بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلّم على عبده ورسوله محمّدٍ خاتَمِ المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فإنّ الإيمان بالرُّسل عليهم الصَّلاة والسَّلام من أركان الإيمان الستة التي لا يصح إيمان عبد حتى يؤمن بها، ولذا كان على المسلم أن يعرف سيرتهم، ليهتدي بهديهم، ويسير على نهجهم، ليفوز في الدنيا والآخرة؛ ذلك أننا مأمورون بالاقتداء بهم والتأسي بهديهم، قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (٨٩) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (٩٠) ﴾ [الأنعام: 83-90].
ولما كانت معرفة سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأخبارهم بهذه الأهميَّة لِما فيها مِن العبر والعظات؛ فلا بُدَّ مِن العناية بها، فهو موضوعٌ جديرٌ بأن يُفْرَد بالعرض، إذ إنّ تاريخ النّبوّة حَلَقاتٌ مُتَّصِلَةٌ لا بدّ مِن اكتمالها ووُضوح صورتها في الأذهان، لا لِتقرير الحقيقة التّاريخيَّة فحسب، وإنّما لِتَتجلَّى الحكمة التي قَصَد إليها القرآن الكريم مِن اهتِمامه بإيراد هذا القَصص في موضعٍ بارزٍ يهدف إلى وُضوح العِبْرة، وضَرْب المثَل، وأخْذ العِظَة.
ولا تزال قَصص القرآن زادًا تروي النّفوس، وتُثَبِّت القلوب، وتَسْمُو بها الأرواح، فهي دروسٌ عمَليّة، ونماذِجَ تنبضُ بالحياة يتَعلَّم منها العبد المؤمن كيف يثبُت على دين الله تعالى في زمنٍ كثرت فيه الفتن والأهواء، ذلك أنّ القصَّة تخاطِب أعماق الفِطْرة، وتُحرِّك الوجدان، وتهزّ الشّعور، مع الحِفاظ على كل ملامح الواقعيَّة في كلّ جزئيّات القصَّة مِن أولها إلى آخِرها، قال تعالى:﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [هود: 120]، وقال سبحانه:﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾[يوسف: 111].
ومن أجل ذلك حرصنا في موقع دار الإسلام التابع لجمعية الدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات بحي الربوة للقيام بواجب تقريب سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لعموم المسلمين ؛ لِما لها مِن أثر بالغٍ في إصلاح المسلمين وترسيخ عقيدة التّوحيد في نفوسهم ليكون من ضمن مشاريع البنية الأساسية للعلوم الشرعية والتي شملت موسوعة القرآن الكريم، وموسوعة السنة النبوية، وموسوعة المصطلحات الإسلامية، وغيرها من الموسوعات.
وأضفنا إلى ذلك سير الخلفاء الراشدين الأربعة الذين أمرنا بالاقتداء بههم، قال عليه الصلام والسلام «أُوصِيكمْ بِتقوَى اللهِ، والسَّمعِ والطَّاعةِ وإنْ تأمَّرَ عليكم عبدٌ حَبَشِيٌّ، وإنَّه مَنْ يَعِشْ منكم فَسَيرَى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخلفاءِ الراشدينَ المهديينَ، عَضُّوا عليها بالنَّواجذِ، وإيَّاكم ومُحدثاتِ الأمورِ، فإنَّ كُلَّ بِدعةٍ ضَلالةٌ». رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديثٌ حسَنٌ صَحِيح.
الهدف الرئيس للمشروع:
تقريب سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وسيرة الخلفاء الراشدين لعموم المسلمين وللمسلم الجديد بصورة سهلة ومختصرة، وترجمتها بعدة لغات.
الأهداف التفصيلية:
1- تهيئة وتجهيز المواد المتعلقة بسيرة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وسيرة الخلفاء الراشدين بصورة واضحة ومختصرة، يمكن ترجمتها بعدة لغات.
2- تقسيم المواد العلمية حسب الأنبياء وبعض تفاصيل حياتهم.
نَشْأَةُ البَشَرِيَّة قِصَّة آدَم عليه السَّلام (أبو البَشَر)
خَلْقُ آدَمَ عليه السَّلام
خَلَق اللهُ السَّماوات والأرضَ، وسخَّر الشَّمسَ والقمرَ، وزَيَّنَ الأرضَ بما يُصْلِح مَعايِشَ أهلِها؛ فخَلَقَها فِراشًا ومِهادًا، وجَعل فيها الأرزاق والأقْوات، وجَعَلَها كِفاتًا للأحياء والأموات.
إنّها أدلَّة ناطقاتٌ على توحيد الخالق، وآيات شاهِداتٌ على عَظمَتِه وتدبيره، وبَدِيع خلقِه وصُنْعِه.
ثم اقتَضَت حِكْمَتُه سبحانه أن يخلُقَ آدَم عليه السَّلام وذُرِّيَّتَه.
وها هو القرآنُ يتَحدَّث عن بداية خلق آدم -أبي البشر-، وكيف جعلَه اللهُ تعالى خليفةً في الأرض، فقال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 30].
ذلك أنّ في خلقِه من المصالح والحِكَم ما لا تعلَمه الملائكة، ويعلمُها الخالق سبحانَه.
خَلَقَ اللهُ تعالى خَلِيفَتَه في أرضِه بَشَراً مِن طِينٍ، فسَوّاه مِن صَلْصالٍ مِن حمأٍ مَسْنُونٍ -وهو الطِّين الأمْلَس-، ثمَّ نَفَخَ فيه مِن رُوحِهِ، فَسَرَت به نَسْمَة الحياةِ، فصارَ بَشَراً سَوِيّاً، ثم أمَرَ مَلائِكَتَه بِالسُّجودِ لَه سُجودَ إكرام وتحيَّةٍ وسَلامٍ، كما في قولِه تعالى:﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الْحِجْرِ: 28 -30].
عند ذلك سَجَد الملائِكَة كلُّهُم إلّا إبلِيس، فإنّه كان مِن الجنِّ، وعصَى أَمْرَ رَبِّه، وأبى السُّجودَ لِآدَمَ، وادَّعَى أنَّه خيرٌ مِنه؛ فإنّه مخلوقٌ مِن نارٍ، وآدَمُ خُلِقَ مِن طِينٍ، والنّارُ خَيْرٌ مِن الطِّين في زَعْمِه.
وقد أخْطَأ إبليس في ذلك، وخالَف أمْرَ الله، وكفَرَ بذلك، فأبْعَدَهُ اللهُ وطَرَدَهَ عن باب رَحْمَتِهِ، ومَحَلِّ أُنْسِهِ، وحَضْرَة قُدْسِه.
سَأل إبليسُ رَبَّه أن يُنْظِرَه إلى يوم الدِّين، وأن يَـمُدَّ له في الحياة حتّى يوم يُبْعَثون، فأجابَهُ تعالى إلى ما سَأل؛ لِمَا له في ذلك من الحكمة والمَشِيئَة التي لا تُخالَفُ ولا تُمانَع، ولا مُعَقِّبَ لِحُكْمِه.
عندها أخَذَ إبليسُ في المعانَدَة والاستكبار وأقْسَمَ على أن يَفْتِن ذُرِّيَّةَ آدَم عليه السّلام ويُغوِيَهُم إلّا عِبادَ اللهِ الصّالحين، فتوَعَّدَه اللهُ سبحانَه وتعالى وكُلَّ مَن أطاعَه مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ بِالنّار، قال تعالى :﴿قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾[ص: 84- 85].
مَعصِيَة آدَم عليه السَّلام وزَوْجه لِرَبهِما
خلَق اللهُ تعالى لآدَمَ عليه السَّلام زَوْجاً هي حَوّاء، وأسكَنَهُما الجنَّة يأكُلانِ منها رَغَداً، أي: هنيئًا سهلًا، ونهاهُما عن أن يَقْرَبا شَجَرَةً مِن بين أشجارِها؛ ابتلاءً لهما وامتِحانًا، ولكنَّ الشَّيطانَ قَد حَزَّ في نفسِهِ أن يَنْعَم آدَمُ عليه السَّلام وزَوْجُه بهذا النَّعِيم، وهو مَطرُودٌ مِن رَحْمَةِ اللهِ، مُبْعَدٌ عن جَنَّتِهِ، فَوَسْوَسَ لهما بكلِّ مكرٍ وحيلةٍ، وزَيَّن لهما مَعْصِيَة رَبِّهِما، فأكَلا مِن الشَّجَرَة التي نُهِيا عنها، فكانَ جَزاؤُهما أن أخرَجَهُما اللهُ سبحانَه وتعالى مِن الجنَّة، دارِ النَّعِيمِ والنَّضْرَة والسُّرورِ إلى دارِ التَّعَبِ والكَدَرِ والشَّقاءِ، وما أن أَدْرَكَ آدَم عليه السَّلام وزَوْجُه خَطِيئَتَهُما حتى دَعوا رَبَّهما مُسْتَغْفِرِينَ: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
فَقَبِل أرْحَمُ الرّاحمِين تَوبَتَهُما، وعَفا عنهما.
أمر اللهُ سبحانَه وتعالى آدَمَ وزَوْجَه بِالهبوطِ مِن الجنَّة إلى الأرضِ، وأنبأَهُما أنَّ العَداوَةَ بينَهُما وبين إبلِيس سَتَظَلُّ قائِمَةً، فَلْيَحذَرا فِتْنَتَه ولا يُصْغِيا إلى إغْوائِهِ، وأنَّ لهم ولِذُرِّيَّتِهِما في هذه الحياةِ طَرِيقَيْن لا ثالِثَ لهما، فإمّا الهدى، وإمّا الضَّلال، فمَن اتَّبَع هدى اللهِ فلا خَوْفٌ عليهِ مِن غوايَةِ الشَّيطان، وأمّا مَن أعْرَضَ عن ذِكْرِ اللهِ سبحانَه واتَّبَعَ سَبِيلَ الشَّيطانِ فَسَيكون عَيْشُه ضَنْكًا، أي: في الدُّنيا، فلا طُمأنِينَةَ له، ولا انْشِراحَ لِصَدْرِه؛ بل صَدْرُهُ ضَيِّقٌ لِضلالِه، وإن تَنَعَّم ظاهِرُهُ، ما لم يَخْلُصْ إلى اليقين والهُدى، فهو في قَلَقٍ وحَيْرَةٍ وشَكٍّ، فلا يزال في رِيبَةٍ يَتَرَدَّدُ.
كلّ ذلك قصَّه اللهُ علينا في كتابه فقال في محكَم تنزيله: قال تعالى:﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[البقرة: 35-39]. أي: مُخَلَّدُونَ فِيها، لا مَحِيدَ لهم عنها، ولا مَحِيصَ.
أوَّل أُمَّةٍ بَشَرِيَّةٍ في التّارِيخ
ولَمَا هَبطَ آدَم عليه السَّلامُ وزَوْجُه إلى الأرضِ وَجَداها مُهَيَّأَةً لحياتهِما، فتكَوَّن مِنهما ومِن نَسْلِهِما أوَّلُ أُمَّةٍ بَشَرِيَّةٍ في التّارِيخِ، أُمَّة مُسْلِمَة فُطِرَت على توحيد الله تعالى وعِبادته.
إنّ آدمَ خرج مِن الجنَّة لِيَعود إليها على أحْسَن أحوالِه، فما قدَّر اللهُ ذلك باطلًا، ولا دَبَّره عبثًا، ولا أخلاه مِن حكمته البالغة.
وجرى قَلَمُ التَّكليف على ذرِّيَّة آدمَ مِن بَعْدِه، وظَلَّ إبليس يُنَفِّذ وَعدَه، ولا يزال يفعَل، وسيَظل إلى ما شاء الله تعالى.
كان النّاس أمَّةً واحدةً على الهُدى عشرة قُرونٍ مِن زَمَن وَفاةِ أبي البَشر (آدم) عليه السّلام، ثمّ حَصَل انحرافُ النّاسِ بعد ذلك عن عَقِيدَةِ التَّوحِيدِ التي فُطِروا عليها وقام دينُهم على أساسها، فَضَلَّ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:«كان بين آدم ونوح عَشَرة قُرونٍ كلُّهم على شَرِيعَةٍ مِن الحقِّ، فلمّا اختَلَفوا بَعَث اللهُ النَّبيِّين والمرسلين، وأنزَلَ اللهُ كتابَه فكانوا أمَّةً واحِدَةً». رواه الحاكم في المستدرك (2/480) وقال:" صحيح على شَرط البُخاري ".
بَعَث اللهُ رُسُلَه مُبَشِّرين ومُنذِرين؛ حتَّى لا تَبْقى لِلنّاس على الله حُجَّةٌ مِن بعد ما جاءَهُم الحقّ، فكانَ لكلّ أُمّةٍ نبيّ يَدعُوهُم إلى الله سبحانَه وتعالى واتِّباعِ سَبِيلِهِ السَّوِيّ، وصِراطه المستقيم. قال الله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ [البقرة: 213] أي: مُبَشِّرين عِبادَ الله المُؤمِنين بالخيْرات، ومُنْذِرين مَن كَفَرَ باللهِ النّقَمات والعُقوباتِ.
﴿وَأَنزلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: 213].
النُّبَوَّةُ والرِّسالَة وحاجَةُ البَشَرِيَّة لِلرُّسُلِ
إنّ النُّبُوَّة هي الصِّلَة بين الله تعالى وصَفْوَتِه مِن خَلْقِه عن طَرِيقِ الملائِكَة، أو مِن وراءِ حِجابٍ، أو بالوَحْي إليهم؛ لأجل تبليغ شَرِيعَته إلى خلقه وهِدايتهم لأقومِ طريقٍ وأهدى سبيلٍ.
وهل هناك فرقٌ بين النّبيّ والرّسول؟
نعم، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ﴾ [الحج : 52].
فدَلَّت الآيَة الكريمة على أنّ كِلَيْهِما مُرْسَلٌ، ولكنَّ الرَّسولَ هو الذي أُنزِل إليه كِتابٌ وشَرْعٌ مُسْتَقِلٌّ مع المعجَزِةَ التي تُثْبِتُ نُبُوَّتَه، وأمّا النَّبيُّ فهو الذي لم يَنْزِل عليه كِتابٌ، وإنما أُوحِيَ إليه أن يَدْعُو النّاسَ إلى شَرِيعَة رَسُولٍ قَبْلَه، كأنبِياءِ بني إسرائِيلَ الذين كانوا يَدْعُون النّاسَ إلى ما في التَّوراةِ، وهذا يعني أنَّ كُلَّ رسولٍ نَبيّ، وليس كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولًا.
والأنبياءُ عليهِم السَّلام أفرادٌ مِن البَشَر مثل سائِر النّاس، يأكلُون ويَشْرَبون ويمشون في الأسواق، إلّا أنّ اللهَ تعالى مَيَّزَهُم عنهم بأن نَزَّهَهُم عن السَّيِّئات، وعَصَمَهُم مِن المعاصِي والموبِقات، وحَلّاهُم بالأخلاقِ الكَريمة والخصال النّبيلة، وجَعَلَهم نماذِجَ لِلكمالِ البَشَرِيّ، ومَثَلًا للاقْتِداءِ والهدايَة في رُقِيّ إنسانِيَّتِهِم وخُلوصِها للهِ تعالى، فَهُم صَفْوَةُ الخلْقِ وأئِمَّة الهدى، وسُرج الدُّجى (الدُّجى: ظُلمة اللَّيل وسواده).
هم أفضَلُ النّاسِ عِلْماً وعَمَلًا وخُلُقاً.
هم صادِقون مُصَدَّقون؛ مُبَرَّؤون مَعصومون عن كلّ عيبٍ ونقصٍ.
لذلك هم أَجْدَر البَشَرِ بحملِ رِسالاتِ رَبِّ العالمين، ودَعْوَة الخلقِ إلى أرحم الرّاحمين، والله أعلم حيث يجعل رسالاته.
وجمِيعُ أنبياء اللهِ ورسلِه رِجالٌ، قال تعالى:﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[الأنبياء: 7].
والرسل الذين ورَدَ ذِكْرُهُم في القرآن الكريم هم بَعْض الذين عَرَفَتْهُم البَشَرِيَّة منذ فَجْرِ تارِيخها، قال تعالى:﴿وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ [النِّساء: 164]. أي: خَلْقًا آخرِين لم يُذْكَروا في القُرآن.
أما الذين ذُكِروا بأسمائِهم فعَدَدُهُم خَمْسَة وعشرون رَسولاً، وهم: آدَمُ، وإدرِيس، ونُوحٌ، وهُودٌ، وصالِحٌ، وإبْراهِيمُ، ولُوطٌ، وإسماعيلُ، وإسحاقُ، ويَعْقوبُ، ويوسفُ، وأيّوبُ، وشُعَيْبٌ، ومُوسى، وهارونُ، ويونسُ، وداودُ، وسُلَيمانُ، وإلياسُ، واليَسَع، وزكرِيّا، ويحيى، وعيسى، وكذا ذُو الكِفْل عند كثيرٍ مِن المُفَسِّرين، ومُحَمّدٌ صلّى الله وعليه وسلّم.
الأنبِياء والرِّسالات
لم تخل أمَّة مِن نبِيّ ولا رسولٍ منذ أن ظَهَر الانحرافُ في ذِرِّيَّة آدَم عليه السَّلام إلى عَصْر النُّبُوَّةِ المحمَّدِيَّة، وذلك لحاجَة كلِّ أُمَّةٍ إلى البَلاغِ والدَّعوَةِ إلى التَّوحِيد، والتَّحذير مِن الشِّرك، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النَّحل: 36].
وبِنُبُوَّةِ محمَّد صلّى الله عليه وسلّم خُتِمَت النُّبُوّات، وبِتَعالِيمِها خُتِمَت الشَّرائِع، وكَمُلَ الدِّين الذي ارتَضاه اللهُ لجميعِ عِبادِهِ إلى آخِر الزَّمانِ، قال تعالى:﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3].
ظاهِرَةُ الوَحْي
الوَحْيُ إبْلاغُ اللهِ سبحانَه وتعالى وإعلامُه لنَبِيٍّ مِن أنبِيائِه عليه السَّلام بما يُرِيده أن يُبَلِّغَه إليهِم مِن شرعٍ أو كتابٍ، بِواسِطَةٍ جبريل، أو بمنامٍ، أو إلهامٍ.
وهو عام للأنبياء جميعًا، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا﴾ [النِّساء: 163].
ومُهِمَّة الأنبِياء ووَظِيفتهم السّامِيَة أن يخبِروا بِالحقِّ، ويأمروا بِالعَدْلِ، ويَدْعُوا إلى عِبادَةِ اللهِ وَحْدَه لا شَرِيكَ له.
واختِيارُهُم مِن البَشَرِ يُسَهِّلُ مُهِمَّتَهُم ويجعَل التَّفاهُم معهم أَيْسَر وأَقْرَب إلى نُفوسِ مَن أُرسِلوا إليهِم.
وقد أَوْجَب اللهُ تعالى على المسلِم الإيمانَ بهم جميعاً دون تَفْرِيقٍ، قال تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 136].
سفينة نوح عليه السلام
(1) بعد آدم عليه السلام:
بارك الله تعالى في ذريّة آدَم، فكان فيها رجال كثير ونساء، وقد انتَشَرت ذريّته وكثرت حتّى صارت لهم قرى كثيرة.
وكان النّاس وقتَها على دين أبيهم آدم؛ يعبُدون اللهَ ولا يُشركون به شيئًا!.
وكان النّاس أمّة واحِدَة، أبوهم آدَم، وربُّهم اللهُ.
(2) حسد الشّيطان
ولكن كيف يرضى إبليسُ وذريَّتُه بهذا؟
فقد كان لسان حاله: ألا يزال النّاس يعبدون الله؟.
ألا يزال النّاس أمّة واحدة لا يختلفون؟ كيف يكون ذلك، أبدًا لا يكون !
هل يدخل ذريّة آدم الجنّة، ويدخل إبليس وذريّته النّار؟
إنّ ذلك لا يكون!.
إنّه لم يسجُد لآدَم فطَرَدَه اللهُ ولَعَنَه.
ألا ينتقم مِن بني آم فيدخلوا معه النّار؟
لا بدّ أن يكون ذلك!
(3) فكرة الشّيطان
ورأى الشّيطانُ أن يدعوَ النّاس إلى أمر يخلدون به في النّار ولا يدخلون الجنّة؛ إمعانًا منه في العداوة لبني الإنسان، فرأى أنّ عبادة الأصنام هي الشّراك والحَبائل التي يُوقِع بها فَرائِسَه.
وكان الشّيطان يعرف أنّ اللهَ لا يغفر الشّرك، ويغفر كلّ شيءٍ إذا أراد.
فأراد الشّيطان أن يدعُوَهم إلى الشّرك، فلا يدخلوا الجنّة أبدًا.
ولكن كيف الطّريق إلى ذلك، والنّاس يعبدون الله؟
إنّه لو ذهَب للنّاس وقال لهم:" أعبدوا الأصنام ولا تعبدوا الله " لشَتَمَه النّاس وضربوه.
قالوا: معاذ الله، أنشرك بربِّنا؟ أنعبد الأصنام؟.
إنّك لشيطانٌ رجِيمٌ! إنّك لشيطانٌ خبيثٌ!
(4) حيلة الشيطان
عند ذلك الشّيطان وجد بابًا يدخل منه إلى رؤوس النّاس.
وهو أنّه كان رجالٌ يخافون الله، ويعبدونه ليلًا ونهارًا، ويذكرونه ذكرًا كثيرًا.
وكان النّاس يحبّونهم ويُعظِّمونهم، وكان الشَّيطان يعرف ذلك جيّدًا.
ثمّ لَمّا مات هؤلاء وانتقلوا من الدنيا.
ذهب الشَّيطان إلى النّاس وذَكَر هؤلاء الرِّجال.
وقال: كيف كان فيكم فلان وفلان وفلان؟
قالوا: سبحان الله! رجال الله وأولياؤه! أولئك إذا دعوا أجابهم، وإذا سألوا أعطاهم.
(5) صور الصّالحين
قال الشّيطان: فكيف حُزْنُكُم عليهم؟
قالوا: شديدٌ.
قال: وكيف اشتِياقكم إليهم؟
قالوا: عظيمٌ!
قال: ولماذا لا تنظرون إليهم كلَّ يومٍ؟
قالوا: وكيف السَّبِيل إلى ذلك وقد ماتوا؟
قال: اعمَلوا لهم صورًا وانظُروا إليها كلَّ صباحٍ.
وأُعْجِب النّاس برأي إبليس وصوَّروا الصّالحين وكانوا ينظرون إلى هذه الصّور كلّ يوم، وإذا رأوها ذكروا أولئك الصّالحين.
(6) مِن صور إلى تماثيل
وانتقلوا مِن الصّور إلى التّماثيل.
وعملوا للصّالحين تماثيل كثيرة، ووضعوها في بيوتهم وفي مساجدهم.
وكانوا يعبدون اللهَ لا يُشركون به شيئًا.
وكانوا يعرفون أنّ هذه تماثيل للصّالحين.
وأنّ هذه حجارة لا تنفعهم، ولا تضرّهم، ولا ترزقهم، ولكنَّهم كانوا يَتَبرّكون بها ويُعظِّمونها؛ لأنّها تماثيل للصّالحين.
وكثرت هذه التّماثيل فيهم، وكثر تعظيمها.
وإذا مات لهم رجلٌ صالح عَمِلوا له تمثالًا وسمّوه باسمه.
(7) مِن التَّماثيل إلى الأصنام
ومَضى هؤلاء، ورأى الأولاد آباءَهم يَتَبرَّكون بها، ورأوا آباءَهم يُعَظِّمونها تعظيمًا شديدًا؛ مرَّةً يُقَبِّلونها، ومرَّةً أخرى يلمَسونها ويَدْعُون عندها.
وكما رأوهم يخفِضون رُؤوسَهم عندها ويركعون، فزادَ الأبناء على الآباء، وصاروا يَسْجُدون لها، وصاروا يسألونها، ويذبحون لها مِن دون الله تعالى.
وهكذا صارَت هذه الأصنامُ آلهةً، وصار النّاس يعبدونها كما كانوا يعبدون اللهَ مِن قبل.
وكثرت هذه الآلهة فيهم، هذا وَدٌّ، وذلك سُواعٌ، وهذا يَغُوثُ، وذلك يَعُوقُ، وهذا نَسْرٌ.
(8) غضب الله
وغضِب اللهُ على النّاس غَضَبًا شديدًا ولعَنَهُم.
ولماذا لا يغضَب اللهُ على النّاس ولا يلعنهم؟
ألهذا خَلَقَهُم، ألهذا يرزقهم؟
يمشون على أرض الله ويكفرون بالله!
ويأكلون رزق الله ويشركون بالله!
إنّ هذا لَظلمٌ عظيمٌ!
غضَب اللهُ على النّاس، وحَبَس المطَرَ عنهم، وضيَّق عليهم، وقلّ الحرْث، وقلّ النَّسْل.
ولكنّ النّاس ما عَقَلوا ولكنّ النّاس ما تابوا.
(9) الرَّسول
وأراد اللهُ تعالى أن يرسِلَ إليهم رَجُلًا منهم يُكلِّمهم وينصَح لهم، ويدعوهم إلى عبادة الله وترك عِبادة ما سِواه.
(10) بشر أم مَلَك
وأراد اللهُ بحكمته البالغة أن يكون هذا الرّسول بشرًا، وأن يكون واحدًا مِن النّاس، يعرفونَه ويفهمون كلامَه، ولو كان الرَّسول مَلَكًا لقال النّاس: ما لَنا وله؟ هو مَلَك ونحن بَشَر!
نحن نأكل ونشرب، ولنا أهلٌ وذُرِّيَّة، فكيف نعبُد اللهَ؟
وإذا كان الرّسول بشرًا قال: أنا آكل وأشرب، ولي أهل وذرِّيّة، وأنا أعبُد اللهَ فَلِمَ لا تعبدون اللهَ؟
وإذا كان الرّسول مَلَكًا قال النّاس: إنّك لا تعْطَش ولا تجوع، وإنّك لا تمرض ولا تموت فتَعْبُدُ اللهَ وتَذْكُرُه دائمًا!.
ونحن بَشَرُ نَعْطَش ونجوع، ونمرَض ونموت، فكيف نعبُدُ اللهَ ونَذْكُرُه دائمًا؟
وإذا كان الرسول بشرًا قال: أنا مثلكم أعطش وأجوع، وأمرض وأموت، وأعبُد اللهَ وأذكرُه، فلماذا لا تعبدون الله ولا تذكُرونه؟
فينقطع كلام النّاس ولا يجدون عذرًا.
(11) نوح الرّسول
وأراد الله أن يرسِل نوحًا إلى قومِه.
كان في القوم أغنياء ورؤساء، ولكنّ اللهَ اختار نوحًا لرسالته، ولم يختر أحدًا منهم.
فالله يعلَم مَن يحمِل رسالته، و﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾.
فقد اجتَمع في نوحٍ: الصَّلاح والكَرَم، والعَقْل والحِلْم، والنُّصْح والشَّفَقَة، والصِّدْق والأمانَة.
وكان مِمّا أوحى اللهُ إليه:﴿أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
فقام نوح في قومه يقول للنّاس:﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾.
(12) ماذا أجابه قومُه؟
ولما قام نوحٌ في قومِه يقول:﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾.
قام بعض النّاس يقولون: متى صار هذا نبيًّا؟
بالأمس كان رجلًا منّا يقول: أنا رسول الله إليكم!
وقال أصدقاء نوح: هذا كان يلعب معنا في الصِّغر، ويجلس معنا كلّ يومٍ، فمتى جاءته النُّبوَّة ؟ أليلًا أم نهارًا !...
وقال الأغنياء والمتكبِّرون: أما وَجَد اللهُ أحدًا غيرَه؟
أمات النّاسُ كلُّهم، أما وجَد في القوم إلّا فقيرًا ؟
وقال الجُهّال:﴿مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ﴾.
وقالوا:﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ لأنزلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ﴾.
وقال بعض النّاس إنّ نوحًا ﴿يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ﴾ يَعْنُون: يَتَرَفَّع عليكُم ويَتَعاظَمُ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ؛ لِيَنال الرِّياسَة والشَّرَف بهذا الطَّريق.
(13) بين نوح وقومه
كان النّاس يرون أنّ عبادَة الأصنام هو الحقّ والعقل، وأنّ الذي لا يعبُد الأصنام هو في ضلالَةٍ وسَفاهَةٍ.
وكانوا يقولون: قد كان آباؤنا يعبدون الأصنام فلماذا لا يعبدها هذا؟.
وكان نوح يرى عكس ما يرون، وأنّ آدَم وهو أبو الآباء ما كان يعبد الأصنام بل كان يعبد اللهَ تعالى وحده لا شريك له.
فقام نوح في القوم يقول بأعلى صوته:
﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾.
﴿قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾
﴿قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.
(14) اتَّبعك الأرْذَلون
واجتَهَد نوح كثيرًا في دعوة قومه رجاء أن يؤمنوا، ويعبدوا الله تعالى، ويتركوا عبادة الأصنام، ولكن ما آمَن به واتَّبعَه إلّا بعض الأفراد مِن قومه ممّن يعملون بأيديهم ويأكلون الحلال الطَّيِّب.
أما الأغنياء مِن قومه فقد مَنَعهم كِبْرُهُم أن يطيعوا نوحًا؛ لا وشَغَلَتْهُم أموالهم وأولادُهم عن أن يُفكِّروا في الآخرة، وكانوا يقولون: نحن أشرافٌ وهؤلاء أراذِل.
ولَمّا دَعاهم نوح إلى الله تعالى قالوا: ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ﴾؟
ثم طَلَبوا مِنه أن يَطْرُد هؤلاء المساكين.
ولكن نوحًا أبى وقال:﴿وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
إنّ بابي ليس بابَ مَلِك،﴿إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾.
وكان نوح يعرف أنّ هؤلاء المساكين مؤمنون مخلِصون.
وأنّ اللهَ يغضَب إذا طرَد هؤلاء المساكين، وإذَنْ لا ينصُرُه أحدٌ.
فقال نوح:﴿يَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ﴾.
(15) حجّة الأغنياء
وقال الأغنياء: الذي يدعو إليه نوح ليس بحقّ وليس بخير.
لماذا؟.
لأنّا جرَّبنا أنّا نحن السّابقون في كلّ خير.
لنا كلّ طيّب مِن الطّعام، ولنا كلّ جميلٍ مِن اللِّباس، والنّاس في كلّ شيء لنا تَبَعٌ.
وإنّا رأينا أنّ الخيرَ لا يُخطِئُنا ولا يجاوِزُنا في المدينة.
فلو كان هذا الدّين خيرًا لأتانا قَبْلَ هؤلاء المساكين﴿لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾.
(16) دعوة نوح
ودعا نوح قومَه، واجتَهد في النَّصيحة.
﴿قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
وكان اللهُ حبَس عنهم المطَر، وغَضِب عليهم، وقلّ الحرث والنَّسل.
فقال نوح: يا قوم إن آمَنْتُم رَضِي عنكم الله وزال عنكم هذا العذاب.
وأرسل عليكم الأمطار، وبارك لكم في الرِّزق والأولاد.
ودعا نوحٌ قومَه إلى الله وقال لهم: ألا تعرفون الله ؟
هذه آيات الله حولكم، ألا تنظرون إليها؟ ألا تنظرون إلى السّماء والأرض؟ ألا تنظرون إلى الشّمس والقمر؟.
مَن خَلَق السَّماوات؟ وجعل القَمَر فيهِنّ نورًا، وجعَل الشّمس سِراجًا ؟.
ومَن خَلَقَكم، وجعل لكم الأرض بِساطًا؟
ولكنّ قوم نوح لم يَعْقِلوا! ولم يؤمنوا! بل كانوا يضعون أصابِعَهم في آذانهم كلّما دَعاهُم إلى الله.
وكيف يفهَم مَن لا يسمَع؟ وكيف يسمَع مَن لا يريد أن يسمَع؟.
(17) دعاء نوح
واجتهد نوح كثيرًا وبقي يدعوا قومَه زمنًا طويلًا.
مَكَث نوح في قومه ألف سنة إلّا خمسين عامًا.
يدعوهم إلى الله.
ولكنّ قوم نوح لم يؤمنوا.
ولم يتركوا عبادة الأصنام، ولم يرجِعوا إلى الله.
فإلى متى ينتظر نوح؟ إلى متى يرى فسادَ الأرض؟
إلى متى يرى الحجارةَ تُعبَد مِن دون الله؟
إلى متى يرى النّاس يأكلون رِزْقَ اللهِ ويعبُدون غيرَه ؟
لماذا لا يغضَب نوح؟ إنَّه صبَر صبرًا لم يَصْبِره أحَدٌ مثله !.
ألف سنة إلّا خمسين عامًا، الله أكبر، الله أكبر، وقد أوحى الله إلى نوح:﴿أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ﴾.
وقال قومُ نوحٍ لَمّا دعاهم نوح مرّةً أخرى:﴿يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾.
وغضِب نوحٌ للهِ، ويَئِس مِن هؤلاء وقال: اللَّهُمّ لا تترك على الأرضِ أحدًا مِن الكافرين.
(18) السَّفينة
وأجاب اللهُ دعوةَ نوح وأراد أن يُغرِق قومَه.
ولكنَّ اللهَ يريد كذلك أن ينجُوَ نوح والمؤمنون.
فأمر نوحًا أن يصنع سفينة كبيرة.
ولَمّا رآه قومُه في هذا الشّغل وجدوا شُغْلًا؛ فصاروا يَسخَرون منه، ويقولون: ما هذا يا نوح ؟ مِن متى صِرت نجّارًا ؟
أما كنّا نقول لك: لا تجلِس إلى هؤلاء الأراذِل.
ولكنّك ما سمعت كلامَنا وجلَست إلى النّجّارين والحدّادين فصِرت نجّارًا!
وأين تمشي هذه السّفينة يا نوح؟ إنّ أمرَك كلّه عَجَب.
أتمشي هذه في الرَّمل أم تَصْعَد الجبل؟
البحر مِن هنا بعيد جدًّا، هل يحمِلها الجِنّ، أم تجرّها الثِّيران؟
وكان نوحٌ يسمَع كلّ ذلك ويصبِر، وقد سَمِع أشدّ مِن هذا فَصَبَر!
ولكنَّه كان يقول لهم أحيانًا:﴿إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾.
(19) الطّوفان
وجاء وعد الله - والعِياذ بالله -!
أمطَرت السّماء وأمطَرت وأمطرت.
حتى كأنّ السّماء مِنْخَلَةٌ لا تمسِك ماءً.
ونَبَع الماء وسال حتّى أحاط بالنّاس مِن كلّ جانبٍ.
وأوحى الله إلى نوح: خُذْ معك مَن آمَن بك مِن قومِك وأهلِك، وخُذْ مِن كلّ حيوان وطائر زوجًا، ذكرًا وأنثى؛ لأنّ الطّوفان عامّ لا ينجو منه إنسان ولا حيوان.
وكذلك فعَل نوح.
وسارت السّفينة تجري بهم في موج كالجبال.
وارتقى القومُ كلّ مكانٍ عالٍ، وكلّ رَبْوَة يَفِرّون مِن عذاب اللهِ.
ولكن لا مَلْجَأ مِن اللهِ إلّا إليه.
(20) ابن نوح
وكان لنوحٍ ابْنٌ كان مع القوم الكافرين.
ورأى نوح ابنَه في الطّوفان فقال:﴿ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾.
﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ﴾.
﴿قالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ﴾.
﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾.
وحَزِن نوح على ابنِه، وكيف لا يحزن وهو ابنُه.
وأراد أن ينجُوَ ابنُه من النّار يوم القيامة إذْ لم يَنْجُ مِن الماء أمْسِ.
إنّ النّار أشدّ مِن الماء، وإنّ عذاب الآخرة أشَقّ.
أمَا وعدَه اللهُ أنّه يُنَجِّي أهلَه؟ بلى! إنّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ.
فأراد أن يَشْفَع لابنِه عند الله.
(21) ليس مِن أهلك
﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾.
ولكنّ اللهَ لا ينظر إلى الأنساب بل ينظر إلى الأعمال، كما أنّه سبحانه لا يقبل الشّفاعة في المشركين.
والمشرك ليس مِن أهل النَّبيّ وإن كان ابنَه.
فنَبَّه اللهُ نوحًا على ذلك وقال:﴿يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾.
وتنبَّه نوحٌ عندئذٍ وتاب إلى الله، وقال: ﴿رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
(22) بعد الطّوفان
ولَمّا كان ما أرادَه اللهُ، وغَرِق الكفّار أمسَكَت السّماءُ، وغارَ الماء.
واسْتَوَت السَّفينة على جبل الجُودِيّ ﴿وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.
و﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا﴾ وهَبَط نوح وأصحاب السّفينة يمشون على البَرِّ بِسَلامٍ.
وهلَك الكُفّار مِن قومِ نوحٍ، ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ﴾.
وبارك اللهُ في ذريّة نوح، فانتَشَرت ومَلأت الأرض.
وكان فيها أُمَمٌ، وكان فيها أنبياء وملوك.
﴿سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾.
العاصِفة
(1) بعد نوح
بارك الله في ذريّة نوح فانتشرت في الأرض.
وكان منها أمّة يقال لها: عاد.
وكانوا رجالًا أقوياء، أجسامهم كأنّها مِن حديدٍ، يغلبون كلّ واحد، ولا يَغْلِبُهم أحدٌ.
ولا يخافون أحدًا، ويخافُهم كلّ أحدٍ.
وبارك الله لعادٍ في كل شيء، فكانت إبلهم وغنمهم تملأ الوادِي، وخَيْلُهم تملأ الميدان، وأولادهم تملأ البيوت.
وكانت أرضُهم كذلك أرضًا جميلة خضراء، فيها بساتين وعيون كثيرة.
(2) كفران عاد
ولكنّ عادًا لم يشكروا الله على هذه النّعم الكثيرة التي تستوجِب الشُّكرَ، ونَسِيَت عاد قصّة الطّوفان التي سَمِعوها مِن آبائهم، ورأوا آثارَه في الأرض.
ونسوا لماذا أرسل اللهُ الطّوفان على أُمَّة نوح.
وصاروا يعبدون الأصنام مِن دون الله كما كانت أمَّة نوح تعبُدها.
ولم يَنْتَفِعوا بِعُقولهم ولم يهتدوا بها في ترك عبادة أحجارٍ لا تضرّ ولا تنفع.
وقد كانوا عُقَلاء في الدّنيا أغبِياء في الدِّين.
(3) عٌدْوان عاد
وصارت قُوَّة عاد وَبالًا عليهم وعلى النّاس؛ لأنّهم لا يؤمنون بالله ولا يؤمنون بالآخرة.
فماذا يمنَعُهم مِن الظّلم؟ وماذا يمنَعُهم مِن العدوان؟.
وهم لا يرون فوقَهم أحدًا، ولا يخافون حِسابًا ولا عقابًا.
وكانوا إذا حاربوا أهلَكوا الحَرْثَ والنَّسْل.
وإذا دَخلوا قريةً أفسَدوها وجعلوا أعِزَّة أهلها أذِلَّة.
وكذلك كلّ مَن لا يخاف اللهَ ولا يؤمن بالآخرة، يعمل مثل عملهم.
(4) قصور عاد
وكان عاد لا شُغْل لهم إلّا الأكل والشّرْب، واللَّهْو واللَّعِب.
وكان بعضهم يفخَر على بعضٍ في بناء القصور العالية والبيوت الواسِعة، وضاعت أموالهم في الماء والطِّين والحجارة؛ حيث كانوا يبنون بيوتًا كأنما يسكنون فيها دائمًا ولا يموتون أبدًا.
وكان الفقراء منهم لا يجِدون بيتًا يسكنون فيه، وبيوت الأغنياء لا ساكِن فيها، ومَن رآهُم ورأى قُصورَهم عَرَف أنّهم لا يؤمنون بالآخِرَة.
(5) هود الرّسول
وأراد اللهُ أن يرسِل إلى عادٍ رسولًا؛ فاللهَ لا يرضَى لِعباده الكفر، ولا يحِبّ الفسادَ في الأرض.
وكان عادٌ لا يستَعمِلون عقولهم إلّا في ما يُصلِح أمرَ دُنياهم مِن أكلٍ وشربٍ ومَسْكن ولا يَسْتعمِلونها فيما يُصلِح أمرَ دِينِهم وآخرتهم.
وفي ذلك أكبر دليلٍ على فَساد عُقولهِم وسَفاهة أحلامهم، وأنّهم كما قال القائل: عُقلاء في الدّنيا أغبياء في الدّين.
فأراد اللهُ أن يرسِل إليهم رسولًا يعرفونه ويفهمون كلامَه؛ ليهديهم إلى ما به فوزهم وصلاحهم في الدّنيا والآخرة.
(6) دعوة هود
وأرسل الله إلى عادٍ رسولا، هو هود عليه السلام.
وقام هود في قومِه يدعو ويقول:﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾.
يا قوم كيف تعبدون الحجارة التي نَحَتُّمُوها أمسِ ولا تعبدون الذي خلقكم ورزقكم، وبارك لكم في الأموال والأولاد والحرث والنسل!؟.
وجَعلَكم خلفاء مِن بعد قوم نوح ورزقكم قوّة في الجسم.
كان مِن حقّ هذه النِّعَم أن تعبدوا الله ولا تعبدوا غيره.
(7) جواب القوم
كان القوم في شُغلٍ مِن الأكل والشّرب واللّهو واللّعب، وقد رضوا بالحياة الدّنيا واطْمَأنّوا بها، ولَمّا ضاق صدرهم بِكلام هود قال بعضهم لبعض: ما يقول هود ؟ وماذا يريد منَا؟ نحن لا نفهَم كلامَه!
قالوا: سَفِيهٌ أو مجنونٌ!
ولَمّا دَعاهم هود مرة أخرى مبالغةً في نُصحهم وزِيادةً في الشَّفقة عليهم، قال أشراف قومه:﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾.
﴿قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾.
(8) حكمة هود
وما زال هود ينصَح لقومه ويدعوهم بحِكْمةٍ ورِفْقٍ.
قال هود: يا قوم أنا أخوكم وصديقكم بالأمس! ألا تعرفونني؟
يا إخواني لماذا تخافونني وتفرّون منّي، إنّي لا أَنقُص مِن مالكم شيئًا.
﴿يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ﴾.
يا قوم ماذا تخافون إن آمَنْتُم بالله، واللهِ لا تَفْقِدون مِن أموالكم شيئًا إذا آمَنتم بالله!
بل يبارِك الله لكم في الرّزق، ويزيد لكم في القوَّة.
ويا قوم لِماذا تتعجَّبون مِن رسالتي؟ إنّ اللهَ يرسِل إلى كلّ قومٍ رجلًا من أنفسِهم يُكلِّمهم ويَنْصَح لهم.
﴿أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ﴾.
(9) إيمان هود
ولم تجِد عادٌ جوابًا، وما عَلِمُوا كيف يُجيبون هودًا!
ولكنَّهم قالوا لَمّا عجزوا: قد غضِبَت عليك آلهتُنا فأصابَك مرضٌ في عَقْلِك!
وقد وقع عليك وبالٌ مِن الآلهة.
قال هودٌ: إنّ هذه الأصنام حجارةٌ لا تنفَع أحدًا ولا تضرّ! ولا تتكلَّم ولا تسمَع ولا تنظر! ولا تملِك خيرًا ولا شرًّا، فلا أُؤمِن بِآلهتِكم ولا أخافُهم.
﴿إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾.
كما أنّي لا أخافُكم أيضًا: ﴿فَكِيدُونِي بِهَا جَمِيعًا﴾.
﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ﴾.
كلّ شيءٍ تحت يَدِه، ولا تسقُط ورقةٌ إلّا بإذنه.
(10) عناد عاد
سَمعت عاد كلّ ذلك ولكنّهم لم يؤمنوا.
ضاعت فيهم نصيحة هود! ضاعت فيهم حكمة هود.
وقالوا: يا هود ما عندك دليلٌ ولا بيِّنةٌ!
ولا نترك يا هود آلهتَنا القديمة لقولك الجديد.
أنترك الآلهة التي كان يعبدها آباؤنا لقول قائلٍ؟ أبداً أبدًا.
ويا هود فكما أنَّك لا تُؤمِن بآلهتِنا ولا تخافُهم، فَإنّا لا نُؤمِن بإلهِك ولا نخاف عَذابَه.
وإنّنا نسمعك كثيرًا تذكر العذاب، فأين هو يا هودُ، ومتى يجيء؟.
قال لهم هود عليه السلام: ﴿إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾.
قالت عادٌ: فإنّنا ننتظر ذلك العذاب ونشتاق أن نراه.
وتعجَّب هودٌ مِن جَراءَتهم، وتأسَّف هودٌ على سَفاهتهم.
(11) العذاب
وكان عادٌ ينتظرون المطر كلّ يومٍ وينظرون إلى السَّماء فلا يرون قطعةَ سحابٍ.
لقد كانوا في حاجةٍ شديدة إلى المطر، وكان لهم شَوْقٌ عظيمٌ لنزوله.
ذات يومٍ رأوا سحابةً تأتي إليهم ففَرِحوا جِدًّا، وصاحوا: هذه سحابةُ مطرٍ، هذه سحابة مطر.
ولكنّ هودًا فَهِم أنّ العذابَ قد جاء.
وقال لهم هودٌ: ليس هذا سحابُ رحمةٍ؛ بل هو ريحٌ فيها عذابٌ أليمٌ.
وكذلك كان، فقد هبَّت ريحٌ شديدةٌ ما رأى النّاسُ مثلها، وما سمِع النّاسُ بمثلها.
نعم إنّها عاصِفةٌ تَقْلَع الأشجارَ، وتهدِم البيوتَ، وتحمِل الدَّوابَّ وتَرْمِيها إلى مَكانٍ بعيدٍ.
وطارت رِمال الصَّحراء، وأظلمَت الدّنيا فلا يرى الإنسانُ شيئًا.
ودخلهم الرُّعب فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابها.
واعتنق النّاسُ بالجُدْران، ودخل النّاس الحُجُرات.
يدعون ويستغيثون.
وكأنّ قائلًا يقول:
﴿لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾.
كان ذلك سَبْع لَيالٍ وثمانيةَ أيامٍ.
ومات القومُ فكانوا كأشجار النّخيل سقطت على الأرض، وكان منظرًا غريبًا جدًّا، النّاسُ أمواتٌ يأكلهم الطَّير، والبيوت خرابٌ يسكنها البُومُ.
ونجا هودٌ والمؤمنون بإيمانهم، وهلكت عادٌ بِكُفرِها وعنادِها.
﴿أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ﴾.
ناقة ثمود عليه السلام
(1) بعد عاد
وَرِثَت ثمودُ عادًا وكانت على أثَرِها كما وَرِثَت عادٌ أُمَّةَ نوحٍ وكانت على أثَر أُمّتِه.
وكانت أرض ثمود أرضًا جميلةً خضراء، فيها بساتينُ وعيونٌ وجنّاتٌ تجري مِن تحتها الأنهار.
وكانت ثمود كعادٍ في العِمارة والزّراعة وفي كثرة البساتين؛ بل وفاقوهم في العقل والصّناعة، فكانوا يَنْحِتُون مِن الجبال بيوتًا واسعة جميلةً، وينقُشون في الحجارة نقوشًا بديعةً.
وقد لانَ لهم الحجَر بعقلهم وصِناعتهم فيصنعون به ما يصنَع الإنسان بالشَّمْع.
وإذا دخل الإنسان مدينَتَهم رأى عجبًا، رأى قُصورًا عظيمة كالجبال كأنّما بناها الجِنّ، ورأى أزهارًا جميلةً في الجدران كأنّما أنبتها الرّبيع.
وقد فتح اللهُ على ثمود بركاتٍ مِن السَّماء والأرضِ، وفتَح عليهم أبوابَ كلّ شيءٍ.
جادَت لهم السَّماء بالأمطار، وجادَت لهم الأرض بالنّبات والأزهار، وجادَت لهم البساتين بالفواكه والأثمار، وبارك الله لهم في الرّزق والأعمار.
(2) كُفْران ثمود
ولكنّ كلّ ذلك لم يحمِل ثمودَ على الشُّكر وعبادة الله تعالى.
بل حمَلهم ذلك على الكفر والطُّغيان، ونَسُوا اللهَ، وفَرِحوا بما أُوتوا وقالوا: مَن أشدّ مِنّا قوَّةً.
وظنّوا أنّهم لا يموتون ولا يخرجون مِن قُصورِهم وجنّاتهم أبدًا.
وظنّوا أنّ الموتَ لا يدخُل في هذه الجبال ولا يجِد لهم سبيلًا!
لعلَّهم كانوا يظنّون أنّ أمَّة نوحٍ إنّما غرقت لأنّها كانت في الوادِي.
وأنّ عادًا إنّما هَلَكوا لأنّهم كانوا في السَّهل!
وأنّهم مِن الخوف والموت بمكانٍ آمِنٍ.
(3) عبادة الأصنام
ولم يَكْفِهم هذا؛ بل نحتوا الحجارةَ وعبدوا الأصنامَ.
إنّ اللهَ تعالى قد جعلَهم مُلوكَ الحِجارة ولكنَّهم مِن جهلهم صاروا عُبّاد الحجارة.
إنّ اللهّ أكرمهم ورزقهم مِن الطَّيّبات.
ولكنّهم أهانوا أنفسهم وأهانوا الإنسان.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.
عجبًا! إنّ الحجرَ الذي يَنْحِتونَه بأيدِيهم فلا يأبى ولا يَعْصِيهِم قد خَضَعوا له ووَقعوا ساجِدين!
أيَعبُدُ القَويُّ الضَّعيفَ؟ أيسجُد السِّيِّدُ لعبدِه؟
ولكنّهم نَسُوا اللهَ فأنساهم أنفُسَهم، وأبوا أن يعبدوا اللهَ فأذَلَّهم اللهُ.
(4) صالح عليه الصلاة والسلام
وأراد اللهُ أن يُرسِل إليهم رسولًا، كما أرسَل إلى أمّة نوحٍ وإلى عادٍ رسولًا.
إنّ اللهّ لا يرضى لعباده الكفر، ولا يحِبّ الفساد في الأرض.
وكان فيهم رجلٌ اسمه صالح، ولد في بيتٍ شريفٍ ونشأ على عقلٍ وصلاحٍ، ونَجابةٍ ورُشْدٍ.
وكان للنّاس فيه رجاءٌ كبيرٌ، ويتوقَّعون أنه سيكون له شأنٌ عظيمٌ.
يرى النّاس أنّ صالحًا يكون مِن أشرافهم، ويكون مِن أغنيائهم.
ويرى أبوه أنّ ابنَه يكسِب بعقله مالًا عظيمًا ويخرُج في النّاس على فَرَسٍ ووراءَه الخدَم فيُسلِّم عليه النّاس، ويقولون: هذا ابن فلانٍ!
ولكنّ اللهَ أراد غير ذلك، إنّ اللهّ أراد أن يُشَرِّفَه بالنُّبوَّة ويرسِلَه إلى قومه؛ لِيُخرجَهم مِن الظّلمات إلى النّور.
وهل فوق ذلك شرفٌ؟ وهل فوق ذلك كرامةٌ؟
(5) دعوة صالح
وقام صالح في قومِه يقول بأعلى صوته:﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾.
وكان الأغنياء في شُغْلٍ مِن الأكل والشّرب، وكانوا في لهوٍ ولعبٍ.
وهم مع هذا يعبُدون الأصنامَ، ولا يَرَوْن إلهًا غيرَها، فَما أعجَبَتْهُم دعوة صالحٍ، وغضِبوا وقالوا لِخدَمهم: ماذا يقول؟
قالوا: يقول: اعبُدوا اللهَ، ما لكم مِن إلهٍ غيرُه، ويقول: إنّ اللهَ يَبْعَثُكم بعد موتِكم ويجزيكم.
ويقول: أنا رسولُ الله أرسلَني إلى قومِي.
ضَحِك الأغنياء، وقالوا: مسكينٌ! هل يكون هذا رسولًا؟ ما عندَه قصرٌ ولا بُستانٌ، وما له زرعٌ ولا نخيلٌ! فكيف يكون هذا رسولًا؟
(6) دعاية الأغنياء
ورأى الأغنياءُ أنّ بعضَ النّاس يميلون إلى صالح، فخافوا على رِياستِهم وقالوا:﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ﴾ ﴿وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ﴾.
﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ﴾.
﴿هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ﴾.
﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾.
﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ﴾.
(7) قد أخطأ ظّنُّنا
وكفر النّاس بصالح ولم يؤمنوا به.
ولَمّا وعَظَهُم صالح ومنَعَهُم مِن عبادة الأصنام قالوا: يا صالح كنت ولدًا نجيبًا ورشيدًا، وكنّا نظنّ أنّك ستكون مِن كبار النّاس وأشرافهم فلم تَكُن شيئًا، والذين كانوا في سِنِّك، وكانوا دونَك في العقل أصبحوا رِجالًا كبارًا.
وأنت يا صالح أخذتَ سبيل الفقر؛ قد أخطأ ظنّنا فيك، وخاب رَجاؤنا فيك.
مسكينٌ أبوك، ما نال خيرًا منك.
مسكينةٌ أُمّك، لقد ضاع تعبُها فيك!
سمِع صالحٌ كلّ هذا وتأسَّف على قومه، وإذا مرَّ صالحٌ بقومٍ قالوا: رَحِم اللهُ أبا صالح لقد ضاع ابنُه.
(8) نصيحة صالح
ولم يزل صالحٌ ينصَح قومَه ويدعوهم إلى الله بحكمةٍ ورِفقٍ.
يقول: يا إخواني! أتظنّون أنّكم هنا إلى الأبد؟ أتظنّون أنكم تسكنون في هذه القصور دائمًا؟ أتظنّون أنّكم لا تزالون في هذه البساتين والأنهار؟ وأنّكم لا تزالون تأكلون مِن هذه الزّروع والأشجار؟
وأنّكم لا تزالون تنحتون مِن الجبال بيوتًا؟
أبدًا أبدًا، إّن ذلك لا يكون! فلماذا مات آباؤكم يا إخواني!
كانت لهم قصورٌ، وكانت لهم كذلك بساتين وعيونٌ.
وكانت لهم زروعٌ ونخيلٌ، وكانوا ينحتون مِن الجبال بيوتًا كما تنحِتون.
ولكنّ كلّ ذلك لم ينفعهم! ولكنّ كلّ ذلك لم يمنعْهم!
ووصَل إليهم ملَك الموت ووَجد إليهم سَبيلًا!
كذلك تموتون أنتم أيضًا، ويبعثكم الله ويسألكم عن هذا النّعيم.
(9) ما أسألكم عليه مِن أجر
ويا إخواني لماذا تَفِرُّون مِنِّي؟ ماذا تخافون؟ أنا لا أَنْقُصُ مِن مالِكم شيئًا، أنا لا أطلُب منكم شيئًا.
أنا أنصَح لكم وأبلِّغكم رِسالات ربِّي.
﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
ويا إخواني لماذا لا تُطيعونني وأنا لكم ناصحٌ أمينٌ ؟
ولماذا تطيعون الذين يَظلِمون النّاسَ ويأكلون أموالهم؟ والذين يَفْجُرون ويُفسِدون في الأرض ولا يُصلِحون!
وعجز القوم ولم يجدوا على ذلك جوابًا.
فقالوا:﴿إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾.
(10) ناقة الله
قال صالح: وأيّ آيةٍ تُريدون؟
قالوا: إن كنت صادِقًا فأخرج لنا مِن هذا الجبل ناقةً حامِلًا!
وكان النّاس يعلمون أنّ النّاقةَ لا تلِدها إلّا النّاقة.
وأنّ النّاقةَ لا تنبتُ مِن الأرض ولا تَنْتِجُ مِن الحجَر، وأيقنوا أنّ صالحًا سَيَعْجَز وأنّهم سَيَنْجَحون!
ولكنّ صالحًا كان قوِيَّ الإيمان بِرَبِّه وكان يعلَم أنّ اللهّ على كل شيءٍ قدير.
فدعا صالحٌ ربَّه، وكان كما طلب النّاسُ، خرجَت مِن الجبَل ناقةٌ حامِلٌ ووَلَدَت.
وتحيَّر النّاسُ ودَهِشوا، ولكن لم يؤمن منهم إلّا واحدٌ.
(11) النّوبة
قال صالحٌ: هذه ناقَة الله، وهذه آية الله! سألتُم فخلَقَها لكم بِقُدرتِه.
فاحتَرِموا النّاقةَ ﴿وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ﴾.
وإنّ هذه النّاقةَ تأكل في أرض الله وتشرب، وتأتي وتذهب، وليس عليكم علَفُها ولا ماؤها، فالعَلَف كثيرٌ، والماءُ كذلك.
وكانت هذا النّاقةُ كبيرةً جدًّا وغريبةً في الخلق، فكانت ماشِيَتُهم تخافُها وتَنفِر منها.
فلمّا رأى صالح ذلك قال: للنّاقة يومٌ ولِماشِيَتِكم يومٌ.
وكذلك كان، فإذا كانت نَوْبَة النّاقة ذهبَت فَشَرِبَت، وإذا كانت نَوْبَةُ ماشِية القوم ذَهَبَت فَشَرِبَت.
(12) طغيان ثمود
ولكنّ القومَ استَكْبَروا وطَغَوْا، وقالوا: لماذا لا تشرب ماشِيَتُنا كلَّ يومٍ.
وضَجِر النّاسُ مِن هذه النّاقة التي تَنْفِر منها ماشِيَتُهم، وكان صالح قد حذَّرهم مِن أن يُهِينوا هذه النّاقَة، ولكنَّهم لم يحْذَروا.
وقالوا: مَن يَقْتُل هذه النّاقة؟
قام رَجل وقال: أنا!
وقامَ الآخَر وقال: أنا!
وذَهَب الشَّقِيّان وجلَسا ينتظِران خروجَ النّاقة؛ حتى إذا خَرَجَت النّاقة رَماها الأوّل بِسَهْمٍ، ونحَرَها الثّاني فقتلَها.
(13) العذاب
ولَمّا عَلِم صالحٌ أنّ النّاقةَ قد نُحِرَت تأسَّف وحَزِن جدًّا؛ وقال للنّاس: ﴿تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾.
وكان في المدينة تسعة رِجالٍ يُفسِدون في الأرض ولا يُصلِحون؛ فحلَفوا وقالوا: نَقتُل صالحًا وأهلَه في اللَّيل، وإذا سُئلنا نقول: ما عندنا عِلْمٌ؛ ولكن اللهَ حفِظَ صالحًا وأهلَه.
ولَمّا كان اليوم الثّالث جاءَهم العذاب؛ أصبحوا كعادَتهم فإذا بِصَيْحةٍ مع زلزالٍ تهدَّمَت منه البيوت وكان يومًا على ثمود شديدًا.
ومات النّاس كلّهم وخَرِبَت المدينة.
وهاجر صالح والمؤمنون مِن تلك المدينة الشَّقِيَّة.
وما يصنعون فيها؟
خرج صالحٌ وهو ينظر إلى قومِه وهم أمواتٌ، فقال بِصَوْتٍ حزينٍ:
﴿يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾.
ولا يرى الإنسان اليوم هنالك إلّا قُصورًا خاليةً وبئرًا مُعطَّلَة.
ولا يرى إلّا قُرىً مُوحِشَةً ليس فيها داعٍ ولا مُجيبٌ.
ولَمّا مَرَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على دِيار ثمود في طريقِه إلى الشّام قال لأصحابِه: «لا تَدْخُلوا مَساكِنَ الذينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم إلّا أن تَكُونُوا باكِينَ؛ حَذَرًا مِن أن يُصيبَكُم مِثْلَ ما أصابَهُمْ». [-أخرجَه البخاريّ رقم (3381)، ومسلم رقم (980)].
﴿أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ﴾.
مَن كسر الأصنام ؟
1- بائع الأصنام
كان في قريةٍ قبلَ فترةٍ طويلةٍ جدًّا رجلٌ اسمُه آزَر، وكانت مِهْنَتُه بيع الأصنام، كما كان في هذه القرية بيتٌ يحوِي أصنامًا كثيرةً، وكان النّاس يسجُدون لها ويعبدونها مِن دون الله تعالى، ومِن بينِهم آزَر.
2- ولد آزر
وكان لِآزَرُ ولَدٌ رشيدٌ, اسمه إبراهيم، وكان يَراهُم وهم يَسجُدون للأصنام ويعبدونها، وهو دائمًا ما يُحدِّث نَفْسَه ويقول: إنّ هذه الأصنامَ حِجارةٌ لا تَضرّ ولا تنفَع، ولا تتَكلَّم ولا تسمَع، وإذا جَلَس عليها أحْقَر الحشَرات فهي لا تَدْفَع، وإذا أكلَ الفأر طعامَها فهي لا تمنَع، أفمَن كان هذا حاله أيَسْتَحِقّ أن يُعبَد مِن دون اللهِ يا ترى ؟!
3- مَن رَبِّي
وذاتَ ليلةٍ رأى إبراهيمُ كوكبًا، فقال: هذا ربّي.
ولَمّا غابَ الكوكَبُ، قال إبراهيم: لا! هذا ليس بِربي!
ثمّ رأى القمرَ فقال: هذا ربّي.
ولَمّا غاب القَمَر بِدَورِه، قال: لا ! هذا ليس بِربي !
وطَلَعَت الشَّمْس، فقال إبراهيم: ﴿هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ﴾.
ولَمّا غابَت الشَّمسُ في اللَّيْل قال إبراهيم: لا ! هذا ليس بِرَبّي.
إنَّ اللهَ حَيٌّ لا يموت.
إنَّ اللهَ باقٍ لا يَغِيب.
إنَّ اللهَ قويٌّ لا يَغْلِبه شيءٌ.
والكوكب ضَعِيفٌ يَغْلِبُه الصُّبح.
والقَمَر ضعيفٌ تَغْلِبُه الشَّمس.
والشّمْس ضعيفةٌ يَغْلِبُها اللَّيل ويَغْلِبها الغَيْم.
ولا ينصُرني الكوكب، ولا القمر، ولا الشّمس؛ لأنّهم كلّهم ضعفاء.
وإنّما يَنْصُرني اللهُ الحيّ الذي لا يموت، والباقي الذي لا يَغِيب، والقويّ الذي لا يُقْهَر.
4- ربِّيَ الله
وعرف إبراهيم أنَّ اللهَ ربّه، وأنّه ربّ الكوكب والقمر والشّمس وأنّه ربّ العالمين.
وهدى اللهُ إبراهيمَ، وجعلَه نَبِيًّا وخليلًا، وأمَره أن يدعو قومَه إلى عبادة اللهِ وحدَه، وتركِ عبادَة مَن سِواه.
5- نصيحة إبراهيم
وها هو إبراهِيمُ يتعاهَد والِدَه بالنّصِيحَة، ويطرَح عليه الأسئِلَة بأدبٍ وحُسْنِ خُلُقٍ لعلّه أن يرجِع ويتوبَ، فيقول له:
يا أبَتي، لماذا تعبُد هذه الأصنام، وتسجُد لها، وتسألها مِن دون الله تعالى، وهي حِجارةٌ لا تضرّ ولا تنفَع، ولا تتكلَّم ولا تسمَع؟
إلّا أنّه لا يجِد مِن والدِه إلّا الغَضَب وعَدَم الفَهْم؛ بل والتّهْدِيد بالهَجْر والرَّجْم.
ثم تراه مرَّة أخرى ينصَح لِقومِه لعلّ أن يجد فيهم رجُلًا رشيدًا يفهَم ما يقول، فلمّا رأى أنّهم لا يفهمون لجأ إلى طريقةٍ قد تكون أسرع في فَهْمِهم وإفاقتهم من غَفْلَتِهم، وهي أن يتولَّى كَسْرَ هذِه الأصْنام بِنَفسِه.
6- إبراهيم يكسر الأصنام
وجاء يوم عيدٍ فَفَرِح النَّاس، وخرجوا صِغارًا وكبارًا، نساءً ورِجالًا للاحتفال به، واعتذَر إبراهيم عن الخروج بقوله لأبيه: إنّي سَقِيمٌ، أي: ضَعِيفٌ؛ لأجل استِغلال تلك الفُرصَة في تحطيم الأصنام وكسرِها، وكذلك كان، حيث جاء عندها وسألها قائلًا: ألا تتكلَّمون؟، ألا تسمَعون؟، ألا تأكلون؟، ألا تشربون؟﴿مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ﴾.
حينَئِذٍ غَضِب إبراهيمُ وأخَذَ الفَأس وحَطَّم به الأصنام.
وتَرَك الصَّنَم الأكبَر، وعلَّق الفَأْس في عُنُقه ﴿لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾.
7- مَن فعل هذا؟
ولَمّا رجَع النّاسُ ودَخَلوا في بيتِ الأصنام؛ لِيَسْجدوا لها كما هي عادتهم، وخاصَّةً أنّ اليومَ يومُ عيدٍ تعجّبوا ودهشوا، وتأسّفوا وغضبوا قائلين:﴿مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا﴾.
﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾.
﴿قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ﴾.
﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾.
هنا رَجَع النّاسُ إلى إعْمال عُقولهِم التي عطّلها الشّرك والضَّلال، واتّباع دين الآباء والأجداد، وعرَفوا أنّ الأصنام حجارة، وأنّ الحجارةَ لا تسْمَع ولا تتَكلَّم، وهكذا الحال بالنِّسبة لصَنَمِهِم الأكبَر؛ فهو حجَرٌ كسائِر الحِجارة التي نحتوها بأيديهِم، وهنا رجعوا بالسّؤال على إبراهيم قائلين:
أنت تعلَم أنّ الأصنامَ لا تنطق.
فقال إبراهيم حينئذٍ: فكيف تعبُدون ما لا يضر ولا ينفع؟.
وكيف تسألون الأصنام وهي لا تنطق ولا تسمَع؟
ألا تفهمون شيئًا، أفلا تعقلون؟.
هنا سَكَت النَّاسُ وخَجِلُوا !
8- نارٌ باردة
اجتَمَع النَّاسُ وقالوا: ماذا نَفْعَل؟
إنَّ إبراهيم كسَر الأصنام وأهان الآلهة!
وسأل النَّاس: ما عِقاب إبراهيم؟ وما جزاؤه؟
فكان جواب النّاس: ﴿حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ﴾.
وهكذا كان: أوْقَدوا نارًا وألْقَوْا فيها إبراهيم.
ولكنّ اللهَ نَصَر خَلِيلَه، وقال للنّار: ﴿كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾.
وهكذا كان، كانت النَّار بردًا وسَلامًا على إبراهيم، ورأى النّاسُ أنّ النّار لا تَضُرّ إبراهيم، وأنّه سالمٌ مسرور، فتحيَّروا عند ذلك ودهشوا.
9- دعوة إبراهيم
ودعا إبراهيمُ قومَه إلى اللهِ، ومنَعَهم مِن عبادة الأصنام.
فقال لقومِه: ما تعبدون؟
﴿قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾.
قال إبراهيم:﴿هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ﴾.
﴿أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ﴾.
﴿قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾.
قال إبراهيم: فأنا لا أعبُد هذه الأصنام؛ بل أنا عدوٌّ لها.
أنا أعبد ربَّ العالمين.
﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾. ﴿وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ﴾. ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾.
﴿وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾.
وإنَّ الأصنام لا تخلق ولا تهدي.
وإنها لا تطعم أحدًا ولا تسْقِي.
وإذا مَرِض أحدٌ فهي لا تَشْفِي.
وإنها لا تميت أحدًا ولا تحيي.
10- أمام الملك
كان في المدينة مَلِكٌ له سلطانٌ كبير، وكان ظالمًا جدًّا.
وكان النَّاس يسجدون له.
ولَمّا سمع الملك أنّ إبراهيم يسجد لله، ولا يسجد لأحَدٍ غَضِب لذلك وطلَب إبراهيم.
وجاء إبراهيم الذي لا يخاف أحدًا إلّا الله.
فلَمّا وقف أمامه سأله الملِك: مَن ربّك يا إبراهيم ؟
قال إبراهيم: ربِّيَ الله !
قال الملك: مَن الله يا إبراهيم؟
قال إبراهيم: ﴿الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ قال الملك: ﴿أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾
ودعا الملكُ رجلًا وقتَله.
ودعا رجلًا آخَر وتركَه.
وقال: أنا أُحيي وأُمِيت، قتلْتُ رجلًا، وتركت رجلًا.
وكان الملِك بَلِيدًا جدًا، وكذلك كلّ مُشرِك.
وأراد إبراهيم أن يَفْهَم الملِك، ويَفْهَم قومُه.
فقال إبراهيم:﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾
فتَحَيَّر الملِك وسَكَتَ، وما وجد جوابًا.
11- دعوة الوالد
وأراد إبراهيم أن يدعو والِده أيضًا، فقال له:﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ﴾.
ولِمَ تعبُد ما لا يَنْفَع ولا يَضُرّ.
﴿يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾ أي: لا تُطِعْهُ في عِبادَتك هذه الأصنامَ، فإنّه هو الدّاعِي إلى ذلك، والرَّاضي به.
يا أبَت اعبُد الرَّحمن !
عند ذلك غَضِب والِد إبراهيم، وقال: ﴿أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ يعني: إن كنتَ لا تريد عِبادَتَها ولا ترْضاها، فانْتَهِ عن سَبِّها وشَتْمِها وعَيْبِها، فإنّك إن لم تَنْتَهِ عن ذلك اقْتَصَصْتُ منك وشَتَمْتُك وسَبَبْتُكَ، وهو قوله: ﴿لأرْجُمَنَّكَ﴾.
و﴿وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾: أي: زَمانًا طَوِيلًا قبل أن تُصِيبَك منِّي عُقوبةٌ.
وكان إبراهيمُ حَلِيمًا, فقال لوالده: ﴿سَلامٌ عَلَيْكَ﴾.
أمَّا أنا فلا يَنالُك منِّي يا أبت أيّ مَكْروهِ ولا أذًى، وذلك لِحُرْمَة الأُبُوّة.
ثم قال: و﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ أي: ولكِن سَأسألُ الله تعالى فيك أن يَهْدِيَكَ ويَغْفِرَ ذَنْبَكَ، ﴿إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ لَطِيفًا، قد عَوّدَني الإجابَةَ. وتأسَّف إبراهيمُ جدًّا، وأراد أن يذهَبَ إلى بلدٍ آخر، ويعبُدَ ربَّه, ويدعُوَ النّاسَ إلى اللهِ.
12- إلى مكَّة
بعد دعوة إبراهيم لوالِده وقومه، وإقامتِه الحُجَّة على الملك، ها هو ذا يَعْزِم على السَّفر لبلدٍ يستَطيع فيه أن يعبُدَ اللهَ تعالى ويدعوَ النّاس لِعِبادَتِه.
وقصَد إبراهيم مكَّة ومعه زوجُه هاجر.
وكانت مكّة ليس فيها عشب ولا شجر، ولا بئر ولا نهر؛ بل وليس فيها حيوان ولا بَشَر.
ووصَل إبراهيم إلى مكَّة ونزل فيها.
وترك إبراهيم زوجَه هاجر وولدَه إسماعيل، ولما أراد أن يذهب قالت زوجُه هاجَر: إلى أين يا إبراهيم؟ أتتركُني هنا ؟
أتتركني وليس هنا ماء ولا طعام!
هل أمرك اللهُ بهذا ؟
قال إبراهيم: نعم !
قالت هاجر: إذا لا يُضِيّعَنا!
13- بئر زمزم
وعَطِش إسماعيل مرَّةً، وأرادت أمّه أن تسقيه ماءً ولكن أين الماء؟ ومكَّة ليس فيها بئر ولا نهر!
وكانت هاجر تطلب الماء وتجري مِن الصّفا إلى المروة، ومِن المروة إلى الصّفا.
ونصَر اللهُ هاجر وابنَها إسماعيل؛ فخَلَق لهما ماءً.
وخَرج الماءُ مِن الأرض وشرب إسماعيل وشربت هاجر، وبقي الماءُ فكان بئر زمزم، فبارك الله في زمزم وهذه هي البئر التي يشرَب منها النّاس في الحجّ، ويأتون بماء زمزم إلى بلدهم.
هل شرِبت ماءَ زمزم؟
14- رؤيا إبراهيم
وعاد إبراهيم إلى مكَّة بعد مُدَّةٍ.
ولَقِي زوجَه هاجر، وابنَه إسماعيل, وكم كانت فرحة إبراهيم بابنه الصّغير؛ فقد كان يحبّه كثيرًا.
وذات ليلةٍ رأى إبراهيم في المنام أنّه يذبح إسماعيل, وكان إبراهيم نبيًّا صادِقًا, ولَمّا كانت رؤيا الأنبياء حقّ؛ أراد إبراهيم أن يفعل ما أمرَه الله في المنام.
وقال إبراهيم لإسماعيل:
﴿إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾.
﴿قال يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾.
وأخذ إبراهيمُ إسماعيلَ معه وأخذ سَكّينًا، ولَمّا بلَغ مِنى, وأراد أن يذبَحه اضطَجَعَ إسماعيل على الأرض, ووضَع إبراهيمُ السِّكِّينَ على حُلقوم ابنه؛ كلّ ذلك لأجل اختباره، وهل يحبّ اللهَ أكثَر أو يحبّ ابنَه أكثر.
ونجَح إبراهيمُ في الامتحان.
فأرسل اللهُ جبريلَ بكبشٍ مِن الجنّة وقال: اذبَح هذا، ولا تذبح إسماعيل.
وأحبّ اللهُ عملَ إبراهيم, فأمر المسلمين بالذّبح في عيد الأضحى.
فسلام على إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل.
15- الكعبة
وذهَب إبراهيم وعاد بعد ذلك, وأراد أن يبني بيتًا لله, وكانت البيوت كثيرة، وما كان بيتٌ لله يعبدون فيه الله.
وأراد إسماعيل أن يبني بيتًا لله مع والِده.
ونقل إبراهيم وإسماعيل الحجارة مِن الجبال.
وكان إبراهيم وابنه إسماعيل يبنيان الكعبة بيديهما.
وكان إبراهيم يذكر اللهَ ويدعو:
﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
وتقبَّل الله من إبراهيم وإسماعيل، وبارك في الكعبة.
فنحن نتَوجَّه إلى الكعبة في كلّ صلاةٍ.
ويقصِدها المسلمون في أيّام الحجّ؛ لأجل الطّواف بها، والصّلاة عندها.
16- بيت المقدس
وكان لإبراهيم زوج أخرى، اسمها سارَة.
وكان لإبراهيم ولد آخر مِن سارة اسمه إسحاق.
وسكن إبراهيم في الشّام ومعه ابنه إسحاق.
وبنى إسحاق بيتًا لله في الشّام, كما بنى أبوه وأخوه بيتًا لله في مكَّة.
وهذا المسجد الذي بناه إسحاق في الشّام هو بيت المقدس.
وهو المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله, وبارك الله في أولاد إسحاق كما بارك في أولاد إسماعيل, وكان فيهم أنبياء وملوك.
وكان لإسحاق ولد اسمه يعقوب، وكان نبيًّا.
وكان يعقوب له اثنا عشر ولدًا, ومنهم يوسف بن يعقوب.
ويوسف له قصَّة عجيبة في القرآن. وإليك القصَّة!
أحسَن القَصَص
1- رؤيا عجيبة
كان يوسف ولدًا صغيرًا, وكان له أحد عَشَر أخًا, وكان يوسُف غُلامًا جميلًا، ذكيًّا, وكان أبوه يعقوب يحبّه أكثر مِن جميع إخوته.
وذات ليلة رأى يوسف رُؤيا عجيبةً.
رأى أحَدَ عَشَر كوكبًا، ورأى الشَّمس والقمر كلّ يسجد له.
تعجَّب يوسف الصّغير كثيرًا ! وما فَهِم هذه الرّؤيا كيف تسجد الكواكب والشّمس والقمر لِرَجُلٍ؟ ذهَب يوسف الصّغير إلى أبيه يعقوب وحكى له هذه الرّؤيا العجيبة.
قال: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾.
وكان أبوه يعقوب نبيًّا.
فَرِح يعقوب بهذه الرّؤيا كثيرًا.
وقال: بارك الله لك يا يوسف, فسيكون لك شأن.
هذه الرّؤيا بشارة بعلمٍ ونُبُوَّةٍ.
وقد أنعمَ اللهُ على جدِّك إسحاق، وقد أنعم الله على جدِّك إبراهيم.
وإنّه يُنْعِم عليك ويُنْعِم على آل يعقوب.
وكان يعقوب شيخًا كبيرًا, وكان يَعْرِف طَبائع النّاس, وكيف يَغْلِب الشَّيطانُ, وكيف يَلْعَبُ الشَّيْطان بالإنسان.
فقال: يا ولدي, لا تخبِر بهذه الرّؤيا أحدًا مِن إخوَتِك، فإنهم يحسُدونَك ويكونون لك عَدُوًّا.
2- حَسَد الإخوة
وكان يوسف له أخٌ آخَر مِن أمّه اسمه بِنْيامِين.
وكان يعقوب يحبّهما حبًّا شديدًا, وكان لا يحبّ مثلهما أحدًا.
وكان الإخوة يحسدون يوسف وبنيامين ويغضبون، كانوا يقولون: لماذا يحبّ أبونا يوسف وبنيامين أكثر؟.
ولماذا يحبّهما وهما صغيران وضعيفان؟.
لماذا لا يحبّنا مثلهما، فنَحن شبّان أقوياء, هذا أمر عجيب.
ولَمّا كان يوسف صغير السِّنّ فقد حكى الرّؤيا لإخوته، وغضب الإخوة جدًّا لمّا سمعوا الرّؤيا واشتَدَّ حسَدُهم.
واجتمع الإخوة يومًا وقالوا: اقتُلوا يوسفَ أو اطْرَحوه أرضًا بعيدةً.
حينئذ يكون أبوكم لكم خالصًا, ويكون حبّه لكم وحدَكم.
قال أحدهم: لا بل ألقوه في بئر في طريق يأخذه بعض المسافرين.
وهذا ما وافَق عليه جميع الإخوة.
3- وفد إلى يعقوب
ولَمّا اتّفقوا على هذا الرأي جاؤوا إلى يعقوب.
وكان يعقوب يخاف على يوسف كثيرًا, ويعرف أنّ الإخوة يحسدونه ولا يحبّونه، ولهذا كان لا يرسله معهم؛ بل كان يلعب مع أخِيه ولا يذهب بعيدًا.
وإلّا أنّ الإخوة كانوا يعرفون ذلك, ولكنّهم عزموا على الشَّرّ.
وقالوا: يا أبانا لماذا لا ترسل معنا يوسف؟
ماذا تخاف؟.
هو أخونا العزيز, وأخونا الصَّغير, ونحن أبناء أب, والإخوة دائمًا يلعبون جميعًا, فلماذا لا نذهب نحن ونلعب جميعًا؟
﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾.
وكان يعقوب شيخًا كبيرًا, وكان عاقلًا حليمًا, ولشدَّة خوفه على يوسف قال لأبنائه:﴿أَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾.
قالوا: أبدًا! كيف يأكله الذِّئب ونحن حاضِرون؟
وكيف يأكله, ونحن شُبّان أقوياء؟
وأذِن يعقوب ليوسف.
4- إلى الغابة
وفرح الإخوة كثيرًا لَمّا أذِن يعقوب ليوسف.
وذهبوا إلى الغابَة، وألقوا يوسف في بئر في الغابة، ولم يَرْحموا يوسف الصَّغير, ولم يرحموا يعقوب الشَّيخ الكبير.
وكان يوسف ولدًا صغيرًا، كما كان قلبه صغيرًا.
وكانت البئر عميقة مظلِمًة, وكيف لِمَن كانت هذه حاله أن يتحمَّل هذا الموقف.
وكان يوسف وحيدًا.
ولكنّ اللهَ بَشَّر يوسف وقال له: لا تحزن ولا تخف إنّ اللهَ معك, وسيكون لك شأنٌ.
سيحضر إليك الإخوة وتخبرهم بما فعلوه.
ولَمّا فَرغوا مِن شأنهم، وألقوا يوسف في البئر اجتَمَعوا وقالوا:
ماذا نقول لأبينا ؟
قال بعضهم: كان أبونا يقول: أخاف أن يأكله الذِّئب، فنقول له: صدَقْتَ يا أبانا، قد أكله الذِّئب.
ووافق الإخوة على ذلك.
عنده قال بعض الإخوان: ولكن ما آية ذلك؟
قالوا: آية ذلك الدَّم.
وأخذ الإخوة كبشًا وذبحوه.
وأخذوا قميص يوسف وصبَغوه.
وفرح الإخوة جدًّا، وقالوا: الآن يُصدِّقنا أبونا.
5- أمام يعقوب
﴿وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ﴾.
﴿قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ﴾. ﴿وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾.
وكان أبوهم يعقوب نبيًّا, وكان أعْقَل مِن أولاده؛ إذ إنّه يعرف أنّ الذِّئب إذا أكل إنسانًا جَرَحَه وشَقّ قَمِيصَه.
وكان قميص يوسف سالمًا, وكان مَصبوغًا بالدَّم، عندها عَرَف يعقوبُ أنّه دَمٌ كَذِبٌ, وأنّ قصّة الذِّئب قصّة موضوعة.
فقال لأولاده: بل هذه قصَّة وضعتموها ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ وحَزِن يعقوب على يوسف حُزْنًا شديدًا، ولكنّه صبَر صبرًا جميلًا.
6- يوسف في البئر
ورجع الإخوة إلى البيت, وتركوا يوسف في البئر وأكل الإخوة الطّعام, وناموا على الفراش.
ويوسف في البئر, لا فِراش ولا طعام.
ونسي الإخوان يوسف, وناموا.
وما نام يوسف, وما نَسِيَ أحدًا.
وبقي يعقوب يذكر يوسف, وبقي يوسف -وهو في تلك البئر المظلمة العميقة- يذكر يعقوب.
7- مِن البئر إلى القصر
في تلك الأثناء كانت جماعة تُسافِر في هذه الغابة، فعطشوا في الطَّريق, وبحثوا عن بِئْرٍ.
فلَمّا رأوها, أرسَلوا إليها رجلًا ليأتي لهم بالماء.
جاء الرَّجل إلى البئر, وأدلى دلوَه.
ونزع الدَّلْوَ, فإذا الدَّلْو ثقيلةٌ!
وأخرجها فإذا في الدَّلو غلام! دَهِش الرَّجل ونادى:
﴿يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ﴾.
وفَرِح النّاس جدًّا وأَخْفَوْه.
وعند وُصولهم إلى مصر قاموا في السّوق ونادوا: مَن يشتري هذا الغلام؟ مَن يشتري هذا الغلام؟
اشترى عزيزُ مصرَ يوسفَ بدراهِمَ مَعدودَةٍ.
وباعَه التُّجّار وما عَرفوا يوسف.
وذَهَب به العزيز إلى قَصْره, وقال لامرأته: أكرمِي يوسف, إنّه وَلَدٌ رَشِيدٌ.
8- الوفاء والأمانة
وراوَدَت امرأةُ العزيز يوسفَ على الخيانة.
ولكنّ يوسف أبى, وقال: كلّا!
أنا لا أخون من أحسن إليّ وأكرمني.
إني أخاف الله.
وغضبت امرأة العزيز وشَكَت إلى زوجها.
وعرف العزيز أنّ المرأة كاذبة.
وعرف أنّ يوسف أمِين.
فقال لزوجه: ﴿إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾.
وعُرِف يوسف في مصر بجماله, وإذا رآه أحد قال: ﴿مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾.
واشتَدّ غَضَب المرأة وقالت ليوسف: إذن تَذْهَب إلى السِّجن!
قال يوسف: ﴿السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ﴾.
وبعد أيام رأى العزيز أن يُرْسِل يوسف إلى السِّجْن.
وكان العزيز يَعرِف أنّ يوسف بريء.
ودخل يوسف السِّجْن.
9- موعظة السجن
ودخل يوسف السِّجْن، وعرف أهل السِّجْن جميعًا أنّ يوسف شابٌّ كريمٌ.
وأنّ عنده عِلْمٌ عظيمٌ، وفي صدره قلبٌ رحيمٌ.
وأحبّ أهل السِّجن يوسف وأكرَموه.
ودخل معه السّجن رجلان، وقَصّا عليه رُؤياهما:
﴿قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ ﴿وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ﴾.
وسألا يوسف عن التّأويل.
وكان يوسف عالمًا بتأويل الرُّؤيا، ونَبِيًّا مِن الأنبياء.
وكان الناس في زمانه يعبدون غير الله.
ووضعوا أربابًا كثيرة مِن عند أنفسهم.
وقالوا هذا ربّ البَرِّ, وهذا ربّ البَحْر, وهذا ربّ الرِّزق, وهذا رَبّ المطر.
وكان يوسف يرى كلّ ذلك ويتعجب.
فأراد أن يدعوهم إلى الله، وأراد الله أن يكون ذلك في السِّجن.
ألا يستحِقّ أهل السِّجن الموعظة؟
ألا يستحِقّ أهل السِّجن الرَّحمة؟
أليس أهل السِّجن عِباد الله؟
أليس أهل السِّجن بني آدم؟
كان يوسف في السِّجن، ولكنّه كان حرًّا جَريئًا.
كان يوسف فقيرًا، ولكنه كان جوادًا سخيًّا.
إنّ الأنبياء يجهرون بالحقّ في كلّ مكانٍ.
إنّ الأنبياء يجودون بالخير في كلّ زمانٍ.
10- حكمة يوسف
قال يوسف في نفسه:
إنّ الحاجة ساقت الرّجلين إليّ.
وإنّ صاحب الحاجة يَلِين ويخْضَع، ويُطِيع ويسمَع.
فلو قلت لهما شيئًا لَسَمِعا وسمع أهل السِّجن، ولكنّ يوسف لم يستَعْجِل.
بل قال لهما:
أنا أخبركما بتأويل الرّؤيا قبل أن يأتيكما طعامُكما.
فجلسا واطمَأنّا.
ثم قال لهما يوسف:
أنا عالم بتأويل الرؤيا، ﴿ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾.
فَفَرِحا واطْمَأنّا.
وهنا وجد يوسف الفُرْصَة فبَدأ مَوعِظَته.
11- موعظة التَّوحيد
قال يوسف:﴿ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾.
ولكنّ اللهَ لا يُؤتي عِلْمَه كلّ أحدٍ.
إنّ اللهَ لا يُؤتي علمَه المشرِك.
هل تَعرِفان لماذا علَّمَني ربِّي؟
لأنِّي تركتُ طريقَ أهل الشِّرك.
﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾.
﴿مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾.
قال يوسف:
وهذا التّوحيد ليس لنا فقط؛ بل هو للنّاس جميعًا.
﴿ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾
وهنا وَقَف يوسف وسألهما.
تقولون: ربّ البَرِّ، ورَبّ البحر، ورَبّ الرِّزق، ورَبّ المطر.
ونحن نقول: اللهُ رَبُّ العالمين.
﴿أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾.
أين ربّ البَرّ، وربّ البحر، وربّ الرّزق، ورب المطر؟
﴿أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ﴾
أنظُروا إلى الأرض والسّماء، وانظُروا إلى الإنسان.
﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾
وكيف ربّ البرّ، وربّ البحر، وربّ الرّزق وربّ المطر؟
﴿إِنْ هِيَ إِلّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾.
الحكم لله، الملك لله، الأرض لله، الأمر لله.
﴿لا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾.
﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
12َ- تأويل الرّؤيا
ولَمّا فرَغ يوسف مِن مَوْعَظَتِه أخبَرهما بتأويل الرّؤيا فقال: ﴿أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا﴾.
﴿وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ﴾.
وقال للأوّل: ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾.
وخرج الرَّجُلان, فكان الأوَّل ساقيًا للمَلِك، وصُلِب الآخَر.
ونَسِي السّاقي أن يذكُرَ يوسف عند الملِك.
وأقامَ يوسف في السِّجن سِنِين.
13- رؤيا المَلِك
ورأى مَلِك مصر رؤيا عجيبَة.
رأى في المنام سبع بقرات سِمانٍ.
ويأكل هذه البقرات سبعُ بقراتٍ عِجافٍ.
كما رأى أيضًا سبعَ سنبلاتٍ خُضْرٍ وسَبْعَ سُنْبُلاتٍ يابِساتٍ.
تعجَّب الملِك مِن هذه الرّؤيا الغريبة وسأل جلساءَه عن تأويلها.
قالوا: هذا ليس بشيء، النّائم يرى أشياء كثيرة لا حقيقة لها.
ولكنّ السّاقي عندها تذكَّر يوسف، فقال: لا؛ بل أُخبِركم بتأويل هذه الرّؤيا.
وذهب السّاقي إلى السِّجن وسأل يوسف عن تأويل رؤيا الملِك.
كان يوسف جوادًا كريمًا مُشْفِقًا على خَلْقِ اللهِ فأخبَرَه بالتّأويل، ودَلَّ على التّدبير.
قال: تزرعون سبع سنين، واتركوا ما حَصَدتم في سُنبله إلّا قليلا ممّا تأكلون.
ويكون بعد ذلك قَحْطٌ عامٌّ تأكلون فيه ما خَزَنْتُم إلّا قليلًا.
ويطول هذا القَحْط إلى سبع سنين.
وبعد ذلك يأتي النَّصر ويُخْصِب النّاسُ.
وذهب السّاقي وأخبر الملك بتأويل رؤياه.
14- الملك يُرسِل إلى يوسف
ولَمّا سمع الملِك هذا التَّأويل والتّدبير فرح جدًّا، وقال: مَن صاحب هذا التّأويل والتّدبير؟
قال السّاقي: هذا يوسف الصِّدّيق وهو الذي أخبر أني سأكون ساقيًا لِسيِّدي الملِك.
عندئذٍ اشتاق الملك إلى لقاء يوسف، وأرسل إلى يوسف، قائلًا:﴿ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾.
15- يوسف يسأل التحقيق
ولمّا جاء الرَّسول إلى يوسف وقال له: إنّ الملك يدعوك!
ما رَضِي يوسف أن يخرج مِن السِّجن هكذا؛ لأنّه كان كبير النَّفس أبِيًّا، كَبِير العَقْل ذَكِيًّا.
ذلك أنّ النّاسَ سيقولون: هذا يوسف! هذا كان بالأمس في السِّجن، لأنّه خانَ العَزِيز، وها هو اليوم حُرٌّ طَلِيقٌ!.
لو كان أحَدٌ مَكانَ يوسف لأسرَع إلى باب السِّجن وخَرَج دون أن يأبَه لِكلام النّاس.
ولكن يوسف لم يُسْرِع.
بل قال لرسول الملك: أنا أريد التحقيق، أنا أريد البحث عن قَضِيَّتي.
وسأل الملِك عن يوسف، وعلم الملِك بعدها وعَلِم النّاسُ أنّ يوسف بَرِيءٌ.
وخرَج يوسف بَرِيئًا، وأكرَمَه الملِك.
16- على خَزائن الأرض
وكان يوسف يعلَم أنّ الأمانةَ قليلةٌ في النّاس، وأنّ الخيانَةَ كثيرةٌ فيهم إلّا مَن رحِم اللهُ.
وكان يرى أنّ في الأرض خزائن كثيرة ولكنّها ضائعة، وتحتاج إلى مَن يُؤدِّي واجب الأمانة فيها، وهذا لا يكون إلّا بالرّجل الحفيظ العَلِيم.
ذلك أنّ مَن كان حَفِيظًا وما كان عليمًا لا يعلَم أين خَزائن الأرض، وكيف ينتفع بها.
ومَن كان عليمًا وما كان حفيظًا يأكُل منها ويخون فيها.
وكان يوسف يرى نفسَه مُؤَهَّلًا لِتحمّل الأمانة فقال للمَلِك:﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾.
وهكذا كان يوسف أمينًا لخزائن مصر.
واستراح النّاس جدًّا، وحَمِدوا اللهَ تعالى.
17- جاء إخوة يوسف
وكان في مصر والشّام مجاعَة كما أخبر يوسف.
وسمع أهل الشام وسمع يعقوب أنّ في مصر رجلًا رحيمًا جَوادًا كريمًا، وهو على خَزائن الأرض.
وكان النّاس يذهبون إليه ويأخذون الطَّعام والحبوب، وأرسل يعقوب أبناءَه إلى مصر بالمال؛ ليأتوا بالطعام، وبقي بنيامين عند والده؛ لأنّ يعقوب كان يحبّه جدًّا، ويخاف عليه، ولا يريده أن يَبْعُدَ عنه.
وتوجَّه إخوة يوسف إلى يوسف، وهم لا يعرفون أنّه أخوهم يوسف؛ لظنِّهم أنّه قد مات.
﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾.
كانوا منكرين ليوسف لا يعرفونه، ولكن ما أنكرهم يوسف بل عرفهم، ولم يقل لهم شيئًا، ولم يفضحهم.
18- بين يوسف وإخوته
وكلَّمَهم يوسف وقال لهم:
مِن أين أنتم؟
قالوا: من كنعان!
قال: مَن أبوكم؟
قالوا: يعقوب بن إسحق بن إبراهيم (عليهم الصَّلوات والسلام).
قال: هل لكم أخٌ آخَر؟
قالوا: نعم لنا أخ اسمه بِنْيامِين!
قال: لماذا ما جاء معكم؟
قالوا: لأنّ والدنا لا يتركه، ولا يحبّ أن يبعُد عنه.
قال: لأيّ شيء لا يتركه، هل هو ولد صغير جدًّا؟
قالوا: لا: ولكن كان له أخ اسمه يوسف، ذهب معنا مرَّةً، وذهبنا نَسْتَبِق وتركناه عند متاعنا فأكله الذِّئب.
ضَحِك يوسف في نفسه، ولكن لم يقل شيئًا، واشتاق يوسف إلى أخيه بنيامين.
وأراد الله أن يمتَحِن يعقوب مرَّةً ثانيةً.
فأمر لهم يوسف بالطَّعام.
وقال لهم:﴿ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ﴾.
وإلّا فلا طعامَ لكم عندي إذا لم تأتوا به.
وأمر يوسف بمالهم فَوُضِع في مَتاعِهم.
19- بين يعقوب وأبنائِه
ورجعوا إلى أبِيهم وأخبروه بالخبر، وقالوا له: أرسل معنا أخانا، وإلّا لا نجِد خيرًا عند العزيز.
وطلبوا مِن يعقوب بنيامين وقالوا:﴿ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾.
قال يعقوب:﴿هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ﴾.
هل نسيتم قصَّة يوسف، أتحفظون بنيامين كما حفظتم يوسف.
﴿اللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.
ووَجدوا مالهم في متاعهم، فقالوا لأبيهم: إنّ العزيز رجلٌ كريمٌ، قد ردّ مالَنا ولم يأخذ مِنّا ثمنًا.
أرسِل مَعَنا بنيامين نأخذ حَقّه أيضًا.
قال لهم يعقوب: لن أُرسِلَه معكم حتى تُعاهِدوا اللهَ أنّكم ترجعون به إلّا أن تُغْلَبُوا على أمرِكُم.
وعاهدوا الله وقال يعقوب:﴿اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾.
وقال يعقوب لبنيه:﴿وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ﴾؛ خَشيَةً عليهمُ العَيْنَ، وذلك أنّهم كانوا ذَوِي جَمالٍ وهَيْئَةٍ حَسَنَةٍ، ومَنْظَرٍ وبَهاءٍ، فخَشِيَ عليهم أن يُصِيبَهُمُ النَّاسُ بِعُيونِهِم؛ فإنّ العَيْنَ حَقٌّ، تَسْتَنْزِلُ الفارِسَ عن فَرَسِه.
20- بنيامين عند يوسف
ودخل الإخوة مِن أبوابٍ مُتَفَرِّقةٍ كما أمرهم أبوهم، ووصلوا إلى يوسف.
ولَمّا رأى يوسف بنيامين فَرِح جدًّا وأنزله في بيته، وقال له:﴿إِنِّي أَنَا أَخُوكَ﴾ فلمّا علم بذلك اطْمَأَنّ وفرِح.
وبداعي الشَّوق والمحبّة أراد يوسف أن يُبقِي عنده أخاه، يراه كلَّ يومٍ ويُكلِّمُه ويسألُه عن بيته، ففكَّر في طريقةٍ تُحقِّق له مُبْتَغاه وتُبقِي معه أخاه حتى لا يقول النّاس: قد حبس العزيز عنده كنعانيًّا بغير سبب، إنّ هذا لظلمٌ عظيمٌ.
فما كان مِن يوسف إلّا أن وضَع إناءَه الثَّمين الذي يشرب فيه في متاع بنيامين، وأذَّن مُؤذِّن: إنّكم لَسارِقون.
والتَفَت الإخوة، وقالوا ماذا تَفْقِدون؟
قالوا: نَفْقِد صُواع (إناء) الملك، ولِمَن جاء به حِمْل بعيرٍ.
﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ﴾ ﴿قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ﴾ ﴿قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾.
وخَرَج الإناء مِن مَتاع بنيامين فخَجِل الإخوةُ ولكن قالوا مِن غير خَجَلٍ:
إن يَسْرِق (بنيامين) فقد سَرَق أخٌ له (يوسف) مِن قبل، وسَمِع يوسف هذا البهتان فَسَكَت، ولم يَغْضَب لِكرمِه وحِلْمِه.
﴿قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ﴾.
وهكذا بقي بنيامين عند يوسف، وفرح الأخَوان جميعًا.
21- إلى يعقوب
وتحيَّر الإخوة كيف يرجعون إلى أبيهم، وماذا يقولون له؟!
إنّهم فجَعوه أَمْسِ في يوسف، أَفَيَفْجَعونَه اليوم في بنيامين!
أمّا كبيرهم فأبى أن يرجع إلى يعقوب وقال لإخوته:
﴿ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ﴾.
ولما سمع يعقوب القصّة عَلِم أنّ لله يدًا في ذلك، وأنّ اللهَ ممتَحِنُه.
أمسِ فُجِع في يوسف واليوم يُفْجَع في بنيامين إنّ الله لا يجمع عليه مُصِيبتين، إنّ اللهَ لا يفجَعُه في ابنَيْن.
إنّ لله في ذلك يدًا خَفِيَّة.
إنّ لله في ذلك حِكمَةً مخْفِيَّة.
إنّ الله لم يزل يمتَحِن عبادَه ثم يَسُرُّهُم ويُنْعِم عليهم.
ثم إنّ الابن الكبير بقي في مصر أيضًا وأبى أن يرجع إلى كنعان.
أفَيُفْجَع في الثّالث أيضًا وقد فُجِع مِن قبل في اثنين.
إنّ هذا لا يكون.
وهنا اطمَأنّ يعقوب وقال:
﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
22- يظهر السِّر
ولكنّ يعقوب كان بشرًا في صدره قلب بشر لا قِطعة مِن حَجَر.
فذكر يوسف وتجدَّد حزنه وقال:﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾.
ولامه أبناؤه وقالوا: إنّك لا تزال تذكر يوسف حتى تهْلِك.
قال يعقوب:﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.
وكان يعقوب يعلَم أنّ اليأس كُفْرٌ، لذا كان له رَجاءٌ كبير في الله، فأرسَل أبناءَه إلى مصر؛ ليَبْحَثوا عن يوسف وبنيامين ويجتهدوا في ذلك، وألّا يقنَطوا مِن رحمة الله.
دخل الإخوةُ على يوسف وشَكَوا إليه فقرهم ومصيبتهم وسألوه الفضل.
وهنا هاج الحزن والحبّ في يوسف ولم يملِك نفسه.
أبناءُ أبي وأبناء الأنبياء يَشْكُون فقرَهُم ومُصيبَتَهم إلى مَلِك مِن الملوك.
إلى متى أُخْفِي الأمرَ عنهم وإلى متى أرى حالهم، وإلى متى لا أرى أبي ؟
لم يملك يوسف نفسه وقال لهم: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ﴾.
وكان الإخوة يعلمون أنّ هذا السِّرّ لا يعلمه إلّا يوسف وهم.
فَعَلِموا أنّه يوسف.
سبحان الله! هل يوسف حيٌّ، أما مات في البئر.
سبحان الله! الذي على خزائن الأرض هو يوسف!
الذي كان يأمر لنا بالطّعام هو يوسف!
قال:﴿أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾.
وما لامَهُم يوسف عن فِعْلَتِهم، بل قال:﴿يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.
23- يوسف يرسل إلى يعقوب
واشتاق يوسف إلى لقاء يعقوب، وكيف لا يشتاق وقد طال الفراق.
ولماذا يصبر الآن وقد ظهر السِّر.
وكيف يطيب له الشّراب والطّعام وأبوه لا يطيب له شراب ولا طعام ولا منام.
وكان يعقوب قد عمي مِن كثرة البكاء والحزن.
فقال يوسف:﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾.
24- يعقوب عند يوسف
ولَمّا سار الرِّجال بِقَمِيص يوسف إلى كنعان، وأحَسّ يعقوب رائحَةَ يوسف قال:﴿إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾.
﴿قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ﴾.
ولكن كان يعقوب صادِقًا، ﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.
﴿قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾.
﴿قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.
ولَمّا وَصَل يعقوب إلى مصر استقبله يوسف، ولا تسأل عن فَرَحِهِما وسُرورِهما.
وكان يومًا مُبارَكً ومشهودًا في مصر.
ورفع يوسف أبويه على العرش، ووَقَعُوا كلّهم سُجَّدًا ليوسف سجود تحية لا سجود عبادة ، وكان هذا جائزا في شريعتهم.
عندها قال يوسف:﴿هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾.
﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾.
وحَمِد يوسفُ اللهَ حمدًا طيّبًا كثيرًا.
وبقي يعقوب وآل يعقوب في مصر زمنًا طويلًا، وبعدها مات يعقوب وزوجته في مصر.
25- حسن العاقبة
ولم يُشْغِل يوسف هذا الملك العظيم عن الله ولم يُغَيِّره؛ بل كان يذكر الله ويعبده ويخافه، ويحكم بحكم الله وينفذ أوامر الله.
وكان لا يحبّ أن يموت موتَ مَلِك ويحشر مع الملوك؛ بل كان يحبّ أن يموت موتَ عَبْدٍ ويحشر مع الصّالحين.
وكان مِن دعائه: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾.
وتوفّاه الله مسلمًا وألحقَه بآبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلَّى الله عليهم وعلى نبيِّنا وسلَّم.
بسم الله الرحمن الرّحيم
(1) مِن كنعان إلى مصر
انتقل يعقوب عليه السَّلام إلى مصر وانتقل معه أولادُه.
انتقلوا إلى مصر؛ لأنّ يوسف بن يعقوب عليهما السَّلام هو سيِّد مصر، يأمر وينهى فيها.
وكان يوسف لا يطيب له طعامٌ ولا شرابٌ حتى يرى أباه وإخوتَه.
وماذا يصنع بالقُصور وأبوه وإخوته في بيتٍ صغيرٍ في كنعان؟!
وجاء يعقوب وأولادُه إلى مصر فاستقبلَهم يوسف وفرِح بهم فرحًا عظيمًا.
وكان يعقوب بعدها كبِيرَ البِلاد، وشيخَ مصرَ، وكان أهلُ مِصْر له كالأبناء.
وهنا طابَت لِيعقوب وأبنائه الإقامةُ في مصر، وصارت لهم وَطَنًا.
2- بعد يوسف
وبعد مدَّةٍ مات يعقوب، فَحَزِن عليه يوسف وأهل مصر.
ودفنوا الشَّيخ في مصر، وكأنّهم فَقَدوا أباهم.
وبعد مدَّة مات يوسف أيضًا، فكان يومًا على أهل مِصْر شديدًا.
ونَسِي النّاس أحزانهم وكأنّهم لم تُصِبْهم مُصيبَةٌ قبل هذا اليوم.
ودفنوا يوسف أيضًا، وعزَّى بعضهم بعضًا، فكانوا في يوسف سواءً.
وكانوا يقولون لإخوة يوسف: لقد فَقَدْنا في دَفين اليوم أخًا شَفيقًا، وسيِّدًا رحيمًا، وملِكًا عادِلًا.
هو الذي أراح العِباد، وأزال الظُّلْم مِن البِلاد.
هو الذي منَع الكبيرَ يَظْلِم الصَّغير،، ومنَع القوِيّ يأكُل الضَّعيف.
هو الذي أغاث المظلوم، وأجارَ الخائِف، وأطعَم الجائع.
هو الذي هدانا إلى الحقّ، ودَعانا إلى الله، وكنّا قبل قُدومِه بهائِمَ لا نَعرِف اللهَ، ولا نَعْرِف الآخِرة.
هو الذي أغاثنا أيّام المجاعة، فكنّا نأكل ونشْبَع، والنّاس يموتون في البلاد الأخرى.
إنّنا لا ننسى مَلِكنا الكريم أبدًا، ولا ننسى أيّها الكِرام أنّكم إخوتُه وأهلُ بيتِه.
فالبلاد بلادُكم، وإنّا لكم كما كنّا في حياة ملِكِنا.
3- بنو إسرائيل في مصر
وهكذا كان مدَّةً طويلةً!
فقد حفِظ أهل مصر ما قالوا، وعرفوا لِلكَنْعانيِّين الفَضْلَ.
وكان هؤلاء الكنعانيُّون الذين كانوا يُدعَون " بني إسرائيل " أصحابَ شَرَفٍ وأموالٍ.
إلّا أنّ الأحوال تغيَّرت بعد ذلك؛ إذ فسَدت أخلاقُهم، وتركوا الدَّعوةَ إلى الله، وأقبلوا على الدُّنيا يجمَعونها.
وتغيَّر لهم النّاس أيضًا، وصاروا يَنْظرون إليهم بغير ما كانوا ينظرون إلى آبائِهم، حيث صاروا كسائر النّاس، لا يمتازون عن النّاس إلّا بالنَّسَب؛ بل إنّهم تنكَّروا لهم واعتبروهم كالغرباء الذين جاؤوا مِن بَلدٍ آخر، حتّى وصل الأمر ببعض أهل مصر أنّ يوسف كان غريبًا جاء مِن كنعان، واشتراه عزيز مصر، وليس للكنعانيّ أن يحكُمَ مصرَ.
ونسيَ كثيرٌ من النّاس فضلَ يوسفَ وكرَمِه وإحسانِه.
4- فرعون مصر
وجاء على عرش مصرَ فراعِنةٌ " ملوك مصر " يُبغِضون بني إسرائيل بُغْضًا شديدًا.
وكان على عَرْش مصر جبّارٌ عنيدٌ، وكان لا يرى أنّ بني إسرائيل مِن أولاد الأنبياء، وأنّهم مِن بيت يوسفَ مَلِك مصرَ الكريم.
بل كان لا يرى أنّهم بَشَرٌ يستَحِقّون الرَّحمَة والإنصاف.
وكان يرى أنّ قومَه" القِبْط " مِن نوعٍ، وأنّ بني إسرائيل مِن نوعٍ آخر؛ القِبْط مِن نوع الملوك خُلِقوا لِيَحكُموا، وبنو إسرائيل مِن نوعِ العبيد خُلِقوا لِيخدموا.
وكان مَغرورًا بملكِه وقصورِه وقُوَّته ويقول:﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾؛ بل وصل به الأمر إلى أن كفر بالله وقال في كِبْرٍ:﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى﴾.
وكأنّه كان خليفةً لِنَمرود ملِكِ بابِلَ.
ودعا النّاسَ إلى عِبادَتِه والسُّجود له، وأطاعَه النّاس.
وامتنع بنو إسرائيل؛ لأنّهم يؤمنون بالله ويؤمنون بِرُسُله، عند ذلك اشتَدَّ غَضَب فرعونَ عليهم.
5- ذبح الأطفال
وذهب كاهِنٌ قِبْطِيٌّ إلى فرعون وقال له:" يُولَد مَولودٌ في بني إسرائيل يَذْهَب مُلكُكَ على يدِه ".
وهنا جُنّ جنون فرعون، وأمر الشُّرطَة أن يذبحوا كلّ مولودٍ يُولَد في بني إسرائيل، فما تأخروا لحظة في تنفيذ أمره، وراحوا يذبحون كلّ مولودٍ كما تُذبَح النّعجة.
وذُبِح عدد كبير من الأطفال أمام آبائهم وأمّهاتهم.
وكان اليوم الذي يُولَد فيه مولودٌ في بني إسرائيل يومَ تعزِيةٍ ورِثاءٍ، ويوم نوحٍ وبُكاءٍ.
﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾.
6- ولادة موسى
وأراد اللهُ أن يقَع ما كان فرعون يخافُه ويحذَره.
وُلِد ذلك المولود الذي قَدَّر الله أن يذهَب مُلك فرعون على يدِه، ويكون خلاص بني إسرائيل على يده.
وُلِد ذلك المولود الذي قَدَّر الله أن يُخرِج النّاسَ مِن عبادة النّاس إلى عبادة الله، ويُخرِجَ النّاسَ مِن الظّلمات إلى النّور.
وُلِد موسى بن عِمران على رَغْمِ فرعون وجنودِه.
وعاش موسى ثلاثة أشهرٍ على رغم الشُّرطة ورَقابَتِهم.
7- في النِّيل
ولكن خافت أمّ موسى على مَوْلودِها الجمِيل وكيف لا تخاف وعدُوّ الأطفال بِمرصادٍ؟
وكيف لا تخاف وقد اختطفت الشُّرطة عشرات مِن الأطفال مِن حِجْر الأمّهات في أسرتها.
ماذا تصنع الأمّ المسكينة، وأين تُخفِي مولودها، والشُّرطةُ لهم عيونُ الغُراب وشامَّة النَّمل.
هنالك أغاث اللهُ الأمَّ المسكينة وألهمَها أن تضَعَه في صندوقٍ وتُلقِيه في النِّيل.
الله أكبر! كيف تضَع الأمّ الحنون طِفلَها في صندوقٍ وتُلقِيه في النِّيل؟
مَن يُرضِع الطِّفلَ في الصّندوق؟ وكيف يتنفَّس فيه؟
كلّ ذلك فكَّرت فيه الأمُّ الحنون، ولكنّها توكَّلَت على الله واعتَمَدت على وحي الله.
وليس البيتُ أحفَظَ للطِّفل مِن الصّندوق!
وفعلت الأمّ المسكينة ما أمرها الله، مع ما يَعْتَصِر قلبَها مِن ألم الفِراق، حالها كحال كلّ أمّ تُشفِق على رضِيعها، ومع هذا كلّه كانت صابرة مُتوكِّلَة على الله.
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾.
8- في قصر فرعون
كان فرعون له قصورٌ كثيرةٌ على شاطِئ النِّيل، وكان يتَنَقَّل مِن قَصْرٍ إلى آخر؛ لأجل النّزهة والفُرْجَة، وبينما هو ذات يوم جالسٌ على شاطئ النِّيل، وكانت معه مَلِكَة مصر، إذ وَقَع بَصَرهما على صندوقٍ تلعَب به أمواج النِّيل كأنما تقلبه.
هل ترى يا سيِّدي ذلك الصُّندوق؟
أين الصّندوق في النّيل؟ إنما هي خَشَبَةٌ سَقَطَت في النِّيل.
لا يا سيِّدي إنما هو صندوقٌ!
وقَرُبَ الصَّندوقُ، فقال النّاس: نعم هذا صندوق!
وأمَر الملِك أحَد الخَدَم، وقال: إليك هذا الصُّندوق!
وذهب الخادِم وأخرجه!
ولَمّا فتَحَه إذا فيه غلامٌ جميلٌ يَبْتَسِم.
هنا تحيَّر النّاس، الكُلّ يأخذُه ويَراه؛ بل وتحيَّر فرعون ورآه.
قال بعض الخدَم: إنّ هذا الغلام إسرائيليّ، ولا بُدّ للمَلِك أن يذبحَه.
ورأتْه الملِكَة، ودخل حُبَّه في قلبها فَضَمَّتْه إلى صَدْرِها وقَبَّلَتْه.
وكان هذا الغلام لا يَرَاهُ أحَدٌ إلّا أحَبَّه، قال الله تعالى:﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾.
وشَفَعَت له عند الملك، وقالت:﴿قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾.
وهكذا دخل موسى بن عمران قصر فرعون، وعاش على رغم فرعون وشرطته.
وأراد اللهُ بحكمته أن يربِّي فرعونُ "عَدُوّ الأطفال" طِفْلًا يَذْهَب مُلْكُه على يده.
لقد أخطَأ فرعون في شأن موسى، وقد أخطَأ معه وزيره هامان وجنوده.
﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾.
9- مَن يُرضِع الطفلَ ؟؟
كان الطّفل الجديد الجَمِيل لُعْبَةَ القَصْر ولهوَ الدّار.
كلٌّ يأخذُه ويُقبّله، وكلّ يحبّه ويمدَحُه؛ لأنّ الملِكة تحبّه حبُّا عَظيمًا.
وطلبت الملِكة مُرْضعًا تُرْضِع الطِّفْل، وكلّما جاءت مرضِعة أبى الطّفل الرّضاع منها وأخذ في البكاء.
واجتَهَدت المراضِع أن تُرْضِع الطِّفل؛ لِتُسَرَّ الملِكة، وتَنال منها جائزة، ولكنّ اللهَ حَرَّم عليه المراضِع.
عجبًا! لماذا لا يَرْتَضِع الطّفل، لأيّ شيءٍ يبكي؟
وأصبَح الطّفل حديث القصر، وشُغْل الدّار.
هل رأيتِ يا أختي الطِّفل الجديد؟
نعم رأيتُه، طفلٌ جميلٌ جِدًّا.
ولكنّه طفلٌ غريبٌ ليس كالأطفال! إنّه لا يَرْتَضِع.
وإذا أخَذَتْه مُرضِعٌ يبكي ويأبى أن يَرتَضِع، مِسكين كيف يعيش؟ إنّه يموت.
نعم قد مضى عليه أيّام ولم يرتَضِع.
10- في حِجْر أمّه
وقالت الأمّ الحنون لأخت موسى: إذهبي يا بنتي وانظري أخاك لعلَّه حيّ.
إنّ اللهَ وَعَدني أنّه يردّ الطِّفل إليّ، وأنّه يحْفَظُه.
وذهبت أخت موسى تبحث عن أخيها.
وسمعت النّاسَ يتَحدّثون عن طفلٍ جميلٍ في قصر الملك.
ووَقَفَت تسمَع حديث النّساء في القصر.
هل جاءت المرضع التي طلَبَتْها الملِكة مِن أسوان؟
نعم، ولكنّ الطّفل أبى أيضًا، لم يَرْتَضِع.
يا سلام ! ما شأن هذا الطّفل؟ لعلّ هذه السّادسة التي جرَّبتها الملِكة.
نعم ويقولون: إنها مُرضِعٌ نظيفةٌ جدًّا، وكلّ يرتَضِع منها.
سمعت أخت موسى هذا الكلام وقالت بأدب ولُطْف:
أنا أعرِف امرأةً في البلد، لا بدّ أن يرتَضِع منها الطِّفل.
قالت امرأة: أنا لا أصدّق، قد جَرَّبْنا سِتّ مَراضِع ولكنّ الطّفل لم يرتَضِع.
قالت أخرى: ولماذا لا نجرّب السّابعة، ماذا علينا.
ووَصَل الخبر إلى الملكة، فطَلَبَت الجارية وقالت: إذهَبي وخُذِي مَعَك هذه المرأة.
وجاءَت أمّ موسى، وجاءَت خادِمَة وقدَّمَت إليها موسى.
فاعتنق الطّفل المرأة وأقبَل يرتَضِع، كأنّه كان منها على مِيعادٍ.
ولماذا لا يرتضع وهي أمّه الحنون؟!
ولماذا لا يرتضع وهو جائع منذ ثلاثة أيام؟!
وعَجِبَت الملِكة وعَجِب أهل القصر وارتاب فرعون وقال: لماذا قَبِل الطّفل هذه المرأة فهل هي أمّه؟
قالت أمّ موسى: أنا امرأة طيِّبة الرّيح، طيِّبة اللَّبَن، كلّ طفلٍ يَقْبَلني.
وسكت فرعون وأجرى عليها رِزْقًا.
ورجَعَت أمّ موسى إلى بيتها وفي حِجْرِها موسى.
﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
11- إلى قصر فرعون!
ولَمّا أتـمَّت أمّ موسى رَضاعَته رَدَّته إلى القصر.
ونشأ موسى في قصر الملك كما ينشأ أبناء الملوك.
وهكذا زالَت مِن قلب موسى مَهابة الملوك والأغنياء.
ورأى موسى بعينيه كيف ينْعَم فرعونُ وأهلُه.
وكيف يشقى بنو إسرائيل لِيَنْعَم فرعونُ وأهلُه.
وكيف يجوع بنو إسرائيل لتَشْبَع دَوابّ فرعون.
وكيف يَستَخْدِمونهم ويَسُومونهم سوءَ العَذاب.
وما ذَنْب بني إسرائيل، أَلِأنّهُم ليسوا أقباطًا؟!
أَلأَنّهُم مِن كنعان؟!
هذا ليس بذنبٍ أبدً !
12- الضَّربة القاضية
ولَمّا كان موسى شابًّا قويًّا آتاه الله حُكمًا وعِلْمًا، وكان مِن صفته أنّه يُبغِض الظّالمين ويَكرَهُهم، ويحبّ الضّعفاء والمظلومين وينصُرهم، وكذلك كلّ نبيّ.
ودخل موسى مدينة فرعون مرَّةً والنّاس في لهو وشُغْل.
ووجد فيها رجلين يَقْتَتِلان هذا مِن بني إسرائيل وهذا مِن الأقباط، أعداء بني إسرائيل.
فصَرخ الإسرائيليّ ونادى موسى؛ لِيَنْصُرَه، وشَكَى القِبْطِيَّ.
وغَضِب موسى فضرَب القِبْطِيّ، فكانت القاضِيَة.
مات القِبْطِيّ، ونَدِم موسى جدًّا، وعَرَف أنّ هذا مِن عَمَل الشَّيطان.
فتاب موسى إلى اللهِ وأناب، وكذلك كلّ نبيّ.
﴿هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾.
وتاب اللهُ على موسى؛ لأنّ موسى لم يَقْصِد أن يقتُلَ القِبْطِيّ؛ بل ضربَه، ولكنَها كانت القاضية.
وحَمِد اللهَ موسى وقال: إِنّ اللهَ قَد أنْعَم عَلَيَّ وغَفَر لي،﴿فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ﴾ .
وأصبَح في المدينة خائفًا يَتَرَقَّب ويحذَر متى تجيئه شرطة فرعون، ولهم عيون الغراب وشامَّة النّمل.
ورأى الشّرطة قتيلًا قِبْطِيًّا مِن خَدَم فرعون ففَتَّشوا عن القاتل، ولكنّهم لم يهتدوا إليه.
ومَن يَدُلّـهُم على القاتل ولا يَعْلَمُه إلّا موسى والإسرائيليّ ؟!
وأصبح القتيل حديث البَلَد وشُغْل المدينة، كلّ يَتَحدّث عنه ولا يَعْلَم قاتِلَه.
13- يظهر السِّر
وفي اليوم الثّاني رأى موسى ذلك الإسرائيليّ مرَّةً أخرى في قِتالٍ وخِصامٍ مع قِبْطيّ آخَر.
وما اسْتَحى الإسرائيليّ بل صَرَخ ونادى موسى لِنُصْرَتِه.
قال موسى: إنّك رَجُل وَقِح، ألا تَزال في قتالٍ مع النّاس، ولا تزال تَصْرُخ وتُنادِيني.
ألا أزال أنصُرك وأُساعِدك:﴿إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ﴾ أي: ظاهِرُ الغَوايَةِ كثيرُ الشَّرِّ.
ثم عَزَمَ على البَطْشِ بذلك القِبْطِيِّ تأديبًا له، اعْتَقَدَ الإسْرائِيلِيُّ لخوَرِه وضَعْفِهِ وذِلَّتِهِ أنّ موسى إنَّما يُرِيدُ قَصْدَهُ لَمَّا سَمِعَهُ يقول ذلك.
فلَمّا رأى الإسرائيليّ غَضَب موسى وسَمِع مَلامَه خاف أن يَضرِبَه فتكون القاضِيَة، كما ضَرَب القِبْطِيّ فكانت القاضية.
﴿قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ﴾.
هنالك عرَف القِبْطِيّ أنّ موسى هو قاتل أمس.
وذهَب القِبْطِيّ وأخبر الشُّرطةَ بأنّ موسى هو القاتل.
ووَصَل الخبَرُ إلى فرعون فغَضِب وقال: أذلك الفتى رَبِيب القَصْر ورَضِيع الملِك؟
ولكنّ اللهَ أراد أن ينجو موسى مِن شَرّ فرعون وشُرطَته.
إنّ موسى لم يقصد أن يَقْتُل القِبْطِيّ بل ضَرَبه ضربَة كانت القاضية.
ولكنّ فرعون وشرطته لا يُسَلِّمون ذلك، ولا يَقْبَلون لموسى عُذْرًا.
وفي تلك الأثناء كان رِجال فرعون ووُزَراؤُه يتَشاورون ويَعزِمون على قتل موسى.
وكان رجلٌ يسمَع كلّ ذلك ويَعْرِفه، فَجاء إلى موسى وأخبَره بالخبَر، وقال: ﴿اخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ﴾.
﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ﴾أي: يَتَلَفَّت،﴿قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ أي: مِن فرعون وملئِه.
14- مِن مصر إلى مدين
ولكن إلى أين يذهب موسى، ومِصْرُ كلُّهُ مملَكَةٌ لِفِرعون ؟!
وشُرطة فِرعون بالمرصاد، ولهم عيون الغُراب وشامَّة النَّمل!
ألهَم اللهُ موسى أن يذهبَ إلى مدين البلد العربيّ، حيث لا تَصِل إليه يدُ فرعون.
إنّ مدين باديةٌ وقُرى ليس فيها مدنيَّة مصر.
يا حبَّذا البَداوةُ مع العدل.
ويا شَقاوة المدنيَّة مع العبوديَّة والذُّلّ.
هنالك يُصبِح كلّ أحدٍ لا يخاف سَطْوَة فرعون وقَهْرَه.
﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ﴾ أي: أخذ طريقًا سالكًا واسعا فَرِحَ بذلك،﴿قال عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ أي: إلى الطَّرِيق الأقْوَم.
فَفَعَلَ الله به ذلك، وهداه إلى الصِّراط المُسْتَقِيم في الدُّنيا والآخِرة، فجُعِلَ هاديًا مَهْدِيًّا.
15- في مدين
وصل موسى إلى مديَن، لا يعرِف أحدًا ولا يعرِفه أحدٌ.
فمَن يأوي إليه في اللَّيل؟ وأين يبيت ؟
تحيَّر موسى ولكنّه أيقَن أنّ اللهَ لا يُضِيعُه!
وكان هنالك بِئْرٌ يسقي عليها النّاس غَنَمَهم وماشِيَتَهم.
ووجد امرأتَيْن تَذودان وتُكَفْكِفان غَنَمَهُما أن ترِد مع غنم هؤلاء الرِّعاء؛ لئلّا يُؤْذَيا، وتنتظِران أن يسقِي النّاسُ فَتَسْقِيا.
رأى موسى ذلك وفي قلبه حنان الكريم، وشفقة الأب الرَّحيم.
فقال: لِماذا لا تسقِيان ؟
قالَتا: لا يمكن لنا أن نسقِي غَنَمَنا حتّى يسقِي النّاسُ؛ لأنهم أقوياء، ونحن ضُعفاء، ولأنّهم رجالٌ ونحن إناثٌ.
وكأنّما عرفَتَا أن موسى سيَسألهما: فلماذا لا يسقي أحدٌ مِن رجال بيتِكُنّ؟
فسبَقَتا وقالَتا:﴿وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ أي: فهذا الحالُ المُلْجِئُ لنا إلى ما تَرى.
وهاج في موسى حنان الكريم، وسقى لهما وذَهَبَتا.
وأين يذهب موسى الآن؟
وإلى أين يأوِي في اللّيل وأين يبيت؟!
﴿ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾.
16- الطَّلَب
ووَصَلَت الجارِيتان إلى البيت قبل الميعاد، فتعجَّب أبوهما وسألهما عن السَّبَب.
وقال لهما: ما أعْجَلَكما يا بِنْتَيَّ، وكيف وصلتُما اليوم قبل الميعاد؟
قالتا: قد قدَّر اللهُ لنا رَجُلًا كريمًا سَقى لنا.
تعَجَّب الشَّيخ وعرف أنّه رجلٌ غريبٌ؛ لأنّ أحدًا لم يَرْحمْهُنَّ يومًا.
قال الشّيخ: وأين تركتُما الرّجل؟
قالَتا: تركناه في مَكانه، رجلٌ غريبٌ ليس له مأوى!
قال الشّيخ: ما أحسنتُما يا بِنتيَّ، رجلٌ غريبٌ قد أحسن إلينا وليس له مأوى في البَلَد.
إلى مَن يأوي في اللّيل، وأين يبِيت؟!
إنّ له علينا حقّ الضِّيافة، وإنّ له علينا حقّ الإحسان!
لِتَذهَب إحداكما وتأخذْه معها.
﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾.
وعرف موسى أنّ اللهَ قد أجاب دُعاءَه وبَوَّأ له، فما أبى.
وخرج موسى أمامَها لئَلّا يقع نظرُه عليها، ومشى موسى مَشْي الكِرام.
ولَمّا وصل إلى الشّيخ سأله عن اسمه ووطنِه وخبرِه.
وأخبَر موسى خَبَرَه، وقصَّ عليه قِصَّتَه.
سمِع الشّيخ كلّ ذلك بصبرٍ وهدوءٍ، ولمّا انتهى موسى مِن قصَّته ﴿قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.
17- الزَّواج
وأقام موسى عندهم مقام ضَيفٍ كريمٍ؛ بل حلَّ منهم محلَّ الولَد العزيز.
وقالت البِنْتُ لِوالِدها يومًا في بساطةٍ وطهارة.
﴿يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾.
قال الشّيخ: وما عِلمُكِ بقوّته وأمانته يا بِنتِي؟
قالت: أمّا قوّته فلأنّه رفع الغِطاء عن البِئر وحده، ولا يرفَعُه إلّا جماعَةٌ.
وأمّا أمانَتُه يا أبَتِ؛ فلأنّه مَشى أمامِي لا ينظر إليّ طولَ الطّريق.
ولا بدّ للأجير أن يكون قوِيًا أمِينًا.
فإذا لم يكُن قويًّا ضَعُفَ عن العَمَل.
وإذا لم يكن أمينًا لم تنفَعْه قُوَّتُه مع خِيانَتِه.
ووافَق كلام البِنْت هوًى في قَلْب الشَّيْخ، ولكنّه فَكَّر في المسألة كَوالِدٍ.
وفكَّر في المسألة كشيخٍ عاقلٍ.
قال الشّيخ في نفسه: مَن ذا يكون أحَقَّ مِن هذا الفتى بأن يكون صِهرًا لي.
أمّا في مدين فلم أجد أحدًا أهلًا لذلك!
ولعلّ اللهَ قد ساق إليّ هذا الفتى ليكون لي صِهْرًا ووزِيرًا.
فقال في وَقار وشَفقَةٍ وحِكْمَة:﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ﴾.
وهذا هو صَداقُك، أمّا هذه السَّنوات الثّماني فلا بدّ منها.
﴿فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.
خاف الشّيخ أن يذهب الشّابّ بِبِنتِه ويبقى وحيدًا.
ورأى الشّيخ أن يُجرِّبَ الشّابّ أيضًا حتّى إذا اطمأنّ إليه وَدَّعَه.
وافق موسى على ذلك، ورأى أنّ هذا مِن الله، وأنّ اللهَ سَيُبارِك في ذلك.
إنّ اللهَ قد ساقَه إلى مدين، وأرسلَه إلى الشّيخ، وألقى في قَلْبِه حَنانًا وحُبًّا.
فقال:﴿ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ﴾.
ولكن أراد موسى بحكمته وعقله أن يحفَظ له حقّ الخِيار لعلّه يَسْأم ويَمَلّ فقال:﴿أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾.
18- إلى مصر
﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ﴾ ذلك؛ لأنّه قد اشْتاق إلى بلادِه وأَهْلِه، فعَزَمَ على زِيارتِهِم في خُفْيَةٍ مِن فرعونَ وقومِه، فتَحَمَّلَ بِأهْلِهِ وما كان معه مِن الغنَم التي وَهَبَها له صِهْرُه، فسلَك بِهِم في لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ مُظْلِمَةٍ بارِدَةٍ، فَنَزَلَ مَنْزِلًا فَجَعَلَ كُلَّما أوْرَى زَنْدَهُ لا يُضيء شَيْئًا، فتَعَجَّبَ مِن ذلك، فبَيْنَما هو كذلك، لا نارًا يصْطِلِيان بها، ولا نورًا يهتَدِيان به ؟
﴿إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى﴾.
وسار موسى قِبَل النّار على جَناح الشَّوْق.
﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾.
هنالك كلَّم اللهُ موسى وأوحى إليه. ويا لها مِن كرامةٍ عظيمةٍ؛ إنّها النُّبوَّة.
﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾.
وكان في يدِ موسى عصًا كان يحمِلها ويستعين بها.
فقال اللهُ تعالى:﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾.
وأجاب موسى في بساطةٍ وسذاجَةٍ:﴿هِيَ عَصَايَ﴾.
وأخَذ موسى يَعُدّ فَوائد هذه العَصا في تفصِيلٍ؛ لأنّه أراد أن يُكلِّم اللهَ ويكون حديثُه طويلًا.
﴿أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾.
﴿قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى﴾.
﴿فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى﴾.
﴿قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى﴾.
ومَنَح اللهُ سبحانه موسى آيةً ثانيةً، هي اليَد البيضاء فقال:
﴿وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى﴾.
19- اذهب إلى فرعون إنّه طَغى
وأمر اللهُ موسى بعد ذلك كلِّه أن يشرَع في عمَلِه الذي خلَقَه لأجلِه؛ إنّه الدّعوة إلى توحيد اللهِ تعالى وإفراده بالعِبادَة.
إنّ فرعون وقومَه علوا في الأرض، وأظهروا فيها الفساد.
واللهَ لا يرضى لِعبادِه الكفرَ، ولا يُحبّ الفسادَ في الأرض.
فأراد اللهُ أن يذهب موسى إلى فرعون وقومِه ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾.
لكن كيف يذهب موسى إلى فرعون وكيف يُواجِه الجَبّارَ؟
وهو الذي قتل القِبْطِيّ بالأمس وما أمسِ ببعيد!
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ﴾.
وذكر موسى أنّ في لِسانه صعوبةً التّعبير.
ولكنّ اللهَ كان يعرِف ذلك كلَّه، ويُريد أن يذهب موسى رغم ذلك كلّه.
﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ﴾ ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ﴾.
﴿وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ﴾.
﴿قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ﴾.
﴿فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
﴿أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾.
وأوصى اللهُ موسى وهارون باللِّين والرِّفق مع فرعون.
إنّ اللهَ يُحِبّ الرِّفقَ مع أعدائه إلى حدٍّ فقال:﴿فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾.
20 - أمام فرعون
وجاء موسى وهارون إلى فرعون وقاما في مجلِسه يَدْعُوانِه إلى الله تعالى بكلّ إيمانٍ وثقةٍ.
وغضِب الجبّار مِن جَراءَة موسى، وقال في عُلُوٍّ وكِبْرٍ:
مَن تكون أيُّها الشّابُّ حتّى تقوم في مجلِسي وتعِظُنِي.
أَلَسْتَ ذلك الغُلام الذي التَقَطْناهُ مِن البحر؟!
﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾.
﴿وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾.
ولم يغضَب موسى، ولم يكذِب، ولم يجحَد، ولم يعتَذِر؛ بل أجاب في صَراحةٍ ووَقارٍ ﴿قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ * فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾.
ثم قال له: إنّك يا فرعون تَمُنّ عَلَيَّ بالتّربية ولكنّك لا تَنْظُر لِماذا وقَعْتُ بِيَدِك، وكيف أمْكَنَك أن تُربِّيني ؟.
نعم، إنّك لو لم تأمُر بِقَتْل الأطفال لَما ألقَتْنِي أُمِّي في النِّيل وتعرَّضت للخَطَر، وما وقَعْتُ بِيَدِك.
وهل هذه نِعْمَةٌ تُعَدّ وتُذْكَر في جَنْب ظُلمِك وقَساوَتِك؟
إنّك عامَلْتَ قَومِي كلَّهم مُعامَلَة الحمِير والدّوابّ.
وكنت تسومُهم سُوءَ العَذاب.
فأيّ فَضْلٍ لك إذا كَفَلْتَ طِفلًا منهم؟!
وذلك أيضًا عن جَهْلٍ وخَطإً!
﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أي: وما أحْسَنْتَ إليَّ وربَّيْتني مُقابِلَ ما أسأتَ إلى بنِي إسْرائِيلَ، فجَعَلْتَهُم عَبِيدًا وخَدَمًا، تُصَرِّفُهُم في أعْمالِكَ ومَشاقِّ رَعِيَّتِكَ، أفَيَكفي إِحْسانُك إلى رَجُلٍ واحِدٍ منهم بِما أسأتَ إلى مَجْمُوعِهِم؟
21- الدّعوة إلى الله
لَمّا عَجَز فرعونُ ولم يجِد جوابًا، أراد أن يتخلَّصَ مِن الموقف الذي لا يُحسَد عليه فقال:﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ الذي أسمَعُكَ تذكُره؟
﴿قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾
غضِب فرعون مِن هذا الجواب وأراد أن يغضَبَ أهلُ المجلِسِ ويتعجَّبوا.
فـ: ﴿قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ﴾؟ ولم يقطَع موسى الكلامَ بل ضَرَب فرعون ضَرْبَةً ثانيةً.
﴿قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ واشتَدّ غضبُ فرعون ولم يصبِر وقال:﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾.
ولم يقطع موسى الكلام وضرَبَ فرعون ضربةً ثالثةً.
﴿قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾.
وأراد فرعونُ أن يشْغَل موسى عن هذا الموضوع الـمُرِّ.
فقال:﴿فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأولَى﴾؟!
قال فرعون في نفسه: إذا قال موسى: إنّهم كانوا على الحقّ.
قلت: فإنّهم كانوا يعبدون الأصنامَ!
وإذا قال موسى: إنّهم كانوا على ضلالةٍ وسَفاهةٍ.
غضِبَ أهلُ المجلس وقالوا: إنّ موسى سَبَّ آباءَنا.
ولكنّ موسى كان أعقَلَ مِن فرعونَ وكان موسى على نورٍ مِن ربِّه، فقال:
﴿قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى﴾.
ثمّ أن أنشأ موسى يقول ما كان فرعون يِفِرُّ منه ويتَخلَّص:
﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾.
وتحيَّر فرعون وبُهِتَ، ولم يَدْرِ ما يقول، فقال ما تَقُولُه الملوكُ كلُّهم إذا عَجَزوا وغَضِبوا:
﴿لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾.
22- معجزات موسى
ولَمّا أطلق فرعون سَهْمَه، أراد موسى أن يرمِيَه بِسَهْم الله.
﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ﴾. ﴿قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾.
﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ﴾. ﴿وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾.
ووجد فرعونُ مقالًا يقوله لِجُلَسائه.
﴿قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾.
ووافق أهل المجلس ﴿قَالُوا إنّا هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ﴾.
﴿قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ﴾.
ورَمى الملأُ موسى بِسَهمٍ آخَر فقالوا:
﴿أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ﴾.
وأراد فرعون أن يُخَوِّفَ الـمَلَأ مِن موسى فِعْلَ الملوك، فقال:﴿يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾.
أشار الملأُ على الملِك أن يجمع السَّحرَةَ من مَمْلَكَتِه ويَرمِي بهم موسى.
وهكذا كان: نُودِي في مملكة مصر " ألا مَن كان يَعرِف السِّحرَ فليَحضُر إلى الملِك ".
واجتَمع السَّحرةُ من كلّ ناحيةٍ مِن نواحي المملَكة.
وكان يومُ الزِّينة هو الميعاد.
﴿وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ، لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ﴾.
23- إلى الميدان
وترى الناسَ يخرجُون مِن بيوتهم ضُحًى! ويمشون إلى الميدان أطفالًا وشُبّانًا وشيوخًا ورِجالًا ونساءً أفواجًا.
ولا تسمَع في الـمَطَرِيَّة - قصبة مصر أيّام الفراعنة - إلّا حديث السِّحر وأسماء السَّحرة.
هل جاء ساحرُ أُسوان الأكبر أيضًا؟
نعم وساحر الأُقصُر، وساحر الجيزة الشَّهير!
ماذا ترى يا أخي مَن يغلِب ؟
إنّ مصر قد ألْقَت أفلاذ كَبِدها ترى يغلِبُهم أحدٌ !
وكيف يغلِبُهم موسى وأخوه وأين تَعَلَّما السِّحْر؟
نشأ في قصر الملك ثم خرج مِن مصر خائفًا يترقَّب، وكان في مدين سنين.
فأين تعلَّما السِّحر؟
أفي مصر ؟ لا !
أفي مدين ؟ ما سمِعنا أنّ هنالك فَنًّا!
وجاء بنو إسرائيل وهم بين يأسٍ ورجاءٍ، ولعلَّ اليأسَ أغلبُ، الله ُ يرحَمُ ابنَ عِمران! اللهُ ينصُر بني إسرائيل!
وجاء السَّحرَة، وأقبلوا بِخُيَلائهم وفَخْرِهم، وخرجوا في ملابسَ مُلَوَّنَةٍ يحمِلون العِصِيَّ والحِبالَ، وهم يضحكون ويمرحون، اليوم يومُ الفَنِّ!
اليوم يرى الملك صَنِيعَنا، اليومَ يرى القومُ فَضْلَنا!
﴿فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ﴾.
﴿قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾.
وهذه هي جائزة الملوك وعطاؤهم!
وهذا الذي يُخدَع به الرِّجال! ويُصاد به الأبطال !
وفَرِح السَّحرةُ بمواعيد فرعون.
24 - بين الحقّ والباطل
﴿قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ﴾.
﴿فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ﴾.
ورأى النّاسُ عَجبًا، ودُهِشوا وتَراجَعوا إلى الخلف، وهتَفوا: حيّاتٌ تسعى في الميدان! حيّاتٌ !
وصاحَت النِّساء وبكت الأطفال وعلا الهُتاف في الميدان: حيّاتٌ! حيّاتٌ!
ورأى موسى ما رأى الناسُ وتعجَّب.
﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾.
وخطر في قلب موسى خاطِر الخوف!
ولماذا لا يخاف موسى؟
هذا يوم الرِّهان! وعند الامتحان يُكرَم الرَّجلُ أو يُهان!
وإذا غلب السَّحرةُ - لا قدَّر اللهُ ذلك -، وإذا غُلِب موسى - لا سمح الله بذلك -، فماذا يكون؟ والعِياذ بالله!!
وليس غَلَبُ موسى غَلَبُ رجُلٍ؛ بل هو غَلَبُ دينٍ أمام مَلِكٍ.
بل هو غَلَبُ حقٍّ أمام باطلٍ.
ولكنّ اللهَ شَجَّعَه وقال:﴿لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى﴾.
﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾.
﴿قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ، وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾.
﴿فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾.
﴿فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
ودَهِش السَّحَرة وبُهِتُوا، أيُّ شيءٍ هذا؟ إنّا نعرِف السِّحرَ وأصلَه، وإنّا نعرِف السِّحرَ وأنواعَه.
ونحن أساتذة الفَنّ! ونحن أئمّة السِّحر!
هذا ليس مِن السّحر!
لو كان مِن السّحر لضَرَبْنا السِّحْرَ بالسِّحر، وقَرَعْنا الفَنّ بالفَنّ!
ولكن اضْمَحل فنُّنا أمامَ هذا، وذاب كما يذوبُ النَّدى أمام الشَّمس.
فمِن أين هذا؟ هذا مِن الله!
اقتَنَع السَّحرةُ بأنّ موسى نبيّ، وأنّ اللهَ قد منَحَه مُعجزةً، عند ذلك صَرخوا وهَتَفوا قائلين:
﴿آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى﴾.
﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ *رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾.
25- وعيد فرعون
وجُنّ جنون فرعون!
وقام فرعون وقعَد وبَرَق فرعون ورَعَد.
نعم، فقد وَقع ما لم يكن يرجوه!
إنّه أراد أن يهزم موسى بالسّحرة، فأصبح السَّحرة جُنْدَ موسى.
أراد أن يَصُدّ النّاس عن موسى فَجاء بالسَّحرة، فإذا بهم أوّل المؤمنين!
إنّ سِهامَه ارْتَدَّت عليه، وتدبيرَه صار تدميرًا عليه.
كان فرعون يعتقد أنّه ملِك العقول كما أنّه ملك الأجسام.
وأنّ له سلطانًا على القلوب كما أنّ له سلطانًا على الألسنة.
وليس لأحدٍ في مصر أن يعتَقِد شيئًا، أو يؤمن بشيءٍ إلّا بإذنِه، فقال في كِبْر وجبروت:﴿آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾.
ورماهُم فرعون بِسَهْمٍ مِن سِهام الملوك فقال:﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾!
ورماهم بِسَهْم ثانٍ فقال:﴿إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا﴾ أي: إنّ غَلَبَه لَكُم في يَوْمِكُم هذا إنَّما كان عن تَشاوُرٍ منكم ورِضًا مِنكم لذلك!!
ورماهُم بِسَهْمٍ ثالثٍ مَسمومٍ، هو السَّهْم الأخير في كنانة الملوك: ﴿لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ﴾ يعني: يَقْطَعُ يَدَ الرّجُل اليُمْنَى ورجْله اليُسْرى، أو بالعَكْس.
و﴿لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾.
وتلقَّى المؤمنون السِّهام كلَّها بِـجُنَّة الإيمان والصَّبْر، وقالوا:
﴿لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ﴾.
﴿إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
وقالوا في إيمان وحَماسةٍ:
﴿إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى، إنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى، وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى، جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى﴾.
نعم؛ إنّه الإيمان إذا ظهرَت بَشاشَتُه على الجوارِح، ووَصَلَت أنوارُه إلى سُوَيْداء القلب.
26- سفاهة فرعون
واهتَم فرعونُ بأمْر موسى كثيرًا وطار نومُه، وبقي لا يطيب له طعام ولا شراب.
وأثار غضبه الآخرون أيضًا وقالوا: ﴿أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ﴾.
وغضَب فرعون وثار ثم قال: ﴿سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾.
وأراد فرعون أن يَصُدّ بني إسرائيل وأهلَ مِصْر عن موسى بكلّ حِيلَة ما أمكنه، فَنادى في قومه قائلًا:﴿يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾.
﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ﴾.
ثم قال وهو في كامل السَّكْرَة والزَّهْو:
﴿يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾.
كأنّه فَكَّر، ثم قَدَّر، ثَّم نَصَح لِقَوْمه.
﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾؛ وذلك لأنَّه دَعاهُم إلى الاعْتِراف له بالإلَهِيَّة، فأجابوه إلى ذلك بِقِلَّةِ عقولِهم وسَخافَة أذْهانِهم.
ثمّ قال في سَفاهةٍ وجُنونٍ:
﴿فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾. وأوقَد هامان على الطّين، وبنى صرحًا ولكن إلى أين؟ تَعِب هامان، وتَعِب البَنّاؤون، ونَفِد الطِّين والآجُرّ.
ولا يزال فرعون بعيدًا لم يَصِل إلى السَّحاب فَضْلًا عن القمر.
ولم يَصِل إلى القمر فضلًا عن الشَّمس.
ولم يصِل إلى الشَّمس فضلَا عن الكواكب.
ولم يصِل إلى الكواكب فضلًا عن السَّماء.
هنا خاب فرعون وخَجِل، وعَجَز فرعون وقَعَد.
مِسكينٌ هذا المعتوه ألا يدري أنّ اللهَ تعالى خلَق الأرضَ والسَّماوات العُلَى.
﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾.
﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ﴾.
ولَمّا خَلَصَت سِهام فرعون مِن كِنانَتِه، ونَفَدَت حُجَجُه السَّقيمة من جُعْبَتِه ها هو يَلْبَس في الأخير عَباءَة الوَعْظ، ويتَلبَّس بِلَبُوس أهل الذِّكْر، وكما يُقال في المثل:" صار فِرعون مُذكِّرًا " ليتوصَّل بذلك إلى قتل موسى؛ شَفقةً على النّاس مِن موسى بزعمه، فقال-قَبَّحَهُ الله-:﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ﴾.
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) مؤمن آل فرعون
ولَمّا أراد فرعون أن يَقتُل موسى قام رَجلٌ مِن آل فرعون يَكْتُم إيمانَه وقال: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾.
وقال الرّجل الرّشيد مِن آل فرعون:
لماذا تتعرّضون لموسى؟، ولماذا تؤذونه؟
إذا لم تؤمنوا به فاتركوه وشأنه وخَلّوا سَبِيله.
﴿إِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ﴾.
وإذا آذيتُموه ووقَعْتُم به وكان نبيًّا فلكم الوَيْل.
﴿وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾.
ويا إخوتي لا تغتروا بملكِكُم، ولا بقوّتكم وجنودكم.
﴿يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا﴾.
وكان جوابُ فرعون أن قال: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾
بعدها أراد الرَّجلُ الرَّشِيد أن يُحَذِّر قومَه سُوءَ العاقِبة ومَصِير الظّالمين فقال:
﴿يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ﴾.
ثمّ خوَّفَهم يوم القيامة. وما يوم القيامة؟
﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾.
يوم ينادي الملك الجبار:﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾.
فقال الرّجل الرَّشيد:
﴿وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾.
وقال الرّجل الرَّشيد: إنّ الله قد وَهَبَكُم نعمةً، ولكنّكم ما عرفتم فَضْلَها، وما قَدَرْتموها حَقّ قَدْرِها، حتَّى إذا ذَهَبَت تأسَّفْتُم عليها.
ذلك يوسف النّبي عليه صلاة الله وسلامه الذي ما عرفتُموه ولم تَقْدِرُوه قَدْرَه.
ولكنَّه لَمّا ماتَ قُلتُم: سُبْحان الله، نَبِيٌّ ولا كَيُوسف.
مَلِكٌ ولا كيوسفّ، رجلٌ ولا كيوسف!
ومَن لنا بنبيّ بعدَه ؟! مَن لنا بمثله ؟!
أبدًا! لن يأتي مِثلُه!
﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا﴾.
كذلك تَفْعَلون بعد هذا النّبيّ أيْضًا! وتَندَمُون! ساعَة لا ينفَع النَّدَم.
2- نصيحة الرّجل
ووعَظ الرّجل قومَه وبَذَل لهم وُدَّه ونَصِيحَتَه، وكان مِما قاله:﴿يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ لا كما كَذَبَ فرعونُ في قوله:﴿وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾.
وعَلِم الرَّجل الرَّشيد أنّ القومَ في سَكْرةٍ مِن الحياة الدّنيا، وأنّ فرعون مغرورٌ بملكه وقوّته.
ولكنّ هذه الحياة حُلْمٌ مِن الأحلام، وأنّ الدّنيا ظِلٌّ زائِلٌ.
وعرف الرّجل ما يمنع القومَ مِن اتِّباع موسى، ذلك بأنهم سُكارى بِسَكْرة الدّنيا.
والسّكران ما يسمَع وما يشعُر.
فأراد أن يُنبِّهَهم مِن غفلتهم فقال:
﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾.
وطَفِقَ الجُهّالُ مِن قومِه يدعونَه إلى الكفر والشِّرك وإلى دين الآباء.
ولَمّا بالغوا في الدّعوة قال لهم:﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ﴾.
﴿تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ﴾.
ثمّ أَيّ نَبِيٍّ جاء مِن آلهتِكُم ؟
وأيّ كتاب نَزَل ؟ ومَن دعا إليه ؟
﴿إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾. وهؤلاء رُسُلُ اللهِ كلّهم دَعَوْا إلى الله.
وفي كلّ شيءٍ له آية ! وفي كلّ مَكانٍ له دعوة !
﴿لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ﴾.
لَمّا يَئِس الرّجل مِن هِدايَتِهِم وسَئِم الرّجل مِن بَلادَتهِم تَرَكَهُم وقال لهم:
﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾.
وغَضِبَ النّاس، وأراد آلُ فرعونَ أن يقتلوه، ولكنّ اللهَ عَصَمَه، وأهلَك أعداءَه.
﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ﴾.
3- زوج فرعون
ولَمّا كان فرعونُ يعتَقِد أنّه مَلِك العُقول كما أنّه ملِك الأجسام، وأنّه لا أحد يخرج عن أمره أو يُخالف إرادته كان إذا سمع بإيمان أحد بموسى في أقصى مملَكته جُنّ جنونه.
وقال: كيف يكون له أن يُؤمِن بموسى قبل أن آذَن له؟!
يعيش في مملكتي ويَعْصِيني، ويأكل رِزْقي ويَكْفُرني؟!
وينسى فرعون أنّه يعيش في مملكة الله ويَعْصِيه، ويأكل رِزْقَ اللهِ ويَكْفُر به.
وأراه اللهُ آيةً في بيته، إنّها آيةٌ في أهلِه.
وأراه اللهُ أنّه مَلِك العقول كما أنّه مَلِك الأجسام.
وأنّ له سلطانًا على القلوب كما أنّ له سلطانًا على الألسنة.
وأنّ اللهَ يحول بين الرَّجل وأهله، وأنّ اللهَ يحول بين المرء وقلبِه.
فقد دخل الإيمان في بيت فرعون وهو ولا يشعر، وآمَنَت امرأة فرعون بالله وكفَرَت بفرعون وهو لا يدري.
ولم يَصْنَع شرطة فرعون شيئًا؛ بل ولم يشعروا بذلك ولهم شامّة النّمل وعيون الغراب.
ولو علم بذلك فرعون ماذا فعل؟ إنّه يملك الجسم ولكنّه لا يملِك العقل.
وإن له سلطانًا على اللِّسان وليس له على القلب سلطان.
على المرأة أن تطيع زوجها، ولكن لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق.
على الولد أن يُطيعَ أبَوَيْه، وأن يكون بهما بارًّا رشيدًا، ولكن ليس له أن يُطِيعَهما في الشّرك.
واسْتَقامَت امرأة فرعون على الإيمان، وكانت تعبُد اللهَ في بيت عَدُوّ الله.
ورضِي اللهُ عن امرأة فرعون، وأنجاها اللهُ مِن فرعون وعمله، وضَربها اللهُ مثلًا للمُؤمنين لإيمانها وشَجاعَتِها.
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.
4- محنة بني إسرائيل
ولَمّا عَلِم النّاسُ عداوةَ فرعون لِبني إسرائيل، تقرَّبوا إلى فرعون بِعَداوتهِم وإيذائهِم.
ففي كلّ يومٍ محنةٌ جديدةٌ! وفي كلّ يوم بليَّة نازِلة.
وموسى عليه الصّلاة والسّلام يُسَلِّيهِم ويُوصِيهِم بالصَّبر، ويقول لهم:
﴿اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.
وسَئِم بنو إسرائيل هذه المحنةَ وهذا الأذى وقالوا:﴿أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾.
ولكنّ موسى لم يجزَع ولم ييأس!
﴿قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾.
﴿يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾ أي: فإنّ الله كافٍ مَن تَوَكَّلَ عليه، ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾، ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾.
﴿فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.
وكان فرعون يمنع بني إسرائيل مِن عبادة الله تعالى، ويغضَب لذلك.
ومَن أظلم ممّن منَع عبادَ الله أن يعبدوا اللهَ على أرض الله؟!
ومَن أظلم ممّن دَعا إلى عبادةِ فرعون على أرض الله؟!
ومع تسلّط فرعون وجنوده إلّا أنّه ما كان يَقْدِر أن يمنَع أحدًا أن يفعَلَ ما يشاء في بيته!
فأمر اللهُ بني إسرائيل على لسان موسى أن:﴿اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾.
وهنا عَجَز فرعونُ وشرطته أن يحولُوا بين بني إسرائيل وعبادةِ الله!
ومَن يحول بين العبد وربّه؟! ومَن يحول بين المسلم وعبادة الله؟!
5- المَجاعات
لَمّا طغَى فرعونُ وأسْرَف في الغَفْلَة والعِناد أراد اللهُ أن يُنبِّهه.
إنّ الله لا يرضى لعباده الكفر! ولا يحب الفساد في الأرض!
وكان فرعون بليدًا جدًّا، ضاعت فيه الحكمة والموعظة.
والحِمار لا يتنَبَّه حتى يُضرَب!
فأراد الله أن يُنبِّهه!
ومصر بلاد مخصبة خضراء، بلاد الخيرات والأثمار وبلاد الحبوب.
وقد عَلِمْتُم كيف أنجَدَت مصر بِلادًا بعيدةً أيّام المجاعة في عهد يوسف عليه السّلام.
وكيف أنجَدَت مصرُ أهلَ الشّام وأهلَ كنعان!
والنَّيل هو الذي يروِي أرضَ مصر ويَسقِي زُروعَهم.
وهو مَنْبَع السّعادَة والخير في مصر.
وكان فرعون وأهل مصر يظنّون أنّ النِّيل هو مفتاح الرّزق.
ولا يعلمون أنّ اللهَ عنده مفاتيح الرّزق.
وأنّ اللهَ يبسُط الرِّزق لِمَن يشاء ويَقدِر.
وأنّ النِّيل يجري بأمره، ويفيض بأمره.
وأمر اللهُ النِّيل فغاض ماؤه وذَهَب في الأرض.
فماذا يُرْوِي زروعَ أهل مصر؟!
نَقَصَت ثمراتهم وحبوبهم، وكانت مجاعةٌ بعد مجاعَةٍ!
وعَجِز فرعون ومَن معه عن كلِّ حِيلَةٍ.
هنالك عَلِم أهل مصر أنّ فرعون ليس ربهم، وأنّ الرِّزق بيد الله!
ومع ذلك لم ينتفعوا بذلك ولم يتنبَّهوا، وحال الشّيطانُ بينهم وبين الموعظة والعبرة.
قالوا: هذه المجاعات وهذه السّنون مِن شُؤْم موسى وقومه!
يا للعجب! ألم يكن موسى مِن قبل؟! ألم يكن بنو إسرائيل منذ زمنٍ بعيدٍ؟!
بل ذلك مِن شؤم أعمالهم!! بل ذلك مِن شؤم كُفْرِهم!
وعانَد فرعونُ وقومُه وقالوا: إنّا لا نخضَع لهذا السِّحر.
﴿وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾.
6- خمس آيات
وبعث اللهُ عليهم آيةً أخرى.
أرسل عليهم الأمطار، ففاض النِّيل.
وأمطَرت السّماءُ حتى غرقت الزّروع والحقول، وتَلِفَت الحبوب والثّمار.
وعاد المطر عليهم وبالًا.
وبينما هم يشكون قلّة الماء إذا هم يشكون كثرة المياه.
ثم أرسل عليهم الجَراد يأكل الزّروع والحُقولَ، ويقع على الأشجار فلا يَذر منها شيئًا.
وعجزت جنود فرعون وشرطتُه عن قتال جُنْدِ الله.
وكيف يُقاتلونه ولا تعمَل فيه السُّيوف، ولا تعمَل فيه السِّهام.
هنالك علِم أهل مصر ضَعْفَ فرعون، وعجْزَ هامان، وقِلَّة حِيلَةِ الشُّرطة.
ولكنّهم لم يعتبروا ! ولكنّهم لم ينتبِهوا !
فبعث اللهُ عليهم جُنْدًا آخر، ذلك هو القُمَّل.
وتسلَّط عليهم القُمَّل، والعياذ بالله ! القُمَّل في الفِراش، وفي الثِّياب، وفي الرَّأس، وفي الشَّعْر.
فطار نومُهم، وباتوا يقتلون القُمَّل، ويسبُّونَه حتّى يُصبِحوا.
وكيف يُقاتِلونه والقمّل لا تعمل فيه السّيوف، ولا تعمل فيه السّهام، ولا يُنجِدُهُم في ذلك جنودهم وشُرطتُهم.
ثم بعث اللهُ عليهم الضَّفادِع، فصارت في كلّ مكانٍ؛ في طعامهم وشرابهم وبين ثيابهم، ولك أن تتخيَّل ذلك! تلك تَنِقُّ، وهذه تثِب هنا، وتلك تقفز هناك.
فسَئِموا هذه الضّفادع، وتَنَغَّص عليهم عيشُهم.
ثمّ بعث اللهُ عليهم آيةً خامسة، ذلك هو الدَّمُ.
فسال الرُّعاف مِن آنافِهم، وضَعُفوا وتِعِبوا جدًّا.
وعجز الأطّباء عن العلاج ولم ينفعهم دواءٌ.
وكلّما رأوا آيةً قالوا لموسى: ادع لنا ربَّك أن يكشِف عنّا البلاء ونتوبَ ونؤمن ونرسِل معك بني إسرائيل.
فلَمّا كشفَ اللهُ عنهم البَلاءَ نَكثوا عهدَهم.
﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾.
7- الخروج
وضاقَت على بني إسرائيل أرضُ مصر وهي واسعةٌ.
وما يصنَعون بخِصْب مصر وخيراتها وهم في سجن يذوقون كلّ يوم صُنوفًا مِن العذاب وألوانًا مِن الهوان ؟!
إلى متى يصبِرون، أليسوا بني آدمَ يشعرون بالأذى والألم؟!
وأوحى اللهُ إلى موسى أن يسريَ ببني إسرائيل ليلًا ويخرجَ بهم إلى مصر.
وأحسَّ بذلك شُرطة فرعون ولهم عيون الغراب وشامَّة النّمل وأخبروا بذلك فرعون.
سار موسى ببني إسرائيل في اللّيل نحو الأرض المقدّسة، وهم اثنا عشر سِبْطًا، كلّ سِبْطٍ عليه أميرٌ.
والطّريق إلى الشّام طريقٌ واضِحٌ معلومٌ، بَرٌّ يصل بين البرَّيْن، وقد جازه موسى مرَّتَين.
ولكن موسى أراد أمرًا، وأراد اللهُ أمرًا، ويأبى اللهُ إلّا ما أراد.
أخطأ موسى الطّريق، وحيث أخطأ موسى أصاب القَدَر.
ظنّ موسى أنّه يسير ببني إسرائيل إلى جانب الشِّمال، فإذا بهِم في ظَلامِ اللّيل الحالك إلى جانب الشّرق.
وإذا بهم أمام البحر الأحمر تتلاطَم أمواجُه.
وَالْتَفَتوا إلى الوراء فإذا بغبارٍ ساطعٍ !
وإذا بجندٍ عظيم قد سَدَّ الأُفُق !
هنالك ارتفعت الأصوات.
وقالت بنو إسرائل: يا ابنَ عمران! ماذا أنكرتَ مِنّا حتّى دَبَّرتَ قَتْلَنا !
وجِئْت بِنا إلى شَطِّ البحر؛ لِيَقتلنا فرعونُ قتلَ الفِئران حيث لا نجاة ولا فِرار.
لا نذكر إليك سوءًا فلماذا هذا الانتقام ؟!
ألم يكْفِكَ ما أصابَنا مِن الجَهْد والبَلاء لأجلك حتّى جِئْت بِنا إلى هنا ؟!
ها هو البحر أمامنا، وها هو العدوّ وراءنا، وليس لنا إلّا الموت !
هنالك أظلمت الدّنيا في عيون بني إسرائيل، وزاغَت الأبصار، واستولى اليأس، ثمَ خَفَتَت الأصوات.
هنالك تزلزل كلّ أحد، وحُقّ للجبال الرّاسيات أن تَتَزَلْزَل.
ولكن إيمان موسى بربِّه لم يتزلزل، وسمع النّاس صوتًا فيه جلال النُّبُوَّة.
﴿كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ أي: لا يَصِل إليكم شَيءٌ مِمّا تَحْذَرون، فإنّ الله سبحانه هو الذي أمرني أن أسِير ها هنا بكم، وهو لا يُخْلِفُ المِيعادَ.
وأمر اللهُ موسى أن يضرِب بعصاه البحرَ.
فضرب فانفلق البحر، وقام الماء على كلّ جانبٍ كالجبل.
وإذا اثنا عشر طريقًا لاثني عشر سِبْطًا، لكلّ سِبْط طريقٍ.
وسار القومُ آمنين، ووصلوا إلى بَرِّ الأمْن والسَّلام.
8- غرق فرعون
ورأى فرعون كيف سار بنو إسرائيل وعبروا البحر آمنين.
وقال فرعون لجنوده: انظروا إلى البحر كيف انفَلَق طَوعًا لأمْرِي حتى آخذ هؤلاء الفارِّين.
وتقدَّم فرعون بجنوده، فجزِع بنو إسرائيل مرَّةً أخرى.
ها هو العدوّ يريد أن يعبُر الطّريق إلينا.
ولا يمنَعه منّا شيءٌ، وسيلحَقُنا ويأخذنا إلى مصر مأسورين أذِلّاء، أو يقتلنا في هذه البرِّيَّة غُرباء.
وأراد موسى أن يضرب بعصاه البَرّ فيعود بحرًا كما كان، ولكن أوحى اللهُ إليه: أُتركِ البحر ساكنًا ﴿إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ﴾.
ولَمّا وصل فرعون وجنوده إلى عَرْض البحر (وهو بَرّ) انطبَق عليهم.
ولَمّا رأى فرعونُ الجِدَّ زالت سكرتُه.
﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾.
ولكن هيهات هيهات ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾.
﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾.
فقيل له:﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾.
ومات فرعون في البحر غرقًا.
مات الجبّار الذي قتل أُلوفًا مِن الأطفال والرّجال ذَبْحًا وشَنْقًا.
مات ملك مصر بعيدًا عن عرشِه، بعيدًا عن قصرِه، بعيدًا عن سُلطانه لا طبيبٌ يُداويه، ولا صديقٌ يُواسِيه، ولا عَينٌ تبكِيه.
وكان بنو إسرائيل في شكٍّ عن موته يقولون: إنّ فرعون لا يموت.
أمّا كنّا نراه يقضي أيّامًا ولا يأكل ولا يشرب ؟!
وقذف البحر جُثَّتَه فأيقنوا بموته.
وقال تعالى لفرعون:﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾.
وكانت جُثَّة فرعونَ آيةً للنّاظرين، وعِبْرةً للمعتَبِرين.
وغِرق جُند فرعون عن آخرهم، وما نجا منهم أحدٌ.
وخلَّفوا مصر وراءَهم، ولم يجدوا في أرضِها الواسعة ذِراعًا لِمَدْفَن.
﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ، كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ، فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ﴾.
9- في البَرِّيَّة!
وصل بنو إسرائيل إلى برِّ الأمن والسَّلام وتنفَّسوا في هوائه كالأحرار الأشراف.
هنالك لا يخافون فرعون، ولا يخافون هامان، ولا يخافون شُرطَتَه.
هنالك يمشون آمنين مطمئنِّين، لا يخشون أحدًا إلّا اللهَ.
ولكنّهم كانوا أهل الحَضَر، وكانت الشَّمس تُؤذِيهم في البرِّيَّة.
وكانوا ضيوف الله! ألم تر إلى الملوك كيف يُكرِمون ضُيوفَهم ؟!
وكيف يضربون لهم الخيام تَقِيهم حَرَّ الشّمس؟!
إنّ كرامَة اللهِ فوق كلّ كرامةً!
وأمر اللهُ الغَمام أن يُظِلَّهم، فكانوا يمشون في ظِلّ الغمام، وكان يسير معهم حيث ساروا، ويقِف أينما وقفوا.
وعطِش بنو إسرائيل، ولا ماء في البرِّيَّة ولا نهرَ ولا بئرَ.
ذهبوا إلى موسى يشكون إليه العَطَش كما يشكو الطِّفل إلى أُمّه ويستغِيثُها.
ودعا موسى ربَّه ! ومَن له غيرُه ؟!
فقال:﴿اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ﴾.
﴿فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾.
وجاع بنو إسرائيل فشكوا إلى موسى الجوعَ كما يشكو الصَّغير إلى أُمِّه ويستغِيثُها.
وقالوا: إنّك أخرجتنا مِن مصر أرضِ الفواكه والثَّمرات وأرض الخيرات والطَّيِّبات فمَن لَنا بطعامٍ في هذه البرِّيَّة ؟
دعا موسى ربَّه ! ومَن له غيرهُ ؟! فأنزل الله عليهم الطّعام.
أنزلَ لهم على أوراق الأشجار مثل الحلوى، وأرسل إليهم طيرًا يأخذونه مِن الأشجار بسهولةٍ.
ذلك هو الـمَنُّ والسَّلْوى، ضِيافةُ اللهِ لبني إسرائيل في البرِّيَّة.
10- كفران بني إسرائيل
ولكن بني إسرائيل قد أفْسَدَ ذَوْقَهُم وخُلُقَهُم العُبوديَّةُ الطّويلَةُ.
وكانوا لا يَقِرُّون على حالٍ، ولا يَسْكُنون إلى شيءٍ، وكانوا في طِباعِهِم أطفالًا؛ قَلِيلِي التَّشَكُّر، كثيري التَّشكِّي، سَرِيعِي السَّآمَة، يحبّون ما مُنِعوا، ويَكرَهون ما أُعْطُوا.
ومِن ذلك أنّهم ذكَروا عَيْشَهُم الذي كانوا فيه، وكانوا قومًا أهلَ أعْداسٍ وبَصَلٍ وبَقْلٍ وفُومٍ.
فقالوا لموسى: قد سَئِمْنا هذا الطّعام الواحِد، وهذا اللّحْم، وهذه الحلوى.
وقد اشتَهَيْنا الخُضُر والبُقول.
﴿يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا﴾.
تعجَّب موسى عند ذلك مِن سؤالهم الغريب، وقال بِصَوتٍ فيه الإنكار والاستِعْجابُ والعِتابُ.
﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾.
أَبقولًا وخُضَرَ مكان طيورٍ وحلوى لم تمسَّها يد إنسانٍ ؟!
أطعام الفلّاحين بدَلَ طعام الملوك؟
يا لِفساد الذَّوْق ! ويا لِسوء الاختِيار !
فقال موسى: إنّ ما سألتم يوجد في كلّ قريةٍ ومصر.
﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾.
11- عِناد بني إسرائيل
وكانت بنو إسرائيل في طِباعهم كالأطفال المُعانِدِين، كلّما أُمِروا بأمرٍ يُخالِفونَه إلى ضِدّه، ويستهزئون به.
كأنّهم يرون مِن الواجب أن يُبِدِّلوا ما يٌقال لهم.
كطفلٍ عنيدٍ يقال له: قم، فيجلس، ويقال له: إجلس، فيقوم.
وكان فيهم عِناد الأطفال في خُبْثِ الأشرار، في هُزْء الأعداء، في سَفاهَةِ المجانِين.
كانوا يريدون أن يسكنوا قريةً ويأكلوا طعامَهم الشَّهيّ مِن الخضر والبقول.
ولكنّهم لَمّا قيل لهم:﴿ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾.
غضِبوا من هذا الأمر الإلهيّ، ودخلوا القريةَ كُرهًا وهُزُوًا يزحفون على أسْتاهِهِم، وقالوا: حَبَّةٌ في شَعْرَةٍ.
﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾.
فأنزل اللهُ عليهم بلاءً، وبَعَث عليهم وباءً ماتوا منه موتَ الفِئران.
وإذا أُمِروا بأمرٍ أكثروا السُّؤال والتّنقير.
شأنهم شأن رَجُلٍ لا يريد أن يَعْمَل فيُكْثِرُ السّؤال والتَّنقِير.
حَدَث في بني إسرائيل حادِثُ قَتْلٍ، فأهَمّ ذلك بني إسرائيل.
ولم يهتدوا إلى القاتل، وكان السّؤال عن القاتل حديث النّاس.
جاءوا إلى موسى - عليه الصَّلاة والسّلام - وقالوا: أَعِنّا يا نَبِيَّ اللهِ في هذه القَضيّة، وادْعُ اللهَ يُبَيِّن لنا القاتل.
12- البقرة
دعا موسى ربّه فأوحى إليه أن يأمُرَهم بِذَبْح بقرةٍ.
هنالك حَلَّت المصِيبَة، وبدأ بنو إسرائيل يسألون ويسخرون.
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾.
﴿قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾.
﴿قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾.
وهنا أرسلوا الأسئلة.
﴿قَالوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ﴾. ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ﴾ أي: لا كبِيرَةً هَرِمَةً ولا صغيرةً؛ بل بين ذلك.
ولم يقِفوا على هذا السّؤال، بل بدأوا يسألون عن لونها.
﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا﴾.
﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾.
ولم يجِدوا سؤالًا فأطْلَقوا السّؤال.
﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾.
﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ أي: ليس فيها لون غير لونها.
ووُفِّقُوا في هذه المرّة؛ لأنهم قالوا:﴿إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾.
ولكنّ أسئِلَتَهم ضَيَّقَت عليهم الأمر، فلو ذبحوا أيّ بقرةٍ لكانت كافية، ولكنّهم شدَّدوا فشَدَّد اللهُ عليهم.
وفتَّشوا عن البقرة العَوان الصّفراء الفاقِع لونها التي تثير الأرضَ ولا تسقي الحرث المسلَّمَة التي لا شِيَة فيها.
ونَدَر وُجود هذه البقرة الغريبة؛ فإمّا بقرة فارض، وإمّا بقرة بِكْر.
وإمّا عوانٌ، ولكن غير صفراء.
وإمّا بقرةٌ عَوان صفراء، ولكنّ لونها غير فاقع.
وإمّا بقرة عوان صفراء فاقع لونها، ولكنّها بقرة ذَلولٌ تُثِير الأرضَ.
وإمّا بقرة عَوان صفراء فاقع لونها لا تثير الأرض، ولكنّها تسقي الحرث.
وفتَّشوا وفتَّشوا وعَلِموا عاقبة هذا التَّنقير، ما هي ؟ ما لونها ؟ ما هي ! وتَعِبوا.
وأراد اللهُ بِيَتِيم خيرًا فوَجدوا هذه البقرة التي وصفها الله عنده فاشتروها بِثَمَنٍ غالٍ جِدًّا " فَذبحوها وما كادوا يفعلون ".
وأمر اللهُ أن يُضْرَب المقتول بجزءٍ مِن أجزاء البقرة فيَحْيا ويُخبِر باسم القاتِل.
وهكذا كان ...
13- الشّريعة
وخرج بنو إسرائيل مِن عيش البهائم إلى عيش النّاس، وصاروا يعيشون كالأحرار الأشراف.
هنالك احتاجوا إلى شريعةٍ إلهيَّةٍ تحكُم بينهم، وتُنِير لهم السَّبيل، ذلك أنّ الإنسانَ لا يستَطِيع أن يعيش كإنسان إلا بشريعة إلهيّة، وإلّا بنورٍ مِن ربّه.
ذلك النّور هو نور الأنبياء الذي يهتدي به النّاس.
فالعقائد - بغير هذا النّور - أوهامٌ وخُرافات يضحك منها حتّى الأطفال.
أما سَمعتُم عن عقائد المشركين والكفّار واليهود والنّصارى وخرافاتهم وأساطيرهم ؟!
﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾.
﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾.
والأخلاق تَفْريطٌ وإفراطٌ، وتَقْصِير وإسراف، أما رأيتُم الذين لا يتَّبِعون الأنبياء كيف يَهْضِمون الحقوقَ، وكيف يجاوزون الحدود، وكيف يتَّبِعون الهوى؟!
والحكم والسّياسة ظلمٌ واستِبْدادٌ
والنّبيّ يُعَلّم النّاس كيف يعبدون الله، وكذلك يُعَلِّمُهم كيف يُعامِل بعضُهم بعضًا.
كما يُعلِّمهم آداب الحياة مع آداب الدِّين، ويُعلّمهم آداب الأكل، وأدب الشّرب، وأدب النّوم، وأدب المجلس، وأدب كلّ شيء.
والنّاس كالأطفال الصّغار يحتاجون في كِبَرِهم إلى تربية الأنبياء أكثر ممّا يحتاجون في صِغَرِهم إلى تربية الآباء.
والذين لم يتَلَقَّوْا هذه التّربية النَّبويّة ولم يتعَلَّموا الآداب مِن الأنبياء كأشجار البريَّة، نَبَتَت ونَشَأت بِنَفْسِها فيرى فيها عِوَجًا وشَوكًا وفَسادًا.
14- التّوراة
وأراد اللهُ أن لا يَضِيعَ بنو إسرائيل كما ضاعَت أممٌ بدون كتابٍ وهدى مِن الله.
أمر اللهُ موسى أن يتطَهَّر وأن يصوم ثلاثين يومًا، ثمّ يأتي إلى طور سيناء حتّى يُكَلِّمَه ربُّه، ويتلقَّى كتابًا يكون لهم الإمام.
اختار موسى مِن قومه سبعين رجلًا ليكونوا على ذلك مِن الشّاهدين؛ لأنّ بني إسرائيل قوم جُحْدٌ.
﴿وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾؛ لأنّ الجماعة لا بدّ لها من إمام.
سار موسى لميقات ربّه، ولكنَّه حثَّه الشَّوق إلى ربّه فتعَجَّل وسَبَق إلى الطّور.
قال الله:﴿مَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى﴾ ؟.
﴿قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾.
وأمَرَه اللهُ أن يُتِمَّ مِيقاتَ ربِّه أربعين ليلةً.
وَصَل موسى إلى طُورِ سِيناء فكلَّمَه ربُّه وناجاه وقرَّبَه وأدْناه، فزادَه ذلك شَوقًا فقال:﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾.
واللهُ يعلم أنّ موسى لا يستطيع ذلك؛ لأنّ الله ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾.
وإنّ الجبالَ لا تستطيع أن تحمِل كلامَه فضلًا عن نورِه.
﴿لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾.
﴿قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾.
﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾.
﴿فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾.
أخذ موسى الألواح، وفيها كلّ ما تحتاج إليه بنو إسرائيل موعظةً وتفصِيلًا لكلّ شيءٍ.
وأمرَه اللهُ أن يأخذَها بقوّةٍ، ويأمر قومَه أن يأخذوا بأحسنِها.
ولَمّا وصل موسى إلى السَّبعين رجُلًا مِن قومه وأخبَرهُم بما أنعمَ اللهُ عليه قالوا في وقاحةٍ وخسارَةٍ:
﴿لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾. غضِب اللهُ على هذه الوقاحة والجرأة فأخذتهم الصّاعقة وهم ينظرون.
ورأوا أنّهم لا يتَحَمَّلون هذه الصّاعِقة التي خلَقَها فكيف يتَحمَّلون نورَ الله !
ودعا موسى ربَّه وقال:﴿رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا﴾؟!
وأجاب اللهُ دُعاءَه وبعثَهم مِن بعد موتهم لعلّهم يشكرون.
15 – العِجْل
وكان بنو إسرائيل يعيشون مع المشركين في مصر منذ قرونٍ، ذلك أنّ الأقباط يعبدون أشياءَ كثيرة في مصر، وبنو إسرائيل يرون ذلك بعيونهم.
وزالت منهم كراهة الشِّرك وتَسَرَّب إليهم حُبَّه كما يتسرَّب الماء إلى بيتٍ واهِنٍ عتيقٍ، وكما يُقال: كَثْرَة الـمِساس تُذْهِب الإحساس.
وكانوا كلّما وجَدوا فرصةً انحدروا إلى الشِّرك كما ينحدِر الماءُ إلى الحَدُور.
وزاغت قلوبُهم وفسَد ذَوْقُهم فإن يَروا سبيل الرّشد لا يتّخذوه سبيلًا وإن يروا سبيل الغَيِّ يتّخذوه سبيلًا.
جازوا البحر ﴿فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾.
وغضِب موسى وقال:﴿إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ أي: لا تَعْرِفون شيئًا لا طبْعًا ولا شرعًا.
فيا للعَجَب ! ويا للظُّلْم ! إنّ اللهَ قد أنعَمَ عليكم وفضَّلَكم وآتاكُم ما لم يُؤتِ أحدًا مِن العالمين.
﴿قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾.
سار موسى إلى الطّور وغاب عنهم أيَامًا فكانوا صيدَ الشّيطان وفَرِيسَة الشِّرك.
قام رجلٌ منهم يُقال له السّامريّ ﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ﴾.
وفُتِن بنو إسرائيل بهذا العِجْل وخَرّوا عليه صُمًّا وعُمْيانًا.
﴿أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾.
﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا﴾.
ونهاهم هارون عن ذلك واجتهد وقال: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي﴾.
ولكنّ بني إسرائيل كانوا مَفتونين بِسِحْر السّامرِيّ، وأُشْرِبوا في قلوبهِم العِجْل، فقالوا: ﴿لَن نبْرَحَ عَلَيْه عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْنا مُوسَى﴾.
16- العقاب
ولَمّا أخبر اللهُ موسى أنّ بني إسرائيل أضَلَّهم السّامريّ رجَع إلى قومِه غَضْبان أسِفًا.
وغضِب على قومه، وغضِب لله على أخيه هارون.
﴿قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا، أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي﴾.
واعتذر هارون وقال: ﴿إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾.
﴿إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي﴾.
﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.
ثم التَفَت موسى إلى السّامرِيّ قائلًا: فما خطبُك يا سامِرِيّ ؟
واعترف السّامريّ بِجُرمه وقال: ﴿كَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي﴾.
﴿قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ﴾، أي: كما أخَذْتَ ومَسَسْتَ ما لم يكُن لك أخْذُه ومَسُّهُ مِن أثرِ الرَّسُولِ، فعُقوبَتُكَ في الدُّنْيا أن تقول:" لا مِساسَ "، أي: لا تَماسُّ النَّاسَ ولا يَمَسُّونَكَ.
فعاقبَه موسى بالانْفِراد، يمشِي وحدَه، ويَعِيش وَحْدَه كالوَحْشِيّ، لا يَأْلَف ولا يُؤْلَف.
وأيّ عقابٍ أكبَر مِن هذا ؟!
إّن الذي نَجَّس ألوفًا مِن النّاس بالشِّرك يجب أن يتَقَذَّره النّاسُ ويَنْبِذوه.
إنّ الذي فرّق بين اللهِ وعبادِه يجب أن يُفرّق بينه وبين النّاس.
إنّ الذي دعا إلى الشِّرك في أرض الله مُذنِبٌ يجب أن تكون الأرض كلّها سِجنًا له.
ثمّ التَفَت موسى إلى العِجْل الملعون فأمَر بإحْراقِه فأُحرِق، ثمّ نَفَضَه في البحر.
ورأى بنو إسرائيل مصِير العِجل المعبود، ورأوا ضعفَه وعجزَه.
ثم التَفَت موسى إلى بني إسرائيل وقال: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ﴾.
وكذلك فعلوا، وقتَل الذين لم يَعبُدوا العْجْلَ الذين عبدوه، وهكذا تاب اللهُ عليهم.
وقال تعالى:﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ﴾.
وكذلك عُبّاد العجل إلى يوم القيامة وكذلك المشركون إلى يوم القيامة !
17 – جُبْن بني إسرائيل
نشأ بنو إسرائيل على العبوديّة في مصر وعلى الذُّلّ والهوان، وشَبّ عليه الأطفال وشاب عليه الشُّبّان، وبرَدَ في عُروقهم الدّم.
وأصبحوا لا يحلمون بسِيادةٍ، ولا يتحدّثون بغَزْو ولا جِهادٍ.
كان بنو إسرائيل يقضون أيّامَهم في الغُربة ليس لهم وَطنٌ ولا حُكمٌ.
فأراد موسى بوحي اللهِ أن يدخلوا الأرضَ المقدَّسة ويسكنوا فيها ملوكًا أحرارًا.
ولكن موسى كان يعرف طبيعة الجُبْن والضّعف في بني إسرائيل.
فأراد أن يُشوِّقهم وأن يُهوِّن عليهم الأمرَ؛ لأنّ الأرض المقدَّسَة قد استولى عليها قومٌ جبّارون أولو قوّةٍ، وأولو بأسٍ شديدٍ.
فذكر نِعَم الله عليهم، وما فضَّلَهم به على العالمين حتَّى ينشَطوا للجهاد في سبيل الله، وحتَّى لا يركنوا إلى هذه الحياة الذَّليلة غير اللّائقة.
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِين﴾.
ثم قال لهم: إنّ أمامكم الأرضَ المقدّسة فليس لكم إلّا أن تقوموا وتنتزعوها مِن أعدائكم.
وإنّ اللهَ إذا كتب لأحدٍ شيئًا وقدّره له فقد هان عليه أن يأخذه، فلا رادّ لِقضاء الله.
﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾.
وخاف أن تَغْلِبَهم طَبِيعَة الجُبْن التي لازمتهم فقال:﴿ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾.
ووقَع ما كان يحذَره موسى؛ إذ كان جوابهم على كلّ ما قاله أنّهم اعْتذَروا بأنّ في هذه البَلْدة قومًا جبّارين، أي: ذَوِي خِلقةٍ هائِلةٍ، وقُوًى شديدةٍ لا قِبلَ لهم بها، وإنّا لا نقْدِر على مُقاومتِهِم ولا مُصاوَلَتِهِم، ولا يُمكِنُنا الدُّخول إليها ما داموا فيها.
وقالوا في وقارٍ وسُكونٍ:﴿ فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾.
﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.
لكن ذلك لم يؤثّر فيهم وقالوا: إذا كان لا بدّ مِن الدّخول فادْخُل أنت بمُعجِزَةٍ، فإذا سمِعنا أنّك قد دخلتها، جئنا فدخلنا نحن أيضًا آمنِين سالمين.
﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾.
هنالك غَضِب موسى ويَئِس من هؤلاء.
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾.
﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾.
وفي هذه المدّة يموت هذا الجِيل الذي نشأ في مصر على العبودِيّة والذُّلّ.
وينشأ جيلٌ آخر ينشأ في هذا التّيه على الشِّدَّة والعُسر، وتلك أُمّة المستقبل، وهذا هو مَصِير اليهود في كلّ زمانٍ، أُمّة تائِهة تعيش على العبوديّة والذلّ.
18 - في سبيل العلم
عن النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال:« قَامَ مُوسَى خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ ؟
فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ !
فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ !
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ.
قَالَ: رَبِّ كَيْفَ بِهِ ؟
فَقِيلَ لَهُ: احْمِلْ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ (زَنْبِيلٍ) فَإِذَا فَقَدْتَهُ فَهُوَ ثَمَّ.
فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقَ بِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، وَحَمَلاَ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَضَعَا رُؤُوسَهُمَا فَنَامَا.
فَانْسَلَّ الْحُوتُ مِنَ الْمِكْتَلِ ﴿فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا﴾ (مَسْلَكًا)، وَكَانَ لِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا
فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا وَيَوْمِهِمَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: ﴿آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا﴾(تَعَبًا).
وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى مَسًّا مِنَ النَّصَبِ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ.
فَقَال لَهُ فَتَاهُ:﴿أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ﴾.
قَالَ مُوسَى: ﴿ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي﴾!
﴿فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا﴾.
فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ إِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى (مُغطّى) بِثَوْبٍ، فَسَلَّمَ مُوسَى.
فَقَالَ الْخَضِرُ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلاَمُ ؟
فَقَالَ: أَنَا مُوسَى !
فَقَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ؟
قَالَ: نَعَمْ !
قَالَ موسى:﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا﴾؟
قَال:﴿إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾!
يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ عَلَّمَنِيهِ لاَ تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ لاَ أَعْلَمُهُ !
قَال موسى:﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ، وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾.
فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، لَيْسَ لَهُمَا سَفِينَةٌ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا.
فَعُرِفَ الْخَضِرُ، فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ (أُجْرة).
فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ نَقْرَةً، أَوْ نَقْرَتَيْنِ من الْبَحْرِ.
فَقَالَ الْخَضِرُ: يَا مُوسَى، مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللهِ إِلاَّ كَنَقْرَةِ هَذَا الْعُصْفُورِ فِي الْبَحْرِ.
فَعَمَدَ الْخَضِرُ إِلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ فَنَزَعَهُ.
فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا ؟
قَالَ الخضر:﴿أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴾؟!
قَال موسى:﴿لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ، ولا تُرْهِقْنِي مِن أمري عُسْرًا﴾.
فَكَانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا.
فَانْطَلَقَا فَإِذَا غُلاَمٌ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ مِنْ أَعْلاَهُ فَاقْتَلَعَ رَأْسَهُ بِيَدِهِ.
فَقَالَ مُوسَى:﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾!
قَالَ:﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾؟!
﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ﴾.
قام الْخَضِرُ بِيَدِهِ فَأَقَامَهُ.
فَقَال مُوسَى:﴿لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾!.
فقال:﴿هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾!».
قَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم:« يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَوَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا ».[( أخرجه البخاريّ رقم (122)، ومسلم رقم (2380) ].
19 – التّأويل
ثم نَبَّأ الخَضِرُ موسى.
فقال:﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ ( صالحةٍ ) غَصْبًا﴾.
﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾.
﴿فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا﴾.
﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾.
﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾.
هنالك عرف موسى أنّ أحدًا لا يستَطِيع أن يُحِيط بِعِلم الله، وأنّ بعضَ علمِه عند بعضٍ، وبعضُه عند بعضٍ، وفوق كلّ ذِي علمٍ عليمٍ.
20 – بنو إسرائيل بعد موسى
وتوفِّي موسى وبنو إسرائيل يَتِيهون في الأرض عِقابًا مِن اللهِ وجَزاء أعمالهِم.
وضرب الله عليهم الذِّلَّة والمسكَنَة وباءُوا بغضبٍ مِن الله.
إنّهم قد أسخطوا اللهَ الذي جعل فيهم أنبياء، وجعلهم ملوكًا، وآتاهم ما لم يُؤْتِ أحدًا مِن العالمين في عَصْرِهم.
الذي أنجاهم مِن آل فرعون يسومونهم سوء العذاب يُذبِّحون أبناءَهم ويَسْتَحْيون نِساءَهم.
الذي فرَق بهم البحر فأنجاهم وأغرق آل فرعون وهم ينظرون.
الذي ظَلّل عليهم الغمامَ، وأنزل عليهم المنّ والسَّلوى.
الذي فجّر لهم مِن الأرض عيونًا، ووسّع لهم في مأكلٍ ومَشرَبٍ.
وكان جزاءُ كلّ ذلك أنْ كَفَروا بآيات الله، وعَصَوْا، واعْتَدَوْا.
وأغضَبوا نبيّهم موسى أشفَقَ خلقِ اللهِ عليهم، وأشفَقَ عليهم مِن آبائهم وأُمّهاتهم.
ذلك الذي كان يحنُو عليهم حُنوّ المرضِع على الفَطِيم، والأمّ الحنون على اليتيم.
ذلك الذي سَبُّوه دَعا لهم، وكلّما ضحكوا عليه بكى لهم، وكلّما جَفَوه رثى لهم.
ذلك الذي خلّصهم مِن أسْر فرعون وأخرجَهم مِن سِجْن مصر إلى بَرِّ الحريّة والشّرف، وِمن حياة العبيد الأشقياء إلى حياة الأحرار الشّرفاء.
قد أغضبوه وآذَوْه وعانَدوه وسَخِروا منه وجعلوه أهونَ رجُلٍ فيهم وكان عند الله وَجِيهًا.
ألا يَستَحِقّون هذا العقاب والخِزْيَ والذّلّ والمسكَنَة والتّيه الدّائم وألّا يُفلِحوا أبدًا ؟
بلى! إنّهم يستحِقّون كلّ ذلك، وأكثر بأعمالهم:﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.
قصص النّبيِّين للأطفال القسم الثّاني
قصّة شعيب عليه السّلام
وليس ما حَكَيْناه لكم مِن قَصَص النَّبيِّين، هو كلّ ما حكاه اللهُ في القرآن مِن قَصَصِهم وحِكاياتهم، ففي القرآن قِصَص غير هذه القِصَص.
1- وإلى مدين أخاهم شعيبًا
فيه قصّة نبيّ اللهِ شعيب الذي أرسلَه اللهُ إلى مدين وأصحاب الأيكة، وهم أصحاب تجارة وسِلَع، فقد كانوا على الجادّة التّجاريّة الكبيرة بين اليمن والشّام، وبين العراق ومصر، على ساجل البحر الأحمر.
كانوا يُشركون بالله غيرَه، كما كانت أُمَم الأنبياء في كلّ مصر، وكانوا - زيادة إلى ذلك - ينقصون المكيال والميزان، ويُطفِّفون في الكيل، ويتعرّضون للقَوافل، فيتَوعّدونها ويخيفونها، ويعيثون في الأرض فسادًا، شأن الأغنياء الأقوياء الذين لا يرجون حسابًا ولا يخشون عذابًا.
فبَعَث اللهُ عليهم رَسُولَه شُعَيبًا يدعوهم ويُنذِرُهم، ويقول لهم:﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ، وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾.
4- دعوة شعيب
ويَبْسُط لهم في الكلام، ويحُلّ عُقدَةً متمكِّنةً في نفوسِهم، وهي عُقْدَة حُبّ المال والزّيادة، فيقول: إنّ ما يَفْضُل لكم مِن الرِّبح بعد وَفاء الكيل والميزان خيرٌ لكم مِن أخذ أموال النّاس بالظُّلم والخِيانة، وإذا نظرتم في حَياتِكم وفي حياة هؤلاء الذين أثْرَوا وجمَعوا الأموال وَجَدتم أنّ ما اكتَسَبوه عن طريق التَّطْفِيف والبَخْس والخيانة كان مصيره إلى التَّلَف والضَّياع، أو الفساد والبلاء، والقليل الذي ينفع خير من الكثير الذي لا ينفع:﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾.
ونَصِيحَتي لكم خالِصَة مخلِصَة، والله هو الرّقيب عليكم وحدَه، يقول في رِفْق وحِكْمة، وعن علمٍ وبصيرةٍ:﴿بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾.
5- أب رحيمٌ ومعلّم حكيم
ويتنوّع لهم في الخطاب، ويتفنّن في النّصيحة، شأن الأب الرّحيم والمعلّم الحكيم، فيقول:﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾.
6- جواب قومه
وقد دقَّق أذكياؤهم في تفسير هذه القُوَّة وتَعلِيلها، وقالوا في تَيْهٍ وزَهْوٍ، كأنّهم اكتَشفوا سِرًّا، أو فَكّو لُغْزَةً:﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾.
7- شعيب يشرح دعوته
وتلطَّف لهم شعيب، فلم يَقْسُ ولم يغضَب، وأفهمَهم أنّه ما حملَه على هذه الدَّعوة والنَّصيحة بعد صمْتٍ طويلٍ وعَدَم تَعرُّضٍ لِما كانوا عليه مِن أخلاقِ فاسدَةٍ وتصرّفات جائِرةٍ إلّا ما أكرَمَه اللهُ به أخيرًا بالنّبوّة والوحي، وما شَرَح له صَدْرَه وآتاه نورًا مِن عنده.
وأنّه لا يحمِله على ذلك الحسَد، فقد أغناه اللهُ ورزقه حلالًا طيّبًا، وأنّه بذلك سعيد، هنيء النّفس، مرتاح البال، شاكر لله تعالى بالقلب واللّسان.
ثم إنّه لا ينهاهم عن أمر ويرتكبه، ويمنعهم من شيء ويأتيه، وأنّه ليس مِن الذين يأمرون النّاس بالبِرّ وينسون أنفُسَهم، ولا مِن الذين يقولون ما لا يفعلون، إنّما يريد إصلاحَهم وإسعادَهم وإنقاذَهم مِن العذاب الذي يُحلّق فوق رؤوسهم، وإنّ الفَضْل كلَّه يرجِع إلى الله تعالى وعليه اعتِماده.
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾.
8- ما نفقه كثيرًا مما تقول
وتجاهَل القوم ما أراده شعيب، وكأنّه كان يتَكَلَّم معهم بِلُغةٍ أجنبيَّةٍ عنهم مع أنّه ابن البلد وأخو القوم، وكأنّه غير مُبِينٍ في كلامِه غير مُفصِح عن ما في جَنانه، مع أنّه مِن أبلَغِهم كَلامًا، وأنصَعِهم بيانًا، وأفصحهم لِسانًا؛ بل كان يُقال له: خطيب الأنبياء، وهكذا يقول النّاس إذا كبرت عليهم النَّصيحة وشقّ عليهم العَمَل.
9- شعيب يتَعجّب من قومه
وتعلَّلوا بِضَعْفِه ووَحْدَتِه، وأنّه لولا عَشِيرته وقَرابتُهم له لَرَجَموه بالحِجارة وتخلّصوا منه، وقد استَنْكَر ذلك شعيب، وتعَجَّب مِن أن يكون الله العزيز القادر، والقويّ القاهِر أهْوَن عليهم مِن عَشِيرةٍ هي عُرضة للأمراض والهلاك والضَّعف والعَجْز.
﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا (أي: ذليلًا ) وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ، قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا (أي: نَبَذْتُمُوهُ خَلْفَكُم، لا تُطِيعونَه ولا تُعَظِّمونَهُ) إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾.
10- السّهم الأخير
ولَمّا انقَطَعت حُجَّتُهم أطلَقوا السَّهْم الأخِير الذي أطلقه المتكبّرون مِن كلّ أمّة على نبيهم وأتباعه:
﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾.
11- حجّة قاطعة
فكان جوابُه جوابَ فَخورٍ بِدينِه غَيورٍ على عَقِيدتَه وضَمِيرِه:
﴿قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ، قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾.
12 – بل قالوا مثل ما قال الأولون
فلم ينفعهم ذلك؛ بل قالوا مِثلَما قال الأوّلون:﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا (أيْ: عَذابًا) مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ على وَجْهِ التَّعَنُّت والعِنادِ، فَناسَبَ أنْ يَحِقَّ عليهِم ما اسْتَبْعَدُوا وُقوعَهُ.
13- عاقبة أمّة كذّبت نبيّها
وكانت العاقبة واحدة، عاقبة كلّ أمّة كذَّبت نبيَّها وكَفَرَت بِأنعُمِ ربِّها: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ، الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ﴾.
14- بلّغ الرّسالة وأدّى الأمانة
وكان شأنُ شعيب شأنَ كلّ نبيّ بلّغ الرّسالة، وأدّى الأمانة، وأقام الحجّة: ﴿فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾.
قصّة داود، وسليمان عليهما السلام
ولم يقتصر القرآن على ذكر أيّام الله تعالى وما لَقِيَه الأنبياء والرّسل مِن تكذيبٍ وسُخريَّةٍ وإهانَةٍ ومُطارَدةٍ مِن الأُمَم التي بُعِثوا فيها، وما لَقِيَت هذه الأُمَم مِن عُقوبَةٍ وعَذابٍ وهَلاكٍ ودَمارٍ لِتَكذِيبِها لِلرّسل واستِهزائها بهم وكَيْدِها لهم، وهمّها بِقَتْلهم، كما مَرَّ بكم في قصص النَّبِيّين.
1- القرآن يتَحَدّث عن آلاء الله
بل تحدَّث القرآن كثيرًا عن آلاء الله، وحَكى في بَسْطٍ أحيانًا، وفي اختِصارٍ أحيانًا عن نِعَم كثيرة، أنعَم بها على كثير مِن الأنبياء، ومنهم داود وسليمان، فقد مَكَّن الله لهما في الأرض، ووسَّع لهما في الـمُلْك، ومَدَّ لهما في العِلم، وعلَّمَهما كثيرًا ممّا جَهِلَه النّاس، وسَخَّر لهما الأقوياء والعُتاة، وما لا يَنْقاد مِن الحيوانات والجمادات، فقال:
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾.
2- نعمة الله على داود
فأمّا داود فقد سَخَّر اللهُ له الجبالَ والطَّير تَتَجاوَب معه في الدّعاء والتَّسبيح، وعلَّمَه صَنْعَة الدُّروع، وأَلانَ له الحديد .
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
ويقول:﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾.
3- شكره على هذه النّعمة
وكان داود مع هذا الـمُلْك الواسِع واليَد الحاذِقة القويّة كان عبدًا خاشعًا أوّابًا، دائِمَ الذِّكْر، طويلَ الدُّعاء والتَّسبيح، حاكِمًا مُقْسِطًا، يحْكُم بين النّاس بالحقّ ولا يُحابي، يقول الله تعالى:﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾.
4- نعمة الله على سليمان
فأمّا سليمان فقد سَخَّر اللهُ له الرِّياح تجري بأمرِه حيث أراد، وتحمِله مِن مكانٍ إلى مكانٍ، فيَصِلّ إليه في أقْرَب وقتٍ وأسرعِ زمانٍ، وسَخَّر له الأقوِياء والحاذِقِين مِن الجِنّ والمارِدين مِن الشّياطين، ينَفِّذون أوامِرَه، ويُكمِلون مَشارِيعَه العُمرانيّة والبنائيّة العِمْلاقة.
﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾.
5- فقه دقيق وعلم عميق
وقد تجلَّى ذَكاؤُه وقدرَتُه على الحُكْم الصَّحيح في قضيَّةٍ رُفِعَت إلى والِده العظيم، فكان لِقومٍ كَرْمٌ قد أنبَتَت عَناقِيده، فَدَخَلَت فيه غَنَمٌ لِقومٍ فأفسَدَتْه، فقَضى داود بالغَنَم لِصاحِب الكَرْم، فقال سليمان: غير هذا يا نبيّ الله، وما ذاك؟
قال: تَدْفَع الكَرْمَ إلى صاحِب الغَنَم فيقوم عليه كما كان، وتدفَع الغَنَم إلى صاحب الكَرْم فيُصِيب منها، حتّى إذا كان الكَرْم كما كان دَفَعْت الكَرْمَ إلى صاحِبِه، ودَفَعْت الغَنَمَ إلى صاحبِها.
وخصَّه اللهُ بفقهٍ دقيقٍ وعلمٍ عَمِيقٍ فقال:﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾.
6- سليمان يعرف لغة الطّير والحيوان
وقصّ القرآنُ قصَّةً حَكِيمَة ممتِعَةً تجلَّى فيها تَيَقُّظ سليمان في تدبِير مملَكَتِه ورَهْبَة سُلْطانه، وكيف جمَع اللهُ له بين سعادَة الدّنيا والآخِرة، وبين الـمُلْك والتَّمكين والنّبوَّة والرِّسالة في الدِّين، وكان يعرِف لغةَ الطَّير والحيوان، وجمع جنودَه مِن الجنّ والإنس والطّير ذات مرَّة، وركِب فيهم في أُبَّهَة وعَظَمَة، وكانوا على نظامٍ كاملٍ، وكانوا في قيادة رُؤسائِهم، فمَرّ سليمان على وادي النَّمل، فخافَت نملةٌ على قَبِيلَتِها أن تحطِمَها الخيولُ بحذافيرها ولا يشعر بذلك سليمان ولا جنودُه، فأمرتهم بالدّخول إلى مَساكنهم، فَفَهِم ذلك سليمان، ولم يأخذه التَّيْه ولا الزَّهْو بأنّه نبيّ مِن أنبياء الله؛ بل حَمَله ذلك على حَمْد اللهِ تعالى وشُكْر نِعْمَتِه، والدّعاء والتَّوفيق للعمل الصّالح، والانخراط في سِلْك عباد الله الصالحين وأوليائه المؤمنين.
7- قصة الهدهد
وكان الهُدْهُد رائِدَه وعينَه يدلّه على مَواضع المياه، ومَنازِل الجيش، فلم يجِده، فأنكَر ذلك وتوَعَّده، فغاب زمانًا يسيرًا ثمّ جاء، فقال لسليمان: اطَّلَعْت على ما لم تَطَّلِع عليه أنت ولا جنودك، وجِئْتُك بخبرِ صَدْقٍ عن سَبأ ومَلِكَتِهِم: لهم مُلْك عظيم، ودولة واسِعة، وقد وجدتهم على هذا العقل والكِياسَة، والملك والرّياسة، إلّا أنّهم أصحاب سَفاهةٍ وجَهالَةٍ؛ إذ إنّهم يسجُدون للشَّمس مِن دون الله، ولا يفقهون ذلك، ولا يهتدون إلى عبادة الله وحدَه.
8- سليمان يدعو ملكة سبأ إلى دينه
وشقَّ على نبيّ الله أن يكون بجوار مملكته مَلِك وأُمَّة لا يَعْرِفها ولم تبلغها دَعْوَتُه، ولا تزال تعبد الشَّمس، وثارت فيه الحميّة الدِّينيَّة النَّبويَّة، ورأى مِن الصّواب أن يكتب إلى ملكتها وحاكمتها المشركة ويدعوها إلى الإسلام، والطّاعة والاستِسلام، قبل أن يزحَف إلى بلادِها بجنوده القاهِرة، فكتب إليها كتابًا بليغًا دَعاها فيه إلى الإسلام والاستِسلام.
والكتاب يجمع بين الرِّقَّة والصَّرامة وتواضع الأنبياء وغيرة الملوك.
9- الملكة تستشير أركان دولتها
فقد كان سليمان جامِعًا بينهما، وكانت المرأة التي تحكم هذه البلاد عاقلةً غير مُتَسَرِّعة في الحكم، عندها تجارِب واسِعة مِن سِيَر الملوك وأخبار الفاتحين، وإنما خانها عَقْلُها في معرفة الإله وعبادَتِه، فلم تأخذها حَمِيَّة الملوك، ولم تَسْتَبِدّ بالرّأي، فأطلَعَت أهلَ الرّأي مِن أركانِ دَوْلَتِها على هذا الكتاب الذي لم يكن كسائر الكتب، إنّه كتاب مِن أعظم الملوك في زمانها ومِن نبيٍّ داعٍ إلى الله تعالى.
﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾.
وَلَمّا بدأ أركان دولتها يُدْلُون بقوّتهم وكثرة جيوشِهم إرضاءً وتملُّقًا، لم تَقْبَل مَقالَتَهم ولم تُوافِقْهم عليها؛ بل حَذَّرتهم مِن سُوء العاقبة، وذكَّرتهم بِسِيرَة الملوك الفاتحين في الأُمم المفتوحة ومصيرها بعد الهزيمة والانكسار، وقالت: سيكون هذا شأن بلادِنا وأُمّتِنا، ولهذا فإنّي سأرسل إلى سليمان بهدايا وآنيةٍ مِن ذهبٍ؛ فأمتَحِنه بها، فإن قَبِلها فهو مَلِك فَقاتلوه، وإن لم يقبلها فهو نبيّ فاتَّبِعوه.
فما أعْقَلَها في إِسْلامِها وفي شِرْكِها!! عَلِمَت أنّ الهَدِيَّةَ تَقَعُ مَوْقِعًا مِن النّاس.
10 - هديّة مُساوَمة
وبعثت إليه بهدية عظيمة لائقة بالملوك، فلمّا وصلَت إلى سليمان أعرض عنها وزهد فيها وقال: أتُساوِمُونني بمالٍ؛ لأتركَكم ومُلكَكُم، والذي أعطاني اللهُ مِن الملك والمال والجنود خيرٌ ممّا أنتم فيه، والأمر جِدّ ليس بهزل، والقضيّة قضيّة دعوة وطاعة، ليست قضية مُساوَمَة، وتوعَّدهم بِقَصْدِه لهم، وزَحْفِه على مُلْكِهم.
11- الملكة تأتي خاضعة
فلَمّا رَجَعَت هذه " البِعْثة " إلى ملكة سبأ، وحكَت لها القِصَّة، سمعت وأطاعَت هي وقومها، وأقبَلَت تَسِير إليه في جنودها خاضِعةً، ولَمّا تحَقَّق سليمان -عليه السّلام- قُدومَهُم إليه فَرِح بذلك، وحَمِد اللهَ، وأراد أن يُرِيَها آيةً مِن آيات الله، ليكون ذلك أدلّ على قدرة الله ونِعَمِه على سليمان، فأراد أن يُحضِر عَرْشَها الذي وكَّلَت به رجالًا أقوِياء أُمَناء، فطَلَب مِن مَلَئِه أن يأتوه بِعَرْشِها قبل وصول هذا الموكِب العَظِيم.
وقد تحَقَّق ما أراد سليمان في أقرب وقت، وكان معجزة، وأمر به سليمان فَغَيَّر بعضَ صِفاته؛ لِيَخْتَبِر مَعرِفَتَها وَثباتها عند رُؤيَتِه، وإن التَبَس عليها الأمر كان دليلًا على قصور نَظَرِها في أمورٍ أدَقّ منه وأبعد مَنالًا.
12- قصر عظيم مِن زجاج
وأمر سليمان البنّائين مِن الإنس والجنّ فبنوا لها قصرًا عظيمًا مِن زجاج وأجْرَوا تحتَه الماء، فالذي لا يعرِف أمرَه يحسِب أنّه ماء، ولكنّ الزّجاج يحول بين الماشي وبين الماء، وكان المؤكَّد أنّ الملكة تَتَوهّمه ماءً فتَكْشِف عن ساقَيْها، وهناك تتَبَيّن الخَطَأ وتُدْرِك قُصورَ نَظَرِها وانخِداعها بالمظاهر، وكانت هي وقومها يسجدون للشّمس؛ لأنها أكبر مظهَرٍ للنّور والحياة، التي هي مِن صفات الله؟ وهنالك ينكشِف الغِطاء عن عينها فتَعْرِف أنّها كما أخطَأت في مُعامَلة الزّجاج مُعامَلَة الماء فَكَشَفَت عن ساقَيْها، كذلك أخطَأَت في مُعامَلة الشَّمس مُعامَلَة الخالِق فسَجَدت لها وعَبَدْتها، وكان ذلك أبلغ مِن مِئَة خطبَةٍ وأَلْفِ دَليلٍ.
13- وأسلَمَت مع سليمان لله ربّ العالمين
وهكذا كان، فقد تورَّطت رغم دَهائِها وذَكائها في هذا الخطأ الفاحش، وتوهَّمت الزّجاجة ماءً رَقْراقًا يَسِيل ويموج، فكشَفَت عن ساقيها، وأرادت أن تخوضَه.
هنالك نبَّهَها نبيّ اللهِ سليمان على خطئها، قال: إنّه صَرْح مُـمَرَّدٌ مِن قَوارِير، وانكَشَف الغِطاء عن عينَيْها، وعَرَفَت جَهْلَها في قياس المظهر على الظّاهر، وعبادة الشّمس والسّجود لها وابتَدَرَت تقول: ربّ إني ظَلَمْت نَفْسِي وأسْلَمْتُ مع سليمان للهِ ربِّ العالمين.
14- القرآن يحكي قصة سليمان
واقرؤوا هذه القصَّة الشّائقة الممتِعة في القرآن، حيث يقول الله تعالى في ذلك:
﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ * قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ، قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ * قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ * وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ * قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
وهذا نبيّ اللهِ سليمان وقد رأيتم مَواقِفَه في الدَّعوة إلى الله وإلى التَّوحيد، وحِكمَتَه وفِقْهَه وغِيرتَه على دِينِه وعَقِيدَته، وهكذا فليَكُن المؤمِن.
15- وما كَفَر سليمان ولكنّ الشَّياطين كفروا
إنّ اليهود قومٌ بُهْت، ومِن بهتانهم أنّهم نسبوا إلى سليمان ما لا يليق بمؤمِن مُوَحِّد شَرَح اللهُ صَدْرَه للإيمان، فضلًا عن نبيٍّ مُرْسِل آتاه اللهُ الحكمَة، وأكرَمَه بالنَّبوّة، وشَرَّفه بالخِلافة، فنَسَبوا إليه السِّحر والكفر والمداهنة للشّرك والاضْطِراب في أمر التَّوحيد بسبب أزواجه، فبرَّأه اللهُ مِن كلّ ذلك فقال:
﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾.
وقال:﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾.
وقال:﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾.
قصَّة أيوب ويونس عليهِما السّلام
1- قصة أيوب نمَط آخَر مِن القَصص
وقصّة أيوب في القرآن نمَط آخَر مِن القَصص، ومَظْهَر آخَر مِن مَظاهر نِعَم الله على عِباده المؤمنين والصّابرين والشّاكرين والأنبياء المحبوبين، فقد كان له مِن الدّواب والأنعام والحَرْث شيءٌ كثيرٌ، وأولاد مَرْضِيّة، فابْتُلِي في ذلك كلّه وذَهَب عن آخِره، ثم ابْتُلِي في جَسَدِه فلم يبق منه عضوٌ سليم سِوى قلبه ولسانه، يذكر بهما اللهَ عزَّ وجلّ، وأُفْرِد في ناحيةٍ مِن البَلَد، ولم يبق أحدٌ مِن النّاس يحنُو عليه، سِوى زوجَتِه كانت تقوم بأمرِه، ثمّ احتاجَت هي أيضًا فصارَت تخدم النّاسَ مِن أجلِه.
2- صبر أيوب
وكان رَغم كلّ ذلك صابرًا شاكرًا يَلْهَج لِسانُه بالذِّكْر والشُّكر، ولا يَشْكو ولا يَتَعَتَّب، ولا يتَذَمَّر، ولا يغْضَب، ودام على ذلك سنين طوالًا.
3- مِحْنة ومِنْحة
ولَمّا تمّ ما أرادَه اللهُ له مِن ابتِلاء، وما أراد به مِن تَكمِيل وتمحيصٍ، ورَفْع للدَّرَجات، والرّضا بالقَضاء والقَدَر، ألْهَمَه الدّعاءَ المستَجاب الذي تجلَّى فيه عَجْزه وبُؤسه، وأن لا مَلْجَأ مِن الله إلّا إليه، وأنّه القادر على كلّ شيّء، وعافاه الله في بَدَنِه وأهله، وردَّ عليه مالَه، وبارك له في كلّ ذلك، فكان أضعافًا مُضاعَفَةً، يقول الله تبارك وتعالى:﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾.
4- قصّة يونس وحكمتها
وتأتي قصّة يونس مقرونة بقصّة أيوب مُؤيِّدة لها في إثبات قدرة الله تعالى ولُطْفِه بعباده وإغاثته لهم حين ينقَطِع الرّجاء ويغشى اليأس القاتِل والظّلام الحالِك، وتَنْسَدّ جميع المنافِذ، فلا نورَ ولا هَواء، ولا أملَ ولا رَجاء، يدور رَحى الموت قويةً سريعةً تَطْحَن حبَّة الحياةَ ناعِمةً دقيقةً.
هنالك تظهر القدرة الإلهيّة القويّة القاهرة، الرّحيمة الحكيمة، فتُخرِج هذا الإنسانَ الضَّعيفَ مِن أشْداق الأَسَد الضّاري والموت الفاتِك، فيخرج سليمًا غير مخدوشٍ، كاملًا غير منقوصٍ، كأنّما كان على فراشِه في بيته، محفوظًا بين أهلِه.
الله أكبر، إنّها العناية الإلهيَّة !
5- يونس بين قومه
وهذه قصّة يونس:
بعثَه اللهُ إلى أهل قرية " نَيْنَوا " فدَعاهم إلى الله تعالى، فأبَوْا عليه، وتمادوا في كُفرهم، فخرج مِن بين أظهرهم مُغاضِبًا لهم، ووَعَدَهُم بالعَذاب بعد ثلاثٍ، فلمّا تحقَّقوا منه ذلك، وعَلِموا أنّ النّبيّ لا يَكذِب خَرَجوا إلى الصّحراء بأطفالهِم وأنعامِهم ومَواشِيهم، وفرّقوا بين الأمّهات وأولادها، ثم تضرّعوا إلى الله عزّ وجلّ، وجأروا إليه، ورَغَت الإبل وفُصْلانها، وخارَت البقر وأولادها، وثَغَت الغنَم وسِخالها؛ فرفَع اللهُ عنهم، قال الله تعالى:﴿فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾.
6- يونس في بطن الحوت
وأمّا يونس عليه السّلام فإنّه ذهب فركِب مع قومٍ في سفينةٍ، فجَنَحَت بهم، وخافوا أن يغرقوا، فاقْتَرعوا على رجلٍ يُلْقونَه مِن بينِهم يَتَخَفَّفون منه، فوَقَعَت القُرعة على يونس، فأبَوا أن يلقوه، ثمّ أعادوها، فوَقَعَت عليه أيضًا فأبَوا، ثمّ أعادوها فوَقَعَت عليه أيضًا، قال الله تعالى: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾، أي: فوقَعَت عليه القرعة، فقام يونس عليه السّلام وألقى نفسَه في البحر، وقد أرسل اللهُ سبحانه حوتًا يشُقّ البِحار حتّى جاء فالتَقَم يونس حين ألقى نفسَه مِن السّفينة، فأوحى اللهُ إلى ذلك الحوت أن لا تأكُل له لحمًا، ولا تهشِم له عظمًا؛ فإنّ يونس ليس لك رِزْقًا، وإنَّما بَطْنُكَ له يكون سِجْنًا.
7- واستجاب اللهُ دعاءه
كان يونس في ظلماتٍ ثلاث؛ ظُلمَة بَطْن الحوت، وظُلْمَة البحر، وظُلْمَة اللّيل، ظُلماتٌ بعضُها فوق بعض، فما أشدّ الظّلام ! وما أبعد السّلام ! ومَكَث ما شاء الله أن يمكث، ثمّ ألهَمَه اللهُ الكَلِمات التي تُبَدِّد الظُّلمات وتَكْشِف الكُربات وتَسْتَنْزِل الرَّحمات مِن فوق سَبْع سماوات، واسمَع القرآنَ يحكي هذه القصَّة الغريبة الفريدة التي فيها سلوى لكل بائِس ملهوف، ويائس مضطرب قد ضاقت عليه الأرض بما رحبت وضاقت عليه نفسه ورأى عيانًا أن لا ملجأ من الله إلّا إليه.
﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾.
قصّة زكريا عليه السلام
1- دعاء زكريا لولد صالح
ولونٌ آخَر مِن آلاء الله تعالى على عِباده وآياتِ قُدرَتِه التي أحاطَت بكلّ شيء تَجلَّى في دُعاءِ زكريا لِوَلَدٍ صالحٍ، رَضِيّ، بَرٍّ، تَقيٍّ، يَرِثه ويَرِث مِن آل يعقوب، ويقوم بالدَّعوة إلى الله، وذلك حين تقدَّمت به السِّنّ، ووَهَن منه العظم، ولجّ به الشَّيب، وانقَطَع الرَّجاء مِن أن تَلِد زَوْجُه، فأجابَ اللهُ تعالى دعاءَه وكذَّب ظُنون النّاس، وأبطَل التَّجارِب القديمة، فرَزَقه ولدًا راشدًا، بَكَّر به النّبوغ والحِكْمَة، والحِلْم والعِلْم، والكتاب في الصّغر، وخصّ بالحنان والصّلاح والتّقوى والبرّ بالوالدين، والرِّقّة ولِين الجانب وخَفْض الجناح، ورَبَط اللهُ على قلب زكريا، وأراه آياتٍ تدلّ على قدرة الله الواسِعة، وأنّه يفعل ما يشاء، ويخلق ما يشاء، وأراه تَصَرّفه في خَلْقِه وفي أعضاء جِسْمِه، يحرّك ما يشاء، ويُعطّل ما يشاء، وتحقَّق له أنّ الكون كلّه بيده، يخرج الحيّ مِن الميِّت، ويخرج الميِّت مِن الحيّ، ويرزق مَن يشاء بغير حساب.
2- نذر امرأة عمران
وقد نَذَرت امرأة عِمْران مِن أسرة النَّبيِّ زكريا - عليه السَّلام - وكانت امرأةً صالحةً تحبّ اللهَ وتحِبّ دِينَه - أنّها إذا وَلَدت ذكَرَا تَهَبه للهِ لخِدْمَة دِينِه، وسألت اللهَ أن يتقبَّل هذا الوَلَد ويَنْفَع به دينَه وعِبادَه، وأن يكون داعيًا إلى اللهِ تعالى وإمامًا مِن أئِمَّة الهدى والدّين.
3- قالت ربّ إني وَضَعْتها أنثى
وأرادت المرأةُ الصالحَة أمرًا وأراد اللهُ أمرًا، واللهُ أعلم بمصلحة عبادِه، فإذا هي تَلِد أنثى، فتَحْزَن لذلك وتَغْشاها الكآبة، ولكنّ الوليدة لم تكن ككلّ أنثى؛ بل كانت أقوى على العبادة، وأعلى همَّة في الطّاعات والخيرات مِن كثير مِن الفتيان، وإذا قدَّر الله - لحكمة يعلمها - أن تكون أنثى، والنُّبوَّة لا يضطلع بأعبائها إلّا الرِّجال، فقد قدَّر الله أن تكون أُمّا لنَبيٍّ صالح يكون له شأن:
﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾.
4- عناية الله بالفتاة الصّالحة
وكانت في كفالة نَبيِّ اللهِ زكريا لمكانَتِها منه، وفي رعاية الله تعالى، فكان الله يُكرِمُها بالأثمار والفواكه في غير أوانها وفي غير مَكانها، تأكل منها ما تشاء وتهب منها ما تشاء:
﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
5- إلهام مِن الرّب الرّحيم
وألهم الله زكريا، وهو نبيّ مِن الأنبياء، ومِن العقلاء الأذكياء أنّ مَن يَقْدِر على أن يُكْرِمَ فتاةً صالحةً بفواكه سابقة أو مُتأخِّرة عن أوانها يَقْدِر أن يَهَب شيخًا قد طَعَن في السِّنّ وعَلاه الشَّيْب وأثَّر فيه الوَهَن ولدًا قد انْقَطَع منه الرّجاء؛ لِعُلُوّ السِّنّ، وعُقْر الزَّوْج، وجَرَت العادة أن لا يُولَد لرجُلٍ في هذه الحال.
فجاشَت نفسُه، وعَلَت همَّتُه، وانتَعَش الأمَل، وقوِيَت الثِّقة بالرَّبّ، فَفاض لِسانُه بدعاء أمَّنَت عليه الملائكة وتحركَت به رحمة الله، وكان كلّه إلهامًا مِن الرَّب الرَّحيم، وتقديرًا مِن العزيز العليم:
﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾.
6- بِشارَة الولد
وأجابَ اللهُ تعالى دعاءَه، وتوَجَّهَت إليه البِشارَة بولدٍ صالحٍ قَرُبَ زَمان وِلادَتِه.
وخُلِق الإنسانُ مِن عَجَل، فطَلب أمارةً على إمكان هذا الحَدَث الكبير وقُرْب ظهوره، فقال:﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ﴾.
7- آيات الله وقدرته
وظهَرت آياتُ اللهِ وقُدرَته في جسمِه، ثمّ في بيته وأسرته، وَوُلِد يحيى، فقَرَّت به عينه، واشتدّ به أزْرُه، وعاشَت به دعوَته.
واسمَعوا القرآنَ يحكِي هذه القصَّة تارةً في إيجازٍ، وطورًا في تفصيلٍ، فيقول: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾.
8- يحيى يضْطَلِع بأعْباء الدَّعوة
ويُولَد يحيى فيكون قرّة عين لأبويه، ويَضْطَلِع بأعباء الدَّعوة إلى الله تعالى والدّين الخالِص، وتَظْهَر فيه آثار النّجابَة منذ الصِّغر، فيُقبِل على العِلْم بشَغَفٍ، ويتَحلَّى بالصَّلاح والتَّقوى وهو شابّ، ويمتاز عن أقرانه في الحبّ والحنان، وفي بِرِّه بوالدَيه يُشار إليه بالبَنان، يقول الله تعالى مُخاطِبًا له:﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا، وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا، وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾.
قصّة النَّبيِّ عيسى عليه الصّلاة والسّلام
1- قصّة خارقة للعادة
ويجِيء دَوْر عيسى، وهو آخِر الرُّسل قبل نبيّنا محمَّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهي قصّة تجلَّت فيها إرادة الله القاهِرة، وقدرته المطلقة، وحكمة الله الدّقيقة، فأمره كلّه خارق للعادة، بدءًا بولادته؛ حيث كانت خارقةً للعادَة، ونُسِخَت فيها قَوانين الطّبيعة، وشّقّ الإيمان بها والتّصديق لها على مَن آمَن بالقَوانِين الطّبيعيَّة كإلهٍ لا يزولُ ولا يحولُ، وآمَن بالتَّجربة والمشاهدَة وبِأحكام الطِّبّ والطَّبِيعة كَناموسٍ لا يتَغيَّر ولا يَتَبَدَّل، وجَهِل قدرَةَ اللهِ تعالى التي أحاطَت بكلّ شيءٍ، وغَلَبَت على كلّ أمرٍ، وإرادته التي لا يحول دونها شيء:﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.
وهان الإيمانُ على مَن آمَن بالله كإله قادرٍ مُريد، خالقٍ صانعٍ مجيد، ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.
وآمَن بخلق آدم مِن ماء وطين، ومِن غير أمّ وأبٍ، ووِلادةٌ مِن أمّ مِن غير أبٍ أهون وأيسر للتّصديق مِن غير أم وأبّ؛ لذلك يقول الله تعالى:﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.
2- أمر كلّه عَجَب
وأمر النَّبيِّ عيسى كلّه عَجَب، وقد كانت وِلادَته في عصر بلَغَت فيه " يونان " أوجّها في العلوم العقليّة والرّياضيّة، وكانت للطّبّ دولةٌ وصَولَةٌ.
3 – خضوع اليهود للأسباب الظّاهرة
وخَضَع اليهود - وهم أُمَّة كثر فيها الأنبياء - للعلوم السّائدة في عصرهم، واشتَهر فيهم إنكار الرّوح وما يتّصل بها، واعتادوا أن يُفسِّروا كلّ ما يرونه تفسيرًا ماديًّا، فلا وُجود لِشيءٍ عندهم ولا إمكان لحادِثٍ إلّا بالسَّبب والعِلَّة، فكانت المعجزات التي أكرم الله بها عيسى علاجًا للعقل المادّيّ الضّيّق، وحاجَة العصر، ونداء الزّمان.
وأمْعَن اليهود في الوُقوف عند الظّاهر والتَّمسُّك بالقُشور دون اللّباب، والتّشبّث بالمظاهر دون الحقيقة، وغلوا في تَقْدِيس العُنْصُر، والدَّم، وفي حُبّ المال والمادّة، وانهمَكوا في الحياة انهِماكًا زائدًا، وقَسَت قلوبهم، وجَفَت طَبائِعهم، وعامَلوا مَن لا يجرِي في عُروقه الدَّم الإسرائيليّ مُعامَلة الحيوانات التي لا قيمة لها، أو الجمادات التي لا روح فيها، وخضعوا للأقوياء الأغنياء، وتَجَبَّروا على الضُّعفاء الفقراء، وقَسَوا عند القُدرَة، ولانوا عند العَجْز، قد ولَّدت فيهم حياةُ الذُّلّ والعُبوديّة التي عاشوها في الحكم الرّومانيّ الذي دام مدّة طويلة في سوريا وفلسطين: النِّفاق والخنوع، والتَّحيُّل والدَّهاء، واللّجوء إلى المؤامرة والسّرِّيَّة.
4- استخفاف اليهود
كما ولَّدَ فيهِم الاستِخفافُ بالأنبياء والاجتراءُ عليهم - حتَّى بالقتل - والتّعاملُ بالرّبا، والعَبَثُ بالتَّعاليم الدّينيّة: الغِلْظَةَ والجَفافَ، وتجرَّدَت قلوبُ كثيرٍ منهم مِن حُبّ الله الخالص، والرّحمة على الإنسان - مهما كان أصله وفصله - وكادوا ينسون مَعاني المؤاساة والمساواة والبرّ والكرم.
ومع كونهم كانوا يؤمنون بالنُّبوءات والرِّسالات - وقد كَثُرت فيهم الأنبياء، وزُخرِفَت صُحفُهُم بأخبارِهم - إلّا أنّهم قد أصبَحوا في الزّمن الأخير لا يؤمنون إلّا بما وافَق هَواهُم، وأيَّدهُم في سيرتهم وأخلاقِهم، أمّا مَن انتَقدَهُم وحاسَبَهم ودَعاهُم إلى الدّين الصّحيح والحَقّ الصّريح؛ عادوه وحارَبوه.
وكانت عندهم جَراءَة على البُهْت والافتِراء، وكِتْمان الحقّ، وشهادَة الزّور، فجمَعوا عند ذلك كلّ أنواع الشّرور وصنوف الجهل والغُرور.
5- نعمة الله على بني إسرائيل
وكانوا أمَّة تمتاز عن الأُمَم المعاصِرة لهم بعقيدة التَّوحيد، وذلك سِرّ تَفْضِليهم على غيرهم حينَئذٍ، وقد قال الله تعالى:﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾.
6- نُكْران الجميل
ولكن تَسرَّبت إليهم بحُكم الاختِلاط ومُجاوَرَة الشُّعوب المشركة الوثنِيَّة، وبِطول العَهْد بِتَعاليم الأنبياء عَقائد زائِفَة وعادات جاهليَّة، وقد عبدوا العِجْل في مصر، وبالغوا في تقديس عُزَيْر وتَعظِيمه، حتَّى تخَطّوا به حدود البشريَّة، وبَلَغَت بهم الوَقاحَة إلى أن نَسَبوا بعض أعمال الشِّرك والوثنيَّة، وأعمال السِّحر والكفر والأفعال الشَّنيعة إلى بعض الأنبياء، ولم يتَّقوا اللهَ فيهم.
7- زَهْو وإدْلال
وكانوا رغم كلّ ذلك شَدِيدِيّ الإدْلال بالنَّسب، كَثِيريّ الاعتِماد على الأمانيّ والأحلام يقولون:﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾، ويقولون:﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾.
8- ولادة المسيح تتَحدّى المحسوس المعروف
وكانت وِلادة المسِيح وحياتُه ودعوتُه ومَعِيشَتُه تحَدِّيًا لكلّ ذلك، تحديًّا للمَحسوس المقدَّر، وللأعْراف الشّائعة، والعادات المتَّبَعة، والقَوانين المرسومة، والمثُل العُليا التي يُؤمِن بها اليهود، والغايات التي يَتَنافسون فيها، ويتقاتلون عليها، فَوُلِد مِن طريقة غير مَألوفةٍ، وكلَّم النّاس في المهد، ونَشأ في أحضان أمٍّ فقيرة مُتَبَتِّلةٍ، وعاش في جَوٍّ مَلِيءٍ بالطَّعْن والقَدْح، بَعِيدٍ عن مَظاهر العَظَمَة والغِنى، يجالِس الفقراء ويُؤاكِلُهم، ويحنو عليهم ويُواسِيهم، ولا يُفرِّق بين فقيرٍ وغنيٍّ، وحاكِمٍ ومحكومٍ، وشريفٍ ووَضِيعٍ.
9- مُعجزات المسيح
أكرمَه اللهُ عيسى عليه السّلام بالنّبوَّة والوحي، وآتاه الإنجيل، وأيَّده بروح القُدس، والمعجزات الباهرة؛ فيَشْفِي اللهُ به المرضى الذين عَجَز عن مداواتهم الأطّباء، ويُبْرِئ الأكْمَه والأَبْرَص، ويحيي الموتى بإذن الله، ويخلُق للنّاس مِن الطِّين كهَيْئَة الطَّير، فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، ويُنَبِّئ بما يأكلُه النّاسُ ويدَّخِرونه في بيوتهم.
فيُعِيد بكلّ ذلك الثِّقَة بما جاء في التّوراة مِن خَبَر مُعْجِزات الرُّسل، وأخبار القُدرَة الإلهيّة، ويجدِّد الإيمان بها، ويُكَذّب العِبادَة للحِسّ والتّجربة، فقام الذين ينكرون سِعَة القدرة الإلهيّة وقوّة الإرادة الرَّبّانيّة وقَرَّروا أن لا جَدِيدَ وأن لا مَزِيدَ فيما عَلِمُوه وشاهَدوه.
10- دعوته إلى الدّين وتكذيبه اليهود
وكذَّبَ اليهودَ في كثيرٍ ممّا تخيَّلوه وغَلَوْا فيه، حيث حرَّموا ما أحلّ الله، وأحلّوا ما حرَّمه الله، فقام يدعوهم إلى روح الدِّين ولُبابِه، وأصلِه وحَقيقَتِه، وهو الدّعوة إلى التَّوحيد الخالص، ورَفْض كلّ ما دَخَل على دِين الأنبياء مِن عادات جاهليّة وعَقائد باطلة.
11- اليهود ينصبون له الحرب
وشقّ كلّ ذلك على اليهود، ونصبوا له الحربَ، ورَمَوْه عن قوسٍ واحِدةٍ، ورَشَقوه بالتُّهَم والقَذائِف، وتَناوَلوه بالسَّبّ القَبِيح والقول البَذِيء، وتناولوا أُمَّه مَريم البَتول بالقَذف والطَّعْن، وعاكسوه وطاردوه، وحرّضوا عليه الأوباش، وسدّوا في وَجْهِه الطّرق.
12- قصّة عيسى في القرآن
ثم أرادوا قتلَه والتَّخَلُص منه، فحَماه اللهُ وردَّ كَيْدَهُم عليهم، ورَفَعَه إليه وكرَّمه، واقرؤوا قصَّته في القرآن:
﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ، رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ، وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ، إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾.
13- سيرته ودعوته في القرآن
واقرؤوا وَصْفه تعالى لسِيرته ودعوته، في قوله:
﴿قَالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ، وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾.
14- صراع قديم
ووَقَع لِنبيِّ الله تعالى عيسى ما وَقَع للأنبياء قَبْلَه، فابْتَعَد عنه الرُّؤساء والزُّعَماء، وهَجَرَه الأغْنِياء والأقوياء، ورأوا في الإيمان به واتّباعه غَضاضَة وعيبًا، وشَقَّ عليهِم التَّنازُل عمّا كانوا عليه مِن رِياسَةٍ وزَعامَةٍ وامْتِيازٍ وسِيادَةٍ، وصَدَق قولُ الله تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾.
ولقد أخطؤوا في ذلك وخاب رَجاؤُهُم، بل إنَّما فُعِل بهم ذلك اسْتِدْراجًا وإِنْظارًا وإملاءً.
15- إيمان عامّة النّاس وفقرائهم
ولَمّا يَئِس عيسى منهم؛ لِما شاهَده فيهم مِن العِناد والكفر، ورأى أنّهم قد جَحَدوا بما جاء به مِن آياتٍ بيِّناتٍ ومُعجِزات باهِراتٍ لا لشيءٍ إلّا لأنّه لم يكن صاحب حَوْلٍ وطَوْلٍ، عند ذلك أقبل على عامَّة النّاس وفقرائهم، وقد لانَت قلوبهم، وصَفَت نُفوسُهم؛ لأنهم يأكلون بِكَدّ يمينِهم وعَرَق جَبِينِهِم، فلا يَتَفاخَرون بِنَسَب، ولا يتَطاولون بجاهٍ ومَنْصِبٍ، فآمَنَت منهم طائفةٌ، فيها القَصّارون، وفيها صيّادو الأسماك، وفيها أهل الحِرَف والـمِهَن.
16- نحن أنصار الله
فآمَنوا بالمسيح والتَفُّوا حولَه ووَضَعوا أيدِيهم في يدِه.
يقول الله تعالى:﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ، رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾.
17- سياحة ودعوة
وكان عيسى عليه السلام يقضي أكثر أوقاته في السِّياحة، والانتِقال مِن مكانٍ إلى مكانٍ، يدعو بني إسرائيل إلى الله ويهدي ضَّالَّهم إلى ربِّه وخالِقه، ويتَّفِق له في هذه الجولات والرَّحَلات اليُسْر والعُسْر، والضِّيق والرَّخاء، ويتَحَمَّل ذلك صابرًا، ويقبل هذا شاكرًا، ويصبِر على بالجوع، ويجتزئ بما يَسُدّ الرَّمَق.
18- الحواريّون يطلبون مائدة مِن السّماء
أمّا الحوارِيّون فلم يكونوا بمنزلَتِه مِن الصَّبر والجلد والتَّقَشّف والزّهادة، وأصابهم شيءٌ مِن ذلك، فطلبوا مِن عيسى أن يسأل اللهَ أن يُنَزِّل لهم مائدةً مِن السَّماء يأكلون منها ويَشْبَعون بعد جوعٍ، ويَنْعَمون بعد عَناءٍ.
19- سوء أدب
ولم يكونوا مُتأدِّبِين في سؤالهم،﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنزلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾.
ولم يُعْجِب عيسى سؤالَهم، وكرِه الأسلوبَ الذي خاطبوه به، ذلك أنّ الأنبياء جميعًا يًطالِبون أممَهُم بالإيمان بالغَيْب، وليست المعجِزات مخارِيق يُسَلَّى بها الأطفال، ويَلْهى بها الأغْمار، إنّما هي آياتٌ مِن الله يُظْهِرها على أيدي أنبيائه حين يشاء، وتقوم بها حجَّة الله على العباد، فلا يُـمْهَلون بعد ظهورِها وإنكارِها.
20- تحذير قومِه مِن سوء العاقبة
لذلك خاف عيسى عليهم، وحذَّرهم مِن سوء العاقبة، ونهاهم عن امتِحان الله تعالى، فهو أعلى وأجلّ مِن ذلك.
21- إلحاح وإصرار
ولكنّ الحوارِيِّين تَشَبَّثوا بسؤالهم، وذكَروا أنهم جادّون في هذا السّؤال، لا يقصدون امتحانًا إنّما يريدون اطْمِئنانًا، وليكون ذلك ذِكْرى وقصَّة تُحْكى على طول الأزمان، وتُروَى على مَرِّ الأيام، فتكون دليلًا على صِدْق هذا الدِّين ومنزلة المؤمنين الأوَّلِين والحوارِيِّين الصّادِقين.
22- القرآن يحكي القصّة
ودعوا القرآنَ يحكِي هذه القصَّة:﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ، قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ، قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾.
23- اليهود يحاولون التَّخلّص مِن النَّبيِّ عيسى
ونَفَد صَبْر اليهود، وفاضَت كأس عَدائِهم وعِنادِهم، فأرادوا التَّخَلّص مِن عيسى، حيث سَعَوْا إلى مَلِك دِمَشْقَ في ذلك الزَّمانِ - وكان رَجُلًا مُشْرِكًا مِن عَبَدَةِ الكَواكِبِ، وكان يُقال لِأهْلِ مِلَّتِهِ: اليُونانُ- ورَفَعوا إليه: أنَّ بِبَيْت المَقْدِسِ رَجُلًا يَفْتِنُ النَّاس ويُضِلُّهُم ويُفْسِدُ على المَلِكِ رَعاياهُ. فغَضِب المَلِكُ مِن هذا، وكَتَبَ إلى نائِبِهِ بِالقُدْسِ أَن يَحْتاط على هذا المَذْكُورِ، وأنْ يَصْلُبَهُ ويَضَعَ الشَّوْكَ على رَأْسِهِ، ويَكُفَّ أذاهُ على النَّاسِ. فلَمّا وَصَلَ الكِتابُ امْتَثَلَ مُتَولِّي بَيْتِ المَقْدِسِ ذلك، وذَهَبَ هو وطائِفَةٌ مِن اليَهودِ إلى المَنْزِلِ الذي فيه عيسى عليه السَّلام وهو في جَماعَةٍ مِن أصْحابِهِ، اثْنا عَشَرَ أو ثَلاثَةَ عَشَرَ - وقيل: سَبْعَةَ عَشَرَ نَفَرًا- وكان ذلك يَوْمَ الجمُعَة بعد العَصْرِ لَيْلَةَ السَّبْت، فَحَصَروهُ هنالك. فلمّا أحَسَّ بِهِم وأنَّهُ لا مَحالَةَ مِن دُخولِهِم عليه، أو خُروجِهِ عَلَيْهِم قال لِأصْحابِهِ: أيّكُم يُلْقَى عليه شَبَهِي، وهو رَفِيقِي في الجنَّةِ؟ فانتَدَب لذلك شابٌّ مِنْهُم، فكأَنَّه اسْتَصْغَرَهُ عن ذلك، فأعادَها ثانِيَةً وثالِثَةً، وكُلُّ ذلك لا يَنْتَدبُ إلّا ذلك الشَّابُّ - فَقال: أنْتَ هو - وأَلْقَى اللهُ عليه شبَهَ عِيسى، حتَّى كأنَّه هو، وفُتِحَت رَوْزَنَةٌ - أي: فُتحَةٌ - مِن سَقْف البَيْت، وأَخَذَت عيسى عليه السَّلامُ سِنةٌ مِن النَّوْمِ، فَرُفِعَ إلى السَّماءِ وهو كذلك، كما قال الله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 55].
فلَمَّا رُفِعَ خَرَجَ أُولَئِكَ النَّفَرُ فلمّا رَأَى أُولَئِكَ ذلك الشَّابَ ظَنُّوا أنَّه عيسى، فأَخَذُوه في اللَّيْلِ وصَلَبُوهُ، ووَضَعوا الشَّوْكَ على رَأْسِهِ، فأَظْهَرَ اليَهودُ أنَّهُم سَعَوْا في صَلْبِهِ وتَبَجَّحُوا بذلك، وسَلَّمَ لَهُم طَوائِفُ مِن النَّصارى ذلك لِجَهْلِهِم وقِلَّةِ عَقْلِهِم، ما عَدا مَن كان في البَيْتِ مع المَسِيحِ، فإنَّهُم شاهَدُوا رَفْعَهُ، وأمّا الباقونَ فإنَّهُم ظَنُّوا كما ظَنَّ اليَهودُ أنَّ المَصْلُوبَ هو المَسِيحُ.
24- القرآن يتحدّث عن القصّة
وذلك قوله تعالى وهو يتَحدَّث عن اليهود:
﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا، وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾.
وهو في السّماء كما يريده الله تعالى، وهو القادر على كلّ شيء، وقد كانت ولادته عجبًا، وحياته، وأمره...، مِن أولّه إلى آخره عجبٌ خارقٌ للعادة مُثْبِتٌ للقدرة الإلهيّة المطلَقة.
25 – نزول عيسى عليه السلام
وسينزل عيسى مِن السَّماء حين يريده الله، ويُقيم الحجّة على مَن فرّطوا فيه وأفرطوا من اليهود والنّصارى، وينصر الحقّ، ويَكبِت أهل الباطل، كما أخبر به نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، ووردت به الأخبار الصّحيحة، والأحاديث المتواترة، واعتقده المسلمون في كلّ عصر، وصدق الله العظيم:
﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾.
26 – بشارته ببعثة نبيِّنا محمد ( صلّى الله عليه وسلّم )
ولم يُكمِل المسيح عليه السلام مُهِمَّتَه في الدّعوة؛ لشدّة محارَبَة اليهود وكيدِهم له، وضَعْفِه وقِلَّة أنصاره، فودَّع النّاس، وامتثل أمر ربّه، وبشّر النّاس برسولٍ يأتي مِن بعده يُكمِّل ما بدأه، ويُعمّم ما خصَّصه، وبه تتَمّ نِعْمَة الله على عباده، وتقوم حجّته على خلقه:﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾.
27- من التّوحيد الخالص إلى عقيدة غامضة
وِمن غرائب تاريخ الأديان، وممّا تدمع له العيون، وتذوب له القلوب، أنّه تحوّلت دعوة المسيح إلى التّوحيد الخالص والدّين السّهل السّائغ البعيد عن كلّ غموضٍ وتعقيد وتحريفٍ وتأويلٍ بعيد، والدّعوة إلى عبادة الله وحدَه، والسّؤال منه، والالتِجاء إليه، وحبّه الخالص إلى عقيدة غامضة، وفلسفة مُعقَّدة، فغلا فيه أتباعه، وأطروه إطراءً خرج به مِن حدود البشريّة إلى حدود الألوهيّة، فقالوا: ﴿الـمَسِيحُ ابْنُ اللهِ﴾، وقالوا:﴿اتّخَذَ اللهُ وَلَدًا﴾، وقالوا:﴿إِنَّ اللهَ هُوَ الـمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾، وجَعلوا مِن الإله الواحد الصَّمَد الذي لم يلِد ولم يُولَد أسرةً مؤلَّفةً مِن ثلاثة أعضاء، كلّهم إله، فقالوا: الأب والابن وروح القدس، واعتقدوا في مريم: أمّ المسيح، وعاملوها بما يبلغ إلى درجة التّقديس والعبادة، فقالوا:" أمّ الله "، وشاعت لها تماثيل وصور في الكنائس، يخضع لها النّصارى باللّجوء والدّعاء والنّذر والانحناء، وقد قال الله تعالى منكرًا ما اعتقدوه، مستبشِعًا ما فعلوه:﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
28 – عيسى يدعو إلى عبادة الله وحده
وقد دَعا كغيره مِن الأنبياء إلى عبادة الله وحدَه، فجاء مِن قوله في الإنجيل:" مكتوبٌ للرَّبّ إلهك تسجد، وله وحدَه تعبد " (متّى 4 : 10)، وقوله:" مكتوب للّربّ إلهك تسجد وله وحدّه تعبد " (لوق 4: 8)، وقد قال الله تعالى:﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
29 – القرآن يُصرّح بدعوة عيسى
وقد نقل القرآن - وهو الكتاب المصدِّق لِما بين يديه والمهَيْمِن عليه - مِن إعلان عيسى بالتَّوحيد الخالص والدّعوة إليه، في أسلوب صريحٍ واضحٍ لا مَزيد عليه:﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾.
30 – منزلة التّوحيد في دعوته
وقال في أسلوبٍ جميلٍ بليغٍ يتذوّقه كلّ مَن عرف منزلة التّوحيد وسيرة الأنبياء والمرسلين، وما طُبِعوا عليه مِن معرفة الله تعالى والخضوع له، والرّهبة منه: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾.
31 – مشهدٌ رائعٌ من مشاهد القيامة
وقد صوّر القرآن في بلاغته وإعجازه مَشهدًا مِن مشاهد القيامة الرّائعة يتبرّأ فيه عيسى عمّا تقوله النّاس فيه، وعاملوه به، ويوضِّح دعوتَه في قوّةٍ وصِدْقٍ، ويُدِين في هذه القضيّة الغُلاة مِن أمّته، وأنّهم هم المسؤولون وحدَهم عن هذه الجريمة، اقرؤوا القرآن، واسْتَشْعِروا جَلال الموقِف ورَوْعَة المشْهَد:﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
32 – من عقيدة غامضة إلى وثنيّة كافرة
وانتقل دُعاة النّصرانيّة إلى أوربا بدافع مِن عندهم؛ (لأنّ المسِيح لم يأمرهم بذلك، وقد صرَّح بأنه أرسِل لخِراف إسرائيل الضّالَّة) وقد شاعت فيها الوثنيّة السّافرة مِن زمان، وغاصَت فيها إلى الأذقان، فكان اليونان وَثَنِيِّين، وقد تَصَوَّروا صفات الله في شَكْل آلهةٍ شَتَّى، نحتُوا لها تماثيل، وبَنَوا لها مَعابِد وهَياكل، فللرّزق إله، وللرّحمة إله، وللقَهْر إله، وكانت رومية عريقة في الوثنيّة والتّمسّك بالخرافات، وقد امتَزَجَت الوثنيّة بِلَحْمِها ودَمِها، وجَرَت منها مجرى الرّوح والّدم، وكان الرّومان يعبدون آلهةً شتّى، فلمّا وصلت إليهم النّصرانيّة، وتنصّر قسطنطين الكبير سنة 306م، واحتَضَن الدّين الجديد، وتبنّاه وجعله دين الدّولة الرَّسميّ، بدأت النَّصرانيّة تأخذ الشّيء الكثير من العقائد الوثنيّة والتّقاليد الرّوميّة والفلسفة اليونانيّة، وتدنو إليها رويدًا رويدًا، وصارت تَفْقِد أصالَتَها النَّبويّة، وحماستَها التّوحيديّة، ودخل فيها بعض المنافقين، فَطعَّموها بعقائدهم القديمة، وذوقهم الوثنيّ، ونشأ مِن ذلك دينٌ جديدٌ، تتجلّى فيه النّصرانيّة والوثنيّة سواءً بسواءٍ.
وكذلك سارت النّصرانيّة الزّاحفة الفاتحة على دربٍ غير الدَّرب الذي سلك المسيح بها عليه، ودعا إليه، وكانت كسالكِ طريقٍ يَضِلّ عن الطّريق - عن قصدٍ أو عن غير قصدٍ - في ظلامِ اللّيلِ، فيُواصِل سيرَه على طريقٍ لا يلتَقي بالطَّريق الأوّل إلى الأخير.
ولهذه الحكمة الدّقيقة التي لا يعرفها إلّا مَن قرأ تاريخ هذه الدّيانة، وصفَهم اللهُ بالضَّلال حين وصَف اليهود بالمغضوبيّة، فقال على لسان المسلمين:﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾.
وكانت في ذلك مأساة لأوربا، ومأساة للإنسانيّة التي قادتها أوربا زمنًا طويلًا، ولا تزال مُسيطِرةً عليها ومُتحكِّمةً فيها، و﴿لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾.
أَحْوال العَرَبِ قَبْلَ الإْسلامِ
العَرَبُ شَعْبٌ قَدِيمٌ، عاشَ في الجزيرة العربِيَّة التي تمتَدّ مِن الشّام إلى العِراق شمالًا، إلى بحرِ العَرَبِ جَنوبًا، ومِن الخليج العَربيِّ شَرْقًا إلى البَحْرِ الأحمر غَرْبًا، وهي تَضُمّ أهَمّ المدُن الإسلاميَّة: مكَّة المكرَّمة والمدينة النبويَّة.
وكان العَرَبُ قَدِيماً يَعْبُدونَ اللهَ تعالى على مِلَّةِ أبيهم إبراهِيمَ عليه السَّلام، وقد سُمّوا بالحُنَفاء، إلّا أَنَّهم مع مُرورِ الزَّمَنِ واندِراس العِلم بَدَأَ بَعْضُهم يَبْتَعِد عن هذه المِلَّةِ الحَنِيفيَّة السَّمحة ويَعبُد الأصْنامَ والأوْثانَ، مُقَلِّدِين في ذلك بعضَ الأُمَمِ والشُّعوبِ المجاوَرَةِ، والتي قد انحرَفَت عن عقيدة التّوحيد، وقد أَقامَت بعضُ القَبائِلِ أَصْناماً لها حَوْلَ الكَعْبَةِ أكبَرُها (هُبَل)، وهو صَنَمُ قُرَيْش.
وقد اتَّخَذَ بعضُ العَرَبِ مِن عِبادَةِ الأَوْثانِ والأَصْنامِ وَسِيلَة يتَقَرَّبون بها إلى اللهِ، وانهمكوا في الشِّرك حتَّى اتّخذوا مِن دون الله آلهةً، وانغمست الأمّة في الوثنية وعباد الأصنام بأبشع أشكالها، فكان لكل قبيلة أو ناحية صنمٌ خاصٌّ؛ حتى جوف الكعبة الذي بناه إبراهيم عليه السلام لعبادة الله وحده جعلوا في فنائها ثلاث مئة وستين صنمًا.
وإذا سألت عن اليهوديَّة ذلك الوقت فقد أصبحت مجموعةً مِن الطّقوس، أي: النُّظُم والطُّرُق الدِّينِيَّة التي لا روح فيها ولا حياة، وهي بِصَرْف النَّظر عن ذلك، فهي دِيانةٌ سُلاليَّةٌ لا رِسالِيَّة، فلا تحمِل للعالم رسالةً، ولا للأمم دعوةً، ولا للإنسانيَّة رحمةً.
وأمّا المسِيحيَّة فقد امتُحِنَت بِتَحريف الغالين، وتأويل الجاهلين منذ عَصْرِها الأوّل، وأصبَح كلّ ذلك ركامًا دُفِنَت تحتَه تعالِيم المسيح السَّمحة، واخْتَفى نور التّوحيد وراء هذه السُّحب، وانطمست مَعالمه خلف هذه الحُجُب.
وأمّا المجوس فقد عكفوا على عبادة النّار، يَعبُدونها ويَبْنون لها هَياكِل ومَعابِد، وكانوا خارج أسوار معابدهم أحرارًا، لا أخلاقَ ولا أعمال، ولا دِين لهم ولا خَلاق.
وأمّا البوذِيّة المنتشرة في الهند وآسيا الوسطى فقد تحوَّلت إلى وثنيَّة تحمل معا الأصنام حيث سارت وتنصب تماثيل بوذا حيث نزلت.
أَحْوالُ العَرَبِ الاجْتِماعِيَّةِ، وأخلاقُهُم قَبْلَ الإسلامِ
والعرب وإن كانوا قد عُرِفوا بالشَّجاعة والكرم، وبِالغيرة والوَفاء بالعهد، إلّا أنّ جانِبَهم الآخَر كان سيئًا، فقد أُولِعوا بالخمر والقِمار، وبلغت بهم القساوة إلى وَأْد (الوَأْد: دَفْن البِنْت في التُّراب حيَّةً) البنات وهنّ أحياء، وسقَطَت مَنزِلة المرأة حتّى صارَت تُورَث كما يُورَث المتاع، وشاعَت فيهم الغارَة، وقطع الطّريق، وأُغرِموا بالحرْب، وهانت عليهم إراقة الدِّماء وسَفْكُها...
وبالجُملة فقد كانت الإنسانيَّة في عصر البِعْثة في طريق الانتِحار، ونسي الإنسانُ خالِقَه، وفَقَد رُشدَه وعقلَه، وصار لا يميِّز بين حَسَنٍ وقبيحٍ، وبين خيرٍ وشرٍّ.
سِيرَة النَّبيّ محمَّد قَبْلَ البِعْثَةِ
اختار اللهُ العَرَبَ لِيَتلَّقوا دعوةَ الإسلام، ثمّ يُبَلِّغوها إلى الأصقاع وسائر الأقطار؛ لأنّ ألواحَ قلوبهم كانت صافيةً، لم تُكتَب عليها إلّا كتابات بسيطة خَطَّتها يد الجهل والبداوة، ومِن السَّهل الميسور محوها وغسلها ورسم نقوش جديدة مكانها، عكس ما كانت عليه الروم وفارس وأهل الهند الذين كانوا يتكبَّرون بعلومهم وآدابهم ومدنياتهم الزاهية الزّائفة.
نعم إنّ العرب كانوا على الفطرة إذا صعب عليهم فهم الحق حاربوه، وإذا انكشف الغطاء عن عيونهم أحبوه واحتَضَنوه، وبذَلوا النَّفْس والنَّفيس في نُصرته، واسْتَماتوا في سبيله.
وفي جزيرة العرب وفي مكَّة المكرَّمة كانت الكعبة المشرَّفة أوّل بيتٍ وُضِع للنّاس مُباركًا وهدى للعالمين، بناه إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السَّلام.
بَقِيَت قريش في مكَّة مُتمسِّكةً بدِين إبراهيم الخليل الدّاعي إلى دين التَّوحيد، حتّى نشأ فيهم عَمْرو بن لُحَيّ، فكان أوّل مَن غيَّر دِين إسماعيل، فنَصَب الأوثان، وأحدَث ما لم يأذَن به الله تعالى مِن التَّحليل والتّحريم، وكان قد خرج مِن مكَّة إلى الشّام فرأى أهلها يعبدون الأصنام، فَفُتِن بها، وجلب بعضها إلى مكَّة، فَنَصَبها وأمرَ النّاسَ بِعبادتها وتعظيمِها.
وتدرَّج بعضهم مِن تعظِيم حِجارَة الحرَم التي كانوا يحمِلونها معهم إذا رحلوا مِن مكَّة تعظيمًا للحرَم ومحافظةً على ذِكراه إلى أن صاروا يعبدون ما اسْتَحْسَنوا مِن الحِجارة وأعجبهم.
حادِثة الفِيل
وقَع حادِثٌ عظيمٌ كان دليلًا على ظُهور حادِث أكبر، وعلى أنّ اللهَ يريد بالعرب خيرًا، وأنّ للكعبة شأنًا ليس لغيرها مِن بيوت الدّنيا.
وكان مِن خَبَرِه أن أَبْرَهَة الحبَشِيّ بنى بِصنعاء كنيسةً عظيمة سمّاها " القُلُّيس"، وأراد أن يَصْرِف إليها حجَّ العَرَب، وغار من الكعبة أن تكون مَثابةً للنّاس يَشدّون إليها الرّحال، ويأتون مِن كلّ فجٍّ عميقٍ، وأراد أن يكون هذا المكان لِكَنِيسَتِه.
وعزّ ذلك على العرب الذين رضَعوا بِلِبان حُبَّ الكعبة وتَعْظِيمها لا يَعْدِلون بها بيتًا، ولا يَرَوْن عنها بَدِيلًا، فخرج كِنانيّ ودخل الكنيسة وأحدَث فيها، فغَضِب عند ذلك أبرهة، وحَلَف لَيَسِيرنّ إلى البيت حتّى يهدمه، ثمّ سار وخرج معه الفيل، وتَسامَعَت به العرب، وأرادوا كفَّه عن ذلك ومحاربته، فرأوا أن لا طاقة لهم بأبرهة وجنوده، فوكَّلوا الأمر إلى الله تعالى، وكانوا على ثقةٍ بأن للبيت ربًّا يحمِيه.
وقد قصَّ اللهُ علينا قِصَّتَه في سورة الفيل، وكيف أنَّ اللهَ حَمَى بيتَه، وكبَتَ عَدُوَّه، وأرسل الطَّير الأبابيل على جند أبرهة، مع كلّ طائر منها حجارة مِن سِجِّيل - طين في حجارة صلبة شديدة - لا تُصِيب أحدًا منهم إلّا هلك.
فلما ردّ اللهُ الحبَشَةَ مِن مكّة أعظَمَت العربُ قريشًا، وقالوا: هم أهلُ الله، قاتَل اللهُ عنهم وكفاهم العدوّ.
استعظم العرب هذا الحادث وأرَّخوا به، وهو يوافق عام 570 للميلاد.
عبد الله وآمنة
كان لعبد المطَّلب - سيِّد قريش - عشرة أبناء، وعبد الله واسطة العقد، وزوَّجه أبوه آمنة بنت وهب سيِّد بني زهرة، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نَسبًا ومَوْضِعًا.
ولم يَلْبَث أن مات عبدُ الله، وأمّ رسولِ الله حاملٌ به، وقد رأت مِن الآثار والآيات ما يدلّ على أنّ ابنَها سيكون له شأن.
ولد رسول الله عام الفيل، وهو محمَّد بن عبد الله بن عبد المطَّلِب بن هاشم بن عبد مناف، وينتهي نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السَّلام.
ولَمّا وضعته أمّه أرسلت به إلى جدَّه، وسمّاه محمّدًا، والْتَمَس له مُرضِعةً مِن البادية على عادة العرب، فكان مِن نَصِيب حَلِيمَةَ السَّعديَّة، وذهبت به إلى رحلها، ولمسَت البركة ورأتها في اللِّبان والألبان، والشّارِف (الشّارف: المُسِن مِن الدَّواب) والأَتان (الأتان: أنثى الحمار)، ولم تزل تتعرَّف مِن الله الزّيادة والخير حتّى مَضَت سَنَتان في بني سعد، وقَدِمَت به على أُمِّه وطلَبَت أن تَتركَه عندها بعض الوقت، فردَّته إليها.
وجاءَه مَلَكان وهو في بني سعد، فشقّا صدره واستخرجا مِن قلبه علقةً سوداءَ، فَطَرحاها وغَسَلا قلبَه حتّى أنْقَياه وردّاه كما كان.
ورعى رسولُ الله الغنمَ مع إخوته مِن الرّضاعة، ونَشأ على البَساطة والفِطْرة، وحياة البادية السَّليمة، واللّغة الفصيحة.
ثمّ عاد إلى أمّه وجدّه، وقد أنبتَه اللهُ نَباتًا حسنًا.
فلمّا بلغ سِتَّ سنِين تُوفِّيَت أُمُّه بالأبْواء - منطقة بين مكَّة والمدينة -، فأصبح يتيم الأبوَين، فَكان مع جدَّه، وكان به حَثِيًّا يُجلِسُه على فِراشِه في ظِلّ الكعبة ويُلاطِفه.
ثم لَمّا بلغ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم ثماني سنين مات جدُّه عبد المطَّلِب، فانتقلت كفالته إلى عمِّه أبي طالب، وكان أرفق به وأكثر عطفًا عليه مِن أبنائه.
وشَبَّ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم محفوظًا مِن الله تعالى، بعيدًا عن أقذار الجاهليّة وعاداتها، فكان أفضل قومِه مُروءةً، وأحسنَهم خُلُقًا، وأشدَّهم حياءً، وأصدَقَهم حديثًا، وأعظَمَهم أمانةً، وأبعدَهم عن الفُحْش والبَذاءَة، حتَّى ما أسموه في قومه إلّا بالصّادق الأمين.
ولَمّا بلغ خمسًا وعشرين سنةً تزوَّج خديجة بنت خويلد، وهي مِن سيِّدات قريش وفُضلَيات النّساء، وكان مِن قصَّة زواجها منه أنّها كانت تَستأجِر الرّجال في مالها؛ ليتّجروا فيه بجزء معلومٍ مِن الرِّبح، وكانت قد اختَبَرَت صِدْقَ حديثِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكرمِ أخلاقِه ونصيحَته حين خرج في مالها إلى الشّام تاجرًا، وبَلَغَها مِن كِبَر شأنِه في هذه الرِّحْلَة، فعَرَضَت نفسَها عليه ليتزوَّجَها، فخطبَها إليه عمُّه حمزةُ، وكان الزّواج.
أبناءُ النَّبِيِّ
لِلنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن الأبناءِ ثَلاثَة، وهم: القاسِم، وعبد الله، وإبراهيم، وقد ماتَ القاسِم وعبد الله أبناء خَدِيجَة قَبْلَ الإسلامِ، أمّا إبراهيمُ ابن مارِية القِبْطِيَّة فقد وُلِدَ وتُوفي صَغِيراً في مَكَّةَ.
بناتُ النَّبيِّ
بناتُ النَّبيّ صلّى الله عليه وسلَّم أربَعٌ، هُنَّ: رقية، وأمّ كلثوم، وزينب، وفاطمة.
وجميع أولادِ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم مِن خدِيجَة رضي الله عنها عدا إبراهِيم، فإنَّه مِن مارية القِبْطِيَّة رضي الله عنها، وقد تُوفي جَمِيع أولادِهِ في حَياتِهِ، ما عدا فاطِمَة رضي الله عنها تُوفِّيَت بعدَه.
زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بعد خديجة رضي الله عنها:
تَزَوَّج النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد وَفاةِ خَدِيجَة رَضِيَ اللهِ عنها عَدَداً مِن النِّساءِ رضي الله عنهنَّ، ومِنْهُنَّ عائِشَةَ بنت أبي بكر، وأمّ سلَمَة، وحَفْصَة بنت عمر، وسَوْدَة بنت زَمْعَة، وزَيْنَب بنت جَحْش، وصَفِيَّة بنت حييّ، ومارِية القِبْطِيَّة، وقد سماهُنَّ اللهُ أُمَّهات المؤمِنِينَ: ﴿ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ [الأحزاب: 6].
قصَّة بنيان الكعبة ودرء فتنة عظيمة
لَمّا بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمسًا وثلاثين سنةً اجتَمَعَت قريش لِبُنيان الكعبة، فلمّا بلغ البُنيان موضِع الرّكن اختَصَمُوا في الحجر الأسود، أيّهم يرفَعُه في مَوضِعه دون الآخر طلبًا للشَّرف حتى كاد الأمر يؤول بهم إلى الحرب، وأعدّوا للقِتال ثم اتَّفقوا على أنّ مَن يدخل أوّلًا مِن باب المسجد يقضِي بينهم، فكان أوّل داخل عليهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلمّا رأوه قالوا: هذا الأمين رَضِينا، هذا محمّد.
ودعا رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم بثوبٍ، وأخَذ الحَجَر ووَضَعَه فيه، ثم قال: لِتَأخذ كلّ قبيلةٍ بناحية مِن الثَّوب، ثمّ ارفَعوه جميعًا، ففَعَلوا، حتّى إذا بلغوا به موضِعَه وَضَعَه هو بيده الشَّريفة، ثمّ بنى عليه.
وهكذا دَرَأ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم الحربَ عن قُريشٍ بحكمَةٍ ليس فَوْقَها حِكمْةً.
وها هو مرَّة أخرى يشهَد "حِلف الفُضول" في دار عبد الله بن جدعان، أكرمَ حِلْفٍ سمِع به، وأشْرَفَه في العَرب، وكان مُغتَبِطًا به، ويقول:" لو دُعِيت به في الإسلام لأجَبْت "؛ ذلك أنّهم تَحالَفوا أن يردّوا الفُضولَ على أهلِها، وألّا يَغْلِب ظالمٌ مَظلومًا.
ومِن حِكمَة اللهِ تعالى أنّ نشأ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أمِّيًّا لا يقرأ ولا يكتب، فكان أبعد عن تهمة الأعداء وظِنَّة المغتربين، وإلى ذلك أشار القرآن الكريم بقوله:﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾[العنكبوت: 48].
نُبُوَّة مُحَمَّد صلّى الله عليه وسلّم ورِسالَتُه
عِبادَتُه
كان محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم سَلِيمَ الفِطْرَة، راجِحَ العَقْلِ، وكان يَنْفِرُ مِن عِبادَة الأوثانِ، لم يَسْجُد لِصَنَمٍ قَطّ، ويَنْفَرِد في غارٍ في جَبَل حِراء، فكان يَتَعَبَّد ويُفَكِّرُ في خالِق هذا الكَوْنِ العَظِيمِ.
نُزُولُ الوَحْي
عندَما بَلَغ النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم الأربَعِين مِن عُمُرِهِ، وظهرت تباشير الصّبح وطلائع السَّعادَة، وآنَ أوانُ البِعْثة، وتلك سُنَّة اللهِ إذا اشتدّ الظّلام وطالت الشّقوة ... وفي شَهْر رَمَضان، وبَيْنَما النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يتَعَبَّد في غارِ حِراء كَعادَتِه حيث حُبِّبَت إليه الخلوة، وصار يفضِي إلى شِعاب مكَّة، وكان أوّل ما بُدِئ به مِن الوحي الرّؤيا الصّادقة في النّوم، وكان لا يرى رُؤيا إلّا جاءَت مثل فَلَق الصُّبْح.
في غار حِراء
وحيث كان يَتَعبَّد في غار حِراء على الطّريقة الإبراهيميّة والفطرة السَّليمة المنيبة إلى الله تعالى؛ إذ جاءه اليوم الموعود لبِعْثَتِه نزل عليه الملَك جبريل عليه السَّلام، فَضَمَّه إلى صَدْرِه ثلاثَ مَرّاتٍ، وهو يقول له في كُلِّ مَرَّةٍ: اقرأ، فيقول النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ما أنا بِقارِئ، وفي المرَّة الأخِيرَة قال له جبريل: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾، فقرأَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك.
وعادَ إلى بَيْتِه وهو يَرْتجِف مِن المفاجَأةِ؛ ّإذ لم يعهده، ولم يسمع به، وقد طالت الفترة، وعهد العرب بالنبوَّة والأنبياء بعيد، فخاف على نفسه، ورجع إلى بيته تَرْتَعِد فَرائصه، فهَدَّأَت خَدِيجَة رضي الله عنها مِن رَوْعِهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، وكانت عاقلةً فاضِلةً سمعت بالنُّبوّة مِن ابن عمّها ورقة بن نوفل، كما كانت أعرَف النّاس بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ لِمكانها منه، وعِشْرتها له، واطّلاعها على السِّرّ والعلانية، وأدركت حينها أنّه الرَّجُل الموفّق المؤيَّد مِن الله، المصطفى مِن خَلْقِه، المرضِيّ في سيرته وسُلوكه، ومَن كانت حاله هكذا فلا يخاف مِن وَسْوَسَة الشَّيطان ومَسِّه، ولهذا قالت في إيمانٍ وثقةٍ، وفي قُوَّةٍ وتأكيد:" كلّا! والله لا يُخزِيك اللهُ أبدًا، إنّك لَتَصِل الرّحم، وتحمِل الكَلّ - أي الثِّقل -، وتكسِب المعدوم، وتَقْرِي الضّيفَ، وتُعِين على نَوائِب الحَقّ ".
فانطَلقَت به إلى ورقة، وأخبره بأنّه هذا هو الوحي الذي كان ينزل على موسى، وتعَجَّب رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم حين أخبره وَرَقَةُ بأنّهم سَيُخرجونه؛ إذ لم يأت رَجُلٌ بمثل ما جاء به إلّا عاداه النّاسُ وحارَبوه.
وفتر الوَحْي زمانًا، ثمّ تَتابَع، وبدأ القرآنُ ينزل.
إسلام بعض الصحابة
وأسْلَمَت خديجة، ثمّ أسلم عليّ، وهو ابن عشر سنين، وكان يومئذ في حِجْر رسول الله قَبْل الإسلام، وأسلم زيد بن حارثة مولاه، فكان إسلام هؤلاء شهادَة أقْرَب النّاس إليه وأعرفهم به، وبِصِدْقه وحُسْن سِيرته، وأهل البيت أدرى بما فيه.
وأسلم أبو بكر الصِّديق، وكانت له منزلة في قريش؛ لِعَقْله ومُروءَته، وأظهر إسلامه، وجعل يدعو إلى الله وإلى الإسلام مَن وَثِق به مِن قومه ممّن يُخالِطه ويجلِس إليه.
وكان مِن أثَر دَعْوَته أن أسلم أشراف قريش وفي مُقدَّمِهم عثمان، ثم الزّبير، وعبد الرّحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله.
ودخل النّاس في الإسلام أرسالًا مِن الرّجال والنّساء حتى فشا ذِكْر الإسلام بمكَّة، وتحدَّث النّاس به.
نَشْرُ الدَّعْوَةِ سِرًّا
كانت الدَّعْوَةُ إلى دِينِ اللهِ جلَّ شأنُه مُهِمَّةً صَعْبَةً، وقِيام النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم بها كان محفوفًا بِالمصاعِبِ والمخاطِر، فالدَّعْوَة انطَلَقَت مِن مَكَّةَ التي تُعَدُّ المركَزَ الدِّينِيَّ لِلعَرَبِ، وفيها الأصنام التي يَتَمَسَّكونَ بِعِبادَتها، فكان على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يُواجِهَ مُعارَضَتَهُم وتَكذِيبَهُم له، ويَتَحَمَّل كلَّ ما يَتَوَقَّعه مِن كَيْدِهِم وآذاهُم له ولِلمُؤمِنِين معه، لذلك بدأ عليه الصَّلاة والسَّلام بِالدَّعوةِ إلى الإسلام سِرّاً، وأخذَ يدعُو أقربَ النّاسِ إليه، وكُلَّ مَن تَوَسَّم فيه التَّصدِيقَ والخير.
نَشْرُ الدَّعْوَةِ جَهْرًا
مضى على ذلك ثلاث سنين، ثم أمرَه اللهُ بإظهار دينه: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾.﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
فامتَثَلَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لأمْرِ اللهِ تعالى، وخرج على الصَّفا وأعلَنَ الدَّعوَةَ جَهْراً، ودَعا قَوْمَه إلى تَرْك عِبادَة الأصْنام، وأن يَعبُدوا اللهَ وَحْدَه، فَقام عَمُّه أبو لهبٍ غاضِباً، وقال له: تَبّاً لك!! ألهذا جمَعْتَنا؟، فأنزل الله سبحانَه وتعالى في عَمِّه وزَوْجَتِه أُمّ جَمِيلٍ سورة "المسَد"، قال تعالى:﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد: 1]، واستَمَرَّت الدَّعْوَة جَهراً عَشر سَنَواتٍ.
مَوْقِفُ قُريشٍ مِن الدَّعْوَةِ
بعد أن أعلَن النَّبيُّ عليه الصّلاة والسّلام دَعْوَتَه، عزَّ على قُرَيْشٍ أن يَتركوا عِبادَةَ الأصنامِ، وهي عِبادَةُ آبائِهِم وأجدادِهِم، كما صَعُبَ عليهم أن يخسَروا مَكانَتَهُم التي كانوا يَتَمَتَّعون بها بين القَبائِل، والتَّرفَ الذي كانوا يَنْعَمونَ بِه، وأن يَقْبَلوا مَبْدَأَ العَدْلِ الذي أَمَرَ بِه الإسلامُ في قوله تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ﴾ [النَّحل: 90]، فقابَلوه بِالسُّخْرِيَّة في أَوَّلِ الأَمْرِ، ثم ذَهَبُوا إلى عَمِّه أبي طالب، وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في حِمايَتِه، وطَلبوا منه أن يُوقِفَ ابنَ أخِيه، وأن يمنَعَهُ مِن دَعْوَتِه فَرَدَّهُم رَدّاً جَمِيلاً، وأخبَرَ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بذلك.
وها هو عمُّه يُدافِع عنه، ويمنَعُهم منه، وقام دونَه، ومَضى رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم في دعوته وصَدْعِه بالحقّ، لا يردّه عنه شيءٌ، ومَضى أبو طالب يَذود عنه، إلّا أن صَبْر قريش قد نَفَد، فَراجعوا عمَّه، وطلبوا منه أن يَكُفَّ ابن أخيه عن سَبِّ آلهتِهم، وتَسْفِيه أحلامِهم، وعَيْب دِينهم، وقالوا: إمّا أن تكفّه عنّا، وإمّا أن نُنازِلَه وإيّاك في ذلك حتّى يهلَك أحدُ الفَرِيقَين.
وعَظُم ذلك على أبي طالب، ولم يَطِب نفسًا بتسليم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لهم، وراجَع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في ذلك، فوجَدَه أكثر إيمانًا، وأشَدّ صَلابةً في تبليغ دينه، عند ذلك طَمْأَنَه وأخبَره بأنّه سَيَشُد عَضُدَه ويَقِف معه.
مَضَى رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يدعو إلى الله تعالى، مع ما نالَه مِن أذى سفهاء قريش، حيث لم يَرْعَوا فيه قرابةً ولا رَحِمًا، وراحوا يصِفونه بالجنون والكَذِب، ورمَوه بالسِّحر والكهانة، ووَضعوا في طريقِه الأشواك، وجَعلوا سَلا الجَزور (السلا هو اللّفافة يكون فيها الولد في بطن النّاقة، وهي مِن الآدميَّة: المَشِيمَة) على ظَهْرِه وهو ساجِد عند الكعبة ... وهو الجلدة التى يكون فيها الولد فى بطن النّاقة
كما أنزلوا غضَبَهم على مَن كان أسلَم مِن أبناء قبائلهم، وليس لهم مَن يمنَعُهُم، فجعلوا يَضْرِبونهم، ويُعذِّبونهم، ويمنعون عنهم الطّعام والشّراب، ويجعلونهم في رمضاء (الرَّمْضاء: الأرض أو الحجارة التي حَمِيَت مِن شِدَّة وَقْع الشَّمس) مَكَّة إذا اشتدّ الحرّ.
وكانوا يُقابِلون كُلَّ تلك القَسْوَةِ بِالصَّبر؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أوصاهُم بالثَّباتِ عند الشَّدائِدِ طَمَعاً في ثَوابِ اللهِ ودُخولِ جَنَّتِه.
هِجْرَة المِسلِمِينَ إلى الحَبَشَةِ
بعد أن زادَ أذى المشركين لِلمُسْلِمِين أثَّرَ ذلك العَذابُ في نَفْسِ نَبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فعَرَضَ عليهِم الهجرَةَ إلى الحبَشَة -وهي تقع إلى الجنوب الغربيّ مِن الجزيرة العربيَّة في أفريقيا، وتُسمَّى حالياً: أثيوبيا- فكانت أوَّل هِجْرَةٍ في الإسلامِ في العام الخامِس لِبَعْثِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
لقد اختارَها النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّ بها مَلِكاً عادِلاً رَحِيماً لا يُظلَم عنده أحد.
هاجَر إلى الحبشَةِ عَدَدٌ مِن المسلِمِين، منهم مَن خرج مع أهله، ومنهم مَن خرج بنفسه، وأكرَمَهُم النَّجاشِيّ مَلِك الحبَشَةِ، وتَرَكَ لهم الحرية في دِينِهِم، وفي أثناء ذلك أسلَم رَجُلان مِن كِبارِ قُرَيْشٍ، هما: حمزة بن عبد المطَّلِب عمّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وعُمَر بن الخطّاب رضي الله عنهما، فأيَّد الله بهما دينه، وأعزَّ بهما الإسلام وأهله.
حِصارُ النَّبيّفي الشِّعْب
ازدادَ أذى قُريشٍ لِلمُسلِمِين بعد الهجرَة إلى الحبشَة واطْمِئْنانهم فيها، ففكَّروا في مُقاطَعَة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابِه، وحاصَروهُم في شِعْبٍ مِن شِعابِ مكَّة.
اتَّفقوا على ألّا يَبِيعوهُم شيئًا، وألّا يَشتَروا منهم شيئًا، وألّا يَقْبَلوا منهم صلحًا، ولا يَتَزَوَّجوا منهم، وكتَبوا بذلك صَحِيفَةً عَلَّقوها في جَوْف الكَعْبَة توكيدًا على أنفسهم.
أقامَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابُه في الشِّعب ثَلاثَ سَنواتٍ يُقاسونَ أَشَدَّ الجهدِ مِن مُقاطَعَة قُرَيْشٍ لهم، حتى أكَلوا أوراقَ الشَّجَرِ، والنَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع ذلك مُسْتَمِرٌّ في دَعْوَتِه ليلًا ونهارًا، سِرًّا وجهارًا، وبنو هاشم صابرون محتسِبون.
نقض الصَّحيفة وإنهاء المقاطَعَة
صَعُب على بَعْضِ أشرافِ قُرَيْشٍ مِن أهل المروءة والضَّمائر ما يَلْقاه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأهلُه مِن قَسْوَةٍ وظُلمٍ، فكرهوا هذا التّعاقد الظّالم وعافته نفوسهم، واتَّفَقوا على تمزِيقِ الصَّحِيفَة، ولَمّا ذَهَبوا لِتَمْزِيقِها وَجدوا الأَرَضَة - وهي حَشَرَةُ الأرضِ تُشْبِه الدُّودَةَ وتَأكُل الخشَب والوَرَقَ وأمثالهما - قد أَكَلَتْها إلّا «باسمِك اللَّهمّ» وبذلك خَرجَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأهلُه مِن الحصارِ.
وَفاةُ خَديجَةَ رضي الله عنها وعَمِّه أبي طالِب
في السَّنَةِ العاشِرَة مِن البِعْثَة وبعد انتِهاء الحصارِ نزَلَ بِالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حادِثان محزنان: وَفاةُ زَوْجَتِه خَدِيجَة بنت خويلد رضي الله عنها، وعمه أبي طالب، وهما مَن عرفتم مِن حسن الصُّحبة والوفاء والنَّصر والتّأييد.
وبذلك استَطاعَت قريشٌ أن تَنالَ مِن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم ما لم تَكُن تَطْمَع فيه في حَياةِ عَمِّه أبي طالب.
خُروج النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الطّائِف
بعد أن فَقَدَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أعظَم نَصِيرَيْن له في العامِ العاشِرِ مِن البِعْثَة، اشتَدَّ أذَى قُريشٍ له، فخَرَج النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الطّائِف يَعْرِضُ دَعْوَتَه على أهلِها، لَعَلَّه يجِد مِنهُم الهِدايَةَ والمؤازَرَة، فما وَجَدَ غيرَ التَّكذِيبِ والإساءَةِ، حتى إنّهم سَلَّطوا عليه العَبِيدَ والصِّبْيانَ والسُّفَهاءَ، يَرْمُونَه بالحجارَةِ فأَدْمَوا قَدَمَيْه، وفي هذا الموقِفِ رَفَعَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَدَيْه إلى رَبِّه مُنادِياً مُناجِياً بِدُعاءٍ كُلُّه إيمانٌ وثِقَةٌ بِنَصْرِ اللهِ، شكا فيه إلى الله ضَعْفَ قُوَّته، وقِلَّة حيلَته، وهوانه على النّاس، فما لَبِثَ أن جاءَتْه عِنايَةُ اللهِ تُزِيل عنه هُمومَه وآلامَه، وتُذْهِب شُجونَه وأَحْزانَه.
وتتجلَّى صورة مِن صور الرَّحمة في أعلى مظاهرها وأسمى معانيها عندما يُرسِل الله إليه ملَك الجبال، ويستأذنه في أن يطبق الأخشبين (الأخْشَبان: الجَبلان المُطِيفان بمكَّة، وهما أبو قُبَيس والأحمر، وهو جبل مُشرفٌ وجهه على قُعَيْقِعان، والأخْشَب: كلّ جبلٍ خَشِن غليظِ الحجارة)، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يخرج مِن أصلابهم مَن يعبد الله وحدَه لا يشرك به شيئًا» (أخرجه البخاريّ في صحيحه (3231)، ومسلم في صحيحه (1795) مِن حديث عائشة رضي الله عنها).
ولمّا رآه عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وما لَقِي، تحرّكت لهما المروءَة، فدعوا غلامًا لهما نصرانيًّا، يُقال له: «عدّاس» فقالا له: خذ قطفًا مِن العِنَب، فضعه في هذا الطَّبَق، ثم اذهب به إلى ذلك الرّجل، فقل له يأكل منه، ففعل «عدّاس»، وأسلم بما سمعه مِن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى من أخلاقه.
وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن الطائف إلى مكّة، وقومه أشدّ ما كانوا عليه مِن خلافٍ وعداء، وسخريَّة واستِهزاء.
خَبَرُ الإسراءِ والمِعراجِ
قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: 1].
أَكْرَمَ اللهُ سبحانَه وتعالى عَبْدَه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم بِرِحْلَتَيْن عَظِيمَتَيْن، أحدُهما أَرضِيَّة، وهي الإسراءُ مِن المسجِد الحرامِ بمكَّةَ إلى المسجِدِ الأَقْصى في القُدْس بِفِلسْطِين.
والأُخرى عُلْوِيَّة: وهي المعراجُ مِن المسجِدِ الأَقْصى إلى السَّماواتِ العُلا، وفي هذه الرِّحْلَةِ صَعد النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يُرافِقه جِبرِيل عليه السَّلام إلى سِدْرَةِ المنتَهى.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾ [سورة النَّجم الآية: 13-15]، وفيها تَلَقَّى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن رَبِّهِ فَرَضِيَّة الصَّلوات الخمس، وعَدَد رَكَعاتها، وقد تجلَّت في هاتين الرِّحلَتَيْن قُدْرَة اللهِ تعالى وعَظَمَتُه، كما تجلَّت مَنْزِلَة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الأكَرَمِ عند رَبِّه، كما كانت ضِيافةً كريمةً مِن الله، وتسليةٍ وجبْرًا للخاطر.
فلمّا أصبح غدا على قريش فأخبَرَهم الخبر، فأنكروا ذلك واستعظموه، وكذّبوه، وأمّا أبو بكر فصدَّقه، فَلُقِّبَ بالصِّدِّيق.
بَيْعَة العَقَبَةِ الأُولى
كان رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم يعرِضُ نفسَه في المواسِم على قبائل العرب، يدعوهم إلى الإسلام، وإلى أن يمنعوه مِن الأعداء، وأبو لهبٍ في مُقابل ذلك يُثَبِّط النّاسَ عن اتِّباعه ويُنَفِّرهم عن دِينه.
وفي السَّنَةِ الثّانِيَة عَشَرة مِن البِعْثَة قَدِمَ إلى مَكَّةَ في مَوْسِم الحجّ اثنا عَشَر رَجُلاً، وقابَلوا النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم عند العَقَبَة، وبايَعُوه على الإسلام، وسُمِّيت هذه البَيْعَة بِـ:(بَيْعَة العَقَبَةِ الأُولى)، وقد أرْسَل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم معهم مُصْعَب بن عُمَيْر؛ ليُعَلِّمَهُم أصولَ الإسلامِ، ويَقْرأ عليهِم القُرآنَ، وكان يسمَّى بالمقرئ، بالمدينة، ونزل على أسعد بن زُرارَة وكان يُصلِّي بهم.
وجعل الإسلام يفشو في منازل الأنصار - الأوس والخزرج - ولم تبق دار مِن دورهم إلّا وفيها رجالٌ ونساء مسلمون.
بَيْعَةُ العَقَبَةِ الثّانِيَة
في مَوْسِم الحجّ التّالي قَدِمَ إلى مَكَّةَ ثَلاثَة وسَبعونَ رَجُلاً وامرأتان، واجتَمَعوا بِالنَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في مَوْقِع العَقَبَةِ وبايَعوه على الإسلامِ، وعلى نُصْرَتِه، وقد سُمِّيت هذه البيْعَة:(بَيْعَة العَقَبَة الثّانية)، وصارَ أهلُ المدِينَة يُسمّون (بِالأنصارِ)؛ لأنَّهم ناصَرُوا النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
هِجْرَةُ النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى يَثْرِبَ
لَمّا بايع رسولُ الله هذا الحيَّ مِن الأنصار على الإسلام والنُّصْرة له ولِمَن اتَّبعَه أَمَرَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم المسلِمِينَ بِالهجرَةِ إلى يَثْرِبَ (المدِينَة) واللُّحوق بإخوانهم مِن الأنصار؛ تخَلُّصاً مِن أذى قُرَيْشٍ، ومحافَظَةً على دِينِهِم، وقد سُمي هؤلاءِ (بالمهاجرين)، ولم يَبْقَ مِن المسلِمِين في مَكَّةَ سِوى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأبي بَكْرٍ وعَلِيّ بن أبي طالِب رضي الله عنهما، وبعض أقارِب النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وصَحابَتِه.
مُؤامَرَة قَتْلِهِ
لم تكن هجرة المسلمين مِن مكَّة هيِّنَةً سهلةً، تسمع بها قريش وتطيب بها نفسًا؛ بل كانوا يمتحنون مَن أراد الهجرة بأنواع المِحَن لِيَثنونهُم عن ذلك، فكان أحدهم يضطرّ لترك بعض أهله، وآخر يتنازل عن كلّ مكاسبه.
غَضِبَت قُريشٌ عندما هاجَر المسلمون إلى يَثْرِبَ (المدِينَة)، وخافَت مِن قُوَّتهم إذا تجمَّعوا فيها، فقَرَّرَت قَتْلَ النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يَلْحَقَ بهم، ولَمّا عَلِمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بمؤامَراتهم طَلَب مِن علِيّ بن أبي طالِب المبِيتَ في فِراشِهِ، فأعمَى اللهُ أبصارَهم، وخَرَج مِن بابِ دارِهِ لَيْلًا، ووَضَع التُّرابَ على رُؤوسِ المحاصِرِينَ لِبَيْتِه فَلْم يُبْصِروه، ثمَّ خرَجَ صلَّى الله عليه وسلَّم مع صاحِبِه أبي بكر إلى غارِ ثور، وبَقِيا فيه مُتَخَفِّيين ثَلاثَ لَيالٍ قال تعالى: ﴿إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 40].
ولم يَزَل يَسْلُك بهما الدّليل حتى قدِم بهما قباء، وهي في ضواحي المدينة، وذلك في الثاني عشر من ربيع الأوّل يوم الإثنين فكان مبدأ التّاريخ الإسلاميّ.
وتَصوَّر كيف كان فَرَح الأنصار بِقُدوم رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة.
مسجد قباء وأوّل جمعة في المدينة
وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقباء أربعة أيام، وأسَّس مَسْجدًا هناك ...
وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة والنّاس يتلقَّونه في الطّريق أرسالًا، يطلبون منه الإقامة عندهم ويمسكون بزمام ناقته وهو يقول خلّوا سبيلها فإنّها مأمورة، حتى إذا أتى دار بني مالك بن النَّجّار بركت على مكان فيه باب المسجد النبويّ اليوم.
وها هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبني مَسجِده ويُشارك في بنائِه، وكان المسلمون مَسرورين فَرِحين سعداء ينشدون الشِّعر ويحمَدون الله.
والْتَحَق المهاجرون برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يَبْق منهم أحدٌ بمكَّة إلّا مفتون أو محبوس، ولم يبق دُورٌ مِن دور الأنصار إلّا وأسلم أهلها.
وآخَى بين المهاجِرينَ والأنصارِ؛ بأن تَقاسموا البُيوتَ والأموالَ، قال الله تعالى:﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9].
وقد يقول الأنصاريّ للمهاجر: انظر شطر مالي فخذه، فيقول المهاجر: بارك الله لك في أهلك ومالك، دُلَّنِي على السُّوق، فكان مِن الأنصار الإيثار، وكان مِن المهاجر التَّعفُّف وعِزّة النّفس.
وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابًا بين المهاجرين والأنصار وادَع فيه اليهود، وأقرّهم على دينهم وأموالهم، وشرَط عليهم، واشترط عليهم.
جعل الإسلامُ ينتَشر في المدينة، وأسلَم بعضُ أحبار اليهود كعبد الله بن سلام، ودَبَّ الحسَد إلى اليهود، وإلى كلّ مَن كان في قلبه مرضٌ وفي السِّيادة مَطْمَع أو غَرَض.
تحويل القبلة
كان المسلمون يُصلّون إلى بيت المقدس، ومَضى على ذلك ستَّة عشر شهرًا بعد مَقْدَمِه عليه الصّلاة والسّلام المدينة، وكان رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم يحبّ أن يُصرَف إلى الكعبة، كيف لا وهي محطّ الأنظار ومَشْرَب الأفئِدة، وقد امتَزَجَت بِلُحومِهم واختَلَطت بِعَظْمِهم؛ فلا يَعْدِلون عنها بيتًا، ولا يبغون عنها قِبلةً... فلمّا امتحن اللهُ قلوبَهم للتّقوى واستسلامهم لأمر الله تعالى صرف رسول الله صلّى الله عليه والمسلمين إلى الكعبة.
الإذن بالقتال
لَمّا قَوِيَت الشَّوكة واشتَدّ الجناح أُذِن لهم في القتال، ولم يفرضه عليهم قال تعالى ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾.
وفي السَّنة الثّانية من الهجرة فرض الصَّوم، ونزل قولُ اللهِ تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
أشهَر غَزَواتِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم
غَزْوَة بَدْرٍ
بعد هِجْرَة المسلِمَين إلى المدينة وتركِهِم أموالهم وبُيُوتهم، اسْتَولى الكُفّارُ عليها جَمِيعاً، لهذا كانت حالَة المسلِمِين سَيِّئَةً، وفي السَّنَةِ الثّالِثَة لِلهِجْرَةِ مَرَّت بِالقُرب مِن المدِينَة قافِلَةٌ تجارِيَّةٌ لِقُريشٍ آتِيَة مِن بِلادِ الشّامِ بِقِيادَةِ زَعِيمِهم أبي سُفيان، فَأَمَر النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم باعتِراضِ القافِلَة، واستِعادَةِ بعضِ ما سَلَبَتْه قريشٌ مِن المسلِمِينَ إلّا أنَّ أبا سُفْيانَ عَلمَ بِنِيَّةِ المسلمِينَ فغَيَّرَ طَرِيقَه، وأرسلَ إلى قُرَيْشٍ يُعْلِمُها بخبَرِ خُروجِ المسلِمِينَ لاعتِراضِ القافِلَةِ، ولم يحتفِل لها احتِفالَا بليغًا؛ ولم يهتم للأمر.
وبلغ الصَّريخ أهل مكَّة، فجدّ جِدّهم ونهضوا مسرعين، ولم يتخلَّف مِن أشرافهم أحد سوى أبي لهب، فإنّه عوَّض عنه رجلًا.
وأرسَلوا جَيْشاً كَبِيراً، يزِيد على (900) مُقاتِل نحوَ المدِينَةِ لِمُقاتَلَةِ المسلِمِينَ، ووَصلوا مَكاناً قَرِيباً مِن بَلْدَةِ بَدْر، وعَسْكَروا فِيهِ.
لمّا بلغ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم خروج قريش استَشار أصحابَه المهاجرين ونَدَبهم لِلقتال، وكرَّر عليهم وأعاد، هنالك فَهِمَت الأنصار أنّه يُريدُهم فأجابوه، وقالوا قولًا حسنًا، عند ذلك أشْرق وَجْه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واسْتَبْشَر، وقال: «سِيروا وأبشروا».
توجَّهَ المسلمونَ وعَدَدُهُم يَزِيد على (300( مجاهِدٍ، وعلى رَأْسِهم النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم نحو بَدْرٍ، ودَفَنوا الآبارَ التي بها إلّا بِئْرًا واحِدًا بَنَوا عليهِ حَوْضًا ومَلؤُوه بِالماءِ، وجَعلُوه أمامَهُم؛ لِيَمْنَعوا الكُفّارَ مِن الوُصولِ إليه.
التَقى المسلِمون بِالمشرِكِين في هذه الغَزْوَة، وتراءى الجمعان، والْتَحَم الفريقان، والتَجأ رسول الله إلى ربِّه وأكثر الابتِهال والتَّضرّع والدّعاء، وقال:(( اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض )).
تمكَّنَ المسلِمون مَن هَزِيمةِ المشرِكينَ، وقَتَلوا منهم سَبعِينَ رَجُلاً، على رأسِهِم أبو جَهْلٍ رأسُ الكُفْرِ، كما أَسَروا منهم سَبْعِينَ رَجُلاً، أمّا المسلمون فقد اسْتُشْهِد منهم أرَبَعَة عَشَرَ رَجُلاً، قال تعالى:﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 123].
وتوجَّه رسول الله إلى المدينة مُؤيَّدًا مُظَفَّرًا، وقد خافه كلّ عدوّ له بالمدينة وحولها، وأسلم أُناسٌ كُثُر مِن أهل المدينة.
ووَقَعَت النِّياحَة في بيوت المشركين بمكَّة، وكَثُر البُكاء على القتلى، ودخَل الرُّعْب في قلوب الأعداء.
غَزْوَة أُحُدٍ
لَمّا أصيب صنادِيد قريش يوم بدرٍ، وعظُم المُصاب عليهم عزَموا على أن يَنْتَقِمُوا لِهزيمتِهِم في غَزْوَةِ بَدْرٍ، فجمعوا المال وحرَّض الشُّعراء النّاسَ بِشِعرهم، وأثاروا فيهم الحميَّة حمِيَّة الجاهليَّة، وصَمَّموا على أن يُهاجموا المسلِمِينَ في المدِينَة.
جَهَّزَ المشْركونَ جَيْشًا كَبِيرًا بَلَغَ عَدَده حَوالي (3000) مُقاتِل، قادَه أبو سُفيان، وتَوَجَّه بِه نحوَ المدِينَة، وكان مَسِيرهُم ذلك في مُنتَصَف شوال سنة ثلاث للهجرة.
وأعدَّ المسلمون جَيْشَا بلغ عَدَده (700) مجاهِد، قادَه النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم وسارَ بِه نحو جَبَلِ أُحُدٍ الواقِع شمالَ المدِينَة،
نَظَّمَ النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم المسلِمِينَ في الوادِي مُقابِلَ الكُفّارِ بين جَبَلِ أُحُدٍ - وهو جبل على نحو 3 كيلو من المدينة - وجَبَلِ الرُّماةِ، وجَعَل خمسِينَ مِن الرُّماةِ على تَلٍّ جَنوبَ جَبَلِ أُحُدٍ (جَبَل الرُّماة)، وأَمَّر عليهم عبد الله بن جُبَير؛ لحمايَة ظُهورِ المسلِمِينَ، وأوصاهُم بِعَدَمِ تَرْكِ أماكنِهم أبَدًا، ولو رأوا الطَّيرَ تتخَطَّف العسكَر.
بَدَأ اللِّقاء بين الطَّرفَيْنِ واشْتَدَّ القِتالُ، فانْتَصَر المسلِمونَ، في بادئ الأمر، وأنزل الله نصرَه عليهم، وصدَقهم وعدَه، ودخل المسلمون عسكر المشركين فَانْتَهَبوهُم، وكانت الهزيمة لا شكَّ فيها، ووَلَّت النِّساء مُشَمِّراتٍ هَوارِب.
ولَمّا رأى الرُّماةُ انهِزامِ المشركِين تَركوا أماكِنَهُم، وهم موقنون بالنَّصر، وقالوا: الغَنِيمَة، الغَنِيمَة، ونَزلوا مِن الجبَلِ لِلاشْتِراك في جَمْعِ الغَنائِمِ (الغنائم: جمع غنيمة، وهي ما يُؤخَذ مِن المحاربين الذين خسروا في الحرب مِن أموالٍ وأسلحةٍ وغير ذلك)، عند ذلك ذَكَّرهم أميرهم عهد رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يسمَعوا، وظنّوا أن ليس للمشركين رجعة، فأخلوا الثَّغْر، وخَلّوا ظهور المسلمين إلى الخيل، واحْتَلَ الكُفّارَ مَراكِزَهُم وأعادوا الهجومَ على المسلِمِينَ، وأوقَعوا بهم خَسائِرَ كَبِيرَةٍ.
وصرخ صارِخٌ من المشركين أنّ محمّدًا قد قُتِل، فخافَ المسلِمونَ وتَراجَعُوا، وكَرَّ المشركون كَرَّةً وانتهزوا الفرصة، إلّا أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم ثَبَتَ في مَكانِهِ، ودافَعَ دِفاعَ الأَبْطالِ، وأُصِيب بجروحٍ في وَجْهِهِ وأسنانِهِ.
ولمّا علمِ المسلِمونَ بأنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم حيٌّ اسْتعادوا ثِقَتَهُم واسْتَماتوا في الدِّفاعِ عنه، ضارِبِين أروعَ الأمثِلَةِ في التَّضْحِيَةِ.
وقد اسْتُشْهِد من المسلمين يوم أحد سبعون، أكثرهم مِن الأنصار.
وما أصاب المسلمين مِن نكسةٍ ومِحنةٍ إنّما كان نتيجة خَطإٍ مِن الرّماة، وعدم تمسّكهم بتعاليم الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم وأمرِه إلى آخِر لحظة، وإخلائهم للجبهة التي أمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم بالبقاء فيها وعدم تركها. ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
روائع مِن الحُبّ والوَفاء
وإذا أردتَ أن تَعرِف مَدى حُبّ الصَّحابة لنبيِّهم، وتضحيتهم بِنُفوسهم فداءً لِنَفْسِه، وبَذْلهِم مُهَجَهُم؛ طلبًا لِسَلامَتِه، فألق سمعك لهذه الأخبار التي تُنبيك عن ذلك:
فهذا أبو عُبَيدة بن الجرّاح ينزِع إحدى الحلقتين مِن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتسقط ثَنِيَّتُه، ثمّ ينزع الأخرى فتَسقط الثّانية، وهذا أبو دُجانة يتَتَرَّس بِنَفْسِه دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتقع النّبل على ظَهْره، وهو مُنْحَنٍ عليه، ورمى سعد بن أبي وقّاص دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُناوِله النّبل، ويقول: «ارْمِ فِداك أبي وأمّي».
وأُصِيبَت عينُ قتادَةَ بن النّعمان، ووَقَعَت على وَجْنَتِه، فرَدَّها عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده، فعادت أحسَن ما كانت، وهذا طلحة بن عُبَيد الله يَقِي رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم بيده، فتُصاب أنامله وتُشَل يَدُه.
إجلاء بني النّضير
خرج رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بني النّضير - وهم قبيلةٌ مِن اليهود - يَسْتَعِينُهم في دِيَة قَتِيلَيْن مِن بني عامِر، وكان بين بني النّضير وبني عامر عِقْد وحِلْف، فرَّقوا في الكَلام ووَعَدوا بخير، إلّا أنّهم أضْمَروا الغَدْر والاغْتِيال، وأردوا إلقاء صَخْرَةٍ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو قاعِدٌ على جَنْب جِدارٍ مِن بيوتهم، فَجاءَه الخبَرُ مِن السَّماء بمرادِهم، فقام وخرج راجِعًا إلى المدينة، وأمر رسولُ الله بالتَّجَهّز لحربهِم والسَّير إليهم حتّى نزَلَ بهِم، وكان ذلك في شهر ربيع الأوّل سنة أربعٍ مِن الهجرة، فَحاصَرهم سِتّ ليالٍ، وقَذَف الله في قلوبهِم الرّعب، وسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجَلاءَ، وأن يكفّ عن دِمائِهم، على أن لهم ما حَمَلَت الإبل مِن أموالهم إلا السِّلاح، فأجلاهم عن المدينة.
وقسَم رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم أموالهُم إلى المهاجرين الأوّلين.
غزوة ذات الرّقاع
في سنة أربع غَزا رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم نجدًا، فسار حتّى نزل نخلًا، وقد خرجوا مع النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا سِتَّة بينهم بعير، فنَقَبَت أقْدامُهم وسَقَطَت أظفارُهم، فكانوا يَلُفّون على أرجلِهم الخِرَق، فَسُمِّيَت غزوة ذات الرِّقاع، وتَقارب النّاس ولم يكن بينهم حَرْب، وقد خاف النّاس بعضهم بعضًا حتّى صلَّى بهِم رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم صلاةَ الخوف.
غَزْوَةُ الخَنْدَقِ (الأَحْزابِ)
في شوّال سنةَ خمْسٍ كانت غزوة الخندق، أو غزوة الأحزاب، وكانت معركةً حاسمةً ومحنَةً ابتُلِي فيها المسلمون ابتِلاءً لم يُبْتَلوا بمثله، وفيها يقول الله تبارك وتعالى:﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا﴾.
وكان مِن سَبَب هذه القِصَّة أنّ نفرًا مِن اليهود مِن بني النّضير ونَفَر مِن بني وائل قد خرجوا مِن المدينة، وقَدموا على قريش مَكَّة فدَعَوْهم إلى حرب رسول الله، وكانوا قد جرَّبوها، واكتووا بنارها، فَصاروا يَزْهَدون فيها، فزَيَّنها لهم الوَفْد اليهودِيّ، وهوّنوا لهم أمرها، وقالوا: إنّا سنكون معكم حتّى نَسْتَأصِلَه، فَسَرَّ ذلك قريشًا، ونشطوا لِما دعوهم إليه، واجتَمَعوا لذلك، واتَّعَدوا له، ثمّ خرج الوفد فجاءَ غَطْفان فدعاها إلى ذلك، وطاف في القبائل، وعَرَض عليها مشروع غَزْوِ المدينة، ومُوافقة قريشٍ عليه.
وحَشَدَت قريش أربعة آلاف مُقاتل، وغطفان ستة آلاف مقاتل، فكانوا عشرة آلاف، وأُسنِدَت قِيادَة الجيش إلى أبي سفيان بن حرب.
رأى المسلمون أن يحصِّنوا المدِينَة، حيث كانت مَكشُوفَةً مِن الجهَةِ الشَّمالِيَة، فأشار الصَّحابيّ سَلْمان الفارسِي أن يحفِروا خَنْدقاً عَمِيقاً في هذه الجهَة حتى يمنَعَ دُخولَ خَيْل المشركين المدِينَة، وقد اشتَركَ المسلِمون في حَفْرِه وعلى رأسِهِم النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا يتَحمَّلون ألم الجوع وقسوة البرد، ومع هذا كانوا مسرورين يحمدون اللهَ ويرتجِزون، ولا يشكون ولا يتَعتَّبون.
قال أنسٌ: ولم يَكُن لهم خَدَمٌ فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «اللهُمَّ إِنَّما الخَيْرُ خَيْرُ الآخِرَهْ فاغْفِرْ لِلأنْصارِ والمُهاجِرَهْ» قال: فأجابوه:
نَحْـــنُ الَّــــــــذِينَ بَايَـــــــعُوا مُحَــــــــمَّدَا ... عَــــــــلَى الْجِــــــــــهَادِ مَـــــــا بَقِـــــــــــينَا أَبَـــــــدًا
وقد بلغ أفراد جيشِهم (3000) مجاهِد، وحاصَر المشركون المدِينَةَ شَهْراً كامِلاً، وظَلُّوا هكذا دون أن يَسْتَطِيعوا دُخولها.
وظهرت المعجزات على يد الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم، ومِن ذلك أنّه اشْتَدَّت على المسلمين في بعض الخندق كُدْيَةٌ، وهي الأرض الصَّلبة الغليظة، فضَربها بالمِعْوَل فَصارَت كثيبًا أَهْيَل، أي: رملًا سائلًا.
وظهرت البركة في طعام قليل، فَشَبِع به عددٌ كبيرٌ، وكفَى الجيشَ كلَّه.
كان بين المسلمين وبني قُرَيظة عهدٌ وعَقْدٌ فحَمَلَهم حُيَي بن أخطب سَيّد بني النَّضير على نَقْض العهد، وقد فعل ذلك بعد امْتِناع وتَرَدّد، وتَحَقَّقَه رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم، فَعَظُم عند ذلك البَلاء، واشْتَدّ الخوف، ونَجَم النِّفاق مِن بعض المنافقين، وهَمَّ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بِعَقْد الصُّلح بينه وبين غَطفان، ثمّ عَدَل عن ذلك بعدما رأى مِن سعد بن معاذ وسعد بن عبادة الثَّبات والاستِقامة والصُّمود أمام العَدوّ.
أحاط المشركون بالمسلمين وحاصَروهم، وأخذوا بِكُلّ ناحيةٍ واشْتَدّ البَلاء وتجهَّر النِّفاق:﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا﴾.
واستأذَن بعض النّاس رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في الذَّهاب إلى المدينة وقالوا:﴿إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا﴾.
ومِن قَدَر اللهِ وحِكْمَتِه أن يُسلِم نُعَيم بن مسعود سِرّاً، واستَطاع بذكائه أن يُوقِعَ الخلافَ والفُرْقَةَ بين اليهودِ والكفّار، وكذلك كان؛ حيث صار الحَذَر يَدبّ بينهم، وفَقَدوا الثِّقة فيما بينَهم.
وكان مِن صنيع الله تعالى لنَبِيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن بعث اللهُ على الأحزاب الرِّيح في ليالٍ شاتِيةٍ بارِدةٍ، فجَعَلَت تَقْلِب قُدورَهم وتَطْرح أبْنِيَتَهم فَلا يَسْتَمْسِك لهم بناء، ولا تقوم لهم نار، ولا تَطْمَئِنّ لهم قِدْر، فارتحلوا.
وهكذا رجَعَت غطفان، وتَفَرَّق شَمل الأحزاب، ووَضَعَت الحَرْب أوزارَها، فلم ترجع قريش بعدها إلى قتال المسلمين، وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حِينَها: «الآنَ نَغْزُوهُم، ولا يَغْزُونا».
وفي إخباره صلى الله عليه وسلم أنهم لا يغزونه إعلام بالظفر بهم، وأنّه لا يبقي لهم شوكة، وهذا مِن معجزاته، فإنَّه كان كذلك.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾[الأحزاب: 9].
غزوة بني قريظة
كان الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم أوَّل مَقْدمِه المدينة قد عاهَد اليهود ووادَعَهم وأقَرَّهم على دينِهِم وأموالهم، وشرَط عليهم واشْتَرَط عليهم، ولكن حُيَي بن أَخْطَب سَيِّد بني النَّضِير نجح في حَمْل بني قريظة على نَقْض العهد، ومُمالأة قريش، ولَمّا انْتَهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبر نَقْضِهِم لِلعَهْد بَعَث سعدَ بن معاذ سَيِّد الأوس، وهم حلفاء بني قريظة، وسَعْدَ بن عبادة سَيّد الخزرج في رجالٍ مِن الأنصار؛ لِيَتَحَقَّقوا الخبرَ، فَوجَدوهم على شَرّ ممّا بَلَغَهم عنهم، ونالوا مِن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبدأوا في الاسْتِعداد للهجوم على المسلمين، وهكذا حاولوا طَعْن جيش المسلمين مِن الخَلْف، وكان ذلك أشدّ وأنكى مِن الهجوم السّافر والحرب في الميدان، وذلك قوله تعالى:﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا﴾.
المَسير إلى بني قريظة
لَمّا نَقَضت قريظةُ، وبَلَغَ ذلك رَسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ساءَهُ، وشَقَّ عليه وعلى المُسْلِمِين جِدًّا، فلمّا أيَّدَ اللهُ ونَصَر، وكَبَتَ الأعْداءَ وردَّهم خائِبِينَ بِأَخْسَرِ صَفْقَةٍ، ورَجَعَ رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى المَدينة مُؤَيَّدًا مَنْصورًا، ووَضَعَ النَّاسُ السِّلاحَ. فأتى جبريلُ النّبيَّ صلىّ الله عليه وسلّم وقال: أوضَعت السِّلَاحَ يا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قال: «نعم». قال: لكنَّ الملائِكةَ لم تَضَعْ أَسْلِحَتَها، ثمّ قال: «إنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَنْهَضَ إلى بني قُرَيْظَةَ»، فَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن فَوْرِهِ، وأَمَرَ النّاسَ بِالمَسِيرِ إلى بني قُرَيْظَةَ، وكانت على أمْيالٍ مِن المَدِينَةِ، وذلك بعد صَلاةِ الظُّهْرِ، وقال: «لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُم العَصْرَ إِلَّا في بني قُرَيْظَةَ». فَسارَ النَّاسُ، وتَبِعَهُم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، وقد اسْتَخْلَفَ على المَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، وأَعْطى الرّايَةَ لِعَلِيِّ بن أبي طالِب.
ونَزَلَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بِبَني قُريَظةَ فَحاصَرهم خمسًا وعِشرين ليلةً حتَّى جَهَدَهُم الحِصار، وقَذَفَ اللهُ في قُلوبهِم الرُّعْب.
ثمّ نَزلوا على حُكْمِ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، فَشَفَعَت لهم الأوس، وكانت مَوالِيهم دون الخزرج، فَحَكَّم فيهم رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم سعدَ بن مُعاذ، وكان مِن حُكمِه فيهم: أن تُقْتَل الرِّجال، وتُقْسَم الأموال، وتُسْبى الذّراريّ والنّساء، عند ذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد حَكَمْتَ فيهِم بحُكم الله».
صلح الحُدَيبِية
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد رأى في المنام أنّه دخل مكَّة وطاف بالبيت، فأخبر أصحابه بذلك وهو المدينة، فَفَرِحوا واسْتَبْشَروا ... كيف لا وقد طال شَوْقُهم لمكَّة، وتاقَت نُفوسُهم لِلطّواف حولها.
قال تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ [الْفَتْحِ: 27].
خَرَجَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على رَأْسِ أَلْفٍ وأربِعمائِة رَجُلٍ، قاصِدِينَ مَكَّةَ لأداءِ العُمْرَةِ، وكان ذلك في ذي القعدة سنة ستٍّ، فَعَسْكَروا في مَوْقِع الحدَيْبِيَة - وهي تَقَع شمالَ غَرْبِ المسجِد الحرامِ، وتُسمَّى اليوم: الشّميسِي -، وكان قد ساق معه الهَدْي؛ لِيَعْلَم النّاسُ أنّه إنّما خَرَج زائرًا للبيت مُعَظِّمًا له.
وفَزِعَت قريش لِنزول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهم، فَأَحَبّ أن يبعثَ إليهم رجلًا مِن أصحابه، فَدعا عثمان وأرسلَه إليهم ... وانطَلق عثمان حتّى جاء مكَّة، وأتى أبا سفيان وعُظَماء قريش، وبَلَّغَهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أرسله به، فقالوا له بعد فَراغه: إن شِئْت أن تطوف بالبيت فَطُف، فقال: ما كنت لأفعلَ حتّى يطوف به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
بيعة الرّضْوان
بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن عثمان قد قُتِل، فَدَعا إلى البيعة فَبايَعوه أن لا يَفِروا، وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بِيَد نفسِه، وقال: «هذِه عن عثمان»، فكانت بيعة الرّضوان التي نزل فيها قوله تعالى:﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الْفَتْحِ: 18].
مُعاهَدة وصُلْح وحِكْمَة وحِلْم
بَعَثَت قريش فِيمَن بعَثَت للتفاوض مع رسول الله سُهَيْل بن عَمْرو، فلمّا رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مُقْبِلًا، قال: أراد القوم الصُّلحَ حين بعثوا هذا الرَّجل، وقال: أكتُب بيننا وبينكم كِتابًا، وكذلك كان، واصْطَلَح الفَريقان على وَضْع الحرب عشر سنين، يأمَن فيها النّاس، ويَكُفّ بعضُهم عن بعضٍ، وعلى أنَّه مَن جاء محمّدًا مِن قريش بغير إذن وَلِيِّه رَدَّه عليهم، ومَن جاء قريشًا ممّن مع محمَّدٍ لم يردّه عليه، وأنّه مَن أراد أن يدخل في عِقْد محمَّد وعَهْده دخل فيه، ومَن أَحَبّ أن يدخل في عِقْد قريشٍ وعَهْدِهم دَخَل فيه.
لَمّا رأى المسلمون ما رَأَوْه مِن الصّلح والرّجوع دَخَل على النّاس في ذلك أمر عظيم، حتّى كاد بعضهم أن يهلَك، ووَقَع في نفوسِهم كلّ مَوقِعٍ، حتَّى جاء عمر إلى النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأفْصَح عمّا في نفسِه لِما هو معروفٌ مِن الصَّلابة في الحقّ، وحُبِّ المراجَعة فيما لم يَسْتَبِن له فيه وَجْه الحقّ والصَّواب، فقام يحتجّ ويُراجع النَّبيَّ، ويقول: أَلَسْتَ نَبِيَّ الله حقًّا؟ فقال صلّى الله عليه وسلَّم: «بلى». ثم قال: أَلَسْنا على الحقِّ وعَدُوُّنا على الباطِل؟ قال:«بلى». ثم قال: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: «إِنِّي رَسُولُ الله، ولستُ أَعْصِيهِ، وهو ناصِري»، ثم قال: أو لست كُنْتَ تُحَدِّثُنا أنّا سنأْتِي البَيْتَ ونَطُوفُ به؟ قال:«بَلَى، أفأَخْبَرْتُكَ أنّا نَأْتِيه العامَ؟» فقال عمر: لَا، عند ذلك قال النّبيّ:«فَإِنَّكَ آتِيهِ ومُطوِّف بِهِ».
وظَلَّ عمر في حالةٍ مِن الكَرْب لا تهْدَأ نفسُه حتّى ذهب إلى أبي بكر، وسأله كما سأل النّبيّ، فأجابه كما أجابه.
لَمّا فَرَغ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم مِن الصّلح قام إلى هديه فنَحَره، ثمّ جَلَس فَحَلق رأسَه، وعَظُم ذلك على المسلمين، وأصابهم الوُجوم والذُّهول؛ لأنّهم خرجوا وهم لا يَشكُّون في دخول مكَّة والعمرة، وأن يَنْحَروا هَدْيَهم، ويحلِقوا رُؤوسَهم في رحاب الحرم، ولكن لَمّا رأوا رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم قد نحَرَ وحَلَق تَواثبوا يَنْحَرون ويحلِقون.
صُلحٌ مَهِين أم فَتْحٌ مُبِينٌ
كانت بُنودُ الصُّلْحِ في ظاهِرِها لِصالح المشركِين، لذا تَذَمَّر بعضُ المسلِمِين مِن ذلك الصُّلْح، وضاقُوا به لِما رأوا فيه مِن ظُلْمٍ لهم، وإجْحافٍ في حَقِّهم، ولكنّهم آمَنوا بالله وصدَّقوا وَعْدَه.
ومِن هذا الموقف تتَجَلَّى حكمة الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم وحِنْكَته وعَظِيم سِياسَتِه للأمور حين يتَنازل لأعدائه هذا التَّنازل، حتَّى كأنَّه يَعرِف ما سَتَؤول إليه الأمور مِن الفتح القريب، ودخول قريش في دِين الله أفواجًا.
وفي أثناء رُجوعِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم نَزَلَ قولُه تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾[الفتح: 1-3] فأرسل إلى عمر فأقرأة إياه، فقال: يا رسول الله، أوَ فَتْحٌ هو؟ قال: نعم، فَطابَتَ نَفْسُه ورَجَع.
ونَدِم عمر على ما بَدَر منه مِن مُراجعة النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم واعتراضه عليه، فيقول: «ما زِلْت أصومُ وأتصَدَقّ وأُصلِّي وأُعْتِق مخافَةَ كَلامي الذي تَكَلَّمْت به يومئذ، حتَّى رَجَوْت أن يكون خيرًا».
وفَرَّج اللهُ بهذه السّورة غَمّ المسلمين، وأَسْعَد قلوبَهم بما حَوَت مِن البِشارة بالفتح المبين والنَّصر العظيم، والثَّناء والرِّضا عن المؤمنين، حتى قال الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم :" لقد أُنزِلَت عليَّ اللَّيلة سورةٌ لَهِي أحَبّ إليّ ممّا طَلَعَت عليه الشَّمس، ثم قرأ: إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ".
غزوة خيبر
بشَّر الله أصحابَ بيعة الرّضوان في الحديبية بالفتح القريب والمغانم الكثيرة فقال:﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [الْفَتْحِ: 18- 19] .
وكان مُقدّمة هذه الفتوح والمغانم غزوة خيبر، وكانت مُسْتَعْمَرةً يهوديَّة تتَضَمَّن قِلاعًا حصينةً، فأراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يستريح منهم، ويأمَن مِن جِهَتِهِم، وكانت في الشَّمال الشَّرقي للمدينة على بعد سبعين ميلًا.
خرج إليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في محرَّم، وأقبلَ بجيشِه، وكانوا ألفًا وأربع مئة، وكان معهم مِئَتا فارس، ولم يأذَن لِمَن تخلَّف عن الحديبية، وخَرَجَت عشرون امرأة مِن نساء الصَّحابة لِمُداواة المرضى وخِدْمَة الجَرْحى والإسعاف بالماء والطّعام أثناء القتال.
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا غزا قومًا لم يغزُهم حتّى يُصْبِح، فإن سَمِع أذانًا أمسك، وإن لم يسمَع أذانًا أغار، فلَمّا أصبح لم يَسْمَع أذانًا فَرَكِب ورَكِب القومُ واسْتَقْبَلوا عُمّال خيبر غادِين قد خَرجوا بمساحِيهم -وهي المجرفة مِن الحديد-، وبمكاتِلِهم -وهي القُفَّة الكبيرة- فلَمّا رأوا رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم والجيش، قالوا: محمّد والخميس - أي: الجيش - معه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الله أكبر، خَرِبَت خيبر، إنّا إذا نَزَلْنا بِساحَة قَومٍ فَساء صباح المنذرين».
قائد منصور
ونازل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حُصونَ خيبر، وبدأ يَفْتَتِحها حِصْنًا حِصْنًا بعد قتال وحِصار دام أيّامًا حتّى سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصُّلحَ، فَأعْطاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خيبرَ على أنّ لهم الشّطر مِن كلّ زرعٍ وثمرٍ ما بدا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يُقِرَّهُم.
مُحاولة أثيمة لليهود
في هذه الغزوة سُمَّ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم، ذلك أنّ زينبَ بنت الحارث اليهوديَّة أهدت له شاةً مَشويَّة قد سمَّتها، وسألَت أيّ اللَّحْم أحبّ إليه؟ فقالوا: الذِّراع، فأكْثَرَت مِن السُّمّ فيه، فَلَمّا انتَهَش مِن ذِراعِها أخبَره الذِّراع بأنَّه مسمومٌ، فَلَفَظ الأكلة.
وأقَرَّت المرأة بعد ذلك بأنّها سَمَّمَتْه لِتَعْلَم إن كان كاذبًا فيَستريح منه اليهود، وإن كان صادقًا فلا يَضرّه.
فُتوحٌ وغَنائمٌ
وبعد ما انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أَمْرَ خيبرَ انْصَرف إلى فَدَك، ثمّ جاء إلى وادي القرى، ودعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الإسلام، وأخبَرهم إن أسلموا أحْرَزوا أموالهم وحَقَنوا دِماءَهم، وحِسابهم على الله، وأعطى اليهود مِن غَدٍ ما بِأيديهم، وغَنِم المسلمون أموالًا، وقَسَّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أصاب على أصحابه بوادي القرى، وترك الأرضَ والنَّخل بيد اليهود وعاملهم عليها ...
عمرة القضاء
لَمّا كان العام المقبل، وذلك سنة سبع قَدِم رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون، وخلَّى قريش بينه وبين مكَّة، وأقفلوا بيوتهم وطلعوا على الجبل، وأقام بمكَّة ثلاثًا واعتَمَر، وهو قوله تعالى:﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [الْفَتْحِ: 27 - 28].
غزوة مُؤْتَة
بعث رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم الحارثَ بن عُمَيْر الأزديّ بِكتابه إلى شُرَحبيل بن عمرو الغَسّانيّ حاكِم بُصْرى التّابع لقيصر ملك الرّوم، فأوْثَقَه رِباطًا، ثمّ قَدَّمَه فَضَرب عُنُقَه، ولم تجْر العادة بقتل الرُّسُل والسُّفراء عند الملوك والأمراء، فكان لا بدّ مِن تأديب هذا المعتدي.
فلَمّا بَلَغ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم الخبرَ بعثَ جيشًا قِوامه ثلاثة آلاف، وكان ذلك في جمادى الأولى مِن السَّنة الثّامنة، واسْتَعْمَل عليهم زيد بن حارثة، وقال: «إن أُصِيب فجعفر بن أبي طالب، فإن أُصِيب فعبد الله بن رواحة...» فلمّا حان خُروجهم ودَّع النّاسُ أمراءَ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم وسلَّموا عليهم، وكان أمامَهم سَفَرٌ طويلٌ شاقٌّ، وعدوّ ذو شَوكةٍ ...
ومضى الجيش .. وبلغ المسلمين أنّ هرقل بالبلقاء في مئة ألف مِن الرّوم، وانضَمّ إليهم جمع كثير مِن قبائل العرب، فأقاموا على مكان يُقال له:( مَعان) ليلتين، ينظرون في أمرهم ...
شَجَّع النّاسَ عبدُ الله بن رواحة، وقال: «يا قوم، والله إنّ الذي تكرهون للتي خَرَجْتُم تطلبون، وما نُقاتل النّاسَ بِعَدَدٍ ولا قوّة ولا كثرة، ما نُقاتِلهم إلّا بهذا الدِّين الذي أكرمَنا به الله، فانْطلقوا فإنّما هي إحدى الحُسْنَيَيْن؛ إمّا ظَفر وإمّا شهادة» فمضى الناس.
ولَمّا كانوا بِتُخوم البلقاء لَقِيَتْهم جُموع الرّوم والعَرب ودَنا العدوّ، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها: مؤتة، والتقى الفريقان والتَحَموا واقْتَتَلوا...
قاتل زيدٌ بِراية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى استًشْهِد، وقد أخذَت الرِّماح منه كلّ مَأخذٍ، ثمّ أخذها جعفر فقاتل بها حتّى أرهَقَه القِتال، فاقْتَحَم على فَرَسِه فعَقَرها، ثمّ قاتَل فَقُطِعَت يمينه فأخَذ الرّاية بِيَساره، فَقُطِع يَسارُه فاحْتَضَن الرّاية بِعَضُدَيْه حتّى قُتِل، وَوَجَد المسلمون ما بين صَدْره ومَنْكِبَيْه وما أقبل منه تِسعين جِراحَة ما بين ضربةٍ بالسَّيْف، وطَعْنَة بالرُّمح ....
فلمّا قُتِل أخَذ الرّاية ابن رَواحَة، وتقدَّم بها وقاتل حتّى قُتِل.
بعدها اصطلَح النّاس على خالد بن الوليد، فأخَذ الرّاية ودافَع القومَ، وكان شُجاعًا حَكيمًا يَعرِف سِياسةَ الحَرْب، فانحاز بالجيش إلى الجنوب، وانْسَحَب العَدوّ نحو الشّمال، وجَنّ اللَّيل، وانصَرَف النّاس، وكلا الفريقين اغتَنَم السَّلامةَ، ورأى المصلحَةَ في عدم مُتابعة القتال، وتهيَّبَ الرُّومُ المسلمين بحِكمَة خالد وتَقاعَسوا ...
خَبَرُ عَيان لا بَيان
وبينما كان المسلمون يخوضون المعركة، كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُخبِر أصحابَه في المدينة بما يجري في أرض المعركة، فعن أنس بن مالِكٍ قال:" خَطَبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثمّ أخَذَها جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثمّ أَخَذَها عبد الله بن رَواحَةَ فَأُصِيبَ، ثمّ أَخَذَها خالِدُ بن الوَلِيد عن غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ عليه، وما يَسُرُّنِي، أو قال ما يَسُرُّهُم - أنَّهُم عِنْدنا، وإنّ عَيْنَيْهِ لَتَذْرِفان».
فَتْحُ مَكَّةَ
لَمّا تمّ أمرُ اللهِ في دينه وفي عباده أراد أن يدخل رسولَه صلّى الله عليه وسلّم مكَّة ويطهِّروا الكعبة مِن الأوثان فتكون مباركًا وهدى للعالمين، ويُعيدوا مكَّة إلى ما كانت عليه مثابة للنّاس وأمْنًا.
نقض بني بكر وقريش الحِلف
ممّا تقرّر في صلح الحديبية أن مَن أحبَّ أن يدخل في عِقْد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعَهْدِه فَعَل، ومَن أحَبَّ أن يدخل في عِقْد قريش وعَهْدهم فَعَل، ودخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، ودَخَلت خزاعة في عِقْد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعهده، وكان بين بني بكر وخُزاعة عِداء مُتوارَث، وجاء الإسلام فَحَجَز بينهم، فلمّا كانت الهُدْنَة أراد بنو بكر أن يَنْتَهِزوا هذه الفرصة؛ ليصيبوا مِن خزاعة الثّأر القديم، فَبَيَّت نَفَرٌ مِن بني بكر خزاعة وهُم على ماءٍ لهم، فأصابوا منهم رجالًا، وتَناوَشوا واقْتَتَلوا، وأعانَت قريشٌ بني بكر بالسِّلاح، وقاتَل معهم أشراف مِن قريش مُسْتَخْفِين ليلًا حتّى ألجؤوهُم لِلحرَم ومِن ثمّه أخَذَت بني بكر ثَأْرها.
وخَرَج عَمْرو بن سالم الخُزاعي وقَدِم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسألَه النَّصْر والنَّجْدَة، ويُخبِره بأنّ قريشًا أخلَفوه الموعِد ونَقَضوا مِيثاقَه المؤكَّد، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نُصِرْتَ يا عَمْرو بن سالم».
عند ذلك جاء أبو سفيان وأراد تجديد العَهْد، فكَلَّم رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم يَرُدَّ عليه شيئًا، ثمّ كَلَّم أبا بكر وعمر وعَلِيًّا وفاطمة فلم يُجِبه أحد إلى ما أراد حتّى احْتار في الأَمْر، وأخْفَقَ في مُهِمَّتِه التي جاء لأجلها.
التَّأهُّب لمكة
أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النّاسَ بِالجهاز، واسْتَعان على أمره بالكِتْمان، ثمّ أعلم النّاسّ أنّه سائرٌ إلى مكَّة، وأمَرَهُم بالجِدِّ والتَّجَهُّز، وقال: «اللَّهمّ خُذ العُيون والأخبار عن قريش حتّى نَبْغَتَها ونَفْجَأها في بِلادِها». وخرج صلّى الله عليه وسلّم في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف، وذلك على رأس ثمان سنين، ومضى رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى نزل مَرّ الظّهران، وعَمَّى اللهُ الأخبارَ عن قريش، فَهُم على وَجَلٍ وارْتِقابٍ.
وأمَر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجيشَ فَأوْقَدوا النِّيران، وخرج أبو سفيان بن حَرْب يَتَجَسَّس الأخبارَ، وهو يقول: ما رأيتُ كاللَّيلة نِيرانًا قطّ ولا عَسْكَر، وكان العبّاس قد خرج مِن مكَّة قبل ذلك بأهلِه وعِيالِه مُسلمًا مُهاجرًا، ولحِق بالعَسْكر، فَعَرَف صوتَ أبي سفيان، وقال: هذا رسول الله في النّاس ... فأركبَه في عَجز بَغْلَتِه، وخَشِي عليه أن يُدْرِكَه أحدٌ مِن المسلمين فيَقْتُلَه، وأتى به رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ أسلمَ وشَهِد شَهادَة الحَقّ.
عَفْو عام وأَمْن بَسِيط
ووسَّع رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم في الأمْن والعَفْو حتّى أصبح أهلُ مكَّة لا يهلك منهم إلّا مَن زَهِد في السَّلامة وكَرِه الحَياة، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «مَن دَخَل دار أبي سفيان فهو آمِن، ومَن أغلق بابَه فهو آمِن»، ونهى رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم جيشَه عن أن يستَخْدِموا السِّلاح عندما يدخلون مكَّة على أيّ إنسانٍ إلّا مَن اعتَرَضَهم وقاوَمَهم، وأمَر بأن يَعفّ الجيش مِن أموال أهل مكَّة وممتلَكاتهم، وأن يكفّوا أيدِيَهم عنها.
دخول خاشِع مُتَواضِع لا دخول فاتِح مُتَعال
ودخَل رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم مكَّةَ وهو واضِع رأسَه تَواضُعًا لله حين رأى ما أكرمَه الله به مِن الفتح حتّى إن ذِقْنَه لَيكاد يمسّ واسِطة الرَّحْل، ورَفَع في دُخوله مكَّة فاتحًا كلّ شعار مِن شَعائر العدل والمساواة والتَّواضع والخضوع، وكان ذلك صبح يوم الجمعة لعشرين ليلة خَلَت مِن رمضان سنة ثمان للهجرة.
تَطْهيرُ الحَرَم مِن الأوثان والأصنام
دَخَلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ مَكَّةَ وحول البَيْتِ ثلاثُمِائَةٍ وسِتُّونَ صَنَمًا، فَجعلَ يَطْعَنُها بِعودٍ معه، ويَقول: «جاءَ الْحَقُّ وزَهَقَ الباطِلُ إنَّ الباطِلَ كان زَهُوقًا، جاء الْحَقُّ وما يُبْدِئُ الباطِلُ وما يُعِيدُ».
ورأى في الكعبة الصُّوَر والتَّماثيل، فأمر بالصُّور فَطُمِسَت، وبالتَّماثيل فَكُسِرَت.
اليوم يوم بِرّ ووَفاء
لَمّا قَضى طَوافَه صلّى الله عليه وسلّم دعا عثمانَ بنَ طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة فَفُتِحَت له، ودخل وصلَّى، فلمّا خرج منها أعاد المفتاح له، وجعل لهم سِدانة البيت - وهي القيام بشؤون الكعبة مِن تنظيف وإصلاح وفتح وغلق وتطييب وغير ذلك - خالِدةً تالِدةً لا يَنْزَعها منهم إلّا ظالم.
وها هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقف بين الرّكن والمقام، فيحمد الله ويثني عليه، ثمّ يقول مخاطبًا لقريش: «ماذا تقولون، وماذا تظنون؟ قالوا نقول: خيرًا ونَظُنّ خيرًا، أخٌ كريمٌ، وابنُ أخٍ كريمٍ، وقد قدرت فأسْجِح -أي: فأحسن العَفْو-، قال: فإني أقول كما قال أخي يوسف: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يُوسُفَ:92]».
بيعة على الإسلام
اجتَمَع النّاسُ على الإسلام، فجلس لهم صلّى الله عليه وسلّم على الصَّفا وأخذ على النّاس السَّمع والطّاعة لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم فيما استطاعوا.
ثم بثَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سَراياه إلى الأوثان التي كانت حول الكعبة فَكُسِرَت كلّها، منها اللّات والعُزّى ومَناة الثّالثة الأخرى، وبَعَث رِجالًا مِن أصحابه إلى القبائل فَهَدَموا أصْنامَها.
وقام رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم خطيبًا في مَكَّة، فَأعْلَن حُرْمَتَها إلى يوم القيامة، لا يحِلّ لامرئ مسلمٍ يُؤمِن بالله واليوم الآخر أن يَسْفِك فيها دمًا، أو يَقطع بها شجرةً، وقال «لم تحلل لأحدٍ كان قبلي، ولا تحِلّ لأحدٍ يكون بعدي»، ثمّ قَفَل راجِعا إلى المدينة.
وقد كان لفتح مكَّة أثرٌ عمِيقٌ في نفوس العرب، فَشَرح اللهُ صَدْر كثيرٍ منهم للإسلام، وصاروا يدخلون فيه أرسالًا، وصَدَق اللهُ إذ يقول:﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾.
غزوة حنين
بعد أن تمّ فتح مكّة، وبدأ النّاسُ يدخلون في دين الله أفواجًا، أطْلَق العَرَب السَّهْم الأخير في كِنانتهم على الإسلام والمسلمين.
وكانت هوازِن قوّةً كبيرةً بعد قريش، وكان بينها وبين قريش تَنافسٌ، فلم تخْضَع لِما خَضَعَت له قريش.
وقام مالك بن عوف سيّد هوازان فَنادى بالحرب، واجتَمَع إليه مع هوازن ثَقِيف كلّها، وأجمَع السَّير إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحَطَّ مع النّاس أموالهم ونِساءَهم وأبناءَهم؛ لِيَثْبُتوا ويُدافعوا عن الأهل والعِرض.
وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه ألفان مِن أهل مكّة، ومنهم مَن هو حديثُ عَهْدٍ بإسلام، وعشرة آلاف مِن أصحابه الذين خرجوا معه مِن المدينة، فبَلَغ عدَدُهم إلى ما لم يبلغه في غزوةٍ قبل ذلك، حتّى قال أُناسٌ مِن المسلمين: لَن نُغْلَب اليومَ مِن قِلَّة، وأعجَبَتْهُم كَثْرة النّاس.
واستَقْبل المسلمون وادي حُنَين، وذلك في عاشر شوّال سنة ثمان، وهم يَنْحَدِرون فيه انحدارًا في ظلام الصُّبح، وكانت هوازن قد سبقتهم إلى الوادي، وكَمَنوا لهم في شِعابه، فما راع المسلمين إلّا أن رَشَقُوهم بالنِّبال، وأَصْلَتوا السُّيوف، وحَملوا حملةَ رجلٍ واحدٍ، وكانوا قومًا رماةً.
وانشَمَر (انشَمر: أسرع، وجَدَّ في السَّير، وتهَيَّأ له) عامّة المسلمين راجِعين، لا يَلْوِي منهم أحدٌ على أحدٍ، وكانت فترةً حاسمةً، ولحظةً عصيبةً، يُوشِك أن تدورَ الدّائرة على المسلمين، فلا تقوم لهم بعد ذلك قائمة...
الفتح والسَّكينة
ولَمّا تمّ ما أرادَه اللهُ مِن تأديبِ المسلمين الذين أعجبتهم الكثرة، وأذاقَهُم اللهُ مَرارةَ الهزيمة بعد حلاوة الفتح، ردَّ لهم الكرَّةَ على الأعداء وأنزل السَّكينة على رسوله وعلى المؤمنين.
وطَفِقَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَرْكُضُ بَغْلَتَهُ قِبَلَ الْكُفّارِ، والعبّاسُ آخِذٌ بِلِجامِ بَغْلَةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يكُفُّها، وهو لا يَأْلُو ما أَسْرَعَ نحو المُشْرِكِين، وأبو سُفْيانَ بن الحارِث آخِذٌ بِغَرْزِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والنَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَقُولُ: «أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِبْ، أنا ابْنُ عبدِ المُطَّلِبْ».
ثمّ قال رَسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلَّم: «يا عَبَّاسُ، نادِ يا أَصْحَابَ السَّمُرَةِ» قَالَ: وَكُنْتُ رَجُلًا صَيِّتًا فَقُلْتُ: بِأَعْلَى صَوْتِي أَيْنَ أَصْحَابُ السَّمُرَةِ؟ قال: فَواللهِ، لَكأنَّ عَطْفَتَهُم حين سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةُ الْبَقَرِ عَلَى أولادِها. فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَ يَا لَبَّيْكَ، يَا لَبَّيْكَ، وَأَقْبَلَ الْمُسْلِمُونَ، فَاقْتَتَلُوا هُم والكُفّارُ، فَنادَتِ الأنْصارُ يَقولونَ: يا مَعْشَرَ الأَنْصارِ، ثُمَّ قَصَّرَتِ الدَّاعُونَ على بَنِي الحارِثِ بن الخزْرَج، فنادَوْا: يا بَنِي الحارِثِ بن الخزْرَجِ، قال: فَنَظَرَ رَسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو على بَغْلَتِهِ كالمُتَطاوِل عليها إلى قِتالِهِم، فقال رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: " هَذَا حِينَ حَمِيَ الْوَطِيسُ "، ثُمَّ أَخَذَ حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ وُجوهَ الكُفّارِ، ثُمّ قال: " انْهَزَمُوا ورَبِّ الكَعْبَةِ، انْهَزَمُوا ورَبِّ الكَعْبَةِ "، فَواللهِ ما هو إِلّا أنْ رَماهُم رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِحَصَيَاتِهِ، فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلًا، وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا حَتَّى هَزَمَهُمِ اللهُ».
وذلك قوله تعالى:﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾[التوبة: 25 -26].
غزوة الطّائف
قدم فلول ثقيف الطّائف وأغلقوا عليهم أبواب مدينتها وروّموا حِصنَهم وأدخلوا فيه ما يصلح لِسنةٍ، وأعدّوا للحرب عُدَّتها، فسار إليهم رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومضى حتّى نزل قريبًا منهم فضرب عسكرَه وكان قريبًا مِن حائط الطّائف ولم يقدروا أن يدخلوه ورمت ثقيف المسلمين بالنّبل رميًا شديدًا، وكانوا رماةً لا يكاد أحدهم يخطئ رميَتَه.
ونادى مُنادِي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أيّما عبد نزل مِن الحصن وخرج إلينا فهو حُرّ، فخرَج منهم بضعة عشَر رجلًا.
ولم يُؤْذَن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في فتح الطّائف، فأمر عمر بن الخطاب فأذَّن في النّاس بالرّحيل، فضَجّ النّاس مِن ذلك، وثَقُل عليهم الأمر، وقالوا: نَرْحل ولم يُفتَح علينا الطّائف، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فاغْدوا على القتال»، فَغَدوا فأصابَت المسلمين جِراحات، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّا قافِلُون غَدًا إن شاءَ اللهُ» فَسُرَّ المُسلِمون، فضَحِكَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
سبايا حنين ومغانمها
ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجعرانة فيمَن معه مِن النّاس، واستأنى هوازن أن يَقدموا عليه مسلمين بِضع عشرَةَ ليلةً، ثمّ بدأ بالاموال فَقَسَمها، وأعطى المؤلّفة قلوبهم أوّل النّاس.
ردّ السبايا على هوازن
وقد وفد هوازن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بِالْجِعِرَّانَة، وقد أَسْلَمُوا، فقالوا: يا رَسُولَ اللهِ، إنَّا أَصْلٌ وعَشِيرَةٌ، وقد أصَابَنا مِن البَلاءِ ما لم يَخْفَ عليك، فامْنُنْ عليْنا، مَنَّ اللهُ عليك، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أبْناؤُكُم ونِساؤُكُم أحَبُّ إليكُم، أم أمْوالُكُمْ؟» قالوا: يا رَسُول اللهِ، خَيَّرْتَنا بين أحْسابِنا وبين أمْوالِنا، بل تُرَدُّ علَيْنا نِساؤُنا وأَبْناؤُنا، فهو أحَبُّ إليْنا، فقال لَهُم: «أَمَّا ما كان لي وَلِبَنِي عبد المُطَّلِبِ فهو لَكُم، فإذا صَلَّيْتُ لِلنَّاسِ الظُّهْرَ، فَقُومُوا، فَقُولُوا: إِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللهِ إلى المُسْلِمِين، وبِالمُسْلِمِين إلى رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ في أبْنائِنا ونِسائِنا، فسَأُعْطِيكُم عِنْدَ ذلك وأَسْأَلُ لَكُمْ»، فَلَمَّا تَكَلَّمُوا بالذي أمَرَهُم بِه قال رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَمَّا ما كان لي ولِبَنِي عبدِ المُطَّلِبِ فهو لَكُم»، فقال المُهاجِرُون والأنصار: وما كان لَنا، فهو لِرَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، وأبى ثلاثة من بني تميم وبني فَزارَة وبني سُلَيم أن يتنازلوا عن سَبْيِهِم، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أمَّا مَن تَمَسَّكَ مِنْكُمْ بِحَقِّهِ مِن هذا السَّبْيِ فله بِكُلِّ إِنْسانٍ سِتُّ فَرائِضَ مِن أَوَّلِ شَيْءٍ نُصِيبُهُ، فرَدُّوا على النَّاسِ أَبْناءَهُم ونِساءَهُمْ».
طائعون لا كارهون
لَمّا ارتحَل المسلمون مِن الطّائف واستَقبلوا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ اهْدِ ثَقِيفًا، وائْتِ بهِم».
ولحِق عروةُ بن مسعود الثَّقفيّ، وأدرك رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قبل أن يدخل المدينة، فأسلَم ورجَع يدعو قومَه إلى الإسلام، وكان محبّبًا إليهم، صاحب منزلةٍ فيهم، فلمّا دَعاهُم إلى الإسلام وأظهَر لهم دينَه، رَمَوه بالنّبل، فَقُتِل شَهيدًا.
وأقامَت ثقيف بعد قَتْلِه أشْهُرًا، ثمّ ائْتَمَروا بينهم، ورأوا أنّه لا طاقةَ لهم بحربِ مَن حولهم مِن العرب، وقد بايعوا وأسلموا، فأرسلوا وفدًا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
لا هَوادة مع الوَثنيَّة
وقَدِموا على رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وضرب عليهم قُبَّة في ناحية مَسجدِه، وأَسْلَموا.
وسألوا رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يدَع لهم «اللّات» لا يَهْدِمها ثلاث سنين، فأبى رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم عليهم، وما بَرِحوا يسألونَه سنةً سنةً، ويأبى عليهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتّى سألوا شهرًا واحدًا بعد قُدومِهم، فأبى عليهم إلّا أن يبعث أبا سفيان بن حَرْب، والمغيرة بن شعبة - وهو مِن قومهم - يَهْدِمانها.
وسألوه أن يُعْفِيَهم مِن الصَّلاة، فقال: «لا خيرَ في دِينٍ لا ركوعَ فيه».
ولَمّا فَرغوا مِن أمرهم، وتَوَجَّهوا إلى بلادهم راجعين، بعث معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة، فهَدَمها المغيرة، وانتَشَر الإسلام في ثقيف، حتّى أسلَم أهل الطّائف عن آخِرهم.
غزوة تبوك
كانت غزوة تبوك نظير فتح مكّة في قذف الرّعب في قلوب الأعداء، ورفع الغشاوة عن عيون كثير مِن الذين كانوا يعتقدون أنّ الإسلام سِراج يلتَهب ثمّ ينطَفِىء، أو سحابة صيف عن قليل تنقَشِع، وكانت هذه الغزوة احتكاكا بأعظم قوّة وأكبر دولة في العصر، وكانت عظيمة الشوكة، مرهوبة الجانب في نظر العرب.
كان العرب لا يحلُمون بغزو الرّوم والزّحف عليهم؛ بل كانوا يرون أنفسَهم أصْغَر مِن ذلك، وقد كان الرّوم لا يزالون يذكرون غزوة مؤتة التي لم يَقْضوا منها حاجةً في نفوسِهم ولم يشفوها، ورأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يتقدَّم بجيش المسلمين إلى بلاد الرّوم، ويدخل فيها قبل أن تدخل جيوش الرّوم حدود العَرب، وتتحدَّى مركز الإسلام.
وكانت هذه الغزوة في رَجب سنة تِسعٍ، غَزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حرٍّ شديد حين طابت الثِّمار والظّلال، واسْتَقْبَل سَفرًا بعيدًا وعدًّوا كثيرًا، فجلَّى للمسلمين أمرهم لِيَتَأهَّبوا أُهْبَةَ غَزْوِهم، فأخبرهم بِوَجْهِه الذي يريد، وكان الزَّمَن زَمَن عُسرةِ النّاس، وجَدْب البِلاد.
وتَعَلَّل المنافقون بِعَللٍ واهِية، وكَرِهوا الخروج مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إشفاقًا مِن العدو القويّ القاهر، وفرارًا مِن الحرّ الشَّديد، وزهادَة في الجهاد، وشَكًّا في الحقّ، وفي ذلك يقول تعالى:﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾.
وجَدَّ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم في سَفَره وأمر النّاس بالجهاز، وحَضَّ أهل الغنى على النّفقة في سبيل الله، فحَمَل رجالٌ مِن أهل الغنى عددًا مِن المسلمين الذين لا يملكون زادًا ولا راحلة واحْتَسَبوا، وجهَّز عثمان جيش العُسْرة.
مسير الجيش إلى تبوك
خرج رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم مِن المدينة إلى تبوك ومعه ثلاثون ألفًا مِن الجُنْد، وكان أكبرَ جيشٍ خَرج به في غزوة.
ونزل بالحِجْر دِيار ثمود، وأخبَرهم بأنّها ديار المعذَّبين، وقال: «لا تدخلوا بيوتَ الذين ظلَموا أنفُسَهم، إلّا وأنتم باكون خوفًا أن يُصِيبَكم ما أصابهُم».
وأصبح النّاس ولا ماءَ لهم فَشَكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَدَعا فَأمْطَرت السَّماء حتّى ارتوى النّاس، واحْتَملوا حاجَتَهم مِن الماء ...
ولَمّا انتَهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى تبوك أتاه أُمراء مِن العرب مُقيمون بالحُدود، فَصالحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأعطوه الجزية، وكتَب لِبَعْضِهم كتابَ أَمْنٍ فيه شَرْط كَفالة الحدود، وتأمين المياه والطّرق، والضَّمان لِسَلامة الفَرِيقين.
وهنا بَلَغ أمر انْسِحاب الرّوم وعُدولهِم عن فِكْرة الزَّحْف واقْتِحام الحدود، فلم ير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم محلًّا لِتَتَبّعِهم داخِل بِلادِهم، وقد تحقَّق الغَرَض.
وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتبوك بضع عشرةَ ليلةً، ثمّ انصَرف قافِلًا إلى المدينة.
ابْتِلاء كعب بن مالك ونَجاحه فيه
وكان ممّن تخلَّف عن هذه الغزوة كعب بن مالك ومرارة بن الرّبيع وهلال بن أميَّة، وكانوا مِن السّابقين الأوّلين، ولهم حُسْن بَلاءٍ في الإسلام، وكان مرارة وهلال ممّن شَهِدا بدرًا، ولم يكن التَّخَلّف عن الغزوات مِن خُلُقِهم وعادَتهم، ولم يكن ذلك إلّا مِن حكمةٍ إلهيّة وتمحيصًا لأنفسِهم وتربيةً للمسلمين ...
ونهى رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم عن كلامِهم، وما كان مِن المسلمين إلّا السَّمع والطّاعة، فاجْتَنَبَهم النّاس، ولَبِثوا على ذلك خمسين ليلةً، وكان كعب يخرج فيَشْهد الصَّلاة مع المسلمين، ويطوف في الأسواق، ولا يُكَلِّمه أحدٌ، ولم يَزِدْه هذا العِتاب إلّا رسوخًا في المحبَّة.
ولم يَقْتَصِر الأمر على ذلك؛ بل تعدّى إلى أزواج هؤلاء الثَّلاثة فَأُمِروا أن يعتَزِلوهنّ فَفَعلوا.
وفي هذه الحال دعا ملك غسّان كعبَ بن مالك إلى عاصمته لِيُكرِمَه ويُنعِم عليه، فجاءه رسولُه ودَفَع إليه كتابًا منه، فما كان مِن كعبٍ إلّا أن قَصَد به تَنُّورًا ورَماه فيه.
ولمّا تمّ ما أرادَه اللهُ مِن تمحيص هؤلاء الثَّلاثة المؤمنين، وقد ضاقَت عليهم أنفسُهم، وضاقَت عليهم الأرضُ بما رَحُبَت أفرجَ الله عنهم، وأنزلَ تَوْبَتَهُم مِن فوق سبع سموات، وبَقِيَّت قُرآنا يُتْلى، فقال عزّ مِن قال: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.
وبغزوة تبوك انتَهَت الغَزوات النبويَّة التي بَلَغ عددها 27 غزوة، والبُعوث والسّرايا التي بَلَغ عددها 60، ولم يكن في كلّها قتال، ولم يتجاوز قتلاها كلّها 1018 قتيلًا مِن الفريقين، وكانت حاقنة لدِماءٍ لا يعلم عددها إلّا الله، باسِطةً الأمنَ في أرجاء الجزيرة حتَّى استَطاعَت الظَّعِينَة (الضَّعِينَة في الأصل الهودَج، ثم سُمِّيَت به المرأة ما دامت فيه، مأخوذٌ مِن الظَّعْن، وهو الارتِحال) أن ترتحِل مِن الحِيرة حتى تطوفَ بالكعبة لا تخاف أحدًا إلّا الله.
أوّل حجّ في الإسلام ونزول البراءة
فُرِض الحَجّ سنة تسع، وبَعَث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر أميرًا للحجّ في هذه السّنة ليقيم للمسلمين حجَّهم، وخرج مع أبي بكر مَن أراد الحجّ مِن المسلمين في ثلاث مئة رجل مِن المدينة، ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليّ بن أبي طالب فقال له أخرج وأذِّن في النّاس يوم النّحر أنّه لا يدخل الجنَّة كافر، ولا يحُجّ بعد هذا العام مُشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
عام الوفود
وبعد أن فتح اللهُ مكَّة وعاد نبيّه من تبوك سالما غانمًا تَقاطَرت الوُفود إلى مركز الإسلام، وكانت تعود إلى مَواطِنها مع حماس ونَشاط كبيرين في الدَّعوة إلى الإسلام، وكراهة شديدة للوثنيَّة وآثارِها، وبُغْضٍ لِلجاهليَّة وأدْرانِها.
وكانت الوفود تتعلَّم الإسلامَ، وتتَفَقَّه في الدِّين، ويشهدون أخلاق الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم وعِشْرة أصحابه، وقد تُضْرَب لهم خيام في فناء المسجد، فيسمعون القرآن، ويرون المسلمين يُصَلّون، ويسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكلّ بساطةٍ وصراحَةٍ، ويجيبُهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بلاغةٍ وحِكْمةٍ، ويَسْتَشِهد بالقرآن فيؤمنون ويَطْمَئِنّون.
حجَّة الوداع
ولمّا تمّ اللهُ ما أرادَه مِن تَطْهير بَيْتِه مِن الرِّجْس والأوثان، وتاقَت نُفوس المسلمين إلى الحجّ، وقد بَعُد عَهْدُهم عنه، أَذِن اللهُ لنَبِيِّه صلّى الله عليه وسلّم في الحجّ، فخَرج مِن المدينة لِيَحُجّ البيت، ويلقى المسلمين ويُعَلِّمهم دِينَهم ومَناسِكَهم، ويُؤدِّي الشَّهادَة، ويُبَلِّغ الأمانة، ويأخذ مِن المسلمين العهد والميثاق، ويمحو آثار الجاهليّة ويطمِسَها، ويَضَعها تحت قدميه.
حجَّ مع النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أكثر مِن مئة ألف، وسُمِّيت هذه الحُجَّة بحجَّة الوَداع، وحجّة البَلاغ حيث خَطب النّاس يوم عرفة على راحلته خُطبة عَظِيمةً قرَّر فيها قَواعِد الإسلام، وهَدَم فيها قواعِد الشِّرك والجاهليّة، وقرَّر فيها تحريم المحرّمات التي اتَّفَقَت الملَل على تحريمها، وهي الدِّماء والأموال والأعراض، ووَضَع فيها أمور الجاهليّة تحت قدميه، ووَضع فيها رِبا الجاهليّة كلّه وأبْطَلَه، وأوصاهم بالنّساء خيرًا، وذَكَر الحَقَّ الذي لهم وعليهِنّ، وأنّ الواجب لهنّ الرِّزق والكسْوة بالمعروف.
ثم أخبر أنّهم مسؤولون عنه، واستَنْطَقَهم بماذا يقولون، وبماذا يشهدون؟ قالوا: نشهد أنّك قد بلَّغت وأدَّيتَ ونصَحت، فرفع إصبعه إلى السّماء واسْتَشْهد اللهَ عليهم ثلاث مرّات، وأمَرَهم أن يُبَلِّغ شاهِدهم غائِبَهُم.
وقد أكمَلَ اللهُ به الدِّين وأتّم به النِّعْمَة، ونزل قوله تعالى:﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3].
وَفاةُ النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم
لَمّا بلغ هذا الدّين ذروة الكمال، وبلَّغ الرّسولُ الكريم البلاغ المبين، وأدّى الأمانة وجاهد في الله حَقّ جِهاده، وأقَرّ اللهُ عينَ نبيِّه بدخول النّاس في هذا الدِّين أفواجًا أذِنَ اللهُ لنبيِّه بِفراق هذا العالم، ودَنَت ساعَة اللّقاء، وأُعْلِم بذلك فقال تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾
شكوى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
ابتدأت شكوى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في آخر شهر صفر، وكان مبدأ ذلك أنه خرج إلى بقيع الغرقد مِن جَوْف اللَّيل فاستغفر لهم، ثمّ رجع إلى أهله، فلمّا أصبح ابتُدئ بِوجَعه مِن يومه ذلك.
واشتَدَّ به وَجَعُه وهو في بيت ميمونة، وكان يقول أين أنا غدًا، أين أنا غدًا يُرِيد يَوْمَ عَائِشَةَ، فَأَذِنَ له أَزْواجُهُ يكون حيث شاء، فكان في بَيْتِ عائِشَة حتّى مات عندها.
وكان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول في مَرَضِه الذي مات فيه: «يا عائِشَةُ ما أزالُ أجِدُ ألَمَ الطَّعام الذي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فهذا أَوانُ وَجَدْتُ انْقِطاعَ أَبْهَرِي مِن ذلك السَّمِّ». (رواه البخاري برقم 4428).
والأبهَر: من أوردة القلب، وهما أبهران، وهما الوَرِيدان اللَّذان يحْمِلان الدَّم مِن جميع أورِدَة الجِسْم إلى الأُذَيْن الأيمن مِن القَلْب.
آخِر البُعوث
وبعث رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم أُسامةَ بن زيد بن حارثة إلى الشّام، وأمرَه أن يُوطِئ الخيلَ تخوم البلقاء والدّارون مِن أرض فلسطين، وانتَدَب كثيرًا مِن الكبار مِن المهاجرين والأنصار في جَيْشِه، وكان مِن أكبَرهِم عمر بن الخطاب.
اشتدَّ المرضُ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجيش أسامة مخيِّم بالجرف، ونفَّذ أبو بكر جيش أسامةَ بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ تحقيقًا لِرَغْبَتِه، وإكمالًا لمرادِه.
وأوصى المسلمين في مَرِضه أن يُجيزوا الوَفْد بنحو ممّا كان يجيزهم به، وأن لا يتركوا في جزيرة العرب دِينَيْن، وقال: «أخرجوا المشركين مِن جزيرة العرب».
وها هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل وَفاته ما يترك في بيته شيئًا مِن حُطام الدُّنيا الزّائلة، ويأمر بإنفاق ما عنده مِن ذُهَيباتٍ مَعدودات، ويقول: «ما ظَنّ محمَّد بالله عزّ وجلّ لو لَقِيَه وهذه عنده».
ولَمّا ثَقُل وَجَعُه كان يَهْتَم بِالصَّلاة، وبإمامة أبي بكر بالنّاس تنويهًا بِفَضْله وإمامَتِه.
خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَال: «إنّ اللهَ خَيَّرَ عَبْدًا بين الدُّنْيا وبين ما عِنْدَهُ فاخْتَارَ ما عند اللهِ»، فَبَكَى أبو بَكْرٍ، وكان رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم هو العَبْدَ.
آخر نظرة إلى المسلمين وهم صفوف في الصَّلاة
كان أبو بكر يُصلِّي بالنّاس حتى إذا كان يوم الإثنين وهم صفوف في صلاة الفجر كَشَف النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم سِتْر الحُجْرَة ينظُر إلى المسلمين وهم وُقوف بين يدي ربّهم، ورأى كيف أثمَر غَرْس دعوته وجهاده، فَمُلِئ مِن السّرور ما الله به عليم، واسْتَنار وَجْهُه وهو منير.
وكان آخِر ما تكلَّم به النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن قال: «لَعْنَةُ اللهِ على اليَهودِ والنَّصارى اتَّخَذُوا قُبورَ أنْبِيائِهِم مَساجِدَ» يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا. (رواه البخاري برقم 435).
وكانت وَصِيَّته الأخيرة حين حَضَرْته الوَفاة «الصَّلاةَ الصَّلاةَ، وما مَلَكَت أيمانكم» حتى جَعل يُغَرْغِر بها صَدره، وما كاد يفيض بها لسانه.
وها هو صلوات ربّي وسلامه عليه يُعاني الموتَ ويُعاينه، وجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ في الماءِ فَيَمْسَحُ بِهِما وَجْهَهُ الشَّريف، وَيَقُول: «لاَ إلَهَ إلّا اللهُ، إنّ لِلْمَوْتِ سَكَراتٍ»، ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: في الرَّفِيقِ الأعْلى حتَّى قُبِضَ، ومالَتْ يَدُهُ.
فارقَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم الدّنيا وهو يحكم جزيرة العرب، ويَرْهَبه مُلوك الدُّنيا، وما ترك عند موته دِينارًا ولا درهمًا، ولا عبدًا ولا أمةً، ولا شيئًا إلّا بَغْلَتَه البَيْضاء، وسِلاحَه، وأرضًا جَعَلها صَدقَةً.
وتُوفي صلّى الله عليه وسلّم ودِرْعُه مَرهونة عند يهوديّ بِثلاثين صاعًا مِن شعير، ما وجد ما يَفْتَكّ به من هذا الرهن حتّى مات صلّى الله عليه وسلّم.
وكان ذلك يوم الإثنين 12 ربيع الأول سنة 11 للهجرة بعد الزَّوال، وله صلّى الله عليه وسلّم 63 سنة، وكان أشدّ الأيّام سَوادًا ووَحشةً ومُصابًا على المسلمين، فعن أَنَسٍ قال:«لَمَّا كان اليَوْمُ الذي قَدِمَ فيه رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ المَدِينَةَ أَضاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، فلَمَّا كان اليَوْمُ الذي ماتَ فيه أَظْلَمَ منها كُلُّ شَيْءٍ»، وقالَ: «ما نَفَضْنا عن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ الأَيْدِي حتَّى أَنْكَرْنا قُلُوبَنَا».
وهذه أُمَّ أَيْمَنَ بَكَتْ لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، فقِيلَ لَها: ما يُبْكِيكِ على النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ؟ فقالت: «إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيَمُوتُ، وَلَكِنْ إِنَّمَا أَبْكِي على الوَحْيِ الذي رُفِعَ عَنَّا».
وينزل خبر وَفاة الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه كالصّاعقة؛ لِشدَّة حبّهم له، وما تَعَوّدوه مِن العيش في كَنَفِه عيش الأبناء في حِجْر الآباء وكنفهم، بل أكثر مِن ذلك قال تعالى:﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التَّوْبَةِ: 128]
ولم يَكَد بَعْضُهم يُصَدِّق بِنَبإ وَفاته، وكان في مُقدَّمِهم عمر بن الخطاب، فأنكر على مَن قال: مات رسول الله، وقال: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمُوتُ حَتَّى يُفْنِيَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُنَافِقِينَ».
وكان أبو بكر رَجُلَ السّاعة المطلوب، والجبَل الرّاسي، فأقْبَل مِن مَنزلِه لَمّا بَلَغَه الخبر، ودَخَلَ المَسْجِدَ، وَعُمَرُ يُحَدِّثُ النَّاسَ، فمضَى حتَّى أَتَى البَيْتَ الذي تُوُفِّيَ فيه رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو في بيت عائِشَةَ، فكَشَفَ عن وَجْهِهِ بُرْدَ حِبَرَةٍ كان مُسَجًّى بِهِ - أي مُغطّى به -، فَنَظَرَ إِلَى وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، ثمّ أَكَبَّ عَلَيْهِ يُقَبِّلُهُ، ثُمّ قال: «واللهِ لا يَجْمَعُ اللهُ عَلَيْهِ مَوْتَتَيْنِ، لَقَدْ مِتَّ المَوْتَةَ التي لا تَمُوتُ بَعْدَها».
ثم خرج أبو بكر فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: 30] حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ، انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ [آل عمران: 144] حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ، فَمَنْ كان يَعْبُدُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فإنَّ اللهَ حَيٌّ، ومَن كان يَعْبُدُ مُحَمَّدًا، فإنَّ مُحَمَّدًا قد ماتَ، فقال عُمَرُ: أَوَ إِنَّهَا لَفِي كِتَابِ اللهِ ما شَعَرْتُ أَنَّها في كِتابِ اللهِ، ثُمّ قال عُمَرُ: يا أَيُّهَا النَّاسُ هذَا أَبُو بَكْرٍ، وَهُوَ ذُو شَيْبَةِ الْمُسْلِمِينَ فَبايِعوهُ فَبايَعُوهُ.
بايَع النّاسُ أبا بكر بالخلافة في سقيفة بني ساعِدَة حتّى لا يجد الشَّيطان سبيلًا إلى تفريق كَلِمَتِهم، وتمزيق شملِهم، وحتّى لا تلعب الأهواء بقلوبهم، ولِيُفارق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الدّنيا وكلمة المسلمين واحدة، وشَملُهم مُنْتَظِم، وعليهم أمير يَتَولى أمورَهم، ومنها: تجهِيز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودفنه.
وهدأ النّاس وانْجَلَى عنهم ما كانوا فيه مِن حَيْرة وغَمْرَة، وغسَّلوا رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم وكفَّنوه، وقد تولّى ذلك أهل بيته، ووُضَع سَريره في بيته، وحدَّثهم أبو بكر أنّه سمع رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما قُبِض نَبيّ إلّا دُفِن حيث يُقْبَض»، فَرُفِع فِراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي توفي فيه، وحُفِر له تحتَه، وتَولّى ذلك أبو طلحة الأنصاريّ، ثمّ دَخلوا يُصَلّون عليه أرسالًا، ولم يَؤُمّ النّاسَ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أَحَدٌ، وكان ذلك يوم الثّلاثاء.
الأخلاق والشَّمائل
لم يكن صلَّى الله عليه وسلّم فاحِشًا مُتَفَحِّشًا، ولا صَخّابًا في الأسواق، ولا يجزي السَّيِّئة بِالسَّيِّئة، ولكن يَعْفُو ويَصْفَح، وما ضَرَب بِيَده شيئًا قطّ إلّا أن يُجاهد في سبيل الله، ولا ضَرَب خادمًا ولا امرأةً، وما انْتَصَر لِنَفسِه مِن مَظْلَمة ظَلَمَها قَطّ، ما لم يُنْتَهَك شيءٌ مِن محارِم الله، وما خُيِّر بين أمرين إلّا اختار أيْسَرهما ما لم يكن إثمًا، وإذا دخل بيتَه كان بشرًا مِن البشر، يُصْلِح نَعْلَه، ويحلب شاتَه، ويخدم نفسَه، قد وَسِع النّاسَ بَسْطُه وخُلُقُه، فصار لهم أبًا، وصاروا عنده في الحقّ سواء، أجود النّاس صَدْرًا، وأَصْدَق النّاس لهجةً، وأَلْيَنُهُم عَرِيكَة - أي طبيعة -، وأكْرَمهم عَشِيرةً، مَن رآه بَدِيهةً هابَه، ومَن خالَطَه مَعرفةً أحبَّه، يقول ناعِتُه: لم أر قبلَه ولا بعدَه مِثْلَه صلّى الله عليه وسلَّم.
كان رَبْعَةً مِن القَوْمِ - أي وسطًا - ليس بالطَّوِيل، ولا بِالقصيرِ، أزْهَرَ اللَّوْن ليس بأبْيَضَ أَمْهَقَ - أي كريه البياض كبياض الجَصّ (الجّصّ: الجِبْس أو الجِير يُستَخدم في طلاء البيوت، وتقويم الحجارة، ونحو ذلك) -، ولا آدم، ليس بِجَعْدٍ قَطِطٍ - أي: شديد الجُعودة -، ولا سَبْطٍ رَجِلٍ. والسَّبْطُ مِن الشَّعَر: المُنْبَسِطُ المُسْترَسِل، أي: كان شَعَرُه وَسَطًا بَيْنَهُما.
كان بَعِيدَ ما بين المَنْكِبَيْنِ، عظيمَ الجُمَّةِ إلى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ.
وقال عنه أنس قال: خدمتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّمَ عَشْر سِنِين فما قال لي: "أُفٍّ" قَطُّ، ولا قال لِشَيْءٍ فعلْتُه: لِم فَعَلْتَهُ ؟ ولا لِشَيْءٍ لم أَفْعَلْه: ألا فَعَلْتَهُ؟ وكان صلَّى الله عليه وسلَّم أحسن النَّاس خُلُقًا ولا مَسسْتُ خَزًّا ولا حَرِيرًا ولا شَيْئًا كان أَلْيَنَ مِن كَفّ رَسول الله صلَّى الله عليه وسَلَّم، ولا شَمَمْتُ مِسْكًا ولا عِطْرًا كان أَطْيَبَ مِن عَرَق رَسُولِ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم.
كان مُتَواضِعاً يَقْبَل دَعْوَة أيّ شَخْصٍ، ويمنَع أصحابَه مِن الوُقوفِ له إذا أقبَلَ عليهِم وهُم جالِسونَ.
كان حَسَن المعاشَرَةِ، يجلِس مع أصحابِه ويَسْتَفْسِر عن أحوالهم، ويُشارِكُهُم أفراحَهُم وأحزانهم، وقد قال الله تعالى عنه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4].
الخلفاءُ الرّاشِدونَ
مِن رحمة الله وتثبيته لأنبيائه عليهم الصَّلاة والسّلام أن جعل إلى جِوارهم أصحابًا مخلصين يُناصِرونهم ويُؤَيِّدون مسعاهم، وأعظم هؤلاء الأصحاب هو أوَّلهم إيمانًا، وأقدمهم اتِّباعًا للرسول صلى الله عليه وسلم، إنّه أبو بكر الصِّديق الذي عرف محمدًا صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة قبل البعثة بصدقه وأمانته، وشاهَد سُمُوَّ أخلاقِه عن قُرْب، فكان أسرع النّاس إيمانًا بدعوته، وأعمقهم يقينًا بصدق نُبوَّته، وتحمَّل في سبيل ذلك الكثير مِن أذى المشركين في مكَّة، واستمر دوره في المدينة النَّبويَّة منذ صَحِب الرَّسول صلى الله عليه وسلم في رحلة الهجرة التي تعد - بالنسبة إلى أبي بكر- واحدًا مِن أعظم مواقف الرِّجال في التاريخ.
وبوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لم تنته المواقف الخالدة في حياة أبي بكر؛ بل بدأت صفحة جديدة منها، أثبت خلالها الصدّيق فيها رباطة جأشه وقوَّة إيمانه وصدقه.
وقبل أن نستعرض هذه المواقف كان ولا بدّ مِن جولة سريعة نتعرَّف مِن خلالها على هذه الشَّخصية الفذَّة وهذا الصّحابيّ العلَم مِن خلال معرفة اسمه ومولده ونسبه وصفاته.
مولده واسمه ونسبه
إنّه عبد الله بن عثمان بن عامر، التَّيْمِيّ القُرَشِيّ، وُلِدَ في مكَّة بعد وِلادَة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بِسنتيْن وعدَّة أشهُر، وكُنِّي بأبي بكر، ويُلَقَّبُ بِالصِّدِيقِ؛ لأنَّه بادَرَ بِتَصْدِيقِ الرَّسولِ في رِسالَتِهِ، وصَدَّقَه في خَبَرِ الإسراءِ والمعراجِ.
ولُقِّب أيضًا عتيقًا؛ لجمال وجهه وحُسنه، وقيل: لعِتْقه مِن النار، وقيل: لأنه لم يكن في نسبه شيء يُعاب به، وقيل غير ذلك.
أبوه عثمان، ولقبه أبو قُحافَة، وأُمّه سَلْمَى بنت صخر، وكنيتها: أمّ الخير.
أخلاقه وصفاته
شَبَّ أبو بكرٍ على الأخلاقِ الفاضِلَة، وقد عَمِلَ بِالتِّجارَةِ حتى أصبَحَ مِن أغنِياءِ مَكَّةَ، وهو أوَّلُ مَن أسلَم مِن الرِّجالِ، وصاحَبَ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم في الهجرَةِ، وأَحَد المبشَّرِينَ بِالجنَّة وقد بَذَلَ أموالَه في شِراءِ الأرِقّاء (العَبِيد) وإعْتاقِهِم في سَبِيلِ اللهِ سبحانَه وتعالى، كبِلال بن رَباح وعامر بن فهيرة، كما كان يُنْفِق على المحتاجِينَ، وكان له دَوْرٌ بارِزٌ في الدَّعْوَةِ الإسلامِيَّة حتى وَفاتِه.
وقد اجتمع لأبي بكر مِن تجارته مال كثير، وحقَّق له الثَّراء والغنَى واستقامةَ الخلق بُروزَ شخصيَّتِه وسط المجتمع الجاهلي في مكَّة، كما سخَّره فيما بعد لخدمة دينه ونبيِّه.
كما عُرِفت عن أبي بكر أيضًا السَّماحة، وسرعة التَّأثُّر بحال الفقراء والبائسين، والإشفاق على الفقير، كما كان مألوفًا في قومه، مُحبَّبًا إليهم؛ لحرصه على قضاء حوائجهم، ومعرفته بأنسابهم، إذ هو أعلم قريش بأنساب العرب وأحسابهم.
اشتهر أبو بكر بالعِفَّة والخصال الحميدة، لم يشرب الخمر التي كانت مُتَفَشِّية في المجتمع الجاهليّ، زاهدًا متواضعًا في أخلاقه ولباسه، ومطعمه ومشربه، سخيًّا كثير البذل والعطاء، لينًا، رقيقًا، بعيد النَّظر، ثاقب الفكر، حازمًا في اتخاذ القرارات.
كان إيمان أبي بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم شديدًا، صدَّقه في صِباه، ورافقه عندما هاجر إلى المدينة، فهو المقصود بقوله تعالى: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوب: 40].
وعندما استقر النبي في المدينة كان أبو بكر ساعِدَه الأيمن، وقد خصَّه بمزايا لم يخص أحدًا بها، وقدَّر له منزلته، وأشاد بذكره كثيرًا:" ما لأحدٍ عندنا يَدٌ إلّا وقد كافَأناه إلّا أبا بكر، فإنّ له عندنا يدًا يكافئه الله عز وجل بها يوم القيامة". رواه الترمذي
وأمّا عن صفاتِه الخَلْقيَّة فهو رجلٌ أبيض، نحيفٌ، حسن القامة، أَجْنَأ، أي: في ظهره مَيْل، غائر العَيْنَين، خَفِيف العارِضين -والعارضِ: جهة الوجه-، ناتِئ الجبهة -أي: ظاهر الجبين واضِحه-، عارِي الأشاجِع -أي: أنَّ اللَّحم كان على مفاصل أصابعه قليلًا-.
قصة إسلام أبي بكر الصِّدِّيق
يا أبا القاسم، فُقِدتَ مِن مجالس قومك، واتهموك بالعَيْب لآبائها وأمهاتها ...؟
إني رسولُ الله، أدعوك إلى الإسلام.
هكذا جاء المشهد سريعًا، وترك أثرًا عميقًا؛ ليس في حياة أبي بكر وحده، ولكن في حياة العديد مِن شباب مكة الذين سيكونون أوَّل الدّاخلين في الإسلام على يديه؛ بل في حياة الدّنيا كلها؛ إذ سَتُسَجِّل هذه الكوكبة مِن الرِّجال أعظم المواقف في خدمة الإسلام وافتدائه والدَّعوة إليه.
راح أبو بكر يستمع إلى صوت صاحبه القديم محمَّد في إنصاتٍ واهتمام، والكلمات تتَحدَّر مِن بين شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم كحبَّات اللُّؤلؤ التي يضيء لها قلب الصدّيق، فتمتلئ نفسه بالرضا، وفؤاده بالطّمأنينة ...
ولم يلبث أبو بكر حين تعلم كيف يصير مسلمًا أن شهد بالوحدانية لله تعالى، وبالرِّسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم، ومِن يومها راح أبو بكر يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوة مَن تربطه به صلة ويحسّ أن فيه خيرًا إلى الانضمام إلى الكتيبة المؤمنة بالله رب العالمين.
يقول حسان بن ثابت:
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها ... بعد النبي وأوفاها بما حملا
والثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس منهم صَدَّق الرسلا
وكان حب رسول الله قد علموا ... من البرية لم يعدل به رجلا.
لقد أخلص أبو بكر في إيمانه، فلم يكتف بأن يعْلم من الخير ما علم، وإنما قرَّر أن يجعله على الفور عملًا ينفع به نفسه وينتفع به الناس، لذلك تحرَّك بالدعوة بين رجال قريش مع ما في ذلك مِن خطورة بالغة على نفسه وتجارته، إلّا أنّ نور الهداية في نفسه كان أكبر، فأخذ ينتقي عقلاء قريش، ويعرض عليهم الإسلام، وخاطب فيهم الفطرة والعقل، مستغلًّا بذلك ما كان بينه وبينهم مِن صداقةٍ ومودة، فأسلم على يديه: الزّبير بن العوّام، وعثمان بن عفّان، وعبد الرَّحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وأبو عبيدة بن الجرّاح، وهم مِن العشرة المبشَّرين بالجنَّة الذين كانوا أكثر النّاس خدمة للدِّين وتضحيةً في سبيله.
الصِّدِّيقِيَّةُ
إنّ الصِّدِّيقيّة مقامٌ عالٍ يلي مقام النُّبوَّة، يُعلِن فيه صاحبُه إيمانَه بالغيب كأنَّه يراه، ويُعلِن ثقتَه في دينه وحكمة تشريعه، حتى يصبحَ الإسلامُ بالنِّسبة لحياته الماءَ والهواءَ ... لا يبالي هذا الصدّيق بالشَّدائد والأذى؛ بل يبدو أمامها كالهازئ بها وبمن يُدبِّرها ويكيد بها للدِّين.
لقد ظهرت كلّ هذه المعاني بجلاء ووضوح في الثَّلاث عشرة سنة التي قضاها أبو بكر الصديق في مكَّة قبل الهجرة، حتى أخذ لقبه ورتبته العالية (الصِّدِّيق) مِن موقفه إزاء أحد أحداث هذه الفترة، وهو حادث الإسراء والمعراج.
وخبر القصَّة أنّ العام العاشر مِن البعثة كان شديدًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى أُطلِق عليه "عام الحزن"؛ إذ مات فيه نَصِيراه الكبيران: زوجته خديجة، وعمّه أبو طالب، وفَقَدَ بموتهما ركنين قويَّين كانا يَرُدّان عنه أذى السّفهاء، ويخفِّفان عنه ثِقَل ما يجد مِن تعنّت المشركين ... وفي هذا العام نفسه ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطّائف بحثًا عن قلوب تتقبَّل الإيمان، لكنّهم كانوا أقسى عليه مِن قريش؛ إذ رفضوا الاستجابة لدعوته، وآذوه في نفسه وجسده الشَّريف ...
أراد الله تعالى في هذا الجوّ الصَّعب أن يُخَفِّف عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فأسرى به مِن المسجد الحرام في مكَّة المكرمة إلى المسجد الأقصى في فلسطين، ثم عُرج به إلى السَّموات حتى سدرة المنتهى، وعاد إلى مكة في ليلة واحدة.
ورحلة الإسراء - وهي المرحلة التي قطعها الرَّسول الكريم فوق سطح الأرض - كانت قريش تقطعها في شهرين، شهر للذّهاب وآخر للعودة، ولذلك وجدتها فرصة لتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، والتَّشكيك في نبوته، وارتَّد بعض ضعاف الإيمان مِن المسلمين، وأمّا أبو بكر فقد قدَّم لهم سببًا مُقنعًا يُصدِّق على أساسه كلّ ما يقوله الرَّسول.
"والله لئن كان قاله فقد صدق".. هذه هي علامة الصدّيق الذي يثق في أن كل ما يقوله دينه حق، وكلّ ما ينطق به نبيه صدق، ولو كان أوسعَ دائرة مِن طاقة العقل ...
أتاه المشركون وكأنهم وجدوا فرصة ليثبتوا لأبي بكر كَذِب صاحبه الذي يظن أنه نبيّ، وتأكَّدوا مِن قدرتهم هذه المرة على صرف أحد أكبر أنصار محمد عنه، خاصة أنّ ما يحكيه محمَّد قد صرف عنه بعض مَن آمن به.
أتى المشركون إلى أبي بكر لعلمهم بمنزلته مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكانته مِن الإسلام الذي كان قد مضى عليه في مكة حينئذ عشر سنوات، فقالوا لأبي بكر:" إنّ صاحبك يزعم أنَّه قد ذهب إلى بيت المقدس وعاد إلى مكَّة في ليلة واحدة"!! وخاف أن يكونوا يكذبون عليه، فقالوا له: لقد قال ذلك وهو في المسجد يخبر الناس.
وبيقين المؤمن وفطنته يجيبهم أبو بكر: والله لئن كان قاله فقد صدق!
وما مِن كلمةٍ خيَّبت سعي المشركين إلى تشكيك أبي بكر في صدق نبيِّه مثل هذه الكلمة، فقد أفقدتهم الأمل في أن يحاولوا مرة أخرى المساس بإيمان هذا الرجل الشامخ الذي زادهم يأسًا فقال: "ما يعجبكم مِن ذلك؟! فوالله إنّه ليخبرني أن الخبر (أي: الوحي) يأتيه مِن السماء إلى الأرض في ساعة - أي في زمن قصير - مِن ليلٍ أو نهارٍ فَأصدِّقه، فهذا أبعد ممّا تعجبون منه..!!"
ويسرع أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليسمع منه الخبر، ويتأكَّد مِن صدق كلام المشركين، فيجد النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام عند كعبة أبويه إبراهيم وإسماعيل يقصّ على الناس قصة الإسراء، ويروي لهم رحلة المساء التي قطع فيها الصحراء الطويلة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، ورسول الله لا يبالي بتكذيب المشركين واستنكارهم؛ بل يسوق لهم الحجج القاطعة والأدلة الواضحة على صدقه.
وبفطنته يسأل أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصِف المسجد الأقصى الذي شاهده في رحلته؛ ليكون ذلك أدلّ على صدقه أمام الناس.
ويُرفَعُ المسجد أمام عيني النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى التّسليم، فيَصِف بناءه وهيئَتَه ومنظَره، وكلّما سمع أبو بكر شيئًا قال للنبي الحبيب: صدقت، أشهد إنّك لرسول الله "، فحلاَّه النبي صلى الله عليه وسلم بالوسام العظيم فقال:" وأنت يا أبا بكر الصديقُ ".
هجرة الصِّدِّيق مع رسول الله عليه الصلاة والسلام
بَدَا إيذاءُ المسلمين عملًا ممنهجًا يتولى الكفار تنفيذه، فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأتْباعه بالهجرة إلى الحبشة ... وأعدَّ أبو بكر عُدَّة السَّفر ناويًا الخروج والهجرة بدينه بعيدًا عن أذى المشركين وتضييقهم ...
ويبدأ الصدّيق خطواته المثقلة المتعبة جادًّا في ترك الوطن الذي آذاه فيه قومه، لكن يلقاه في طريق هجرته ابن الدَّغِنة المشرك فيسأله عن وجهته، ويجيب أبو بكر في صبر المؤمن: «أخرجني قومي وآذوني»، وأبت مروءة ابن الدَّغِنة أن يترك هذا الرجل صاحب الخلق السوي والمعروفِ والمعونة شريدًا في البلاد، ورجع به إلى مكة في حمايته، وأعلن ذلك بين قريش، فرضيت واشترطت لنفسها أن يعبد أبو بكر ربَّه كيف يشاء، ولكن في السِّرّ وبعيدًا عن أعين الناس حتى لا يتأثر به أحد ...
وهل يرضى المؤمن أن يكتم إيمانه في صدره، أو يحبسه في بيته، ولا يريه للدّنيا لكي تغترف منه، وتنال من هذا الخير الذي ذاق طعمه وعرف حلاوته ... ؟ اتخذ أبو بكر مِن منزلٍ له في بني جُمَح مسجدًا يصلي فيه، وانطلق صوته الجميل يُرتِّل آي القرآن في خشوع، ودموعه تسيل على خدَّيه، وتبلل صوته بما يذيب الأحجار، ويزلزل النفوس مِن أعماقها العميقة ... وراح النساء والغلمان والعبيد مِن قريش يستمعون إلى هذا الصوت المغرد، فخشعوا لخشوعه، وبكوا لدموعه. وخاف السّادة مِن قريش أثر ذلك، فأسرعوا يشكون أبا بكر إلى ابن الدَّغِنة، فلما راجع أبا بكر فضّل الصديق ردَّ حمايته عليه، والبقاء في حمى الله تعالى وقال: «أرُدّ عليك جوارك وأرضى بجوار الله»، فعادت قريش إلى إيذائه، وعاد هو إلى الصبر .
وها هو النبي صلى الله عليه وسلم يأذن لأصحابه في الهجرة إلى المدينة، ويقول لهم: «إنّ الله عزَّ وجل قد جعل لكم إخوانًا ودارًا تأمنون بها»، فخرج الصحابة الكرام جماعات وراء جماعات وأفرادًا في عقب أفراد مهاجرين إلى يثرب، بينما انتظر الرسول صلى الله عليه وسلم إذْن ربِّه، وكلّما استأذنه أبو بكر ليهاجر قال له النبي عليه الصلاة والسلام: «لا تعجل، لعلَّ الله يجعل لك صاحبًا».
وكانت الصُّحبة والهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سخَّر أبو بكر نفسَه ومالَه وأهلَه لإنجاح الرحلة وحماية الدِّين، فشهد مواقف الخلود في الغار، وفى الطريق إلى المدينة، وكانت هذه أعظم صحبة في التاريخ.
كان أبو بكر وابنه وابنته وخادمه أبطالًا مِن نوع فريد، أحاطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضعوا أنفسهم في مواطن الخطر افتداء للدِّين والرَّسول؛ فأما عبد الله بن أبي بكر فقد تولَّى متابعة أخبار المشركين وتدبيراتهم في منتديات مكة وبيوتها؛ لينقلها إلى رسول الله وصاحبه.
وأما أسماء بنت أبي بكر فهي امرأة وظَّفها الإسلام وأهملتها الجاهليَّة، فوقفت شامخة في وجه أبي جهل حينما أتى يسألها عن أبيها وصاحبه بعد خروجهما مهاجرين، فأنكرت معرفتها بشيء، فانسحب مِن أمامها تشتمه المروءة والرجولة.. وراحت أسماء تؤدي دورها في الهجرة: تحمل الطعام إلى أبيها وصاحبه في الغار، ولا يظن أحد أن هذه المرأة الصغيرة تكتب في صفحات التاريخ سطورًا؛ بل صفحات باسمها.
وأما عامر بن فهيرة خادم أبي بكر الأمينُ فقد ساق غنم سيده يتتبع بها آثار عبد الله وأسماء ليمحوها، وكم رعى ابن فهيرة أغنام سيده مِن قبل، غير أن الإيمان بالله جعل للرعي فى هذه الأيام مذاقًا خاصًّا!!
واشترى الصدّيق مِن ماله ناقتين للرحلة، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر على دابة لم يدفع ثمنها، فاشترى من أبي بكر إحداهما، كما استأجر الصديق عبد الله بن أريقط - وكان مشركًا - كدليل على الطريق، وترك له الناقتين يرعاهما حتى تحين ساعة الهجرة.
وهكذا فقد خُصّ أبو بكر من بين الشُّموس والأقمار الكثيرة التي أحاطت بخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم بمقام الوزير الأوَّل له، لا وزارة منصب وجاه دنيوي؛ بل وزارة القرب والحب والتقدير لهذا الإنسان المبارك الذي سخّر كل ما يملك مِن المال والقوة والولد لخدمة دينه ...
موقفه في صلح الحديبية
﴿لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ...﴾ ألفٌ وأربعمائة مِن المؤمنين هكذا وَصَفَهم ربهم، وحلّاهم برضاه، وزيَّنهم بخلود الذِّكر في القرآن ... وكان أبو بكر منهم؛ بل في مُقدِّمَتِهم، إذ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه في موسم الحج من العام الهجري السادس، واعدًا إيّاهم بدخول المسجد الحرام الذي طال حرمانهم مِن رؤيته والطَّواف به ... وراحت نفوس المسلمين في طريق السَّفر تستعيد ذكرياتها مع هذا البيت المبارك، وتُداعِب خيالها تلك السَّكينة العجيبة التي تحيط بأنحائه.
وفجأة يموت الأمل بين أيديهم، وتتلاشى الأحلام أمام أعينهم؛ إذ خرجت قريش كلّها مكشِّرة عن أنيابها لتَحُول دون دخول المسلمين مكة، فأبدى لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه لا يريد حربًا بل حَجًّا وعبادةً لله ربِّ العالمين، فبدأت المفاوضات بين المسلمين وقريش، وأرسل كلّ فريق رسلَه إلى الآخر، وكان عثمان بن عفان واحدًا مِن رسل المسلمين إلى قريش، فحبَسوه حين حاول الالتقاء بالمسلمين الممنوعين في مكة من الهجرة، وشاع أنه قُتل ... هنا ترك رسول الله عليه الصَّلاة والسّلام الرِّفق جانبًا ومال إلى خيار الحرب، فقام أصحابه وفي مُقدَّمتهم أبو بكر يبايعونه على ذلك تحت الشجرة، فرضي الله عنهم حينما استعدوا للتَّضحية بنيَّة صادقة وعزيمة ماضية، لكن قريشًا أطلقت عثمان، وخافت مِن عاقبة التعرض له بالأذى، فصمتت الحرب، ورجع صوت التفاوض عاليًا، حتَّى صالح النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قريشًا، ومِن شروط الصُّلح الذي شهده موقع الحديبية أن يرجع المسلمون إلى بيوتهم عامهم هذا على أن يأتوا للحج في العام المقبل ...
وقد أصاب هذا الشرط المسلمين بالغم والحزن، غير أنّه لم يهز شيئا مِن ثقة أبي بكر في دينه ونبيِّه، بل راح الصدّيق يُـثَبِّت الناس مِن حوله، ويعيد إليهم الثِّقة، فقد قال لعمر لَمّا اهتزَّ في هذا اليوم: يا عمر، إلزم غرزه، أي: التزم بأمره، فإني أشهد أنَّه رسول الله، فقال عمر: وأنا أشهد أنَّه رسول الله!
إنفاقه في سبيل الله
لقد مرَّت على الإسلام في المدينة ثماني سنوات وبضعة أشهر، ودولته في حاجة إلى ردع الجار الرومانيّ القويّ حتى لا يجرؤ على المساس بالمسلمين كما فُعِل مِن قبل، لكن تجهيز جيش للقتال أمر عسير إذ كان الحر شديدًا، بينما الأشجار باسطة ظلها، قد أمالت على الناس ثمارها وقرَّبْتها ... وكان هذا هو حال المدينة في شوال من العام الهجري التاسع، حيث يعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش العُسرة، داعيًا أصحابه إلى الإنفاق في سبيل الله تعالى فما تأخَّرت نفس مؤمن، حتَّى تبرَّع أحدهم بتمرٍ ثمنُه دراهم، وخرج أبو بكر يُقدِّم على قَدْره، يحمل مالاً بين يديه، ثم يعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا به كلُّ ماله، فيَسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا تركت لأهلك؟ فيقول الصِّدّيق: تركت لهم الله ورسوله..!
استخلاف النبيِّ عليه الصلاة والسَّلام أبا بكر حتى يحج بالناس
منذ زمن طويل وهواء التَّوحيد حول الكعبة تخنقه مناظر الأصنام التي وضعها المشركون في ساحة البيت الحرام، وأهل مكَّة إنما يقوم سلطانهم ومقامهم بين الناس على خدمة هذا البيت ورعاية الحجيج، لكن أهل البلد الحرام أشرك كثير منهم بالله وحاربوا رسوله، فأخذ الله منهم مكة عام الفتح وأعطاها لخاتم أنبيائه ولأمته مِن بعده إلى يوم القيامة...
لكن لم يزل البيت مشاعًا والحجّ مشاعًا، فيحج مَن يشاء كيف يشاء، والنَّبيّ صلى الله عليه وسلم في حاجة إلى أن يقر هذه الفريضة الجليلة، ويعلّم النّاس مَناسكهم بعيدًا عن عادات الشرك والمشركين، فاختار وزيره الأكبر أبا بكر لِيؤدي مهمَّة إنهاء كل مظهر جاهلي وضعه المشركون في أعمال الحج، ليحج بهم صلى الله عليه وسلم حجة الوداع على طهارة ونقاء ...
وراح أبو بكر يلبس للحج ثيابه، «وخرج من المدينة يسوق الهَدْى أمامه، مولّيا وجهه شطر المسجد الحرام»، وخرج بعده علي بن أبي طالب يركب العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحمل إلى الحجيج من النبي صلى الله عليه وسلم الخاتم رسالة تثبّت التوحيد وتزيل كلّ وثنية.
وصافحت عيون المسلمين بقيادة أبو بكر بيتَ الله الحرام وبلدَه الأمين، وراح علي يبلّغ رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس وهُم في منى، فيقرأ عليهم صدر سورة التوبة التي "أجهزت على الوثنية في بلاد العرب"، وينادي فيهم: «أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان..»
بدأت المهمة النبويَّة تكتمل، فاكتمل الدِّين، وتمَّ البلاغ، وعزَّ الإسلام، وملأ جزيرة العرب بنوره، وقد آن للفارس العظيم أن يستريح، ويخلّف دار المتاعب وراء ظهره ... وها هو المرض يزور الجسد الشريف الذي أتعبته الحياة، وضاقت على قلبه أنحاؤها، حتى أتى بلالٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعْلمه بدخول وقت الصلاة التي يحبها ويستريح قلبه بندائها، فلم يستطع أن يخرج ليصلي بالناس، وقال: «مُروا أبا بكر فليصلّ بالناس».
في ربيع الأول من العام الهجري الحادي عشر أصبح النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه يُودّع أُمَّته؛ إذ اشتد به المرض، وزادت عليه الحُمّى، وخرج أثناء ذلك إلى الناس حين شعر ببعض القوة، وكأنه يصافح تلك الوجوه التي شاركته رحلة الجهاد في سبيل الله تعالى ويترك لهم وصاياه، وكان مما قاله لهم: «إنّ عبدًا مِن عباد الله خيَّره الله بين الدُّنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله»، فأعجبت الناس الموعظةُ، وأحبوا أن يكونوا مثل هذا العبد الصالح، غير أنهم لا يدرون مَن هو، إلّا أبا بكر الذي علا صوته بالبكاء؛ إذ أدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد نفسه وأنّه يُوَدِّع أمّتَه، وقال الصدّيق والدّموع تملأ عينيه:" فَدَيْناك بآبائنا وأُمَّهاتنا يا رسول الله!".
ويضع النبي صلى الله عليه وسلم بلسمًا على قلب صاحبه الذي سبق الناس إلى الإيمان، وسبقهم إلى التَّضحية، وعاش مع النبي صلى الله عليه وسلم لحظات ومواقف لم يعشها غيره، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أمنّ الناس علي - أي أكثرهم فضلًا- في صحبته وماله أبو بكر»، ويأمر بأن تغلق كلّ أبواب البيوت المؤدية إلى المسجد إلا باب أبي بكر..
وفى يوم الوداع خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد وأراد أن يصلى خلف أبي بكر وهو إمام على الناس، لكن الناس نبهوا أبا بكر فتأخر، وجلس النبي صلى الله عليه وسلم على يسار أبي بكر ليكمل القراءة من حيث انتهى أبو بكر، فكان الصديق يأتم بخاتم الرسل، والناس يأتمون بالصدّيق. وودع النبي الدنيا في هذا اليوم، فما رأى الناس المدينة مُظلمة مثلما رأوها في هذا اليوم، كما لم يروها مضيئة مثلما رأوها يوم قدم إليها مهاجرًا.
ما ودّعه بشيء أعظم مِن الرِّضا بقضاء الله، مع أنه أغلى عنده مِن نفسه وماله وولده والناس أجمعين.. كان أبو بكر بالسُّنح - وهو مكان خارج المدينة - حين صعدت روح الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، فأتى حتى اقترب من بيت ابنته عائشة وفيه جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يشعر أبو بكر بقدميه اللتين تحملانه، غير أنه أظهر الثبات والجلد حين رأى المسلمين قد اهتزوا، وفقد كثير منهم رشدهم، حتى قام عمر بن الخطاب يهدد بالقتل مَن يقول إن رسول الله قد مات.. ودخل أبو بكر بيت ابنته دون أن يكلّم أحدًا، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مغطَّى، فرَفَع الغِطاء عن وجهه، ونظر في هذا الوجه الحبيب الذي كسته الطمأنينة وجمّله أثر القيام والصيام، ثم طبع قُبلة غالية عليه، وشَمّت أنفه رائحة الجسد الطاهر، فقال: «بأبي أنت وأمي، طِبْت حيًّا وميتًا، أمّا الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها».
وهنا كاد القلب يتفطَّر، وكادت نفس أبي بكر تخرج مِن موضعها، فصديقه الحبيب قد غادر وسافر، تاركًا إيّاه في سجن الدّنيا القاسي، لكنَّه تماسك وثبَّته الله تعالى؛ ليعيد المسلمين إلى رشدهم، حيث وقف فيهم خطيبًا، ووضّح لهم نقطة في منهج دينهم كأنهم نسُوها، وهم الذين يعرفون هذا المنهج جيدًا ويحفظون كتابه، وضَّح لهم أبو بكر أنَّ محمَّدهم الغالي ليس هو الخالد؛ بل الخالد هو الدين الذي جاء به، والمنهج الذي علَّمه للدنيا، وأنّ إجلال الرسول لا يعنى الانتكاس بعده، وإنما يعنى حفظ أمانته وصيانة دينه، كما حفظ هو وصان ...
الخلافة لأبي بكر الصدِّيق
ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه وجوهًا كثيرة مملوءة بالخير، ربّاها الإسلام، واحتضنها قلب محمد صلى الله عليه وسلم، امتلأوا بالمواهب والقدرات الفذَّة، فيهم عمر بن الخطاب البطل القويّ، وعلي بن أبي طالب الفارس الشجاع، وخالد بن الوليد القائد الهمام ... وغيرهم وغيرهم، كواكب أضاءت سماء البشريَّة، ولكنَّك لا تدري مَن مِن كلّ هؤلاء يستَحقّ أن يقود الأُمَّة بعد رسولها صلى الله عليه وسلم؛ بل قَلَّ مَن يستطيع أن يؤدي هذه المهمة الصعبة، فقد ارتدَّ كثير مِن العرب، وصار أمر الإسلام في خطر، وأصبح الدِّين الحنيف في حاجة إلى رجل مِن طِراز خاص، يردع المرتدين ويحفظ هيبة الحقّ وسلطانه!
لقد أسرع الأنصار إلى سقيفة بني ساعدة يعقدون مؤتمرًا خطيرًا هناك؛ ليختاروا خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم منهم؛ فالبلد بلدهم، والنُّصرة نصرتهم، كما أنّ النبي عليه الصلاة والسلام لم يوصِ لأحدٍ مِن بعده، فما سمع عمر وأبو عبيدة بالخبر إلّا وأسرعا إلى أبي بكر وهو بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذر إليهما بانشغاله بالجسد الطاهر الشريف، فألحّا عليه، حتى خرج معهما ...
وسار الرِّجال الثَّلاثة في طُرق المدينة وسِكَكِها جنوبًا إلى سقيفة بني ساعدة ومنتداهم، يسرعون الخُطا، ويتسابقون إلى موضع تجمُّع الأنصار الذين كادوا يجتمعون على بيعة سعد بن عبادة، فما فاجَأتهم إلّا وجوه أبي بكر وعمر وأبي عبيدة قد كساها الحزن، وغطّاها التَّعَب، فمَرَّت لحظات صمت اخترقها صوت السَّلام يُلقِيه المهاجرون الثلاثة على إخوانهم الأنصار ... والمسألة عند الفريقين ليست سلطان قبيلة معينة يثبتونه، ولكنَّها مبادئ دين تُقدَّم على كل هوى، وترتفع فوق كلِّ رغبة ...
فما ارتفع صوت أبي بكر يخطب فيهم إلّا وسكتت الأصوات، وصمَتَت الأفواه، وكلّهم آذان تسمع إلى شيخ قريش الجليل تتحدَّر الكلمات مِن فمه، تُذَكِّر الأنصار بموقعهم مِن الدِّين وفضلهم عند نبي الإسلام، وتُذَكِّرهم أيضًا بأنّ النبي قد جعل الخلافة في قريش؛ لأن الناس لن تخضع ولن تستجيب إلّا لهم؛ لقرابتهم مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهيبتهم القديمة بين العرب ...
وكان ممّا قاله:" نحن الأمراء وأنتم الوزراء ". فقال حباب بن المنذر: لا والله لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير. فقال أبو بكر: لا، ولكنَّا الأمراء، وأنتم الوزراء، وهم أوسط العرب دارًا، وأعربهم أحسابًا ".
وما كان للنَّفس الطاهرة أن تُرَشِّح نفسها، فرشَّح أبو بكر للنّاس أن يختاروا بين عمر وأبي عبيدة ليشغل أحدهما منصب خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "هذا عمر وهذا أبو عبيدة، فأيّهما شئتم فبايعوا"، فما انتهى الصِّديق مِن كلمته تلك حتى اندفع عمر وأبو عبيدة يعارضان هذه الفكرة بشدة، ويُقْسِمان:" لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك، فإنَّك أفضل المهاجرين، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله على الصلاة، والصلاة أفضل دين المسلمين".
ولم يترك الناس لأبي بكر فرصة يفكر فيها ويختار، فأسرع إليه فارس الأنصار بشير بن سعد فبايَعَه، ثم تلاه عمر وأبو عبيدة، وتتابَع بعدهما الناس على البيعة، حتى أتت القبائل القريبة مِن المدينة فبايعت.
وفي اليوم التّالي قام عمر في النّاس خطيبًا، فزكّى اختيار أبي بكر، وذكر فضلَه، فبايع الناس البيعة العامَّة، وحمل أبو بكر اللَّقب الخالد الذي لم يحمله أحد في التاريخ غيره "خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قام أبو بكر خطيبًا في الناس ليُعْلِن عن منهجه، فبعد أن حمد الله وأثنى عليه، قال:" أما بعد، أيّها الناس، فإني قد وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم، فإنْ أحسنتُ فأعينوني، وإنْ أسأتُ فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضَّعيف فيكم قويٌّ عندي حتى أرد عليه حقَّه إن شاء الله، والقويّ فيكم ضعيفٌ حتى آخذ الحقَّ منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلّا خذلهم الله بالذُّلّ، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلّا عَمَّهم الله بالبلاء، أَطيعوني ما أطَعْتُ اللهَ ورسولَه، فإذا عَصيت اللهَ ورسولَه فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله ".
مكث أبو بكر في الخلافة سنتين وبضعة أشهر، سَجَّل فيها للإسلام أعظم الأعمال، واتخذ أعظم المواقف، ممّا حفظ الله تعالى به دينه، ورفَع رايتَه، وصان به الإسلام مِن كل انتقاص ...
وقد كان الخلفاء الراشدون جميعا وأولهم أبو بكر امتدادًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الخير، وسنّتُهم وطريقتهم مِن سنّته صلى الله عليه وسلم وطريقته، والدِّين هو الأمانة الكبرى التي تركها لهم، ومهمتهم الأولى هي حراسته وحماية حدوده وحفظ هيبته ...
حروب الرِّدَّة وإنفاذ جيش أسامة
مات الرسول صلى الله عليه وسلم يوم مات والدِّين تامٌّ كاملٌ، وله السلطان والغلبة على الجزيرة كلها، ولما أراد أهل الرِّدَّة ومانعو الزكاة انتقاص الإسلام بل هدمه، شعر الصَّحابة وعلى رأسهم الخليفة بالمسئولية الكاملة عن حراسة هذا الدِّين، وكان عنوانهم الذي نطق به أبو بكر هو: "والله لا يُنتقَص الإسلام وأنا حي"!
لم يكن التحدي هيِّنًا، ولم تكن المواجهة سهلة؛ بل كانت خطرًا يهدد الإسلام والمسلمين بالمحو، فالقبائل إلّا قليلا منها قد ارتدَّت، والبلاد والأنحاء في الجزيرة قد انتفضت ضد الإسلام، حتى صار المسلمون في الجزيرة قلةً كما كانوا في مكة قبل الهجرة، إلّا أنهم اليوم وهم يواجهون الرِّدَّة الطّاغية قد اشتدّ عُودُهم، وتَمَّ دِينُهم، وكَمُل إسلامُهم، فماذا سيصنعون؟!
رأى بعض الصحابة أنّ الموقف عصيب، وأنّ مُهادنة هؤلاء هي الحلّ، وراح أبو بكر يُقْسم بالله أن يُواجه الرِّدَّة حتى يقطع دابِرها ويقتلع جذورها، وقلوب الصحابة تنشد معه نشيد الثَّبات في وجه المحن، والخليفة ذو اليقين التام يقود كتائب المجاهدين ليحموا وجه الدين مِن شوائب الأنفس المريضة والقلوب العليلة.
وهنا يأخذ أبو بكر بعقد الألوية، ويجهِّز الجيوش؛ لِيُخْضِع بها الأنحاء المتمردة مِن الجزيرة: اليمامة، واليمن، والبحرين، وعمان وغيرها، فكان الخليفة كالخيط الذي يجمع الأمَّة حوله كما تجتمع حبات العقد، ثم أرسل بهم في أحد عشر لواء وَزَّع الجند عليها، وجعل على كلِّ لواء منها أميرًا، ووَجَّه كلّ واحد منها إلى ناحية، وأمر كلّ أمير أن يستنفر مَن يمر به مِن المسلمين أولي القوة.
مضى أبو بكر يقاتل مانعي الزكاة والمرتدين، قائلًا: "واللهِ لَأُقاتِلَنَّ مَن فرَّق بين الصَّلاة والزكاة؛ فإنَّ الزكاة حقٌّ المال، واللهِ لو مَنعوني عقالًا كانوا يُؤَدُّونَه إلى رسول الله لَقاتَلتُهم على منعه".
فحارَبهم بنفسِه حينًا، وسيَّر إليهم الجيوش حينًا آخر، حتى جاءت النتيجة العامة في حروب الرِّدَّة انتِصارًا ساحقًا للإسلام وأهله، وعودةً للجزيرة إلى حِضن الإسلام.
وفي ضائقة الرِّدَّة والشِّدَّة أصرَّ أبو بكر على إرسال بعث أسامة بن زيد العسكري إلى الشام - كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى قبيل وفاته - برغم الموقف الخطير، وبرغم رِدَّة القبائل ...
إنَّ اليقين الذي سكن نفس أبي بكر لا يُخفي رأسه في أي موقف يحتاجه، وها هو اليوم وقد تولى الخلافة، وسلَّمته الأمة أمانة القيادة، يشعر بحاجته إلى يقين أكثر ممّا كان يحتاج إليه أيّام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيوم كان الرَّسول حيًّا كان أبو بكر يجِد راحةَ قلبِه ويقينَ نفسِه في القُرب منه والنَّظر إلى وجهه صلى الله عليه وسلم، أمّا وقد انتقل الرَّسول إلى الرَّفيق الأعلى وأصبحت المسئولية على أكتاف أبي بكر، فإنَّ بحر اليقين ينبغي أن يتدَفَّق كلَّه ...
لقد بلغ اليقين بأبي بكر أن يثق تمامًا في أن نصر الله تعالى يأتي مع طاعة أمره سبحانه وأمر رسوله، مهما بدا غير ذلك؛ لذا وقف بكل قوة في وجه كبار الصحابة الذين أشاروا عليه بأن يُبقي جيش أسامة بجانبه، يحارب به المرتدين ومانعي الزكاة، وقال: "والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظنَّنت أنّ السِّباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته"!
وأراد بعض الصحابة الكبار أن يُغيِّر أبو بكر قائدَ هذا الجيش، بأن يضع مكان أسامة رجلًا أسَنَّ منه، فثار الصديق في وجوههم ثورة البركان؛ وأبى أن يغير شيئًا قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم !
وخرج الخليفة العظيم في وداع جيشه، فما أرفع العظمة حينما تبلغ قمَّة التَّواضع دون تَكلُّف أو تصنُّع، لقد خرج الخليفة في وداع جيشه ماشيًا على قدميه المثقلتين بأكثر مِن ستين عامًا كاملة، فيُقسِم القائد أسامة وهو فوق فرسه أن ينزل هو ويركب الشَّيخ الوقور، ولكنّ أبا بكر أقسم ألّا ينزِل أسامة وألّا يركب هو.
ومضى مع أسامة يغبّر قدميه في التراب في سبيل الله تعالى ويُلقِي على مسامع القائد الشّاب نَصائِح لم ينسها في زحام الأزمات، بألّا يقتلوا طفلًا ولا امرأةً ولا شيخًا ولا راهبًا تفرَّغ في صومعته للعبادة، وألّا يحرقوا شجرًا، ولا يذبحوا بقرة أو شاة إلّا لأكل ومنفعة.. مَبادئ لم ينسها المسلمون برغم كثرة الأعداء وشراستهم.
وآتَت حرب أسامة نتيجة طيبة؛ إذ أمّنت حدود الدولة الإسلامية الفتية مِن جهة الرّوم وحلفائهم مِن القبائل العربية المرتزقة.
جمع القرآن الكريم
ومِن أعمال عهد أبي بكر الجليلة: أنَّه أوَّل مَن جمع القرآن، وذلك حين أكلت الحرب الشَّرسة في اليمامة كثيرًا مِن أهل القرآن وحفاظه.
لا يمنع المسلمَ شيءٌ مِن تقديم النُّصح إلى أميره، واقتراح الخير عليه؛ بل إنَّ الأُمَّة لتحكم مع الأمير الذي فوَّضته لسياسة مصالحها الدِّينيَّة والدُّنيويَّة، وذلك حين تساند أعماله في الخير، وتمنحه النُّصح، وتقترح عليه أعمال الخير ... وقد أتى عمر بن الخطاب إلى أبي بكر ليقترح عليه جمع القرآن في كتاب واحد؛ بسبب ما أصاب المسلمين من موت الكثيرين من حفظة كتاب الله تعالى في معركة اليمامة الشرسة، فتردَّد أبو بكر في قبول اقتراح عمر؛ إذ كيف يفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! لكن هذا خير يوافق روح الدين، بل إنَّ روح الدِّين الداعية إلى صيانة العلم وحفظه ونشره بين الناس صحيحًا مُوَثَّقًا لَتَفْرِض على الأُمَّة أن تجمع القرآن وتحافظ عليه.
لذا راح عمر يُلِحّ على أبي بكر، ويوضِّح له أهمية جمع القرآن، حفظًا له ومنعًا مِن اختلاف الناس فيه، حتى انشرح صدر الخليفة، واستبانت له أهميَّة هذه المسألة، فكلف زيدَ بن ثابت الأنصاري المملوء بعلم القرآن وحيوية الشباب، كَلَّفَه بهذه المهمة الجليلة الثقيلة، فقام بها يعاونه عمر بن الخطاب خير قيام، حيث ذهبا إلى الصحابة في البيوت والمساجد والأسواق والمنتديات يأخذون عنهم القرآن الذي يحفظه الكثير منهم، ولا يكتب زيد آية إلّا إذا تيقَّن مِن أنها كُتبت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بأن يشهد اثنان مِن الصحابة على ذلك، مع وجود عدد كبير منهم يحفظها شفاهيًّا.
لقد أتقن الصدّيق اختيار الرجل المناسب لمهمة جمع القرآن حين كلف بها زيد بن ثابت، ذلك الفتى الأنصاري الشاب الذي حضر العرضة الأخيرة للقرآن قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
إرسال الجيوش لغزو فارس والرّوم
بعد أن فرغ أبو بكر رضي الله عنه من حروب الرِّدَّة، واستَقَرَّ الأمر له في شبه الجزيرة العربية، ودان العرب جميعهم لحكم الإسلام، بدأت المواجهات مع الفرس والروم تفرض نفسها، فالظُّروف ملائمة لإسماع صوت الإسلام لهذه الشعوب المستعبَدة تحت حكم كسرى وقيصر، كما كان للفرس دور في تقوية شوكة الرِّدَّة، وتشجيع العرب القريبين منها على الرِّدة، وكانت جبهة الروم مع المسلمين ساخنة قابلة للانفجار؛ إذ تحرش الروم بالإسلام كثيرًا، وحرَّضوا الأعراب في تخوم الشام على حربه ومعاداته ...
امتَدَّ صوت الحرب لِيُلامس أطرافَ فارس والرُّوم، وبعد الملامسة أصبَح الحال حربًا شديدة واسعة يُجهِّز لها الصدّيق عشرات الآلاف مِن أبناء الإسلام للغزو والفتح، فخالد بن الوليد ومعه المثنى بن حارثة يقاتلان الفرس، وأبو عبيدة وشُرَحبيل بن حَسْنة وعمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان يغزون الروم، وقد مات أبو بكر ورجاله يستعدون لخوضِ معركة اليرموك الشَّرسة في بلاد الشام.
الوصية لعمر مِن بعده
حين شعر أبو بكر بدنو الموت وقرب الأجل لم تفلت منه هذه اللحظة دون أن يصدر فيها واحدًا مِن قراراته العظيمة، لا يَقِلّ خطورة عن إنفاذ بعث أسامة، وقتال المرتدين ومانعي الزكاة، وإرسال الجيوش لقتال فارس والروم، وجمع القرآن الكريم، وكان هذا القرار هو الوصية بالخلافة مِن بعده إلى عمر بن الخطاب.
إذ اشتد المرض بأبي بكر فخاف على الأمة الاختلاف، فاختار لها أن يتولى عمر بن الخطاب الخلافة من بعده.
وبالرغم مِن أنه لم يكن أمرًا فعله الرسول صلى الله عليه وسلم إلّا أنّه كان توفيقًا مِن الله تعالى لصلاح الإسلام والمسلمين؛ إذ منع الوقوع في الخلاف والنِّزاع.
وفاة الخليفة الصدِّيق
ها هي رحلة الحياة قد أوشكت أن تأتى بالختام، وقد جاوز الخليفة المبارك الثالثة والستين، وهو مشغول ليله ونهاره بأمر آخرته وشؤون أمته، تشغله أحوال جيوشه التي أرسلها تجاهد هنا وهناك، وأمور رعيته وفيهم الفقير والمريض وذو الحاجة..
استمر أبو بكر يُدَبِّر شؤون المسلمين على أحسن ما يكون، وفق ما يهديه الله إليه، ويمليه عليه دينه وإيمانه، حتى اغتسل في يوم بارد فأصابته الحُمّى التي لا يطيقها الأقوياء، فكيف بشيخ كبير قد أوهنت الأيام عظامه، وأرهقت بدنه!
وفى مرض الموت لازمت العظمة شخصية أبي بكر، فبدا جبلًا بين الناس حتى اتخذ في هذه الظروف التي لا يهتم فيها الإنسان إلا بما يعانى مِن كُرَب الموت وشدائده اتخذ الكثير مِن القرارات والتوصيات الرائعة، فأوصى بالخلافة مِن بعده إلى عمر بن الخطاب بعد أن شاور فيه كبار الصحابة، وأوصى عمرَ بأن يدعم المثنى بن حارثة على جبهة فارس بالجنود والقوات،كما تنازل لبيت مال المسلمين عمّا قبضه مِن راتب طوال خلافته، وأوصى بأن تغسله زوجته أسماء بنت عُمَيس، وأن يكفَّن في ثيابه؛ لأن الحي أحوج إلى الجديد مِن الميت.
ويوم الإثنين الحادي والعشرين من جمادى الآخرة من السنة الثالثة عشرة الهجرية أذِن الله تعالى بقبض روح عبده أبي بكر، فودَّع الدُّنيا راضيًا مرضيًّا، وحُمِل لِيُدفَن إلى جانب حبيبه صلى الله عليه وسلم، وليرافقه في الممات كما رافقه في الحياة.
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
إنّ حياة الفاروق عمر بن الخطاب صفحة مشرقة مِن التاريخ الإسلامي الذي بهر كلّ تاريخٍ وَفاقَه، والذي لم تحوِ تواريخ الأمم مجتمعة بعض ما حوى مِن الشَّرف والمجد والإخلاص والجهاد والدَّعوة في سبيل الله، ولِما لهذه الشَّخصيَّة الإسلاميَّة مِن مناقب ومآثر كان ولا بد مِن المرور على سيرته والوقوف على بعض جوانب حياته؛ علَّنا نرتسم خُطاهم، ونسير على منهَجِهم.
إسمه ونسبه وكنيته وصفته وأسرته وحياته في الجاهلية:
هو عمر بن الخطاب بن نُفيل بن عبد العُزَّى القرشيّ العدويّ، يجتمع نسبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كعب بن لؤي بن غالب، ويُكنّى أبا حفص، ولُقِّب بالفاروق؛ لأنَّه أظهر الإسلام بمكة ففرّق الله به بين الكفر والإيمان.
وُلِد عمر رضي الله عنه بمكَّة بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة، وعاش بها وترعرع.
والِدُه الخَطّاب بن نُفَيْل، وأمّا والِدته فهي حنتمة بنت هاشم بن المغيرة، وقيل: بنت هشام أخت أبي جهل، والذي عليه أكثر المؤرخين هو أنها بنت هاشم ابنة عم أبي جهل بن هشام.
كان رضي الله عنه أبيض أَمْهَق، تعلوه حمرة، حسن الخدَّين والأنف والعينين، غليظ القدَّمين والكفَّين، مجدول اللَّحم، طويلًا جسيمًا أصلع، قويًّا شديدًا، لا واهِنًا ولا ضعيفًا، وكان يخضب بالحناء، وكان إذا مشى أسرع، وإذا تكلَّم أسمع، وإذا ضَرَب أوْجَع.
حياته في الجاهلية
أمضى عمر في الجاهلية شطراً مِن حياته، ونشأ كأمثاله مِن أبناء قريش، وامتاز عليهم بأنَّه كان ممَّن تعلَّموا القراءة، وقد حمل المسؤولية صغيراً، ونشأ نشأةً غليظةً شديدةً، لم يَعرِف فيها ألوان التَّرف، ولا مظاهر الثروة، ودفعه أبوه الخطّاب في غلظة وقسوة إلى المراعي يرعى إبلَه، كما رعى لخالاتٍ له مِن بني مخزوم مقابل قبضة مِن التمر أو الزَّبيب.
ولا شكَّ أنّ هذه الحرفة - الرَّعي - التي لازمت عمر بن الخطاب في مكة قبل أن يدخل الإسلام قد أكسبته صفاتٍ جميلة كقوة التَّحمُّل والجَلَد وشِدَّة البأس، ولم يكن رعي الغنم هو شغل ابن الخطاب في جاهليته؛ بل حذق مِن أوَّل شبابه ألوانًا مِن رياضة البدن، فحذق المصارعة، وركوب الخيل والفروسيَّة، وتذوَّق الشِّعر ورَواه، وكان يهتم بتاريخ قومه وشؤونهم، وحرص على الحضور في أسواق العرب الكبرى، كـ ((عكاظ)) و((مجنّة)) و((ذي المجاز))، واستفاد منها في التِّجارة ومعرفة تاريخ العرب، وما حدث بين القبائل مِن وقائع ومفاخرات ومنافرات.
احتل عمر مكانةً بارزة في المجتمع المكيّ الجاهليّ، وأسهم بشكل فعَّال في أحداثه، وساعده تاريخ أجداده المجيد، فقد كان جده نُفَيل بن عبد العزّى تحتكِم إليه قريش في خصوماتها، فضلًا عن كون جَدِّه الأعلى كعب بن لؤي كان عظيم القدر والشأن عند العرب، فقد أرّخوا بسنة وفاته إلى عام الفيل، وتوارث عمر عن أجداده هذه المكانة المهمة التي أكسبته خبرة ودراية ومعرفة بأحوال العرب وحياتهم، فضلاً عن فطنته وذكائه، فلجأوا إليه في فَضِّ خصوماتهم ...
كان رضي الله عنه، رجلاً حكيماً، بليغاً، حصيفاً، قويًّا، حليمًا، شريفًا، قويّ الحجَّة، واضح البيان، ممّا أهَّلَه لأن يكون سفيرًا لقريش، ومُفاخرًا ومُنافرًا لها مع القبائل.
كان عمر يُدافِع عن كلّ ما أَلِفَتْه قريش مِن عادات وعبادات ونُظُم، وكانت له طبيعة مخلصة تجعله يتَفانى في الدِّفاع عمّا يؤمِن به، وبهذه الطبيعة قاوَم عمر الإسلام في أوَّل الدَّعوة، وخشي أن يَهُزَّ هذا الدِّين الجديد النِّظام المكيّ الذي استَقَرّ، والذي يجعل لمكة بين العرب مكاناً خاصًّا، ففيها البيت الذي يُحَجّ إليه، والذي جعل قريشًا ذات مكانة خاصة عند العرب، والذي صار لمكة ثروتها الروحية والماديَّة، فهو سبب ازدهارها، وغنى سراتها - يعني قادَتها -، ولهذا قاوم زعماء مكَّة هذا الدِّين، وبطشوا بالمستضعفين مِن مُعتَنِقِيه، وكان عمر مِن أشدّ أهل مكَّة بطشًا بهؤلاء المستضعفين.
لقد عاش عمر في الجاهلية وسبر أغوارها، وعرف حقيقتها، وتقاليدها وأعرافها، ودافع عنها بكلّ ما يملك مِن قوة، ولذلك لَمّا دخل في الإسلام عرَف جَمالَه وحقيقته، وتيقَّن الفرق الهائل بين الهدى والضَّلال والكفر والإيمان والحق والباطل، حتى قال قولته المشهورة:" إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية ".
إسلامه وهجرته
كانت أوَّل شعاعة مِن نور الإيمان لامَست قلبه، يومَ رأى نساء قريش يتركن بَلَدَهنّ ويرْحَلْن إلى بلد بعيد عن بلدِهنّ بسبب ما لَقِين منه ومِن كفّار قريش وقتها، فرَقَّ قلبُه، وعاتبه ضميرُه، فرثى لهنّ، وأسمعهنّ الكلمة الطيِّبة التي لم يكنّ يطمَعْن أن يسمَعْن منه مثلها.
قالت أم عبد الله بنت حنتمة: لما كنا نرتحل مهاجرين إلى الحبشة، أقبل عمر حتى وقف عليّ، وكنا نلقى منه البلاء والأذى والغلظة علينا، فقال لي: إنه الانطلاق يا أم عبد الله؟ قلت نعم، والله لنخرجنّ في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا فرجاً. فقال عمر: صَحِبكم الله.
ورأيت منه رِقَّةً لم أرَها قط. فلمّا جاء عامر بن ربيعة وكان قد ذهب في بعض حاجته وذكرت له ذلك فقال: كأنَّك قد طَمِعْت في إسلام عمر؟ قلت له: نعم، فقال: إنّه لا يُسلِم حتَّى يُسلِم حمار الخطّاب.
لقد تأثر عمر مِن هذا الموقف، وشعر أنّ صدرَه قد أصبح ضيِّقًا حرجًا؛ فأيّ بلاءٍ يُعانيه أتباع هذا الدِّين الجديد، وهم على الرغم مِن ذلك صامدون! ما سِرّ تلك القوة الخارقة؟ وشعر بالحزن وعصر قلبه الألم، وبعد هذه الحادثة بقليل أسلم عمر رضي الله عنه، وبسبب دعوة رسول الله
نعم إنّه الدّعاء ! فقد كان السَّبب في إسلامه حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: اللهم أعزَّ الإسلام بأحب الرجلين إليك: بأبي جهل بن هشام، أو بعمر بن الخطاب، قال: وكان أحبهما إليه عمر. رواه الترمذي وقد ساق الله الأسباب لإسلام عمر رضي الله عنه.
دخل عمر في الإسلام بإخلاص متناهٍ، وعمل على تأكيد الإسلام بكل ما أوتي مِن قوة، وأعزَّ الله به الإسلام والمسلمين، فقد كان رجلًا ذا شكيمة – أي: - لا يُرام ما وراء ظهره، وامتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحمزة.
وتحدَّى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه مُشركي قريش؛ فقاتَلَهم حتَّى صلَّى عند الكعبة، وصلَّى معه المسلمون، وكان حريصًا على أذِيَّة أعداء الدَّعوة بكلّ ما يملك.
كان إسلام عمر فتحاً، وكانت هجرته نصراً، وكانت إمارته رحمة ...
قال صُهَيب بن سِنان:
لَمّا أسلم عمر بن الخطاب، ظهر الإسلام، ودعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقاً، وطُفْنا بالبيت، وانْتَصَفْنا ممّن غلظ علينا وردَدْنا عليه.
ولقد صدق في عمر رضي الله عنه قول القائل:
أعني به الفاروق فرّق عنوةً
بالسَّيف بين الكفر والإيمان
هو أظهر الإسلام بعد خفائه
ومحا الظلام وباح بالكتمان
كان إسلام عمر رضي الله عنه في ذي الحجة من السنة السادسة من النبوة، وهو ابن سبع وعشرين سنة، وكان إسلامه بعد إسلام حمزة رضي الله عنه بثلاثة أيام.
هجرته:
هاجر عمر إلى المدينة، وكان قدومه رضي الله عنه إلى المدينة قبل مَقدم النبيِّ صلى الله عليه وسلم إليها، وكان معه مَن لحق به مِن أهله وقومه.
وهكذا ظلَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خدمة دينه وعقيدته بالأقوال والأفعال لا يخشى في الله لومة لائم، كما كان رضي الله عنه سَنَدًا ومُعِينًا لِمَن أراد الهجرة مِن مُسلِمِي مكَّة حتى خرج ومعه هذا الوفد الكبير من أقاربه وحلفائه.
موافقات عمر للقرآن الكريم
عاش عمر بفطرة نَقِيَّة، وقلبٍ مؤمنٍ، وحِسٍّ صادق يتوقَّع الخير ويدعو إليه،كما كان قَوِي الملاحظة، سريع البديهة، حاضر الذِّهن، وقد بدَت هذه الصِّفات جميعًا في موافقة القرآن لرأيه في العديد مِن المواقف والأحداث، حتى قيل: كان عمر يرى الرَّأي فينزل به القرآن، وفي ذلك يقول عمر رضي الله عنه: وافقْتُ الله تعالى في ثلاث، أو وافقت ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتخذت مِن مقام إبراهيم مُصلّى، فأنزل الله تعالى ذلك، وقلت: يا رسول الله، يدخل عليك البرُّ والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله تعالى آية الحجاب، قال: وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض أزواجه، فدخلت عليهن، قلت: إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيراً منكن، حتى أتيت إحدى نسائه، قالت: يا عمر، أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه، حتى تعظهن أنت؟ فأنزل الله: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا﴾ [التحريم،آية:5].
موافقته في ترك الصلاة على المنافقين
يقول عمر: لَمّا توفي عبد الله بن أُبيّ دُعِي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه، فقام إليه، فلما وقف عليه يريد الصلاة تحوَّلت حتى قمت في صدره فقلت: يا رسول الله: أعلى عدوّ الله عبد الله بن أُبيّ القائل يوم كذا: كذا وكذا، والقائل يوم كذا: كذا وكذا أُعدِّد أيامَه الخبيثة ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يبتسم حتى إذا أكثرتُ عليه، قال: أخِّر عنِّي يا عمر، إني خُيّرتُ فاخترت: قد قيل لي: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة،آية:80]. فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غُفِر له زِدْت. ثم صلى عليه ومشى معه وقام على قبره حتى فرغ منه، فعجبتُ لي ولجرأتي على رسول الله، والله ورسوله أعلم، فوالله ما كان إلّا يسيرًا حتى نزلت هاتان الآيتان: ﴿وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ﴾ [التوبة،آية:84]. فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله عز وجل.
وهكذا موافقته في أسرى بدر، وفي الاستئذان، وغير ذلك كما هو مبسوط في كتب السُّنَّة والسِّيرة.
شيءٌ مِن فضائله ومناقبه:
يُعَدّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الرّجل الثاني بعد أبي بكر الصِّديق في الفضل، فهو أفضل النّاس على الإطلاق بعد الأنبياء والمرسلين وأبي بكر، وهذا ما يلزم المسلم اعتقاده في أفضليته رضي الله عنه وأرضاه
ومما جاء في منزلة إيمانه رضي الله عنه ما رواه عبد الله بن هشام أنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحبّ إليّ مِن كلّ شيءٍ إلّا مِن نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحبّ إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحبُّ إليّ مِن نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر.
وأمّا علمه فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينما أنا نائم شربت - يعني اللبن - حتى أنظر إلى الرّي يجري في ظفري أو في أظفاري، ثم ناولت عمر. فقالوا: فما أوَّلته قال العلم.
ووجه التَّعبير بذلك مِن جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة النفع وكونهما سبباً للصَّلاح، فاللَّبن للغذاء البدنيّ، والعلم للغذاء المعنويّ.
وأمّا دِينُه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينما أنا نائم رأيت الناس عُرِضوا عَلَيَّ وعليهم قُمُصٌ، فمنها ما يبلغ الثَّدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض عليّ عمر وعليه قميص اجتره. قالوا فما أوَّلته يا رسول الله ؟ قال: الدِّين.
ومِن فضائل عمر ما ألقى الله عليه مِن الهيبة حتى إنّ الشَّيطان إذا رآه في طريق سلك غير طريقه.
كما أنّه مُلْهَم هذه الأمة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد كان فيما قبلكم مِن الأمم محدَّثون، فإن يكُ في أمتي أحد فإنَّه عمر".
والمراد بالمحدَّث: الـمُلْهَم. وقيل: مَن يجري الصَّواب على لسانه مِن غير قصد، ولعل السَّبب في تخصيص عمر بالذِّكْر؛ لكثرة ما وقع له في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مِن الموافقات التي نزل القرآن مطابقاً لها.
غيرة عمر وبُشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم له بقصرٍ في الجنة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينما أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا : لعمر فذكرتُ غيرته فولَّيتُ مدبراً.
فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟!
وكان عمر أحبَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه بعد أبي بكر، وفي ذلك يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه: قلت يا رسول الله، أيُّ الناس أحبّ إليك؟ قال: عائشة قلت: يا رسول الله، من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر بن الخطاب ثم عدّ رجالا.
عمر في ميادين الجهاد
اتَّفق العلماءُ على أنَّ عمر رضي الله عنه شهد بدراً، وأُحداً، والمشاهِد كلَّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يغب عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
كان هذا رد أبي بكر عندما طرح عليه وزيره ومستشاره عمر بن الخطاب فكرة جمع القرآن في كتاب، وأيَّد عمر رأيه بما حدث مِن قتل عددٍ كبيرٍ مِن قُرّاء القرآن وحفّاظه في اليمامة.
ولما رأى عمر تردّد أبي بكر قال له: هو والله خير، حتى لا يضيع القرآن بموت القراء ... ولم يزل عمر يراجع أبا بكر، ويحسِّن له الأمر حتى استجاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر زيد بن ثابت بجمعه.
يقول زيد: فتتبعت القرآن أجمعه مِن الرقاع والأكتاف والعُسُب وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آخر آيتين مع خزيمة بن ثابت لم أجدهما مع غيره ... وحُفِظَت الصَّفحات التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفّاه الله، ثم انتقَلَت إلى عمر حتى توفَّاه الله، ثم انتقلت إلى حفصة بنت عمر أم المؤمنين.
استخلاف الصِّديق للفاروق
كان أخشى ما يخشاه أبو بكر على المسلمين من بعده الفرقة والاختلاف؛ لذلك أراد أن يحسم أمرًا قد يكون سببًا في الفتنة، خاصَّة مع مرضه وقُرب أجله، فما كان منه إلّا أن استخار اللهَ تعالى في اختيار عمر للخلافة، ووقع هذا الاختيار مِن قلبه موضع رِضا، ومع ذلك أراد أن يُوثِّقه باستشارة خاصَّةِ المسلمين وأخيارهم، فدعا عبدَ الرحمن بن عوف، وسأله عن رأيه في عمر، فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل مِن رأيك فيه، ثم دعا أبو بكر عثمانَ بن عفان، فقال عثمانُ عن عمر: اللَّهم عِلْمي به أنّ سريرته خير مِن علانيّته، وأنْ ليس فينا مثله.
وشاور أبو بكر سعيدَ بن زيد وأُسيد بن حُضير وغيرَهما مِن المهاجرين والأنصار، فأيَّد الجميع اختيارَه لعمر، غير أنّ بعض الصحابة خافوا مِن شدَّة عمر، فدخلوا على أبي بكر قائلين: ما أنت قائلٌ لِرَبِّك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا ؟ فقال أبو بكر أقول:" اللَّهم استخلفت عليهم خير أهلك ".
منذ اللَّحظة الأولى لمبايعة عمر بن الخطاب بالخلافة وهو يفكِّر في هذه التركة المثقلة بالهموم التي تركها له صاحباه رسول الله وخليفته الأول، خاصة وأنّ كثيرًا من الصحابة يخشون شدَّته التي عُرِف بها واشتهر.
وبعد تفكير غير طويل، حدَّد عمر منهاجه في الحكم، وحرص على أن يُعْلم به الناس حتى يطمئنهم، فصعد المنبر، وخطب في الناس ...
ولقد كان عمر في الخلافة واضحًا وحازمًا مع الجميع، وخاصة مع أسرته وأهله، وله في ذلك عشرات المواقف المضيئة في تاريخنا الإسلامي.
لقد حمل عمر ورعه وشدَّة تحمّله للمسئولية وخوفه مِن الشبهات على أن يحمل أسرته مِن المسؤوليات أضعاف ما يحمله نظراؤهم مِن الناس؛ بل ويحرمهم مما هو مباح لهم؛ خوفًا من الشُّبهة، يقول ولده عبد الله: كان عمر إذا أراد أن ينهى الناس عن شيء تقدَّم إلى أهله، فقال: لا أعلمنّ أحدًا وقع في شيء ممّا نهيت عنه إلّا أضعفت له العقوبة.
ودخل يومًا دار عبد الله فوجده يأكل شرائح لحم، وهو مباح له مثل كل الناس، ومع ذلك يقول له عمر: " ألأنّك ابن أمير المؤمنين تأكل لحمًا، والناس في خصاصة، ألا خبزًا وملحًا ؟ ألا خبزًا وزيتًا ؟!"
كان عمر في اهتمامه برعيَّته، وإدراكه وإحساسه بالمسؤوليَّة نحوهم نموذجًا وقدوةً يُـحتذى، وضرب في ذلك أروع الأمثلة من خلال عشرات المواقف التي ترويها كتب التاريخ.
ومِن ذلك أنّه رضي الله عنه كان يمشى ليلًا في شوارع المدينة بجوار بيوتها يطمئنّ على أحوال رعيته، وخاصة الضعفاء منهم، كما كان يخفي شخصيَّته على مَن لا يعرفه، حتى يتمكَّن مِن خدمته بنفسه دون حرج.
ومِن بيت عمر تعلَّم النّاسُ الورعَ، وها هو يقول عن نفسه:" إنّي أنزلت نفسي مِن مال الله منزلة والي اليتيم مِن ماله، إن أيسَرتُ استَعْفَفت، وإن افتَقَرْت أكلت بالمعروف، فإن أيسرت قضيت ".
ولم يعرف التاريخ حاكمًا مِن طراز فريد كعمر يحمل طعام رعيته فوق ظهره بنفسه؛ بل ويصنعه لهم، وبعد ذلك يحاسب نفسه حسابًا عسيرًا على تقصيره معهم..!! رحم الله عمر لقد أتعب الخلفاء مِن بعده!
الفتوحات في عهده
كَثُرت الفتوح في زمن عمر حتى شملت آفاقًا كثيرة، ومناطق واسعة، ومِن ذلك فتوحاته من الشام، وشملت دمشق، والقدس، وحمص، وحلب، وأنطاكية ... ، وفتح مصر، والإسكندرية، كما فتح من العراق والمشرق: القادسية، ومدائن كسرى، ودجلة، والبصرة، وفارس، إلى غير ذلك من المناطق ...
وكان عمر أوَّل مَن لُقِّب بأمير المؤمنين، وأوَّل مَن ابتدأ التأريخ بالهجرة النَّبويّة، وأوَّل مَن فتح الفتوح، ومَصَّر الأمصار، وجنَّد الأجناد، ووَضَع الخراج، ودوَّن الدَّواوين، وفرَض الأُعطِية، واستقضى القُضاة ...
قصَّة وفاة أمير المؤمنين
في يوم الأربعاء السادس والعشرين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين للهجرة، شهد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة النبوية حدثًا جللًا، وهو ختام عشر سنوات مِن حكم الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ففي هذا اليوم تقدَّم غلامٌ مجوسيّ يدعى أبا لؤلؤة يحمل خنجرًا مسمومًا له رأسان، وكان عمر حينها يَؤُمّ المسلمين في الصلاة، وقرأ سورة يوسف أو النحل في الركعة الأولى، وبعد أن كبَّر للسجود طعنه القاتل بخنجره، وأخذ يطعن يمينًا وشمالًا، حتى طعن ثلاثة عشر رجلًا، ثم قتل نفسه. وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف وقدَّمه للصلاة، وقال لابن عباس: انظر من قتلني ؟ فلما عرف أنه مجوسي، قال: " الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدَّعي الإسلام ".
وحملوه إلى بيته، فانطلق الناس خلفه، وهم في وَجَلٍ وخوف وقلق، وكان بعضهم يثني عليه، فقال أحدهم: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله، وقَدَمٍ في الإسلام، ثم وُلِّيت فعَدَلْتَ، ثم شهادة، فردَّ عليه عمر: "وددت أنَ ذلك كفافًا، لا عليَّ ولا لي".
ولقد كانت الشهادة شيئًا محببًّا إلى نفسه، لكنه لا يُزكِّي نفسَه، ولا يحكم لها بالشَّهادة.
كان عمر في الساعات الأخيرة من حياته، وحوله كبار الصحابة يطلبون أن يوصى بالخلافة لِمَن بعده، واعتذر عمر عن ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات دون أن يستخلف.
وحتى يقطع الحيرة على الناس، قال عمر:" ما أجِد أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء النَّفَر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، وسمَّى ستَّةً مِن كبار الصحابة وهم: علي، وعثمان، والزبير، وطلحة، وسعد بن أبى وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وجميعهم من العشرة المبشرين بالجنَّة، وطلب منهم أن يشهد مجلس شورتهم عبد الله بن عمر، على أن لا تكون الخلافة إليه ...
وهكذا حصر عمر الخلافة في مجلس شورى مِن ستة من الصحابة ليختاروا واحدًا منهم ...
وأوصى عمر ابنه عبد الله بسداد دينه، ثم قال له: " اقتصدوا في كفني، فإنَّه إن كان لي عند الله خير أبدلني ما هو خير منه، واقتصدوا في حفرتي، فإنَّه إن كان لي عند الله خير أوسع لي فيها مدّ بصري".
ثم طلب منه أن يستأذن أم المؤمنين عائشة في أن يُدفَن مع صاحبيه: محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فدخل عليها عبد الله بن عمر فوجدها جالسة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السَّلام، ويستأذن أن يُدفَن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنَّه اليوم على نفسي"
فلمّا أقْبَل، قال: له ما لَدَيْك؟ قال: أَذِنَتْ لك يا أمِيرَ المُؤمِنِين، قال: " ما كان شَيْءٌ أَهَمَّ إليّ مِن ذلك المضْجَعِ، فإذا قُبِضْتُ فاحْمِلُونِي، ثُمَّ سَلِّمُوا، ثُمّ قُل: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بن الخَطَّاب، فإن أَذِنَت لي، فادْفِنُونِي، وإلَّا فَرُدُّونِي إلى مَقابِرِ المُسْلِمِين.
وفارق عمر الحياة الدُّنيا شهيدًا مُبَشَّرًا بالجنة، ودُفن إلى جوار صاحبيه. فسلام على عمر بن الخطاب في الصّالحين والصِّدِّيقين والشّهداء.
عثمان بن عفّان صاحب المناقب والفضائل
اسمه ونسبه ومولده
هو عثمان بن عفّان بن أبي العاص، ينتسب إلى بني أُميّة؛ إحدى القبائل القرشيَّة.
وُلِد في مكَّة، بعد عام الفيل بستّ سنين على الصَّحيح، وكان والده تاجرًا كبيرًا، وأمّا أمّه فهي أروى بنت كريز، وهي ابنة عمَّة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
نشأ عثمان على الأخلاق الفاضلة الكريمة، والسِّيرة الحسنَة الحميدة، وكان حيِّيًا شديدَ الحياء، عفيف النَّفس واللِّسان، أديب الطَّبْع، هادئًا يتجنَّب إيذاء الناس.
ولحسن خُلُقه ومعاملته؛ أحبَّته قريش حتى ضربَت العرب المثل بحبِّها له.
وفي ذلك يقول الإمام الشَّعبيّ: "كان عثمان في قريش محببًّا، حتى كانت المرأة من العرب تُرقِّص صبِيَّها وهي تقول:" أُحِبُّك والرَّحمن حُبَّ قريش لعثمان".
وكان يُكنَّى في الجاهلية: أبا عمرو، فلمّا وُلِد له مِن رقيَّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام سمّاه عبد الله، واكتنى به، فكنّاه المسلمون أبا عبد الله.
ولَمّا تُوفِّيت رقية تزوَّج عثمان أختها أم كلثوم، فلم تَزَل عنده إلى أن تُوفِّيت في شعبان مِن سنة سبع مِن الهجرة، ومِن هنا لقِّب بذي النّورين.
صفته
وُصِف عثمان بأنّه كان جميلًا رقيق البشرة، تبدو عليه آثار النّعمة، كان ربْعَةً لا بالطَّويل ولا بالقصير، حسن الوجه، أسمر اللَّون، كثير الشَّعر، طويل الذِّراعين ...
نشأته وحياته
نشأ عثمان رضي الله عنه وأطلَّ على هذه الحياة، وهو بين مشركي قريش الذين يعبدون الأصنام، فنبذ في نفسه ما هم عليه مِن شرك ووثنية، وعادات قذرة.
فتَجَنَّب أرجاسَهم الجاهليَّة، فلم يزنِ، ولم يقتل قط، ولَمّا أمر الله رسولَه صلى الله عليه وسلم بالدَّعوة إلى الله، ودخل أبو بكر الصديق في الإسلام، ذهب إلى عثمان رضي الله عنهما يدعوه إلى الإسلام، فتأمَّل عثمان في هذه الدَّعوة بهدوء كعادته في معالجة الأمور، فوجد أنها دعوة إلى الفضيلة، ونبذ الرَّذيلة، دعوة إلى التوحيد، وتحذير مِن الشِّرك، دعوة إلى العبادة وترهيب مِن الغفلة، ودعوة إلى الأخلاق الفاضلة، وترهيب من الأخلاق السيِّئة.
ثم نظر إلى قومه، فإذا هم يعبدون الأوثان، ويأكلون الميتة، ويسيئون الجوار، ويستحلون المحارم من سفك الدماء وغيرها.
وإذا بالنبي محمَّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم صادق أمين، يُعرَف عنه كلّ خيرٍ، ولا يُعرَف عنه شَرٌّ قطّ، فلم تُعهَد عليه كذبة، ولم تحسب عليه خيانة، فإذا هو يدعو إلى عبادة الله وحده، لا شريك له، وإلى صلة الرحم، وحسن الجوار، والصلاة والصوم، وألا يعبد غير الله.
فأسلم عثمان على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه فكان من السابقين الأوَّلين إلى الإسلام.
وحاول عمه الحكَم أن يُثنِيه عن الإسلام، حيث أخذه وأوثقه بالحبال، وقال له في غضب: أترغب عن ملَّة آبائك إلى دين محدث؟! والله لا أخليك أبدًا حتى تدع ما أنت عليه مِن هذا الدّين.
ولم تهزّه هذه الكلمات الغاضبة مِن عمِّه، وردَّ عليه بكل ثقة وثباتً: والله لا أدعه أبدًا ...
وهكذا لم يدعه قومه؛ بل آذوه، وعذَّبوه مع إخوانه المؤمنين السابقين إلى الإسلام، وعدوا عليه، وفتنوهم في دينهم؛ ليردوهم عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الأوثان، وأن يستحلوا من الخبائث، فلما ازداد عليهم الأذى والتعذيب وقهروهم وظلموهم وضيَّقوا عليهم، وحالوا بينهم وبين دينهم خرجوا إلى الحبشة، وفي مقدمتهم عثمان بن عفان رضي الله عنه ومعه زوجه رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أوَّل مَن هاجر بأهله من هذه الأمة.
فرَّ بدينه تاركاً وطنه وأهله، في سبيل التَّمسُّك بدينه وعقيدته، مما يبين مدى إيمانه ويقينه وتعلقه بربه وآخرته.
تحمَّل الغُربة، وفقد مركزَه التِّجاريّ، ومكانته الاجتماعية بين أهل مكة، وشخصِيَّته المرموقة، وانتقل إلى بلاد غير بلاده لله، وفي الله، لا لتجارة دنيوية، ولا لربح ماديّ، إنما لتجارة أخرويَّة؛ للفوز بالجنة، والنَّجاة من النار.
نعم إنّ هذه الهجرة لم تكن بالنسبة لعثمان مجرَّد سفر وانتقال من بلد إلى بلد؛ بل كانت أبعد مِن ذلك، لقد كانت سفر روح وحياة قبل أن تكون مجرَّد خطا فوق الرِّمال وتجاوز لحدود المكان ...
ثم لما أُشِيع أنَّ أهل مكَّة قد أسلموا، وبلغ ذلك مهاجري الحبشة، أقبلوا حتى إذا دنوا مِن مكة، بلغهم أنّ ما كانوا تحدّثوا به مِن إسلام أهل مكة كان باطلًا، فدخلوا في جوار بعض أهل مكة، وكان فيمَن رجع عثمان بن عفان وزوجه رقية رضي الله عنهما.
وبقي عثمان في مكة، يلقى الأذى والقهر مِن أهلها، ولم يردّه ذلك عن دينه حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة النبوية ومعه الصحابة رضي الله عنهم فهاجر معهم عثمان، فكان ممن هاجر الهجرتين.
وثبت رضي الله عنه على إيمانه؛ بل كان إيمانه يزداد يومًا بعد يوم، ومكث في المدينة، لا يُفارِقها إلّا ويُسارع إلى العودة إليها.
مكانته
كان لعثمان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مكانة عالية يعرفها الصحابة رضوان الله عليهم، وينزلونه إيّاها، وفي ذلك يقول ابن عمر رضي الله عنهما:" كنّا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحدًا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لا نُفاضِل بينهم ".
ومما يبين مكانة عثمان رضي الله عنه عند النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ذات يوم قاعداً في مكان فيه ماء قد كشف عن ركبتيه (أو ركبته) فلما دخل عثمان غَطّاها.
وكان ذات يوم مضطجعاً في بيت عائشة رضي الله عنها كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر، ثم عمر، وأذن لهما، وهو على حالته، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوَّى ثيابه، فقالت له عائشة رضي الله عنها في ذلك، فقال:" ألا أستَحيي مِن رجلٍ تستحيي منه الملائكة ".
بعض أعماله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
لم يكتف عثمان رضي الله عنه بالقيام بفرائض الإسلام مِن صلاةٍ وصيامٍ ودفع الزكاة؛ بل قدَّم الغالي والرَّخيص في سبيل نشر الإسلام، ونُصْرة المسلمين؛ فقد بذل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير مِن ماله، نصرة للإسلام وعوناً للمسلمين.
كان عثمان جوادًا كريمًا، سخِيَّ اليد في طاعة الله، سريع البذل في سبيله وإعلاء دينه، ومن صور بذله وعطائه أنّه لَمّا قدم المهاجرون إلى المدينة، لم يكن بها ماء يُستَعْذَب غير بئر تسمى: رومة - وكانت ملكًا ليهودي يبيع المسلمين ماءها - ولم يكن يومئذ مال للمسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" مَن يشتري بئر رومة، فيجعل دلوه مع دِلاء المسلمين بخير منها في الجنة "، فاشتراها عثمان رضي الله عنه مِن صلب ماله".
ومِن ذلك ما كان منه في غزوة تبوك، عندما تهيَّأ النبي صلى الله عليه وسلم للغزوة نقصت المؤَن فقال:" مَن جَهَّز جيش العُسرة فله الجنَّة "، فلما سمع عثمان ذلك، وكان رجلًا مُوسِرًا جهَّزه. فجاء وهو يحمل ألف دينار، فصبَّها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل عليه الصلاة والسلام يُقَلِّبها بيده ويقول:" ما ضَرَّ ابن عفّان ما عمل بعد اليوم "، يُردِّدها مرارًا.
وقحط الناس في زمن أبى بكر، وجاءت لعثمان قافلة محملة بالبضائع، وعرض عليه التُّجّار أغلى الأسعار لشرائها، ولكنَّ عثمان قال لهم: أشهدكم - معشر التجار- أنها صدقة على فقراء المدينة.
شهد رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم المواقع كلَّها، فلم يتخلَّف عن غزواته إلا بأمر منه في غزوة بدر؛ فقد أمرَه بالبقاء في المدينة، لتمريض زوجه رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وضرب له بسهم في الغنيمة والأجر، فامتثل الأمر وبقي في المدينة يمرضها، فلما توفيت وخرج لدفنها، جاء البشير بانتصار المسلمين في بدر، فلما عاد النبي صلى الله عليه وسلم زوجه بأختها أم كلثوم رضي الله عنها.
واستخلفه رسول الله عليه الصلاة والسلام على المدينة في غزوة ذات الرقاع وإلى غطفان.
وفي يوم الحديبية أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختار رجلًا مِن صحابته ليكون سفيرًا إلى قريش، فوقع اختياره على عمر، فقال عمر: يا رسول الله إني أخاف قريشًا على نفسي، وقد عرفت عداوتي إيّاها وغلظتي عليها، ولكنّي أدلك على رجل أعز بها مني، عثمان بن عفان.
فبعث رسول الله عليه الصلاة والسلام عثمان إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحربهم، وإنما جاء زائرًا للبيت.
وانطلق عثمان فأبلغ قريشًا رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: إن شئت أن تطوف بالبيت فطُف، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظلَّ عثمان في قريش ثلاثة أيام ينتظر الرَّد، وأبطأ عن الرجوع، فقلق عليه المسلمون، وأُشِيع أنّ عثمان قد قُتِل، فلما بلغ هذا الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا نبرح حتى نناجز القوم "، وأخذ البيعة من المسلمين على ذلك، وبايع رسول الله عليه الصلاة والسَّلام عن عثمان، فوضع يده اليمنى على يده اليسرى، وقال:" اللَّهم هذه عن عثمان في حاجتك وحاجة رسولك "، وسميت هذه البيعة "بيعة الرضوان"، والتي نزل فيها قول الله تعالى:" لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ". وبعد أن جاء عثمان بايع بنفسه.
استخلاف عثمان بن عفان
بدأ المجتمع الإسلاميّ يصيبه بعض التغيير، فالإسلام انتشر وغزا بلاد الفرس والروم، وفتحت بلادهم، وتظاهر بعض منهم بالإسلام، وأبطنوا الكفر، وكانوا يخطِّطون لهدم الإسلام، والوقيعة بأهله، فكان من ذلك استشهاد عمر رضي الله عنه على يد أحدهم.
وفي أثناء مرض عمر بن الخطاب رضي الله عنه على إثر طعنة ذلك العِلْج المجوسيّ، دخل عليه عدد من الصحابة رضي الله عنهم فقالوا له: أوص يا أمير المؤمنين: استخلف.
قال: «ما أجد أحقَّ بهذا الأمر من هؤلاء النَّفَر -أو الرَّهط- الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض». فسمَّى عثمان وعليًّا والزُّبير، وطلحة، وسعدًا، وعبد الرحمن.
وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء - كهيئة التعزية له - فإن أصابت الإمرة سعداً فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيّكم ما أُمِّر، فإني لم أعزله عن عجز، ولا خيانة.
فلما قُبض، خرج الصحابة رضي الله عنهم به فانطلقوا يمشون، فسلَّم عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: يستأذن عمر بن الخطاب، قالت: أدخلوه فأُدخل، فوضع هنالك مع صاحبيه. فلما فُرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط.
فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي، فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف.
فقال عبد الرحمن بن عوف: أيّكما تبرَّأ مِن هذا الأمر فنجعله إليه، والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه؟ فأسكت الشَّيخان، فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إليّ والله عليَّ أن لا آلو عن أفضلكم؟ قالا: نعم.
فأخذ بيد أحدهما، فقال: لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمّرتك لتعدلن، ولئن أمَّرت عثمان لتَسْمَعَنَّ ولَتُطِيعَنّ.
ثم خلا بالآخر فقال مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق. قال: ارفع يدك يا عثمان، فبايعه، فبايع له علي، وولج أهل الدار فبايعوه.
وفي رواية أخرى للبخاريّ أيضًا أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال لأهل الشورى: لست بالذي أنافسكم على هذا الأمر، ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم. فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن، فلما ولوا عبد الرحمن أمرهم، فمال الناس على عبد الرحمن، حتى لم ير أن أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط ولا يطأ عقبه، ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي، حتى إذا كانت الليلة التي أصبحوا منها، بايعوا عثمان رضي الله عنه.
وفي هذه الرواية يقول المسور بن مخرمة رضي الله عنه: طرقني عبد الرحمن بعد هجع مِن الليل، فضرب الباب حتى استيقظت، فقال: أراك نائماً، فوالله ما اكتحلت هذه الثلاث بكثير نوم. انطلق فادع الزبير وسعدًا، فدعوتهما له، فشاورهما، ثم دعاني، فقال: ادع عليًّا، فدعوته فناجاه حتى ابهارَّ الليل، أي: انتصف.
ثم قام علي مَن عنده، وهو على طمع، وقد كان عبد الرحمن يخشى من علي شيئاً. ثم قال: ادع لي عثمان، فدعوته، فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح. فلما صلى للناس الصبح، واجتمع أولئك الرهط عند المنبر، فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين، والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد - وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر - فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ثم قال: أما بعد، يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلاً. فقال: أبايعك على سنة الله، وسنة رسوله، والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن بن عوف، وبايعه المهاجرون، والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون.
اتَّفق الصحابة رضي الله عنهم على بيعة عثمان بن عفان بالخلافة، وفي ذلك يقول ابن مسعود رضي الله عنه: «استخلفنا خير من بقي ولم نأله».
في يوم الإثنين التاسع والعشرين من ذي الحجة سنة 23 هـ بويع عثمان بالخلافة، وتمت البيعة في حضور مجلس الشورى السداسي الذي حدَّده الخليفة الثاني عمر، وفي اليوم التالي الأول مِن المحرم سنة 24 هـ بدأت خلافة عثمان، وكان عمره آنذاك ثمانية وستين عامًا.
تولى الخلافة رضي الله عنه، وكان على خير حال، وعلى درجة قوية من الإيمان، فقد كان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة فلا تبكي! وتبكي من هذا؟ قال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" القبر أوَّل منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه، فما بعده أشد منه" وكان يطيل التهجد.
ولي الخلافة بعد عمر ففتح الله على يديه كثيرًا مِن الأقاليم والأمصار وتوسَّعت الخلافة الإسلامية وامتدت الدولة المحمَّدية وبلغت الرسالة المصطفاة مشارق الأرض ومغاربها.
وها هو الحسن البصري يصف ما أصاب الناسَ مِن خير أدركه في عهد عثمان فيقول: قلَّ ما يأتي على النّاس يومٌ إلّا وهم يقتسمون فيه خيرًا، يقال لهم: يا معشر المسلمين، اغدوا إلى أعطياتكم، فيأخذوها وافرة، ثم يقال لهم: اغدوا إلى أرزاقكم ... فالأعطيات جارية، والأرزاق دارَّة، والعدوّ متَّقى، وذات البين حسن، والخير كثير، وما كان مؤمن يخاف مؤمنًا، ومَن لقِيَه فهو أخوه ".
مصحف عثمان
مِن أعظم أعمال عثمان أنَّه جمع المسلمين على مصحفٍ واحدٍ، فعن أنس بن مالك: أن حُذيفة بن اليمان قَدِمَ على عثمان، وكان يُغازي أهل الشّام في فتح أرْمِينِيَة وأَذْرَبِيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفةَ اختلافُهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أَدرِك هذه الأُمَّة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنَّصارى.
فأرسل عثمان إلى حفصة أن أَرْسِلي إلينا بالصُّحف ننسَخْهَا في المصاحف ثم نردُّها إليك.
فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيدَ بن ثابت، وعبدَ الله بن الزُبَيْر, وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرَّهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم. ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصُّحُف في المصاحف ردَّ عثمان الصّحف إلى حفصة، فأرسل إلى كلِّ أُفُق بمصحف ممّا نسخوا، وأمر بما سواه مِن القرآن في كلّ صحيفةٍ أو مصحفٍ أن يُحرَّق. وإذا أردت أن تعرف السَّبب الحامل لعثمان على جمع القرآن للمرَّة الثانية - مع أنَّه كان مجموعًا مرتَّبًا في صحف أبي بكر الصِّدِّيق - فهو اختلاف قرَّاء المسلمين في القراءة اختلافًا أَوْشَك أن يؤدِّيَ بهم إلى أخطر فتنة في كتاب الله تعالى، وهو أصل الشريعة ودِعَامة الدِّين، وأساس بناء الأُمَّة الاجتماعيّ والسِّياسيّ والخُلُقيّ، حتى إنَّ بعضهم كان يقول لبعض: إنّ قراءتي خير من قراءتك. فأفزع ذلك حذيفة، ففزع فيه إلى خليفة المسلمين وإمامهم, وطلب إليه أن يُدرك الأُمَّة قبل أن تختلف فيستشري بينهم الاختلاف، ويتفاقم أمره، ويعظم خطبه، فيُمَسُّ نصُّ القرآن، وتُحَرَّف كلماتُه وآياته عن مواضعها، كالذي وقع بين اليهود والنَّصارى مِن اختلاف كلِّ أُمَّة على نفسها في كتابها.
ولم يُقْدِم عثمان على هذه الخطوة إلا بعد أن جمع المهاجرين والأنصار وشاورهم في الأمر، وفيهم أعيان الأُمَّة وأعلام الأئمَّة وعلماء الصحابة، وفي طليعتهم علي بن أبي طالب، وعرض عثمان هذه المعضلة على صفوة الأُمَّة وقادتها الهادِينَ المهديِّين، ودارسهم أمرها ودارسوه، وناقشهم فيها وناقشوه، حتى عَرَف رأيهم وعَرَفوا رأيه، فأجابوه إلى رأيه في صراحة لا تجعل للرَّيْب إلى قلوب المؤمنين سبيلًا، وظهر للناس في أرجاء الأرض ما انعقد عليه إجماعهم، فلم يُعرَف قطّ يومئذ لهم مخالف، ولا عُرف عند أحد نكير، وليس شأن القرآن الذي يخفى على آحاد الأُمَّة فضلًا عن علمائها وأئمتها البارزين.
وبعث مع كلّ مُصْحَفٍ مَن يُرشِد الناس إلى قراءته، بما يحتمله رسمه من القراءات ممَّا صحَّ وتواتر، فكان عبد الله بن السائب مع المصحف المكِّي، والمغيرة بن شهاب مع المصحف الشامي، وأبو عبد الرحمن السّلميّ مع المصحف الكوفي، وعامر بن قيس مع المصحف البصري، وأمر زيد بن ثابت أن يُقرئ الناس بالمدينة.
بعض أعماله عند تولِّيه الخلافة
استمرت الفتوحات الإسلامية في شمال إفريقيا، وتمَّ بناء أول أسطول إسلامي، وكان أول عملٍ بحري ناجح قام به الأسطول هو "فتح جزيرة قبرص" سنة 28 للهجرة.
والتقى الأسطول الإسلاميّ مع الأسطول البيزنطي في أول معركة بحرية للمسلمين سنة 31 للهجرة، وهي "ذات الصّواري"، وفيها هُزِم الأسطول البيزنطي هزيمة ساحقة.
وفي عهد عثمان ضاق المسجد النَّبويّ بالنّاس، فكلَّموه أن يزيد في المسجد كما زاد عمر، فشاور عثمان أهل الرأي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجمعوا على أن يهدِمه ويزيد فيه.
ولم يكتف عثمان بهذا؛ بل أراد أن يطمئن الناس فخطب فيهم قائلا:" أيّها الناس، إني قد أردت أن أهدم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزيد فيه، وأشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" مَن بنى مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة "، وقد كان لي فيه سلف وإمام تقدَّمني: عمر بن الخطاب..".
فاطمأنّ الناس، ودعوا له.
بعد وفاة عمر بن الخطاب انتَفَضَت كثير من البلاد التي فتحها المسلمون في فارس والروم، ونقضت كثير من المقاطعات الفارسية معاهداتها مع المسلمين، فتصدَّى عثمان لهذه الثَّورات بحزم وقضى عليها.
وحاولت الروم أن تهاجم الشام وتطرد المسلمين منها، فأمر عثمان بتحريك قوات من العراق لنجدة الشام، وهزم المسلمون الرومَ، وافتتحوا حصونًا كثيرة في بلادهم.
وهاجم الروم مصر، واستولى قائدها "مانويل" على الإسكندرية، فخرج إليهم فاتح مصر عمرو بن العاص فطردهم نهائيًّا، وقتل "مانويل".
وبعيدًا عن مهام الخلافة وهمومها، نقترب مِن عثمان لنتعرف على فضائله وأخلاقه ومناقبه، لنرى عبادته وتواضعه، ولنسمَع مِن كلمات عثمان ما يُرقِّق القلوب، ويحثّ الهِمَم على السعي للآخرة.
وكان كثير الخوف مِن الله، قال رضي الله عنه: "لو أني بين الجنة والنار، لا أدري إلى أيَّتهما يُؤمَر بي، لاخترت أن أكون رمادًا قبل أن أعلم إلى أيَّتِهما أصير".
وكان حياؤه وكرمه يفيضان على المسلمين، فقد كان رحيمًا ليِّن الجانب، يؤثر الناس بماله، وينفق في سبيل الله ما ملكت يداه دون شُحّ أو تقتير.
بوادِر الفتنة
استَمَرّ عثمان رضي الله عنه على طاعة الله ومرضاته طوال العهد النبويّ، وكان عليه الصلاة والسلام يخبره ويخبر غيرَه مِن الصحابة رضوان الله عليهم المرة تلو الأخرى، بأن فتنة ستقع يكون فيها عثمان وأصحابه على الحقّ، ويشير عليهم باتِّباعه عند وقوعها.
وإخبار النبيّ صلَّى الله عليه وسلم بوقوع هذه الفتنة التي يقتل فيها عثمان رضي الله عنه، يُعدّ ضمن قائمة كبيرة من الحوادث التي أخبر عليه الصلاة والسلام في حياته بأنها ستقع بعد وفاته ووقع عدد منها، وما بقي منها سيقع حتمًا، ولو بعد حين.
وذلك عِلْمٌ أطلَعَه اللهُ عليه، وأمره أن يُبيِّنه للناس ...
وممّا صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقوع فتنة يقتل فيها عثمان بن عفان رضي الله عنه، ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: "ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة، فَمَرَّ رجل فقال: يقتل فيها هذا المقنع يومئذٍ، قال: فنظرت، فإذا هو عثمان بن عفان".
وما روى أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان ذات يوم على أحد ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اسكن أُحُد فليس عليك إلّا نبيٌّ وصِدِّيقٌ وشَهِيدان".
ولعلم النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع هذه الفتنة - بإخبار الله له -، ولشدة محبته لعثمان رضي الله عنه، وحرصه على مصالح الأمة بعده، دعاه - ذات يوم - وأخبره بأشياء تتعلق بهذه الفتنة التي ستنتهي بقتله، وحرص عليه الصلاة والسلام على سرِّيتها، حتى إنَّه لم يصل إلينا منها إلّا ما صرَّح به عثمان رضي الله عنه أثناء الفتنة لما قيل له: ألا تقاتل؟ فقال: لا، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليّ عهدًا، وإنّي صابرٌ نفسي عليه.
وفي بعض الروايات زيادة تكشف عن بعض مكنون هذه المسارَّة، فقد جاء فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "وإن سألوك أن تنخلع مِن قميص قمَّصَك الله عز وجل فلا تفعل ".
وهذا الحديث يُفسِّر لنا جليًّا سبب إصرار عثمان على رفض القتال أثناء الحصار، كما يُفسِّر أيضًا سببَ رفضِه للتَّنازل عن الخلافة، وخلعها، عندما عرض القوم عليه ذلك.
بدأت بوادر الفتنة في الظهور في أواخر عهده رضي الله عنه على يَدِ يهودي يُسَمَّى "عبد الله بن سبأ"، وكان أوَّلُ ظهوره في اليمن عام (30هـ), حيث أظهر الإسلام, ولكنَّه طعن فيه بما تَلقَّاهُ مِن تعاليم المجوسية, فأخذ يتنقَّل بين بلاد المسلمين ناشرًا أفكارَه وآراءه, فذهب إلى الحجاز, ومنها إلى العراق, فالبصرة فتبعه الأشتر النَّخَعِيُّ, وحُكَيْم بن جَبَلَة, ثمَّ انتقل ابنُ سبأ إلى مصر، ووجد في مصر مناخًا مناسبًا لأفكاره؛ لأن معظم المجاهدين خرجوا إلى الفتوحات، ومَن كان موجودًا إنما هم قِلَّة من المسلمين, فاستطاع ابن سبأ أن يجمع حوله قِلَّةً مِن الناس, واستقرَّ في مصر, ونشر أفكاره الباطلة فيهم، فتَبِعه المنافقون والطّـامعون في الإمـارة، والجهلة من المسلمين، فبدأ هؤلاء الطَّعن في الأمراء, ثم وصل إلى الطَّعن في الخليفة نفسه, وأعدَّ ابن سبأ قائمة بالطُّعون في عثمان، وأرسلها إلى الأمصار والبُلدان, ووصل الأمر إلى أمراء المسلمين, وإلى الخليفة، فأرسل مجموعة من الصحابة يفقِّهون الناس, ويعلِّمونهم, ويدفعون عنهم هذه الشبهات, فأرسل محمد بن مَسْلَمَة إلى الكوفة, وأسامة بن زيد إلى البصرة, وعمَّار بن ياسر إلى مصر, وعبد الله بن عمر إلى الشام.
وكان أهل الشام أقلَّ الناس تأثُّرًا بهذه الفتنة، لأن معاوية كان يَسُوس الناس بحكمة وحِلم، فأحبَّه الناس حبًّا شديدًا, وظهرت الفتنة لأوَّل مرَّة بصورة علنيَّة في الكوفة سنة (33 هـ)، فقد جمع الأشتر النَّخَعيّ حوله مجموعة مِن الرِّجال تسعة أو عشَرة, وبدأ يتحدَّث جهارًا نهارًا عن مطاعن يأخذها على عثمان، كلها مطاعن زورٍ وبهتان.
فأرسل عثمان إلى وُلاته كي يستشيرهم في أمر هذه الفتنة, ولَمّا سمع منهم جمع في معالجة هذا الأمر بين كل هذه الآراء, فأخرج بعض الجيوش للغزو, وأعطى المال لبعض الناس, وكلَّف كلَّ والٍ بمسئوليَّته عن مصره, ولكنه لم يستأصل شأفتهم.
حِصار عثمان ومقتله
حُوصِر عثمان في بيته, ومنعوا عنه الطّعام والشَّراب، وأراد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُواجِهوهم بالسِّلاح فنهاهم عثمان عن ذلك وقال لهم:" إنّ أعظمكم عني غناء رجلٌ كفَّ يدَه وسِلاحَه ".
وقال لمِن أخذ مكانه لحراسته:" أناشدكم اللهَ وأسألكم به ألا تُراق بسببي محجمة دم! وجاء علي لنصرته فقال:" لا حاجة لي في قتال وإهراق الدّماء.
بل إنّه رضي الله عنه عزم عليهم أن ينصرفوا ويتركوه يواجه مصيرَه دون قتالٍ ... وقد فعل ذلك حفظًا لدماء المسلمين وخشية من حدوث الفتنة بسببه.
حتى قال عبد الرحمن بن مهدي : خصلتان لعثمان ليستا لأبي بكر ولا لعمر: صبره على نفسه حتى قُتِل، وجمعه الناس على المصحف ".
أصبح عثمان بن عفان يوم قتل يَقُصّ رؤيا على أصحابه رآها، فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم البارحة، فقال لي: يا عثمان، أفطر عندنا..
وأصبح عثمان صائمًا، وفي ساعاته الأخيرة أعتق عشرين مملوكًا، ووضع يديه على المصحف يتلو فيه، واستسلم لقضاء الله، وكَفَّ يدَه عن القتال، ونصح الفَسَقَة، وأبان لهم فضله في الإسلام، فلم ينتهوا ...
اقتحموا عليه دارَه وقتلوه صبيحة يوم الجمعة؛ الموافق للثاني عشر من شهر ذي الحجة مِن السنة الخامسة والثلاثين بعد الهجرة، عن عمر ناهز اثنتين وثمانين سنة.
أحبَّ الناسُ عثمانَ لِكرَمِه وحيائه، وحزنوا عليه كثيرًا عندما قتلته الفئة الظالمة، ليلقى ربَّه شهيدًا.
وصلى عليه الزبير، ودُفِن بالبقيع حسب وصيَّته.
وهكذا كان قتل عثمان أوَّل الفتن، كما أنّ آخرها خروج الدّجال...
فسلام على ذي النُّورَين في الشُّهداء والصَّالحين.
أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب
ها هي الصَّفحة الأخيرة مِن صفحات سيرة الخلفاء الرّاشدين والأئمة المهديين، نعيش فيها أجمل اللَّحظات ونختم بها آخر المحطّات، إنّها سيرة رابع الخلفاء الرّاشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنَّة، إنّه علي بن أبي طالب.
لو قلتَ هو فارس الفرسان فلن تخطئ الجواب، ولو قلتَ هو من سادة الزُّهاد فلن تكون مجاوزًا الصَّواب، اجتَمَع فيه شرف النَّسَب والحَسَب، وتربَّى في حجر النَّبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ولادته ونسبه وكنيته
كانت ولادته قبل البعثة بعشر سنين، وكان أوَّل مَن وُلِد مِن بني هاشم في جوف الكعبة، ولَمّا أرادت أُمّه أن تختار له اسمًا، فبحثت في دفاتر عقلها عن اسم يحمل معاني القوَّة والهيبة؛ ليقذِف الخوف في قلوب أعدائه، ويرهبهم باسمه كما يرهبهم بقوته، فسَمَّته "حيدرة"، أي: أسدًا، كاسم أبيها، وكان أبو طالب غائبًا فلما عاد، لم يعجبه هذا الاسم وسمّاه عليًّا.
أبوه أبو طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، قرشيّ هاشميّ، وكذلك أمه قرشية هاشمية، وهو ابن عمِّ رسول الله وصهره؛ بل كان أخًا له في الدّنيا والآخرة.
كان يحب أن ينادَى "بأبي تراب"، وهي كنية أطلقها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان يُكنَّى بأبي الحسن، فهو والد السِّبْطَين - أي الحَفِيدين- الحسن والحسين، وهما سيِّدا شباب أهل الجنَّة.
صفاته الخَلقية
كان رَبْعَةً مِن الرِّجال إلى القِصَر ما هو، أدْعَج العينين، حسن الوجه، كأنَّه القمر ليلة البدر حسنًا، ضَخْم البطن، عريض المنكبين، كأن عنقه إبريق فضة، أصلع ليس في رأسه شعر إلّا مِن خلفه، كبير اللّحية، لا يتبين عضده مِن ساعده، قد أُدْمِجَت دمجًا، إذا مسك بذراع رجل أمسك بنفسه فلم يستطع أن يتنفس، وهو إلى السِّمَن ما هو، شديد السّاعد واليد، وإذا مشى للحرب هَرْوَل، ثابِت الجَنان، قويّ شجاع.
إسلامه
إنّ دوام الحال مِن المحال ... وقريش أغنى القبائل وسيِّدتها أصابتها أزمة شديدة، وكان أبو طالب يخرج بتجارة رجال مِن القوم، ومع هذه الأزمة قلَّ ماله مع كثرة عياله، فرقَّ النبي صلى الله عليه وسلم لحاله (وذلك قبل البعثة)، فذهب إلى عمِّه العباس يعرض عليه المشاركة في حمل المسؤولية عن أبي طالب، فوافق العباس وأيَّده، وذهبا إلى أبي طالب، فكفَل العباس "جعفرا"، وكان أكبر مِن علي، وكفل الرسول صلى الله عليه وسلم عليًّا، فقد كان يحبُّه حبًّا شديدًا، وكان مُقرَّبًا إليه.
وبذلك نشأ عليٌّ منذ نعومة أظافره، وتربى في بيت النُّبوَّة، فمع نقاء أصله وصفاء سريرته كان النبي صلى الله عليه وسلم قدوته الأولى، فاقتدى به في كلّ صفاته ... ولذلك كانت دعوته إلى الإسلام سهلة يسيرة مع حداثة سنه؛ لأنَّه كان يتمتَّع منذ صغره برجاحة عقلٍ وحِكمة وذكاء ملحوظين، مع الثِّقة التّامَّة في صدق محمَّد صلى الله عليه وسلم، فكان نبتةً صغيرة رواها الإسلام بنوره؛ لتصبح شجرةً ثابتةً قويَّةً راسخة إلى آخر لحظة.
كان إسلام الصَّبيّ الذي لم يتجاوز عمره العاشرة حينها بعد أن رأى النبي صلى الله عليه وسلم وزوجَه خديجة رضي الله عنها يصليّان، فسأل الرسولَ صلى الله عليه وسلم ما هذا؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم:"إنَّه دين الله اصطفاه لنفسه وبعث به رسوله".
ثم دعاه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فتعَجَّب الصَّبيّ مِن هذا الدِّين الذي لم يسمَع به مِن قبل، وأراد أن يحدِّث به أباه، فطلب منه النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم إمّا أن يُسلم، وإمّا أن يكتم الأمر، فبات الصَّبيّ ليلَتَه والنّور ما زال يتسَرَّب إلى قلبه، حتَّى أصبح غاديًا إلى الرَّسول صلى الله عليه وسلم فأسلَم بين يديه، وكتم إسلامَه، حتى عَلِم به أبوه فأمره بالثَّبات عليه.
وهكذا نشأ علي في بيت الإسلام، وتعرَّف إلى أسراره في مرحلة مبكرة مِن حياته، وذلك قبل أن تتخطَّى الدَّعوة حدود البيت وتنطلق إلى البحث عن أنصار يشدون أزرها وينطلقون بها في دنيا الناس، ويخرجونهم مِن الظلمات إلى النور.
ولم يزل علي بن أبى طالب رضي الله عنه مع رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى بعثه الله نبيًّا، فاتَّبعه عليّ، وأقرَّ به وصدَّقه، فكان هذا مِن أكبر نعم الله عز وجل على علي رضي الله عنه، إذ ربّاه وأدَّبَه الذي أدَّبَه الله عز وجل، وحفظه وعصمه ورعاه، والذي كان خلقه القرآن، فانعكس هذا الخلق القرآني على عليٍ في كل شؤونه وأحواله...
بداية رحلة الجهاد
وهنا يبدأ طريق الجهاد، فتتحوَّل تلك الأقدام الصَّغيرة إلى أقدام فتية تسلك سبيل الجهاد في سبيل الله والعمل لدينه، فتطويه طيًّا حتى آخر لحظة في العمر.
اشتدَّت المعركة بين الحق والباطل في مكَّة، فجاء الأمر الإلهيّ بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلى المدينة، وبدأت مواكب المؤمنين بالهجرة تسبق قائدها إلى العُشّ الآمِن الذي يعيش فيه الدِّين والدَّعوة بلا تضييق ولا فتنة، حتى لم يبق في مكَّة مِن المسلمين سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نَفَرٍ قليلٍ مِن أصحابه، منهم عليّ بن أبي طالب.
وكان لا بد مِن تضليل الباطل لِيُهاجر النبيّ صلَّى الله عليه وسلم، فَكَلَّف رسول اللهُ عليه الصّلاة والسّلام عليًّا بأن ينام في فراشه، فتظنَّ قريش أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما زال نائمًا في حجرته، ثم أمرَه أن يبقى بمكة ثلاثة أيام يرد فيها الأمانات إلى أهلها، ثم يُهاجر إلى المدينة ويلحَق به.
أدَّى عليّ المهمَّة في دقَّة، حتى خدع المشركين، ونفَّذ الوصية، وردَّ الأمانات، ثم بدأ رحلة الهجرة غير مفتون في دينه، فكان يسير ليلًا ويستريح نهارًا، حتى وصل إلى بني عمرو بن عوف مِن الأنصار، فنزل على كلثوم بن الهدم، ولَمّا عَلِم النبي صلى الله عليه وسلم بقدومه طلب استدعاءَه، فقالوا: "لا يقدر أن يمشي"، فذهب إليه صلى الله عليه وسلم بنفسه فاعتنقه، وبكى رحمة به؛ لِما بِقَدَميه مِن ورم مِن أثر السفر.. وتَفَل النبي صلى الله عليه وسلم في يديه ومسح بها رجلي علي، ودعا له، فلم يشتك منهما حتى استُشهد.
حمل عليّ لواء الجهاد في سبيل الله مع مَن حملوه، وسار على الطَّريق بأقدام فَتِيَّة، وعزيمة صلبة قويَّة، فشَهِد مع النبي الخاتم مَشاهد الكفاح والجهاد كلّها، إلّا تبوك التي استخلفه فيها النبي صلى الله عليه وسلم على أهل بيته في المدينة، فكان ثوابه كثواب مَن حَضَرها.
شهد هذا الفارس المعركة الفاصلة بين الحق والباطل في يوم بدر، وحضر يوم أُحد، فكان سيفًا مِن سيوف الحق يطيح بمن يقف في وجهه.
وفي بقيَّة الغزوات كان علي يُرَى مرة حاملًا للواء، وتارة أخرى يُفرِّق بسيفه جموع الأعداء، أو يبارز أبطال قريش وأعداء الإسلام فيصرعهم، أو يفتح الحصون المستعصية - كما تحقَّق في فتحه حصون خيبر.. - ويا له مِن بطل لا يفتح الحصون فقط؛ بل ويفتح القلوب أيضًا.. فقد مكث خالد بن الوليد في همدان ستة أشهر فلم يسلم منهم أحد، وأسلموا جميعًا على يد علي رضي الله عنه في يوم واحد.
"لأعطين الراية غدًا رجلًا يحبُّه اللهُ ورسولُه ويحبّ اللهَ ورسولَه، يفتحُ اللهُ على يديه، وليس بفَرّار..".
بعد أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا - وهو يستعد لمحاولةٍ جديدة لاقتحام حصون خيبر المنيعة - ظلَّ الكُلّ يترقَّب ويتمنَّى لو كان هو هذا الرجل، ولَمّا كان الغد سأل صلى الله عليه وسلم:"أين عليّ بن أبى طالب؟" فقالوا: يشتكي عينيه، فأرسل إليه فأتى، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن ريقه في عينيه فبرئ، حتى كأن لم يكن به شيء، فأعطاه الرَّاية، وقال عليّ: يا رسول الله، أُقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟! فقال صلى الله عليه وسلم:"أنفذ على رِسْلِكَ حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك مِن حُمر النَّعَمِ". كان هذا هو مبدأ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم والذي سار الصحابة على هديه؛ بل هو مبدأ الإسلام دين الله الأوحد.
أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر في السَّنة التاسعة للهجرة يحج بالناس، وبعث عليًّا في أَثَرِه ليقرأ على الناس سورة براءة، لتكتمل حلقات الجهاد بالسيف والكلمة في حياة الإمام علي.
ولِيوضِّح لهم عهد الله ورسوله، وهو: " لا يَقرَبَنّ المسجدَ الحَرام بعد عامهم هذا مشرك، ولا يَطوفَنّ بالبيت عريان ...".
ارتَفع صوت ابن أبى طالب يدوّي في أرجاء مكَّة، والنّاس منصتة إليه وهو يحمل إليهم النِّداء النَّبويّ الشَّريف، والكلمات تسرى مِن فمه فسرعان ما تخترق الآذان، فيشعر المسلمون بالسَّعادة الغامرة إذ يسحب الشرك آخر جنوده بعيدًا عن أداء هذه الفريضة الغالية: الحج إلى بيت الله الحرام.
حياته وبعض أعماله
أعطى أمير المؤمنين علي رضي الله عنه مَقام النُّبوَّة حقَّه وأوضح مَعالمه بأقواله وأفعاله، وكان يحرص على تعليم الناس وحثِّهم على الاقتداء برسول الله في أقواله وأعماله وتقريراته.
كان عليّ واحدًا مِن المكِّيين الذين قرأوا وكتبوا في مجتمعهم الأُمِّيّ، وهذا دليل على حبِّه للعلم وشغفه به منذ صغره، وقد وفَّقه الله تعالى أن يعيش منذ طفولته في بيت رسول الله عليه الصلاة والسلام، فتربي على يديه، وزادت عناية رسول الله عليه الصلاة والسلام به بعد إسلامه، فكان له بمثابة الرّافد القوي الذي أثَّر في شخصيَّته وصَقَل مَواهِبه وفجَّر طاقته، وهذَّب نفسَه، وطهَّر قلبَه ونوَّر عقله، وأحيا روحه، فقد لازم رسول الله عليه الصلاة والسلام في مكَّة والمدينة، وقد كان حريصًا على التَّتلمذ على يدي رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي كان يربي أصحابه على القرآن الكريم، فكان هو الينبوع المتدفِّق الذي استَمَدَّ منه علي رضي الله عنه علمَه وتربيَّته وثقافته.
كان النبي عليه الصلاة والسلام تنزل عليه الآيات منجَّمة على حسب الوقائع والأحداث، وكان يقرؤها على أصحابه الذين وقفوا على معانيها وتعمَّقوا في فهمها، وتأثَّروا بمبادئها، وكان له أعمق الأثر في نفوسهم وعقولهم وقلوبهم وأرواحهم، كما كان علي واحدًا من الذين تأثَّروا بالتَّربية القرآنيَّة على يدي رسول الله عليه الصلاة والسلام وتشرَّب تَعالِيمَه وتوجِيهاته النَّبويَّة، وقد اهتم علي منذ أسلم بحفظ القرآن الكريم وفهمه وتأمله، وظل ملازمًا للرسول عليه الصلاة والسلام يتلقَّى عنه ما أُنزِل عليه حتَّى تمَّ له حفظ جميع آياته وسوره، وأصبح مِن الخلفاء الراشدين فيما بعد.
وتزيَّنت حياة علي بالزَّواج مِن فاطمة الزَّهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتزوَّج غيرها حتى ماتت .. وبلغ مِن ثقة النبي صلى الله عليه وسلم به أن أرسلَه وهو شاب إلى اليمن قاضيًا ومُعلِّمًا.
ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم تُوفي وعلي بن أبي طالب في رَيْعان شبابه، إلّا أنّ مسيرة الهدى للفتى المبارك لم تتوقَّف، فَوَقَف إلى جانب الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان مستشارًا أمينًا، وناصحًا خبيرًا.
وظهر ذكاؤه ونبوغه في القضاء، وكذا عِلمُه بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام اللَّذين ارتوى منهما أثناء صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يضَع أُسُس الدَّولة الإسلاميَّة في المدينة منذ اللَّحظة الأولى للهجرة، فكان لا بد أن يتعاون الجميع لتوطيد الأسس والعمل من أجل الرَّسالة، ونشر الإسلام في ربوع المعمورة، والوقوف في وجه الكفر والباطل لردعه؛ بل والقضاء عليه. وعليّ بن أبى طالب ممّن ساروا على طريق الجهاد والعمل للدِّين بأقدام فتية، ونفس تتوق شوقًا للفردوس الأعلى، فهان عليه كل شيء في سبيل الوصول إلى الغاية الكبرى، وهي رضا الله عزَّ وجل ونصرة دينه..
«أبو بكر أفضل الأمة بعد رسولها». أمرٌ كان يُدرِكه عليٌّ جيدًا، ومن هنا فقد بادَر بالمبايعة على الخلافة والسَّمع والطاعة للصدِّيق، فقرّبه منه أبو بكر، وجعله مِن أهل مشورته.
ثم إنّ عليًا كان مشاركًا لأبي بكر في معاملاته وقضاياه، قابلًا منه الهدايا رافعًا إليه الشَّكاوي، مُصليًا خلفه، محبًا له، مبغضًا مَن يبغضه ...
وجعله في حروب الرِّدَّة على مداخل المدينة مع الزبير وطلحة وابن مسعود يرقبون حركة العدو، حتى انتصر الحق وزهق الباطل.
كان عليٌّ يروي الحديث عن أبي بكر ويثق في صدقه وأمانته.
ويرحل أبو بكر عن الدّنيا، ويخلُفه الفاروق الكبير عمر بن الخطاب أميرًا على المسلمين مِن بعده، فيكون علي بن أبى طالب أحدَ رجال مجلسه ومستشاريه الكبار: يُسْأَل عن رأيه فيفيض علمًا، ويُستَفتى في قضية فتتدفق منه الحكمة.
وكان علي يرى الخليفة عمر رجلًا عفًّا صائنًا لأموال المسلمين، محافظًا على أماناتهم، فيثني عليه خيرًا، ويقول له: «أتعبت مَن جاء بعدَك»!
ويتولَّى عثمان الخلافة بعد عمر، ويكون علي أحد مستشاريه ومقرَّبيه، ولَمّا اشتَدَّ الحصار حول بيت أمير المؤمنين، ومُنِع عنه الطَّعام والشَّراب كان ابن أبي طالب مِن أوَّل المنجِدين للخليفة؛ بل أرسل إليه وَلَدَيه الحسن والحسين لحراسته مِن المتمرِّدين الأشقياء، وغضب بشدة حينما بلغه نبأ مقتل الخليفة الشَّهيد ...
قُتِل الخليفة عثمان بن عفان بيد الغادرين الذين أثاروا الفتنة في البلاد، وألَّبوا الناس عليه، فمَن يا ترى يستحق الخلافة بعده ؟! لم يكن هناك مَن يستَحِقّها مثل علي، فهو الأسبق إلى الإسلام، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المجاهد في الله حقّ جهاده، مع علمه وفضله.
لقد وقع اختيار الأُمَّة على شيخ قريش الشّجاع علي بن أبي طالب لِيَلِيَ أمرَها، ويتولَّى الخلافة عليها، في جوٍّ عاصف مضطرب، بعد مقتل الخليفة الصالح عثمان بن عفان؛ لِما رأوا مِن فَضْله على مَن بقي مِن الصَّحابة، وأنه أقدمهم إسلامًا، وأوفرهم علمًا، وأقربهم بالنبي صلى الله عليه وسلم نسبًا، وأشجعهم نفسًا، وأحبّهم إلى الله ورسوله، وأكثرهم مناقب وأفضلهم سوابق، وأرفعهم درجةً وأشرفهم منزلة، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم هديًا وسمتًا، فكان رضي الله عنه متعينًا للخلافة دون غيره.
سار رضي الله عنه على هَدي أصحابه مِن قبله، ولم يغير شيئًا مِن نُظُم الدَّولة التي وضعها عمر بن الخطاب، وقال عليٌ في ذلك: " إن عمر كان رشيد الرأي، ولن أُغيِّر شيئًا صنَعَه عمر".
كان في فترة خلافته يضرب بِقوَّة الحق على أيدي مَن يحيد عن الحق ...
وكان يرفع بقوة الحق كل مظلوم وينصره ...
حاول عليّ جهده نشر الاستقرار في البلاد، ولكنَّ التَّوفيق أخطأه بسبب تلك الفتنة الثائرة الفائرة منذ مقتل عثمان رضي الله عنه، ودامَت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر، وكان سِنّه في نهاية خلافته ثلاثًا وستِّين سنة.
أخلاقه وعبادته
كان يستوحش مِن الدّنيا وزهرتها، ويستأنس باللَّيل وظلمته، فكان إذا أرخى اللَّيل سدوله، وغارَت نجومه يتمَلْمَل في محرابه، قابضًا لحيته، يتململ تململ المريض, ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: يا ربَّنا، يا ربَّنا، يتضرَّع إليه، ثم يقول للدّنيا: "أبي تغرَّرت أم إليَّ تَشَوَّفت، هيهات هيهات، غُرَّي غيري، قد بِنْتُك - أي طلَّقتك - ثلاثًا، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير, آهٍ مِن قِلَّة الزّاد، وبُعْد السَّفر ووَحْشَة الطَّريق".
كان هذا هو خطاب عليّ للدّنيا، فهو ليس في حاجة لزينتها وغرورها، فكم حذَّر الناس منها، وكشف لهم من وجهها القبيح، فهي دار غرور وفناء. لقد جمع الناس أموالًا مِن ذهب وفضة ففاخروا بها، وأصبحوا عبيدًا لها، ولكنَّه رضي الله عنه كان زهده هو ماله وثروته، فساد به، فها هو ذا الخليفة وأمير المؤمنين يشترى قميصًا مقطوعًا كُمُّه مِن موضع الرّسغين يومًا، ويعرض سيفه للبيع ليشتري بثمنه إزارًا يرتديه، مع إنَّه إذا أخذ ثمن إزار من بيت المال فلن يسأله عنه إنسان، أليس مِن حقِّه أن يأخذ راتبًا يكفيه وأهله؟!
هو رجل لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضَّعيف مِن عدله.
كان هذا هو حال كلّ مَن يَقِف أمام علي ليحكم له في أمر ما، فكان قاضيًا عدلًا ذا حكمة وبصيرة، يرتوي بهما من نبع القرآن والسنة الفياض، حتى شهد له سيِّد الخلق أجمعين صلى الله عليه وسلم قائلًا: "أَقْضَى أُمَّتي عَلِيّ".
فاق الصحابة في علمه بمواطن نزول الآيات وأوقات تلقي النبي صلى الله عليه وسلم لها، فما مِن آيةٍ مِن كتاب الله إلّا وهو يعلم أين نزلت: أبِسهلٍ أم بجبل، ومتى نزلت: أبليل أم بنهار ؟! فقد آتاه الله قلبًا عقولًا ولسانًا ناطقًا.
وكم سمع أنوار البيان مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقل علم السُّنَّة إلى تلاميذه مِن صغار الصحابة وكبار التابعين.
وبرز عليّ وسط الصحابة كأحد النجوم الكبيرة بينهم، فكان أحد المفتين الأربعة الكبار من الصحابة (عمر بن الخطاب، وعائشة بنت أبي بكر، وعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبى طالب).
وانطوى علمه بالقضاء، وفهمه للمسائل العويصة على قدرة هائلة على الفهم والتدقيق، حتى كان عمر بن الخطاب يستعيذ بالله مِن مُعْضِلَة ليس لها أبو الحسن علي بن أبى طالب رضي الله عنه الذي كان يدري مِن نفسه هذه الموهبة الربَّانية، فيقول للناس: "سلوني.."، مخافة أن يموت قبل أن يأخذ الناس العلم الذي في صدره.
كان يحث الناس على إكرام العشيرة فيقول: "أكرم عشيرتك، فإنهم جناحك الذي به تطير، وإنك بهم تصول، وبهم تطول، وهم العدة عند الشدة، أكرم كريمهم، وعُدْ سقيمهم، وأشركهم في أمورك، ويسَّر عن معسرهم ".
وها هو يقول لِمَن جاء يسأل حاجته: "اكتب حاجتك على الأرض فإني أكره أن أرى ذلّ السّؤال في وجهك". فكم يعاني المحتاجون مِن الذل بين يدي مَن يعرضون عليهم حوائجهم، وقد كان رضي الله عنه يفرح بقدوم الضيف، ويكرم إخوانه في الله ويتفقدهم .. كلّ ذلك لتأثره بالتربية القرآنية والنبويَّة.
نيله الشَّهادة
كم تمنَّى الشَّهادة في سبيل الله، وكم تمنَّى لِقاء الأحِبَّة في الفردوس الأعلى ... وزادت رغبته في تحقّق البشرى آخر أيامه، حيث كثرت الفتن، واختلطت الأمور فكان يقول: " ما يحبس أشقاكم أن يجيء فيقتلني؟". وفي ذلك الوقت اختار الخوارج الذين حاربهم علي في النهروان ثلاثة منهم، هم: عبد الرحمن بن ملجم المرادي لقتل علي، والبرك بن عبد الله التميمي لقتل معاوية بن أبي سفيان، أمّا عمرو بن العاص فانتدبوا لقتله عمرو بن بكر التميمي.
وفي صبيحة يوم الجمعة السابع عشر من رمضان مِن سنة أربعين للهجرة، كان الوقت قد حان لتَهْدأ الرُّوح بلقاء بارئها فتتَحَقَّق لها البشرى على يد أشقى الآخرين.. فبينما علي خارج إلى المسجد لصلاة الصبح؛ إذ بادَره هذا الشَّقيّ بضربةٍ بالسَّيف على رأسه.. وقُبض على الشَّقي، فأمر أمير المؤمنين بقتله إن هو مات، وإن عاش فسوف ينظر في أمره ...
فعاش علي الجمعة والسبت ليموت يوم الأحد، فأمر الحسن بضرب عنق ابن ملجم.
ولكن ماذا قتل ابن ملجم مِن علي غير جسد رَغِب صاحبه عن الدّنيا، وأسهرَه وأتعبه في قيام الليل والعمل لله تعالى؟!
هاهي ذي دارُ عليّ تَمُوجُ بالناس فَزِعِينَ من الخبر، مُشفِقين على أميرهم وخليفتهم، فقد شاهدوا عدله وفضله، ولمسوا زهده وورعه، فكان لا يحكّم إلّا كتاب الله وسنة رسوله، لا يستهين بأمر ظالم، ولا يُضِيّع حقَّ مظلوم، وكانت الدُّنيا ملقاةً وراء ظهره لم تسكن قلبه أبدًا.
رضي الله عن علي وأرضاه، وجمَعنا به في دار النَّعيم مع النَّبيِّين والصِّدِّيقين والشُّهداء والصّالحين، وحسن أولئك رفيقًا.