض، وتلطف وتكثف، وتنيب وتجفو، وتحب وتبغض، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وتطيع وتعصي، وتتقي وتفجر، إلى أضعاف أضعاف ذلك من حالاتها وتلونها، فهي تتلون كل وقت ألوانًا كثيرة، فهذا قولٌ.
وقالت طائفة: اللفظة مأخوذة من اللوم.
قال الحسن البصري: "إن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه دائمًا، يقول: ما أردت بهذا؟ لم فعلت هذا؟ كان غير هذا أولى، أو نحو هذا من الكلام."
وقال غيره: هي نفس المؤمن توقعه في الذنب، ثم تلومه عليه، فهذا اللوم من الإيمان، بخلاف الشقي، فإنه لا يلوم نفسه على ذنب، بل يلومها وتلومه على فواته.
وقالت طائفة: بل هذا اللوم للنوعين، فإن كل واحد يلوم نفسه، بَرًّا كان أو فاجرًا، فالسعيد يلومها على ارتكاب معصية الله وترك طاعته،
والشقي لا يلومها إلا على فوات حظها وهواها.
وقالت فرقة أخرى: هذا اللوم يوم القيامة، فإن كل واحد يلوم نفسه، إن كان مسيئًا على إساءته، وإن كان محسنًا على تقصيره.
وهذه الأقوال كلها حق ولا تنافي بينها، فإن النفس موصوفة بهذا كله، وباعتباره سميت لوامة.
لكن النفس نوعان:
لوامة ملومة: وهي النفس الجاهلة الظالمة، التي يلومها الله وملائكته. –
ولوامة غير ملومة: وهي التي لا تزال تلوم صاحبها على تقصيره في طاعة الله مع بذله جهده، فهذه غير ملومة.
وأما النفس الأمارة: فهي المذمومة، فإنها التي تأمر بكل سوء، وهذا من طبيعتها، إلا ما وفقها الله وثبتها وأعانها، فما تخلص أحد من شر نفسه إلا بتوفيق الله له، كما قال تعالى حاكيًا عن امرأة العزيز: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ َلأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، وقد امتحن الله سبحانه الإنسان بهاتين النفسين: الأمارة، واللوامة كما أكرمه بالمطمئنة،
فهي نفس واحدة:
تكون أمارة
ثم لوامة
ثم مطمئنة،
وهي غاية كمالها وصلاحها، وأعان المطمئنة بجنود عديدة، فجعل الملك قرينها وصاحبها الذي يليها ويسددها، ويرغبها فيه. والمقصود: أن الملَك قرين النفس المطمئنة، والشيطان قرين الأمارة، وقد روى أبو الأحوص عن عطاء بن السائب عن مرة عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله وليحمد الله، ومن وجد الآخر فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم"[47]، ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ}. وقد رواه عمرو عن عطاء بن السائب. زاد فيه عمرو: قال: سمعنا في هذا الحديث أنه كان يقال: "إذا أحس أحدكم من لمة الملك شيئًا فليحمد الله، وليسأله من فضله، وإذا أحس من لمة الشيطان شيئًا فليستغفر الله، وليتعوذ من الشيطان[48]".
الفصل الثاني: مفهوم محاسبة النفس
المبحث الأول: تعريف محاسبة النفس والأدلة عليها
المطلب الأول: تعريف محاسبة النفس.
يعرف ابن قيم الجوزية محاسبة النفس بأنها: "نظر العبد في حق الله عليه أولاً، ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانياً؟"[49]
وقال أيضاً: "الْمُحَاسَبَةُ: تَمْيِيزِ العبد مَا لَهُ مِمَّا عَلَيْهِ، لِيَسْتَصْحِبَ مَا لَهُ وَيُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذَا عَرَفَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ أَخَذَ فِي أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ"[50]
قال الماوردي: "محاسبة النفس: أن يتصفح الإنسان في ليله ما صدر من أفعاله نهارَه، فإن كان محمودًا أمضاه، وأتبعه بما شاكله، وضاهاه، وإن كان مذمومًا استدركه إن أمكن، وانتهى عن مثله في المستقبل".[51]
وأما الحارث المحاسبي فقد عرّفها بقوله: (هي التثبّت في جميع الأحوال قبل الفعل والترك من العقد بالضمير، أو الفعل بالجارحة؛ حتى يتبيّن له ما يفعل وما يترك، فإن تبيّن له ما كره الله ـ عز وجل ـ جانبه بعقد ضمير قلبه، وكفّ جوارحه عمّا كرهه الله ـ عز وجل ـ ومَنَع نفسه من الإمساك عن ترك الفرض، وسارع إلى أدائه)[52].
المطلب الثاني: الأدلة عليها.
محاسبة النفس والوقوف معها أمر دلت عليه النصوص وأرشدت له ووردت فيه العديد من الأثار عن السلف الصالح:
أولاً: الأدلة من القرآن الكريم.
1 ـ قال تعالى: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:15]
2 ـ وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَد} [الحشر: 18]
قال ابن قيم الجوزية: "وقد دلَّ على وجوب محاسبة النفس قوله تعالي: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَد} [الحشر: 18]، يقول تعالي: لينظر أحدكم ما قدم ليوم القيامة من الأعمال: من الصالحات التي تُنجِيه، أم من السيئات التي تُوبِقه؟"[53]
3 ـ وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[ الشمس7 :10].
4 ـ وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}
ثانياً: الأدلة من السنة.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنِ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»[54]
ثالثاً: آثار السلف.
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا؛ فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ فِي الْحِسَابِ غَدًا أَنْ تُحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18]
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمًا وَخَرَجْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ جِدَارٌ وَهُوَ فِي جَوْفِ الْحَائِطِ: «عُمَرُ بْنَ الْخَطَّابِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَخٍ وَاللَّهِ لَتَتَّقِيَنَّ اللَّهَ، ابْنَ الْخَطَّابِ أَوْ لَيُعَذِّبَنَّكَ»[55]
وقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «مَنْ مَقَتَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ؛ آمَنَهُ اللَّهُ مِنْ مَقْتِهِ»[56]
وعَنِ الْحَسَنِ، في قوله تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [الْقِيَامَة: 2] قَالَ: «لَا يُلْقَى الْمُؤْمِنُ إِلَّا يُعَاتِبُ نَفْسَهُ مَاذَا أَرَدْتُ بِكَلِمَتِي مَاذَا أَرَدْتُ بِأَكْلَتِي مَاذَا أَرَدْتُ بِشَرْبَتِي وَالْعَاجِزُ يَمْضِي قُدُمًا لَا يُعَاتِبُ نَفْسَهُ»
وعَنْ قَتَادَةَ: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الْكَهْف: 28] قَالَ: «أَضَاعَ أَكْبَرَ الضَّيْعَةِ أَضَاعَ نَفْسَهُ وَعَسَى مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَجِدَهُ حَافِظًا لِمَا لَهُ، مُضَيِّعًا لِدِينِهِ»
المبحث الثاني: مراتب محاسبة النفس وأنواعها وفوائدها
المطلب الأول: مراتب جهاد النفس.
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: "فَالْجِهَادُ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: جِهَادُ النَّفْسِ، وَجِهَادُ الشَّيْطَانِ، وَجِهَادُ الْكُفَّارِ، وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ.
وجِهَادُ النَّفْسِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ:
إِحْدَاهَا: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى تَعَلُّمِ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ الَّذِي لَا فَلَاحَ لَهَا وَلَا سَعَادَةَ فِي مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا إِلَّا بِهِ، وَمَتَى فَاتَهَا عِلْمُهُ شَقِيَتْ فِي الدَّارَيْنِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ الْعِلْمِ بِلَا عَمَلٍ إِنْ لَمْ يَضُرَّهَا لَمْ يَنْفَعْهَ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَتَعْلِيمِهِ مَنْ لَا يَعْلَمُهُ، وَإِلَّا كَانَ مِنَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْهُدَى وَالْبَيِّنَاتِ، وَلَا يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ، وَلَا يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
الرَّابِعَةُ: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الصَّبْرِ عَلَى مَشَاقِّ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَأَذَى الْخَلْقِ، وَيَتَحَمَّلُ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلَّهِ.
فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ صَارَ مِنَ الرَّبَّانِيِّينَ، فَإِنَّ السَّلَفَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى رَبَّانِيًّا حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ وَيَعْمَلَ بِهِ وَيُعَلِّمَهُ، فَمَنْ عَلِمَ وَعَمِلَ وَعَلَّمَ فَذَاكَ يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ"[57]
المطلب الثاني: أنواع محاسبة النفس.
وقال ابن قيم الجوزية: "ومحاسبة النفس نوعان:
نوع قبل العمل.
ونوع بعده. فأما النوع الأول: فهو أن يقف عند أول همته وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه. قال الحسن: "رحم الله عبداً وقف عند همِّه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر"[58] وشرح هذا بعضهم، فقال: إذا تحركت النفس لعمل من الأعمال وهَمَّ به العبدُ
وقف أولاً، ونظر: هل ذلك العمل مقدور له أم غير مقدور ولا مستطاع؟ فإن لم يكن مقدوراً لم يُقْدِم عليه، وإن كان مقدوراً
وقف وقفة أُخرى ونظر: هل فعلُه خير من ترْكه، أو تركه خير من فعله؟ فإن كان الثاني تركه ولم يُقْدِم عليه، وإن كان الأول
وقف وقفة ثالثة، ونظر: هل الباعث عليه إرادة وجه الله وثوابه، أم إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق؟ فإن كان الثاني لم يُقدمِ عليه وإن أفضى به إلى مطلوبه؟ لئلا تعتاد النفس الشرك، ويخف عليها العمل لغير الله، فبقدر ما يَخِف عليها ذلك يثقل عليها العمل لله، حتى يصير أثقل شيء عليها، وإن كان الأول
وقف وقفة أخرى، ونظر: هل هو مُعانٌ عليه، وله أعوان يساعدونه وينصرونه إذا كان العمل محتاجاً إلى ذلك؛ أم لا؟ فإن لم يكن له أعوان أمسك عنه، كما أمسك النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الجهاد بمكة حتى صار له شوكة وأنصار، وإن وجده مُعاناً عليه فليُقْدِم عليه فإنه منصور، ولا يفوت النجاح إلا من فوات خصلةٍ من هذه الخصال، وإلا فمع اجتماعها لا يفوته النجاح. فهذه أربع مقامات، يحتاج إلى محاسبة نفسه عليها قبل الفعل؛ فلا كلُّ ما يريد العبد فعله يكون مقدوراً له، ولا كلُّ ما يكون مقدوراً له يكون فعله خيراً له من تركه، ولا كلُّ ما يكون فعله خيراً له من تركه يفعله لله، ولا كلُّ ما يفعله لله يكون مُعاناً عليه، فإذا حاسب نفسه على ذلك تبين له ما يُقدم عليه، وما يحُجِم عنه. النوع الثاني: محاسبة النفس بعد العمل،
وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: محاسبتها على طاعة قصّرت فيها من حق الله؛ فلم تُوقِعها على الوجه الذي ينبغي. وحق الله في الطاعة بمراعاة ستة أمور قد تقدّمت، وهي: الإخلاص في العمل، والنصيحة لله فيه، ومتابعة الرسول فيه، وشهود مشهد الإحسان فيه، وشهود مِنّة الله عليه فيه، وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله. فيحاسب نفسَه: هل وَفَّى هذه المقامات حقَّها؟ وهل أتى بها في هذه الطاعة؟
الثاني: أن يحاسب نفسه على عمل كان تركُه خيراً له من فعله. الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد: لِمَ فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة؛ فيكون رابحاً فيه، أو أراد به الدنيا وعاجلها؟ فيخسر ذلك الربح ويفوته الظَّفَرُ به"[59].
المطلب الثالث: فوائد محاسبة النفس
أولاً: الاطلاع على عيوبها
قال ابن قيم الجوزية: "وفي محاسبة النفس عدة مصالح: منها الاطلاع على عيوبها، ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته، فإذا اطلع على عيبها مَقَتها في ذات الله. وقد روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء، قال: "لا يفقه الرجل كلَّ الفقه حتى يَمقُت الناسَ في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه؛ فيكون لها أشدَّ مقتاً"[60]
ثانياً: أن يعرف العبد حق الله عليه.
قال ابن قيم الجوزية: "ومن فوائد محاسبة النفس: أنه يعرف بذلك حق الله عليه. ومن لم يعرف حق الله عليه فإن عبادته لا تكاد تُجدي عليه، وهي قليلة المنفعة جدًّا."[61]
وقال ابن الجوزي: "وَكَذَا النَّفْسُ تَظْهَرُ عِنْدَ الْمِحَنِ وَالْفَاقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ مَا فِي نَفْسِهِ كَيْفَ يَعْرِفُ رَبَّهُ"[62]
ثالثاً: تَمْيِيزِ العبد مَا لَهُ مِمَّا عَلَيْهِ.
قال ابن قيم الجوزية: "الْمُحَاسَبَةُ: تَمْيِيزِ العبد مَا لَهُ مِمَّا عَلَيْهِ، لِيَسْتَصْحِبَ مَا لَهُ وَيُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذَا عَرَفَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ أَخَذَ فِي أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ"[63]
رابعاً: المحاسبة سبب لكمال دين العبد
قَالَ الحسن البصري: "مَا تم دين عَبْد قط حتى يتم عقله"[64] وقال ابن حبان: "أفضل ذوي العقول منزلة أدومهم لنفسه محاسبة وأقلهم عنها فترة"[65]
خامساً: أن المحاسبة سبب لتخفيف الحساب يوم القيامة
فعن الحسنِ قال: "إن المؤمن قوَّام على نفْسِهِ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ لِلَّهِ، وإنمَا خَفَّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَة على قوم حاسبوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا شَقَّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْمٍ أَخَذُوا هَذَا الأَمْرَ مِنْ غَيْرِ مُحَاسَبَةٍ"[66]
سادساً: أن المحاسبة سبب للحصول على التقوى
عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: «لَا يَكُونُ الرَّجُلُ تَقِيًّا حَتَّى يَكُونَ لِنَفْسِهِ أَشَدَّ مُحَاسَبَةً مِنَ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ»[67]
وقال الْحَسَنَ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَزَالُ بِخَيْرٍ مَا كَانَ لَهُ وَاعِظٌ مِنْ نَفْسِهِ وَكَانَتِ الْمُحَاسَبَةُ مِنْ هِمَّتِهِ»[68]
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَالِمٍ الْبِصْرِيُّ: "مَنْ صَبَرَ عَلَى مُخَالَفَةِ نَفْسِهِ أَوْصَلَهُ اللَّهُ إِلَى مَقَامِ أُنْسِهِ"[69]
قال ابن قيم الجوزية: "ففي مُخَالَفَة الْهَوَى تَنَسُّمُ رَوْحِ الْأُنْسِ بِاللَّهِ، وَالرَّوْحُ لِلرُّوحِ كَالرُّوحِ لِلْبَدَنِ. فَهُوَ رُوحُهَا وَرَاحَتُهَا. وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهُ هَذَا الرَّوْحُ لَمَّا أَعْرَضَ عَنْ هَوَاهُ. فَحِينَئِذٍ تَنَسَّمَ رَوْحَ الْأُنْسِ بِاللَّهِ. وَوَجَدَ رَائِحَتَهُ. إِذِ النَّفْسُ لَا بُدَّ لَهَا مِنَ التَّعَلُّقِ. فَلَمَّا انْقَطَعَ تَعَلُّقُهَا مِنْ هَوَاهَا وَجَدَتْ رَوْحَ الْأُنْسِ بِاللَّهِ."[70]
سابعاً: أن المحاسبة سبب للتخلص من أسر الشهوات
قال أَبو مُحَمَّدٍ الْجَرِيرِيَّ: "مَنِ اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ النَّفْسُ صَارَ أَسِيرًا فِي حُكْمِ الشَّهَوَاتِ مَحْصُورًا فِي سِجْنِ الْهَوَى وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ الْفَوَائِدَ فَلا يَسْتَلِذُّ كَلامَهُ وَلَا يتسحليه وَإِنْ كَثُرَ تِرْدَادُهُ عَلَى لِسَانِهِ"[71]
ثامناً: محاسبة النفس دليل حياة القلوب
قال عبد الله بن مسعود: أتدرون ما ميت الأحياء؟
قالوا: لا،
قال: هو الذي لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا.
وقالوا له: يا أبا عبد الرحمن! هلك مَن لم يأمر بالمعروف وينهَ عن المنكر،
فقال: هلك مَن لم يكن له قلب يعرف به المعروف والمنكر ".[72]
تاسعاً: محاسبة النفس دليل على قوة الإنسان.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"
ليس الشَّديدُ مَن غلَب إنَّما الشَّديدُ مَن غلَب نفسَه"[73]
عاشراً: أن محاسبة الإنسان لنفسه دليل على إكرامه لها.
قَالَ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ: «مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ لَمْ يَكُنْ لِلدُّنْيَا عِنْدَهُ قَدْرٌ"[74]
الحادي عشر: أن في محاسبة النفس إشغال عن عيوب الناس وراحة لها.
عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: «الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا كَالْغَرِيبِ لَا يُنَافِسُ فِي عِزِّهَا وَلَا يَجْزَعُ مِنْ ذُلِّهَا، لِلنَّاسِ حَالٌ وَلَهُ حَالٌ النَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ وَنَفْسُهُ مِنْهُ فِي شُغُلٍ"[75]
الفصل الثالث: مفهوم محاسبة النفس في منهج السلف الصالح.
التمهيد:
تؤكد النصوص أهمية وقوف الإنسان مع نفسه وضرورة محاسبتها، فالمسلم يعلم ويعتقد إن الله سبحانه وتعالى لم يخلق الخلق عبثا، فهو القائل ﷻ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون:115]، فالله سبحانه وتعالى خلق الخلق لغاية وحكمة أرادها ولا راد لقضائه، خلق الخلق لعبادته، وهو القائل سبحانه وتعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا }[الملك:2].
فهذه هي الحكمة من خلقهم أولاً، ومن بعثهم ثانياً، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، فالله سبحانه وتعالى خلقنا لعبادته، وسخر لنا ما في هذا الكون ومن أجل ذلك أنزل الله سبحانه وتعالى الكتب، وأرسل الرسل.
فهو سبحانه وتعالى أرسل الرسل لكي يبينوا للناس أمر العبادة والتوحيد، ولكي يُخرجوا الناس من ظلمات الشرك والكفر إلى نور التوحيد والإيمان وليبينوا لهم دين الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36].
فالله ﷻ من حين إهباط آدم إلى هذه الأرض أخبره بأن هناك هدىً سيأتيه، وأخبر سبحانه وتعالى أن من اتبع الهدى فهو ناجٍ وسعيدٌ بإذن الله سبحانه وتعالى، {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة38 :39].
وقال في الآية الأخرى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه123 :126].
فالله سبحانه وتعالى أخبر وبين وأرشد وعلم هذا الإنسان أن هناك هدىً ونورٌ من الله سبحانه وتعالى سيأتيه يُبين لهذا الإنسان ما يجب عليه وما هو المآل الذي سيصير إليه، فالرسل بُعثوا لكي يُبينوا للناس ثلاثة أمور:
الأمر الأول: تعريف الناس بربهم خالقهم ورازقهم إلههم معبودهم، الذي له ملك السموات والأرض، الذي يحيي ويميت.
الأمر الثاني: ليبينوا للناس الطريق الذي يوصل إلى جنة الله ﷻ، ولرضوانه سبحانه وتعالى، ألا وهي أوامر الله سبحانه وتعالى ونواهيه.
والأمر الثالث: لكي يُعلموا الناس ويخبروهم بحالهم ومآلهم بعد الموت، فوظيفة الرسل في هذه الأمور الثلاث:
تعريف الناس بربهم وتعريفهم بالطريق الموصل إلى ربهم وبيان حالهم ومآلهم عند القدوم على ربهم ﷻ.
ولاشك أن الناس قد انقسموا أمام هذا الهدى وأمام هذا الوحي إلى مؤمنٍ وكافر قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ،}(التغابن 2 (وإلى شقيٍ وسعيد قال تعالى:{فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} (هود105 ( وإلى أهل جنة وأهل نار قال تعالى:{فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}الشورى 7، فالحمد الله ﷻ أن هدانا إلى نعمة الإسلام، قال تعالى:{ وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ }.
فهناك آخذٌ كتابه بيمينه وهناك آخذٌ كتابه بشماله، قال تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ}[الحاقة19 :33].
وحتى أهل الإيمان منهم من هو سابقٌ بالخيرات، ومنهم من هو مقتصد، ومنهم من هو ظالمٌ لنفسه، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر 32]
فلما شاء الله سبحانه وتعالى أن يبتلي العباد وأن يمتحنهم أعطاهم مواد العلم والعمل، أعطاهم القلب وأعطاهم السمع، وأعطاهم البصر، وأعطاهم الجوارح، قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[الإسراء:36].
وكل ذلك ابتلاءً منه سبحانه لعباده قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[الملك: 2]
المطلب الأول: مسؤولية الإنسان عن نفسه.
ركب الله سبحانه وتعالى في هذا الإنسان مواد العلم والعمل لكي يكون بعد ذلك بصيراً على نفسه، كما قال تعالى: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:15]، فلا عذر لهذا الإنسان ما دام أن الله سبحانه وتعالى قد ركب فيه التفكير والإدراك وقد جعل له الإرادة والعمل، وكل هذا لا شك أنه تحت إرادة الله ﷻ
وقدرته.
فالله سبحانه وتعالى ركب في هذا الإنسان تلك الأمور، وهيأ له الأسباب وأنزل له الكتب، وأرسل له الرسل؛ حتى تقوم حجة الله ﷻ على هذا الإنسان ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة.
وقال النبي ﷺ: « أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ »([76])، فالقلب ملك الأعضاء، وأعضاء الإنسان جندٌ وتبع لهذا القلب، لذلك فإن في صلاح هذا القلب صلاحٌ لجوارح الإنسان، وفي صلاح القلب استقامة التفكير، وسلامة السلوك، والنجاة في الدنيا وفي الآخرة.
وكما يقول أبو هريرة t: " الْقَلْبُ مَلِكٌ وَلَهُ جُنُودٌ فَإِذَا صَلَحَ المَلِكُ صَلَحَتْ جُنُودُهُ وَإِذَا فَسَدَ المَلِكُ فَسَدَتْ جُنُودُهُ "([77]) وصدق الله إذ قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشعراء:89].
قال ابن قيم الجوزية: "فمن المعلوم أن الإنسان يكون آمراً لنفسه ناهياً لنفسه قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}
وقال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم"[78]
وعلى الإنسان أن يجاهد نفسه لكي تستقيم حياته ويسعد بعد مماته.
المطلب الثاني: تركيب الإنسان.
شاء الله سبحانه وتعالى أن يُركب هذا الإنسان من الجسد والروح، ولا شك أن خلق الجسد من التراب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج:5].
ويشاء الله سبحانه وتعالى أن يكتسي هذا الإنسان وأن يأكل ويشرب ويتغذى من هذه الأرض وإما يعيش فيها، والله سبحانه وتعالى ركب في هذا الجسد الروح، كما قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:72].
ويشاء الله سبحانه وتعالى أن يكون للروح غذاء كما أن للبدن غذاء، ومما يؤسف له أن كثيراً من الناس قد اعتنى بأمر جسده فهو يعرف كيف يأكل، ويعرف ماذا يشرب، ويعرف ماذا يلبس ويركب، وينتقي ويختار لنفسه من هذه الأمور أفضلها وأحسنها، ولكنه للأسف الشديد مضيعٌ لحياة روحه، مع أن حياة الروح أهم وأغلى لأن في حياة الروح والنفس سعادة الدارين: دار الدنيا ودار والآخرة، قال تعالى: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[الأعلى:17].
ويعلم أن صحة البدن تتوقف على ثلاثة أمور يعرفها الأطباء وهي:
الأمر الأول: حفظ قوة البدن، وذلك بأن يتناول هذا الإنسان من الطعام ما ينفعه في جسده، وما يقوم به قوام بدنه.
والأمر الثاني: حفظ هذا الجسد من الأمور الفاسدة أي: مما يضره في جسده، فلابد للإنسان لحفظ بدنه أن يحمي هذا البدن مما يضره.
والأمر الثالث: أن يُخرج من بدنه ما هو فاسد.
فصحة الأبدان تتوقف على هذه الأمور الثلاثة، وهكذا حياة الروح تتوقف كذلك على أمورٍ ثلاثة لابد من حفظ قوة الإيمان، لأن هذه القوة هي التي تجعل الإنسان في سلامة في الاعتقاد، وفي سلامة في التفكير، وفي سلامة في السلوك، فلابد من قوة إيمانية تدفع الإنسان إلى الخير، وتحثه على فعل الطاعات، وتجعله قائماً بأوامر الله سبحانه وتعالى مؤدياً لفرائض الله سبحانه وتعالى، فاعلاً للنوافل التي شرعها الله سبحانه وتعالى.
ولابد كذلك من حماية هذا الروح مما يُفسد إيمانها وذلك بردعها عن المعاصي، وبردعها عن الشهوات المحرمة، فعلى الإنسان أن بحرص على أن تحمي هذه الروح كما يحمي هذا الجسد، فكلنا لو نظر إلى طعامٍ وشك في سلامته لحمى ذلك الجسد منه، فما بالنا مع أرواحنا لا نُبالي بما نُغذيها، وكم من شهوة محرمة أفسدت على الإنسان أمر دينه.
ثم لابد من أمرٍ ثالث وهو: استخراج ما في هذه الروح وما في هذا القلب من أمورٍ ضارة وذلك بأن يُكثر الإنسان من الاستغفار والتوبة، لابد من الإكثار من استغفار الله ﷻ والتوبة إليه، وكان النبي ﷺ يستغفر الله ﷻ في اليوم أكثر من سبعين مرة، وهو الرسول الكريم الذي غفر الله ﷻ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
فهذه أمورٌ ثلاثة لابد منها لكي يحفظ الإنسان على نفسه أمر دينه وأمر إيمانه الذي مستقره ومستودعه هذا القلب، فكما أسلفنا إن للروح حياة وإن للبدن حياة، وأكثر الناس للأسف الشديد مضيعٌ لحياة روحه مع أن حياة الروح فيها سعادة الدارين، فيها سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
فالروح تحيا وتموت، والقلب يصح ويمرض، ولذلك ينبغي للإنسان أن يعلم وأن يعرف بأي شيءٍ تحيى هذه الروح، بأي شيءٍ يحيا هذا القلب، بأي شيءٍ ومن أي شيءٌ يستمد الإنسان إيمانه، إن أعظم وأغلى ما يستمده الإنسان لإيمانه ودينه معرفة الله ﷻ
وقال ابن قيم الجوزية: "فإن نجاسة الفواحش والمعاصي في القلب بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن، وبمنزلة الدَّغَل في الزرع، وبمنزلة الخَبَث في الذهب والفضة والنحاس والحديد. فكما أن البدن إذا استفرغ من الأخلاط الرديئة تخلصت القوة الطبيعية منها فاستراحت، فعملت عملها بلا مُعَوِّق ولا ممانع، فنما البدن، فكذلك القلب إذا تخلص من الذنوب بالتوبة فقد استفرغ من تخليطه، فتخلصت قوة القلب وإرادته للخير، فاستراح من تلك الجواذب الفاسدة والمواد الرديئة، زكا ونما، وقوي واشتد، وجلس على سرير ملكه، ونفَّذ حكمه في رعيّته، فسمعت له وأطاعت، فلا سبيل له إلى زكاته إلا بعد طهارته، كما قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30]، فجعل الزكاة بعد غض البصر وحفظ الفرج، ولهذا كان غضُّ البصر عن المحارم يوجب فوائد عظيمة الخطر، جليلة القدر"[79]
المطلب الثالث: قوة التفكير والنظر وقوة الإرادة والمحبة.
قال ابن تيمية: "النَّفْسَ مِنْ لَوَازِمِهَا الْإِرَادَةُ وَالْحَرَكَةُ فَإِنَّهَا حَيَّةٌ حَيَاةً طَبِيعِيَّةً، لَكِنَّ سَعَادَتَهَا أَنْ تَحْيَا الْحَيَاةَ النَّافِعَةَ فَتَعْبُدَ اللَّهَ، وَمَتَى لَمْ تَحْيَا هَذِهِ الْحَيَاةَ كَانَتْ مَيِّتَةً، وَكَانَ مَا لَهَا مِنْ الْحَيَاةِ الطَّبِيعِيَّةِ مُوجِبًا لِعَذَابِهَا، فَلَا هِيَ حَيَّةٌ مُتَنَعِّمَةٌ بِالْحَيَاةِ، وَلَا مَيِّتَةٌ مُسْتَرِيحَةٌ مِنْ الْعَذَابِ،"[80]
وقال ابن قيم الجوزية: "لما كان في القلب قوتان:
قوة العلم والتمييز.
وقوة الإرادة والحب.
كان كماله وصلاحه باستعماله هاتين القوتين فيما ينفعه، ويعود بصلاحه وسعادته، فكماله باستعمال قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته، والتمييز بينه وبين الباطل، واستعمالِ قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل، فمن لم يعرف الحق فهو ضالٌّ، ومن عرفه وآثر غيرَه عليه فهو مغضوب عليه، ومن عرفه واتبعه فهو مُنعَم عليه.
وقد أمرنا الله سبحانه أن نسأله في صلاتنا أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، ولهذا كان النصارى أخصَّ بالضلال؛ لأنهم أُمة جهل، واليهود أخصَّ بالغضب؛ لأنهم أمة عناد، وهذه الأمة هم المنعم عليهم. ولهذا قال سفيان بن عيينة: "من فسد من عُبّادنا فَفِيه شبه من النصارى، ومن فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود. لأن النصارى عبدوا الله بغير علم، واليهود عرفوا الحق وعدلوا عنه"[81]
وقال ابن تيمية: "انْقَسَمَت الْأُمَّةُ إلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ:
فَالْجَامِعُونَ حَقَّقُوا كِلَا مَعْنَيَيْهِ مِنْ الْقَوْلِ التصديقي وَالْعَمَلِ الْإِرَادِيِّ.
وَفَرِيقَانِ فَقَدُوا أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ:
فالكلاميون: غَالِبُ نَظَرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ فِي الثُّبُوتِ وَالِانْتِفَاءِ وَالْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَالْقَضَايَا التصديقية؛ فَغَايَتُهُمْ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ وَالْعِلْمِ وَالْخَبَرِ.
وَالصُّوفِيُّونَ: غَالِبُ طَلَبِهِمْ وَعَمَلِهِمْ فِي الْمَحَبَّةِ وَالْبِغْضَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْحَرَكَاتِ الْعَمَلِيَّةِ؛ فَغَايَتُهُمْ الْمَحَبَّةُ وَالِانْقِيَادُ وَالْعَمَلُ وَالْإِرَادَةُ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ: فَجَامِعُونَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؛ بَيْنَ التَّصْدِيقِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَمَلِ الحبي. ثُمَّ إنَّ تَصْدِيقَهُمْ عَنْ عِلْمٍ وَعَمَلَهُمْ وَحُبَّهُمْ عَنْ عِلْمٍ فَسَلِمُوا مَنْ آفَتَيْ مُنْحَرِفَةِ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ وَحَصَّلُوا مَا فَاتَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ النَّقْصِ؛ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ الْمُنْحَرِفِينَ لَهُ مَفْسَدَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: الْقَوْلُ بِلَا عِلْمٍ - إنْ كَانَ مُتَكَلِّمًا – وَالْعَمَلُ بِلَا عِلْمٍ - إنْ كَانَ مُتَصَوِّفًا - وَهُوَ مَا وَقَعَ مِنْ الْبِدَعِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَالثَّانِي: فَوَّتَ الْمُتَكَلِّمُ الْعَمَلَ وَفَوَّتَ الْمُتَصَوِّفُ الْقَوْلَ وَالْكَلَامَ.
وَأَهْلُ السُّنَّةِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ: كَانَ كَلَامُهُمْ وَعَمَلُهُمْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِعِلْمِ وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ قَوْلِهِمْ وَعَمَلِهِمْ مَقْرُونًا بِالْآخَرِ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُسْلِمُونَ حَقًّا"[82]
واعلم أن القوة العلمية إذا أسسها الإنسان على معرفة الله ﷻ فإن في هذا الخير كله، لقد علم النبي ﷺ هذا لابن عباس وكان غلاماً لم يناهز الحُلم، فقال: «يَا غُلامُ، أَوْ يَا غُلَيِّمُ، أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِنَّ؟» فَقُلْتُ: بَلَى. فَقَالَ: «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَإِذَا سَأَلْتَ، فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ، فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ،»([83]).
فباب معرفة الله ﷻ بأسمائه وصفاته وأفعاله، بابٌ للأسف الشديد هجره الكثير من الناس وتناسوه، فلم يعرفوا الله ﷻ حق المعرفة، ولقد حذر الله من هذا الحال فقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[الحشر:19]، وقال تعالى: { وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف:28].
لو تأملت في هاتين الآيتين لوجدت تحت هذا معنىً شريفاً عظيما: أن من نسي الله ﷻ أنساه الله ﷻ أمر نفسه، وقابل هذا بالحديث الشريف «احفظ الله يحفظك».
فالحفظ ضده النسيان، فينبغي على الإنسان أن يعرف عظمة باب معرفة الله ﷻ ألم يقل سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}، ومعنى ادعوه بها أي اعبدوه بها، فعلى المرء المسلم أن يعرف أن أساس العلم وأهم ما ينبغي معرفته وعلمه هو معرفة الله ﷻ بأسمائه وصفاته، لأن هذا لقلب عليه وظائف، ألم يقل النبي ﷺ: « التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا، يُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثًا »([84])، فالتقوى من أعمال القلوب، والخوف من أعمال القلوب، والرجاء من أعمال القلوب والتوكل من أعمال القلوب، وأعمال القلوب ووظائف القلب كثيرة، كلها إنما تقوم على أساس معرفة الله تعالى؛ لأن من عرف الله ﷻ عبد الله، ومن عرف الله ﷻ اتقاه، وكما قال تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر:28]، فهم أهل الخشية وأهل التقوى، وأهل الخوف، وأهل الرجاء، وأهل التوكل، وأهل الإنابة، فكل عملٍ من أعمال القلوب إنما يحركه معرفة الله ﷻ، فمعرفة أن الله ﷻ هو السميع البصير، وهو العليم وهو اللطيف وهو الخبير، هذه المعرفة لو أننا استشعرناها في قلوبنا وعرفنا ما تقتضيه لولد هذا في قلب المؤمن حياءً من الله ﷻ وخوفاً من الله ﷻ وخشية ورجاءً لله ﷻ.
فكيف يُقدم الإنسان مثلاً على معصية أو على ذنب وهو يعلم أن الله ﷻ يسمع ويبصر، وأن الله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، وأنه سبحانه وتعالى يعلم السر والنجوى، فلو أن مثل هذا وجد في القلوب واستشعرته القلوب لولد من الإيمان ما يحمل الإنسان على تقوى الله ﷻ، وخوفه ورجاءه وخشيته والإنابة إليه.
ولو أن الإنسان علم أن الله سبحانه وتعالى هو العظيم، وهو القدوس السلام، المؤمن المهيمن الجبار المتكبر، لو علم مثل هذه الأسماء وعلم ما تتضمنه من الصفات، لولد هذا إعظاماً وإجلالاً وإكباراً لله ﷻ؛ حتى يُصبح في القلب ويصبح هذا القلب يعلم ويوقن أن الله ﷻ أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء وأجل من كل شيء وأحب من كل شيء.
فمعرفة الله ﷻ فيها من الخير والنفع الكثير ما لو أن القلوب تأملته، واستشعرته وتجاوبت معه لدفع ذلك إلى إيمانٍ عظيم وإلى خيرٍ كبير، ولكن للنظر إلى قلوبنا كيف ملأناها بأمراض الشهوات، فكم في القلوب من الحسد والكِبر وكم في القلوب من الغِل والحقد، وكم في القلوب من الرياء والسمعة؟ إلى غير ذلك من الأمراض التي أفسدت على الناس أمر القلب، وإذا فسد أمر القلب فكما أخبر النبي ﷺ فإنه سيفسد على إثر ذلك كل أحوال الإنسان وكل جوارحه.
وبالتالي إذا فسد عليه عمله فإنه سيلقى جزاء ذلك عند الله سبحانه وتعالى حسرة وعذاباً ونكالاً.
قال ابن قيم الجوزية: "فإن العمل السيئ مصدره عن فساد قصد القلب، ثم يعرض للقلب من فساد العمل قسوة، فيزداد مرضًا على مرضه حتى يموت، ويبقى لا حياة فيه ولا نور له، وكل ذلك من انفعاله لوسوسة الشيطان، وركونه إلى عدوه الذي لا يفلح إلَّا من جاهره بالعصيان"[85]
فمعرفة الله ﷻ أساس الإيمان، وأساس الهداية، وأساس النور، فلا تحرم نفسك من تلك المعرفة، ولا تُغلب بابها.
خذ مثالاً على ذلك: قول النبي ﷺ: «ما أصاب عبد قط هم ولا غم ولا حزن»، هم ولا غم ولا حزن، والفرق بين هذه الثلاثة: أن الهم يأتي قبل المكروه، والغم أثناء المكروه، والحزن بعد المكروه، فيرشدك النبي ﷺ إلى دواءٍ لهذه الأمور الثلاثة، لهذه الأحوال الثلاثة: « مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ، إِذَا أَصَابَهُ هَمٌّ أَوْ حُزْنٌ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، »، والشاهد.
«أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ بَصَرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحًا»([86]).
فهذا دواءٌ نبوي لتلك الأمور هو بسؤال الله ﷻ بأسمائه التي سمى نفسه بها ﷻ، وقال النبي ﷺ لأصحابه: «أَجَلْ، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ»، فهذا بابٌ هجره كثيرٌ من الناس مع أنه من أعظم الأبواب نفعاً لإيمان العبد، ومصيبتنا أننا نعيش في دنيا وحياة مادية طغت عليها الماديات، وكثرت فيها الشهوات، وأصبح الإنسان في همٍ وتفكير دؤوبٍ كيف يحصل متع هذه الدنيا، وكيف يجمع من حطامها، ونسي أمر نفسه ونسي ما به صلاحها وفلاحها، والله تعالى قد نادى أهل الإيمان فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر18 :20].
فهذه الآيات من آخر سورة الحشر تعطينا أمراً واقعياً كيف أن نسيان الله ﷻ يجعل الإنسان همه وتفكيره في هذه الدنيا وكأنه خالد مخلد فيها، ينسى حظ الآخرة، لا لشيءٍ إلا لأنه نسي الله ﷻ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}، وتقوى الله ﷻ "أن لا يفتقدك حيث أمرك، وأن لا يجدك حيث نهاك"[87]، تلك هي تقوى الله ﷻ،حيث أمرك الله ﷻ ينبغي أن تكون فاعلاً ممتثلاً لأوامر الله ﷻ، وحيث نهاك الله ﷻ ينبغي عليك أن تكون من أبعد الناس عن تلك المعاصي وتلك الآثام والذنوب، {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ }، هذا حالٌ لا يعرفه إلا أهل الإيمان؛ لأن نظر المؤمن دائماً معلقٌ بما بعد الموت.
«فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني»[88]، فإذا كنت صاحب إيمان، صاحب حالٍ إيماني فإن صاحب الحال الإيماني نظره دائماً في تلك الدار يعمل لها، ويبني لها، ويزرع لها، لأنها هي الأبقى وهي الأولى، والأجدر بأن يعمل الإنسان لها، وأن لا يجعل هذه الدنيا أكبر همه، وقد كان من دعاء النبي ﷺ: « وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا »([89]).
وقال تعالى: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[الحشر:19]، فسبب تعلق الإنسان بهذه الدنيا هو بعده عن معرفة الله ﷻ وتناسيه لله ﷻ وإلا لو أن الإنسان عرف الله ﷻ وقام بأوامر الله ﷻ لما كانت هذه الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه، ونبينا ﷺ يقول: « مَا لِي وَلِلدُّنْيَا »([90])، فقد زهد النبي ﷺ بهذه الدنيا.
وبعد ذلك الناس فريقان {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20].
ثم أخبر الله ﷻ وقال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[الحشر:21]، فلو كان الإنسان يستعمل قوته العلمية في معرفة كتاب الله ﷻ وفي تدبر كلام الله ﷻ لعلم أن في هذا الكتاب الموعظة والعبرة، والدروس والقصص التي من تأملها وتدبرها فإنه سيهدى بإذن الله تعالى إلى صراط الله المستقيم.
وكما قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد:24]، وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}[ق:37]، فالقلوب المؤمنة الحية التي سخرت تلك القوة العلمية في معرفة الله ﷻ هي التي تستفيد بكلام الله ﷻ وتخشع إذا ذُكر الله ﷻ وإذا تُليت عليه آيات الله ﷻ، فإن قوة العلم ينبغي أن يبدأ الإنسان فيها بمعرفة الله ﷻ، بمعرفة أسمائه وصفاته، والله ﷻ يقول: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد:28].
فطمأنينة القلب وراحة القلب وسعادة القلب لا يلمسها الإنسان إلا إذا كان مستحضراً لعظمة الله ﷻ وجلاله ، فإذا كان القلب مستحضراً لما لله ﷻ من أسماءٍ وصفات تسمى وسمى بها نفسه، لم يحرم نفسه هذا الباب، ولم يغلقه على نفسه وحرص عليه وتتبعه في كلام الله وكلام رسوله ﷺ.
فأساس القوة العلمية معرفة الله ﷻ فإن بنيت تلك القوة فإن هذا من نتائجه سلامة التفكير وسلامة المعتقد، وقوة الإيمان ونور القلب ونور البصيرة التي يعرفها من من الله ﷻ عليه بمعرفة صحيحة قائمة على الكتاب والسنة، وصدق الله إذ يقول: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ }؛ لأنهم عرفوا الله ﷻ، ومن كان بالله أعرف كان له أعبد، وكان له أتقى، وكان من أشد الناس خوفاً وخشية لله ﷻ.
المطلب الرابع: القوة العملية تبنى على العمل لله.
أما القوة العملية فإنها تُبنى على العمل لله وعبادته ﷻ، ففي الحديث القدسي: « وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، »([91]).
فأفضل ما يجعل الإنسان في سلامة في الإرادة وبعدٍ عن الشهوات المحرمة هو أن يلتزم طاعة الله ﷻ في السر والعلن، وأن يلتزم بأوامر الله ﷻ وأن يتزود بزاد التقوى: { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}[البقرة:197]، فعلى الإنسان إذا أراد أن يجعل إرادته سليمة بعيدة عن الشهوات المحرمة أن يُلزم نفسه بالطاعة، ولذلك تجد الناس فريقان:
فريقٌ يبتعد عن الشهوات المحرمة ويراها من أبغض الأمور إليه.
وفريقٌ يطلب تلك الشهوات ويسعى إليها ويبذل لها الغالي والنفيس.
فمن أي الفريقين أنت ومن أي الصنفين أنت؟ صنفٌ أحب الله ﷻ وعمل لله ﷻ ورجى ما عند الله ﷻ وابتغى الدار الآخرة، أم من ذلك الفريق الخاسر في الدنيا وفي الآخرة؟ {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف 103 :104].
فما من إنسان إلا ويرى أنه على الحق وأنه على الصواب ولكن الميزان كما هو معلوم أن يعرض الإنسان ما يقوله وما يعتقده وما يفعله ويعمله أن يعرض ذلك على شرع الله ﷻ، فإن وجد خيراً فليحمد الله ﷻ وإن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
قال ابن تيمية: "وَلِهَذَا كَانَ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ أَعْظَمَ مَا تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ وَكَانَ الشِّرْكُ أَعْظَمَ مَا يُدَسِّيهَا، وَتَتَزَكَّى بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالصَّدَقَةِ هَذَا كُلُّهُ مِمَّا ذَكَرَهُ السَّلَفُ. قَالُوا: فِي {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} تَطَهَّرَ مِنْ الشِّرْكِ وَمِنْ الْمَعْصِيَةِ بِالتَّوْبَةِ"[92]
المطلب الأول: أساس المحاسبة.
معرفة الله ﷻ والعمل لله ﷻ أساسٌ وحصنٌ حصين فمن ألزم النفس مثل هذا المنهج وصار على هذا النهج فإنه على الحق والهدى بإذن الله ﷻ، وهذا أمرٌ لا يوجد إلا في منهج السلف الصالح منهج أهل السنة والجماعة.
فهاتان القوتان على أساسهما سيحاسب هذا الإنسان، فأنت إذا وضعت في قبرك جاءك الملكان يسألانك من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ وإذا جاء يوم القيامة سئل الإنسان عن أربع: سئل عن شبابه وعن عمره، وعن ماله وعن علمه، فهذه أمور تجمع القوة العلمية والقوة العملية، فبعد ذلك أتكون ممن أوتي كتابه بيمينه أو ممن أوتي كتابه بشماله.
فالسلف الصالح وأهل السنة والجماعة منهجهم يقوم على هذين الأمرين: العلم بالله، والعمل لله، أما غير هذا المنهج فإنه لا يلتزم بهذين الأمرين معا، فترى فريقاً منهم يهتم بجانب العلم ويُهمل جانب العمل، وفريقٌ آخر يهتم بجانب العمل ويهمل جانب العلم.
وأما أهل السنة والجماعة فإنهم يعرفون ما لهذين الأمرين من قيمة وأهمية، لذلك كما قال النبي ﷺ: « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ »([93])، وهذا جانب التوحيد، وجانب معرفة الله ﷻ وهو الذي ينتفع الإنسان فيه في العلم، «وأن محمداً رسول الله» وهذا جانب الإيمان والاتباع للنبي ﷺ وهو جانب العمل، وكلا الأمرين عند أهل السنة والجماعة يقوم على الوحي الذي هو مصدر التشريع، كتاب الله ﷻ وسنة رسوله ﷺ.
المطلب الثاني: الإخلاص ودوره في تزكية النفوس.
الإخلاص أصعب شيءٍ على النفس لذلك يقول بعض أهل العلم: "جاهدت نفسي في كل شيء فما وجدت أصعب عليها من الإخلاص"[94] فتجريد الأمر لله ﷻ بحيث لا يكون لغير الله ﷻ فيه حظ أمر ليس باليسير لذلك تجد أن من أوضح أمثلة الشرك الخفي أو الشرك الأصغر الرياء، والرياء ضد الإخلاص، الرياء يطعن في الإخلاص ويخل به، فلذلك هو أصعب ما يكون على النفس.
والتخلص منه على من وفقه الله ﷻ يكون بأن لا يجعل لأمرٍ لله ﷻ للدنيا فيها حظٌ أو نصيب، لا يجعل الدنيا حظاً أو نصيباً في أي عملٍ من الطاعات، فهذا أفضل السبل في تخليص النفس من الرياء ومن السمعة، والنبي ﷺ قال: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ »([95])، فقال: « أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟ قَالَ: قُلْنَا: بَلَى، فَقَالَ: الشِّرْكُ الْخَفِيُّ»([96])، وقال: «الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة السوداء على صفاةٍ سوداء في ظلمة الليل »([97]).
فتأمل نملة سوداء على صفاة أي حجرٍ أسود في ظلمة الليل، ومع ذلك الشرك في هذه الأمة أخطر من ذلك، لذلك لما سأل النبي ﷺ عن المخرج في هذا، أرشد النبي ﷺ إلى كفارة هذا، فقال: « اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئًا وأنا أعلم، وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم»([98]).
وهذا سؤال سأله أبو بكر للنبي ﷺ، ومعلوم كيف إيمان أبي بكر، فقد خاف t من هذا الحال، وأرشد النبي ﷺ إلى كفارته، فلاشك أن الإخلاص عزيز، ومن أصعب الأمور على النفس، ولكن ينبغي للإنسان أن يجاهد نفسه على هذا الأمر وهذا إنما يتأتى ويتحقق إذا جعلت الدنيا وراء ظهرك، وأقبلت على الآخرة وجعلتها نصب عينيك فهذا من أعظم الأمور التي تعين الإنسان على نفسه، وتبعده عن وسواس الشيطان وعن الأمور التي تبطل العمل وتفسد العمل، والله أعلم.
المطلب الثالث: الدورة الإيمانية.
للقلب دورة إيمانية فكلنا يعرف الدورة الدموية، أن مبدأها من القلب وتنتهي إلى هذا القلب وهكذا الإيمان يبدأ من القلب، فإذا الإنسان عرف الله عبد الله ﷻ، وإذا عبد الله ﷻ أثر ذلك في قوله وفعله وسلوكه فازداد بذلك إيماناً والناس متفاوتون في إيمانهم متفاضلون في إيمانهم، وليسوا سواءً في إيمانهم وذلك بحسب ما تدور هذه الدورة في القلوب وفي النفوس.
فاحرص على زيادة إيمانك، واحرص على الخير وعلى أبوابه؛ لأنها من أعظم الأسباب في نفع القلب وخير القلب وسعادة القلب، ثم اعلم أن للقلب منافذ فالبصر من منافذ القلب، فإن سخر الإنسان هذا البصر في طاعة الله ﷻ وما يرضيه فإن ذلك يعود نفعه وفائدته على القلب، ولاشك أن البصر هو رائد القلب دليله، فإن كان الرائد أميناً فإن نفع هذا يعود على قلب الإنسان ويعود على إيمانه، وهكذا السمع وهكذا الجوارح كلها.
فكل جارحة من جوارحك الله ﷻ وكل بها وظيفة، فللسان وظائف وللسمع وظائف، وللبصر وظائف، ولليدين وظائف، وهكذا الرجلان لها وظائف فكل جزء من أجزاء الإنسان تجري عليه الأحكام التكليفية الخمس: الحلال والحرام، والمكروه والمباح، والمستحب، فاحرص أن تسخرها في طاعة الله ﷻ وكلنا يعلم أن الموت قريب، قال تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ }[ آل عمران 185]، ولابد من جزاءٍ وحساب، فيا تُرى هل هذه النفس استطاع الإنسان أن يسخرها لما فيه خيرها وسعادتها في الدنيا وفي الآخرة، أم أن الإنسان تسبب في شقائها وفي هلاكها وفي خسرانها في الدنيا وفي الآخرة.
فغدًا وغداً لناظره قريب، ما منا إلا وهو محمولٌ على آلة حدباء، ما منا إلى وسيوارى تحت التراب، ما منا إلا وسيفارقه الأهل والأحباب، وسيدخل إلى هذه الحفرة فهي إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، وأنت بعد ذلك موقوفٌ مسئول، ويتلو ذلك بعثٌ ونشور جزاءٌ وحساب، وأهوال، وصراط يُنصب على جهنم، وبعد ذلك إما من أهل الجنة وإما من أهل النار.
فما العذر وما الجواب؟ والله ﷻ قد جعل لك من الأسباب والأمور والأدوات ما لو أنك سخرت ذلك فيما يُحب ويرضى لكان في ذلك الفلاح كله، والله ﷻ يُجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
الخاتمة:
على الإنسان أن يحاسب نفسه كما قال عمر بن الخطاب t: " حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ , يَوْمَ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ "([99]) فطهر هذا القلب وزكه، والخير طريقه مرسوم، والله ﷻ قد أوضح لك الطريق، فسر واسلك هذ السبيل، وسترى الخير بإذن الله تعالى ملازما ًلك بإذنه سبحانه وتعالى.
سر على هذ الطريق واجعل هذا القلب في صفاء، لا يحمل إلا ما يُحبه الله ﷻ ويرضى، نقه من الذنوب، أبعده عن الشهوات، مده بالعلم والإيمان والخير والنور، أيام قلائل، وعمرٌ مهما بلغ الستين أو السبعين أو المائة فهو محدود، وبعد ذلك دار خلود، وبعد ذلك إما سعادة دائمة وخلود أو حسرة وندامة لا يمكن أن تنفع في يومٍ مشهود.
{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس34 :37]، فالكل يفر حتى من الأخ القريب، وحتى من الأب والأم، وحتى من الصاحبة والولد، ، الإنسان في تلك اللحظة يقول: نفسي نفسي، يتمنى النجاة لنفسه، فما دمت في مزرعة الدنيا والباب مفتوح والطريق مرسوم فلماذا تحيد عن هذا، ولماذا تبتعد؟ أيغرك أهل الباطل في باطلهم، أيغرك أهل الشهوات في شهواتهم، أيغرك ما في هذه الدنيا، ألم يحذرك الله ﷻ منها، { فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[لقمان:33].
فقد حذرك من الدنيا وحذرك من شهوات الحرام، حذرك من شبهات الضلال، رسم لك طريقاً الزمه وسر عليه، تسعد في الدنيا وفي الآخرة، فتلك هي نصيحتي لإخواني، أسأل الله ﷻ أن يحبب إلينا الإيمان وأن يزينه في قلوبنا، وأسأله ﷻ أن يرينا الحق حقا ويرزقنا إتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ونسأله الله ﷻ أن يلهمنا رشدنا وأن يقينا شرور أنفسنا.
أنا أوصي في هذا المقام بقراءة واقتناء كُتب ابن قيم الجوزية -رحمه الله-فكثيرٌ من كتبه تعتني بهذا الجانب، بجانب تزكية النفس وتربية النفس وتهذيب الأخلاق، وهو جانبٌ لا شك أنه على درجة كبيرة من الأهمية في جانب العقيدة، فاقرأ كتابه إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، واقرأ كتابه طريق الهجرتين، واقرأ كتابه مفتاح دار السعادة، وله رحمه الله أسلوبٌ يحتاج إلى نوعٍ من التمعن والتمهل والتدبر عند قراءته، وينفع الله ﷻ به من أراد النجاة لنفسه، وأراد أن يعرف وظيفة نفسه، وأن يقي نفسه من تلك الأمراض التي هي من أخطر الأمور على حياة الإنسان.
فلا ينبغي أن يستهين الإنسان في أمراض القلوب، ومثل هذه الكتب عالجت الكثير من هذه الأمور وأرشدت وبينت ووضحت وفيها الخير لمن نفعه الله ﷻ بها.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وتولنا فيمن توليت، وقنا واصرف عنا برحمتك شر ما قضيت، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والرشاد والسداد والغنى، نسألك أن تجعلنا هداة مهتدين، وأن توفقنا لصالح القول والعمل، وأستغفر الله ﷻ لي ولكم وأسأل الله ﷻ أن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
[1] التوضيح والبيان لشجرة الإيمان ص ٧
[2] مجموع الفتاوى" (19: 203)
[3] بدائع الفوائد ٢/ ٢٤٥-٢٤٦
[4] مجموع الفتاوى٩/ ٢٩٤
[6] الروح لابن القيم١/ ٣٧-٣٨
[7] مجموع الفتاوى 4 / 216 ـ217
[8] نقل ابن قيم الجوزية الأقوال في حقيقة الروح فقال: "قَالَ الرَّازِيّ وَأما الْقسم الثَّانِي وَهُوَ أَن الْإِنْسَان عبارَة عَن جسم مَخْصُوص مَوْجُود فِي دَاخل هَذَا الْبدن فالقائلون بِهَذَا القَوْل اخْتلفُوا فِي تعْيين ذَلِك الْجِسْم على وُجُوه
الأول: أَنه عبارَة عَن الأخلاط الْأَرْبَعَة الَّتِي مِنْهَا يتَوَلَّد هَذَا الْبدن
وَالثَّانِي: أنه الدَّم
والثَّالِث: أَنه الرّوح اللَّطِيف الَّذِي يتَوَلَّد فِي الْجَانِب الْأَيْسَر من الْقلب وَينفذ فِي الشريانات إِلَى سَائِر الْأَعْضَاء
والرَّابِع: أَنه الرّوح الَّذِي يصعد فِي الْقلب إِلَى الدِّمَاغ ويتكيف بالكيفية الصَّالِحَة لقبُول قُوَّة الْحِفْظ والفكرة وَالذكر
وَالْخَامِس: أَنه جُزْء لَا يتَجَزَّأ فِي الْقلب
وَالسَّادِس: أَنه جسم مُخَالف بالماهية لهَذَا الْجِسْم المحسوس" الروح١/ ١٧٧
[9] الروح١/ ١٧٧-١٧٨
[10] مجموع الفتاوي لابن تيمية 9 / 302 ـ303
[11] مجموع الفتاوي لابن تيمية 4 /222 ـ223
[12] الروح ١/ ١٧٣
[13] الروح١/ ١٩٥
[14] الروح لابن القيم ١/ ٣٣
[15] مجموع الفتاوى 4 / 279
[16] شرح العقيدة الطحاوية 446
[17] الروح١/ ١٥٢-١٥٤
[18] مجموع الفتاوى 9/ 292 المصدر مصطلحات في كتب العقائد 1 / 137
[20] الروح١/ ٢١٧-٢١٨
[21] الروح١/ ٢١٧-٢١٨
[22] الروح١/ ٢١٧-٢١٨
[23] رسالة العقل والروح مجموعة الرسائل المنيرية 2/37.
[24] الروح ص 923.
[25] مجموع الفتاوى٩/ ٣٠٥
[26] مجموع الفتاوى٩/ ٣٠٣-٣٠٤
[28] مجموع الفتاوى٩/ ٣٠٣-٣٠٤
[29] مجموع الفتاوى٩/ ٣٠٣-٣٠٤
[30] مجموع الفتاوى٩/ ٣٠٣-٣٠٤
[31] مجموع الفتاوى٩/ ٣٠٧
[32] مدارج السالكين٢/ ٤٢٠
[35] مدارج السالكين ٢/ ٢٣٣-٢٣٥
([36]) سنن أبي داود (4/ 288)، باب في تغيير الأسماء، رقم، 4950، وصححه الألباني دون قوله تسموا بأسماء الأنبياء.
([37]) سنن الترمذي ت شاكر (5/ 520)، رقم، 3483، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة.
([38])سنن الدارمي (1/ 229)، باب إتباع السنة، رقم: 96، وصححه الألباني، وقال: إسناده صحيح.
([39]) مصنف ابن أبي شيبة (7/ 481)، باب من كره الخروج في الفتنة، رقم: 37395.
([40])صحيح البخاري (4/ 199)، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم: 3606.
([41])مسند أحمد مخرجا (28/ 367)، باب: حديث العرباض بن سارية، رقم: 17142، وصححه الألباني في الصحيحة.
[42] الوابل الصيب ١/ 59
[43] مدارج السالكين ١/ ٤٠٣ -٤٠٦
[44] الروح لابن القيم ١/ ٤٣
[45] الروح١/ ١١٥-١١٦
[46] شرح العقيدة الطحاوية 579
[48] كتاب الروح 1 / 224
[49] إغاثة اللهفان 1 / 152
[50] مدارج السالكين ١/ ١٥١ "بتصرف"
[51] أدب الدنيا والدين ص(360-361).
[53] إغاثة اللهفان 1 / 143
[54] سنن الترمذي، 4/ 638، برقم: 2459، وقال هذا حديث حسن، ضعيف الترمذي، 1/ 279، برقم: 436
[55] محاسبة النفس لابن أبي الدنيا ص
[56] محاسبة النفس لابن أبي الدنيا ص 72
[57] زاد المعاد ٣/ ٩
[58]رواه البيهقي في الشعب (5/ 458)
[59] إغاثة اللهفان 1 / 81 ـ 82
[60] الزهد لأحمد (ص 134)، ورواه أيضاً عبد الرزاق (11/ 255)، وابن أبي شيبة (7/ 110)، وأبو داود في الزهد (ص 228)، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (23)، وابن جرير في تفسيره (1/ 8)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (47/ 172 - 173)، من طرق عن أيوب عن أبي قلابة عنه، ورواه أبو نعيم في الحلية (1/ 211) من طريق أحمد، والبيهقي في الأسماء والصفات (619) وابن عبد البر في جامع بيان العلم (792) من طريق عبد الرزاق، قال ابن حجر في الفتح (13/ 383): "رجاله ثقات إلا إنه منقطع".
[61] إغاثة اللهفان 1 / 151
[62] ذم الهوى لابن الجوزي ص٥٠
[63] مدارج السالكين ١/ ١٥١ "بتصرف"
[64] روضة العقلاء ونزهة الفضلاء١/ ١٩
[65] روضة العقلاء ونزهة الفضلاء١/ ١٩
[66] ذم الهوى ص٤١
[67] محاسبة النفس لابن أبي الدنيا ص25 رقم (7)
[69] ذم الهوى لابن الجوزي ص٥٠
[70] مدارج السالكين٢/ ٣٢
[71] ذم الهوى لابن الجوزي ص٥٠
[72] أخرجه أبو نعيم في الحلية" (1/ 135).
[73] أخرجه ابن حبان في صحيحه ص:717.
[74] محاسبة النفس لابن أبي الدنيا ص ١٠٣
[75] محاسبة النفس لابن أبي الدنيا ص١٠٧
([76]) صحيح البخاري (1/ 20)، باب: فضل من استبرأ لدينه، رقم: 52.
([77]) الجامع الصغير وزيادته (ص: 8568، بترقيم الشاملة آليا)، باب: 8568، رقم: 8568، وضعفه الألباني.
[78] بدائع الفوائد ٢/ ١٦٠
[79] إغاثة اللهفان ١/ ٧٣-٧٤
[80] مجموع الفتاوى ٨/ ٢٠٥
[81] إغاثة اللهفان ١/ ٣٤
[82] مجموع الفتاوى 2/ 40
([83]) مسند أحمد مخرجا (5/ 19)، باب: مسند عبد الله بن عباس، رقم: 2803، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
([84]) مسند أحمد مخرجا (14/ 339)، باب: مسند أبي هريرة رضي الله عنه، رقم: 8722، إسناده حسن.
[85]إغاثة اللهفان ١: ٧
([86]) صحيح ابن حبان - محققا (3/ 253)، باب: ذكر الأمر لمن أصابه، رقم: 972، وصححه الألباني في الصحيحة برقم:199.
([89]) سنن الترمذي ت بشار (5/ 406)، رقم: 3502، وحسنه الألباني في : الكلم الطيب (225 / 169).
([90]) صحيح البخاري (3/ 163)، باب: هدية ما يكره لبسها، رقم: 2613.
([91]) صحيح البخاري (8/ 105)، باب التواضع، رقم: 105.
[92] مجموع الفتاوى١٠/ ٦٣١
([93]) صحيح البخاري (1/ 87)، باب: فضل استقبال القبلة، رقم: 392.
([95]) مسند أحمد مخرجا (39/ 39)، باب: حديث محمود بن لبيد، رقم: 23630
([96]) سنن ابن ماجه (2/ 1406)، باب الرياء والسمعة، رقم: 4204، وحسنه الألباني.
([97]) نور التوحيد وظلمات الشرك في ضوء الكتاب والسنة (ص: 45)، باب: النوع الأول لا يخرج من الملة.
([98]) أخرجه الحكيم الترمذي، صحيح الجامع، 3/ 233، ومجموعة التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب، وابن تيمية، ص6.
([99]) مصنف ابن أبي شيبة (7/ 96)، باب: كلام عمر t، رقم: 34459.