بستان الأحبار مختصر نيل الأوطار (⮫)


 بستان الأحبار مختصر نيل الأوطار

بسم الله الرحمن الرحيم

 المقدمة

الحمد لله الذي اصطفى من خلقه من انتقاهم لخدمته فنالوا بذلك الأوطار، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد النبي الأمي أشرف الأخيار، الذي أُعْطِيَ جوامع الكلم في البسط والاختصار، وعلى آله وأصحابه المهاجرين منهم والأنصار، ومن تبعهم بإحسان من الربانيين والأحبار وممن اقتدى بهم وسلك سبيلهم الموصل إلى دار القرار. أما بعد فإن «منتقى الأخبار» قد جمع من الأحاديث ما لم يجتمع في غيره من كتب الأحكام، وصار مرجعًا للعلماء عند الحاجة إلى طلب الدليل لاسيما وهو تأليف علامة عصره أبي البركات مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن الخضر الحراني المعروف بابن تيمية المولود سنة تسعين وخمسمائة المتوفى سنة اثنتين وخمسين وستمائة. قال الذهبي: سمعت الشيخ تقي الدين أبا العباس يقول: كان الشيخ ابن مالك يقول: (ألين للشيخ المجد الفقه كما ألين لداود الحديد) . وقد تصدى لشرح هذا الكتاب الإمام العلامة الرباني محمد بن علي الشوكاني صاحب التصانيف النفيسة منها: (نيل الأوطار) شرح هذا الكتاب فإنه يشتمل على مزايا كثيرة من فنون العلم، وهو كما قال صاحبه: شرح يشرح الصدور. ويمشي على سنن الدليل. ولد رحمه الله تعالى سنة 1172 هـ

(1/5)


وتوفي سنة 1250 هـ وقد كان بعض الإخوان يرغب اختصاره، وقد سألني ذلك بعضهم فتوقفت مدة ثم عزمت على ذلك فلخصته، واقتصرت على شرح ما يدل على الترجمة إلا في بعض المواضع، ولم أذكر الخلاف الذي ذكره الشارح إلا فيما لا بد منه، وربما نقلت كلامًا من غيره متممًا للفائدة فكان هذا المختصر من أنفع كتب الأحكام وألذها للناظر والسامع وسميته: بستان الأحبار مختصر نيل الأوطار وأسأل الله تعالى أن ينفعني به في الدنيا والآخرة وجميع من سمعه وإخواننا المسلمين آمين.

(1/6)


مقدمة المصنف قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: بسم الله الرحمن الرحيم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الأمِّيِّ الْمُرْسَلِ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. وَبَعْدُ: هَذَا كِتَابٌ يَشْتَمِلُ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ الأحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي تَرْجِعُ أُصُولُ الأَحْكَامِ إلَيْهَا وَيَعْتَمِدُ عُلَمَاءُ أَهْلِ الإِسْلامِ عَلَيْهَا. انْتَقَيْتهَا مِنْ صَحِيحَيْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ. وَمُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَجَامِعِ أَبِي عِيسَى التِّرْمِذِيِّ، وَكِتَابِ السُّنَنِ لأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيّ، وَكِتَابِ السُّنَنِ لأَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ. وَكِتَابِ السُّنَنِ لابْنِ مَاجَهْ الْقَزْوِينِيِّ، وَاسْتَغْنَيْت بِالْعَزْوِ إلَى هَذِهِ الْمَسَانِيدِ عَنْ الإِطَالَةِ بِذِكْرِ الأَسَانِيدِ. وَالعَلامَةُ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (أَخْرَجَاهُ) وَلِبَقِيَّتِهِمْ (رَوَاهُ الْخَمْسَةُ) وَلَهُمْ سَبْعَتُهُمْ (رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ) . وَلأَحْمَدَ مَعَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ أُسَمِّي مَنْ رَوَاهُ مِنْهُمْ وَلَمْ أَخْرُجْ فِيمَا عَزَوْتُهُ عَنْ كُتُبِهِمْ إلا فِي مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ، وَذَكَرْت فِي ضِمْنِ ذَلِكَ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.

(1/7)


وَرَتَّبْتُ الأَحَادِيثَ فِي هَذَا الْكِتَابِ عَلَى تَرْتِيبِ فُقَهَاءِ أَهْلِ زَمَانِنَا لِتَسْهُلَ عَلَى مُبْتَغِيهَا، وَتَرْجَمْت لَهَا أَبْوَابًا بِبَعْضِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الْفَوَائِدِ. وَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِلصَّوَابِ وَيَعْصِمَنَا مِنْ كُلِّ خَطَأٍ وَزَلَلٍ إنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ. قَولُه: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنَّمَا افْتَتَحَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كِتَابَهُ بِهَذِهِ الآيَةِ مَعَ إمْكَانِ تَأْدِيَةِ الْحَمْدِ الَّذِي يُشْرَعُ فِي الافْتِتَاحِ بِغَيْرِهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ إذَا أَفْصَحَ الْغُلامُ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَّمَهُ هَذِهِ الآيَةَ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. قَوْلُهُ: (وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الْمُرْسَلِ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا) . قَالَ الشَّارِحُ: أَرْدَفَ الْحَمْدَ للهِ بِالصَّلاةِ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - لِكَوْنِهِ الْوَاسِطَةَ فِي وُصُولِ الْكَمَالاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ إلَيْنَا مِنْ الرَّفِيعِ عَزَّ سُلْطَانُهُ وَتَعَالَى شَأْنُهُ، فَذُكِرَ عَقِبَ ذِكْرِهِ - جَلَّ جَلالُهُ - تَشْرِيفًا لِشَأْنِهِ مَعَ الامْتِثَالِ لأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَكَذَلِكَ التَّوَسُّلُ بِالصَّلاةِ عَلَى الآلِ وَالأَصْحَابِ لِكَوْنِهِمْ مُتَوَسِّطِينَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّ مُلاءَمَةَ الآلِ وَالأَصْحَابِ لِجَنَابِهِ أَكْثَرُ مِنْ مُلاءَمَتِنَا لَهُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. ? قَوْلُهُ: (لأَحْمَدَ مَعَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِم مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ الشَّارِحُ: الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ هُوَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ دُونِ اعْتِبَارِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا، وَالْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ جَعَلَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَأَحْمَدُ وَلا مُشَاحَّةَ فِي الاصْطِلاحِ.

(1/8)


 كِتَابُ الطَّهَارَةِ

أَبْوَابُ الْمِيَاهِ بَابُ طَهُورِيَّةِ مَاءِ الْبَحْر وَغَيْرِهِ 1- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ، بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. 2- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَحَانَتْ صَلاةُ الْعَصْرِ - فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوا فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِوَضُوءٍ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الإِنَاءِ يَدَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا مِنْهُ، فَرَأَيْت الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3- وَمُتَّفَقٌ عَلَى مِثْلِ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. قَوْلُهُ: (كِتَابُ الطَّهَارَةِ) قَالَ الشَّارِحُ: وَلَمَّا كَانَتْ مِفْتَاحَ الصَّلاةِ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ. افْتَتَحَ الْمُؤَلِّفُونَ بِهَا مُؤَلَّفَاتِهِمْ. وَالأَبْوَابُ: جَمْعُ بَابٍ وَهُوَ حَقِيقَةٌ لِمَا كَانَ حِسِّيًّا يُدْخَلُ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ وَمَجَازٌ لِعِنْوَانِ جُمْلَةٍ مِنْ الْمَسَائِلِ

(1/9)


الْمُتَنَاسِبَةِ. وَالْمِيَاهُ جَمْعُ الْمَاءِ وَجَمْعُهُ مَعَ كَوْنِهِ جِنْسًا لِلدَّلالَةِ عَلَى اخْتِلافِ الأَنْوَاعِ. قَوْلُهُ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» . قَالَ الشَّارِحُ: قَالَ فِي شَرْحِ الإِلْمَامِ: فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يُجِبْهُمْ بِنَعَمْ حِينَ قَالُوا: (أَفَنَتَوَضَّأُ بِهِ) ؟ قُلْنَا: لأَنَّهُ يَصِيرُ مُقَيَّدًا بِحَالِ الضَّرُورَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ الاقْتِصَارِ عَلَى الْجَوَابِ بِنَعَمْ أَنَّهُ إنَّمَا يُتَوَضَّأُ بِهِ فَقَطْ، وَلا يُتَطَهَّرُ بِهِ لِبَقِيَّةِ الأَحْدَاثِ وَالأَنْجَاسِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَمِنْ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ الزِّيَادَةِ فِي الْجَوَابِ عَلَى سُؤَالِ السَّائِلِ لِقَصْرِ الْفَائِدَةِ وَعَدَمُ لُزُومِ الاقْتِصَارِ، قَالَ ابْنُ الْمُلَقِّنِ: إنَّهُ حَدِيثٌ عَظِيمٌ، أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الطَّهَارَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ وَقَوَاعِدَ مُهِمَّةٍ. قَوْلُهُ: فِي حَدِيثُ أَنَسٍ (فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُوَاسَاةِ بِالْمَاءِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِمَنْ كَانَ فِي مَائِهِ فَضْلٌ عَنْ وُضُوئِهِ، وَعَلَى أَنَّ اغْتِرَافَ الْمُتَوَضِّئِ مِنْ الْمَاءِ الْقَلِيلِ لا يُصَيِّرُ الْمَاءَ مُسْتَعْمَلاً، وَمِنْ فَوَائِدِهِ أَنَّ الْمَاءَ الشَّرِيفَ يَجُوزُ رَفْعُ الْحَدَثِ بِهِ. وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَنَّهُ لا بَأْسَ بِرَفْعِ الْحَدَثِ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ؛ لأَنَّ قُصَارَاهُ أَنَّهُ مَاءٌ شَرِيفٌ مُتَبَرَّكٌ بِهِ، وَالْمَاءُ الَّذِي وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فِيهِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ. 4- وَقَدْ جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي حَدِيثٍ لَهُ قَالَ فِيهِ: ثُمَّ أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِسَجْلٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ فَشَرِبَ مِنْهُ وَتَوَضَّأَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. بَابُ طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُتَوَضَّأِ بِهِ 5- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَعُودنِي وَأَنَا مَرِيضٌ لا أَعْقِلُ فَتَوَضَّأَ وَصَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 6- وَفِي حَدِيثِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، مِنْ رِوَايَةِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ: مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً إلا وَقَعَتْ فِي

(1/10)


كَفّ رَجُلٍ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ. وَهُوَ بِكَمَالِهِ لأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ. 7- وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَقِيَهُ وَهُوَ جُنُبٌ فَحَادَ عَنْهُ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: كُنْت جُنُبًا، فَقَالَ: «إنَّ الْمُسْلِمَ لا يَنْجُسُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ. 8- وَرَوَى الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِصَبِّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِوَضُوئِهِ عَلَى جَابِرٍ وَتَقْرِيرِهِ لِلصَّحَابَةِ عَلَى التَّبَرُّكِ بِوَضُوئِهِ، وَعَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ لِلْوُضُوءِ إِلِى أَنْ قَالَ: فَإِنْ قَالَ الذَّاهِبُ إلَى نَجَاسَةِ الْمُسْتَعْمَلِ لِلْوُضُوءِ إنَّ هَذِهِ الأَحَادِيثَ غَايَةُ مَا فِيهَا الدَّلالَةُ عَلَى طَهَارَةِ مَا تَوَضَّأَ بِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ. قُلْتُ: هَذِهِ دَعْوَى غَيْرُ نَافِقَةٍ، فَإِنَّ الأَصْلَ أَنَّ حُكْمَهُ وَحُكْمَ أُمَّتِهِ وَاحِدٌ إلا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ يَقْضِي بِالاخْتِصَاصِ وَلا دَلِيلَ. وَأَيْضًا الْحُكْمُ بِكَوْنِ الشَّيْءِ نَجِسًا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ يَلْتَزِمُهُ الْخَصْمُ فَمَا هُوَ؟ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الْمُسْلِمَ لا يَنْجُسُ» . قَالَ الشَّارِحُ: تَمَسَّكَ بِمَفْهُومِهِ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَحَكَاهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ الْهَادِي وَالْقَاسِمِ وَالنَّاصِرِ وَمَالِكٍ فَقَالُوا: إنَّ الْكَافِرَ نَجِسُ عَيْنٍ وَقَوَّوْا ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ الْمُسْلِمَ طَاهِرُ الأَعْضَاءِ لاعْتِيَادِهِ مُجَانَبَةِ النَّجَاسَةِ بِخِلافِ الْمُشْرِكِ لِعَدَمِ تَحَفُّظِهِ عَنْ النَّجَاسَةِ، وَعَنْ الآيَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ نَجَسٌ فِي الاعْتِقَادِ وَالاسْتِقْذَارِ، وَحُجَّتُهُمْ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَرَقَهُنَّ لا يَسْلَمُ مِنْهُ مَنْ يُضَاجِعُهُنَّ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَحَدِيثُ الْبَابِ أَصْلٌ فِي طَهَارَةِ الْمُسْلِمِ حَيًّا وَمَيِّتًا. وَفِيه مِنْ الْفَوَائِدِ مَشْرُوعِيَّةُ الطَّهَارَةِ عِنْدَ مُلابَسَةِ الأُمُورِ الْعَظِيمَةِ، وَاحْتِرَامُ أَهْلِ الْفَضْلِ وَتَوْقِيرُهُمْ، وَمُصَاحَبَتُهُمْ عَلَى أَكْمَلِ الْهَيْئَاتِ. بَابُ بَيَانِ زَوَالِ تَطْهِيرِهِ 9- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا يَغْتَسِلَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ» . فَقَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ قَالَ:

(1/11)


يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلاً. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ. 10- وَلأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد: «لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ، وَلا يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ» . 11- وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ حَدَّثَتْنِي الرُّبَيِّعِ بِنْتُ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ - فَذَكَرَ حَدِيثَ وُضُوءِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَفِيهِ: (وَمَسَحَ - صلى الله عليه وسلم - رَأْسَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ وَضُوئِهِ فِي يَدِهِ مَرَّتَيْنِ، بَدَأَ بِمُؤَخِّرِهِ، ثُمَّ رَدَّهُ إلَى نَاصِيَتِهِ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاثًا ثَلاثًا) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد مُخْتَصَرًا وَلَفْظُهُ: (أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَسَحَ رَأْسَهُ مِنْ فَضْلِ مَاءٍ كَانَ بِيَدَيْهِ) . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ صَدُوقٌ، وَلَكِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: كَانَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالْحُمَيْدِيُّ يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِهِ) . قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَغْتَسِلَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ غَيْرُ مُطَهِّرٍ أَكْثَرُ الْعِتْرَةِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَاللَّيْثُ وَالأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ. ورجح الشارح عَدَمَ خُرُوجِ الْمُسْتَعْمَلِ عَنْ الطَّهُورِيَّةِ وبَقَاءه عَلَى الْبَرَاءَةِ الأَصْلِيَّةِ، قَالَ: وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنَّفُ رَحِمَهُ اللهُ بِحَدِيثِ الْبَاب عَلَى عَدَم صَلاح الْمُسْتَعْمِل لِلطَّهُورِية، فَقَالَ: وَهَذَا النَّهْيُ عَنْ الْغُسْلِ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لا يَصِحُّ وَلا يُجْزِئ وَمَا ذَاكَ إلا لِصَيْرُورَتِهِ مُسْتَعْمَلاً بِأَوَّلِ جُزْءٍ يُلاقِيهِ مِنْ الْمُغْتَسِلِ فِيهِ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الَّذِي لا يَحْمِلُ النَّجَاسَةَ، أَمَّا مَا يَحْمِلُهَا فَالْغُسْلُ فِيهِ مُجْزِئٌ، فَالْحَدَثُ لا يَتَعَدَّى إلَيْهِ حُكْمُهُ مِنْ طَرِيقِ الأَوْلَى. قَوْلُهُ: (وَمَسَحَ رَأْسَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ وَضُوئِهِ فِي يَدِهِ) . قَالَ الشَّارِحُ: اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ قَبْلَ انْفِصَالِهِ عَنْ الْبَدَنِ يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ. قِيلَ: وَقَدْ عَارَضَهُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْمَقَالِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَسَحَ رَأْسَهُ بِمَاءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدَيْهِ. وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ كَوْنَهُ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ لِرَأْسِهِ مَاءً جَدِيدًا لا يُنَافِي مَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - مَسَحَ رَأْسَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ وَضُوئِهِ فِي يَدَيْهِ؛ لأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى شَيْءٍ بِصِيغَةٍ لا تَدُلُّ إلا عَلَى مُجَرَّدِ الْوُقُوعِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِحَصْرٍ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَلا نَفْيٍ

(1/12)


لِمَا عَدَاهُ لا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ وُقُوعِ غَيْرِهِ. إِلِى أَنْ قَالَ: قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْحَدِيثَ مَا لَفْظُهُ: وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَثْبُتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ رَأْسَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ بَلَلِ يَدَيْهِ، فَلَيْسَ يَدُلُّ عَلَى طَهُورِيَّةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ؛ لأَنَّ الْمَاءَ كُلَّمَا تَنَقَّلَ فِي مَحَالِّ التَّطْهِيرِ مِنْ غَيْرِ مُفَارَقَةٍ إلَى غَيْرِهَا فَعَمَلُهُ وَتَطْهِيرُهُ بَاقٍ، وَلِهَذَا لا يَقْطَعُ عَمَلَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ تَغَيُّرُهُ بِالنَّجَاسَاتِ وَالطَّهَارَاتِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا هُوَ الْحَقُّ فِي الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ. بَابُ الرَّدِّ عَلَى مَنْ جَعَلَ مَا يَغْتَرِفُ مِنْهُ الْمُتَوَضِّئُ بَعْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ مُسْتَعْمَلاً 12- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: تَوَضَّأْ لَنَا وُضُوءَ ... رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَدَعَا بِإِنَاءٍ فَأَكْفَأَ مِنْهُ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا، فَغَسَلَ يَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: (هَكَذَا كَانَ وُضُوءُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ لأَحْمَدَ. قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ) ، وَفِي رِوَايَةٍ: (ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَيْهِ فَاغْتَرَفَ بِهِمَا) . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً فَعَلَ بِهَا هَكَذَا أَضَافَهَا إلَى يَدِهِ الأُخْرَى فَغَسَلَ بِهَا وَجْهَهُ) . قَالَ الشَّارِحُ: فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ دَالَّةٌ عَلَى جَوَازِ الأُمُورِ الثَّلاثَةِ وَأَنَّهَا سُنَّةٌ. وَالْكَلامُ عَلَى أَطْرَافِ الْحَدِيثِ يَأْتِي فِي الْوُضُوءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَإِنَّمَا سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ هَا هُنَا لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَاءَ الْمُغْتَرَفَ مِنْهُ بَعْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلاً لا يَصْلُحُ لِلطَّهُورِيَّةِ، وَهِيَ مَقَالَةٌ بَاطِلَةٌ يَرُدُّهَا هَذَا الْحَدِيثُ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ عَرَفْتَ بِمَا سَلَفَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ - أَعْنِي خُرُوجَ الْمُسْتَعْمَلِ عَنْ الطَّهُورِيَّةِ - مَبْنِيَّةٌ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ. وَمِنْ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الْمُخَالَفَةِ

(1/13)


بَيْنَ غَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ؛ لأَنَّهُ اقْتَصَرَ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ عَلَى مَرَّتَيْنِ بَعْدَ تَثْلِيثِ غَيْرِهِمَا. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَا جَاءَ فِي فَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ 13- عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا أَنَّ ابْنَ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ قَالا: وَضُوءُ الْمَرْأَةِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: وَقَدْ رَوَى بَعْدَهُ حَدِيثًا آخَرَ - الصَّحِيحُ الأَوَّلُ، يَعْنِي حَدِيثَ الْحَكَمِ. 14- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 15- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ بِفَضْلِ غُسْلِهَا مِنْ الْجَنَابَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 16- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اغْتَسَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي جَفْنَةٍ فَجَاءَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِيَتَوَضَّأَ مِنْهَا أَوْ يَغْتَسِلَ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْت جُنُبًا، فَقَالَ: «إنَّ الْمَاءَ لا يُجْنِبُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْتُ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى الرُّخْصَةِ لِلرَّجُلِ مِنْ فَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ وَالإِخْبَارُ بِذَلِكَ أَصَحُّ. وَكَرِهَهُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ إذَا خَلَتْ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ... عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ، وَحَمَلُوا حَدِيثَ مَيْمُونَةَ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَخْلُ بِهِ جَمِيعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ الْحَكَمِ. فَأَمَّا غُسْلُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَوُضُوءُهُمَا جَمِيعًا فَلا اخْتِلافَ فِيهِ. 17- قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ الْجَنَابَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 18- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ

(1/14)


تَخْتَلِفُ أَيْدِينَا فِيهِ مِنْ الْجَنَابَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 19- وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ نَغْتَرِفُ مِنْهُ جَمِيعًا. 20- وَلِمُسْلِمٍ: مِنْ إنَاءٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَاحِدٍ فَيُبَادِرُنِي حَتَّى أَقُولَ: دَعْ لِي، دَعْ لِي. 21- وَفِي لَفْظِ النَّسَائِيّ: مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ يُبَادِرُنِي وَأُبَادِرُهُ حَتَّى يَقُولَ: ... «دَعِي لِي» . وَأَنَا أَقُولُ: دَعْ لِي. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الأَحَادِيثِ بِحَمْلِ أَحَادِيثِ النَّهْيِ عَلَى مَا تَسَاقَطَ مِنْ الأَعْضَاءِ لِكَوْنِهِ قَدْ صَارَ مُسْتَعْمَلاً، وَالْجَوَازُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ الْمَاءِ، وَبِذَلِكَ جَمَعَ الْخَطَّابِيِّ وَأَحْسَنُ مِنْهُ مَا جَمَعَ بِهِ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ مِنْ حَمْلِ النَّهْيِ عَلَى التَّنْزِيهِ بِقَرِينَةِ أَحَادِيثِ الْجَوَازِ. بَابُ حُكْمِ الْمَاءِ إذَا لاقَتْهُ النَّجَاسَةُ 22- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَتَوَضَّأُ مِنْ ... بِئْرِ بُضَاعَةَ وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلابِ وَالنَّتْنُ؟ فَقَالَ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْمَاءُ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدَ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدِيثُ بِئْرِ بُضَاعَةَ صَحِيحٌ. 23- وَفِي رِوَايَةٍ لأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد: إنَّهُ يُسْتَقَى لَك مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَهِيَ بِئْرٌ تُطْرَحُ فِيهَا مَحَايِضُ النِّسَاءِ، وَلَحْمُ الْكِلابِ، وَعَذِرِ النَّاسِ، فَقَالَ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» . قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت قُتَيْبَةَ بْنَ سَعِيدٍ، قَالَ: سَأَلْت قَيِّمَ بِئْرِ بُضَاعَةَ عَنْ عُمْقِهَا قُلْت: أَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِيهَا الْمَاءُ؟ قَالَ: إلَى الْعَانَةِ، قُلْت: فَإِذَا نَقَصَ، قَالَ: دُونَ الْعَوْرَةِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: قَدَّرْت بِئْرَ بُضَاعَةَ بِرِدَائِي فَمَدَدْتُهُ عَلَيْهَا ثُمَّ ذَرَعْتُهُ فَإِذَا عَرْضُهَا سِتَّةُ أَذْرُعٍ وَسَأَلْت الَّذِي فَتَحَ لِي بَابَ الْبُسْتَانِ فَأَدْخَلَنِي إلَيْهِ هَلْ غُيِّرَ بِنَاؤُهَا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ لا، وَرَأَيْت فِيهَا مَاءً مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ.

(1/15)


24- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَسْأَلُ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ بِالْفَلاةِ مِنْ الأَرْضِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ، فَقَالَ: «إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ، يَحْمِلْ الْخَبَثَ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. 25- وَفِي لَفْظِ ابْنِ مَاجَهْ وَرِوَايَةٍ لأَحْمَدَ: «لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» . 26- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ: «ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ» ، وَلَفْظُ الْبَاقِينَ: «ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ» . قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «الْمَاءُ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» . قال ابن المنذرُ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَغَيَّرَتْ لَهُ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رِيحًا فَهُوَ نَجِسٌ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ أَنَّ الْمَاءَ لا يَتَنَجُسُ بِوُقُوعِ شَيْءٍ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا وَلَوْ تَغَيَّرَتْ أَوْصَافُهُ أَوْ بَعْضُهَا، لَكِنَّهُ قَامَ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إذَا تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ بِالنَّجَاسَةِ خَرَجَ عَنْ الطَّهُورِيَّةِ، فَلا يَنْجُسُ الْمَاءُ بِمَا لاقَاهُ، وَلَوْ كَانَ قَلِيلاً إلا إذَا تَغَيَّرَ، فَإِنْ تَغَيَّرَ ما دون القلتين بنجاسة خَرَجَ عَنْ الطَّهَارَةِ بِالإِجْمَاعِ وَبِمَفْهُومِ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَحَدِيثُ «لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى عَدَمِ خُرُوجِهِ عَنْ الطَّهَارَةِ، وَحَدِيثُ الْقُلَّتَيْنِ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى خُرُوجِهِ عَنْ الطَّهُورِيَّةِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: «لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ» . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى مَآلِ الْحَالِ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَضْرِبَنَّ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ ضَرَبَ الأَمَةِ ثُمَّ يُضَاجِعُهَا» أَيْ ثُمَّ هُوَ يُضَاجِعُهَا. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ ذَهَبَ إلَى خَبَرِ الْقُلَّتَيْنِ حَمَلَ هَذَا الْخَبَرَ عَلَى مَا دُونَهُمَا، وَخَبَرَ بِئْرِ بُضَاعَةَ عَلَى مَا بَلَغَهُمَا جَمْعًا بَيْنَ الْكُلِّ. قُلْتُ: والبولُ في الماءِ ينجسه إذا كان قلِيلاً، ويقذره إذا كان كثيرًا، فلذلك ورد النهي عن البول فيه مطلقًا.

(1/16)


بَابُ أَسْآرِ الْبَهَائِمِ 27- حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْقُلَّتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهَا وَإِلا يَكُونُ التَّحْدِيدُ بِالْقُلَّتَيْنِ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ عَنْ وُرُودِهَا عَلَى الْمَاءِ عَبَثًا. 28- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ ثُمَّ لْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. قال الشارح رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في الحَدِيثِ الذي بعده: وَيُمْكِنُ حَمْلُ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لأَنَّ وُرُودَهَا عَلَى الْمَاءِ مَظِنَّةٌ لإِلْقَائِهَا الأَبْوَالَ وَالأَزْبَالَ عَلَيْهِ. قَالَ: وحديث أبي هريرة يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْغَسَلاتِ السَّبْعِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ. وقَالَ: وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا عَلَى نَجَاسَةِ الْكَلْبِ لأَنَّهُ إذَا كَانَ لُعَابُهُ نَجِسًا وَهُوَ عَرَقُ فَمِهِ، فَفَمُهُ نَجِسٌ، وَيَسْتَلْزِمُ نَجَاسَةَ سَائِرِ بَدَنِهِ، وَذَلِكَ لأَنَّ لُعَابَهُ جُزْءٌ مِنْ فَمِهِ، فَبَقِيَّةُ بَدَنِهِ أَوْلَى، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الْجُمْهُورُ. بَابُ سُؤْرِ الْهِرِّ 29- عَنْ كَبْشَةَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - وَكَانَتْ تَحْتَ ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ - أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَسَكَبَتْ لَهُ وَضُوءًا، فَجَاءَتْ هِرَّةٌ تَشْرَبُ مِنْهُ فَأَصْغَى لَهَا الإِنَاءَ حَتَّى شَرِبَتْ مِنْهُ، قَالَتْ كَبْشَةُ: فَرَآنِي أَنْظُرُ، فَقَالَ: أَتَعْجَبِينَ يَا ابْنَةَ أَخِي؟ فَقَلَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. 30- وَعَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يُصْغِي إلَى الْهِرَّةِ الإِنَاءَ حَتَّى تَشْرَبَ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِفَضْلِهَا. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلانِ عَلَى طَهَارَةِ فَمِ الْهِرَّةِ وَطَهَارَةِ سُؤْرِهَا. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْهَادِي، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: بَلْ نَجِسٌ كَالسَّبُعِ، لَكِنْ خَفَّفَ فِيهِ فَكَرِهَ سُؤْرَهُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ مُصَرِّحٌ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسٍ فَيُخَصَّصُ بِهِ عُمُومُ حَدِيثِ السِّبَاعِ بَعْدَ تَسْلِيمِ وُرُودِ مَا يَقْضِي بِنَجَاسَةِ السِّبَاعِ. وَأَمَّا مُجَرَّدُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا بِالسَّبُعِيَّةِ فَلا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهَا نَجِسٌ إذْ لا

(1/17)


مُلازَمَةَ بَيْنَ النَّجَاسَةِ وَالسَّبُعِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْحِيَاضِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَقِيلَ: إنَّ الْكِلابَ وَالسِّبَاعَ تَرِدُ عَلَيْهَا فَقَالَ: «لَهَا مَا أَخَذَتْ فِي بُطُونِهَا وَلَنَا مَا بَقِيَ شَرَابٌ وَطَهُورٌ» . وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ وَقَالَ: لَهُ أَسَانِيدُ إذَا ضُمَّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ كَانَتْ قَوِيَّةً بِلَفْظِ: أَنَتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتْ الْحُمُرُ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَبِمَا أَفْضَلَتْ السِّبَاعُ كُلُّهَا» . إِلِى أَنْ قَالَ: وَيُمْكِنُ حَمْلُ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لأَنَّ وُرُودَهَا عَلَى الْمَاءِ مَظِنَّةٌ لإِلْقَائِهَا الأَبْوَالَ وَالأَزْبَالَ عَلَيْهِ.

(1/18)


أَبْوَابُ تَطْهِيرِ النَّجَاسَةِ وَذِكْرِ مَا نُصَّ عَلَيْهِ مِنْهَا بَابُ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِي الْوُلُوغِ 31- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، 32- وَلأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ: «طُهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاهُنَّ بِالتُّرَابِ» . 33- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقَتْلِ الْكِلابِ ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلابِ» ؟ ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ وَكَلْبِ الْغَنَمِ وَقَالَ: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الإِنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ وَالْبُخَارِيَّ. 34- وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، وَرَخَّصَ فِي كَلْبِ الْغَنَمِ وَالصَّيْدِ وَالزَّرْعِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثَانِ يَدُلانِ عَلَى أَنَّهُ يُغْسَلُ الإِنَاءُ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ سَبْعَ مَرَّاتٍ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَقَدْ وَقَعَ الْخِلافُ هَلْ يَكُونُ التَّتْرِيبُ فِي الْغَسَلاتِ السَّبْعِ أَوْ خَارِجًا عَنْهَا. وَظَاهِرُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْهَا وَهُوَ أَرْجَحُ مِنْ غَيْرِهِ. انْتَهَى. قَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي: وَرِوَايَةُ أُولاهُنَّ أَرْجَحُ مِنْ حَيْثُ الأَكْثَرِيَّةِ وَالأَحْفَظِيَّةِ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَيْضًا؛ لأَنَّ تَتْرِيبَ الْأخِرَةِ يَقْتَضِي الاحْتِيَاجَ إلَى غَسْلَةٍ آخِرَةٍ لِتَنْظِيفِهِ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الأُولَى أَوْلَى.

(1/19)


بَابُ الْحَتِّ وَالْقَرْصِ وَالْعَفْوِ عَنْ الأَثَرِ بَعْدَهُمَا 35- عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: إحْدَانَا يُصِيبُ ثَوْبَهَا مِنْ دَمِ الْحَيْضَةِ كَيْفَ تَصْنَعُ؟ فَقَالَ: «تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ تَنْضَحُهُ ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 36- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ يَسَارٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَيْسَ لِي إلا ثَوْبٌ وَاحِدٌ وَأَنَا أَحِيضُ فِيهِ قَالَ: «فَإِذَا طَهُرْت فَاغْسِلِي مَوْضِعَ الدَّمِ ثُمَّ صَلِّي فِيهِ» . قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ لَمْ يَخْرُجْ أَثَرُهُ؟ قَالَ: «يَكْفِيك الْمَاءُ وَلا يَضُرُّك أَثَرُهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 37- وَعَنْ مُعَاذَةَ قَالَتْ: سَأَلْت عَائِشَةَ عَنْ الْحَائِضِ يُصِيبُ ثَوْبَهَا الدَّمُ، فَقَالَتْ: تَغْسِلُهُ فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ أَثَرُهُ فَلْتُغَيِّرْهُ بِشَيْءٍ مِنْ صُفْرَةٍ. قَالَتْ: وَلَقَدْ كُنْت أَحِيضُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَلاثَ حَيْضٍ جَمِيعًا لا أَغْسِلُ لِي ثَوْبًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ: «ثُمَّ تَقْرُصُهُ» قَالَ الشَّارِحُ: أَيْ تُدَلِّكُ مَوْضِعَ الدَّمِ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهَا لِيَتَحَلَّلَ بِذَلِكَ وَيَخْرُجَ مَا يَشْرَبُهُ الثَّوْبُ مِنْهُ. قال المُصنِّفُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دَمَ الْحَيْضِ لا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ، وَإِنْ قَلَّ لِعُمُومِهِ، وَأَنَّ طَهَارَةَ السُّتْرَةِ شَرْطٌ لِلصَّلاةِ، وَأَنَّ هَذِهِ النَّجَاسَةَ وَأَمْثَالَهَا لا يُعْتَبَرُ فِيهَا تُرَابٌ وَلا عَدَدٌ وَأَنَّ الْمَاءَ مُتَعَيَّنٌ لإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ. قَوْلُهُ: «يَكْفِيك الْمَاءُ وَلا يَضُرُّك أَثَرُهُ» . قَالَ الشَّارِحُ: اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ اسْتِعْمَالِ الْحَوَادِّ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ اسْتِعْمَالُ الْحَادِّ الْمُعْتَادِ، لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أُمِّ قَيْسٍ: «حُكِّيهِ بِضَلْعٍ وَاغْسِلِيهِ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ» ، وَقِيلَ: يَكُونُ اسْتِعْمَالُ الْحَوَادِّ مَنْدُوبًا جَمْعًا بَيْنَ الأَدِلَّةِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: «لا يَضُرُّك أَثَرُهُ» أَنَّ بَقَاءَ أَثَرِ النَّجَاسَةِ الَّذِي عَسُرَتْ إزَالَتُهُ لا يَضُرُّ، لَكِنْ بَعْدَ التَّغَيِيرِ بِزَعْفَرَانٍ أَوْ صُفْرَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا حَتَّى يَذْهَبَ لَوْنُ الدَّمِ؛ لأَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهَا: (لا أَغْسِلُ لِي ثَوْبًا) . قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ

(1/20)


الأَصْلُ فِيهِ الطَّهَارَةَ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى طَهَارَتِهِ حَتَّى تَظْهَرَ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَيَجِبُ غَسْلُهَا. بَابُ تَعَيُّنِ الْمَاءِ لإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ 38- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي آنِيَةِ الْمَجُوسِ إذَا اُضْطُرِرْنَا إلَيْهَا قَالَ: «إذَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهَا فَاغْسِلُوهَا بِالْمَاءِ وَاطْبُخُوا فِيهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 39- وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ الْكِتَابِ فَنَطْبُخُ فِي قُدُورِهِمْ وَنَشْرَبُ فِي آنِيَتِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَارْحَضُوهَا بِالْمَاءِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَالرَّحْضُ: الْغَسْلُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَا ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ عَلَى أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْمَاءُ لإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ غَيْرُهُ، وَلا يَخْفَاك أَنَّ مُجَرَّدَ الأَمْرِ بِهِ لإِزَالَةِ خُصُوصِ هَذِهِ النَّجَاسَةِ لا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ لِكُلِّ نَجَاسَةٍ. وَقَالَ فِي البَابِ الذي قبله: وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَاءَ أَصْلٌ فِي التَّطْهِيرِ لِوَصْفِهِ بِذَلِكَ كِتَابًا وَسُنَّةً وَصْفًا مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ، لَكِنَّ الْقَوْلَ بِتَعَيُّنِهِ وَعَدَمِ إجْزَاءِ غَيْرِهِ يَرُدُّهُ حَدِيثُ مَسْحِ النَّعْلِ وَفَرْكِ الْمَنِيِّ وَحَتِّهِ وَإِمَاطَتِهِ بِإِذْخَرَةٍ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. بَابُ تَطْهِيرِ الأَرْضِ النَّجِسَةِ بِالْمُكَاثَرَةِ 40- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامَ إلَيْهِ النَّاسُ لِيَقَعُوا بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «دَعُوهُ وَأَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ - أَوْ ذُنُوبًا مِنْ مَاءٍ - فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا مُسْلِمًا. 41- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَهْ مَهْ! قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَزْرِمُوهُ دَعُوهُ» . فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَعَاهُ، ثُمَّ قَالَ: «إنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلا الْقَذَرِ، إنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاةِ

(1/21)


وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ» . أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. قَالَ: فَأَمَرَ رَجُلاً مِنْ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. لَكِنْ لَيْسَ لِلْبُخَارِيِّ فِيهِ: «إنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ» إلَى تَمَامِ الأَمْرِ بِتَنْزِيهِهَا. وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَزْرِمُوهُ» . أَيْ لا تَقْطَعُوا عَلَيْهِ بَوْلَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّبَّ مُطَهِّرٌ لِلأَرْضِ وَلا يَجِبُ الْحَفْرُ. قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَنَّ الأَرْضَ تَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ. وَعَلَى الرِّفْقِ بِالْجَاهِلِ فِي التَّعْلِيمِ. وَعَلَى التَّرْغِيبِ فِي التَّيْسِيرِ وَالتَّنْفِيرِ عَنْ التَّعْسِيرِ. وَعَلَى احْتِرَامِ الْمَسَاجِدِ وَتَنْزِيهِهَا؛ لأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَرَّرَهُمْ عَلَى الإِنْكَارِ وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالرِّفْقِ. قَوْلُهُ: (مَهْ مَهْ) . قَالَ الشَّارِحُ: اسْمُ فِعْلٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ مَعْنَاهُ اُكْفُفْ. قَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ: هِيَ كَلِمَةُ زَجْرٍ أَصْلُهَا (مَا هَذَا) ، ثُمَّ حُذِفَ تَخْفِيفًا، وَتُقَالُ مُكَرَّرَةً وَمُفْرَدَةً. قَوْلُهُ: (فَجَاءَ بِدَلْوٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ) . أَيْ: صبّه. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ عَلَى الأَرْضِ إذَا اُسْتُهْلِكَتْ بِالْمَاءِ، فَالأَرْضُ وَالْمَاءُ طَاهِرَانِ، وَلا يَكُونُ ذَلِكَ أَمْرًا بِتَكْثِيرِ النَّجَاسَةِ فِي الْمَسْجِدِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي أَسْفَلِ النَّعْلِ تُصِيبُهُ النَّجَاسَةُ 42- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا وَطِئَ أَحَدكُمْ بِنَعْلِهِ الأَذَى فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُ طَهُورٌ» . 43- وَفِي لَفْظٍ: «إذَا وَطِئَ الأَذَى بِخُفَّيْهِ فَطَهُورُهُمَا التُّرَابُ» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. 44- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا جَاءَ أَحَدكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقْلِبْ نَعْلَيْهِ وَلْيَنْظُرْ فِيهِمَا فَإِنْ رَأَى خَبَثًا. فَلْيَمْسَحْهُ بِالأَرْضِ ثُمَّ لِيُصَلِّ ... فِيهِمَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَوَرَدَ فِي معنى حديثِ أبي سعيدٍ أَحَادِيث

(1/22)


يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا فَتَنْهِضُ لِلاحْتِجَاجِ بِهَا عَلَى أَنَّ النَّعْلَ يَطْهُرُ بِدَلْكِهِ فِي الأَرْضِ رَطْبًا أَوْ يَابِسًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ أَنْوَاعِ النَّجَاسَاتِ بَلْ كُلُّ مَا عَلِقَ بِالنَّعْلِ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الأَذَى فَطَهُورُهُ مَسْحُهُ بِالتُّرَابِ. وَيُلْحَقُ بِالنّعلِ والخُفِ كُلُّ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا لِعَدَمِ الْفَارِقِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ نَضْحِ بَوْلِ الْغُلامِ إذَا لَمْ يُطْعَمْ 45- عَنْ أُمِّ قَيْسِ بِنْتِ مِحْصَنٍ أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَغْسِلْهُ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 46- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «بَوْلُ الْغُلامِ الرَّضِيعِ يُنْضَحُ وَبَوْلُ الْجَارِيَةِ يُغْسَلُ» . قَالَ قَتَادَةَ: وَهَذَا مَا لَمْ يُطْعَمَا فَإِذَا طَعِمَا غُسِلا جَمِيعًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. 47- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: (أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِصَبِيٍّ يُحَنِّكُهُ فَبَالَ عَلَيْهِ فَأَتْبَعهُ الْمَاءَ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 48- وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَزَادَ: وَلَمْ يَغْسِلْهُ. 49- وَلِمُسْلِمٍ: كَانَ يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ فَيُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ وَيُحَنِّكُهُمْ فَأُتِيَ بِصَبِيٍّ فَبَال عَلَيْهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعهُ بَوْلَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ. 50- وَعَنْ أَبِي السَّمْحِ خَادِمِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلامِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. 51- وَعَنْ أُمِّ كُرْزٍ الْخُزَاعِيَّةِ قَالَتْ: أُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِغُلامٍ فَبَالَ عَلَيْهِ فَأَمَرَ بِهِ فَنُضِحَ، وَأُتِيَ بِجَارِيَةٍ فَبَالَتْ عَلَيْهِ فَأَمَرَ بِهِ فَغُسِلَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 52- وَعَنْ أُمِّ كُرْزٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «بَوْلُ الْغُلامِ يُنْضَحُ وَبَوْلُ الْجَارِيَةِ يُغْسَلُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. 53- وَعَنْ أُمِّ الْفَضْلِ - لُبَابَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ - قَالَتْ: بَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي حِجْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي ثَوْبَكَ وَالْبَسْ ثَوْبًا غَيْرَهُ حَتَّى

(1/23)


أَغْسِلَهُ. فَقَالَ: «إنَّمَا يُنْضَحُ مِنْ بَوْلِ الذَّكَرِ وَيُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الأُنْثَى» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. قَوْلُهُ: (لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْمُرَادُ بِالطَّعَامِ مَا عَدَا اللَّبَنَ الَّذِي يَرْضَعُهُ وَالتَّمْرَ الَّذِي يُحَنَّكُ بِهِ، وَالْعَسَلَ الَّذِي يَلْعَقُهُ لِلْمُدَاوَاةِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّ بَوْلَ الصَّبِيِّ يُخَالِفُ بَوْلَ الصَّبِيَّةِ فِي كَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَأَنَّ مُجَرَّدَ النَّضْحِ يَكْفِي فِي تَطْهِيرِ بَوْلِ الْغُلامِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ الرُّخْصَةِ فِي بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ 54- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ - أَوْ قَالَ عُرَيْنَةَ - قَدِمُوا فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِلِقَاحٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. اجْتَوَوْهَا: أَيْ اسْتَوْخَمُوهَا. 55- وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ قَالَ بِطَهَارَةِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، أَمَّا فِي الإِبِلِ فَبِالنَّصِّ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَبِالْقِيَاسِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِأُولَئِكَ الأَقْوَامِ فَلَمْ يُصِبْ إذْ الْخَصَائِصُ لا تَثْبُتُ إلا بِدَلِيلٍ. وَقَالَ المُصنِّفُ رحمه الله: فَإِذَا أُطْلِقَ الإِذْنُ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يُشْتَرَطْ حَائِلاً بَقِيَ مِنْ الأَبْوَالِ وَأُطْلِقَ الإِذْنُ فِي الشُّرْبِ لِقَوْمٍ حَدِيثِي الْعَهْدِ فِي الإِسْلامِ جَاهِلِينَ بِأَحْكَامِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِغَسْلِ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا يُصِيبُهُمْ مِنْهَا لأَجْلِ صَلاةٍ وَلا غَيْرِهَا مَعَ اعْتِيَادِهِمْ شُرْبَهَا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِالطَّهَارَةِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمَذْيِ 56- عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: كُنْت أَلْقَى مِنْ الْمَذْيِ شِدَّةً وَعَنَاءً وَكُنْت أُكْثِرُ مِنْهُ الاغْتِسَالَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «إنَّمَا يَجْزِيك

(1/24)


مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءُ» . فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِمَا يُصِيبُ ثَوْبِي مِنْهُ؟ قَالَ: «يَكْفِيك أَنْ تَأْخُذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَتَنْضَحَ بِهِ ثَوْبَك حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ ... مِنْهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. 57- وَرَوَاهُ الأَثْرَمُ وَلَفْظُهُ قَالَ: كُنْت أَلْقَى مِنْ الْمَذْيِ عَنَاءً فَأَتَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «يَجْزِيك أَنْ تَأْخُذَ حَفْنَةً مِنْ مَاءٍ فَتَرُشَّ عَلَيْهِ» . 58- وَعَنْ عَلَيَّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: كُنْت رَجُلاً مَذَّاءً فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَرت الْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: «فِيهِ الْوُضُوءُ» . أَخْرَجَاهُ. 59- وَلِمُسْلِمٍ: «يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ» . 60- وَلأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد: «يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ وَيَتَوَضَّأُ» . 61- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ بَعْدَ الْمَاءِ، فَقَالَ: «ذَلِكَ مِنْ الْمَذْيِ، وَكُلُّ فَحْلٍ يُمْذِي. فَتَغْسِلُ مِنْ ذَلِكَ فَرْجَك وَأُنْثَيَيْك وَتَوَضَّأْ وُضُوءَك لِلصَّلاةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ لا يَجِبُ لِخُرُوجِ الْمَذْيِ، قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَهُوَ إجْمَاعٌ. وَعَلَى أَنَّ الأَمْرَ بِالْوُضُوءِ مِنْهُ كَالأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِنْ الْبَوْلِ وَعَلَى أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْمَاءُ فِي تَطْهِيرِهِ لِقَوْلِهِ: «كَفًّا مِنْ مَاءٍ» . بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمَنِيِّ 62- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْت أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ يَذْهَبُ فَيُصَلِّي فِيهِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ. 63- وَلأَحْمَدَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْلُتُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِهِ بِعِرْقٍ الإِذْخِرِ، ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ وَيَحُتُّهُ مِنْ ثَوْبِهِ يَابِسًا ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ. 64- وَفِي لَفْظٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ: كُنْت أَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّلاةِ وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِي ثَوْبِهِ بُقَعُ الْمَاءِ.

(1/25)


65- وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْهَا: (كُنْت أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا كَانَ يَابِسًا وَأَغْسِلُهُ إذَا كَانَ رَطْبًا) . قُلْت: فَقَدْ بَانَ مِنْ مَجْمُوعِ النُّصُوصِ جَوَازُ الأَمْرَيْنِ. 66- وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَطَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ، فَقَالَ: «إنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَإِنَّمَا يَكْفِيك أَنْ تَمْسَحَهُ بِخِرْقَةٍ أَوْ بِإِذْخِرَةٍ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُ إِسْحَاقَ الأَزْرَقِ عَنْ شَرِيكٍ: قُلْت: وَهَذَا لا يَضُرُّ؛ لأَنَّ إِسْحَاقَ إمَامٌ مُخَرَّجٌ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَيُقْبَل رَفْعُهُ وَزِيَادَتُهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِمَا فِي الْبَابِ عَلَى أَنَّهُ يُكْتَفَى فِي إزَالَةِ الْمَنِيِّ مِنْ الثَّوْبِ بِالْغَسْلِ أَوْ الْفَرْكِ أَوْ الْحَتِّ. بَابُ فِي أَنَّ مَا لا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ لَمْ يَنْجُسْ بِالْمَوْتِ 67- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ ثُمَّ لِيَطْرَحَهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً وَفِي الآخَرِ ... دَاءً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 68- وَلأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوُهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيلَ لا يَنْجُسُ بِمَوْتِ مَا لا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةَ فِيهِ، إذْ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ الذُّبَابِ وَالْخُنْفُسَاءِ اللَّذَيْنِ وَجَدَهُمَا - صلى الله عليه وسلم - مَيِّتَيْنِ فِي الطَّعَامِ، فَأَمَرَ بِإِلْقَائِهِمَا وَالتَّسْمِيَةِ عَلَيْهِ وَالأَكْلِ مِنْهُ، وَالْفَائِدَةُ فِي الأَمْرِ بِغَمْسِهِ كُلِّهِ هِيَ أَنْ يَتَّصِلَ مَا فِيهِ مِنْ الدَّوَاءِ بِالطَّعَامِ أَوْ الشَّرَابِ، كَمَا اتَّصَلَ بِهِ الدَّاءُ، فَيَتَعَادَلُ الضَّارُّ وَالنَّافِعُ فَيَنْدَفِعُ الضَّرَرَ. بَابٌ فِي أَنَّ الآدَمِيَّ الْمُسْلِمَ لا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ وَلا شَعَرُهُ وَأَجْزَاؤُهُ بِالانْفِصَالِ قَدْ أَسْلَفْنَا قَوْلَهُ - صلى الله عليه وسلم -: «الْمُسْلِمُ لا يَنْجُسُ» وَهُوَ عَامٌّ فِي الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ.

(1/26)


69- قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُسْلِمُ لا يَنْجُسُ حَيًّا وَلا مَيِّتًا. 70- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا رَمَى الْجَمْرَةَ، وَنَحَرَ نُسُكَهُ وَحَلَقَ نَاوَلَ الْحَلاقَ شِقَّهُ الأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ، ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الأَيْسَرَ، فَقَالَ: «احْلِقْهُ» . فَحَلَقَهُ فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ وَقَالَ: «اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 71- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَحْلِقَ الْحَجَّامُ رَأْسَهُ أَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِشَعْرِ أَحَدِ شِقَّيْ رَأْسِهِ بِيَدِهِ - فَأَخَذَ شَعْرَهُ - فَجَاءَ بِهِ إلَى أُمِّ سُلَيْمٍ قَالَ: وَكَانَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ تَدُوفُهُ فِي طِيبِهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 72- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ كَانَتْ تَبْسُطُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نِطْعًا فَيَقِيلُ عِنْدهَا عَلَى ذَلِكَ النِّطْعِ، فَإِذَا قَامَ أَخَذَتْ مِنْ عَرَقِهِ وَشَعْرِهِ فَجَمَعَتْهُ فِي قَارُورَةٍ ثُمَّ جَعَلَتْهُ فِي سُكٍّ، قَالَ: فَلَمَّا حَضَرَتْ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الْوَفَاةُ أَوْصَى أَنْ يُجْعَلَ فِي حَنُوطِهِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. 73- وَفِي حَدِيثِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ رِوَايَةِ مِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ: أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ قَامَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ رَأَى مَا يَصْنَعُ بِهِ أَصْحَابُهُ وَلا يَبْصُقُ بُصَاقًا إلا ابْتَدَرُوهُ، وَلا يَسْقُطُ مِنْ شَعْرِهِ شَيْءٌ إلا أَخَذُوهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 74- وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ: أَرْسَلَنِي أَهْلِي إلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَجَاءَتْ بِجُلْجُلٍ مِنْ فِضَّةٍ فِيهِ شَعْرٌ مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَكَانَ إذَا أَصَابَ الإِنْسَانَ عَيْنٌ أَوْ شَيْءٌ بَعَثَ إلَيْهَا بِإِنَاءٍ فَخَضْخَضَتْ لَهُ فَشَرِبَ مِنْهُ، فَاطَّلَعْت فِي الْجُلْجُلِ فَرَأَيْت شَعَرَاتٍ حُمْرًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 75- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ - وَهُوَ صَاحِبُ الأَذَانِ - أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْدَ الْمَنْحَرِ وَرَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ يَقْسِمُ أَضَاحِي فَلَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ وَلا صَاحِبَهُ فَحَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ فَأَعْطَاهُ مِنْهُ، وَقَسَمَ مِنْهُ عَلَى

(1/27)


رِجَالٍ، وَقَلَّمَ أَظْفَارَهُ فَأَعْطَى صَاحِبَهُ، قَالَ: وَإِنَّهُ شَعْرُهُ عِنْدَنَا لَمَخْضُوبٌ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتْمِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَوْلُهُ: (نَاوَلَ الْحَلاقَ شِقَّهُ الأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ، ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ) . الحديث، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهَا اسْتِحْبَابُ الْبُدَاءَةِ بِالشِّقِّ الأَيْمَنِ مِنْ رَأْسِ الْمَحْلُوقِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَفِيهِ طَهَارَةُ شَعْرِ الآدَمِيِّ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَفِيهِ التَّبَرُّكُ بِشَعْرِهِ - صلى الله عليه وسلم -. وَفِيهِ الْمُوَاسَاةُ بَيْنَ الأَصْحَابِ بِالْعَطِيَّةِ وَالْهَدِيَّةِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَفِيهِ أَنَّ الْمُوَاسَاةَ لا تَسْتَلْزِمُ الْمُسَاوَاةَ. وَفِيهِ تَنْفِيلُ مَنْ يَتَوَلَّى التَّفْرِقَةَ عَلَى غَيْرِهِ. بَابُ النَّهْيِ عَنْ الانْتِفَاعِ بِجِلْدِ مَا لا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ 76- عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 77- وَالتِّرْمِذِيُّ وَزَادَ: أَنْ يَفْتَرِشَ. 78- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ قَالَ لِنَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ جُلُودِ النُّمُورِ أَنْ يُرْكَبَ عَلَيْهَا؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 79- وَلأَحْمَدَ: أُنْشِدُكُمْ اللَّهَ أَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ رُكُوبِ صُفَفِ النُّمُورِ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ. 80- وَعَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكرِبَ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: أُنْشِدُكَ اللَّهَ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ لُبْسِ جُلُودِ السِّبَاعِ وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 81- وَعَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكرِبَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَمَيَاثِرِ النُّمُورِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 82- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تَصْحَبُ الْمَلائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جِلْدُ نَمِرٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

(1/28)


قَوْلُهُ: (صُفَفِ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: كَصُرَدٍ جَمْعُ صِفَةٍ وَهِيَ مَا يُجْعَلُ عَلَى السَّرْجِ. قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذِهِ النُّصُوصُ تَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ جِلْدِ مَا لا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فِي الْيَابِسَاتِ، وَتَمْنَعُ بِعُمُومِهَا طَهَارَتَهُ بِذَكَاةٍ أَوْ دِبَاغٍ. واختار الشارح طهارتها بالدباغ، وأنه لا مُلازَمَةَ بَيْنَ النهي عن استعْمالِهَا وَبَيْنَ النَّجَاسَةِ كَمَا لا مُلازَمَةَ بَيْنَ النَّهْيِ عَنْ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ وَنَجَاسَتِهِمَا. وَقَوْلُ المُصَنِّفِ أحوط. بَابُ مَا جَاءَ فِي تَطْهِيرِ الدَّبَّاغِ 83- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تُصُدِّقَ عَلَى مُولاةٍ لِمَيْمُونَةَ بِشَاةٍ فَمَاتَتْ فَمَرَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «هَلا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ» ؟ فَقَالُوا: إنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ: «إنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا ابْنَ مَاجَهْ قَالَ فِيهِ: عَنْ مَيْمُونَةَ، جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِهَا. وَلَيْسَ فِيهِ لِلْبُخَارِيِّ وَالنَّسَائِيُّ ذِكْرُ الدِّبَاغِ بِحَالٍ. 84- وَفِي لَفْظٍ لأَحْمَدَ: إنَّ دَاجِنًا لِمَيْمُونَةَ مَاتَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَلا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا أَلا دَبَغْتُمُوهُ فَإِنَّهُ ذَكَاتُهُ» . وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الدِّبَاغَ إنَّمَا يَعْمَلُ فِيمَا تَعْمَلُ فِيهِ الذَّكَاةُ. 85- وَفِي رِوَايَةٍ لأَحْمَدَ وَالدَّارَقُطْنِيّ: «يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظُ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ مَعَ غَيْرِهِ، وَقَالَ: هَذِهِ أَسَانِيدُ صِحَاحٌ. 86- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: قَالَ إِسْحَاقُ عَنْ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ إنَّمَا يُقَالُ الإِهَابُ لِجِلْدِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ. 87- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ (سَوْدَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ قَالَتْ: مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ فَدَبَغْنَا مَسْكَهَا، ثُمَّ مَازِلْنَا نَنْتَبِذُ فِيهِ حَتَّى صَارَ شَنًّا) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ

(1/29)


وَالْبُخَارِيُّ وَقَالَ: (أنَّ) سَوْدَةَ مَكَانُ (عَنْ) . 88- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - (أَمَرَ أَنْ يُنْتَفَعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَتْ) . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. 89- وَلِلنَّسَائِيِّ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ جُلُودِ الْمَيْتَةِ فَقَالَ: «دِبَاغُهَا ذَكَاتُهَا» . 90- وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «طَهُورُ كُلِّ أَدِيمٍ دِبَاغُهُ» . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إسْنَادُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ. قَوْلُهُ: إنَّ دَاجِنًا لِمَيْمُونَةَ مَاتَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَلا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا أَلا دَبَغْتُمُوهُ فَإِنَّهُ ذَكَاتُهُ» . قال الشارح رَحِمَهُ اللَّهُ: أَرَادَ أَنَّ الدِّبَاغَ فِي التَّطْهِيرِ بِمَنْزِلَةِ الذَّكَاةِ فِي إحْلالِ الشَّاةِ وَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابن عباس (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرَادَ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ سِقَاءٍ فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ مَيْتَةٌ فَقَالَ: «دِبَاغُهُ يُزِيلُ خَبَثَهُ أَوْ نَجَسَهُ أَوْ رِجْسَهُ» وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ. بَابُ تَحْرِيمِ أَكْلِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ وَإِنْ دُبِغَ 91- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَاتَتْ شَاةٌ لِسَوْدَةِ بِنْتِ زَمَعَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاتَتْ فُلانَةُ تَعْنِي الشَّاةَ، فَقَالَ: «فَلَوْلا أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا» . قَالُوا: أَنَأْخُذُ مَسْكَ شَاةٍ قَدْ مَاتَتْ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: آية 145] وَأَنْتُمْ لا تَطْعَمُونَهُ أَنْ تَدْبُغُوهُ فَتَنْتَفِعُوا بِهِ» . فَأَرْسَلَتْ إلَيْهَا فَسَلَخَتْ مَسْكَهَا فَدَبَغَتْهُ فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ قِرْبَةً حَتَّى تَخَرَّقَتْ عِنْدَهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ وَأَنَّ الدِّبَاغَ وَإِنْ أَوْجَبَ طَهَارَتَهَا لا يُحَلِّلُ أَكْلَهَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الأَكْلِ أَيْضًا قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ: «إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا» . وَهَذَا مِمَّا لا أَعْلَمُ فِيهِ خِلافًا.

(1/30)


بَابُ مَا جَاءَ فِي نَسْخِ تَطْهِيرِ الدِّبَاغِ 92- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: كَتَبَ إلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِشَهْرٍ «أَنْ لا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلا عَصَبٍ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْهُمْ الْمُدَّةَ غَيْرُ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. 93- وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ إلَى جُهَيْنَةَ: «إنِّي كُنْتُ رَخَّصْتُ لَكُمْ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي هَذَا فَلا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلا عَصَبٍ» . 94- وَلِلْبُخَارِيِّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَشْيَخَةٌ لَنَا مِنْ جُهَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ إلَيْهِمْ: «أَنْ لا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِشَيْءٍ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ الْحَازِمِيُّ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ: وَطَرِيقُ الإِنْصَافِ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: إنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُكَيْمٍ ظَاهِرُ الدَّلالَةِ فِي النَّسْخِ لَوْ صَحَّ، وَلَكِنَّهُ كَثِيرُ الاضْطِرَابِ لا يُقَاوِمُ حَدِيثَ مَيْمُونَةَ فِي الصِّحَّةِ. فَالْمَصِيرُ إلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْلَى لِوُجُوهٍ مِنْ التَّرْجِيحِ وَيُحْمَلُ حَدِيثُ ابْنِ عُكَيْمٍ عَلَى مَنْعِ الانْتِفَاعِ بِهِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَحِينَئِذٍ يُسَمَّى إهَابًا، وَبَعْدَ الدِّبَاغِ يُسَمَّى جِلْدًا وَلا يُسَمَّى إهَابًا، هَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلِيَكُونَ جَمْعًا بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ فِي نَفْيِ التَّضَادِّ. انْتَهَى. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الدِّبَاغَ مُطَهّرٌ فِي الْجُمْلَةِ لِصِحَّةِ النُّصُوصِ بِهِ، وَخَبَرُ ابْنِ عُكَيْمٍ لا يُقَارِبُهَا فِي الصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ لِيَنْسَخَهَا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ الْحَسَنِ يَقُولُ: كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَذْهَبُ إلَى هَذَا الْحَدِيثِ لِمَا ذُكِرَ فِيهِ قَبْل وَفَاتِهِ بِشَهْرَيْنِ، وَكَانَ يَقُولُ: هَذَا آخِرُ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ تَرَكَ أَحْمَدُ هَذَا الْحَدِيثَ لَمَّا اضْطَرَبُوا فِي إسْنَادِهِ حَيْثُ رَوَى بَعْضُهُمْ فَقَالَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ جُهَيْنَةَ.

(1/31)


بَابُ نَجَاسَةِ لَحْمِ الْحَيَوَانِ الَّذِي لا يُؤْكَلُ إذَا ذُبِحَ 95- عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: لَمَّا أَمْسَى الْيَوْمُ الَّذِي فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ فِيهِ خَيْبَرُ أَوْقَدُوا نِيرَانًا كَثِيرَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا هَذِهِ النَّارُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُوقِدُونَ» ؟ قَالُوا: عَلَى لَحْمٍ، قَالَ: «عَلَى أَيِّ لَحْمٍ» ؟ قَالُوا: عَلَى لَحْمِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ، فَقَالَ: «أَهْرِيقُوهَا وَاكْسِرُوهَا» . فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ نُهْرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا؟ فَقَالَ: «أَوْ ذَاكَ» . وَفِي لَفْظٍ: فَقَالَ: «اغْسِلُوا» . 96- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَصَبْنَا مِنْ لَحْمِ الْحُمُرِ - يَعْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ - فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ أَوْ نَجِسٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ اسْتَدَلَّ بِهِمَا عَلَى تَحْرِيمِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجَمَاهِيرِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَقَدْ أَوْرَدَهُمَا الْمُصَنِّفُ هُنَا لِلاسْتِدْلالِ بِهِمَا عَلَى نَجَاسَةِ لَحْمِ الْحَيَوَانِ الَّذِي لا يُؤْكَلُ لأَنَّ الأَمْرَ بِكَسْرِ الآنِيَةِ أَوَّلاً، ثُمَّ الْغَسْلِ ثَانِيًا، ثُمَّ قَوْلِهِ: «فَإِنَّهَا رِجْسٌ أَوْ نَجِسٌ» ثَالِثًا يَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ، وَلَكِنَّهُ نَصٌّ فِي الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ وَقِيَاسٌ فِي غَيْرِهَا مِمَّا لا يُؤْكَلُ بِجَامِعِ عَدَمِ الأَكْلِ وَلا يَجِبُ التَّسْبِيعَ إذْ أَطْلَقَ الْغَسْلَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِمِثْلِ مَا قَيَّدَهُ فِي وُلُوغِ الْكَلْبِ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: إنَّهُ يَجِبُ التَّسْبِيعُ وَلا أَدْرِي مَا دَلِيلُهُ فَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ عَلَى لُعَابِ الْكَلْبِ فَلا يَخْفَى مَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فَمَا هُوَ؟ انْتَهَى. قُلْتُ: الذي استدل به في بعض أصحاب أحمد حديث ذكره في المبدع ولفظه «أمرنا بغسل الأنجاس سبعًا» . وهو حديث لا تقوم به حجة.

(1/32)


أَبْوَابُ الأَوَانِي بَابُ مَا جَاءَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ 97- عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ، وَلا الدِّيبَاجَ، وَلا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَلا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الآخِرَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ لِبَقِيَّةِ الْجَمَاعَةِ إلا حُكْمَ الأَكْلِ مِنْهُ خَاصَّةً. 98 - وَعَنْ أُمّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 99- وَلِمُسْلِمٍ: «إنَّ الَّذِي يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ فِي إنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» . 100- وَعَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي الَّذِي يَشْرَبُ فِي إنَاءِ فِضَّةٍ: «كَأَنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 101- وَعَنْ الْبَرَاءِ بْن عَازِبٍ قَالَ: (نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الشَّرَابِ فِي الْفِضَّةِ فَإِنَّهُ مَنْ شَرِبَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْ فِيهَا فِي الآخِرَةِ) . مُخْتَصَرٌ مِنْ مُسْلِمٍ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا: انْعَقَدَ الإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَسَائِرِ الاسْتِعْمَالاتِ فِي إنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ إلا

(1/33)


رِوَايَةً عَنْ دَاوُد فِي تَحْرِيمِ الشُّرْبِ فَقَطْ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ الحَدِيثُ. وَقَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيِّ وَالْعِرَاقِيِّينَ فَقَالَ بِالْكَرَاهَةِ دُونَ التَّحْرِيمِ، وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ. قَالَ الشَّارِحُ: وَأَمَّا اتِّخَاذُ الأَوَانِي بِدُونِ اسْتِعْمَالٍ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى مَنْعِهِ، وَرَخَّصَتْ فِيهِ طَائِفَةٌ. بَابُ النَّهْيِ عَنْ التَّضْبِيبِ بِهِمَا إلا بِيَسِيرِ الْفِضَّةِ 102- عَنْ ابْن عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ شَرِبَ فِي إنَاءٍ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ إنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. 103- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - انْكَسَرَ فَاِتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 104- وَلأَحْمَدَ عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ: قَالَ: رَأَيْتُ عِنْدَ أَنَسٍ قَدَحَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ ضَبَّةُ فِضَّةٍ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ سِلْسِلَةٍ أَوْ ضَبَّةٍ مِنْ فِضَّةٍ فِي إنَاءِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. بَابُ الرُّخْصَةِ فِي آنِيَةِ الصُّفْرِ وَنَحْوِهَا 105- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْرَجنا لَهُ مَاءً فِي تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ فَتَوَضَّأَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 106- وَعَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَوَضَّأُ فِي مِخْضَبٍ مِنْ صُفْرٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ لِلاسْتِدْلالِ بِهِ عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ آنِيَة الصُّفْرِ لِلْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ.

(1/34)


بَابُ اسْتِحْبَابِ تَخْمِيرِ الأَوَانِي 107- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - فِي حَدِيثٍ - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَوْكِ سِقَاءَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرْ إنَاءَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ، وَلَوْ أَنْ تَعْرِضَ عَلَيْهِ عُودًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 108- وَلِمُسْلِمٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «غَطُّوا الإِنَاءَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ، فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ لا يَمُرُّ بِإِنَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غِطَاءٌ، أَوْ سِقَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ وِكَاءٌ، إلا نَزَلَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَبَاءِ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّبَرُّكِ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ عِنْدَ إيكَاءِ السِّقَاءِ وَتَخْمِيرِ الإِنَاءِ وَكَذَلِكَ عِنْد تَغْلِيقِ الْبَابِ وَإِطْفَاءِ الْمِصْبَاحِ، كَمَا فِي رواية أبي داود: «أَغْلِقْ بَابَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا وَاطْفِئ مِصْبَاحَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَفْتَحُ غَلْقًا وَلا يَحِلُّ وِكَاءً وَلا يَكْشِفُ إنَاءً وَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ عَلَى النَّاسِ بَيْتَهُمْ» . وقد أشعر التعليل بقوله: «فَإِنَّ الشَّيْطَانَ» إلى آخره أن في التسمية حرزًا عن الشيطان وأنها تحول بينه وبين مراده. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ آنِيَةِ الْكُفَّارِ 109- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا نَغَزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَنُصِيبُ مِنْ آنِيَةِ الْمُشْرِكِينَ وَأَسْقِيَتِهِمْ فَنَسْتَمْتِعُ بِهَا وَلا يَعِيبُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 110- وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ؟ قَالَ: «إنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 111- وَلأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد: إنَّ أَرْضَنَا أَرْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ لَحْم الْخِنْزِيرِ وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَكَيْفَ نَصْنَعُ بِآنِيَتِهِمْ وَقُدُورِهِمْ؟ قَالَ: «إنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَارْحَضُوهَا بِالْمَاءِ وَاطْبُخُوا فِيهَا وَاشْرَبُوا» .

(1/35)


112- وَلِلتِّرْمِذِيِّ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ قُدُورِ الْمَجُوسِ، قَالَ: ... «أَنْقُوهَا غَسْلاً وَاطْبُخُوا فِيهَا» . 113- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ يَهُودِيًّا دَعَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إلَى خُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ فَأَجَابَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَالإِهَالَةُ: الْوَدَكُ. وَالسَّنِخَةُ الزَّنِخَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ. 114- وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْوُضُوءُ مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ. وَعَنْ عُمَرَ الْوُضُوءُ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ. قَوْلُهُ: «سَنِخَة» . قَالَ فِي القَامُوس: وسَنِخَ الدّهن كفرح: زنخ، ومن الطعام أكْثَر. والسناخة: الرّيح المنتنة كالسنخة. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى الْمَنْعِ مِنْ اسْتِعْمَالِ آنِيَة الْكُفَّارُ حَتَّى تُغْسَلَ إذَا كَانُوا مِمَّنْ لا تُبَاحُ ذَبِيحَتُهُ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مِنْ النَّصَارَى بِمَوْضِعٍ مُتَظَاهِرًا فِيهِ بِأَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ مُتَمَكِّنًا فِيهِ أَوْ يَذْبَحُ بِالسِّنِّ وَالظُّفْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لا بَأْسَ بِآنِيَةِ مَنْ سِوَاهُمْ جَمْعًا بِذَلِكَ بَيْنَ الأَحَادِيثِ، وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ غَسْلَ الْكُلِّ لِحَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: 115- حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لا يَرِيبُكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

(1/36)


أَبْوَابُ أَحْكَامِ التَّخَلِّي بَابُ مَا يَقُولُ الْمُتَخَلِّي عِنْد دُخُوله وَخُرُوجه 116- عَنْ أَنَسِ بْن مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا دَخَلَ الْخَلاءَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 117- وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ كَانَ يَقُولُ: «بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ» . 118- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا خَرَجَ مِنْ الْخَلاءِ قَالَ: «غُفْرَانَكَ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ. 119- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا خَرَجَ مِنْ الْخَلاءِ قَالَ: ... «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الأَذَى وَعَافَانِي» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. قَوْلُهُ: (إذَا دَخَلَ الْخَلاءَ) ، قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ فِي الْفَتْحِ: أَيْ كَانَ يَقُولُ هَذَا الذِّكْرَ عِنْد إرَادَةِ الدُّخُولِ لا بَعْدَهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهَذَا الْبُخَارِيُّ فِي الأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَهَذَا فِي الأَمْكِنَةِ الْمُعَدَّةِ لِذَلِكَ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَيَقُولُ فِي أَوَّلِ الشُّرُوعِ عِنْد تَشْمِيرِ الثِّيَابِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. قَالَ: وَفِي حَمْدِهِ - صلى الله عليه وسلم - إشْعَارٌ بِأَنَّ هَذِهِ نِعْمَةٌ جَلِيلَةٌ وَمِنَّةٌ جَزِيلَةٌ، فَإِنَّ انْحِبَاسَ ذَلِكَ الْخَارِجِ مِنْ أَسْبَابِ الْهَلاكِ، فَخُرُوجُهُ مِنْ النِّعَمِ، وَحَقٌّ عَلَى مَنْ أَكَلَ مَا يَشْتَهِيه فَسَدَّ بِهِ جَوْعَتَهُ وَخَرَجَ بِسُهُولَةٍ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ مَحَامِدِ اللَّهِ جَلَّ جَلاله. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(1/37)


بَابُ تَرْكِ اسْتِصْحَابِ مَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ 120- عَنْ أَنَس قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا دَخَلَ الْخَلاءَ نَزَعَ خَاتَمَهُ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا أَحْمَدَ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 121- وَقَدْ صَحَّ: أَنَّ نَقْشَ خَاتَمِهِ كَانَ: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيث يَدُلّ عَلَى تَنْزِيه مَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ إدْخَاله الْحُشُوشِ، وَالْقُرْآنُ بِالأَوْلَى. بَابُ كَفِّ الْمُتَخَلِّي عَنْ الْكَلامِ 122- عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلاً مَرَّ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَبُولُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ. 123- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لا يَخْرُجُ الرَّجُلانِ يَضْرِبَانِ الْغَائِطَ كَاشِفَيْنِ عَوْرَتَهُمَا يَتَحَدَّثَانِ فَإِنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى ... ذَلِكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَهْ. الْحَدِيث زَادَ فِيهِ أَبُو دَاوُد: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَيَمَّمَ ثُمَّ رَدَّ عَلَى الرَّجُلِ السَّلامَ. وَفِي رِواية أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَبُولُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَوَضَّأَ ثُمَّ اعْتَذَرَ إلَيْهِ فَقَالَ: «إنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إلا عَلَى طُهْرٍ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهِيَةِ ذِكْرِ اللَّهِ حَالَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا كَرَدِّ السَّلامِ. قَوْلُهُ: «لا يخرج الرجلان» إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيث يَدُلّ عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَتَرْكِ الْكَلامِ فَإِنَّ التَّعْلِيلَ بِمَقْتِ اللَّهِ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الْفِعْلِ. بَابُ الإِبْعَادِ وَالاسْتِتَارِ لِلتَّخَلِّي فِي الْفَضَاءِ 124- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ فَكَانَ لا يَأْتِي الْبَرَازَ حَتَّى يَغِيبَ فَلا يُرَى. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

(1/38)


125- وَلأَبِي دَاوُد: كَانَ إذَا أَرَادَ الْبَرَازَ انْطَلَقَ حَتَّى لا يَرَاهُ أَحَدٌ. 126- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن جَعْفَرٍ قَالَ: كَانَ أَحَبَّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِحَاجَتِهِ هَدَفٌ أَوْ حَايِشِ نَخْلٍ. رَوَاهُ أَحْمَد وَمُسْلِمٌ وَابْن مَاجَهْ، وَحَايِشِ نَخْلٍ: أَيْ جَمَاعَتُهُ وَلا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. 127- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَتَى الْغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلا أَنْ يَجْمَعَ كَثِيبًا مِنْ رَمْلٍ فَلْيَسْتَدْبِرْهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَلْعَبُ بِمَقَاعِدِ بَنِي آدَمَ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لا فَلا حَرَجَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ: الْبَرَازُ بِفَتْحِ الْبَاء اسْمٌ لِلْفَضَاءِ الْوَاسِعِ مِنْ الأَرْضِ كَنَّى بِهِ عَنْ حَاجَةِ الإِنْسَانِ كَمَا كَنَّى عَنْهَا بِالْغَائِطِ وَالْخَلاءِ. وَالْحَدِيث يَدُلّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الإِبْعَادِ لِقَاضِي الْحَاجَةِ. قَوْلُهُ: (هَدَفٌ) الْهَدَفُ مُحَرَّكَة: كُلُّ مُرْتَفَعٍ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ كَثِيبِ رَمْلٍ أَوْ جَبَلٍ. وَالْحَدِيث يَدُلّ عَلَى اسْتِحْبَاب أَنْ يَكُونَ قَاضِي الْحَاجَةِ مُسْتَتِرًا حَالَ الْفِعْلِ بِمَا يَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَةِ الْغَيْرِ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ. بَابُ نَهْي الْمُتَخَلِّي عَنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا 128- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ لِحَاجَتِهِ فَلا يَسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ وَلا يَسْتَدْبِرْهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 129- وَفِي رِوَايَة الْخَمْسَة إلا التِّرْمِذِيَّ قَالَ: «إنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْغَائِطَ فَلا يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَلا يَسْتَدْبِرْهَا وَلا يَسْتَطِبْ بِيَمِينِهِ» . وَكَانَ يَأْمُرُ بِثَلاثَةِ أَحْجَارٍ وَيَنْهَى عَنْ الرَّوْثَةِ. وَالرِّمَّةِ وَلَيْسَ لأَحْمَدَ فِيهِ الأَمْرُ بِالأَحْجَارِ. 130- وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلا تَسْتَدْبِرُوهَا وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» . قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَقَدِمْنَا الشَّامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ نَحْوَ الْكَعْبَة فَنَنْحَرِفُ عَنْهَا وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(1/39)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا بِالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، وَفِيهِ دَلالَة عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الاسْتِنْجَاءُ بِثَلاثَةِ أَحْجَارٍ. وَفِيهِ النَّهْيُ عَنْ الاسْتِطَابَةِ بِالْيَمِينِ. وَفِيهِ دَلالَة عَلَى كَرَاهَة الاسْتِجْمَار بِالرَّوْثَةِ، وَكَذَلِكَ الرِّمَّة وَهِيَ الْعَظْمُ؛ لأَنَّهَا مِنْ طَعَامِ الْجِنّ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ جَوَازِ ذَلِكَ بَيْنَ الْبُنْيَانِ 131- عَنْ ابْن عُمَرَ قَالَ: رَقِيتُ يَوْمًا عَلَى بَيْتِ حَفْصَةَ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى حَاجَتِهِ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ مُسْتَدْبِرَ الْكَعْبَةِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَة. 132- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِبَوْلٍ فَرَأَيْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ بِعَامٍ يَسْتَقْبِلُهَا. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ. 133- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِفُرُوجِهِمْ فَقَالَ: «أَوْ قَدْ فَعَلُوهَا؟ حَوِّلُوا مَقْعَدَتِي قِبَلَ الْقِبْلَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 134- وَعَنْ مَرْوَانَ الأَصْفَرِ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ يَبُولُ إلَيْهَا فَقُلْتُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَلَيْسَ قَدْ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: بَلَى، إنَّمَا نُهِيَ عَنْ هَذَا فِي الْفَضَاءِ فَإِذَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ شَيْءٌ يَسْتُرُكَ فَلا بَأْسَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ: (رَقِيتُ يَوْمًا عَلَى بَيْتِ حَفْصَةَ) إلخ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ يَدُلّ عَلَى جَوَازِ اسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ حَالَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيق عِيسَى الْحَنَّاطِ قَالَ: قُلْت لِلشَّعْبِيِّ: إنِّي لأَعْجَبُ لاخْتِلافِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ قَالَ نَافِعٌ عَنْ ابْن عُمَرَ: (دَخَلْتُ إلَى بَيْتِ حَفْصَةَ فَحَانَتْ مِنِّي الْتِفَاتَةٌ، فَرَأَيْتُ كَنِيفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ) . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: (إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْغَائِطَ فَلا يَسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ وَلا يَسْتَدْبِرْهَا) ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: صَدَقَا جَمِيعًا، أَمَّا قَوْل أَبِي هُرَيْرَة فَهُوَ فِي الصَّحْرَاء، فَإِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا وَمَلائِكَةً وَجِنًّا يُصَلُّونَ، فَلا يَسْتَقْبِلْهُمْ أَحَدٌ بِبَوْلٍ وَلا غَائِطٍ وَلا يَسْتَدْبِرْهُمْ، وَأَمَّا كُنُفُكُمْ هَذِهِ فَإِنَّمَا هِيَ بُيُوتٌ لا قِبْلَةَ فِيهَا. وَقَالَ البخاري: (باب لا تستقبل القبلة بغائط ولا بول إلا

(1/40)


عند البناء جدار أو نحوه) . قَالَ الحَافظُ: وهذا قول الجمهور، وهو أَعْدل الأقوال لإعْماله جميع الأدلة. بَابُ ارْتِيَادِ الْمَكَانِ الرَّخْوِ وَمَا يُكْرَهُ التَّخَلِّي فِيهِ 135- عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: مَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى دَمَثٍ إلَى جَنْبِ حَائِطٍ فَبَالَ، وَقَالَ: «إذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْتَدْ لِبَوْلِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 136- وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُبَالَ فِي الْجُحْرِ قَالُوا. لِقَتَادَةَ: مَا يُكْرَهُ مِنْ الْبَوْلِ فِي الْجُحْرِ؟ قَالَ: يُقَالُ: إنَّهَا مَسَاكِنُ الْجِنِّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 137- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اتَّقُوا اللاعِنَيْنِ» . قَالُوا: وَمَا اللاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: «الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 138- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْحِمْيَرِيِّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اتَّقُوا الْمَلاعِنَ الثَّلاثَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ: هُوَ مُرْسَلٌ. 139- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي مُسْتَحَمِّهِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ فِيهِ فَإِنَّ عَامَّةَ الْوِسْوَاسِ مِنْهُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَة لَكِنَّ قَوْلُهُ: «ثُمَّ يَتَوَضَّأُ فِيهِ» . لأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد فَقَطْ. 140- وَعَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. قَوْلُهُ: «إذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْتَدْ لِبَوْلِهِ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ قَضَاء الْحَاجَة أَنْ يَعْمِدَ إلَى مَكَان لَيِّنٍ؛ لِيَأْمَنَ مِنْ رَشَاشِ الْبَوْلِ وَنَحْوه. وَقَوْلُهُ: (نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْجُحْرِ) يَدُلّ عَلَى كَرَاهَةِ الْبَوْلِ فِي الْحُفَرِ الَّتِي تَسْكُنهَا الْهَوَامُّ وَالسِّبَاعُ. وَقَوْلُهُ: «اتَّقُوا اللاعِنَيْنِ» قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَاد بِاللاعِنَيْنِ الأَمْرَانِ الْجَالِبَانِ

(1/41)


لِلَّعْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ فَعَلَهُمَا لُعِنَ وَشُتِمَ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيم التَّخَلِّي فِي طُرُق النَّاس وَظِلِّهِمْ لِمَا فِيهِ مِنْ أَذِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِتَنْجِيسِ مَنْ يَمُرّ بِهِ وَنَتِنِهِ وَاسْتِقْذَارِهِ. وَقَوْلُهُ: «اتَّقُوا الْمَلاعِنَ الثلاث» . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيث يَدُلّ عَلَى الْمَنْع مِنْ قَضَاء الْحَاجَة فِي الْمَوَارِد وَالظِّلّ وَقَارِعَة الطَّرِيق لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الأَذِيَّة لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَوْلُهُ: «لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي مُسْتَحَمِّهِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ فِيهِ» قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْبَوْلِ فِي مَحَلِّ الاغْتِسَالِ لأَنَّهُ يَبْقَى أَثَرُهُ، فَإِذَا انْتَضَحَ إلَى الْمُغْتَسَلِ شَيْءٌ مِنْ الْمَاءِ بَعْد وُقُوعِهِ عَلَى مَحَلِّ الْبَوْلِ نَجَّسَهُ، فَلا يَزَالُ عِنْد مُبَاشَرَةِ الاغْتِسَالِ مُتَخَيَّلاً لِذَلِكَ فَيُفْضِي بِهِ إلَى الْوَسْوَسَةِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ إذَا كَانَ لِلْبَوْلِ مَسْلَكٌ يَنْفُذُ فِيهِ فَلا كَرَاهَةَ. بَابُ الْبَوْلِ فِي الأَوَانِي لِلْحَاجَةِ 141- عَنْ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رَقِيقَةَ عَنْ أُمِّهَا قَالَتْ: كَانَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَدَحٌ مِنْ عِيدَانٍ تَحْتَ سَرِيرِهِ يَبُولُ فِيهِ بِاللَّيْلِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 142- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: يَقُولُونَ: إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْصَى إلَى عَلِيٍّ لَقَدْ دَعَا بِالطَّسْتِ لِيَبُولَ فِيهَا فَانْخَنَثَتْ نَفْسُهُ وَمَا شَعُرْتُ فَإِلَى مَنْ أَوْصَى؟ . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. انْخَنَثَتْ: أَيْ انْكَسَرَتْ وَانْثَنَتْ. قَوْلُهُ: (مِنْ عَيْدَانٍ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالعَيْدَان: بِالفَتْحِ: الطِوَالُ مِنَ النَّخْلِ واحدتها بهاء. ومنه كَانَ قَدَحٌ يَبُولُ فِيهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إعْدَادِ الآنِيَةِ لِلْبَوْلِ فِيهَا بِاللَّيْلِ. وَهَذَا مِمَّا لا أَعْلَمُ فِيهِ خِلافًا. بَابُ مَا جَاءَ فِي الْبَوْلِ قَائِمًا 143- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَالَ قَائِمًا فَلا تُصَدِّقُوهُ مَا كَانَ يَبُولُ إلا جَالِسًا. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا أَبَا دَاوُد، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ:

(1/42)


هُوَ أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَصَحُّ. 144- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبُولَ الرَّجُلُ قَائِمًا. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. 145- وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - انْتَهَى إلَى سُبَاطَةِ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا فَتَنَحَّيْتُ فَقَالَ: «ادْنُهْ» فَدَنَوْتُ حَتَّى قُمْتُ عِنْدَ عَقِبَيْهِ فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. وَالسُّبَاطَةُ: مَلْقَى التُّرَابِ وَالْقُمَامة. قَوْلُهَا: (مَا كَانَ يَبُولُ إلا جَالِسًا) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا كَانَ يَبُولُ حَالَ الْقِيَامِ بَلْ كَانَ هَدْيُهُ فِي الْبَوْلِ الْقُعُودَ فَيَكُونُ الْبَوْلُ حَالَ الْقِيَامِ مَكْرُوهًا وَلَكِنَّ قَوْلَ عَائِشَةَ هَذَا لا يَنْفِي إثْبَاتَ مَنْ أَثْبَتَ وُقُوعَ الْبَوْلِ مِنْهُ حَالَ الْقِيَامِ. وَلا شَكَّ أَنَّ الْغَالِبَ مِنْ فِعْلِهِ هُوَ الْقُعُودُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَوْلَهُ قَائِمًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَقِيلَ: إنَّمَا فَعَلَهُ لِوَجَعٍ كَانَ بِمَأْبِضِهِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي: الصَّحِيحُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ تَنَزُّهًا وَبُعْدًا مِنْ إصَابَةِ الْبَوْلِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَعَلَّهُ لَمْ يَجْلِسْ لِمَانِعٍ كَانَ بِهَا أَوْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ. 146- وَقَدْ رَوَى الْخَطَّابِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَالَ قَائِمًا مِنْ جُرْحٍ كَانَ بِمَأْبِضِهِ. وَيُحْمَلُ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى غَيْرِ حَالِ الْعُذْرِ، وَالْمَأْبِضُ مَا تَحْتَ الرُّكْبَةِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ الْعَرَبُ تَسْتَشْفِي لِوَجَعِ الصُّلْبِ بِالْبَوْلِ قَائِمًا فَيُرَى أَنَّهُ لَعَلَّهُ كَانَ بِهِ إذْ ذَاكَ وَجَعُ الصُّلْبِ. بَابُ وُجُوبِ الاسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرِ أَوْ الْمَاءِ 147- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إلَى الْغَائِطِ

(1/43)


فَلْيَسْتَطِبْ بِثَلاثَةِ أَحْجَارٍ فَإِنَّهَا تَجْزِئ عَنْهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ حَسَنٌ. 148- وَعَنْ ابْن عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: «إنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 149- وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَالنَّسَائِيُّ: «وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ» ، ثُمَّ قَالَ: «بَلَى كَانَ أَحَدُهُمَا» ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. 150- وَعَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «تَنَزَّهُوا مِنْ الْبَوْلِ، فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَوْلُهُ: «فَإِنَّهَا تَجْزِئ عَنْهُ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَيْ تَكْفِيه وَهُوَ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ بِكِفَايَةِ الأَحْجَارِ وَعَدَمِ وُجُوبِ الاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ. قَوْلُهُ: «وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ» . ثُمَّ قالَ: «بَلَى» أَي إِنَّهُ كبير، أَي: لَيْسَ بِكَبِيرٍ فِي مَشَقَّةِ الاحْتِرَازِ وَهُوَ كَبِير لوقُوع العَذَابِ بسبَبِه. قَوْلُهُ: «تَنَزَّهُوا مِنْ الْبَوْلِ، فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْمُقْبِرِ مِنْهُ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الاسْتِنْزَاهِ مِنْ الْبَوْلِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقَيُّدٍ بِحَالِ الصَّلاةِ. بَابُ النَّهْيِ عَنْ الاسْتِجْمَارِ بِدُونِ الثَّلاثَةِ الأَحْجَارِ 151- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: قِيلَ لِسَلْمَانَ: عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ، فَقَالَ سَلْمَانُ: أَجَلْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ أَوْ أَنْ يَسْتَنْجِيَ أَحَدُنَا بِأَقَلَّ مِنْ ثَلاثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 152- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: قَالَ: «إذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَجْمِرْ ثَلاثًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 153- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ

(1/44)


فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لا فَلا حَرَجَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ الْحَجَرَ لَيْسَ مُتَعَيَّنًا، بَلْ تَقُومُ الْخِرْقَةُ وَالْخَشَبُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مَقَامَهُ، لِنَهْيُهُ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْعَظْمِ وَالْبَعْرِ، وفي الحديث استحباب قطع الاسْتِجْمَار على وترٍ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ عَلَى وِتْرٍ سُنَّةٌ فِيمَا إذَا زَادَ عَلَى ثَلاثً جَمْعًا بَيْنَ النُّصُوصِ. بَابٌ فِي إلْحَاقِ مَا كَانَ فِي مَعْنَى الأَحْجَارِ بِهَا 154- عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ الاسْتِطَابَةِ فَقَالَ: ... «بِثَلاثَةِ أَحْجَارٍ لَيْسَ فِيهَا رَجِيعٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 155- وَعَنْ سَلْمَانَ قَالَ: أَمَرَنَا - يَعْنِي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ لا نَكْتَفِيَ بِدُونِ ثَلاثَةِ أَحْجَارٍ لَيْسَ فِيهَا رَجِيعٌ وَلا عَظْمٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. وَلَوْلا أَنَّهُ أَرَادَ الْحَجَرَ وَمَا كَانَ نَحْوَهُ فِي الإِنْقَاءِ لَمْ يَكُنْ لاسْتِثْنَاءِ الْعَظْمِ وَالرَّوْثِ مَعْنًى، وَلا حَسُنَ تَعْلِيلُ النَّهْيِ عَنْهُمَا بِكَوْنِهِمَا مِنْ طَعَامِ الْجِنِّ. 156- وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ التَّعْلِيلُ بِذَلِكَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذَا الْكَلامُ هُوَ وَجْهُ تَرْجَمَةِ الْبَابِ بِتِلْكَ التَّرْجَمَةِ وَهُوَ حَسَنٌ. بَابُ النَّهْيِ عَنْ الاسْتِجْمَارِ بِالرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ 157- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُتَمَسَّحَ بِعَظْمٍ أَوْ بَعْرَةٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 158- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يُسْتَنْجَى بِرَوْثٍ أَوْ بِعَظْمٍ وَقَالَ: «إنَّهُمَا لا يُطَهِّرَانِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ اجْتِنَابِ

(1/45)


الْعَظْمِ وَالرَّوْثِ وَعَدَمِ الاجْتِزَاءِ بِهِمَا. بَابُ النَّهْيِ أَنْ يُسْتَنْجَى بِمَطْعُومٍ أَوْ بِمَا لَهُ حُرْمَةٌ 159- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ» . قَالَ: فَانْطَلَقَ بِنَا فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ، وَسَأَلُوهُ الزَّادَ، فَقَالَ: «لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ» . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَلا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إخْوَانِكُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 160- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إدَاوَةً لِوُضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ يَتْبَعُهُ بِهَا، قَالَ: «مَنْ هَذَا» ؟ قَالَ: أَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: «ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضُ بِهَا وَلا تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلا بِرَوْثَةٍ» فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ أَحْمِلُهَا فِي طَرَفِ ثَوْبِي حَتَّى وَضَعْتُ إلَى جَنْبِهِ ثُمَّ انْصَرَفْتُ حَتَّى إذَا فَرَغَ مَشَيْتُ، فَقُلْتُ: مَا بَالُ الْعَظْمِ وَالرَّوْثَةِ؟ قَالَ: «هُمَا مِنْ طَعَامِ الْجِنِّ وَإِنَّهُ أَتَانِي وَفْدُ جِنٍّ نَصِيبِينَ - وَنِعْمَ الْجِنُّ - فَسَأَلُونِي الزَّادَ فَدَعَوْتُ اللَّهَ لَهُمْ أَنْ لا يَمُرُّوا بِعَظْمٍ وَلا بِرَوْثَةٍ إلا وَجَدُوا عَلَيْهَا طَعَامًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. قَوْلُهُ: «وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ، فَلا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا» . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ إطْعَامِ الدَّوَابِّ النَّجَاسَةَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لأَنَّ تَعْلِيلَ النَّهْيِ عَنْ الاسْتِجْمَارِ بِالْبَعْرَةِ بِكَوْنِهَا طَعَامَ دَوَابِّ الْجِنِّ يُشْعِرُ بِذَلِكَ. بَابُ مَا لا يُسْتَنْجَى بِهِ لِنَجَاسَتِهِ 161- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْغَائِطَ فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلاثَةِ أَحْجَارٍ فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ وَالْتَمَسْتُ الثَّالِثَ فَلَمْ أَجِدْ فَأَخَذْتُ رَوْثَةً فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: «هَذِهِ رِكْسٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

(1/46)


162- وَزَادَ فِيهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ لَهُ: «ائْتِنِي بِحَجَرٍ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الاسْتِجْمَارِ بِالرَّوْثَةِ. بَابُ الاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ 163- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْخُلُ الْخَلاءَ فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلامٌ نَحْوِي إدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وَعَنَزَةً فَيَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 164- وَعَنْ مُعَاذَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مُرْنَ أَزْوَاجَكُنَّ أَنْ يَغْسِلُوا عَنْهُمْ أَثَرَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ فَإِنَّا نَسْتَحِي مِنْهُمْ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَفْعَلُهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 165- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءَ: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} قَالَ: كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. قَوْلُهُ: (فَيَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَالسُّنَّةُ دَلَّتْ عَلَى الاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءَ {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} فَسَأَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: إنَّا نُتْبِعُ الْحِجَارَةَ الْمَاءَ. رَوَاهُ الْبَزَّارُ. قَالَ الْحَافِظُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ وَالثَّنَاءِ عَلَى فَاعِلِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ كَمَالِ التَّطْهِيرِ. بَابُ وُجُوبِ تَقْدِمَةِ الاسْتِنْجَاءِ عَلَى الْوُضُوءِ 166- عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: أَرْسَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْمِقْدَادَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُهُ عَنْ الرَّجُلِ يَجِدُ الْمَذْيَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَغْسِلُ ذَكَرَهُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 167- وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إذَا جَامَعَ الرَّجُلُ

(1/47)


الْمَرْأَةَ فَلَمْ يُنْزِلْ، قَالَ: «يَغْسِلُ مَا مَسَّ الْمَرْأَةَ مِنْهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي» . أَخْرَجَاهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْكَلامُ عَلَى الْحَدِيثِ مَحَلُّهُ الْغُسْلُ وَسَيَأْتِي الْخِلافُ فِي نَسْخِهِ وَعَدَمِهِ. وَالْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوْرَدَهُ هُنَا لِلاسْتِدْلالِ بِهِ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ الاسْتِنْجَاءِ عَلَى الْغُسْلِ لِتَرْتِيبِهِ الْوُضُوءَ عَلَى غَسْلِ مَا مَسَّ الْمَرْأَةَ مِنْهُ. قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَحُكْمُ هَذَا الْخَبَرِ فِي تَرْكِ الْغُسْلِ مِنْ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ وَسَيُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ.

(1/48)


أَبْوَابُ السِّوَاكِ وَسُنَنِ الْفِطْرَةِ بَابُ الْحَثِّ عَلَى السِّوَاكِ وَذِكْرِ مَا يَتَأَكَّدُ عِنْدَهُ 168- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ ... لِلرَّبِّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَهُوَ لِلْبُخَارِيِّ تَعْلِيقٌ. 169- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَخَّرْتُ صَلاةَ الْعِشَاءِ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ وَلأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 170- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 171- وَفِي رِوَايَةٍ لأَحْمَدَ: «لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ» . 172- وَلِلْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا: «لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ» . 173، 174- قَالَ: وَيُرْوَى نَحْوُهُ عَنْ جَابِرٍ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ ... النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. 175- وَعَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ بن هَانئ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْت لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يَبْدَأُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ؟ قَالَتْ: بِالسِّوَاكِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَة إلا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ. 176- وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَامَ مِنْ

(1/49)


اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ، وَالشَّوْصُ: الدَّلْكُ. 177- وَلِلنَّسَائِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كُنَّا نُؤْمَرُ بِالسِّوَاكِ إذَا قُمْنَا مِنْ اللَّيْلِ. 178- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ لا يَرْقُدُ لَيْلاً وَلا نَهَارًا فَيَسْتَيْقِظُ إلا تَسَوَّكَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. الْفِطْرَةُ: الدِّينُ. والأحاديث المذكورة تَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ السِّوَاكِ على حَالٍ وفي كُلِّ وَقْت، ويتأكد عند الوضوء والصلاة ودخول المنزل وَالْقِيَامِ مِنْ النَّوْمِ. بَابُ تَسَوُّكِ الْمُتَوَضِّئِ بِأُصْبُعِهِ عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ 179- عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - أَنَّهُ دَعَا بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ ثَلاثًا وَتَمَضْمَضَ ثَلاثًا، فَأَدْخَلَ بَعْضَ أَصَابِعِهِ فِي فِيهِ، وَاسْتَنْشَقَ ثَلاثًا، وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلاثًا، وَمَسَحَ رَأْسَهُ وَاحِدَةً - وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ - وَقَالَ: هَكَذَا كَانَ وُضُوءُ نَبِيِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ يَأْتِي الْكَلامُ عَلَى أَطْرَافِهِ فِي الْوُضُوءِ، وَقَدْ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ لِلاسْتِدْلالِ بِقَوْلِهِ: (فَأَدْخَلَ بَعْضَ أَصَابِعِهِ فِي فِيهِ) أَنَّهُ يَجْزِئ التَّسَوُّكُ بِالأُصْبُعِ. بَابُ السِّوَاكِ لِلصَّائِمِ 180- عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا لا أُحْصِي - يُتَسَوَّكُ وَهُوَ صَائِمٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. 181- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مِنْ خَيْرِ خِصَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. 182- قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ يَسْتَاكُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ. 183- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(1/50)


وَبِهِ احْتَجَّ مَنْ كَرِهَ السِّوَاكَ لِلصَّائِمِ بَعْدَ الزَّوَالِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ - يَعْنِي حَدِيثُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ - يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ السِّوَاكِ لِلصَّائِمِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى مَنْ قَالَ بِالْكَرَاهَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ لِلصَّائِمِ مُسْتَدِلًّا بِحَدِيثِ الْخُلُوفُ. إِلِى أَنْ قَالَ: فَالْحَقُّ أَنَّه يستحب السِّوَاك لِلصَّائِمِ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ. وَهَوَ مَذْهَبُ جمهور الأئمة. بَابُ سُنَنِ الْفِطْرَةِ 184- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خَمْسٌ مِنْ الْفِطْرَةِ: الاسْتِحْدَادُ، وَالْخِتَانُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 185- وَعَنْ أَنْسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمِ الأَظْفَارِ، وَنَتْفِ الإِبْطِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ أَنْ لا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَقَالُوا: وَقَّتَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. 186- وَعَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ، وَقَصُّ الأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ، وَنَتْفُ الإِبْطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ» . وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ - يَعْنِي الاسْتِنْجَاءَ - قَالَ زَكَرِيَّا: قَالَ مُصْعَبٌ: وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إلا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ «خَمْسٌ مِنْ الْفِطْرَةِ» أَنَّ هَذِهِ الأَشْيَاءَ إذَا فُعِلَتْ اتَّصَفَ فَاعِلُهَا بِالْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ الْعِبَادَ عَلَيْهَا وَحَثَّهُمْ عَلَيْهَا وَاسْتَحَبَّهَا لَهُمْ لِيَكُونُوا عَلَى أَكْمَلِ الصِّفَاتِ وَأَشْرَفِهَا صُورَةً. والاسْتِحْدَادُ سُنَّةٌ بِالاتِّفَاقِ، وَيَكُونُ بِالْحَلْقِ وَالْقَصِّ وَالنَّتْفِ وَالنُّورَةِ. وَالْخِتَانُ اُخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ وَسَيَأْتِي الْكَلامُ عَلَيْهِ. وَقَصُّ الشَّارِبِ سُنَّةٌ بِالاتِّفَاقِ وكذلك وَنَتْفُ الإِبْطِ تَقْلِيمُ الأَظْفَارِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(1/51)


قَوْلُهُ: «وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ» قَالَ الشَّارِحُ: إعْفَاءُ اللِّحْيَةِ: تَوْفِيرُهَا، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ «وَفِّرُوا اللِّحَى» . وَكَانَ مِنْ عَادَةِ الْفُرْسِ قَصُّ اللِّحْيَةِ فَنَهَى الشَّارِعُ عَنْ ذَلِكَ وَأَمَرَ بِإِعْفَائِهَا. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يُكْرَهُ حَلْقُ اللِّحْيَةِ وَقَصِّهَا وَتَحْرِيفِهَا. وَأَمَّا الأَخْذُ مِنْ طُولِهَا وَعَرْضِهَا فَحَسَنٌ. وَتُكْرَهُ الشُّهْرَةُ فِي تَعْظِيمِهَا كَمَا تُكْرَهُ فِي قَصِّهَا وَجَزِّهَا. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُحِدَّ بِحَدٍّ بَلْ قَالَ: لا يَتْرُكُهَا إلَى حَدِّ الشُّهْرَةِ وَيَأْخُذُ مِنْهَا، وَكَرِهَ مَالِكٌ طُولَهَا جِدًّا. وَمِنْهُمْ مَنْ حَدَّ بِمَا زَادَ عَلَى الْقَبْضَةِ فَتزَالُ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ الأَخْذَ مِنْهَا إلا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ. قَوْلُهُ: «وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ» أَي عُقَد الأَصَابِعِ وَمَعَاطِفُهَا. قَوْلُهُ: (وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إلا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ) قَالَ الشَّارِحُ: هَذَا شَكٌّ مِنْهُ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَلَعَلَّهَا الْخِتَانُ الْمَذْكُورُ مَعَ الْخَمْسِ الأُولَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ أَوْلَى. وَقَدْ اسْتَدَلَّ الرَّافِعِيُّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالاسْتِنْشَاقَ سُنَّةٌ، وَرُوِيَ الْحَدِيثُ بِلَفْظِ: «عَشْرٌ مِنْ السُّنَّةِ» وَرَدَّهُ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ بِأَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ: «عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ» . قَالَ: بَلْ وَلَوْ وَرَدَ بِلَفْظِ (مِنْ السُّنَّةِ) لَمْ يَنْتَهِضْ دَلِيلاً عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ لأَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّنَّةِ الطَّرِيقَة لا السُّنَّةُ بِالْمَعْنَى الاصْطِلاحِيِّ. بَابُ الْخِتَانِ 187- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اخْتَتَنَ إبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ بَعْدَ مَا أَتَتْ عَلَيْهِ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ» . مُتَّفَق عَلَيْهِ إلا أَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَذْكُرْ السِّنِينَ. 188- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: مِثْلُ مَنْ أَنْتَ حِينَ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: أَنَا يَوْمَئِذٍ مَخْتُونٌ وَكَانُوا لا يَخْتِنُونَ الرَّجُلَ حَتَّى يُدْرِكَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 189- وَعَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أُخْبِرْتُ عَنْ عُثَيْمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: قَدْ أَسْلَمْت، قَالَ: «أَلْقِ عَنْكَ شَعْرَ الْكُفْرِ» يَقُولُ: احْلِقْ.

(1/52)


190- قَالَ: وَأَخْبَرَنِي آخَرُ مَعَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: لآخَرَ: «أَلْقِ عَنْكَ شَعْرَ الْكُفْرِ وَاخْتَتِنْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: خِتَانُ الذَّكَرِ: قَطْعُ الْجِلْدَةِ الَّتِي تُغَطِّي الْحَشَفَةَ وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ تُسْتَوْعَبَ مِنْ أَصْلِهَا عِنْدَ أَوَّلِ الْحَشَفَةِ، وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ أَنْ لا يَبْقَى مِنْهَا مَا يَتَغَشَّى بِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُسَمَّى خِتَانُ الرَّجُلِ: إعْذَارٌ بِذَالٍ، وَخِتَانُ الْمَرْأَةِ: خَفْضًا. قَوْلُهُ: «بِالْقَدُومِ» قَالَ الشَّارِحُ: بِفَتْحِ الْقَافِ وَضَمِّ الدَّالِ وَتَخْفِيفِهَا: آلَةُ النِّجَارَةِ. وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ الْحَدِيثَ فِي هَذَا الْبَابِ لِلاسْتِدْلالِ بِهِ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الْخِتَانِ لا تَخْتَصُّ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي حَالِ الصِّغَرِ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَخْتِنَ الصَّغِيرَ قَبْلَ بُلُوغِهِ، وَيَرُدُّهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَهُمْ أَيْضًا وَجْهٌ أَنَّهُ يُحْرِمُ قَبْلَ عَشْرِ سِنِينَ، وَيَرُدُّهُ حَدِيثُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَتَنَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ يَوْمَ السَّابِعِ مِنْ وِلادَتِهِمَا. أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: وَإِذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ اُسْتُحِبَّ أَنْ يخْتنَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ وِلادَتِهِ. بَابُ أَخْذِ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ 191- عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنَّا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. 192- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «جُزُّوا الشَّوَارِبَ وَأَرْخُوا اللِّحَى، خَالِفُوا الْمَجُوسَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 193- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ وَفِّرُوا اللِّحَى وَاحْفُوا الشَّوَارِبَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. زَادَ الْبُخَارِيُّ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا حَجَّ أَوْ اعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَمَا فَضَلَ أَخَذَهُ.

(1/53)


قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَدِّ مَا يُقَصُّ مِنْ الشَّارِبِ، وَقَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ إلَى اسْتِئْصَالِهِ وَحَلْقِهِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: «أَحْفُوا وَانْهَكُوا» . وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ، وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إلَى مَنْعِ الْحَلْقِ وَالاسْتِئْصَالِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَكَانَ يَرَى تَأْدِيبَ مَنْ حَلَقَهُ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَقَالَ حَنْبَلٌ: قِيلَ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: تَرَى لِلرَّجُلِ يَأْخُذُ شَارِبَهُ وَيُحْفِيهِ أَمْ كَيْفَ يَأْخُذُهُ؟ قَالَ: إنْ أَحْفَاهُ فَلا بَأْسَ، وَإِنْ أَخَذَهُ قَصًّا فَلا بَأْسَ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي الْمُغْنِي: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُحْفِيَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَقُصَّهُ. قَوْلُهُ: «وَأَرْخُوا اللِّحَى» مَعْنَاهُ اُتْرُكُوهَا وَلا تَتَعَرَّضُوا لَهَا بِتَغْيِيرٍ. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ حَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الأَحَادِيثِ خَمْسُ رِوَايَاتٍ «اعْفُوا» ، «وَأَوْفُوا» ، «وَأَرْخُوا» ، «وَأَرْجُوا» ، «وَوَفِّرُوا» ، وَمَعْنَاهَا كُلُّهَا: تَرْكُهَا عَلَى حَالِهَا. بَابُ كَرَاهَةِ نَتْفِ الشَّيْبِ 194- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تَنْتِفُوا الشَّيْبَ فَإِنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَشِيبُ شَيْبَةً فِي الإِسْلامِ إلا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً وَرَفَعَهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ نَتْفِ الشَّيْبِ لأَنَّهُ مُقْتَضَى النَّهْيِ حَقِيقَةً عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَقَدْ ذَهَبَتْ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَغَيْرُهُمْ إلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ. بَابُ تَغْيِيرِ الشَّيْبِ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ وَنَحْوِهِمَا وَكَرَاهَةِ السَّوَادِ 195- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جِيءَ بِأَبِي قُحَافَةَ يَوْمَ الْفَتْحِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَأَنَّ رَأْسَهُ ثَغَامَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اذْهَبُوا بِهِ إلَى بَعْضِ نِسَائِهِ فَلْتُغَيِّرْهُ بِشَيْءٍ وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ. 196- وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ خِضَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ شَابَ إلا يَسِيرًا وَلَكِنَّ أَبَا

(1/54)


بَكْرٍ وَعُمَرَ بَعْدَهُ خَضَّبَا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 197- وَزَادَ أَحْمَدُ قَالَ: وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِأَبِي قُحَافَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ - يَحْمِلُهُ ثُمَّ وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَبِي بَكْرٍ: «لَوْ أَقْرَرْت الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ لأَتَيْنَاهُ» . تَكْرِمَةً لأَبِي بَكْرٍ فَأَسْلَمَ وَلِحْيَتُهُ وَرَأْسُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «غَيِّرُوهُمَا وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ» . 198- وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَأَخْرَجَتْ إلَيْنَا مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا هُوَ مَخْضُوبٌ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبُخَارِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ بِالْحِنَّاءِ وَبِالْكَتَمِ. 199- وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ وَيُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 200- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ هَذَا الشَّيْبَ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 201- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 202- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ قَدْ خَضَّبَ بِالْحِنَّاءِ، فَقَالَ: «مَا أَحْسَنَ هَذَا» ، فَمَرَّ آخَرُ قَدْ خَضَّبَ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، فَقَالَ: «هَذَا أَحْسَنُ مِنْ هَذَا» فَمَرَّ آخَرُ، وَقَدْ خَضَّبَ بِالصُّفْرَةِ، فَقَالَ: «هَذَا أَحْسَنُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 203- وَعَنْ أَبِي رَمْثَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْضِبُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ وَكَانَ شَعْرُهُ يَبْلُغُ كَتِفَيْهِ أَوْ مَنْكِبَيْهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 204- وَفِي لَفْظٍ لأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبِي دَاوُد: أَتَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ أَبِي

(1/55)


وَلَهُ لِمَّةٌ بِهَا رَدْعٌ مِنْ حِنَّاءٍ. رَدْعٌ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ: أَيْ لَطْخٌ يُقَالُ بِهِ رَدْعٌ مِنْ دَمٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ. قَوْلُهُ: (وكانَ رأسه ثَغَامَةٌ) إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَغْيِيرِ الشَّيْبِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِاللِّحْيَةِ وَعَلَى كَرَاهَةِ الْخِضَابِ بِالسَّوَادِ، قَالَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ بَلْ الصَّوَابُ أَنَّهُ حَرَامٌ. قَوْلُهُ: «وَالْكَتَمُ» قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالْكَتَمُ مُحَرَّكَةٌ، وَالْكُتْمَانُ بِالضَّمِّ نَبْتٌ يُخْلَطُ بِالْحِنَّاءِ وَيُخْتَضَبُ بِهِ الشَّعْرُ. : وَهُوَ النَّبْتُ الْمَعْرُوفُ بِالْوَسمَةِ يَعْنِي وَرَقَ النِّيلِ. وَفِي كُتُبِ الطِّبِّ أَنَّهُ نَبْتٌ مِنْ نَبْتِ الْجِبَالِ وَوَرَقُهُ كَوَرَقِ الآسِ يُخَضَّبُ بِهِ مَدْقُوقًا. قَوْلُهُ: «السِّبْتِيَّةُ» قَالَ الشَّارِحُ: بِكَسْرِ السِّينِ جُلُودُ الْبَقَرِ، وَكُلُّ جِلْدٍ مَدْبُوغٍ أَوْ بِالْقَرْظِ ذَكَرَهُ فِي الْقَامُوسِ. قَوْلُهُ: (وَيُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ) قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَغْيِيرَ الشَّيْبِ سُنَّةٌ. قَوْلُهُ: «إنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ هَذَا الشَّيْبَ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ» قَالَ الشَّارِحُ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحِنَّاءَ وَالْكَتَمَ مِنْ أَحْسَنِ الصِّبَاغَاتِ الَّتِي يُغَيَّرُ بِهَا الشَّيْبُ. قَوْلُهُ: «إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ» قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي مشروعِيَّةِ الصِّبَاغِ وَتَغْيِيرِ الشَّيْبِ هِيَ مُخَالَفَةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَبِهَذَا يَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُ الْخِضَابِ. قَوْلُهُ: (مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ قَدْ خَضَّبَ بِالْحِنَّاءِ، فَقَالَ: «مَا أَحْسَنَ هَذَا» ، إِلى آخَرهِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الْخَضْبِ بِالْحِنَّاءِ عَلَى انْفِرَادِهِ، فَإِنْ انْضَمَّ إلَيْهِ الْكَتَمُ كَانَ أَحْسَنَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَضْبَ بِالصُّفْرَةِ أَحَبُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.

(1/56)


بَابُ جَوَازِ اتِّخَاذِ الشَّعْرِ وَإِكْرَامِهِ وَاسْتِحْبَابِ تَقْصِيرِهِ 205- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ شَعْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَوْقَ الْوَفْرَةِ وَدُونَ الْجُمَّةِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 206- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَضْرِبُ شَعْرُهُ مَنْكِبَيْهِ. 207- وَفِي لَفْظٍ: كَانَ شَعْرُهُ رَجِلاً لَيْسَ بِالْجَعْدِ؛ وَلا السَّبْطِ بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ. أَخْرَجَاهُ. 208- وَلأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ كَانَ شَعْرُهُ إلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ. 209- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 210- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ التَّرَجُّلِ إلا غِبًّا. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا ابْنَ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 211- وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ جُمَّةٌ ضَخْمَةٌ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَرَهُ أَنْ يُحْسِنَ إلَيْهَا وَأَنْ يَتَرَجَّلَ كُلَّ يَوْمٍ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. قَوْلُهَا: (كَانَ شَعْرُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَوْقَ الْوَفْرَةِ وَدونَ الْجُمَّةِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْوَفْرَةُ: الشَّعْرُ إلَى شَحْمَةِ الأُذُنِ، فَإِذَا جَاوَزَهَا فَهُوَ اللِّمَّةُ، فَإِذَا بَلَغَ الْمَنْكِبَيْنِ فَهُوَ الْجُمَّةُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَرْكِ الشَّعْرِ عَلَى الرَّأْسِ إلَى أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ. قَوْلُهُ: (بَيْنَ أُذُنِيهِ وَعَاتِقِهِ) قَالَ الشَّارِحُ: والحديث يدل على استحباب ترك الشعر وإرساله بين المنكبين أو بين الأذنين والعاتق. قَوْلُهُ: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ التَّرَجُّلِ إلا غِبًّا) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: التَّرَجُّلُ وَالتَّرْجِيلُ: أَيْ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً كَذَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ. وَفَسَّرَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ بِأَنْ يَسْرَحَهُ يَوْمَا وَيَدَعَهُ يَوْمًا وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ فِي وَقْتٍ دُونَ

(1/57)


وَقْتٍ وَأَصْلُ الْغِبِّ فِي إيرَادِ الإِبِلِ أَنْ تَرِدَ الْمَاءَ يَوْمًا وَتَدَعَهُ يَوْمًا. وَفِي الْقَامُوسِ: الْغِبُّ فِي الزِّيَارَةِ أَنْ تَكُونَ كُلَّ أُسْبُوعٍ وَمِنْ الْحُمَّى مَا تَأْخُذُ يَوْمًا وَتَدَعُ يَوْمًا. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الاشْتِغَالِ بِالتَّرْجِيلِ فِي كُلِّ يَوْمٍ لأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ التَّرَفُّهِ. وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُد قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَنْهَانَا عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الإِرْفَاهِ. قَوْلُهُ: (فَأَمَرَهُ أَنْ يُحْسِنَ إلَيْهَا وَأَنْ يَتَرَجَّلَ كُلَّ يَوْمٍ) . قَالَ الشَّارِحُ: الْحَدِيثُ رِجَالُ إسْنَادِهِ كُلُّهُمْ رِجَالُ الصَّحِيحِ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ وَلَفْظُ الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي جُمَّةً أَفَأُرَجِّلُهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ وَأَكْرِمْهَا» . فَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ رُبَّمَا دَهَنَهَا فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ مِنْ أَجْلِ قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «نَعَمْ وَأَكْرِمْهَا» . وَعَلَى هَذَا فَلا يُعَارِضُ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ فِي النَّهْيِ عَنْ التَّرَجُّلِ إلا غِبًّا لأَنَّ الْوَاقِعَ مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ مُجَرَّدُ الإِذْنِ بِالتَّرْجِيلِ وَالإِكْرَامِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ الْقَزَعِ وَالرُّخْصَةِ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ 212 - عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْقَزَعِ، فَقِيلَ لِنَافِعٍ: مَا الْقَزَعُ؟ قَالَ: أَنْ يُحْلَقَ بَعْضُ رَأْسِ الصَّبِيِّ وَيُتْرَكَ بَعْضٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 213- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى صَبِيًّا قَدْ حَلَقَ بَعْضَ رَأْسِهِ وَتَرَكَ بَعْضَهُ فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: «احْلِقُوا كُلَّهُ أَوْ ذَرُوا كُلَّهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. 214- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمْهَلَ آلَ جَعْفَرٍ ثَلاثًا أَنْ يَأْتِيَهُمْ ثُمَّ أَتَاهُمْ، فَقَالَ: «لا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ اُدْعُوا لِي بَنِي أَخِي» . قَالَ: فَجِيءَ بِنَا كَأَنَّنَا أَفْرُخٌ فَقَالَ: «اُدْعُوا لِي الْحَلاقَ» . قَالَ: فَجِيءَ بِالْحَلاقِ فَحَلَقَ رُءُوسَنَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْحِكْمَةُ فِي كَرَاهَةِ الْقَزَعِ أَنَّهُ يُشَوِّهُ الْخَلْقَ؛ وَقِيلَ: لأَنَّهُ زِيُّ أَهْلِ الشِّرْكِ. وَقِيلَ: لأَنَّهُ زِيُّ الْيَهُودِ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ

(1/58)


حَسَّانَ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَحَدَّثَتْنِي أُخْتِي الْمُغِيرَةُ قَالَتْ: وَأَنْتَ يَوْمَئِذٍ غُلامٌ وَلَكَ قَرْنَانِ أَوْ قُصَّتَانِ فَمَسَحَ رَأْسَكَ وَبَرَّكَ عَلَيْكَ وَقَالَ: احْلِقُوا هَذَيْنِ أَوْ قَصُّوهُمَا فَإِنَّ هَذَا زِيُّ الْيَهُودِ. بَابُ الاكْتِحال والادهان والتَّطيب 215- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مِنْ اكْتَحَلَ فَلْيُوتِرْ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لا فَلا حَرَجَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 216- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَتْ لَهُ مُكْحَلَةٌ يَكْتَحِلُ مِنْهَا كُلَّ لَيْلَةٍ ثَلاثَةً فِي هَذِهِ وَثَلاثَةً فِي هَذِهِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ. 217- وَأَحْمَدُ، وَلَفْظُهُ: كَانَ يَكْتَحِلُ بِالإِثْمِدِ كُلَّ لَيْلَةٍ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ وَكَانَ يَكْتَحِلُ فِي كُلِّ عَيْنٍ ثَلاثَةَ أَمْيَالٍ. 218- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 219- وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْتَجْمِرُ بِالأَلُوَّةِ غَيْرَ مُطْرَاةٍ، وَبِكَافُورٍ يَطْرَحُهُ مَعَ الأَلُوَّةِ وَيَقُولُ: هَكَذَا كَانَ يَسْتَجْمِرُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَمُسْلِمٌ، الأَلُوَّةُ: الْعُودُ الَّذِي يُتَبَخَّرُ بِهِ. 220- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ َنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ طِيبٌ فَلا يَرُدُّهُ فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمَلِ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 221- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي الْمِسْكِ: «هُوَ أَطْيَبُ طِيبِكُمْ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ. 222- وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَطَيَّبُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ بِذِكَارَةِ الطِّيبِ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ. 223- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ طِيبَ الرِّجَالِ مَا ظَهَرَ رِيحُهُ وَخَفِيَ لَوْنُهُ، وَطِيبُ النِّسَاءِ مَا ظَهَرَ

(1/59)


لَوْنُهُ وَخَفِيَ رِيحُهُ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. قَوْلُهُ: «مَنْ اكْتَحَلَ فَلْيُوتِرْ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الإِيتَارِ فِي الْكُحْلِ. قَوْلُهُ: (كَانَ يَسْتَجْمِرُ بِالأَلُوَّةِ غَيْرَ مُطْرَاةٍ) . قَالَ الشَّارِحُ: أَيْ غَيْرُ مَخْلُوطَةٍ بِغَيْرِهَا مِنْ الطِّيبِ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّبَخُّرِ بِالْعُودِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الطِّيبِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ عَلَى الْعُمُومِ. قَوْلُهَا: (بِذِكَارَةِ الطِّيبِ) . قَالَ الشَّارِحُ: الذِّكَارَةُ بِالْكَسْرِ مَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ. وَالْمُرَادُ الطِّيبُ الَّذِي لا لَوْنَ لَهُ؛ لأَنَّ طِيبَ الرِّجَالِ مَا ظَهَرَ رِيحُهُ وَخَفِيَ لَوْنُهُ. بَابُ الإِطْلاءِ بِالنُّورَةِ 224- عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا أَطْلَى بَدَأَ بِعَوْرَتِهِ فَطَلاهَا بِالنُّورَةِ وَسَائِرَ جَسَدِهِ أَهْلُهُ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ وَاثِلَةَ ابْنِ الأَسْقَعِ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أَطْلَى يَوْمَ فَتْحِ خَيْبَرَ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَجَاءَتْ أَحَادِيثُ قَاضِيَةٌ بِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَتَنَوَّرْ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَنَوَّرُ تَارَةً، وَيَحْلِقُ أُخْرَى.

(1/60)


أَبْوَابُ صِفَةِ الْوُضُوءِ فَرْضِهِ وَسُنَنِهِ بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ لَهُ 225- عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذَا الْحَدِيثُ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الإِسْلامِ حَتَّى قِيلَ: إنَّهُ ثُلُثُ الْعِلْمِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ بِقَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ وَلِسَانِهِ وَعَمَلُ الْقَلْبِ أَرْجَحُهَا، لأَنَّهُ يَكُونُ عِبَادَةً بِانْفِرَادِهِ دُونَ الآخَرِينَ. قَالَ الْحَافِظُ: وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي الْمَقَاصِدِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَسَائِلِ وَمِنْ ثَمَّ خَالَفَتْ الْحَنَفِيَّةُ فِي اشْتِرَاطِهَا لِلْوُضُوءِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالنِّيَّةُ: الْقَصْدُ وَهُوَ عَزِيمَةُ الْقَلْبِ. قَوْلُهُ: «وَإِنَّمَا لأمْرِئٍ مَا نَوَى» فِيهِ تَحْقِيقٌ لاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ وَالإِخْلاصِ فِي الأَعْمَالِ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ مَنْ نَوَى شَيْئًا يَحْصُلُ لَهُ، وَكُلُّ مَا لَمْ يَنْوِهِ لَمْ يَحْصُلْ. قَوْلُهُ: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ» . أَيْ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ نِيَّةً وَقَصْدًا، فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ حُكْمًا وَشَرْعًا. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي أَعْمَالِ الطَّاعَاتِ

(1/61)


وَأَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ الأَعْمَالِ بِدُونِهَا غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ. بَابُ التَّسْمِيَةِ لِلْوُضُوءِ 226- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا صَلاةَ لِمَنْ لا وُضُوءَ لَهُ وَلا وُضُوءَ لِمَنْ لا يَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 227- وَلأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَأَبِي سَعِيدٍ مِثْلُهُ، وَالْجَمِيعُ فِي أَسَانِيدِهَا مَقَالٌ قَرِيبٌ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ رَبَاحِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَعْنِي حَدِيثَ: سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَسُئِلَ إِسْحَاقَ بْنُ رَاهْوَيْهِ أَيُّ حَدِيثٍ أَصَحُّ فِي التَّسْمِيَةِ؟ فَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ. قَالَ الْحَافِظُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَجْمُوعَ الأَحَادِيثِ يَحْدُثُ مِنْهَا قُوَّةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَصْلاً. قَالَ الشَّارِحُ: وَالأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّسْمِيَةِ فِي الْوُضُوءِ. وَقَدْ ذَهَبَ إلَى الْوُجُوبِ وَالْفَرْضِيَّةِ الْعِتْرَةُ وَالظَّاهِرِيَّةُ وَإِسْحَاقُ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ فَرْضٌ مُطْلَقًا أَوْ عَلَى الذَّاكِرِ؟ وَاحْتَجَّ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ بِحَدِيثِ «لا تَتِمُّ صَلاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ» . وَقَدْ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ عَلَى الذَّاكِرِ فَقَطْ بِحَدِيثِ «مَنْ تَوَضَّأَ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ كَانَ طُهُورًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ، ومن توضأَ ولم يذكر اسم الله كان طهورًا لأعضاء وضوئه» . وأخرجه الدارقطني والبيهقي. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ اسْتِحْبَابِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الْمَضْمَضَةِ وَتَأْكِيدِهِ لِنَوْمِ اللَّيْلِ 228- عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ فَاسْتَوْكَفَ ثَلاثًا أَيْ غَسَلَ كَفَّيْهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 229- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلا يَغْمِسْ يَدَهُ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاثًا فَإِنَّهُ لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَذْكُرْ الْعَدَدَ. 230- وَفِي لَفْظِ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ» .

(1/62)


231- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلا يُدْخِلْ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ أَوْ أَيْنَ طَافَتْ يَدُهُ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: إسْنَادٌ حَسَنٌ. قَالَ الشَّارِحُ: قَوْلُهُ: «مِنْ نَوْمِهِ» أَخَذَ بِعُمُومِهِ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ فَاسْتَحَبُّوهُ عَقِبَ كُلِّ نَوْمٍ، وَخَصَّهُ أَحْمَدُ وَدَاوُد بِنَوْمِ اللَّيْلِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ إنْ قَامَ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ كُرِهَ لَهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، وَإِنْ قَامَ مِنْ نَوْمِ النَّهَارِ كُرِهَ لَهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ إدْخَالِ الْيَدِ إلَى إنَاءِ الْوَضُوءِ عِنْدَ الاسْتِيقَاظِ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَالأَمْرُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى النَّدْبِ، وَحَمَلَهُ أَحْمَدُ عَلَى الْوُجُوبِ فِي نَوْمِ اللَّيْلِ. وَخَرَجَ بِذِكْرِ الإِنَاءِ الْبِرَكُ وَالْحِيَاضُ الَّتِي لا تُفْسَدُ بِغَمْسِ الْيَدِ فِيهَا عَلَى تَقْدِيرِ نَجَاسَتِهَا فَلا يَتَنَاوَلُهَا النَّهْيُ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا دَلالَةٌ عَلَى أَنَّ الْغَسْلَ سَبْعًا لَيْسَ عَامًّا لِجَمِيعِ النَّجَاسَاتِ كَمَا زَعَمَهُ الْبَعْضُ بَلْ خَاصّ بِنَجَاسَةِ الْكَلْبِ بِاعْتِبَارِ رِيقِهِ، وَالْجُمْهُورُ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ لا يُنَجِّسُ الْمَاءَ إذَا غَمَسَ يَدَهُ فِيهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ حَمَلُوا هَذَا عَلَى الاسْتِحْبَابِ. 232- مِثْلَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيَاشِيمِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَإِنَّمَا مَثَّلَ الْمُصَنِّفُ مَحَلَّ النِّزَاعِ بِهَذَا الْحَدِيثِ لأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الاسْتِنْثَارِ عِنْدَ الاسْتِيقَاظِ، وَلَمْ يَذْهَبْ إلَى وُجُوبِهِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا شُرِعَ لأَنَّهُ يُذْهِبُ مَا يُلْصَقُ بِمَجْرَى النَّفْسِ مِنْ الأَوْسَاخِ وَيُنَظِّفُهُ فَيَكُونُ سَبَبًا لِنَشَاطِ الْقَارِئِ وَطَرْدِ الشَّيْطَانِ. ? بَابُ الْمَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ 233- عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ أَنَّهُ دَعَا بِإِنَاءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ فَغَسَلَهُمَا ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الإِنَاءِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثُمَّ

(1/63)


غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا وَيَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ - ثَلاثَ مَرَّاتٍ - ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ إلَى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 234- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - أَنَّهُ دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَنَثَرَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى، فَفَعَلَ هَذَا ثَلاثًا ثُمَّ قَالَ: هَذَا طُهُورُ نَبِيِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 235- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَسْتَنْثِرْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 236- وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَوْلُهُ: (فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غَسْلَهُمَا فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ سُنَّةٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. قَالَ الشَّارِحُ: قَد اُخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الْمَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ وَالاسْتِنْثَارِ، وَالْمَذْهَب الْحَقّ وُجُوبُ ذلك. قَوْلُهُ: (وَنثَرَ بيدهِ اليسرى) قَالَ الْمُصَنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِيهِ - مَعَ الَّذِي قَبْلَهُ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَسْتَنْشِقَ بِالْيَمِينِ، وَيَسْتَنْثِرَ بِالْيُسْرَى. قَوْلُهُ: (أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ) . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: لَمْ يُسْنِدْهُ عَنْ حَمَّادٍ غَيْرَ هُدْبَةَ وَدَاوُد بْنِ الْمُحَبَّرِ. وَغَيْرُهُمَا يَرْوِيهِ عَنْهُ عَنْ عَمَّارٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا يَذْكُرُ أَبَا هُرَيْرَةَ. قُلْت: وَهَذَا لا يَضُرُّ لأَنَّ هُدْبَةَ ثِقَةٌ مُخَرَّجٌ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَيُقْبَلُ رَفْعُهُ وَمَا يَنْفَرِدُ بِهِ.

(1/64)


بَابُ مَا جَاءَ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِهِمَا عَلَى غَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ 237- عَنْ الْمِقْدَامِ بْن مَعِدِي كَرِبَ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلاثًا، وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا، ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلاثًا ثَلاثًا ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلاثًا ثَلاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 238- وَأَحْمَدُ وَزَادَ: وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاثًا ثَلاثًا. 239- وَعَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ قَالَ: أَتَيْتهَا فَأَخْرَجَتْ إلَيَّ إنَاءً، فَقَالَتْ: فِي هَذَا كُنْتُ أُخْرِجُ الْوَضُوءَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيَبْدَأُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا ثَلاثًا، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ ثَلاثًا، ثُمَّ يُمَضْمِضُ وَيَسْتَنْشِقُ ثَلاثًا، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِرَأْسِهِ مُقْبِلاً وَمُدْبِرًا، ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ وَغَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ. وَحَدِيثُ عُثْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الثَّابِتَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَحَدِيثُ عَلِيٍّ الثَّابِتُ عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِمْ مُصَرِّحَةٌ بِتَقْدِيمِ الْمَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ عَلَى غَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ. وَالْحَدِيثُ مِنْ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ وُجُوبِ التَّرْتِيبِ. وَحَدِيثُ الرَّبِيعِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ وَغَسْلِ الْوَجْهِ. قَالَ الموفق فِي الْمُغْنِي: ولا يجب التَّرْتِيب بَيْنَهما وبين َغَسْل بقية الْوَجْهِ لأَنَّهما من أجزائه، ولكن المستحب أنْ يبدأ بهما قَبْلَ الْوَجْهِ لأن كل من وصف وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر أنه بدأ بهما إلا شيئًا نادرًا. وهل يجب التَّرْتِيب والموالاة بَيْنَهما وبين سائر الأعضاء غير الوجه؟ على روايتين. بَابُ الْمُبَالَغَةِ فِي الاسْتِنْشَاقِ 240- عَنْ لَقِيطِ بْنِ صُبْرَةَ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ الْوُضُوءِ، قَالَ: «أَسْبِغْ الْوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ، وَبَالِغْ فِي الاسْتِنْشَاقِ إلا

(1/65)


أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 241- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «اسْتَنْثِرُوا مَرَّتَيْنِ بَالِغَتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ إسْبَاغِ الْوُضُوءِ. وَالْمُرَادُ بِهِ الإِنْقَاءُ وَاسْتِكْمَالُ الأَعْضَاءِ وَعَلَى وُجُوبِ تَخْلِيلِ الأَصَابِعِ، وَعَلَى وُجُوبِ الاسْتِنْشَاقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلامُ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ، وَإِنَّمَا كَرِهَ الْمُبَالَغَةَ لِلصَّائِمِ خَشْيَةَ أَنْ يَنْزِلَ إلَى حَلْقِهِ مَا يُفْطِرُهُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ غَسْلِ الْمُسْتَرْسِلِ مِنْ اللِّحْيَةِ 242- عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنِي عَنْ الْوُضُوءِ قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ رَجُلٍ يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ فَيَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ فَيَنْتَثِرُ إلا خَرَّتْ خَطَايَا فِيهِ وَخَيَاشِيمِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ إذَا غَسَلَ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ إلا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ إلا خَرَّتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِرَأْسِهِ إلا خَرَّتْ خَطَايَا رَأْسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إلَى الْكَعْبَيْنِ إلا خَرَّتْ خَطَايَا رِجْلَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ» . أَخَرَجَهُ مُسْلِمٌ. 243- وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَقَالَ فِيهِ: «ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إلَى الْكَعْبَيْنِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ مِنْ أَحَادِيثِ فَضَائِلِ الْوُضُوءِ الدَّالَّةِ عَلَى عِظَمِ شَأْنِهِ، وَقَدْ سَاقَه الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلاسْتِدْلالِ بِهِ عَلَى غَسْلِ الْمُسْتَرْسِلِ مِنْ اللِّحْيَةِ، وَقَدْ اسْتَنْبَطَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْحَدِيثِ فَوَائِدَ فَقَالَ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَسْلَ الْوَجْهِ الْمَأْمُورَ بِهِ يَشْتَمِلُ عَلَى وُصُولِ الْمَاءِ إلَى أَطْرَافِ اللِّحْيَةِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دَاخِلَ الْفَمِ وَالأَنْفِ لَيْسَ مِنْ الْوَجْهِ حَيْثُ بَيَّنَ أَنَّ غَسْلَ الْوَجْهِ الْمَأْمُورَ بِهِ غَيْرُهُمَا. وَيَدُلُّ عَلَى مَسْحِ كُلِّ الرَّأْسِ حَيْثُ بَيَّنَ أَنَّ الْمَسْحَ الْمَأْمُورَ بِهِ يَشْتَمِلُ عَلَى وُصُولِ الْمَاءِ إلَى أَطْرَافِ الشَّعْرِ. وَيَدُلُّ

(1/66)


عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ لأَنَّهُ وَصَفَهُ مُرَتَّبًا، وَقَالَ فِي مَوَاضِعَ مِنْهُ: «كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تعالى» . قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلامَ عَلَى أَنَّ دَاخِلَ الْفَمِ وَالأَنْفِ مِنْ الْوَجْهِ. بَابٌ فِي أَنَّ إيصَالَ الْمَاءِ إلَى بَاطِنِ اللِّحْيَةِ الْكَثَّةِ لا يَجِبُ 244- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ فَأَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَتَمَضْمَضَ بِهَا وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَجَعَلَ بِهَا هَكَذَا - أَضَافَهَا إلَى يَدِهِ الأُخْرَى - فَغَسَلَ بِهَا وَجْهَهُ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَرَشَّ بِهَا عَلَى رِجْلِهِ الْيُمْنَى حَتَّى غَسَلَهَا، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا رِجْلَهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ لِلاسْتِدْلالِ بِهِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ إيصَالِ الْمَاءِ إلَى بَاطِنِ اللِّحْيَةِ، فَقَالَ: وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ كَثَّ اللِّحْيَةِ، وَأَنَّ الْغَرْفَةَ الْوَاحِدَةَ وَإِنْ عَظُمَتْ لا تَكْفِي غَسْلَ بَاطِنِ اللِّحْيَةِ الْكَثَّةِ مَعَ غَسْلِ جَمِيعِ الْوَجْهِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لا يَجِبُ. وَفِيهِ أَنَّهُ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ بِمَاءٍ وَاحِدٍ. بَابُ اسْتِحْبَابِ تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ 245- عَنْ عُثْمَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 246- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا تَوَضَّأَ أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَأَدْخَلَهُ تَحْتَ حَنَكِهِ فَخَلَّلَ بِهِ لِحْيَتَهُ، وَقَالَ: «هَكَذَا أَمَرَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلانِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ.

(1/67)


بَابُ تَعَاهُدِ الْمَأقَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ غُضُونِ الْوَجْهِ بِزِيَادَةٍ مَاء 247- عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ وَصَفَ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ ثَلاثًا، ثَلاثًا، قَالَ: وَكَانَ يَتَعَاهَدُ الْمَأقَيْنِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 248- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَلِيًّا - رضي الله عنه - قَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَلا أَتَوَضَّأُ لَكَ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قُلْت: بَلَى فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي قَالَ: فَوَضَعَ إنَاءً فَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدَيْهِ فَصَكَّ بِهِمَا وَجْهَهُ وَأَلْقَمَ إبْهَامَيْهِ مَا أَقْبَلَ مِنْ أُذُنَيْهِ قَالَ: ثُمَّ عَادَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ثَلاثًا ثُمَّ أَخَذَ كَفًّا بِيَدِهِ الْيُمْنَى فَأَفْرَغَهَا عَلَى نَاصِيَتِهِ ثُمَّ أَرْسَلَهَا تَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إلَى الْمِرْفَقِ ثَلاثًا ثُمَّ يَدَهُ الأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْوُضُوءِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَوْقُ الْعَيْنِ مَجْرَى الدَّمْعِ مِنْهَا أَوْ مُقَدَّمُهَا أَوْ مُؤَخِّرُهَا، كَذَا فِي الْقَامُوسِ، قَالَ الأَزْهَرِيُّ: أَجْمَعَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ الْمَوْقَ وَالْمَاقُ مُؤَخِّرُ الْعَيْنِ الَّذِي يَلِي الأَنْفَ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْمُرَادُ بِهِمَا فِي الْحَدِيثِ مَخْصِرُ الْعَيْنَيْنِ. قَوْلُهُ: (وَأَلْقَمَ إبْهَامَيْهِ مَا أَقْبَلَ مِنْ أُذُنَيْهِ) قَالَ الشَّارِحُ: واستدل الماوردي على أن الْبَيَاضِ الَّذِي بَيْنَ الأُذُنِ وَالْعِذَارِ مِنْ الْوَجْهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ رَأَى أَنَّ مَا أَقْبَلَ مِنْ الأُذُنَيْنِ مِنْ الْوَجْهِ. بَابُ غَسْلِ الْيَدَيْنِ مَعَ الْمِرْفَقَيْنِ وَإِطَالَةِ الْغُرَّةِ 249- عَنْ عُثْمَانَ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ: هَلُمَّ أَتَوَضَّأُ لَكُمْ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ حَتَّى مَسَّ أَطْرَافِ الْعَضُدَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِيَدَيْهِ عَلَى أُذُنَيْهِ وَلِحْيَتِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. 250- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ، ثُمَّ

(1/68)


غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ، وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَنْتُمْ الْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ إسْبَاغِ الْوُضُوءِ فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ فَلْيُطِلْ غُرَّتَهُ وَتَحْجِيلَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَوْلُهُ: (حَتَّى مَسَّ أَطْرَافَ الْعَضُدَيْنِ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الْمِرْفَقَيْنِ. قَوْلُهُ: (حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ) الحديث. قَالَ الشَّارِحُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ وَغَيْرُهُ مُصَرِّحٌ بِاسْتِحْبَابِ تَطْوِيلِ الْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ. وَالْغُرَّةُ: غَسْلُ شَيْءٍ مِنْ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ أَوْ مَا يُجَاوِزُ الْوَجْهَ زَائِدًا عَلَى الْجُزْءِ الَّذِي يَجِبُ غَسْلُهُ. وَالتَّحْجِيلُ: غَسْلُ مَا فَوْقَ الْمِرْفَقَيْنِ وَالْكَعْبَيْنِ وَهُمَا مُسْتَحَبَّانِ بِلا خِلافٍ وَاخْتُلِفَ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَبِّ عَلَى أَوْجُهٍ، قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَيَتَوَجَّهُ مِنْهُ وُجُوبُ غَسْلِ الْمِرْفَقَيْنِ لأَنَّ نَصَّ الْكِتَابِ يَحْتَمِلُهُ وَهُوَ مُجْمَلٌ فِيهِ، وَفِعْلُهُ عليه السَّلام بَيَانٌ لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ وَمُجَاوَزَتُهُ لِلْمِرْفَقِ لَيْسَ فِي مَحَلِّ الإِجْمَالِ لِيَجِبْ بِذَلِكَ. بَابُ تَحْرِيكِ الْخَاتَمِ وَتَخْلِيلِ الأَصَابِعِ وَدَلْكِ مَا يَحْتَاجُ إلَى دَلْكٍ 251- عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا تَوَضَّأَ حَرَّكَ خَاتَمَهُ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ. 252- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا تَوَضَّأْت فَخَلِّلْ أَصَابِعَ يَدَيْكَ وَرِجْلَيْكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ. 253- وَعَنْ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا تَوَضَّأَ خَلَّلَ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ بِخِنْصَرِهِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا أَحْمَدَ. 254- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ فَجَعَلَ يَقُولُ هَكَذَا - يَدْلُكُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَوْلُهُ: (كَان إذَا تَوَضَّأَ حرَّك خاتمه) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

(1/69)


والحديث يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَحْرِيكِ الْخَاتَمِ لِيَزُولَ مَا تَحْتَهُ مِنْ الأَوْسَاخِ، وَكَذَلِكَ مَا يُشْبِهُ الْخَاتَمَ مِنْ الأَسْوِرَةِ وَالْحِلْيَةِ وَنَحْوِهِمَا. قَوْلُهُ: «إذَا تَوَضَّأْت فَخَلِّلْ أَصَابِعَ يَدَيْكَ وَرِجْلَيْكَ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَالأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَخْلِيلِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَأَحَادِيثُ الْبَابِ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا فَتَنْتَهِضُ لِلْوُجُوبِ. بَابُ مَسْحِ الرَّأْسِ كُلِّهِ وَصِفَتِهِ وَمَا جَاءَ فِي مَسْحِ بَعْضِهِ 255- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 256- وَعَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ عِنْدَهَا وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ فَمَسَحَ الرَّأْسَ كُلَّهُ مِنْ فَوْقِ الشَّعْرِ كُلَّ نَاحِيَةٍ لِمُنْصَبِّ الشَّعْرِ لا يُحَرِّكُ الشَّعْرَ عَنْ هَيْئَتِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 257- وَفِي لَفْظٍ: مَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّتَيْنِ بَدَأَ بِمُؤَخَّرِهِ ثُمَّ بِمُقَدَّمِهِ وَبِأُذُنَيْهِ كِلْتَيْهِمَا ظُهُورِهِمَا وَبُطُونِهِمَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. 258- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ قِطْرِيَّةٌ فَأَدْخَلَ يَدَهُ تَحْتَ الْعِمَامَةِ فَمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ وَلَمْ يَنْقُضْ الْعِمَامَةَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ: (مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ) إِلَى آخِرِهِ قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَأَصَحُّ حَدِيثٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ. وَالْمَشْهُورُ الْمُتَدَاوَلُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ الْبُدَاءَةُ مِنْ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ إلَى مُؤَخَّرِهِ. قَوْلُهُ: (لا يُحَرِّكُ الشَّعْرَ عَنْ هَيْئَتِهِ) قَالَ ابْنُ رَسْلانَ: وَهَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ مَخْصُوصَةٌ بِمَنْ لَهُ شَعْرٌ طَوِيلٌ إذَا رَدَّ يَدَهُ عَلَيْهِ يَنْتَفِشُ، وَلا بَأْسَ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ لِلْمُحْرِمِ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ كَيْفَ تَمْسَحُ الْمَرْأَةُ وَمَنْ لَهُ شَعْرٌ طَوِيلٌ

(1/70)


كَشَعْرِهَا؟ فَقَالَ: إنْ شَاءَ مَسَحَ كَمَا رُوِيَ عَنْ الرُّبَيِّعِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى وَسَطِ رَأْسِهِ ثُمَّ جَرّهَا إلَى مُقَدَّمِهِ ثُمَّ رَفَعَهَا فَوَضَعَهَا حَيْثُ بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ جَرَّهَا إلَى مُؤَخَّرِهِ. قَوْلُهُ: (وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ قِطْرِيَّةٌ) . قَالَ الشَّارِحُ: بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الطَّاءِ وَيُرْوَى بِفَتْحِهِمَا، وَهِيَ نَوْعٌ مِنْ الْبُرُودِ فِيهَا حُمْرَةٌ، وَقِيلَ: هِيَ حُلَلٌ تُحْمَلُ مِنْ الْبَحْرَيْنِ - مَوْضِعٌ قُرْبَ عُمَانَ. قَالَ الأَزْهَرِيُّ: وَيُقَالُ لِتِلْكَ الْقَرْيَةِ: قَطَرُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالطَّاءِ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهَا يَاءُ النِّسْبَةِ كَسَرُوا الْقَافَ وَخَفَّفُوا الطَّاءَ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ بَعْضِ رَأْسِهِ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنْ كَانَ إذَا مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ أَكْمَلَ عَلَى الْعِمَامَةِ. قَالَ: وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَمَقْصُودُ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَنْقُضْ عِمَامَتَهُ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ مَسَّ الشَّعْرِ كُلِّهِ وَلَمْ يَنْفِ التَّكْمِيلَ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ، فَسُكُوتُ أَنَسٍ عَنْهُ لا يَدُلُّ عَلَى نَفِيهِ. بَابُ هَلْ يُسَنُّ تَكْرَارُ مَسْحِ الرَّأْسِ أَمْ لا؟ 259- عَنْ أَبِي حَبَّةَ قَالَ: رَأَيْت عَلِيًّا - رضي الله عنه - تَوَضَّأَ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ حَتَّى أَنْقَاهُمَا ثُمَّ مَضْمَضَ ثَلاثًا وَاسْتَنْشَقَ ثَلاثًا وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا وَذِرَاعَيْهِ ثَلاثًا وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً، ثُمَّ غَسَلَ قَدَمَيْهِ إلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: أَحْبَبْتُ أَنْ أُرِيَكُمْ كَيْفَ كَانَ طُهُورُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 260- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه -: أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ - فَذَكَر الْحَدِيثَ كُلَّهُ - ثَلاثًا ثَلاثًا وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ مَسْحَةً وَاحِدَةً. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 261- وَلأبِي دَاوُدَ عَنْ عُثْمَانَ - رضي الله عنه - أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ: هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ. قَوْلُهُ: (وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ أَنْ يَكُونَ مَرَّةً وَاحِدَةً، قَالَ: وَالإِنْصَافُ أَنَّ أَحَادِيثَ الثَّلاثِ لَمْ تَبْلُغْ إلَى دَرَجَةِ الاعْتِبَارِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَيُحْمَلُ مَا وَرَدَ مِنْ الأَحَادِيثِ فِي تَثْلِيثِ الْمَسْحِ إنْ صَحَّتْ عَلَى إرَادَةِ الاسْتِيعَابِ بِالْمَسْحِ لا أَنَّهَا

(1/71)


مَسَحَاتٌ مُسْتَقِلَّةٌ لِجَمِيعِ الرَّأْسِ جَمْعًا بَيْنَ الأَدِلَّةِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ عُثْمَانَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ بِذِكْرِ الْعَدَدِ ثَلاثًا ثَلاثًا إلا فِي الرَّأْسِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: أَحَادِيثُ عُثْمَانَ الصِّحَاحُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى مَسْحِ الرَّأْسِ أَنَّهُ مَرَّةً. فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا الْوُضُوءَ ثَلاثًا وَقَالُوا: فِيهَا وَمَسَحَ رَأْسَهُ وَلَمْ يَذْكُرُوا عَدَدًا كَمَا ذَكَرُوا فِي غَيْرِهِ. بَابُ أَنَّ الأُذُنَيْنِ مِنْ الرَّأْسِ وَأَنَّهُمَا يُمْسَحَانِ بِمَائِهِ قَدْ سَبَقَ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ. 262- وَلابْنِ مَاجَهْ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الأُذُنَانِ مِنْ ... الرَّأْسِ» . 263- وَعَنْ الصُّنَابِحِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ فَتَمَضْمَضَ خَرَجَتْ الْخَطَايَا مِنْ فِيهِ» . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: «فَإِذَا مَسَحَ بِرَأْسِهِ خَرَجَتْ الْخَطَايَا مِنْ رَأْسِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ أُذُنَيْهِ» . رَوَاهُ مَالِكٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. قَوْلُهُ: «الأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ» . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الأُذُنَيْنِ مِنْ الرَّأْسِ فَيُمْسَحَانِ مَعَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. قَوْلُهُ: «حتَّى تَخْرُجَ مِنْ أُذُنَيْهِ» قَالَ الشَّارِحُ: سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا لِلاسْتِدْلالِ بِهِ عَلَى أَنَّ الأُذُنَيْنِ يُمْسَحَانِ مَعَ الرَّأْسِ قَالَ: فَقَوْلُهُ: «تَخْرُجَ مِنْ أُذُنَيْهِ» إذَا مَسَحَ رَأْسَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الأُذُنَيْنِ دَاخِلَتَانِ فِي مُسَمَّاهُ مِنْ جُمْلَتِهِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: لَمْ يَثْبُت عَنْهُ أَنَّهُ أَخَذَ لَهُمَا مَاءً جَدِيدًا وَإِنَّمَا صَحَّ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. بَابُ مَسْحِ ظَاهِرِ الأُذُنَيْنِ وَبَاطِنِهِمَا 264- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ ظَاهِرِهِمَا

(1/72)


وَبَاطِنِهِمَا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 265- وَلِلنَّسَائِيِّ: مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ بَاطِنَهُمَا بِالْمُسْبَحَتَيْنِ وَظَاهِرَهُمَا بِإِبْهَامَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ مَسْحِ الأُذُنَيْنِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. بَابُ مَسْحِ الصُّدْغَيْنِ وَأَنَّهُمَا مِنْ الرَّأْسِ 226- عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَمَسَحَ مَا أَقْبَلَ مِنْهُ وَمَا أَدْبَرَ وَصُدْغَيْهِ وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالا: حَدِيثٌ حَسَنٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الصُّدْغُ بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الدَّالِ: الْمَوْضِعُ الَّذِي بَيْنَ الْعَيْنِ وَالأُذُنِ وَالشَّعْرِ الْمُتَدَلِّي عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ مَسْحِ الصُّدْغِ وَالأُذُنِ. وَأَنَّ مَسَحَهُمَا مَعَ الرَّأْسِ وَأَنَّهُ مَرَّةً وَاحِدَةً. بَابُ مَسْحِ الْعُنُقِ 267- عَنْ لَيْثٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ رَأْسَهُ حَتَّى بَلَغَ الْقَذَالَ وَمَا يَلِيهِ مِنْ مُقَدَّمِ الْعُنُقِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ فِيهِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سَلِيمٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ فِي مَسْحِ الْعُنُقِ حَدِيثُ أَلْبَتَّةَ. انْتَهَى. ورُوِيَ عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنَّه مَسْحَ عُنُقِه. قَالَ الشَّارِحُ: وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِاسْتِحْبَابِ مَسْحِ الرَّقَبَةِ هَلْ تُمْسَحُ بِبَقِيَّةِ مَاءِ الرَّأْسِ أَوْ بِمَاءٍ جَدِيدٍ؟ بَابُ جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ 268- عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ

(1/73)


عَلَى عِمَامَتِهِ وَخُفَّيْهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. 269- وَعَنْ بِلالٍ قَالَ: مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ وَأَبَا دَاوُد. 270- وَفِي رِوَايَةٍ لأَحْمَدَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «امْسَحُوا عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ» . 271- وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْعِمَامَةِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 272- وَعَنْ سَلْمَانَ أَنَّهُ رَأَى رَجُلاً قَدْ أَحْدَثَ - وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَخْلَعَ خُفَّيْهِ - فَأَمَرَهُ سَلْمَانُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ وَعَلَى عِمَامَتِهِ وَقَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ عَلَى خُفَّيْهِ وَعَلَى خِمَارِهِ. 273- وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ. رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. 274- وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَرِيَّةً فَأَصَابَهُمْ الْبَرْدُ فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - شَكَوْا إلَيْهِ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْبَرْدِ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى الْعَصَائِبِ وَالتَّسَاخِينِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. الْعَصَائِبُ: الْعَمَائِمُ، وَالتَّسَاخِينُ: الْخِفَافُ. قَوْلُهُ: (وَالْخِمَارُ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ النَّصِيفُ، وَكُلُّ مَا سَتَرَ شَيْئًا فَهُوَ خِمَارُهُ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْعِمَامَةُ. قَالَ: وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، فَذَهَبَ إلَى جَوَازِهِ الأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد بْنُ عَلِيٍّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّ صَحَّ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبِهِ أَقُولُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَنَسٌ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَحْتَاجُ الْمَاسِحُ عَلَى الْعِمَامَةِ إلَى لُبْسِهَا عَلَى طَهَارَةٍ أَوْ لا يَحْتَاجُ؟ وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي التَّوْقِيتِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى عَدَمِ جَوَازِ الاقْتِصَارِ عَلَى مَسْحِ الْعِمَامَةِ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ الْمَسْحُ عَلَى

(1/74)


الرَّأْسِ فَقَطْ وَعَلَى الْعِمَامَةِ فَقَطْ، وَعَلَى الرَّأْسِ وَالْعِمَامَةِ، وَالْكُلُّ صَحِيحٌ ثَابِتٌ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَسْح مَا يَظْهَرُ مِنْ الرَّأْسِ غَالِبًا مِنْ الْعِمَامَةِ 275- عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ وَالْخُفَّيْنِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حديث الْمُغِيرَةِ لَمْ يُخَرِّجْهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ الْحَافِظُ: وَقَدْ وَهِمَ الْمُنْذِرِيُّ فَعَزَاهُ إلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَتَبِعَ فِي ذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَوَهِمَ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي، وَصَرَّحَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ. أ. هـ. بَابُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَبَيَانُ أَنَّهُ الْفَرْضُ 276- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمرو قَالَ: تَخَلَّفَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفْرَةٍ فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَنَا الْعَصْرُ فَجَعَلْنَا نَتَوَضَّأُ وَنَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا قَالَ: فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ» مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. أَرْهَقْنَا الْعَصْرَ: أَخَّرْنَاهَا. وَيُرْوَى أَرْهَقَتْنَا الْعَصْرُ بِمَعْنَى دَنَا وَقْتُهَا. 277- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلاً لَمْ يَغْسِلْ عَقِبَهُ، فَقَالَ: «وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 278- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَوْمًا تَوَضَّئُوا وَلَمْ يَمَسَّ أَعْقَابَهُمْ الْمَاءُ، فَقَالَ: «وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 279- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ... «وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ، وَبُطُونِ الأَقْدَامِ مِنْ النَّارِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ. 280- وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ تَوَضَّأَ، وَتَرَكَ عَلَى ظَهْرِ قَدَمِهِ مِثْلَ مَوْضِعِ الظُّفْرِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ: وَقَالَ:

(1/75)


تَفَرَّدَ بِهِ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ قَتَادَةَ وَهُوَ ثِقَةٌ. قَوْلُهُ: «وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ» قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ عَلَى مَذَاهِبَ فَذَهَبَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى فِي الأَعْصَارِ وَالأَمْصَارِ إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ غَسْلُ الْقَدَمَيْنِ مَعَ الْكَعْبَيْنِ وَلا يُجْزِئُ مَسْحُهُمَا وَلا يَجِبُ الْمَسْحُ مَعَ الْغَسْلِ، وَلَمْ يَثْبُتْ خِلافُ هَذَا عَنْ أَحَدٍ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الإِجْمَاعِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَهَذِهِ الأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ. بَابُ التَّيَمُّنِ فِي الْوُضُوءِ 281- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطَهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 282- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا لَبِسْتُمْ، وَإِذَا تَوَضَّأْتُمْ فَابْدَءُوا بِأَيَامِنِكُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِي الْحَدِيثِ دَلالَةٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الابْتِدَاءِ بِالْيَمِينِ فِي لُبْسِ النِّعَالِ وَفِي تَرْجِيلِ الشَّعْرِ أَيْ تَسْرِيحِهِ وَفِي الطُّهُورِ فَيَبْدَأُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى قَبْلَ الْيُسْرَى وَبِرِجْلِهِ الْيُمْنَى قَبْلَ الْيُسْرَى وَبِالْجَانِبِ الأَيْمَنِ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ فِي الْغُسْلِ قَبْلَ الأَيْسَرِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: قَاعِدَةُ الشَّرْعِ الْمُسْتَمِرَّةُ اسْتِحْبَابُ الْبُدَاءَةِ بِالْيَمِينِ فِي كُلِّ مَا كَانَ مِنْ بَابِ التَّكْرِيمِ وَالتَّزْيِينِ وَمَا كَانَ بِضِدِّهَا اُسْتُحِبَّ فِيهِ التَّيَاسُرُ، قَالَ: وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْيَمِينِ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ مَنْ خَالَفَهَا فَاتَهُ الْفَضْلُ وَتَمَّ وُضُوؤُهُ. بَابُ الْوُضُوءِ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ وَثَلاثًا وَكَرَاهَةِ مَا جَاوَزَهَا 283- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّةً مَرَّةً. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا مُسْلِمًا. 284- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ. رَوَاهُ

(1/76)


أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ. 285- وَعَنْ عُثْمَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ ثَلاثًا ثَلاثًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 286- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُهُ عَنْ الْوُضُوءِ فَأَرَاهُ ثَلاثًا ثَلاثًا، وَقَالَ: «هَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْوُضُوءِ مَرَّةً، وَلِهَذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا لَمَا اقْتَصَرَ عَلَى مَرَّةٍ. قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيّ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي غَسْلِ الأَعْضَاءِ مَرَّةً مَرَّةً، وَعَلَى أَنَّ الثَّلاثَ سُنَّةٌ، وَقَدْ جَاءَتْ الأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِالْغَسْلِ مَرَّةً مَرَّةً، وَمَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَثَلاثًا ثَلاثًا، وَبَعْضُ الأَعْضَاءِ ثَلاثًا، وَبَعْضُهَا مَرَّتَيْنِ، وَالاخْتِلافُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَنَّ الثَّلاثَ هِيَ الْكَمَالُ وَالْوَاحِدَةُ تُجْزِئُ. قوله: «هَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُجَاوَزَةَ الثَّلاثِ الْغَسَلاتِ مِنْ الاعْتِدَاءِ فِي الطُّهُورِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: لا يَزِيدُ عَلَى الثَّلاثِ إلا رَجُلٌ مُبْتَلًى. بَابُ مَا يَقُولُ إذَا فَرَغَ مِنْ وُضُوئِهِ 287- عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إلا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ، يَدْخُلُ مِنْ أَيُّهَا شَاءَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 288- وَلأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد فِي رِوَايَةٍ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ رَفَعَ نَظَرَهُ إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ» . وَسَاقَ الْحَدِيثَ. قال الشارح رحمه الله: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ، وَلَمْ يَصِحَّ مِنْ أَحَادِيثِ الدُّعَاءِ فِي الْوُضُوءِ غَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَلا

(1/77)


يَثْبُتُ عَنْ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - غَيْرُ التَّسْمِيَةِ فِي أَوَّلِهِ. وَقَوْلُهُ: «أَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ الْمُتَطَهِّرِينَ» فِي آخِرِهِ. بَابُ الْمُوَالاةِ فِي الْوُضُوءِ 289- عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانُ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ لُمْعَةٌ قَدْرَ الدِّرْهَمِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَزَادَ: «وَالصَّلاةَ» . قَالَ الأَثْرَمُ: قُلْتُ لأَحْمَدَ: هَذَا إسْنَادُهُ جَيِّدٌ؟ ، قَالَ: جَيِّدٌ. 290- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلاً تَوَضَّأَ فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفْرٍ عَلَى قَدَمِهِ، فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ» . قَالَ: فَرَجَعَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَلَمْ يَذْكُرْ فَتَوَضَّأَ. قالَ الشارح رحمه الله: وَالْحَدِيثُ الأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إعَادَةِ الْوُضُوءِ مِنْ أَوَّلِهِ عَلَى مَنْ تَرَكَ مِنْ غَسْلِ أَعْضَائِهِ مِثْلَ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ. وَالْحَدِيثُ الثَّانِي لا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الإِعَادَةِ لأَنَّهُ أَمَرَهُ فِيهِ بِالإِحْسَانِ لا بِالإِعَادَةِ، وَالإِحْسَانُ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ إسْبَاغِ غَسْلِ ذَلِكَ الْعُضْوِ. فَالْحَدِيثُ الأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْمُوَالاةِ، وَالْحَدِيثُ الثَّانِي يَدُلّ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ. انْتَهَى. وَقَال الموفق في المغني: والْمُوَالاة الواجبة أن لا يترك غسل عضو حتى يمضي زمن يجف فيه العضو الذي قبله في الزمان المعتدل. وقال ابن عقيل في رواية أخرى: إن حد التفريق المبطل ما يفحش في العادة لأنه لم يحد في الشرح فيرجع فيه إلى العادة كالأحراز والتفرق في البيع. بَابُ جَوَازِ الْمُعَاوَنَةِ فِي الْوُضُوءِ 291- عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ، وَأَنَّهُ ذَهَبَ لِحَاجَةٍ لَهُ، وَأَنَّ مُغِيرَةَ جَعَلَ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ

(1/78)


وَيَدَيْهِ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. أَخْرَجَاهُ. 292- وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ، قَالَ: صَبَبْتُ الْمَاءَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ فِي الْوُضُوءِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الاسْتِعَانَةِ بِالْغَيْرِ فِي الْوُضُوءِ. بَابُ الْمِنْدِيلِ بَعْدَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ 293- عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: زَارَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَنْزِلِنَا، فَأَمَرَ لَهُ سَعْدٌ بِغُسْلٍ فَوُضِعَ لَهُ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ نَاوَلَهُ مِلْحَفَةً مَصْبُوغَةً بِزَعْفَرَانٍ، أَوْ وَرْسٍ فَاشْتَمَلَ بِهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ كَرَاهَةِ التَّنْشِيفِ.

(1/79)


أَبْوَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَابٌ فِي شَرْعِيَّتِهِ 294- عَنْ جَرِيرٍ أَنَّهُ بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ فَقِيلَ لَهُ: تَفْعَلُ هَكَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، قَالَ إبْرَاهِيمُ: فَكَانَ يُعْجِبُهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ؛ لأَنَّ إسْلامَ جَرِيرٍ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 295- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ سَعْدًا حَدَّثَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ عُمَرَ، قَالَ: نَعَمْ إذَا حَدَّثَك سَعْدٌ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا فَلا تَسْأَلْ عَنْهُ غَيْرَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ. 296- وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: كُنْت مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَسِيت؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتَ نَسِيت بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: رَوَى الْمَسْحَ سَبْعُونَ نَفْسًا فِعْلاً مِنْهُ وَقَوْلاً. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: لَيْسَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ عَنْ الصَّحَابَةِ اخْتِلافٌ؛ لأَنَّ كُلَّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْهُمْ إنْكَارُهُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ إثْبَاتُهُ.

(1/80)


بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْمُوقَيْنِ وَعَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ جَمِيعًا 297- عَنْ بِلالٍ قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ عَلَى الْمُوقَيْنِ وَالْخِمَارِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 298- وَلأَبِي دَاوُد: كَانَ يَخْرُجُ يَقْضِي حَاجَتَهُ فَآتِيهِ بِالْمَاءِ فَيَتَوَضَّأُ وَيَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَمُوقَيْهِ. 299- وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ عَنْ بِلالٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «امْسَحُوا عَلَى النَّصِيفِ وَالْمُوقِ» . 300- وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْخُفُّ نَعْلٌ مِنْ أَدَمٍ يُغَطِّي الْكَعْبَيْنِ وَالْجُرْمُوقُ أَكْبَرُ مِنْهُ يُلْبَسُ فَوْقَهُ، وَالْجَوْرَبُ أَكْبَرُ مِنْ الْجُرْمُوقِ. قال: والحديث يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْمُوقَيْنِ وَهُمَا ضَرْبٌ مِنْ الْخِفَافِ، وَهُوَ مَقْطُوعُ السَّاقَيْنِ، وَعَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبِ وَهُوَ لِفَافَةُ الرِّجْلِ قَالَهُ فِي الضِّيَاءِ وَالْقَامُوسِ، وَعَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ. قِيلَ: وَإِنَّمَا يَجُوزُ عَلَى النَّعْلَيْنِ إذَا لَبِسَهُمَا فَوْقَ الْجَوْرَبَيْنِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلا يَجُوزُ مَسْحُ الْجَوْرَبَيْنِ إلا أَنْ يَكُونَا مُنَعَّلَيْنِ يُمْكِنُ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ فِيهِمَا. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قال الموفق في المغني: إنما يجوز المسح على الجورب بشرطين: أحدهما أن يكون صفيقًا لا يبدو منه شيء من القدم، والثاني أن يمكن متابعة المشي فيه، وهذا ظاهر كلام الخرقي. قال أحمد في المسح على الجوربين بغير نعل: إذا كان يمشي عليهما ويثبتان في رجليه فلا بأس، وفي موضع قال: يمسح عليهما إذا ثبتا في العقب، وفي موضع قال: إن كان يمشي فيه فلا ينثني فلا بأس بالمسح عليه، فإنه إذا انثنى ظهر موضع الوضوء ولا يعتبر أن يكون مجلدين. انْتَهَى. بَابُ اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ قَبْلَ اللُّبْسُِ 301- عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: كُنْت مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي مَسِيرٍ فَأَفْرَغْت عَلَيْهِ مِنْ الإِدَاوَةِ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ وَمَسَحَ

(1/81)


بِرَأْسِهِ ثُمَّ أَهْوَيْت لأَنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقَالَ: «دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 302- وَلأَبِي دَاوُد: «دَعْ الْخُفَّيْنِ فَإِنِّي أَدْخَلْت الْقَدَمَيْنِ الْخُفَّيْنِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ» . فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا. 303- وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَمْسَحُ أَحَدُنَا عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، إذَا أَدْخَلَهُمَا وَهُمَا طَاهِرَتَانِ» . رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ. 304- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ رِجْلَيْك لَمْ تَغْسِلْهُمَا؟ قَالَ: «إنِّي أَدْخَلْتهمَا وَهُمَا طَاهِرَتَانِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 305- وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ: أَمَرَنَا - يَعْنِي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ إذَا نَحْنُ أَدْخَلْنَاهُمَا عَلَى طُهْرٍ ثَلاثًا إذَا سَافَرْنَا وَيَوْمًا وَلَيْلَةً إذَا أَقَمْنَا، وَلا نَخْلَعَهُمَا مِنْ غَائِطٍ وَلا بَوْلٍ وَلا نَوْمٍ وَلا نَخْلَعَهُمَا إلا مِنْ جَنَابَةٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ صَحِيحُ الإِسْنَادِ. 306- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهُ رَخَّصَ لِلْمُسَافِرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهِنَّ، وَلِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً - إذَا تَطَهَّرَ فَلَبِسَ خُفَّيْهِ - أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا. رَوَاهُ الأَثْرَمُ فِي سُنَنِهِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالدَّارَقُطْنِيّ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ صَحِيحُ الإِسْنَادِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَإِنِّي أَدْخَلْتهمَا طَاهِرَتَيْنِ» هُوَ يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ فِي اللُّبْسِ لِتَعْلِيلِهِ عَدَمَ النَّزْعِ بِإِدْخَالِهِمَا طَاهِرَتَيْنِ، وَهُوَ مُقْتَضٍ أَنَّ إدْخَالَهُمَا غَيْرَ طَاهِرَتَيْنِ يَقْتَضِي النَّزْعَ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ إكْمَالَ الطَّهَارَةِ فِيهِمَا شَرْطٌ. بَابُ تَوْقِيتِ مُدَّةِ الْمَسْحِ قَدْ أَسْلَفْنَا فِيهِ عَنْ صَفْوَانَ وَأَبِي بَكْرَةَ.

(1/82)


307- وَرَوَى شُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ قَالَ: سَأَلْت عَائِشَةَ عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَتْ: سَلْ عَلِيًّا فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِهَذَا مِنِّي، كَانَ يُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلْته فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لِلْمُسَافِرِ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهِنَّ، وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. 308- وَعَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقَالَ: «لِلْمُسَافِرِ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهِنَّ وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيث يَدُلّ عَلَى تَوْقِيتِ الْمَسْحِ بِثَلاثَةِ أَيَّامٍ لِلْمُسَافِرِ، وَاليَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِلْمُقِيمِ، وفي الحديث دليل على أن الخفاف لا تنزع في هذه المدة المقدرة لشيءٍ من الأحداث إلا للجنابة. بَابُ اخْتِصَاصِ الْمَسْحِ بِظَهْرِ الْخُفّ 309- عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلاهُ، لَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ. 310- وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ عَلَى ظُهُورِ الْخُفَّيْنِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُهُ: عَلَى الْخُفَّيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِمَا، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. 311- وَعَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ عَنْ وَرَّادٍ - كَاتِب الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَسَحَ أَعْلَى الْخُفَّ وَأَسْفَلَهُ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ مَعْلُولٌ لَمْ يُسْنِدْهُ عَنْ ثَوْرٍ غَيْرُ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَسَأَلْت أَبَا زُرْعَةَ وَمُحَمَّدًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالا: لَيْسَ بِصَحِيحٍ. قَوْلُهُ: (لو كان الدين بالرأي) إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ ... تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسْحَ الْمَشْرُوعَ وَهُوَ مَسْحُ ظَاهِرِ الْخُفِّ دُونَ بَاطِنِهِ، إِلِى أَنْ قَالَ: وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِمَسْحِ ظَاهِرِ الْخُفِّ وَبَاطِنِهِ بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ، وَفِيهِ

(1/83)


مَقَالٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ تَعَارُضٌ، غَايَةُ الأَمْرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَسَحَ تَارَةً عَلَى بَاطِنِ الْخُفِّ وَظَاهِرِهِ، وَتَارَةً اقْتَصَرَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ مَا يَقْضِي بِالْمَنْعِ مِنْ إحْدَى الصِّفَتَيْنِ.

(1/84)


أَبْوَابُ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ بَابُ الْوُضُوءِ بِالْخَارِجِ مِنْ السَّبِيلِ 312- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ حَضْرَمَوْتَ: مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ فُسَاءٌ أَوْ ضُرَاطٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 313- وَفِي حَدِيثِ صَفْوَانَ - فِي الْمَسْحِ - «لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ» . وَسَنَذْكُرُهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْمُرَادُ بِالْحَدَثِ الْخَارِجُ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ، وَإِنَّمَا فَسَّرَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بِأَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ تَنْبِيهًا بِالأَخَفِّ عَلَى الأَغْلَظِ، وَلأَنَّهُمَا قَدْ يَقَعَانِ فِي الصَّلاةِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِمَا. وَاسْتُدِلَّ بِالحديث عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لا يَجِبُ لِكُلِّ صَلاةٍ، وَعَلَى بُطْلانِ الصَّلاةِ بِالْحَدَثِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ الْوُضُوءِ مِنْ الْخَارِجِ النَّجِسِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ 314- عَنْ مَعْدَانُ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَاءَ فَتَوَضَّأَ فَلَقِيت ثَوْبَانَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: صَدَقَ أَنَا صَبَبْت لَهُ وَضُوءَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هُوَ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ. 315- وَعَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ

(1/85)


عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلَسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ، ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلاتِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لا يَتَكَلَّمُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: الْحُفَّاظُ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ جُرَيْجٍ يَرْوُونَهُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُرْسَلاً. 316- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى غَسْلِ مَحَاجِمِهِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْقَيْءَ مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ. قوله: «مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلَسٌ» . قَالَ الشَّارِحُ: هُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَاللامِ وَيُرْوَى بِسُكُونِهَا قَالَ الْخَلِيلُ: هُوَ مَا خَرَجَ مِنْ الْحَلْقِ مِلْءَ الْفَمِ أَوْ دُونَهُ وَلَيْسَ بِقَيْءٍ وَإِنْ عَادَ فَهُوَ الْقَيْءُ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْقَلَسُ مَا خَرَجَ مِنْ الْجَوْفِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ كَلامِ الْخَلِيلِ. وَالْحَدِيثُ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْقَيْءَ وَالرُّعَافَ وَالْقَلَسَ وَالْمَذْيَ نَوَاقِضُ لِلْوُضُوءِ قال: وحَدِيث أنسٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خُرُوجَ الدَّمِ لا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ صَحَّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِنْ يَسِيرِ الدَّمِ وَيُحْمَلُ حَدِيثُ أَنَسٍ عَلَيْهِ، وَمَا قَبْلَهُ عَلَى الْكَثِيرِ الْفَاحِشِ كَمَذْهَبِ أَحْمَدَ وَمَنْ وَافَقَهُ جَمْعًا بَيْنَهُمَا. قَوْلُهُ: (فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ، ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلاتِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لا يَتَكَلَّمُ) . استدل به على أن الحدث لا يفسد الصلاة، والصحيح أنها تبطل به لحديث طلق بن علي عند الخمسة قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيَعد الصَّلاةَ» . بَابُ الْوُضُوءِ مِنْ النَّوْمِ لا الْيَسِيرِ مِنْهُ عَلَى إحْدَى حَالاتِ الصَّلاةِ 317- عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرُنَا - إذَا كُنَّا

(1/86)


سَفَرًا - أَنْ لا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهِنَّ إلا مِنْ جَنَابَةٍ لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 318- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 319- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ، فَإِذَا نَامَتْ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ. السَّهِ: اسْمٌ لِحَلْقَةِ الدُّبُرِ، وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: حَدِيثُ عَلِيٍّ أَثْبَتُ وَأَقْوَى. 320- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُمْت إلَى جَنْبِهِ الأَيْسَرِ فَأَخَذَ بِيَدِي فَجَعَلَنِي مِنْ شِقِّهِ الأَيْمَنِ فَجَعَلْت إذَا أَغْفَيْت يَأْخُذُ بِشَحْمَةِ أُذُنِي قَالَ: فَصَلَّى إحْدَى عَشَرَةَ رَكْعَةً. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 321- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ الآخِرَةَ حَتَّى تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلا يَتَوَضَّئُونَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 322- وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيْسَ عَلَى مَنْ نَامَ سَاجِدًا وُضُوءٌ حَتَّى يَضْطَجِعَ فَإِنَّهُ إذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَيَزِيدُ هُوَ الدَّالانِيُّ، قَالَ أَحْمَدُ: لا بَأْسَ بِهِ. قُلْت: وَقَدْ ضَعَّفَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ الدَّالانِيِّ هَذَا لإِرْسَالِهِ قَالَ شُعْبَةُ إنَّمَا سَمِعَ قَتَادَةَ مِنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ فَذَكَرَهَا وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا. قَوْلِهِ: «لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ» قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: اسْتَدَلَّ به مَنْ قَالَ: بِأَنَّ النَّوْمَ نَاقِضٌ. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ ثَمَانِيَةٍ - إِلَى أَنْ قَالَ -: الْمَذْهَبُ الثَّامِنُ: أَنَّهُ إذَا نَامَ جَالِسًا مُمَكِّنًا مَقْعَدَتَهُ مِنْ الأَرْضِ لَمْ يُنْقَضْ، سَوَاءٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي الصَّلاةِ أَوْ خَارِجِهَا، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَعِنْدَهُ أَنَّ النَّوْمَ لَيْسَ حَدَثًا فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى

(1/87)


خُرُوجِ الرِّيحِ، وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ حَدِيثُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ، وَهَذَا أَقْرَبُ الْمَذَاهِبِ عِنْدِي وَبِهِ يُجْمَعُ بَيْنَ الأَدِلَّةِ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ الأَحَادِيثَ الْمُطْلَقَةَ فِي النَّوْمِ تُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدَةِ بِالاضْطِجَاعِ. فَائِدَةٌ: قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ زَوَالَ الْعَقْلِ بِالْجُنُونِ وَالإِغْمَاءِ وَالسُّكْرِ بِالْخَمْرِ أَوْ النَّبِيذِ أَوْ الْبَنْجِ أَوْ الدَّوَاءِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، سَوَاءٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُمَكِّنَ الْمِقْعَدَةِ أَوْ غَيْرَ مُمَكِّنِهَا. قَوْلُهُ: «العين وِكَاءُ السَّهِ» قَالَ الشَّارِحُ: بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْهَاءِ الْمُخَفَّفَةِ: الدُّبُرُ. وَالْحَدِيثَانِ يَدُلانِ عَلَى أَنَّ النَّوْمَ مَظِنَّةُ للنَّقْضِ لا أَنَّهُ بِنَفْسِهِ نَاقِضٌ. قوله: «لَيْسَ عَلَى مَنْ نَامَ سَاجِدًا وُضُوءٌ حَتَّى يَضْطَجِعَ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّوْمَ لا يَكُونُ نَاقِضًا إلا فِي حَالَةِ الاضْطِجَاعِ، وَقَدْ سَلَفَ أَنَّهُ الرَّاجِحُ. بَابُ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الْمَرْأَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وَقُرِئَ (أَوْ لَمَسْتُمْ) 323- عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ لَقِيَ امْرَأَةً يَعْرِفُهَا فَلَيْسَ يَأْتِي الرَّجُلُ مِنْ امْرَأَتِهِ شَيْئًا إلا قَدْ أَتَاهُ مِنْهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُجَامِعْهَا؟ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ} الآيَةَ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «تَوَضَّأْ ثُمَّ صَلِّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ. 324- وَعَنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ ثُمَّ يُصَلِّي وَلا يَتَوَضَّأُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ أَبُو دَاوُد: هُوَ مُرْسَلٌ. إبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ فِي هَذَا الْبَابِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلاً.

(1/88)


325- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: إنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيُصَلِّي وَإِنِّي لَمُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ اعْتِرَاضَ الْجِنَازَةِ حَتَّى إذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ مَسَّنِي بِرِجْلِهِ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 326- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فَقَدْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةً مِنْ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَضَعْت يَدِي عَلَى بَاطِنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك، وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك، وَأَعُوذُ بِك مِنْك لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالآيَةُ الْمَذْكُورَةُ اسْتَدَلَّ بِهَا مَنْ قَالَ: بِأَنَّ لَمْسَ الْمَرْأَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ. قال: وَالْحَدِيثُ يعني حديث عَائِشَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَمْسَ الْمَرْأَةِ لا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَوْسَطُ مَذْهَبٍ يَجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الأَحَادِيثِ مَذْهَبُ مَنْ لا يَرَى اللَّمْسَ يَنْقُضُ إلا لِشَهْوَةٍ. وعن ابن عباس في قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ} قال: هو الجماع، ولكن الله كريم يكني. وقال إبراهيم: اللمس من شهوة ينقض الوضوء. قال الموفق في المغني: ولا يختص اللمس الناقض باليد، بل أي شيء منه لاقى شيئًا من بشرتها مع الشهوة انتقض وضوؤه به. بَابُ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الْقُبُلِ 327- عَنْ بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلا يُصَلِّي حَتَّى يَتَوَضَّأَ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: هُوَ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ. 328- وَفِي رِوَايَةٍ لأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ بُسْرَةَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «وَيَتَوَضَّأُ مَنْ مَسَّ الذَّكَرَ» ، وَهَذَا يَشْمَلُ ذَكَرَ نَفْسِهِ وَذَكَرَ غَيْرِهِ. 329- وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ مَسَّ

(1/89)


فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالأَثْرَمُ وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو زُرْعَةَ. 330- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَفْضَى بِيَدِهِ إلَى ذَكَرِهِ لَيْسَ دُونَهُ سِتْرٌ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. 331- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مَسَّتْ فَرْجَهَا فَلْتَتَوَضَّأْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَمْسَ الذَّكَرِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ. وَكَذَلِكَ مَسُّ فَرْجِ الْمَرْأَةِ. وَاحْتَجَّ من لا يرى النقض بِحَدِيثِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنِ مَاجَهْ وَأَحْمَدَ وَالدَّارَقُطْنِيّ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: الرَّجُلُ يَمَسُّ ذَكَرَهُ أَعَلَيْهِ وُضُوءٌ؟ فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّمَا هُوَ بَضْعَةٌ مِنْك» . وَادَّعَى فِيهِ النَّسْخَ ابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَالْحَازِمِيُّ، وَآخَرُونَ. إِلِى أَنْ قَالَ: فَالظَّاهِرُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الأَوَّلُونَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: «مَنْ أَفْضَى بِيَدِهِ إلَى ذَكَرِهِ لَيْسَ دُونَهُ سِتْرٌ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ» قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ، وَهُوَ يَرُدُّ مَذْهَبَ مَنْ قَالَ بِالنَّدْبِ. وَيَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْحَائِلِ بَيْنَ الْيَدِ وَالذَّكَرِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهُوَ يَمْنَعُ تَأْوِيلَ غَيْرِهِ عَلَى الاسْتِحْبَابِ، وَيَثْبُتُ بِعُمُومِهِ النَّقْضُ بِبَطْنِ الْكَفِّ وَظَهْرِهِ، وَيَنْفِيه بِمَفْهُومِهِ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ وَبِغَيْرِ الْيَدِ. 322- وَفِي لَفْظٍ لِلشَّافِعِيِّ: «إِذَا أَفْضَى أَحَدُكُمْ إلَى ذَكَرِهِ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَلْيَتَوَضَّأْ» . بَابُ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ 333- عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: «إنْ شِئْت تَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْت فَلا تَتَوَضَّأْ» . قَالَ: أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، تَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ» . قَالَ: أُصَلِّي فِي مَرَابِضِ

(1/90)


الْغَنَمِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: أُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الإِبِلِ؟ قَالَ: «لا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 334- وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ، فَقَالَ: «تَوَضَّئُوا مِنْهَا» . وَسُئِلَ عَنْ لُحُومِ الْغَنَمِ، فَقَالَ: (لا تَوَضَّئُوا مِنْهَا» . وَسُئِلَ عَنْ الصَّلاةِ فِي مُبَارَكِ الإِبِلِ، فَقَالَ: «لا تُصَلُّوا فِيهَا فَإِنَّهَا مِنْ الشَّيَاطِينِ» . وَسُئِلَ عَنْ الصَّلاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، فَقَالَ: «صَلُّوا فِيهَا فَإِنَّهَا بَرَكَةٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 335- وَعَنْ ذِي الْغُرَّةِ قَالَ: عَرَضَ أَعْرَابِيٌّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَسُولُ اللَّهِ يَسِيرُ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُدْرِكُنَا الصَّلاةُ وَنَحْنُ فِي أَعْطَانِ الإِبِلِ أَفَنُصَلِّي فِيهَا؟ فَقَالَ: «لا» ، قَالَ: أَفَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، قَالَ: أَفَنُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . قَالَ: أَفَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِهَا؟ ... قَالَ: «لا» . رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الأَكْلَ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ مِنْ جُمْلَةِ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: حُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فِي لُحُومِ الإِبِلِ قُلْت بِهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَدْ صَحَّ فِيهِ حَدِيثَانِ: حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ النقض بِمَا عِنْدَ الأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ كَانَ آخِرُ الأَمْرَيْنِ عنْهُ - صلى الله عليه وسلم - عَدَمَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ عَامٌّ وَحَدِيثُ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ خَاصٌّ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ، وَعَدَمُ وُجُوبِهِ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ. وَعَلَى الْمَنْعِ مِنْ الصَّلاةِ فِي مَبَارِكِ الإِبِلِ، وَالإِذْنِ بِهَا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ. بَابُ الْمُتَطَهِّرِ يَشُكُّ هَلْ أَحْدَثَ؟ 336- عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ: شُكِيَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاةِ، فَقَالَ: «لا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ

(1/91)


يَجِدَ رِيحًا» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. 337- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لا؟ فَلا يَخْرُجْ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى إطرَاحِ الشُّكُوكِ الْعَارِضَةِ لِمَنْ فِي الصَّلاةِ، وَالْوَسْوَسَةُ الَّتِي جَعَلَهَا - صلى الله عليه وسلم - مِنْ تَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ وَعَدَمِ الانْتِقَالِ إلا لِقِيَامِ نَاقِلٍ مُتَيَقِّنٍ كَسَمَاعِ الصَّوْتِ وَشَمِّ الرِّيحِ وَمُشَاهَدَةِ الْخَارِجِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الإِسْلامِ وَقَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ، وَهِيَ أَنَّ الأَشْيَاءَ يُحْكَمُ بِبَقَائِهَا عَلَى أُصُولِهَا حَتَّى يُتَيَقَّنَ خِلافُ ذَلِكَ وَلا يَضُرُّ الشَّكُّ الطَّارِئُ عَلَيْهَا. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «فلا يَخْرُج من الْمَسْجِدِ» . قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَهَذَا اللَّفْظُ عَامٌّ فِي حَالِ الصَّلاةِ وَغَيْرِهَا. بَابُ إيجَابِ الْوُضُوءِ لِلصَّلاةِ وَالطَّوَافِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ 338- عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ وَلا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ. 339- وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ كِتَابًا وَكَانَ فِيهِ: «لا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إلا طَاهِرٌ» . رَوَاهُ الأَثْرَمُ وَالدَّارَقُطْنِيّ. 340- وَهُوَ لِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأ مُرْسَلاً عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو ابْنِ حَزْمٍ أنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «أَنْ لا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إلا طَاهِرٌ» . وَقَالَ الأَثْرَمُ: وَاحْتَجَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي أَحْمَدَ - بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: ... «وَلا يَمَسَّ الْمُصْحَفَ إلا عَلَى طَهَارَةٍ» . 341- وَعَنْ طَاوُسٍ عَنْ رَجُلٍ قَدْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:

(1/92)


«إنَّمَا الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاةٌ فَإِذَا طُفْتُمْ فَأَقِلُّوا الْكَلامَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَكِتَابُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ تَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالْقَبُولِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إنَّهُ أَشْبَهَ الْمُتَوَاتِرَ لِتَلَقِّي النَّاسِ لَهُ بِالْقَبُولِ. وَقَالَ يَعْقُوب بْنُ سُفْيَانَ: لا أَعْلَمُ كِتَابًا أَصَحَّ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّابِعِينَ يَرْجِعُونَ إلَيْهِ وَيَدَعُونَ رَأْيَهُمْ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: قَدْ شَهِدَ عُمَرُ بْنُ ... عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيُّ لِهَذَا الْكِتَابِ بِالصِّحَّةِ. انْتَهَى. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ مَسُّ الْمُصْحَفِ إلا لِمَنْ كَانَ طَاهِرًا، وَقَدْ وَقَعَ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ دَاوُد. وَأَمَّا الْمُحْدِثُ حَدَثًا أَصْغَرَ فَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وغيره إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ مَسُّ الْمُصْحَفِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: لا يَجُوزُ. قوله: «إنَّمَا الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاةٌ فَإِذَا طُفْتُمْ فَأَقِلُّوا الْكَلامَ» قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الطَّوَافُ عَلَى طَهَارَةٍ كَطَهَارَةِ الصَّلاةِ، وَفِيهِ خِلافٌ مَحَلُّهُ كِتَابُ الْحَجِّ.

(1/93)


أَبْوَابُ مَا يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لأَجْلِهِ بَابُ اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ وَالرُّخْصَةُ فِي تَرْكِهِ 342- عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَارِظٍ أَنَّهُ وَجَدَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ عَلَى الْمَسْجِدِ فَقَالَ: إنَّمَا أَتَوَضَّأُ مِنْ أَثْوَارِ أَقِطٍ أَكَلْتهَا لأَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «تَوَضَّأوا مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ» . 343- وَعَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «تَوَضَّأوا مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ» . 344- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَهُ. رَوَاهُنَّ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 345- وَعَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: أَكَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ كَتِفِ شَاةٍ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. 346- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ قَالَ: رَأَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا فَدُعِيَ إلَى الصَّلاةِ، فَقَامَ وَطَرَحَ السِّكِّينَ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 347- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَكَلْت مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ خُبْزًا وَلَحْمًا فَصَلَّوْا وَلَمْ يَتَوَضَّئُوا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 348- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ آخِرُ الأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.

(1/94)


قَوْلُهُ: «تَوَضَّأوا مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْخِلافَ كَانَ فِي الصَّدْرِ الأَوَّلِ ثُمَّ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لا يَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ أَكْلِ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذِهِ النُّصُوصُ إنَّمَا تَنْفِي الإِيجَابَ لا الاسْتِحْبَابَ وَلِهَذَا قَالَ لِلَّذِي سَأَلَهُ: أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ 349-: «إنْ شِئْت فَتَوَضَّأْ وَإِنْ شِئْت فَلا تَتَوَضَّأْ» . وَلَوْلا أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ لَمَا أَذِنَ فِيهِ، لأَنَّهُ إسْرَافٌ وَتَضْيِيعٌ لِلْمَاءِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ. بَابُ فَضْلِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلاةٍ 350- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتهمْ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ بِوُضُوءٍ، وَمَعَ كُلِّ وُضُوءٍ بِسِوَاكٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. 351- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ، قِيلَ لَهُ: فَأَنْتُمْ كَيْفَ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ مَا لَمْ نُحْدِثْ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا مُسْلِمًا. 352- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ أُمِرَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلاةٍ طَاهِرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ، فَلَمَّا شُقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ أُمِرَ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ، وَوُضِعَ عَنْهُ الْوُضُوءُ إلا مِنْ حَدَثٍ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَرَى أَنَّ بِهِ قُوَّةً عَلَى ذَلِكَ، كَانَ يَفْعَلُهُ حَتَّى مَاتَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 353- وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ - بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ - عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ عَلَى طُهْرٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ» . قَوْلُهُ: «لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتهمْ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ بِوُضُوءٍ» قال

(1/95)


الشَّارحُ رحمه الله: وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلاةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الأَكْثَرِ، بَلْ حَكَى النَّوَوِيُّ عَنْ الْقَاضِي عِيَاضٍ أَنَّهُ أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْفَتْوَى، وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمْ خِلافٌ. قَوْلُهُ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ) إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلاةٍ وَعَدَمِ وُجُوبِهِ. بَابُ اسْتِحْبَابِ الطَّهَارَةِ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالرُّخْصَةِ فِي تَرْكِهِ 354- عَنْ الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَتَوَضَّأُ - فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ وُضُوئِهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ: «إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْك إلا أَنِّي كَرِهْت أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إلا عَلَى طَهَارَةٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ بِنَحْوِهِ. 355- وَعَنْ أَبِي جُهَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: أَقْبَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 356- وَمِنْ الرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيٍّ. 357- وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ. وَسَنَذْكُرُهُمَا. 358- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ بِغَيْرِ إسْنَادٍ. قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ وُضُوئِهِ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الذِّكْرِ لِلْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ، وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد ( وَهُوَ يَبُولُ) ، وَيُعَارِضُهُ مَا سَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ، فَإِنَّ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: (لا يَحْجِزُهُ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَيْسَ الْجَنَابَةَ) ، فَإِذَا كَانَ الْحَدَثُ الأَصْغَرُ لا يَمْنَعُهُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَهُوَ أَفْضَلُ الذِّكْرِ كَانَ جَوَازُ مَا عَدَاهُ مِنْ الأَذْكَارِ بِطَرِيقِ الأَوْلَى. بَابُ اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ لِمَنْ أَرَادَ النَّوْمَ 359- عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أَتَيْت مَضْجَعَك

(1/96)


فَتَوَضَّأْ وُضُوءَك لِلصَّلاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّك الأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْت نَفْسِي إلَيْك، وَوَجَّهْت وَجْهِي إلَيْك، وَفَوَّضْت أَمْرِي إلَيْك، وَأَلْجَأْت ظَهْرِي إلَيْك رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْك لا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَى مِنْك إلا إلَيْك، اللَّهُمَّ آمَنْت بِكِتَابِك الَّذِي أَنْزَلْت وَنَبِيِّك الَّذِي أَرْسَلْت، فَإِنْ مِتّ مِنْ لَيْلَتِك فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ» . قَالَ: فَرَدَّدْتهَا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا بَلَغْت: اللَّهُمَّ آمَنْت بِكِتَابِك الَّذِي أَنْزَلْت، قُلْت: وَرَسُولِك قَالَ: «لا وَنَبِيِّك الَّذِي أَرْسَلْت» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَتَوَضَّأَ» ظَاهِرُهُ اسْتِحْبَابُ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ النَّوْمَ، وَلَوْ كَانَ عَلَى طَهَارَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِمَنْ كَانَ مُحْدِثًا. بَابُ تَأْكِيدِ ذَلِكَ لِلْجُنُبِ وَاسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ لَهُ لأَجْلِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْمُعَاوَدَةِ 360- عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَنَامُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ. إذَا تَوَضَّأَ» . 361- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ - وَهُوَ جُنُبٌ - غَسَلَ فَرْجَهُ وَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ. رَوَاهُمَا الْجَمَاعَةُ. 362- وَلأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا كَانَ جُنُبًا فَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَنَامَ تَوَضَّأَ. 363- وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ لِلْجُنُبِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ أَوْ يَنَامَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 364- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ

(1/97)


لِلْجُنُبِ أَنْ يَنَامَ وَيَأْكُلَ قَبْلَ الاغْتِسَالِ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ مُعَاوَدَةُ الأَهْلِ، وَكَذَلِكَ الشُّرْبُ، وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ. بَابُ جَوَازِ تَرْكِ ذَلِكَ 365- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ - وَهُوَ جُنُبٌ - يَغْسِلُ يَدَيْهِ ثُمَّ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 366- وَعَنْهَا أَيْضًا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا كَانَ لَهُ حَاجَةٌ إلَى أَهْلِهِ أَتَاهُمْ ثُمَّ يَعُودُ وَلا يَمَسُّ مَاءً. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 367- وَلأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْهَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ وَلا يَمَسُّ مَاءً. قَوْلُهَا: (كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ وَهُوَ جُنُبٌ يَغْسِلُ يَدَيْهِ ثُمَّ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ طَرَفٌ مِنْ الْحَدِيثِ وَلَفْظُهُ فِي النَّسَائِيّ: (كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ غَسَلَ يَدَيْهِ ثُمَّ يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ) . قَوْلُهَا: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ وَلا يَمَسُّ مَاءً) . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذَا لا يُنَاقِضُ مَا قَبْلَهُ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَتْرُكُ الْوُضُوءَ أَحْيَانًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَيَفْعَلُهُ غَالِبًا لِطَلَبِ الْفَضِيلَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ مُخْتَصَرًا، وَاقْتَطَعَهُ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ فَأَخْطَأَ فِي اخْتِصَارِهِ إيَّاهُ. وَنَصُّ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ مَا رَوَاهُ أَبُو غَسَّانَ قَالَ: أَتَيْت الأَسْوَدَ بْنَ يَزِيدَ وَكَانَ لِي أَخًا وَصَدِيقًا فَقُلْت: يَا أَبَا عَمرو حَدِّثْنِي مَا حَدَّثَتْك عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ صَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: قَالَتْ: كَانَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَيُحْيِي آخِرَهُ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ قَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ يَنَامُ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ مَاءً، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ النِّدَاءِ الأَوَّلِ وَثَبَ وَرُبَّمَا قَالَتْ: قَامَ فَأَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ وَمَا قَالَتْ: اغْتَسَلَ وَأَنَا أَعْلَمُ مَا تُرِيدُ وَإِنْ نَامَ جُنُبًا تَوَضَّأَ وُضُوءَ الرَّجُلِ لِلصَّلاةِ.

(1/98)


أَبْوَابُ مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ بَابُ الْغُسْلِ مِنْ الْمَنِيِّ 368- عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كُنْت رَجُلاً مَذَّاءً فَسَأَلْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «فِي الْمَذْيِ الْوُضُوءُ، وَفِي الْمَنِيِّ الْغُسْلُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 369- وَلأَحْمَدَ فَقَالَ: «إذَا حَذَفْت الْمَاءَ فَاغْتَسِلْ مِنْ الْجَنَابَةِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ حَاذِفًا فَلا تَغْتَسِلْ» . 370- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحِي مِنْ الْحَقِّ فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ الْغُسْلُ إذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ: «نَعَمْ إذَا رَأَتْ الْمَاءَ» . فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ فَقَالَ: تَرِبَتْ يَدَاك فَبِمَا يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: «فِي الْمَذْيِ الْوُضُوءُ، وَفِي الْمَنِيِّ الْغُسْلُ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ الْمَذْيِ وَأَنَّ الْوَاجِبَ الْوُضُوءُ، وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ الْمَنِيِّ. قَوْلُهُ: (حَذَفْت) يُرْوَى بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا ذَالٌ مُعْجَمَةٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ فَاءٌ، وَهُوَ الرَّمْيُ، وَهُوَ لا يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إلا لِشَهْوَةٍ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَا يَخْرُجُ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ - إمَّا لِمَرَضٍ أَوْ أَبْرِدَةٍ - لا يُوجِبُ الْغُسْلَ.

(1/99)


قَالَ الشَّارِحُ: وَحَدِيثُ أُم سلمة يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى الْمَرْأَةِ بِإِنْزَالِهَا الْمَاءَ. بَابُ إيجَابِ الْغُسْلِ مِنْ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَنَسْخِ الرُّخْصَةِ فِيهِ 371- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ ثُمَّ جَهَدهَا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 372- وَلِمُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ «وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ» . 373- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا قَعَدَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ، ثُمَّ مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 374- وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَلَفْظُهُ: «إذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ وَجَبَ الْغُسْلُ» . 375- وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: إنَّ الْفُتْيَا الَّتِي كَانُوا يَقُولُونَ: الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ رُخْصَةٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ بِهَا فِي أَوَّلِ الإِسْلامِ ثُمَّ أَمَرَنَا بِالاغْتِسَالِ بَعْدَهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 376- وَفِي لَفْظٍ: إنَّمَا كَانَ الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ رُخْصَةٌ فِي أَوَّلِ الإِسْلامِ ثُمَّ نُهِيَ عَنْهَا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 377- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الرَّجُلِ يُجَامِعُ أَهْلَهُ ثُمَّ يُكْسِلُ وَعَائِشَةُ جَالِسَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنِّي لأَفْعَلُ ذَلِكَ أَنَا وَهَذِهِ ثُمَّ نَغْتَسِلُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 378- وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: نَادَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا عَلَى بَطْنِ امْرَأَتِي، فَقُمْت وَلَمْ أُنْزِلْ فَاغْتَسَلْت وَخَرَجْت فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: «لا عَلَيْك. الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» . قَالَ رَافِعٌ: ثُمَّ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ بِالْغُسْلِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَوْلُهُ: «إذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ ثُمَّ جَهَدهَا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إيجَابِ الْغُسْلِ لا يَتَوَقَّفُ

(1/100)


عَلَى الإِنْزَالِ، بَلْ يَجِبُ بِمُجَرَّدِ الإِيلاجِ أَوْ مُلاقَاةِ الْخِتَانِ الْخِتَانَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَدْ أُجْمِعَ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ مَتَى غَابَتْ الْحَشَفَةُ فِي الْفَرْجِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْخِلافُ فِيهِ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ انْعَقَدَ الإِجْمَاعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. قَوْلُهُ: «إذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ وَجَبَ الْغُسْلُ» . قَالَ الشَّارِحُ: «جَاوَزَ» . وَرَدَ بِلَفْظِ الْمُجَاوَزَةِ، وَبِلَفْظِ الْمُلاقَاةِ، وَبِلَفْظِ الْمُلامَسَةِ، وَبِلَفْظِ الإِلْزَاقِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُلاقَاةِ: الْمُحَاذَاةُ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: إذَا غَابَتْ الْحَشَفَةُ فِي الْفَرْجِ فَقَدْ وَقَعَتْ الْمُلاقَاةُ. قَالَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ: وَهَكَذَا مَعْنَى مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ أَيْ قَارَبَهُ وَدَانَاهُ، وَمَعْنَى إلْزَاقِ الْخِتَانِ بِالْخِتَانِ إلْصَاقُهُ بِهِ، وَمَعْنَى الْمُجَاوَزَةِ ظَاهِرٌ. قَالَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ حَاكِيًا عَنْ ابْنِ الْعَرَبِيِّ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةُ اللَّمْسِ وَلا حَقِيقَةُ الْمُلاقَاةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ وَالْكِنَايَةِ عَنْ الشَّيْءِ بِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مُلامَسَةٌ أَوْ مُقَارَبَةٌ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَذَلِكَ أَنَّ خِتَانَ الْمَرْأَةِ فِي أَعْلَى الْفَرْجِ، وَلا يَمَسُّهُ الذَّكَرُ فِي الْجِمَاعِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ ذَكَرَهُ عَلَى خِتَانِهَا. وَلَمْ يُولِجْهُ لَمْ يَجِبْ الْغُسْلُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلا بُدَّ مِنْ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى الْمُلاقَاةِ، وَهُوَ مَا وَقَعَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِلَفْظِ: «إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَتَوَارَتْ الْحَشَفَةُ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» . أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالتَّصْرِيحُ بِلَفْظِ الْوُجُوبِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْحَتْمِ، وَلا خِلافَ فِيهِ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ مُجَرَّدَ مُلاقَاةِ الْخِتَانِ الْخِتَانَ سَبَبٌ لِلْغُسْلِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ حَائِلٌ. بَابُ مَنْ ذَكَرَ احْتِلامًا وَلَمْ يَجِدْ بَلَلاً أَوْ بِالْعَكْسِ 379- عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ أَنَّهَا سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ، فَقَالَ: «لَيْسَ عَلَيْهَا غُسْلٌ حَتَّى تُنْزِلَ. كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ عَلَيْهِ غُسْلٌ حَتَّى يُنْزِلَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ 380- وَالنَّسَائِيُّ مُخْتَصَرًا وَلَفْظُهُ: أَنَّهَا سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْمَرْأَةِ تَحْتَلِمُ فِي مَنَامِهَا، فَقَالَ: «إذَا رَأَتْ الْمَاءَ فَلْتَغْتَسِلْ» .

(1/101)


381- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الرَّجُلِ يَجِدُ الْبَلَلَ وَلا يَذْكُرُ احْتِلامًا، فَقَالَ: «يَغْتَسِلُ» . وَعَنْ الرَّجُلِ يَرَى أَنْ قَدْ احْتَلَمَ، وَلا يَجِدُ الْبَلَلَ، فَقَالَ: «لا غُسْلَ عَلَيْهِ» . فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: الْمَرْأَةُ تَرَى ذَلِكَ عَلَيْهَا الْغُسْلُ؟ قَالَ: «نَعَمْ، إنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إذَا وَقَعَ الإِنْزَالُ، وَالْحَدِيثُ الثاني يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ مُجَرَّدِ وُجُودِ الْمَنِيِّ سَوَاءٌ انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ ظَنُّ الشَّهْوَةِ أَمْ لا. قَالَ ابْنُ رَسْلانَ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ. بَابُ وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ 382- عَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّهُ أَسْلَمَ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَغْتَسِلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا ابْنَ مَاجَهْ. 383- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنْ ثُمَامَةَ أَسْلَمَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اذْهَبُوا بِهِ إلَى حَائِطِ بَنِي فُلانٍ فَمُرُوهُ أَنْ يَغْتَسِلَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْغُسْلِ لِمَنْ أَسْلَمَ. وَقَدْ ذَهَبَ إلَى الْوُجُوبِ مُطْلَقًا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُنُبًا أَجْزَأَهُ الْوُضُوءُ، وَأَوْجَبَهُ الْهَادِي وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَدْ أَجْنَبَ حَالَ الْكُفْرِ - إلى أَنْ قَالَ - وَالظَّاهِرُ الْوُجُوبُ؛ لأَنَّ أَمْرَ الْبَعْضِ قَدْ وَقَعَ بِهِ التَّبْلِيغُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ الْغُسْلِ مِنْ الْحَيْضِ 384- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ كَانَتْ تُسْتَحَاضُ فَسَأَلَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا مَيَّزَتْ دَمَ الْحَيْضِ مِنْ دَمِ الاسْتِحَاضَةِ تَعْتَبِرُ دَمَ الْحَيْضِ وَتَعْمَلُ عَلَى إقْبَالِهِ وَإِدْبَارِهِ،

(1/102)


فَإِذَا انْقَضَى قَدْرُهُ اغْتَسَلَتْ عَنْهُ ثُمَّ صَارَ حُكْمُ دَمِ الاسْتِحَاضَةِ حُكْمَ الْحَدَثِ فَتَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاةٍ لا تُصَلِّي بِذَلِكَ الْوُضُوءِ أَكْثَرَ مِنْ فَرِيضَةٍ وَاحِدَةٍ مُؤَدَّاةٍ أَوْ مَقْضِيَّةٍ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: «تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلاةٍ» . قَالَ الْحَافِظُ: وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ. بَابُ تَحْرِيمِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ 385- عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْضِي حَاجَتَهُ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَيَأْكُلُ مَعَنَا اللَّحْمَ وَلا يَحْجُبُهُ - وَرُبَّمَا قَالَ: لا يَحْجِزُهُ - مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَيْسَ الْجَنَابَةَ) . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. 386- لَكِنَّ لَفْظَ التِّرْمِذِيِّ مُخْتَصَرٌ: (كَانَ يُقْرِئُنَا الْقُرْآنَ عَلَى كُلِّ حَالٍ مَا لَمْ يَكُنْ جُنُبًا) . وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. 387- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَقْرَأُ الْجُنُبُ، وَلا الْحَائِضُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. 388- وَعَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلا النُّفَسَاءُ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْئًا» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجُنُبَ لا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ - إلَى أن قالَ - وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمْ يَرَ فِي الْقِرَاءَةِ لِلْجُنُبِ بَأْسًا، وَيُؤَيِّدُهُ التَّمَسُّكُ بِعُمُومِ حَدِيثِ عَائِشَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ) . انْتَهَى. قال الموفق في المغني: وَيَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ قِرَاءَةَ آيَة، فَأَمَّا بَعْضُ آيَة فَإِنْ كَانَ مِمَّا لا يُتَمَيَّز بِهِ الْقُرْآن عَنْ غَيْرِهِ كَالتَّسْمِيَةِ وَالْحَمْدِ للهِ وَسَائِرِ الذِّكْرِ فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْقُرْآنَ فَلا بَأْسَ فَإِنَّهُ لا خِلافَ فِي أَنَّ لَهُمْ ذِكْرَ اللهِ تَعَالَى، وَيَحْتَاجُونَ إِلَى التَّسْمِيّةِ عِنْدَ اغْتِسَالِهِمْ وَلا يمكنهمْ التَّحَرُّز مِنْ هَذَا. وَإِذَا قَصَدُوا بِهِ الْقِرَاءَةَ أَو كَانَ مَا قَرَأُوهُ شَيْئًا يُتَمَيَّز بِهِ الْقُرْآن عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْكَلامِ فَفِيهِ رُوَايَتَانِ. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ لِشَيْخِ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَة: وَيَجُوزُ لِلْحَائِضِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ بِخِلافِ الْجُنُبِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكِ، وَحُكِيَ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدٍ، وَإِنْ ظَنَّتْ نِسْيَانهُ وَجَبَ. انْتَهَى.

(1/103)


قوله: «لا يَقْرَأُ الْجُنُبُ، وَلا الْحَائِضُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ» . قال الشارخ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْحَائِضِ. وَقَدْ قَالَ بِهِ قَوْمٌ. وهَذَا وَاَلَّذِي بَعْدَهُ لا يَصْلُحَانِ لِلاحْتِجَاجِ بِهِمَا. وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ وَهُوَ جُنُبٌ. بَابُ الرُّخْصَةِ فِي اجْتِيَازِ الْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ وَمَنْعِهِ مِنْ اللُّبْثِ فِيهِ إلا أَنْ يَتَوَضَّأَ 389- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنْ الْمَسْجِدِ» . فَقُلْت: إنِّي حَائِضٌ، فَقَالَ: «إنَّ حَيْضَتَك لَيْسَتْ فِي يَدِك» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ. 390- وَعَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْخُلُ عَلَى إحْدَانَا وَهِيَ حَائِضٌ فَيَضَعُ رَأْسَهُ فِي حِجْرِهَا فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهِيَ حَائِضٌ ثُمَّ تَقُومُ إحْدَانَا بِخُمْرَتِهِ فَتَضَعُهَا فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ حَائِضٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 391- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ أَحَدُنَا يَمُرُّ فِي الْمَسْجِدِ جُنُبًا مُجْتَازًا. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ. 392- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْشُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمْ جُنُبٌ. رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. 393- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَوُجُوهُ بُيُوتِ أَصْحَابِهِ شَارِعَةٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: «وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ عَنْ الْمَسْجِدِ» . ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَصْنَعْ الْقَوْمُ شَيْئًا رَجَاءَ أَنْ يَنْزِلَ فِيهِمْ رُخْصَةٌ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ، فَقَالَ: «وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ عَنْ الْمَسْجِدِ فَإِنِّي لا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلا جُنُبٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 394- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَرْحَةَ هَذَا الْمَسْجِدِ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «إنَّ الْمَسْجِدَ لا يَحِلُّ لِحَائِضٍ وَلا لِجُنُبٍ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

(1/104)


قَوْلُهُ: «نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنْ الْمَسْجِدِ» . قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هِيَ السَّجَّادَةُ يَسْجُدُ عَلَيْهَا الْمُصَلِّي، وَهِيَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ قَدْرُ مَا يَضَعُ عَلَيْهِ الْمُصَلِّي وَجْهَهُ فَقَطْ، وَقَدْ تَكُونُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ دُخُولِ الْحَائِضِ الْمَسْجِدَ لِلْحَاجَةِ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ هُنَا مَسْجِدَ بَيْتِهِ الَّذِي كَانَ يَتَنَفَّلُ فِيهِ فَيَسْقُطُ الاحْتِجَاجُ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قولُهَا: جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَوُجُوهُ بُيُوتِ أَصْحَابِهِ شَارِعَةٌ فِي الْمَسْجِدِ» . إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلانِ عَلَى عَدَمِ حِلِّ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَهُوَ مَذْهَبُ الأَكْثَرِ، وَقَالَ دَاوُد وَالْمُزَنِيِّ وَغَيْرُهُمْ: إنَّهُ يَجُوزُ مُطْلَقًا. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ: إنَّهُ يَجُوزُ لِلْجُنُبِ إذَا تَوَضَّأَ لِرَفْعِ الْحَدَثِ لا الْحَائِضِ فَتُمْنَعُ - إِلَى أَنْ قَالَ -: وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِجَوَازِهِ لِلْجُنُبِ بِمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ: وَهَذَا يَمْنَعُ بِعُمُومِهِ دُخُولَهُ مُطْلَقًا، لَكِنْ خَرَجَ مِنْهُ الْمُجْتَازُ لِمَا سَبَقَ، وَالْمُتَوَضِّئُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ، قَالَ: 395- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: رَأَيْت رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمْ مُجْنِبُونَ إذَا تَوَضَّئُوا وُضُوءَ الصَّلاةِ. 396- وَرَوَى حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ صَاحِبُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَحَدَّثُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَكُونُ جُنُبًا فَيَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيَتَحَدَّثُ. بَابُ طَوَافِ الْجُنُبِ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَبِأَغْسَالٍ 397- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ.

(1/105)


398- وَلأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ: فِي لَيْلَةٍ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ. 399- وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - طَافَ عَلَى نِسَائِهِ فِي لَيْلَةٍ، فَاغْتَسَلَ عِنْدَ كُلِّ امْرَأَةٍ، مِنْهُنَّ غُسْلاً، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اغْتَسَلْت غُسْلاً وَاحِدًا؟ فَقَالَ: «هَذَا أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عِنْدَ قُدُومِهِ مِنْ سَفَرِهِ وَنَحْوِهِ فِي وَقْتٍ لَيْسَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمٌ مُعَيَّنٌ مَعْلُومٌ فَجَمَعَهُنَّ يَوْمئِذٍ ثُمَّ دَارَ بِالْقَسْمِ عَلَيْهِنَّ بَعْدُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الاغْتِسَالِ عَلَى مَنْ أَرَادَ مُعَاوَدَةَ الْجِمَاعِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا الاسْتِحْبَابُ فَلا خِلافَ فِي اسْتِحْبَابِهِ.

(1/106)


أَبْوَابُ الأَغْسَالِ الْمُسْتَحَبَّةِ بَابُ غُسْلِ الْجُمُعَةِ 400- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 401- وَلِمُسْلِمٍ: «إذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْتِيَ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ» . 402- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَالسِّوَاكُ، وَأَنْ يَمَسَّ مِنْ الطِّيبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 403- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 404- وَعَنْ ابْن عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ بَيْنَا هُوَ قَائِمٌ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، فَنَادَاهُ عُمَرُ: أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ فَقَالَ: إنِّي شُغِلْتُ فَلَمْ أَنْقَلِبْ إلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ التَّأْذِينَ فَلَمْ أَزِدْ عَلَى أَنْ تَوَضَّأْتُ، قَالَ: وَالْوُضُوءَ أَيْضًا وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 405- وَعَنْ سَمُرَة بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ لِلْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنْ اغْتَسَلَ فَذَلِكَ أَفْضَلُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا ابْنُ مَاجَهْ فَإِنَّهُ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ.

(1/107)


406- وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ الْجُمُعَةَ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَمِنْ الْعَوَالِي فَيَأْتُونَ فِي الْعَبَاءِ فَيُصِيبُهُمْ الْغُبَارُ وَالْعَرَقُ فَتَخْرُجُ مِنْهُمْ الرِّيحُ فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنْسَانٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ عِنْدِي فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 407- وَعَنْ أَوْسِ بْن أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ غَسَّلَ وَاغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ وَدَنَا مِنْ الإِمَامِ فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَلَمْ يَذْكُرْ التِّرْمِذِيُّ: (وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ، قال: وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَفُقَهَاءِ الأَمْصَارِ إلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ. قَوْلُهُ: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَالسِّوَاكُ وَأَنْ يَمَسَّ مِنْ الطِّيبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ غُسْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِلتَّصْرِيحِ فِيهِ بِلَفْظِ: وَاجِبٌ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ بِاعْتِبَارِ اقْتِرَانِهِ بِالسِّوَاكِ وَمَسِّ الطِّيبِ، قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِلَفْظِ الْوُجُوبِ تَأْكِيدَ اسْتِحْبَابِهِ كَمَا تَقُولُ: حَقُّكَ عَلَيَّ وَاجِبٌ، وَالْعِدَةُ دَيْنٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَرَنَهُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِالإِجْمَاعِ، وَهُوَ السِّوَاكُ وَالطِّيبُ. قَوْلُهُ: «مَنْ غَسَّلَ وَاغْتَسَلَ» ، وفي رواية أبي داود: «مَنْ غَسلَ رأسه وَاغْتَسَلَ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْغُسْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَعَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّبْكِيرِ، وَالْمَشْيِ وَالدُّنُوِّ مِنْ الإِمَامِ، وَالاسْتِمَاعِ وَتَرْكِ اللَّغْوِ، وَإِنَّ الْجَمْع بَيْن هَذِهِ الأُمُور سَبَبٌ لاسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ. بَابُ غُسْلِ الْعِيدَيْنِ 408- عَنْ الْفَاكِهِ بْنِ سَعْدٍ - وَكَانَ لَهُ صُحْبَةٌ - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ، وَيَوْمَ الْفِطْرِ: وَيَوْمَ النَّحْرِ. وَكَانَ الْفَاكِهُ بْنُ سَعْدٍ يَأْمُرُ

(1/108)


أَهْلَهُ بِالْغُسْلِ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ. رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي الْمُسْنَدِ وَابْنُ مَاجَهْ وَلَمْ يَذْكُرْ الْجُمُعَةَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ غُسْلَ يَوْمِ الْعِيدِ مَسْنُونٌ وَلَيْسَ فِي الْبَابِ مَا يَنْتَهِضُ لإِثْبَاتِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ. بَابُ الْغُسْلِ مِنْ غَسْلِ الْمَيِّتِ 409- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ مَاجَهْ الْوُضُوءَ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: هَذَا مَنْسُوخٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ مَنْ أَرَادَ حَمْلَهُ وَمُتَابَعَتَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ مِنْ أَجْلِ الصَّلاةِ عَلَيْهِ. 410- وَعَنْ مُصْعَبِ بْن شَيْبَةَ عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يُغْتَسَلُ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنْ الْجُمُعَةِ، وَالْجَنَابَةِ، وَالْحِجَامَةِ، وَغَسْلِ الْمَيِّتِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ. 411- ورواه أَبُو دَاوُد وَلَفْظُهُ: إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَغْتَسِلُ. وَهَذَا الإِسْنَادُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ لَكِنْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مُصْعَبُ بْنُ شَيْبَةَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَلا بِالْحَافِظِ. 412- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ امْرَأَةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه - غَسَّلَتْ أَبَا بَكْرٍ حِينَ تُوُفِّيَ ثُمَّ خَرَجَتْ فَسَأَلَتْ مَنْ حَضَرَهَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَقَالَتْ: إنَّ هَذَا يَوْمٌ شَدِيدُ الْبَرْدِ وَأَنَا صَائِمَةٌ فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ غُسْلٍ؟ قَالُوا: لا. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْهُ. قَوْلُهُ: «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ غَسْلِ الْمَيِّتِ وَالْوُضُوءِ عَلَى مَنْ حَمَلَهُ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ - إلى أن قال -: والقول بالاسْتِحْبَاب هُوَ الْحَقّ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الأَدِلَّةِ بِوَجْهٍ مُسْتَحْسَنٍ.

(1/109)


بَابُ الْغُسْلِ لِلإِحْرَامِ وَلِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَدُخُولِ مَكَّةَ 413- عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَجَرَّدَ لإِهْلالِهِ وَاغْتَسَلَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. 414- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ غَسَلَ رَأْسَهُ بِخَطْمِيٍّ وَأُشْنَانٍ، وَدَهَنَهُ بِشَيْءٍ مِنْ زَيْتٍ غَيْرِ كَثِيرٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 415- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: نُفِسَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ بِالشَّجَرَةِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَأْمُرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُهِلَّ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو دَاوُد. 416- وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْعِيدَيْنِ، وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. 417- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لا يَقْدَمُ مَكَّةَ إلا بَاتَ بِذِي طُوًى حَتَّى يُصْبِحَ وَيَغْتَسِلَ ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ نَهَارًا، وَيُذْكَرُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ فَعَلَهُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. 418- وَلِلْبُخَارِيِّ مَعْنَاهُ. 419- وَلِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَغْتَسِلُ لإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِدُخُولِ مَكَّةَ وَلِوُقُوفِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْغُسْلِ عِنْدَ الإِحْرَامِ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الأَكْثَرُ. قَوْلُهُ: (بِخَطْمِيٍّ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْخِطْمِيَّ وَيُفْتَحُ نَبَاتٌ مُحَلِّلٌ مُفَتِّحٌ لَيِّنٌ نَافِعٌ لِعُسْرِ الْبَوْلِ والحصبة والنسا وقرحة الأمعاء والارتعاش ونضج الجراحات وتسكين الوجع، ومع الخل للبهق ووجع الأسنان مضمضة ونهش الهوام وحرق النار وخلط بزره بالماء أو سحيق أصله يجمدانه، ولعابه المستخرج بالماء الحار ينفع المرأة العقيم والمقعد. انْتَهَى.

(1/110)


قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَنْظِيفِ الرَّأْسِ بِالْغَسْلِ وَدَهْنِهِ عِنْدَ الإِحْرَامِ. قَوْلُهُ: (نُفِسَتْ) قَالَ الشَّارِحُ: بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الْفَاءِ: الْوِلادَةُ، وَأَمَّا بِفَتْحِ النُّونِ فَالْحَيْضُ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ هُنَا. قَوْلُهُ: «كَانَ لا يَقْدَمُ مَكَّةَ إلا بَاتَ بِذِي طُوًى حَتَّى يُصْبِحَ وَيَغْتَسِلَ» إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الاغْتِسَالِ لِدُخُولِ مَكَّةَ، قَالَ فِي الْفَتْحِ: قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: الاغْتِسَالُ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ وَلَيْسَ فِي تَرْكِهِ عِنْدَهُمْ فِدْيَةٌ. وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: يَجْزِئ عَنْهُ الْوُضُوءُ. بَابُ غُسْلِ الْمُسْتَحَاضَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ 420- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: اُسْتُحِيضَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اغْتَسِلِي لِكُلِّ صَلَاةٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 421- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ بْنِ عَمْرٍو اُسْتُحِيضَتْ فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَتْهُ عَلَى ذَلِكَ فَأَمَرَهَا بِالْغُسْلِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، فَلَمَّا جَهَدَهَا ذَلِكَ أَمَرَهَا أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِغُسْلٍ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِغُسْلٍ، وَالصُّبْحِ بِغُسْلٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 422- وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ اُسْتُحِيضَتْ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا فَلَمْ تُصَلِّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ لِتَجْلِسْ فِي مِرْكَنٍ فَإِذَا رَأَتْ صُفْرَةً فَوْقَ الْمَاءِ فَلْتَغْتَسِلْ لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ غُسْلًا وَاحِدًا، وَتَغْتَسِلْ لِلْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ غُسْلًا وَاحِدًا، وَتَغْتَسِلْ لِلْفَجْرِ غُسْلًا وَتَتَوَضَّأْ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الِاغْتِسَالِ عَلَيْهَا لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ الْإِمَامِيَّةُ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الِاغْتِسَالُ لِشَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ، وَلَا فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي وَقْتِ انْقِطَاعِ حَيْضِهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ الِاغْتِسَالِ إلَّا

(1/111)


لَإِدْبَارِ الْحَيْضَةِ هُوَ الْحَقُّ، لِفَقْدِ الدَّلِيلِ الصَّحِيحِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، لَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ هَذَا التَّكْلِيفِ الشَّاقِّ، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يَقُومُ فيِمَا دُونَهُ فِي الْمَشَقَّةِ إلَّا خُلَّصُ الْعُبَّادِ، فَكَيْفَ بِالنِّسَاءِ النَّاقِصَاتِ الْأَدْيَانِ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِحَمْلِ أَحَادِيثِ الْغُسْلِ لِكُلِّ صَلَاةٍ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ. قَوْلُهُ: «فَلَمَّا جَهَدَهَا ذَلِكَ أَمَرَهَا أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِغُسْلٍ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى غُسْلٍ وَاحِدٍ لَهُمَا، وَقَدْ أُلْحِقَ بِالْمُسْتَحَاضَةِ الْمَرِيضُ وَسَائِرُ الْمَعْذُورِينَ بِجَامِعِ الْمَشَقَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَهُوَ حُجَّةٌ فِي الْجَمْعِ لِلْمَرْضَى. بَابُ غُسْلِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا أَفَاقَ 423- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: ثَقِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ فَقُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ» . قَالَتْ: فَفَعَلْنَا فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ» فَقُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ» . قَالَتْ: فَفَعَلْنَا فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ. فقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ» ؟ فَقُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَكَرَتْ إرْسَالَهُ إلَى أَبِي بَكْرٍ. وَتَمَامُ الْحَدِيثِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ لَهُ فَوَائِدُ مَبْسُوطَةٌ فِي شُرُوحِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ هَا هُنَا لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الِاغْتِسَالِ لِلْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَقَدْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَهُوَ مُثْقَلٌ بِالْمَرَضِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَأْكِيدِ اسْتِحْبَابِهِ. بَابُ صِفَةِ الْغُسْلِ 424- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ يَبْدَأُ فَيَغْسِلُ

(1/112)


يَدَيْهِ، ثُمَّ يُفْرِغُ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ، وَيُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي أُصُولِ الشَّعْرِ حَتَّى إذَا رَأَى أَنْ قَدْ اسْتَبْرَأَ حَفَنَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ. أَخْرَجَاهُ. 425- وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: ثُمَّ يُخَلِّلُ بِيَدَيْهِ شَعْرَهُ، حَتَّى إذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. 426- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ دَعَا بِشَيْءٍ - نَحْوَ الْحِلَابِ - فَأَخَذَ بِكَفِّهِ فَبَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ أَخَذَ بِكَفَّيْهِ، فَقَالَ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ. أَخْرَجَاهُ. 427- وَعَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: وَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَاءً يَغْتَسِلُ بِهِ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ، ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ غَسَلَ رَأْسَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى جَسَدِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى مِنْ مَقَامِهِ فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ. قَالَتْ: فَأَتَيْتُهُ بِخِرْقَةٍ فَلَمْ يُرِدْهَا، وَجَعَلَ يَنْفُضُ الْمَاءَ بِيَدِهِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ وَلَيْسَ لِأَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ نَفْضُ الْيَدِ. 428- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَتَوَضَّأُ بَعْدَ الْغُسْلِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. 429- وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: تَذَاكَرْنَا غُسْلَ الْجَنَابَةِ عِنْدَ ... رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «أَمَّا أَنَا فَآخُذُ مِلْءَ كَفِّي فَأَصُبُّ عَلَى رَأْسِي، ثُمَّ أُفِيضُ بَعْدُ عَلَى سَائِرِ جَسَدِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ) . يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ الْأَوَّلَ وَقَعَ بِدُونِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ. قَالَ: وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِتَأْخِيرِ الرِّجْلَيْنِ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ: (وُضُوئهُ لِلصَّلَاةِ غَيْرَ رِجْلَيْهِ) وَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ رِوَايَةِ عَائِشَةَ. قَالَ الْحَافِظُ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنهمَا إمَّا بِحَمْلِ رِوَايَةِ عَائِشَةَ عَلَى الْمَجَازِ، وَإِمَّا بِحَمْلِهَا عَلَى حَالَةٍ أُخْرَى، وَبِحَسَبِ اخْتِلَافِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ اخْتَلَفَت أَنْظَارُ الْعُلَمَاءِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى اسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي

(1/113)


الْغُسْلِ، وَعَنْ مَالِكٍ إنْ كَانَ الْمَكَانُ غَيْرَ نَظِيفٍ فَالْمُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُمَا وَإِلَّا فَالتَّقْدِيمُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَفْضَلِ قَوْلَانِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: أَصَحُّهُمَا وَأَشْهُرُهُمَا وَمُخْتَارُهُمَا أَنْ يُكَمِّلَ وُضُوءَهُ. قَالَ: لِأَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ عَنْ عَائِشَةَ وَمَيْمُونَةَ كَذَلِكَ. قَوْلُهُ: (حَتَّى إذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ فِي وُصُولِ الْمَاءِ إلَى مَا يَجِبُ غَسْلُهُ كَالْيَقِينِ. قَوْلُهُ: (نَحْوَ الْحِلَابِ) هُوَ مَا يُحْلَبُ فِيهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْحِلَابُ: إنَاءٌ يَسَعُ قَدْرَ حَلْبَةِ نَاقَةٍ. قَوْلُها: «ثُمَّ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ، ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالْأَرْضِ» . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وفِيهِ دَلِيلُ على اسْتِحْبَابِ دَلْكِ الْيَدِ بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ. قوله: «أَمَّا أَنَا فَآخُذُ مِلْءَ كَفِّي فَأَصُبُّ عَلَى رَأْسِي، ثُمَّ أُفِيضُ بَعْدُ عَلَى سَائِرِ جَسَدِي» . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيهِ مُسْتَدَلٌّ لِمَنْ لَمْ يُوجِبْ الدَّلْكَ وَلَا الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ. بَابُ تَعَاهُدِ بَاطِنِ الشُّعُورِ وَمَا جَاءَ فِي نَقْضِهَا 430- عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعَرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ - لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ - فَعَلَ اللَّهُ بِهِ كَذَا وَكَذَا مِنْ النَّارِ» . قَالَ عَلِيٌّ: فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْتُ شَعْرِي. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَزَادَ: وَكَانَ يَجُزّ شَعْرَهُ - رضي الله عنه -. 431- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي امْرَأَةٌ أَشِدُّ ضَفْرَ

(1/114)


رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ؟ فقَالَ: «لَا، إنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ. 432- وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: بَلَغَ عَائِشَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَأْمُرُ النِّسَاءَ إذَا اغْتَسَلْنَ أَنْ يَنْقُضْنَ رُؤوسَهُنَّ، فَقَالَتْ: يَا عَجَبًا لِابْنِ عَمْرٍو وَهُوَ يَأْمُرُ النِّسَاءَ إذَا اغْتَسَلْنَ بِنَقْضِ رُؤوسِهِنَّ، أَوْ مَا يَأْمُرهُنَّ أَنْ يَحْلِقْنَ رُؤوسَهُنَّ! لَقَدْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ، وَمَا أَزِيدُ عَلَى أَنْ أُفْرِغَ عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ إفْرَاغَاتٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَخْلِيلِ الشَّعْرِ بِالْمَاءِ فِي الْغُسْلِ. قَالَ: وحديث أم سلمة يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ نَقْضَ الضَّفَائِرِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي الْحَدِيث مُسْتَدَلٌّ لِمَنْ لَمْ يُوجِبْ الدَّلْكَ بِالْيَدِ. 433- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَتْ: فَسَأَلَتْ لَهَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِمَعْنَاهُ، قَالَ فِيهِ: وَاغْمِزِي قُرُونَك عِنْدَ كُلِّ حَفْنَةٍ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ بَلِّ دَاخِلِ الشَّعْرِ الْمُسْتَرْسَلِ. بَابُ اسْتِحْبَابِ نَقْضِ الشَّعْرِ لِغُسْلِ الْحَيْضِ وَتَتَبُّعِ أَثَرِ الدَّمِ فِيهِ 434- عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا وَكَانَتْ حَائِضًا: ... «اُنْقُضِي شَعَرَكِ وَاغْتَسِلِي» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. 435- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ غُسْلِهَا مِنْ الْحَيْضِ، فَأَمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ ثُمَّ قَالَ: «خُذِي فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ فَتَطَهَّرِي بِهَا» . قَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا؟ قَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ تَطَهَّرِي بِهَا» . فَاجْتَذَبْتُهَا إلَيَّ فَقُلْتُ: تَتَبَّعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ، غَيْرَ أَنَّ ابْنَ مَاجَهْ وَأَبَا دَاوُد قَالَا: «فِرْصَةً مُمَسَّكَةً» .

(1/115)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيث دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ بِالْفَرْقِ بَيْن الْغُسْلِ لِلْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ. قَوْلُهُ: (فِرْصَةً) هِيَ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَبِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ: الْقِطْعَةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. حَكَاهُ ثَعْلَبُ. وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الْفِرْصَةُ مِنْ الْقُطْنِ أَوْ الصُّوفِ مُثَلَّثَةُ الْفَاءِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْحِكْمَةِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمِسْكِ الْمُخْتَارِ الَّذِي قَالَهُ الْجَمَاهِيرُ: إنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمِسْكِ تَطْيِيبُ الْمَحَلِّ وَدَفْعُ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي قَدْرِ الْمَاءِ فِي الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ 436- عَنْ سَفِينَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ وَيَتَطَهَّرُ بِالْمُدِّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 437- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 438- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ بِإِنَاءٍ يَكُونُ رَطْلَيْنِ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 439- وَعَنْ مُوسَى الْجُهَنِيِّ قَالَ: أُتِيَ مُجَاهِدٌ بِقَدَحٍ حَزَرْتُهُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ فَقَالَ: حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَغْتَسِلُ بِمِثْلِ هَذَا. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 440- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَجْزِئ مِنْ الْغُسْلِ ... الصَّاعُ، وَمِنْ الْوُضُوءِ الْمُدُّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَثْرَمُ. 441- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ قَدَحٍ يُقَال لَهُ الْفَرَقُ. مُتَّفَق عَلَيْهِ. وَالْفَرَقُ: سِتَّةَ عَشَرَ رَطْلًا بِالْعِرَاقِيِّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الْإِسْرَافِ فِي الْمَاءِ لِلْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ، وَاسْتِحْبَابِ الِاقْتِصَادِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ

(1/116)


الْإِسْرَافِ فِي الْمَاءِ وَلَوْ كَانَ عَلَى شَاطِئِ النَّهْرِ. بَابُ مَنْ رَأَى التَّقْدِيرَ بِذَلِكَ اسْتِحْبَابًا وَأَنَّ مَا دُونَهُ يُجْزِئ إذَا أُسْبِغَ 442- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ يَسَعُ ثَلَاثَةَ أَمْدَادٍ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 443- وَعَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ أُمِّ عُمَارَةَ بِنْتِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ فَأُتِيَ بِمَاءٍ فِي إنَاءٍ قَدْرِ ثُلُثَيْ الْمُدِّ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 444- وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ هَذَا، فَإِذَا تَوْرٌ مَوْضُوعٌ مِثْلُ الصَّاعِ أَوْ دُونَهُ فَنَشْرَعُ فِيهِ جَمِيعًا فَأُفِيضُ عَلَى رَأْسِي بِيَدِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَمَا أَنْقُضُ لِي شَعْرًا. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْقَدْرُ الْمُجْزِئ مِنْ الْغُسْلِ مَا يَحْصُلُ بِهِ تَعْمِيمُ الْبَدَنِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ، وسَوَاءٌ كَانَ صَاعًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ مَا لَمْ يَبْلُغْ فِي النُّقْصَانِ إلَى مِقْدَارٍ لَا يُسَمَّى مُسْتَعْمِلُهُ مُغْتَسِلًا، أَوْ إلَى مِقْدَارٍ فِي الزِّيَادَةِ يَدْخُلُ فَاعِلُهُ فِي حَدّ الْإِسْرَاف. وَهَكَذَا الْوُضُوء. بَابُ الِاسْتِتَارِ عَنْ الْأَعْيُنِ لَلْمُغْتَسِلِ وَجَوَازِ تَجَرُّدِهِ فِي الْخَلْوَةِ 445- عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَأَى رَجُلًا يَغْتَسِلُ بِالْبَرَازِ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «إنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 446- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «بَيْنَا أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بَلَى وَعِزَّتُكَ وَلَكِنْ لَا غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

(1/117)


447- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً - يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ - وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فَقَالُوا: وَاَللَّهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إلَّا أَنَّهُ آدَرُ، قَالَ: فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ، فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ، قَالَ: فَجَمَحَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَثَرِهِ يَقُولُ: ثَوْبِي حَجَرُ ثَوْبِي حَجَرُ حَتَّى نَظَرَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ إلَى سَوْأَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالُوا: وَاَللَّهِ مَا بِمُوسَى بَأْسٌ، قَالَ: فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرَبًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: والْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ السَّتُّرِ حَالَ الِاغْتِسَالِ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ وَتَرْكُهُ مَكْرُوهٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى تَحْرِيمِهِ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ مُطْلَقِ الِاسْتِتَارِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد والترمذي مِنْ حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: «احْفَظْ عَوْرَتَكَ إلَّا مِنْ زَوْجِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالرَّجُلُ يَكُونُ خَالِيًا، قَالَ: «اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ» . قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ الْحَدِيث - يعني قصة أيوب - أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَاتَبَهُ عَلَى جَمْعِ الْجَرَاد وَلَمْ يُعَاتِبْهُ عَلَى الِاغْتِسَالِ عُرْيَانًا، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَجْهَ الدَّلَالَة مِنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَصَّ الْقِصَّتَيْنِ وَلَمْ يَتَعَقَّبْ شَيْئًا مِنْهُمَا فَدَلَّ عَلَى مُوَافَقَتِهِمَا لِشَرْعِنَا، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ فِيهِمَا شَيْءٌ غَيْرَ مُوَافِقٍ لَبَيَّنَهُ، فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِحَمْلِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا الْإِرْشَادُ إلَى التَّسَتُّرِ عَلَى الْأَفْضَلِ. بَابُ الدُّخُولِ فِي الْمَاءِ بِغَيْرِ إزَار 448- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْمَاءَ لَمْ يُلْقِ ثَوْبَهُ حَتَّى يُوَارِيَ عَوْرَتَهُ فِي الْمَاءِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ السَّتْرِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ، فَهُوَ

(1/118)


مُنْدَرِجٌ تَحْتَ عُمُومِ الْأَدِلَّةِ الْقَاضِيَةِ بِمَشْرُوعِيَّةِ السَّتْرِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى كَرَاهَةِ دُخُولِ الْمَاءِ بِغَيْرِ إزَارٍ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: هُوَ بِالْإِزَارِ أَفْضَلُ لِقَوْلِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَدْ قِيلَ لَهُمَا وَقَدْ دَخَلَا الْمَاءَ وَعَلَيْهِمَا بُرْدَانِ فَقَالَا: إنَّ لِلْمَاءِ سُكَّانًا. قَالَ إِسْحَاقُ: وَإِنْ تَجَرَّدَ رَجَوْنَا أَنْ لَا يَكُونَ إثْمًا، وَاحْتَجَّ بِتَجَرُّدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. بَابُ مَا جَاءَ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ 449- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ ذُكُورِ أُمَّتِي فَلَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ إلَّا بِمِئْزَرٍ، وَمَنْ كَانَتْ تُؤْمِنْ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ إنَاثِ أُمَّتِي فَلَا تَدْخُلُ الْحَمَّامَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 450- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَر أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّهَا سَتُفْتَحُ لَكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ وَسَتَجِدُونَ فِيهَا بُيُوتًا يُقَالَ لَهَا الْحَمَّامَاتُ فَلا يَدْخُلَنَّهَا الرِّجَالُ إلَّا بِإِزَارٍ، وَامْنَعُوا النِّسَاءَ إلَّا مَرِيضَةً أَوْ نُفَسَاءَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَحَدِيثُ الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الدُّخُولِ لِلذُّكُورِ بِشَرْطِ لُبْسِ الْمَآزِرِ، وَتَحْرِيمِ الدُّخُولِ بِدُونِ مِئْزَرٍ، وَعَلَى تَحْرِيمِهِ عَلَى النِّسَاءِ مُطْلَقًا وَاسْتِثْنَاءِ الدُّخُولِ مِنْ عُذْرٍ لَهُنَّ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ طَرِيقٍ تَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهَا، فَالظَّاهِرُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لَنِسْوَةٍ دَخَلْنَ عَلَيْهَا مِنْ نِسَاءِ الشَّامِ: لَعَلَّكُنَّ مِنْ الْكُورَةِ الَّتِي يَدْخُلُ نِسَاؤُهَا الْحَمَّامَ؟ قُلْنَ: نَعَمْ. قَالَتْ: أَمَا إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَا مِنْ امْرَأَةٍ تَخْلَعُ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا إلَّا هَتَكَتْ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ مِنْ حِجَابٍ» .

(1/119)


كِتَابُ التَّيَمُّمِ بَابُ تَيَمُّمِ الْجُنُبِ لِلصَّلَاةِ إذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً 451- عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ فَقَالَ: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ» ؟ قَالَ: أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ، قَالَ: «عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: واعلم أن التيمم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، وهي خصيصة خصص الله تعالى بها هذه الأمة. قال: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّيَمُّمِ لِلصَّلَاةِ عِنْدَ عَدَمَ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْجُنُبِ وَغَيْرِهِ. بَابُ تَيَمُّمِ الْجُنُبِ لَلْجَرْحِ 452- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَك رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إذْ لَمْ يَعْلَمُوا؟ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ - أَوْ يَعْصِبَ - عَنْ جَرْحِهِ خرقة ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهِ وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيِّ.

(1/120)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْعُدُولِ إلَى التَّيَمُّمِ لِخَشْيَةِ الضَّرَرِ، وَعَلَى وُجُوبِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ. وَقال: حَدِيثَ جَابِرٍ قَدْ دَلَّ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْغُسْلِ وَالْمَسْحِ وَالتَّيَمُّمِ. انْتَهَى. قال الموفق في المغني: ويفارق مسح الجبيرة مسح الخف من خمسة أوجه: أحدهما: أنه لا يجوز المسح عليها إلا عند الضرر بنزعها. الثاني: أنه يجب استيعابها بالمسح، وإن كان بعضها في محل الفرض وبعضها في غيره مسح ما حاذى محل الفرض. الثالث: أنه يمسح على الجبيرة من غير توقيت. الرابع: أنه يمسح عليها في الطهارة الكبرى. الخامس: أنه لا يشترط تقدم الطهارة على شدها في إحدى الروايتين، اختاره الخلال وقال: قد روى حرب وإسحاق والمروذي في ذلك سهولة عن أحمد واحتج بأن عمرو كأنه ترك قوله الأول وهو أشبه لأن هذا مما لا ينضبط ويغلظ على الناس جدًا فلا بأس به ويقوي هذا حديث جابر في الذي أصابته الشجة فإنه قال: «إنما كان يجزئه أن يعصب على جرحه خرقة ويمسح عليها» . ولم يذكر الطهارة وكذلك أمر على أن يمسح على الجبائر ولم يشترط طهارة ولأن المسح عليها جاز دفعًا لمشقة نزعها ونزعها يشق إذا لبسها على غير طهارة كمشقته إذا لبسها على طهارة. والرواية الثانية: لا يمسح عليها إلا أن يشدها على طهارة فعلى هذا لبسها على غير طهارة ثم خاف من نزعها تميم لها. انتهى ملخصًا. قال في الاختيارات: والجريح ... إذا كان محدثًا حدثًا أصغر فلا يلزمه مراعاة الترتيب، وهو الصحيح من مذهب أحمد وغيره، فيصح أن يتمم بعد كمال الوضوء، بل هذا هو السنة والفصل بين أبعاض الوضوء بتميم بدعة. انتهى. بَابُ الْجُنُبِ يَتَيَمَّمُ لَخَوْفِ الْبَرْدِ 453- عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ لَمَّا بُعِثَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةٍ الْبَرْدِ، فَأَشْفَقْتُ إن اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «يَا عَمْرُو صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ» ؟ فَقُلْتُ: ذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ

(1/121)


صَلَّيْتُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَقُلْ شَيْئَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا) . فِيهِ دَلِيلَانِ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ عِنْدَ شِدَّةِ الْبَرْدِ وَمَخَافَةِ الْهَلَاكِ: الْأَوَّلُ: التَّبَسُّمُ وَالِاسْتِبْشَارُ. وَالثَّانِي: عَدَمُ الْإِنْكَارِ. لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَا يُقِرُّ عَلَى بَاطِلٍ، وَالتَّبَسُّمُ وَالِاسْتِبْشَارُ أَقْوَى دَلَالَةً مِنْ السُّكُوتِ عَلَى الْجَوَازِ، فَإِنَّ الِاسْتِبْشَارَ دَلَالَتُهُ عَلَى الْجَوَازِ بِطَرِيقِ الْأُولَى. وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ مَنْ تَيَمَّمَ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ وَصَلَّى لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَأَمَرَهُ بِهَا، وَلِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ وَقَدِرَ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ مَنْ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ. قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ: لَا يَتَيَمَّمُ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ مَنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُسَخِّنَ الْمَاءَ أَوْ يَسْتَعْمِلَهُ عَلَى وَجْهٍ يَأْمَنُ الضَّرَر مِثْلَ أَنْ يَغْسِلَ عُضْوًا وَيَسْتُرهُ، وَكُلَّمَا غَسَلَ عُضْوًا سَتَرَهُ وَدَفَّاهُ مِنْ الْبَرْدِ لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ تَيَمَّمَ وَصَلَّى فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وتصلي المرأة بالتيمم عن الجنابة إذا كان يشق عليها تكرار النزول إلى الحمام، ولا تقدر على الاغتسال في البيت. وكل من صلى في الوقت كما أمر بحسب الإمكان فلا إعادة عليه، سواء كان العذر نادرًا أو معتادًا، قاله أكثر العلماء. انْتَهَى. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ إثْبَاتُ التَّيَمُّمِ لِخَوْفِ الْبَرْدِ وَسُقُوطِ الْفَرْضِ بِهِ، وَصِحَّةُ اقْتِدَاءِ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ، وَأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَأَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْعُمُومَاتِ حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَوْلُهُ: (وَأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ) . لَعَلَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ» . بَابُ الرُّخْصَةِ فِي الْجِمَاعِ لِعَادِمِ الْمَاءِ 454- عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: اجْتَوَيْتُ الْمَدِينَةَ فَأَمَرَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِإِبِلٍ فَكُنْتُ فِيهَا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: هَلَكَ أَبُو ذَرٍّ، قَالَ: «مَا حَالُكَ» ؟

(1/122)


قَالَ: كُنْتُ أَتَعَرَّضُ لِلْجَنَابَةِ وَلَيْسَ قُرْبِي مَاءٌ، فَقَالَ: «إنَّ الصَّعِيدَ طَهُورٌ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالْأَثْرَمُ، وَهَذَا لَفْظُهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ، وَعَلَى أَنَّ الصَّعِيدَ طَهُورٌ يَجُوز لِمَنْ تَطَهَّرَ بِهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ الْمُتَطَهِّرُ بِالْمَاءِ مِنْ صَلَاةٍ وَقِرَاءَةٍ وَدُخُولُ مَسْجِدٍ وَمَسِّ مُصْحَفٍ وَجِمَاعٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِالتَّيَمُّمِ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ بِوَقْتٍ مَحْدُودٍ، بَلْ يَجُوزُ وَإِنْ تَطَاوَلَ الْعَهْدُ بِالْمَاءِ. بَابُ اشْتِرَاطِ دُخُولِ الْوَقْتِ لِلتَّيَمُّمِ 455- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَمَسَّحَتْ ... وَصَلَّيْتُ» . 456- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «جُعِلَتْ الْأَرْضُ كُلُّهَا لِي وَلِأُمَّتِي مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي الصَّلَاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَعِنْدَهُ طَهُورُهُ» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّف بِالْحَدِيثِ عَلَى اشْتِرَاط دُخُولِ الْوَقْتِ لِلتَّيَمُّمِ لِتَقْيِيدِ الْأَمْرِ بِالتَّيَمُّمِ بِإِدْرَاكِ الصَّلَاةِ، وَإِدْرَاكُهَا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ قَطْعًا. وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ الِاشْتِرَاطِ الْعِتْرَةُ وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَدَاوُد، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} وَلَا قِيَامَ قَبْلَهُ وَالْوُضُوءُ خَصَّهُ الْإِجْمَاعُ وَالسُّنَّةُ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ قَبْلَ الْوَقْتِ كَالْوُضُوءِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَلَمْ يَرِدْ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْإِجْزَاءِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {إذَا قُمْتُمْ} إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ، وَإِرَادَةُ الْقِيَامِ تَكُونُ فِي الْوَقْتِ وَتَكُونُ قَبْلَهُ، فَلَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِ الْوَقْتِ حَتَّى يُقَالَ خَصَّصَ الْوُضُوءَ الْإِجْمَاعُ. انْتَهَى. قلتُ: والأحوط التيمم بعد دخول الوقت، وليس في ذلك حرج ولا مشقة. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: والتيمم يرفع الحدث وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد، وفي الفتاوى المصرية: التيمم لوقت كل صلاة إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى، كمذهب مالك وأحمد في المشهور عنه وهو أعدل الأقوال. انْتَهَى. والله أعلم.

(1/123)


بَابُ مَنْ وَجَدَ مَا يَكْفِي بَعْضَ طَهَارَتِهِ يَسْتَعْمِلُهُ 457- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ مِنْ الْأُصُولِ الْعَظِيمَةِ وَقَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ النَّافِعَةِ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ صَرِيحُ الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فَلَكَ الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ عَلَى الْعَفْوِ عَنْ كُلِّ مَا خَرَجَ عَنْ الطَّاقَةِ، وَعَلَى وُجُوبِ الْإِتْيَانِ بِمَا دَخَلَ تَحْتَ الِاسْتِطَاعَةِ مِنْ الْمَأْمُورِ بِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدُ خُرُوجِ بَعْضِهِ عَنْ الِاسْتِطَاعَةِ مُوجِبًا لَلْعَفْوِ عَنْ جَمِيعِهِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ عَلَى وُجُوبِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الَّذِي يَكْفِي لِبَعْضِ الطَّهَارَةِ وَهُوَ كَذَلِكَ. بَابُ تَعَيُّنِ التُّرَابِ لِلتَّيَمُّمِ دُون بَقِيَّةِ الْجَامِدَاتِ 458- عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْأَرْضِ، وَسُمِّيتُ أَحْمَدَ، وَجُعِلَ لِي التُّرَابُ طَهُورًا، وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الْأُمَمِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 459- وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى تَعَيُّنِ التُّرَابِ لِلتَّصْرِيحِ فِي الْحَدِيثِ بِذِكْرِ التُّرَابِ. وقالَ في شرح قوله: «جُعِلَتْ الْأَرْضُ كُلُّهَا لِي وَلِأُمَّتِي مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي الصَّلَاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَعِنْدَهُ طَهُورُهُ» . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التُّرَابَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ كَالْمَاءِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الطَّهُورِيَّةِ. وَعَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ جَائِزٌ بِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ لِعُمُومِ لَفْظِ الْأَرْضِ لِجَمِيعِهِ، وَقَدْ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: «كُلّهَا» . وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُ بِتَخْصِيصِ التُّرَابِ بقوله: «وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا» وَهَذَا خَاصٌّ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ الْعَامُّ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ تُرْبَةَ كُلِّ مَكَان مَا فِيهِ مِنْ

(1/124)


تُرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلا يَتِمُّ الاسْتِدْلال. إِلِى أَنْ قَالَ: وَمِنْ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ خُصُوصُ التُّرَابِ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ ذِكْرِ الصَّعِيدِ وَالْأَمْرِ بِالتَّيَمُّمِ مِنْهُ، وَهُوَ التُّرَابُ، لَكِنَّهُ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالصَّعِيدُ: التُّرَابُ أَوْ وَجْهُ الْأَرْضِ. وَفِي الْمِصْبَاحِ: الصَّعِيدُ: وَجْهُ الْأَرْضِ تُرَابًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. وَيُؤَيِّدُ حَمْلَ الصَّعِيدِ عَلَى الْعُمُومِ تَيَمُّمُهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْحَائِط، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى تَخْصِيصِ التَّيَمُّمِ بِالتُّرَابِ الْعِتْرَةُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد؛ وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَعَطَاءٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ إلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ بِالْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَيَجُوزُ التَّيَمُّم بِغَيْرِ التُّرَابِ مِنْ أَجْزَاءِ الأَرْضِ إِذَا لَمْ يَجِدْ تُرَابًا وَهُوَ رُوَايَة. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَكَانَ - صلى الله عليه وسلم - يَتَيَمَّم بِالأَرْضِ الَّتِّي يُصَلِّي عَلَيْهَا تُرَابًا كَانَتْ أَوْ سَبِخَة أَوْ رَمْلاً. وَلَمَّا سَافَرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ قَطَعُوا تِلْكَ الرِّمَالَ فِي طَرِيقِهِمْ، وَمَاؤُهُمْ فَي غَايَةِ الْقِلَّةِ وَلَمْ يَرِدْ عَنْهُ أَنَّهُ حَمَلَ مَعَهُ التُّرَابَ. وَلا أَمَرَ بِهِ ولا فَعَلَهً أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَلا يُسْتَحَبُّ حَمْلَهُ التُّرَابَ مَعَهُ لِلّتَيَمُّمِ وَقَالَهُ طَائِفَة مِنَ الْعُلَمَاءِ خِلافًا لِمَا نَقَلَ عَنٍ أَحْمَدٍ. بَابُ صِفَةِ التَّيَمُّمِ 460- عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «فِي التَّيَمُّمِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 461- وَفِي لَفْظ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَهُ بِالتَّيَمُّمِ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 462- وَعَنْ عَمَّارٍ قَالَ: أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبْ الْمَاءَ، فَتَمَعَّكْتُ فِي الصَّعِيدِ وَصَلَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «إنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا» ، وَضَرَبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ وَنَفَخَ فِيهِمَا ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 463- وَفِي لَفْظٍ: «إنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِكَفَّيْكَ فِي التُّرَابِ، ثُمَّ تَنْفُخُ فِيهِمَا، ثُمَّ تَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ إلَى الرُّسْغَيْنِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ ضَرْبَةٌ

(1/125)


وَاحِدَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ. قال في الفتح: وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَاخْتَارَهُ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ. قَوْلُهُ: (إلَى الرُّصْغَيْنِ) قَالَ الشَّارِحُ: وَهُمَا مَفْصِلُ الْكَفَّيْنِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي تَيَمُّمِ الْجُنُبِ لَا يَجِبُ. بَابُ مَنْ تَيَمَّمَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَصَلَّى ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ 464- عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ - وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ - فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا فَصَلَّيَا، ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ، وَلَمْ يُعِدْ الْآخَرُ، ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ: «أَصَبْتَ السُّنَّةَ وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ» . وَقَالَ لِلَّذِي تَوَضَّأَ وَأَعَادَ: «لَكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد وَهَذَا لَفْظُهُ. 465- وَقَدْ رَوَيَاهُ أَيْضًا عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُرْسَلًا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ. بَابُ بُطْلَانِ التَّيَمُّمِ بِوِجْدَانِ الْمَاءِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا 466- عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: ... «فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ» . عَلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَى مَنْ وَجَدَ الْمَاءَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُطْلَقٌ فِيمَنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْوَقْتِ، وَمَنْ وَجَدَهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ وَحَالَ الصَّلَاةِ وَبَعْدَهَا. وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ السَّابِقِ مُقَيَّدٌ بِمَنْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ،

(1/126)


فَتَخْرُجُ هَذِهِ الصُّورَةُ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَتَبْقَى صُورَةُ وُجُودِ الْمَاءِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ فِعْلِ التَّيَمُّمِ وَبَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ قَبْل الْفَرَاغِ مِنْهَا دَاخِلَتَيْنِ تَحْتَ إطْلَاقِ الْحَدِيثِ. بَابُ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ مَاءٍ وَلَا تُرَابٍ عِنْدَ الضَّرُورَةِ 467- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلَادَةً فَهَلَكَتْ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رِجَالًا فِي طَلَبِهَا فَوَجَدُوهَا فَأَدْرَكَتْهُمْ الصَّلَاةُ - وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ - فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَكَوْا ذَلِكَ إلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آيَةَ التَّيَمُّمِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ) اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ عِنْد عَدَمِ الْمُطَهِّرَيْنِ: الْمَاءِ، وَالتُّرَابِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ فَقَدُوا التُّرَابَ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُمْ فَقَدُوا الْمَاءَ فَقَطْ، وَلَكِنَّ عَدَمَ الْمَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَعَدَمِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُطَهِّرَ سِوَاهُ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّهُمْ صَلَّوْا مُعْتَقِدِينَ وُجُوبَ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ الصَّلَاةُ حِينَئِذٍ مَمْنُوعَةً لَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -.

(1/127)


أَبْوَابُ الْحَيْضِ بَابُ بِنَاءِ الْمُعْتَادَةِ إذَا اُسْتُحِيضَتْ عَلَى عَادَتِهَا 468- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: إنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 469- وَفِي رِوَايَةٍ لِلْجَمَاعَةِ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ: «فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ، فَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي» . 470- زَادَ التِّرْمِذِيُّ فِي رِوَايَةٍ وَقَالَ: «تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ» . 471- وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ «وَلَكِنْ دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي» . وفيه تَنْبيه علَى أنها إنما تبني على عادة متكررة. 472- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ جَحْشٍ - الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - شَكَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الدَّمَ، فَقَالَ لَهَا: «اُمْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ ثُمَّ اغْتَسِلِي» . فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

(1/128)


473- وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَلَفْظُهُمَا قَالَ: «فَلْتَنْتَظِرْ قَدْرَ قُرُوئِهَا الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ فَلْتَتْرُكْ الصَّلَاةَ ثُمَّ لِتَنْظُرْ مَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَتُصَلِّي» . 474- وَعَنْ الْقَاسِمِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشِ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّهَا مُسْتَحَاضَةٌ، فَقَالَ: «تَجْلِسُ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُؤَخِّرُ الظُّهْرَ وَتُعَجِّلُ الْعَصْرَ وَتَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي، وَتُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلُ الْعِشَاءَ وَتَغْتَسِلُ وَتُصَلِّيهِمَا جَمِيعًا، وَتَغْتَسِلُ لِلْفَجْرِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 475- وَعَنْ أُمّ سَلَمَةَ أَنَّهَا اسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي امْرَأَةٍ تُهْرَاقُ الدَّمَ، فَقَالَ: «لِتَنْظُرْ قَدْرَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضَهُنَّ وَقَدْرَهُنَّ مِنْ الشَّهْرِ، فَتَدْعُ الصَّلَاةَ، ثُمَّ لْتَغْتَسِلْ وَلْتَسْتَثْفِرْ ثُمَّ تُصَلِّي» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ. قَوْلُهُ: «فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي» قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا مَيَّزَتْ دَمَ الْحَيْضِ مِنْ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ تَعْتَبِرُ دَمَ الْحَيْضِ وَتَعْمَلُ عَلَى إقْبَالِهِ وَإِدْبَارِهِ فَإِذَا انْقَضَى قَدْرُهُ اغْتَسَلَتْ مِنْهُ ثُمَّ صَارَ حُكْمُ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ حُكْمُ الْحَدَثِ فَتَتَوَضَّأْ لِكُلِّ صَلَاةٍ لَا تُصَلِّي بِذَلِكَ الْوُضُوءِ أَكْثَرَ مِنْ فَرِيضَةٍ وَاحِدَةٍ. قالَ: وَلَمْ يَأْتِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مَا يَقْضِي بِوُجُوبِ الِاغْتِسَالِ عَلَيْهَا لِكُلِّ صَلَاةٍ أَوْ لِكُلِّ يَوْمٍ أَوْ لِلصَّلَاتَيْنِ، بَلْ لِإِدْبَارِ الْحَيْضَةِ، قال: وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مِنْهَا مَا يَقْضِي بِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ إلَى الْعَمَلِ بِصِفَةِ الدَّمِ كَمَا فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ الْآتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا. وَمِنْهَا مَا يَقْضِي بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ كَمَا فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَيُمْكِنُ الجمع بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: «أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ» الْحَيْضَةُ الَّتِي تَتَمَيَّزُ بِصِفَةِ الدَّمِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ «إذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ» فِي حَقِّ الْمُعْتَادَةِ، وَالتَّمْيِيزُ بِصِفَةِ الدَّمِ فِي حَقِّ غَيْرِهَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَعْرِفَةَ إقْبَالِ الْحَيْضَةِ قَدْ يَكُونُ بِمَعْرِفَةِ الْعَادَةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْرِفَةِ دَمِ الْحَيْضِ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ.

(1/129)


بَابُ الْعَمَلِ بِالتَّمْيِيزِ 476- عَنْ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ أَنَّهَا كَانَتْ تُسْتَحَاضُ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضَةِ فَإِنَّهُ أَسْوَدُ يُعْرَفُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَمْسِكِي عَنْ الصَّلَاةِ، فَإِذَا كَانَ الْآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي، فَإِنَّمَا هُوَ عِرْقٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ التَّمْيِيزُ بِصِفَةِ الدَّمِ، فَإِذَا كَانَ مُتَّصِفًا بِصِفَةِ السَّوَادِ فَهُوَ حَيْضٌ وَإِلَّا فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ. انْتَهَى. وقال الخرقي: فمن أطبق بها الدم فكانت ممن تميز فتعلم إقباله بأنه أسود ثخين منتن، وإدباره رقيق أحمر، تركت الصلاة في إقباله، فإذا أدبر اغتسلت وتوضأت لكل صلاة وصلت. انْتَهَى. وظاهر كلامه أن المستحاضة إذا كان لها عادة وتمييز قدمت التمييز فعملت به، وتركت العادة، وهو رواية عن أحمد، وهو الصواب. بَابُ مَنْ تَحِيضُ سِتًّا أَوْ سَبْعًا لِفَقْدِ الْعَادَةِ وَالتَّمْيِيزِ 477- عَنْ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ قَالَتْ: كُنْتُ أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً شَدِيدَةً كَثِيرَةً، فَجِئْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَسْتَفْتِيهِ وَأُخْبِرُهُ، فَوَجَدْتُهُ فِي بَيْتِ أُخْتِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً فَمَا تَرَى فِيهَا؟ قَدْ مَنَعَتْنِي الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ فَقَالَ: «أَنْعَتُ لَكِ الْكُرْسُفَ فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ» . قَالَتْ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: «فَاِتَّخِذِي ثَوْبًا» . قَالَتْ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: «فَتَلَجَّمِيْ» . قَالَتْ: إنَّمَا أَثُجُّ ثَجًّا، فَقَالَ: «سَآمُرُكِ بِأَمْرَيْنِ أَيُّهُمَا فَعَلْتِ فَقَدْ أَجْزَأَ عَنْكِ مِنْ الْآخَرِ، فَإِنْ قَوِيتَ عَلَيْهِمَا فَأَنْتَ أَعْلَمُ» . فَقَالَ لَهَا: «إنَّمَا هَذِهِ رَكْضَةٌ مِنْ رَكَضَاتِ الشَّيْطَانِ فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةً فِي عِلْمِ اللَّهِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي حَتَّى إذَا رَأَيْتِ أَنَّكِ قَدْ طَهُرْتِ وَاسْتَنْقَيْتِ فَصَلِّي أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَوْ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَيَّامَهَا، وَصُومِي فَإِنَّ ذَلِكَ مُجْزِيكِ، وَكَذَلِكَ فَافْعَلِي فِي كُلِّ شَهْرٍ كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ وَكَمَا يَطْهُرْنَ لِمِيقَاتِ حَيْضِهِنَّ وَطُهْرِهِنَّ؛ وَإِنْ قَوِيَتْ عَلَى أَنْ تُؤَخِّرِي الظُّهْرَ وَتُعَجِّلِي الْعَصْرَ فَتَغْتَسِلِينَ ثُمَّ تُصَلِّينَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ تُؤَخِّرِي الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلِي

(1/130)


الْعِشَاءَ ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَافْعَلِي، وَتَغْتَسِلِينَ مَعَ الْفَجْرِ وَتُصَلِّينَ، فَكَذَلِكَ فَافْعَلِي وَصَلِّي وَصُومِي إنْ قَدَرْتِ عَلَى ذَلِكَ» . وَقَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «وَهَذَا أَعْجَبُ الْأَمْرَيْنِ إلَيَّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَاهُ. قوله: «فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةً» قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بِفَتْحِ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ اجْعَلِي نَفْسَكِ حَائِضًا. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيهِ أَنَّ الْغُسْلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ لَا يَجِبُ بَلْ يُجْزِئُهَا الْغُسْلُ بحَيْضِهَا الَّذِي تَجْلِسُهُ، وَأَنَّ الْجَمْعَ لِلْمَرَضِ جَائِزٌ، وَأَنَّ جَمْعَ الْفَرِيضَتَيْنِ لَهَا بِطَهَارَةٍ وَاحِدَةٍ جَائِزٌ، وَأَنَّ تَعْيِينَ الْعَدَدِ مِنْ السِّتَّةِ وَالسَّبْعَةِ بِاجْتِهَادِهَا لَا بِتَشْبِيهِهَا لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «حَتَّى إذَا رَأَيْتِ أَنْ قَدْ طَهُرْتِ وَاسْتَنْقَيْتِ» . بَابُ الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ بَعْدَ الْعَادَةِ 478- عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: كُنَّا لَا نَعُدُّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ بَعْدَ الطُّهْرِ شَيْئًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبُخَارِيُّ لَا يَذْكُرُ بَعْدَ الطُّهْرِ. 479- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي تَرَى مَا يَرِيبُهَا بَعْدَ الطُّهْرِ: «إنَّمَا هُوَ عِرْقٌ» أَوْ قَالَ: «عُرُوقٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ بَعْدَ الطُّهْرِ لَيْسَتَا مِنْ الْحَيْضِ، وَأَمَّا فِي وَقْتِ الْحَيْضِ فَهُمَا حَيْضٌ. انْتَهَى. تَتِمْة: قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: ولا يتقدر أقل الحيض ولا أكثره، بل كل ما استقر عادة للمرأة فهو حيض، وإن نقص عن يوم أو زاد على الخمسة أو السبعة عشرة ولا حد لأقل سن تحيض فيه المرأة، ولا لأكثرة ولا لأقل الطهر بين الحيضتين، والمبتدأة تحسب ما تراه من الدم ما لم تصر مستحاضة وكذلك المنتقلة إذا تغيرت عادتها بزيادة أو نقص أو انتقال فذلك حيض حتى تعلم أنها استحاضة باستمرار الدم والحامل قد تحيض. انتهى.

(1/131)


بَابُ وُضُوءِ الْمُسْتَحَاضَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ 480- عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ: «تَدْعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَتَصُومُ وَتُصَلِّي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ. 481- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: إنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ أَفَأَدْعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ لَهَا: «لَا، اجْتَنِبِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ مَحِيضِكِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ، ثُمَّ صَلِّي وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلّ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَعَلَى أَنَّ الْغُسْلَ لَا يَجِبُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً عِنْدَ انْقِضَاءِ الْحَيْضِ. بَابُ تَحْرِيمِ وَطْءِ الْحَائِضِ فِي الْفَرْجِ وَمَا يُبَاحُ مِنْهَا 482- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا وَلَمْ يُجَامِعُوهَا فِي الْبُيُوتِ، فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ} إلَى آخِر الْآيَة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا النِّكَاحَ» . وَفِي لَفْظٍ: «إلَّا الْجِمَاعَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ. 482م- وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا أَرَادَ مِنْ الْحَائِضِ شَيْئًا أَلْقَى عَلَى فَرْجِهَا شَيْئًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 483- وَعَنْ مَسْرُوقِ بْنِ الأَجْدَعَ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا لِلرَّجُلِ مِنْ امْرَأَتِهِ إذَا كَانَتْ حَائِضًا؟ قَالَتْ: كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الْفَرْجَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ. 484- وَعَنْ حِزَامِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَا يَحِلُّ مِنْ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ؟ قَالَ: «لَكَ مَا فَوْقَ الْإِزَارِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، قُلْتُ عَمُّهُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ.

(1/132)


485- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَتْ إحْدَانَا - إذَا كَانَتْ حَائِضًا - فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُبَاشِرَهَا، أَمَرَهَا أَنْ تَأْتَزِرَ بِإِزَارٍ فِي فَوْرِ حَيْضَتِهَا ثُمَّ يُبَاشِرَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فَوْرُ الْحَيْضِ: أَوَّلُهُ وَمُعْظَمُهُ. قَوْلُهُ: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا النِّكَاحَ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى حُكْمَيْنِ: تَحْرِيمِ النِّكَاحِ، وَجَوَازِ مَا سِوَاهُ. وَهُوَ ... قسمان: الْأَوَّلُ: الْمُبَاشَرَةُ فِيمَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَتَحْتَ الرُّكْبَةِ بِالذَّكَرِ أَوْ الْقُبْلَةِ أَوْ الْمُعَانَقَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ حَلَالٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِين. الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَفِيهَا ثَلَاثَةُ وُجُوهٍ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، الْأَشْهَرُ مِنْهَا التَّحْرِيمُ. وَالثَّانِي عَدَمُ التَّحْرِيمِ مَعَ الْكَرَاهَةِ. وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَ الْمُبَاشِرُ يَضْبِطُ نَفْسَهُ عَنْ الْفَرْجِ جَازَ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ؛ وَقَدْ ذَهَبَ إلَى التَّحْرِيمِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَحَدِيثُ الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ لِتَصْرِيحِهِ بِتَحْلِيلِ كُلِّ شَيْءٍ مَا عَدَا النِّكَاحَ، فَالْقَوْلُ بِالتَّحْرِيمِ سَدٌّ لِلذَّرِيعَةِ لَمَّا كَانَ الْحَوْمُ حَوْلُ الْحِمَى مَظِنَّةً لِلْوُقُوعِ فِيهِ، وَيُشِيرُ إلَى هَذَا حَدِيثُ: «لَكَ مَا فَوْقَ الْإِزَارِ» . وَحَدِيثُ عَائِشَةَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْأَمْرِ لِلْمُبَاشَرَةِ بِأَنْ تَأْتَزِرَ. وَقَوْلُهَا فِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إرْبَهُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْلِكُ إرْبَهُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ كَفَّارَةِ مِنْ أَتَى حَائِضًا 486- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ يَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ أَوْ بِنِصْفِ دِينَارٍ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: هَكَذَا الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ قَالَ: «دِينَارٌ أَوْ نِصْفُ دِينَارٍ» . 487- وَفِي لَفْظٍ لِلتِّرْمِذِيِّ: «إذَا كَانَ دَمًا أَحْمَرَ فَدِينَارٌ، وَإِنْ كَانَ دَمًا أَصْفَرَ فَنِصْفُ دِينَارٍ» . 488- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ فِي الْحَائِضِ تُصَابُ دِينَارًا، فَإِنْ أَصَابَهَا وَقَدْ أَدْبَرَ الدَّمُ عَنْهَا وَلَمْ تَغْتَسِلْ فَنِصْفُ دِينَارٍ. كُلُّ ذَلِكَ عَنْ ... النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى

(1/133)


مَنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْوَطْءِ قَبْلَ الْغُسْلِ. بَابُ الْحَائِضِ لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي وَتَقْضِي الصَّوْمَ دُونَ الصَّلَاةِ 489- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدَرِي - فِي حَدِيثٍ لَهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِلنِّسَاءِ: «أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ» ؟ قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: «فَذَلِكُنَّ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا، أَلَيْسَ إذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ» ؟ قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: «فَذَلِكُنَّ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا» . مُخْتَصَرٌ مِنْ الْبُخَارِيِّ. 490- وَعَنْ مُعَاذَةَ قَالَتْ سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟ قَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْحَائِضِ حَالَ حَيْضِهَا وَهُوَ إجْمَاعٌ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ يَقْبَل الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِ نُقْصَانِ عُقُولِ النِّسَاءِ لَوْمُهُنَّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا مَدْخَلَ لِاخْتِيَارِهِنَّ فِيهِ، بَلْ الْمُرَادُ التَّحْذِيرُ مِنْ الِافْتِتَانِ بِهِنَّ، وَلَيْسَ نَقْصُ الدِّينِ مُنْحَصِرًا فِيمَا يَحْصُل بِهِ الْإِثْمُ بَلْ فِي أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، فَالْكَامِلُ مَثَلًا نَاقِصٌ عَنْ الْأَكْمَلِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْحَائِضُ لَا تَأْثَمُ بِتَرْكِ صَلَاتِهَا زَمَنَ الْحَيْضِ لَكِنَّهَا نَاقِصَةٌ عَنْ الْمُصَلِّي. وقَالَ: نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ قَضَاءُ الصَّلَاةِ وَيَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءُ الصِّيَامِ. قَال: وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَنْ طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَبَعْد صَلَاةِ الْعِشَاءِ هَلْ تُصَلِّي الصَّلَاتَيْنِ أَوْ الْأُخْرَى. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: 491- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إذَا طَهُرَتْ الْحَائِضُ بَعْدَ الْعَصْرِ صَلَّتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَإِذَا طَهُرَتْ بَعْد الْعِشَاء صَلَّتْ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ. 492- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: إذَا طَهُرَتْ الْحَائِضُ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ صَلَّتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَإِذَا طَهُرَتْ قَبْل الْفَجْر صَلَّتْ الْمَغْرِبَ

(1/134)


وَالْعِشَاءَ. رَوَاهُمَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ وَالْأَثْرَمُ، وَقَالَ: قَالَ أَحْمَدُ: عَامَّةُ التَّابِعِينَ يَقُولُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ إلَّا الْحَسَنَ وَحْدَهُ. بَاب سُؤْرِ الْحَائِضِ وَمُؤَاكَلَتِهَا 493- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَشْرَبُ وَأَنَا حَائِضٌ فَأُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِي فَيَشْرَبُ، وَأَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ وَأَنَا حَائِضٌ ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِي. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ. 494- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ مُؤَاكَلَةِ الْحَائِضِ؟ قَالَ: «وَاكِلْهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِيقَ الْحَائِضِ طَاهِرٌ، وَعَلَى طَهَارَةِ سُؤْرِهَا مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. قَالَ: وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} فَالْمُرَادُ اعْتَزِلُوا وَطْأَهُنَّ. بَابُ وَطْءِ الْمُسْتَحَاضَةِ 495- عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ أَنَّهَا كَانَتْ تُسْتَحَاضُ وَكَانَ زَوْجُهَا يُجَامِعُهَا. 496- وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ: كَانَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ تُسْتَحَاضُ وَكَانَ زَوْجُهَا يَغْشَاهَا. رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد، وَكَانَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ تَحْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَكَانَتْ حَمْنَةُ تَحْتَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: والحدِيثان يَدُلَّانِ عَلَى جَوَازِ مُجَامَعَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَلَوْ حَالَ جَرَيَانِ الدَّمِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. انتهى. والله أعلم.

(1/135)


 كِتَابُ النِّفَاسِ

بَابُ أَكْثَرِ النِّفَاسِ 497- عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ أَبِي سَهْلٍ - وَاسْمُهُ كَثِيرُ بْن زِيَادٍ - عَنْ مَسَّةَ الْأَزْدِيَّةِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَتْ النُّفَسَاءُ تَجْلِسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَكُنَّا نَطْلِي وُجُوهَنَا بِالْوَرْسِ مِنْ الْكَلَفِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: عَلِيُّ بْن عَبْدِ الْأَعْلَى ثِقَةٌ، وَأَبُو سَهْلٍ ثِقَةٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا مُتَعَاضِدَةٌ بَالِغَةٌ إلَى حَدِّ الصَّلَاحِيَّةِ وَالِاعْتِبَارِ فَالْمَصِيرُ إلَيْهَا مُتَعَيَّنٌ، فَالْوَاجِبُ عَلَى النُّفَسَاءِ وُقُوفُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا إلَّا أَنْ تَرَى الطُّهْرَ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ: وَقَدْ أَجْمَعَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى أَنَّ النُّفَسَاءَ تَدْعُ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا إلَّا أَنْ تَرَى الطُّهْرَ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَا هُنَا وَلَفْظُهُ: قُلْتُ: وَمَعْنَى الْحَدِيثِ كَانَتْ تُؤْمَرُ أَنْ تَجْلِسَ إلَى الْأَرْبَعِينَ لِئَلَّا يَكُونَ الْخَبَرُ كَذِبًا، إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَّفِقُ عَادَةُ نِسَاءِ عَصْرٍ فِي نِفَاسٍ أَوْ حَيْضٍ. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَلا حد لأقل النفاس ولا لأكثره ولو زاد على الأربعين أو الستين وانقطع فهو نفاس، ولكن إن اتصل فهو دم

(1/136)


فساد وحينئذٍ فالأربعون منتهى الغالب. بَابُ سُقُوطِ الصَّلَاةِ عَنْ النُّفَسَاءِ 498- عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تَقْعُدُ فِي النِّفَاسِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً لَا يَأْمُرُهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِقَضَاءِ صَلَاةِ النِّفَاسِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قالَ الشارحَ رحمهُ الله: والْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ النِّفَاسِ، وَقَدْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ النِّفَاسَ كَالْحَيْضِ فِي جَمِيعِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ وَيُكْرَهُ وَيُنْدَبُ، وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ الْحَائِضَ لَا تُصَلِّي. انْتَهَى. واللهُ أعلم.

(1/137)


 كِتَابُ الصَّلَاةِ

بَابُ افْتِرَاضِهَا وَمَتَى كَانَ 449- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 500- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: فُرِضَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلَوَاتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ خَمْسِينَ، ثُمَّ نَقَصَتْ حَتَّى جُعِلَتْ خَمْسًا، ثُمَّ نُودِيَ يَا مُحَمَّدُ إنَّهُ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، وَإِنَّ لَكَ بِهَذِهِ الْخَمْسِ خَمْسِينَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 501- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ هَاجَرَ فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا وَتُرِكَتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الْأَوَّلِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 502- وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَائِرَ الرَّأْسِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبَرَنِي مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: ... «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ إلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا» . قَالَ: أَخْبِرْنِي مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الصِّيَامِ؟ قَالَ: «شَهْرُ رَمَضَانَ إلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا» قَالَ: أَخْبَرَنِي مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الزَّكَاةِ؟ قَالَ: فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا، فَقَالَ: وَاَلَّذِي أَكْرَمَكَ لَا أَطَّوَّعُ شَيْئًا وَلَا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ» . أَوْ «دَخَلَ الْجَنَّةَ إنْ صَدَقَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(1/138)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «وَإِقَامِ الصَّلَاةِ» أَيْ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَمَالَ الْإِسْلَامِ وَتَمَامَهُ بِهَذِهِ الْخَمْسِ، فَهُوَ كَخِبَاءٍ أُقِيمَ عَلَى خَمْسَةِ أَعْمِدَةٍ، وَقُطْبُهَا الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ الْأَرْكَانُ الشَّهَادَةُ وَبَقِيَّةُ شُعَبِ الْإِيمَانِ كَالْأَوْتَادِ لِلْخِبَاءِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: هَذَا الْحَدِيثَ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي مَعْرِفَةِ الدِّينِ وَعَلَيْهِ اعْتِمَادُهُ وَقَدْ جَمَعَ أَرْكَانَهُ. قَالَ الشَّارِحُ: وحديث أنس طرف من حديث الإسراء الطويل، وقد استدل به على عدم فرضية الصلاة ما زاد على الخمس صلوات كالوتر، وَحَدِيثُ عَائشة: يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقَصْرِ، وَأَنَّهُ عَزِيمَةٌ لَا رُخْصَةٌ. وَالْمُصَنِّفُ سَاقَ الْحَدِيثَ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى فَرْضِيَّةِ الصَّلَاةِ لَا أَنَّهَا اسْتَمَرَّتْ مُنْذُ فُرِضَتْ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْقَصْرَ عَزِيمَةٌ، وَلَعَلَّهُ يَأْتِي تَحْقِيقُ مَا هُوَ الْحَقُّ فِي بَابِ صَلَاةِ السَّفَرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قال: وَحَدِيثُ طلْحة يَدُلّ عَلَى فَرْضِيَّةِ الصَّلَاةِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا عَلَى الْعِبَادِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالى: وَفِيهِ مُسْتَدَلٌّ لِمَنْ لَمْ يُوجِبُ صَلَاةَ الْوِتْرِ وَلَا صَلَاةَ الْعِيدِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ صَوْمِ عَاشُورَاءَ وَهُوَ إجْمَاعٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ، وَفِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ. قَالَ: وَفِي جَعْلِ هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ مَا ذُكِرَ نَظَرٌ عِنْدِي؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ فِي مَبَادِئِ التَّعْلِيمِ لَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهِ فِي صَرْفِ مَا وَرَدَ بَعْدَهُ وَإِلَّا لَزِمَ قَصْرُ وَاجِبَاتِ الشَّرِيعَةِ بِأَسْرِهَا عَلَى الْخَمْسِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنَّهُ خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ وَإِبْطَالٌ لِجُمْهُورِ الشَّرِيعَةِ، فَالْحَقُّ أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِالدَّلِيلِ الْمُتَأَخِّرِ إذَا وَرَدَ مَوْرِدًا صَحِيحًا وَيُعْمَل بِمَا يَقْتَضِيهِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ نَدَبٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ، وَهَذَا أَرْجَحُ الْقَوْلَيْنِ، وَالْبَحْثُ مِمَّا يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْحَقِّ أَنْ يُمْعِنَ النَّظَرَ فِيهِ وَيُطِيلَ التَّدَبُّرَ، فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ فِيهِ مِنْ أَهَمِّ الْمُطَالَبِ الْعِلْمِيَّة لِمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْبَالِغَةِ إلَى حَدٍّ يَقْصُرُ عَنْهُ الْعَدُّ. بَابُ قَتْلِ تَارِكِ الصَّلَاةِ 503- عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتَوْا

(1/139)


الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 504- وَلِأَحْمَدَ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. 505- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ارْتَدَّتْ الْعَرَبُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا أَبَا بَكْرٍ كَيْفَ نُقَاتِلُ الْعَرَبَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّمَا قَالَ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّه وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتَوْا الزَّكَاةَ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 506- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: بَعَثَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ بِالْيَمَنِ - إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِذُهَيْبَةٍ، فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: اتَّقِ اللَّهَ، فَقَالَ: «وَيْلَكَ أَوْ لَسْتُ أَحَقُّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ» . ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ: «لَا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي» . فَقَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ» . مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ. 507- وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ بْنِ الْخِيَارِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي مَجْلِسٍ يُسَارُّهُ - يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، فَجَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ: «أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» ؟ قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: بَلِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا شَهَادَةَ لَهُ، قَالَ: «أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» ؟ قَالَ: بَلِيَ وَلَا شَهَادَة لَهُ، قَالَ: «أَلَيْسَ يُصَلِّي» ؟ قَالَ: بَلَى وَلا صَلَاةَ لَهُ. قَالَ: «أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِمْ» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتَوْا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ» قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْمُرَادُ مَا وَجَبَ بِهِ فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ إرَاقَةُ الدَّمِ كَالْقِصَاصِ وَزِنَا الْمُحْصَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ حَلَّ بِهِ أَخْذُ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ كَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَمَا وَجَبَ مِنْ

(1/140)


النَّفَقَاتِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَفِيهِ أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَسَرَّ الْكُفْرَ يُقْبَلُ إسْلَامُهُ فِي الظَّاهِرِ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. قَوْلُهُ: «لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي» فِيهِ أَنَّ الصَّلَاةَ مُوجِبَةٌ لِحَقْنِ الدَّم وَلَكِنْ مَعَ بَقِيَّةِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَحَادِيثِ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِالْحَدِيثِ عَلَى قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ فَقَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الزِّنْدِيقِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَمَا ذَكَرَهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ: (اتَّقِ اللَّهَ) زَنْدَقَةٌ، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَرَّفَ بِهِ الْعُلَمَاءُ الزِّنْدِيقَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: (وَاَللَّهِ إنَّ هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فِيهَا وَمَا أُرِيدَ فِيهَا وَجْهُ اللَّهِ) ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِمِثْلِ هَذَا عَلَى مَا زَعَمَهُ الْمُصَنِّفُ أَظْهَرُ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: حُكْمُ الشَّرْعِ أَنَّ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَفَرَ وَقُتِلَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ قُتِلَ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَفْهَمْ مِنْهُ الطَّعْنَ فِي النُّبُوَّةِ وَإِنَّمَا نَسَبَهُ إلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِي الْقِسْمَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِدْلَالُ الْمُصَنِّفِ نَاظِرًا إلَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ «لَعَلَّهُ يُصَلِّي» وَإِلَى قَوْلِهِ: «لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ» فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ ظَاهِرِ التَّوْبَةِ وَعِصْمَةِ مِنْ يُصَلِّي، فَإِذَا كَانَ الزِّنْدِيقُ قَدْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ وَفَعَلَ أَفْعَالَ الْإِسْلَامِ كَانَ مَعْصُومَ الدَّمِ. انْتَهَى. وقَالَ في الفتحِ: قَالَ القُرطبي: إِنَّما منع قتله وإنْ كان قد استوجب القتل لئلا يتحدث النَّاس أنه يقتُلُ أصحابه ولا سيما من صلَّى كما تقدم نظيره في قصة عبد الله بن أبي، وصوبه الحافظ. قَوْلُهُ: (أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي مَجْلِسٍ يُسَارُّهُ يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ) الحديث، قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ الْمُعَامَلَةُ لِلنَّاسِ بِمَا يُعْرَفُ مِنْ ظَوَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ مِنْ دُون تَفْتِيشٍ وَتَنْقِيشٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَتَعَبَّدْنَا اللَّهُ بِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: «إنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ» . وَقَالَ لِأُسَامَةَ لَمَّا قَالَ لَهُ: (إنَّمَا قَالَ مَا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَقِيَّةً) يَعْنِي: الشَّهَادَةَ «هَلْ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ» ؟ وَاعْتِبَارُهُ - صلى الله عليه وسلم - لِظَوَاهِرِ الْأَحْوَالِ كَانَ دَيْدَنًا لَهُ وَهَجِيرًا فِي جَمِيع أُمُورِهِ، مِنْهَا قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ لَمَّا اعْتَذَرَ لَهُ

(1/141)


يَوْمَ بَدْرٍ بِأَنَّهُ مُكْرَهٌ، فَقَالَ لَهُ: «كَانَ ظَاهِرُكَ عَلَيْنَا» . وَكَذَلِكَ حَدِيثُ: «إنَّمَا أَقْضِي بِمَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذَنَّهُ إنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ» . وَكَذَلِكَ حَدِيثُ «إنَّمَا نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ» . وَمِنْ أَعْظَمِ اعْتِبَارَاتِ الظَّاهِرِ مَا كَانَ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ التَّعَاطِي وَالْمُعَامَلَةِ بِمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْحَالِ. بَابُ حُجَّةِ مَنْ كَفَّرَ تَارِكَ الصَّلَاةِ 508- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالنَّسَائِيُّ. 509- وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. 510- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ الْعُقَيْلِيِّ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مُنْ الْأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلَاةِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. 511- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَقَالَ: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نُورًا وَلَا بُرْهَانًا وَلَا نَجَاةً، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيُّ بْنِ خَلَفٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنْ تَرْكَ الصَّلَاةِ مِنْ مُوجِبَاتِ الْكُفْرِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي كُفْرِ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُنْكِرًا لِوُجُوبِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ أَوْ لَمْ يُخَالِطْ الْمُسْلِمِينَ مُدَّةً يَبْلُغُهُ فِيهَا وُجُوبُ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ لَهَا تَكَاسُلًا مَعَ اعْتِقَادِهِ لِوُجُوبِهَا كَمَا هُوَ حَالُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَتْ الْعِتْرَةُ وَالْجَمَاهِيرُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بَلْ يَفْسُقُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قَتَلَ حَدًّا كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَلَكِنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ إلَى أَنَّهُ يَكْفُرُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَبِهِ

(1/142)


قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَهُوَ وَجْهٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْمُزَنِيِّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ وَلَا يُقْتَلُ بَلْ يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ حَتَّى يُصَلِّيَ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّهُ كَافِرٌ يُقْتَلُ، أَمَّا كُفْرُهُ فَلِأَنَّ الْأَحَادِيثَ قَدْ صَحَّتْ أَنَّ الشَّارِعَ سَمَّى تَارِكَ الصَّلَاةِ بِذَلِكَ الِاسْمِ وَجَعَلَ الْحَائِلَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ جَوَازِ إطْلَاقِ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ هُوَ الصَّلَاةُ، فَتَرْكُهَا مُقْتَضٍ لِجَوَازِ الْإِطْلَاقِ. وَأَمَّا أَنَّهُ يُقْتَلُ فَلِأَنَّ حَدِيثَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ» يَقْضِي بِوُجُوبِ الْقَتْلِ لِاسْتِلْزَامِ الْمُقَاتَلَةِ لَهُ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ، وَلَا أَوْضَحَ مِنْ دَلَالَتهَا عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَقَدْ شَرَطَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ التَّخْلِيَةَ بِالتَّوْبَةِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَقَالَ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا ... سَبِيلَهُمْ} ، فَلَا يُخَلَّى مَنْ لَمْ يُقِمْ الصَّلَاةَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ بَرِئَ عُنُقُهُ، وَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» . فَقَالُوا: أَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لَا مَا صَلَّوْا» . فَجَعَلَ الصَّلَاةَ هِيَ الْمَانِعَةُ مِنْ مُقَاتَلَةِ أُمَرَاءِ الْجَوْرِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لَخَالِدٍ: «لَعَلَّهُ يُصَلِّي» فَجَعَلَ الْمَانِعَ مِنْ الْقَتْلِ نَفْسَ الصَّلَاةِ. وَحَدِيثُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ» لَا يُعَارِضُ مَفْهُومُهُ الْمَنْطُوقَاتِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ. إِلِى أَنْ قَالَ: اخْتَلَفُوا هَلْ يَجِبُ الْقَتْلُ لِتَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ يُقْتَلُ لِتَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْأَحَادِيثُ قَاضِيَةٌ بِذَلِكَ، وَالتَّقْيِيدُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْوَاحِدَةِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إذَا دُعِيَ إلَى الصَّلَاةِ فَامْتَنَعَ وَقَالَ: لَا أُصَلِّي حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا وَجَبَ قَتْلُهُ. بَابُ حُجَّةِ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ تَارِكَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَقْطَعْ عَلَيْهِ بِخُلُودٍ فِي النَّارِ وَرَجَا لَهُ مَا يُرْجَى لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ 512- عَنْ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُدْعَى الْمُخْدَجِيَّ سَمِعَ رَجُلًا بِالشَّامِّ يُدْعَى أَبَا مُحَمَّدٍ يَقُولُ: إنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ، قَالَ الْمُخْدَجِيُّ: فَرُحْتُ إلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ عُبَادَةَ: كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ، مَنْ أَتَى بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّع مِنْهُنَّ شَيْئًا - اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ - كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ،

(1/143)


وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ، إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 513- وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ فِيهِ: «وَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ قَدْ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ» . 514- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ، فَإِنْ أَتَمَّهَا وَإِلَّا قِيلَ: اُنْظُرُوا هَلْ لَهُ مَنْ تَطَوُّعٍ؟ فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ أُكْمِلَتْ الْفَرِيضَةُ مِنْ تَطَوُّعِهِ، ثُمَّ يُفْعَلُ بِسَائِرِ الْأَعْمَالِ الْمَفْرُوضَةِ مِثْلُ ذَلِكَ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. وَيُعْضَدُ هَذَا الْمَذْهَبَ عُمُومَاتٌ، مِنْهَا: 515- مَا رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ الْعَمَلِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 516- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ - وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ -: «يَا مُعَاذُ» . قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ - ثَلَاثًا -. ثُمَّ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» . قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُخْبِرُ بِهَا النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: ... «إذَنْ يَتَّكِلُوا» . فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا: (أَيْ خَوْفًا مِنْ الْإِثْمِ بِتَرْكِ الْخَبَرِ بِهِ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 517- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ نَائِلَةٌ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 518- وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

(1/144)


وَقَدْ حَمَلُوا أَحَادِيثَ التَّكْفِيرِ عَلَى كُفْرِ النِّعْمَةِ أَوْ عَلَى مَعْنى قَدْ قَارَبَ الْكُفْرَ، وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أُرِيدَ بِهَا ذَلِكَ. 519- فَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 520- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ - وَهُوَ يَعْلَمُهُ - إلَّا كَفَرَ، وَمَنْ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا، وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 521- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 522- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَحْلِفُ وَأَبِي، فَنَهَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِشَيْءٍ دُونَ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 523- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنْهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ... «مُدْمِنُ الْخَمْرِ إنْ مَاتَ لَقِيَ اللَّهَ كَعَابِدِ وَثَنٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ» إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى عَدَمِ كُفْرِ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةِ وَعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ لِلْخُلُودِ فِي النَّارِ لِقَوْلِهِ: «إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ» إِلِى أَنْ قَالَ: إِلِى أَنْ قَالَ: قَدْ أَطْبَقَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ بِأَنَّ مَنْ قَال: «لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ الْإِخْلَالِ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ مِنْ سَائِرِ الْفَرَائِضِ وَعَدَمِ فِعْلِ كَبِيرَةٍ مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي لَمْ يَتُبْ فَاعِلُهَا عَنْهَا، وَأَنَّ مُجَرَّدَ الشَّهَادَةِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِدُخُولِ الْجَنَّةِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَلَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي خُلُودِ مَنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ أَوْ قَارَفَ شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فِي النَّارِ مَعَ تَكَلُّمِهِ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ وَعَدَمِ التَّوْبَةِ عَنْ ذَلِكَ، فَالْمُعْتَزِلَةُ جَزَمُوا بِالْخُلُودِ، وَالْأَشْعَرِيَّةُ قَالُوا: يُعَذَّبُ فِي النَّارِ ثُمَّ يُنْقَلُ إلَى الْجَنَّةِ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي دُخُولِهِ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، فَالْأَشْعَرِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ قَالُوا بِدُخُولِهِ تَحْتَهَا، وَالْمُعْتَزِلَةُ

(1/145)


مَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْمُصَنِّفُ فِي تَأْيِيدِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّأْوِيلِ فَالنِّزَاعُ كَالنِّزَاعِ فِي إطْلَاقِ الْكُفْرِ عَلَى تَارِكِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ عَرَّفْنَاكَ أَنَّ سَبَبَ الْوُقُوعِ فِي مَضِيقِ التَّأْوِيلِ تَوَهُّمُ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ الْكُفْرِ وَعَدَمِ الْمَغْفِرَةِ، وَلَيْسَ بِكُلِّيَّةٍ، وَانْتِفَاءُ كُلِّيَّتِهَا يُرِيحُكَ مِنْ تَأْوِيلِ مَا وَرَدَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ. وَنَقُولُ: مَنْ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَافِرًا سَمَّيْنَاهُ كَافِرًا وَلَا نَزِيدُ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ، وَلَا نَتَأَوَّلُ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِعَدَمِ الْمُلْجِئِ إلَى ذَلِكَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وبالله التوفيق. بَابُ أَمْرِ الصَّبِيِّ بِالصَّلَاةِ تَمْرِينًا لَا وُجُوبًا 524- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 525- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 526- وَمِثْلُهُ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيٍّ لَهُ. وَلِأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ أَمْرِ الصِّبْيَانِ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغُوا سَبْعَ سِنِينَ وَضَرَبَهُمْ عَلَيْهَا إذَا بَلَغُوا عَشْرًا وَالتَّفْرِيقِ بَيْنهمْ في المضاجع. قال: وَحَدِيثُ عائشة يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَكْلِيفِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ مَا دَامُوا مُتَّصِفِينَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ. انْتَهَى. قال القاضي: يجب على ولي الصبي تعليمه الطهارة والصلاة وأمره بها إذا بلغ سبع سنين وتأديبه عليها إذا بلغ عشر سنين لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك، وظاهر الأمر الوجوب، وهذا الأمر والتأديب في حق الصبي لتمرينه عليها كي يألفها ويعتادها فلا يتركها عند البلوغ.

(1/146)


بَابُ أَنَّ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ لَمْ يَقْضِ الصَّلَاةَ 527- عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» أَيْ يَقْطَعُهُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يُذْهِبُ أَثَرَ الْمَعَاصِي الَّتِي فَارَقَهَا حَالَ كُفْرِهِ. وَأَمَّا الطَّاعَاتُ الَّتِي أَسْلَفَهَا قَبْلَ إسْلَامِهِ فَلَا يَجُبُّهَا لِحَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عِنْد مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. هَلْ لِي فِيهَا مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ» .

(1/147)


أَبْوَابُ الْمَوَاقِيتِ بَابُ وَقْتِ الظُّهْرِ 528- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ: قُمْ فَصَلِّهِ. فَصَلَّى الظُّهْرَ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ جَاءَهُ الْعَصْرَ فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّهِ. فَصَلَّى الْعَصْرَ حِين صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، ثُمَّ جَاءَهُ الْمَغْرِبَ فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّهِ. فَصَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ وَجَبَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ جَاءَهُ الْعِشَاءَ فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّهِ. فَصَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ جَاءَهُ الْفَجْرُ فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّهِ. فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ بَرَقَ الْفَجْرُ، أَوْ قَالَ: سَطَعَ الْفَجْرُ، ثُمَّ جَاءَهُ مِنْ الْغَدِ لِلظُّهْرِ فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّهِ. فَصَلَّى الظُّهْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، ثُمَّ جَاءَهُ الْعَصْرَ فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّهِ. فَصَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَهُ الْمَغْرِبَ وَقْتًا وَاحِدًا لَمْ يَزُلْ عَنْهُ، ثُمَّ جَاءَهُ الْعِشَاءَ حِينَ ذَهَبَ نِصْفُ اللَّيْلِ، أَوْ قَالَ: ثُلُثُ اللَّيْلِ فَصَلَّى الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَهُ حِينَ أَسْفَرَ جِدًّا، فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّهِ. فَصَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ قَالَ: مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَقْتٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ بِنَحْوِهِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: هُوَ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي الْمَوَاقِيتِ. 529- وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَمَّنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ» . فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ جَابِرٍ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: وَصَلَّى الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ حِين صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ. وَقَالَ فِيهِ: ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْل ِ. وَفِيهِ: ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ

(1/148)


هَذَا وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ، وَالْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلصَّلَوَاتِ وَقْتَيْنِ وَقْتَيْنِ إلَّا الْمَغْرِب، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ. وَعَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَهَا أَوْقَاتٌ مَخْصُوصَةٌ لَا تُجْزِئُ قَبْلَهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَعَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ وَقْتِ الظُّهْرِ الزَّوَالُ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ يُعْتَدُّ بِهِ، وَآخِرُهُ مَصِيرُ ظِلِّ الشَّيْءِ مِثْلَهُ. وَقَالَ فِي بَابِ وَقْتِ صَلاةِ الْمَغْرِبْ: وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهَا: هَلْ هِيَ ذَاتَ وَقتْ أَوْ وَقْتَيْن؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهُ لَيْسَ لَهَا إلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ. وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو ثَوْرٍ أَنَّ لَهَا وَقْتَيْنِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ انْتَهَى. قلت: وهو الصواب لما روى مسلم وغيره في حديث عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَوَقْتُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبْ الشَّفَقُ» . قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ جِبْرِيلَ حِينَ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى بَيَانِ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ، وَلَمْ يَسْتَوْعِبْ وَقْتَ الْجَوَازِ، وَهَذَا جَارٍ فِي كُلِّ الصَّلَوَاتِ سِوَى الظُّهْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِمَكَّةَ، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ بِامْتِدَادِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ إلَى غُرُوبِ الشَّفَقِ، مُتَأَخِّرَةٌ فِي آخِرِ الْأَمْرِ بِالْمَدِينَةِ، فَوَجَبَ اعْتِمَادُهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ أَصَحُّ إسْنَادًا مِنْ حَدِيثِ بَيَانِ جِبْرِيلَ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهَا. انْتَهَى. بَابُ تَعْجِيلِهَا وَتَأْخِيرِهَا فِي شِدَّةِ الْحَرِّ 530- عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الظُّهْرَ إذَا دَحَضَتْ الشَّمْسُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو دَاوُد. 531- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الظُّهْرَ فِي أَيَّامِ الشِّتَاءِ، وَمَا نَدْرِي أَمَا ذَهَبَ مِنْ النَّهَارِ أَكْثَرُ أَوْ مَا بَقِيَ مِنْهُ؟ رَوَاهُ أَحْمَدُ. 532- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا كَانَ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ وَإِذَا كَانَ الْبَرْدُ عَجَّلَ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 533- وَلِلْبُخَارِيِّ نَحْوُهُ. 534 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ

(1/149)


فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 535- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ فَأَرَادَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلظُّهْرِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَبْرِدْ» . ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ، فَقَالَ لَهُ: «أَبْرِدْ» . حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ «إذَا دَحَضَتْ الشَّمْسُ» أي زالت. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ تقديمها، وقد خصَّه الجمهور بما عدا أيام شدّةِ الحر، وقالوا: يستحب الإبراد فيها إلى أن يبرد الوقت وينْكسِر الوَهج. قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ: «أَبْرِدْ» حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَالتُّلُولُ جَمْعُ تَلٍّ: وَهُوَ الرَّبْوَةُ مِنْ التُّرَابِ الْمُجْتَمِعِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أَخَّرَ تَأْخِيرًا كَثِيرًا حَتَّى صَارَ لِلتُّلُولِ فَيْءٌ وَهِيَ مُنْبَطِحَةٌ لَا يَصِيرُ لَهَا فَيْءٌ فِي الْعَادَةِ إلَّا بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ بِكَثِيرٍ. والْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْإِبْرَادِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِبْرَادَ أَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَنْتَابُوا الْمَسْجِدَ مِنْ بَعْدُ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِهِ مَعَ اجْتِمَاعِهِمْ مَعَهُ. بَابُ أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ وَآخِرِهِ فِي الِاخْتِيَارِ وَالضَّرُورَةِ قَدْ سَبَقَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ فِي بَابِ وَقْتِ الظُّهْرِ. 536 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَقْتُ صَلَاةِ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْعَصْرُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ ثَوْرُ الشَّفَقِ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 537- وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «وَوَقْتُ الْفَجْرِ مَا لَمْ يَطْلُعْ قَرْنُ الشَّمْسِ الْأَوَّلُ» . وَفِيهِ: «وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ وَيَسْقُطْ قَرْنُهَا الْأَوَّلُ» . 538- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «تِلْكَ صَلَاةُ

(1/150)


الْمُنَافِقِ يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ. 539- وَعَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ وَأَتَاهُ سَائِلٌ يَسْأَلُهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ الْفَجْرَ حِينَ انْشَقَّ الْفَجْرُ، وَالنَّاسُ لَا يَكَادُ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الظُّهْرَ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ، وَالْقَائِلُ يَقُولُ: انْتَصَفَ النَّهَارُ أَوْ لَمْ؟ ، وَكَانَ أَعْلَمَ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ حِينَ وَقَبَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ أَخَّرَ الْفَجْرَ مِنْ الْغَدِ حَتَّى انْصَرَفَ مِنْهَا وَالْقَائِلُ يَقُولُ: طَلَعَتْ الشَّمْسُ أَوْ كَادَتْ، وَأَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى كَانَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ، ثُمَّ أَخَّرَ الْعَصْرَ فَانْصَرَفَ مِنْهَا، وَالْقَائِلُ يَقُولُ: احْمَرَّتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى كَانَ عِنْدَ سُقُوطِ الشَّفَقِ. 540- وَفِي لَفْظٍ: فَصَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ، وَأَخَّرَ الْعِشَاءَ حَتَّى كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ، ثُمَّ أَصْبَحَ فَدَعَا السَّائِلَ فَقَالَ: «الْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 541- وَرَوَى الْجَمَاعَةُ - إلَّا الْبُخَارِيَّ - نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «ثَوْرُ الشَّفَقِ» هُوَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ ثَوَرَانُهُ وَانْتِشَارُهُ وَمُعْظَمُهُ. وَفِي الْقَامُوسِ أَنَّهُ حُمْرَةُ الشَّفَقِ الثَّائِرِ فِيهِ. وَالْحَدِيثُ فِيهِ ذِكْرُ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ على الظُّهْرِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى امْتِدَادِ وَقْتِ العصر إلَى اصْفِرَارِ الشَّمْسِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لِلْعَصْرِ خَمْسَةُ أَوْقَاتٍ: وَقْتُ فَضِيلَةٍ، وَاخْتِيَارٍ، وَجَوَازٍ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَجَوَازُ مَعَ كَرَاهَةٍ، وَوَقْتُ عُذْرٍ؛ فَأَمَّا وَقْتُ الْفَضِيلَةِ فَأَوَّلُ وَقْتِهَا. وَوَقْتُ الِاخْتِيَارِ يَمْتَدُّ إلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ الشَّيْءِ مِثْلَيْهِ، وَوَقْتُ الْجَوَازِ إلَى الِاصْفِرَارِ، وَوَقْتُ الْجَوَازِ إِلَى الِاصْفِرَارِ، وَوَقْتُ الْجَوَازِ مَعَ الْكَرَاهَةِ حَالَ الِاصْفِرَارِ إلَى الْغُرُوبِ. وَوَقْتُ الْعُذْرِ وَهُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ فِي حَقِّ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ لِسَفَرٍ أَوْ مَطَرٍ، وَيَكُونُ الْعَصْرُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ أَدَاءً، فَإِذَا فَاتَتْ كُلُّهَا بِغُرُوبِ الشَّمْسِ،

(1/151)


صَارَتْ قَضَاءً انْتَهَى. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْمَغْرِبِ وَقْتَيْنِ، وَأَنَّ الشَّفَقَ: الْحُمْرَةُ، وَأَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ يُعَاقِبُهُ وَقْتُ الْعَصْرِ، وَأَنَّ تَأْخِيرَ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ جَائِزٌ. قوله: (وَأَتَاهُ سَائِلٌ يَسْأَلُهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ الْفَجْرَ) إلى قوله: (ثُمَّ أَصْبَحَ فَدَعَا السَّائِلَ فَقَالَ: «الْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ» . قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي إثْبَاتِ الْوَقْتَيْنِ لِلْمَغْرِبِ، وَجَوَازِ تَأْخِيرِ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَهَذَا مُتَأَخِّرٌ وَمُتَضَمِّنٌ زِيَادَةً فَكَانَ أَوْلَى، وَفِيهِ مِنْ الْعِلْمِ جَوَازُ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ السُّؤَالِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَهَكَذَا صَرَّحَ الْبَيْهَقِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ صَلَاةَ جِبْرِيلَ كَانَتْ بِمَكَّةَ، وَقِصَّةُ الْمَسْأَلَةِ بِالْمَدِينَةِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الْوَقْتَ الْآخِرَ لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ رُخْصَةٌ. بَاب مَا جَاءَ فِي تَعْجِيلِهَا وَتَأْكِيدِهِ مَعَ الْغَيْمِ 542 - عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إلَى الْعَوَالِي فَيَأْتِيهِمْ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. 543- وَلِلْبُخَارِيِّ: وَبَعْضُ الْعَوَالِي مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ أَوْ نَحْوِهِ. 544- وَكَذَلِكَ لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد مَعْنَى ذَلِكَ. 545- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعَصْرَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نُرِيدُ أَنْ نَنْحَرَ جَزُورًا لَنَا وَإِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَحْضُرَهَا قَالَ: «نَعَمْ» . فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْنَا مَعَهُ، فَوَجَدْنَا الْجَزُورَ لَمْ تُنْحَرْ فَنُحِرَتْ ثُمَّ قُطِّعَتْ ثُمَّ طُبِخَ مِنْهَا ثُمَّ أَكَلْنَا قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

(1/152)


546- وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ نَنْحَرُ الْجَزُورَ فَنَقْسِمُ عَشْرَ قِسَمٍ، ثُمَّ نَطْبُخُ فَنَأْكُلُ لَحْمَهُ نَضِيجًا قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 547- وَعَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةٍ، فَقَالَ: «بَكِّرُوا بِالصَّلَاةِ فِي الْيَوْمِ الْغَيْمِ، فَإِنَّهُ مَنْ فَاتَهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ حَبِطَ ... عَمَلُهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: والحديث يدلّ على استحبابِ الْمُبَادَرَةِ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ أَوَّلَ وَقْتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَذْهَبَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِيلَيْنِ وَثَلَاثَةً وَالشَّمْسُ لَمْ تَتَغَيَّرْ بِصُفْرَةٍ وَنَحْوِهَا إلَّا إذَا صَلَّى الْعَصْرَ حِين صَارَ ظِلُّ الشَّيْءِ مِثْلَهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَا يَكَادُ يَحْصُلُ هَذَا إلَّا فِي الْأَيَّامِ الطَّوِيلَةِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَأَمَّا تَقْيِيدُ التَّبْكِيرِ بِالْغَيْمِ فَلِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْتِبَاسِ الْوَقْتِ، فَإِذَا وَقَعَ التَّرَاخِي فَرُبَّمَا خَرَجَ الْوَقْتُ أَوْ اصْفَرَّتْ الشَّمْسُ قَبْلَ فِعْلِ الصَّلَاةِ، وَلِهَذِهِ الزِّيَادَةِ تَرْجَمَ الْمُصَنِّفُ الْبَابَ بِقَوْلِهِ: وَتَأْكِيدُهُ فِي الْغَيْمِ. بَابُ بَيَانِ أَنَّهَا الْوُسْطَى وَمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا 548- عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ - يَوْمَ الْأَحْزَابِ -: «مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 549- وَلِمُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد: «شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ» . 550- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كُنَّا نَرَاهَا الْفَجْرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ» . يَعْنِي صَلَاةَ الْوُسْطَى. رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ. 551- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حَبَسَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى احْمَرَّتْ الشَّمْسُ أَوْ اصْفَرَّتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى - صَلَاةِ الْعَصْرِ - مَلَأَ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا أَوْ حَشَا اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ.

(1/153)


552- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «صَلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. 553- وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 554- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَسَمَّاهَا لَنَا أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ» . 555- وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ) . فَقَرَأْنَاهَا مَا شَاءَ اللَّه، ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّه فَنَزَلَتْ: ... {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} . فَقَالَ رَجُلٌ: هِيَ إذًا صَلَاةُ الْعَصْرِ؟ فَقَالَ: قَدْ أَخْبَرْتُكَ كَيْفَ نَزَلَتْ وَكَيْفَ نَسَخَهَا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 556- وَعَنْ أَبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا، فَقَالَتْ: إذَا بَلَغْت هَذِهِ الْآيَةَ فَآذِنِّي {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذَنْتُهَا، فَأَمْلَتْ عَلَيَّ: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) . قَالَتْ عَائِشَةُ: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ. 557- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ وَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي صَلَاةً أَشَدَّ عَلَى أَصْحَابِهِ مِنْهَا فَنَزَلَتْ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} . وَقَالَ: إنَّ قَبْلَهَا صَلَاتَيْنِ وَبَعْدَهَا صَلَاتَيْنِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 558- وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى قَالَ: هِيَ الظُّهْرُ، إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَجِيرِ وَلَا يَكُونُ وَرَاءَهُ إلَّا الصَّفُّ وَالصَّفَّانِ، وَالنَّاسُ فِي قَائِلَتِهِمْ وَفِي تِجَارَتِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قوله - صلى الله عليه وسلم -: «شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ» قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ الْعَصْرُ. وَنَقَلَهُ

(1/154)


التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ. قَوْلهُ: (نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ. فَقَرَأْنَاهَا مَا شَاءَ اللَّه، ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّه فَنَزَلَتْ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} ) . الحديث. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهَا الْعَصْرَ لِأَنَّهُ خَصَّهَا وَنَصَّ عَلَيْهَا فِي الْأَمْرِ بِالْمُحَافَظَةِ، ثُمَّ جَاءَ النَّاسِخُ فِي التِّلَاوَةِ مُتَيَقَّنًا. وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مَشْكُوكٌ فِيهِ فَيَسْتَصْحِبُ الْمُتَيَقَّنُ السَّابِقَ، وَهَكَذَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَعْظِيمُ أَمْرِ فَوَاتِهَا تَخْصِيصًا. 559- فَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الَّذِي تَفُوتهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وَتَرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. قَوْلهُ: فَأَمْلَتْ عَلَيَّ: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ) . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ سِيَاقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَا لَفْظُهُ: وَهَذَا يَتَوَجَّهُ مِنْهُ كَوْنُ الْوُسْطَى الْعَصْرَ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَتَهَا فِي الْحَثِّ عَلَى الْمُحَافَظَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَأَكُّدِهَا، وَتَكُونُ الْوَاوُ فِيهِ زَائِدَةً كَقَوْلِهِ تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً} أَيْ ضِيَاءً وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ} أَيْ نَادَيْنَاهُ إلَى نَظَائِرِهَا. قَالَ الشَّارِحُ: أو تَكُون مِنْ بَابِ عَطْفِ إحْدَى الصِّفَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى وَهُمَا لِشَيْءٍ وَاحِدٍ نَحْو قَوْلِهِ: إلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمِ قوله: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ وَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي صَلَاةً أَشَدَّ عَلَى أَصْحَابِهِ مِنْهَا فَنَزَلَتْ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْأَثَرَانِ اسْتَدَلَّ بِهِمَا مَنْ قَالَ: إنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ الظُّهْرُ وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِ صَلَاةِ الظُّهْرِ كَانَتْ شَدِيدَةً عَلَى الصَّحَابَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَازِلَةً فِيهَا، غَايَةُ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُنَاسِبَ أَنْ تَكُونَ الْوُسْطَى هِيَ الظُّهْرُ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعَارَضُ بِهِ تِلْكَ النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ

(1/155)


الصَّرِيحَةَ الثَّابِتَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرَهُمَا مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ. قَالَ الْمُصَنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ احْتَجَّ بِهما مَنْ يَرَى تَعْجِيلَ الظُّهْرُ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ. بَابُ وَقْتِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ 560- عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَتَوَارَتْ بِالْحِجَابِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا النَّسَائِيّ. 561- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ - أَوْ عَلَى الْفِطْرَةِ - مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ حَتَّى تَشْتَبِكَ النُّجُومُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 562- وَعَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: قَالَ لِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: مَا لَكَ تَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ، وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِيهَا بِطُولَى الطُّولَيْنِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَحْمَدُ. 563- وَالنَّسَائِيُّ وَزَادَ: عَنْ عُرْوَةَ بِطُولَى الطُّولَيْنِ الْأَعْرَافِ. وَلِلنَّسَائِيِّ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِيهَا بِطُولَى الطُّولَيْنِ {المص} . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَتَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) وَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ إذَا تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ، وَلَمْ يَجْرِ لِلشَّمْسِ ذِكْرٌ إحَالَةً عَلَى فَهْمِ السَّامِعِ، وَمَا يُعْطِيهِ قُوَّةَ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ يَدْخُلُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْمُسَارَعَةَ بِالصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا مَشْرُوعَةٌ. قَوْلُهُ: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي عَلَى الْفِطْرَةِ مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ حَتَّى تَشْتَبِكَ النُّجُومُ» قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْمُبَادَرَة بِصَلَاةِ الْمَغْرِب وَكَرَاهَةِ تَأْخِيرِهَا إلَى اشْتِبَاكِ النُّجُومِ. وَقَدْ عَكَسَتْ الرَّوَافِضُ الْقَضِيَّةَ فَجَعَلَتْ تَأْخِيرَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ إلَى اشْتِبَاكِ النُّجُومِ، مُسْتَحَبًّا وَالْحَدِيثُ يَرُدّهُ. قَوْلُهُ: (بِطُولَى الطُّولَيْنِ) الطُّولَيانِ: الْأَعْرَافُ وَالْأَنْعَامُ. قَالَ الْحَافِظُ: إنَّهُ

(1/156)


حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى تَفْسِيرِ الطُّولَى بِالْأَعْرَافِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّطْوِيلِ فِي قِرَاءَةِ الْمَغْرِبِ وَقَدْ اخْتَلَفَتْ حَالَاتُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا فَثَبَتَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ وَثَبَتَ أَنَّهُ قَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِالصَّافَّاتِ. وَأَنَّهُ قَرَأَ فِيهَا بحم الدُّخَانِ. وَأَنَّهُ قَرَأَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. وَأَنَّهُ قَرَأَ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَأَنَّهُ قَرَأَ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ. وَأَنَّهُ قَرَأَ بِالْمُرْسَلَاتِ. وَأَنَّهُ قَرَأَ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي بَابِ جَامِعِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمُصَنِّفُ سَاقَ الْحَدِيثَ هُنَا لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى امْتِدَادِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ، وَلِهَذَا قَالَ: وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ امْتِدَادِ وَقْتِهَا إلَى غُرُوبِ الشَّفَقِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ. بَابُ تَقْدِيمِ الْعَشَاءِ - إذَا حَضَرَ - عَلَى تَعْجِيلِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ 564- عَنْ أَنَسٍ بن مالك أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا قُدِّمَ الْعَشَاءُ فَابْدَءُوا بِهِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، وَلا تَعْجَلُوا عَنْ عَشَائِكُمْ» . 565- وَعَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَحَضَرَ الْعَشَاءُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ» . 566- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ وَلَا تَعْجَلْ حَتَّى تَفْرُغَ مِنْهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ. 567- وَلِلْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُد: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُوضَعُ لَهُ الطَّعَامُ، وَتُقَامُ الصَّلَاةُ فَلَا يَأْتِيهِم حَتَّى يَفْرُغَ، وَإِنَّهُ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ الْعَشَاءِ عَلَى صَلَاةِ الْمَغْرِبِ إنْ حَضَرَ، وَالْحَدِيثَانِ الْآخَرَانِ يَدُلَّانِ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ الْعَشَاءِ إذَا حَضَرَ عَلَى الْمَغْرِبِ وَغَيْرِهَا، لِمَا يُشْعِرُ بِهِ تَعْرِيفُ الصَّلَاةُ مِنْ الْعُمُومِ. انْتَهَى. قال الحافظ: قَوْلُهُ: «فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ» . حمل الجمهور هذا الأمر على الندب. ومنهم من قيده بمن إذا كان محتاجًا إلى الأكل. قَالَ

(1/157)


النَّوَوِيُّ: فِي هَذِه الأَحَادِيثِ كَرَاهِية الصَّلَاةِ بِحَضْرَة الطَّعَامِ الذي يريد أكله لما فيهِ مِنْ ذَهَابِ كَمَالِ الْخُشُوعِ. بَابُ جَوَازِ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ 568- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ الْمُؤَذِّنُ إذَا أَذَّنَ قَامَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُمْ كَذَلِكَ يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ شَيْءٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: إلَّا قَلِيلٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 569- وَفِي لَفْظِ: كُنَّا نُصَلِّي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَقِيلَ لَهُ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّاهُمَا؟ قَالَ: كَانَ يَرَانَا نُصَلِّيهِمَا فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 570- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ» . ثُمَّ قَالَ: «صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ» ، ثُمَّ قَالَ عِنْدَ الثَّالِثَةِ: «لِمَنْ شَاءَ» كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 571- وَفِي رِوَايَةٍ: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ» . ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: «لِمَنْ شَاءَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 572- وَعَنْ أَبِي الْخَيْرِ قَالَ: أَتَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا أُعَجِّبُكَ مِنْ أَبِي تَمِيمٍ؟ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ! فَقَالَ عُقْبَةُ: إنَّا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْت: فَمَا يَمْنَعُكَ الْآنَ؟ قَالَ: الشَّغْلُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 573- وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا بِلالُ اجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ نَفَسًا يَفْرُغُ الْآكِلُ مِنْ طَعَامِهِ فِي مَهَلٍ وَيَقْضِي الْمُتَوَضِّئُ حَاجَتَهُ فِي مَهَلٍ» . رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي الْمُسْنَدِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: تَقْرِيرُهُ - صلى الله عليه وسلم - لِمَنْ رَآهُ يُصَلِّي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَلَاسِيَّمَا وَالْفَاعِلُ لِذَلِكَ عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْ

(1/158)


الصَّحَابَةِ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - قَوْلًا وَفِعْلًا وَتَقْرِيرًا. قَوْلُهُ: «كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً» قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: لَمْ يَرِدْ نَفْيُ اسْتِحْبَابِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا لَا يُسْتَحَبُّ بَلْ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَدَلِّ الْأَدِلَّةِ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا. قَوْلُهُ: «يَا بِلَالُ اجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ نَفَسًا» . إلى آخره قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَكَرَاهَةِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَهُمَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَفْوِيتِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُرِيدِينَ لَهَا؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى طَعَامِهِ أَوْ غَيْرَ مُتَوَضِّئٍ حَالَ النِّدَاءِ إذَا اسْتَمَرَّ عَلَى أَكْلِ الطَّعَامِ أَوْ تَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ أَوْ بَعْضُهَا بِسَبَبِ التَّعْجِيلِ وَعَدَمِ الْفَصْلِ لَاسِيَّمَا إذَا كَانَ مَسْكَنُهُ بَعِيدًا مِنْ مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ، فَالتَّرَاخِي بِالْإِقَامَةِ نَوْعٌ مِنْ الْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى الْمَنْدُوبِ إلَيْهَا. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَكُلُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْمَغْرِبِ وَقْتَيْنِ وَأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَ أَذَانِهَا وَإِقَامَتِهَا بِقَدْرِ رَكْعَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا حَدَّ لِذَلِكَ غَيْرَ تَمَكُّنِ دُخُولِ الْوَقْتِ وَاجْتِمَاعِ الْمُصَلِّينَ. بَابٌ فِي أَنَّ تَسْمِيَتَهَا بِالْمَغْرِبِ أَوْلَى مِنْ تَسْمِيَتِهَا بِالْعِشَاءِ 574- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا يَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ الْمَغْرِبِ» . قَالَ: «وَالْأَعْرَابُ تَقُولُ: هِيَ الْعِشَاءُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «الْأَعْرَابُ تَقُولُ هِيَ الْعِشَاءُ» ؛ لِأَنَّ الْعِشَاءَ لُغَةً أَوَّلِ ظَلَامِ اللَّيْلِ وَالْمَعْنَى النَّهْيُ عَنْ تَسْمِيَةِ الْمَغْرِبِ بِالْعِشَاءِ. بَابُ وَقْتِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَفَضْلِ تَأْخِيرِهَا مَعَ مُرَاعَاةِ حَالِ الْجَمَاعَةِ وَبَقَاءِ وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ 575- عَنْ ابْن عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ فَإِذَا غَابَ الشَّفَقُ وَجَبَتْ الصَّلَاةُ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ.

(1/159)


576- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةً بِالْعَتَمَةِ فَنَادَى عُمَرُ: نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «مَا يَنْتَظِرُهَا غَيْرُكُمْ» ؟ وَلَمْ تُصَلَّ يَوْمئِذٍ إلَّا بِالْمَدِينَةِ ثُمَّ قَالَ: «صَلُّوهَا فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 577- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 578- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانُوا يُصَلُّونَ الْعَتَمَةَ فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. 579- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ أَنْ يُؤَخِّرُوا الْعِشَاءَ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 580- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ وَالْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ نَقِيَّةٌ، وَالْمَغْرِبَ إذَا وَجَبَتْ الشَّمْسُ، وَالْعِشَاءَ أَحْيَانًا يُؤَخِّرُهَا وَأَحْيَانًا يُعَجِّلُ إذَا رَآهُمْ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ، وَالصُّبْحَ كَانُوا - أَوْ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّيهَا - بِغَلَسٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 581- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَعْتَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذَات لَيْلَةٍ حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ حَتَّى نَامَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى، فَقَالَ: «إنَّهُ لَوَقْتُهَا، لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 582- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَخَّرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ صَلَّى ثُمَّ قَالَ: «قَدْ صَلَّى النَّاسُ وَنَامُوا أَمَا إنَّكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُوهَا» . قَالَ أَنَسٌ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى وَبِيصِ خَاتِمِهِ لَيْلَتئِذٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 583- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: انْتَظَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةً لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ حَتَّى ذَهَبَ نَحْوٌ مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ قَالَ: فَجَاءَ فَصَلَّى بِنَا، ثُمَّ قَالَ: «خُذُوا مَقَاعِدَكُمْ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ أَخَذُوا مَضَاجِعَهُمْ، وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مُنْذُ انْتَظَرْتُمُوهَا، وَلَوْلَا ضَعْفُ الضَّعِيفِ وَسَقَمُ السَّقِيمِ، وَحَاجَةُ ذِي الْحَاجَةِ لَأَخَّرْتُ

(1/160)


هَذِهِ الصَّلَاةَ إلَى شَطْرِ اللَّيْلِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ: «الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ فَإِذَا غَابَ الشَّفَقُ وَجَبَتْ الصَّلَاةُ» . قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: «إنَّ الشَّفَقَ الْحُمْرَةُ» . قال: وَابْتِدَاءُ وَقْتِ الْعِشَاءِ مَغِيبَ الشَّفَقِ. قَوْلُهُ: (أَعْتَمَ) أَيْ دَخَلَ فِي الْعَتَمَةِ وَمَعْنَاهَا أَخَّرَهَا. وَالْعَتَمَةُ لُغَةً: حَلَبَ بَعْدَ هَوِيٍّ مِنْ اللَّيْلِ بُعْدًا مِنْ الصَّعَالِيكِ. وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا صَلَاةَ الْعِشَاءِ وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِوُقُوعِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا. قَوْلُهُ: (وَالْعِشَاءَ أَحْيَانًا يُؤَخِّرُهَا وَأَحْيَانًا يُعَجِّلُ إذَا رَآهُمْ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ) . فِيهِ مَشْرُوعِيَّة مُلاحَظَة أَحْوَال الْمُؤْتَمِّينَ وَالْمُبَادَرَةِ بِالصَّلاةِ مَعَ اجْتِمَاعِ الْمُصَلِّينَ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «وَلَوْلَا ضَعْفُ الضَّعِيفِ وَسَقَمُ السَّقِيمِ، وَحَاجَةُ ذِي الْحَاجَةِ لَأَخَّرْتُ هَذِهِ الصَّلَاةَ إلَى شَطْرِ اللَّيْلِ» . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: قُلْت: قَدْ ثَبَتَ تَأْخِيرُهَا إلَى شَطْرِ اللَّيْلِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَوْلًا وَفِعْلًا وَهُوَ يَثْبُتُ زِيَادَةً عَلَى أَخْبَارِ ثُلُثِ اللَّيْلِ وَالْأَخْذِ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى. قَالَ الشَّارِحُ: وَهَذَا صَحِيحٌ. بَابُ كَرَاهِيَةِ النَّوْمِ قَبْلَهَا وَالسَّمَرِ بَعْدَهَا إلَّا فِي مَصْلَحَةٍ 584- عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ الْعِشَاءَ الَّتِي يَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 585- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: جَدَبَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - السَّمَرَ بَعْدَ الْعِشَاءِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ: جَدَبَ: يَعْنِي زَجَرَنَا عَنْهُ، نَهَانَا عَنْهُ.

(1/161)


586- وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْمُرُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ اللَّيْلَةَ كَذَلِكَ فِي الْأَمْرِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَا مَعَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. 587- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَقَدْتُ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ لَيْلَةً كَانَ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَهَا لِأَنْظُرَ كَيْفَ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِاللَّيْلِ قَالَ: فَتَحَدَّثَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً ثُمَّ رَقَدَ وَسَاقَ الْحَدِيثَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَوْلُهُ: (وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا) . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَدْ كَرِهَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ النَّوْمَ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَرَخَّصَ بَعْضُهُمْ فِي النَّوْمِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ فِي رَمَضَانَ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالْعِلَّةُ فِي الْكَرَاهَةِ قَبْلَهَا لِئَلَّا يَذْهَبُ النَّوْمُ بِصَاحِبِهِ فَتَفُوتُهُ أَوْ يَفُوتُهُ فَضْلُ وَقْتِهَا الْمُسْتَحَبِّ أَوْ يَتَرَخَّصُ فِي ذَلِكَ النَّاسُ فَيَنَامُوا عَنْ إقَامَةِ جَمَاعَتِهَا. قَوْلُهُ: (جَدَبَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - السَّمَرَ بَعْدَ الْعِشَاءِ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (جَدَبَ) هُوَ بِجِيمٍ فَدَالٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ فَبَاءٌ كَمَنَعَ وَزْنًا وَمَعْنًى. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ السَّمَرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي السَّمَرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَكَرِهَ قَوْمٌ مِنْهُمْ السَّمَرَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَرَخَّصَ بَعْضُهُمْ إذَا كَانَ فِي مَعْنَى الْعِلْمِ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ الْحَوَائِجِ، وَأَكْثَرُ الْحَدِيثِ عَلَى الرُّخْصَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الْحَدِيثِ بَعْدَهَا إلَّا مَا كَانَ فِي خَيْرٍ. قِيلَ: وَعِلَّةُ الْكَرَاهَةِ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ السَّمَرُ مِنْ مَخَافَةِ غَلَبَةِ النَّوْمِ آخِرَ اللَّيْلِ عَنْ الْقِيَامِ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فِي جَمَاعَةٍ. أَوْ الْإِتْيَانِ بِهَا فِي وَقْتِ الْفَضِيلَةِ وَالِاخْتِيَارِ، أَوْ الْقِيَامِ لِلْوِرْدِ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ قِرَاءَةٍ فِي حَقِّ مَنْ عَادَتُهُ ذَلِكَ، وَلَا أَقَلَّ لِمَنْ أَمِنَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْكَسَلِ بِالنَّهَارِ عَمَّا يَجِبُ مِنْ الْحُقُوقِ فِيهِ وَالطَّاعَاتِ. بَابُ تَسْمِيَتِهَا بِالْعِشَاءِ عَلَى الْعَتَمَةِ 588- عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَمِيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ

(1/162)


يَجِدُوا إلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. زَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: فَقُلْتُ لِمَالِكٍ: أَمَا تَكْرَهُ أَنْ تَقُولَ الْعَتَمَةَ؟ قَالَ: هَكَذَا قَالَ الَّذِي حَدَّثَنِي. 589- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَا تَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ أَلَا إنَّهَا الْعِشَاءُ وَهُمْ يُعْتِمُونَ بِالْإِبِلِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. 590- وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «لَا تَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ الْعِشَاءِ فَإِنَّهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ الْعِشَاءُ وَإِنَّهَا تُعْتِمُ بِحِلَابِ الْإِبِلِ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ» أَيْ مِنْ مَزِيدِ الْفَضْلِ وَكَثْرَةِ الْأَجْرِ. قَوْلُهُ: «لَأَتَوْهُمَا» أَيْ لَأَتَوْا الْمَحَلَّ الَّذِي يُصَلِّيَانِ فِيهِ جَمَاعَةً. قَوْلُهُ: «وَلَوْ حَبْوًا» أَيْ زَحْفًا إذَا مَنَعَهُمْ مَانِعٌ مِنْ الْمَشْيِ كَمَا يَزْحَفُ الصَّغِيرُ. وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: «وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الْمَرَافِقِ وَالرُّكَبِ» وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْقِيَامِ بِوَظِيفَةِ الْأَذَانِ وَالْمُلَازَمَةِ لِلصَّفِّ الْأَوَّلِ وَالْمُسَارَعَةِ إلَى جَمَاعَةِ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ، وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَسْمِيَةِ الْعِشَاء بِالْعَتَمَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْعَتَمَةِ لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ خُوطِبَ بِالْعَتَمَةِ مَنْ لا يَعْرِفُ الْعِشَاءَ فَخُوطِبَ بِمَا يَعْرِفُهُ أَوْ اسْتَعْمَلَ لَفْظَ الْعَتَمَةِ؛ لِأَنَّهُ أَشْهَرُ عِنْدَ الْعَرَبِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَائِزَا فَلَمَّا كَثُرَ إطْلَاقُهُمْ لَهُ نُهُوا عَنْهُ لِئَلَّا تَغْلِبَ السُّنَّةُ الْجَاهِلِيَّةُ عَلَى السُّنَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَحْرُمُ. بَابُ وَقْتِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَمَا جَاءَ فِي التَّغْلِيسِ بِهَا وَالْإِسْفَارِ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ وَقْتِهَا فِي غَيْرِ حَدِيثٍ.

(1/163)


591- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنَّ نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الْفَجْرِ، مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إلَى بُيُوتِهِنَّ حِينَ يَقْضِينَ الصَّلَاةَ لَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْغَلَسِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 592- وَلِلْبُخَارِيِّ: وَلَا يَعْرِفُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا. 593- وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ مَرَّةً بِغَلَسٍ ثُمَّ صَلَّى مَرَّةً أُخْرَى فَأَسْفَرَ بِهَا ثُمَّ كَانَتْ صَلَاتُهُ بَعْد ذَلِكَ التَّغْلِيسَ حَتَّى مَاتَ لَمْ يَعُدْ إلَى أَنْ يُسْفِرَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 594- وَعَنْ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قُمْنَا إلَى الصَّلَاةِ، قُلْت: كَمْ كَانَ مِقْدَارُ مَا بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 595- عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. 596- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى صَلَاةً لِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إلَّا صَلَاتَيْنِ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ وَصَلَّى الْفَجْرَ يَوْمئِذٍ قَبْلَ مِيقَاتِهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 597- وَلِمُسْلِمٍ: قَبْلَ وَقْتِهَا بِغَلَسٍ. 598- وَلِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ فَقَدِمْنَا جَمْعًا فَصَلَّى الصَّلَاتَيْنِ كُلَّ صَلَاةٍ وَحْدَهَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَتَعَشَّى بَيْنَهُمَا ثُمَّ صَلَّى حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ - قَائِلٌ يَقُولُ: طَلَعَ الْفَجْرُ وَقَائِلٌ: لَمْ يَطْلُعْ - ثُمَّ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ حُوِّلَتَا عَنْ وَقْتِهِمَا فِي هَذَا الْمَكَانِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَلَا يَقْدَمُ النَّاسُ جَمْعًا حَتَّى يُعْتِمُوا وَصَلَاةُ الْفَجْرِ هَذِهِ السَّاعَةَ» . 599- وَعَنْ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: كُنْت مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَقُلْتُ لَهُ: إنِّي أُصَلِّي مَعَك ثُمَّ أَلْتَفِتُ فَلَا أَرَى وَجْهَ جَلِيسِي ثُمَّ أَحْيَانًا تُسْفِرُ؟ فَقَالَ: كَذَلِكَ رَأَيْتُ

(1/164)


رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وَأَحْبَبْتُ أَنْ أُصَلِّيَهَا كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّيهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 600- وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ إذَا كَانَ فِي الشِّتَاءِ فَغَلِّسْ بِالْفَجْرِ وَأَطِلْ الْقِرَاءَةَ قَدْرَ مَا يُطِيقُ النَّاسُ وَلَا تَمَلَّهُمْ، وَإِذَا كَانَ الصَّيْفُ فَأَسْفِرْ بِالْفَجْرِ فَإِنَّ اللَّيْلَ قَصِيرٌ وَالنَّاسُ يَنَامُونَ فَأَمْهِلْهُمْ حَتَّى يُدْرِكُوا» . رَوَاهُ الْحُسَيْنُ بْنُ مَسْعُودٍ الْبَغَوِيّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَأَخْرَجَهُ بَقِيٍّ بْنُ مَخْلَدٍ فِي مُسْنَدِهِ الْمُصَنَّفِ. قَوْلُهُ: (لَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْغَلَسِ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ أَنَّهُ كَانَ يَنْصَرِفُ مِنْ الصَّلَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا إخْبَارٌ عَنْ رُؤْيَةِ الْمُتَلَفِّعَةِ عَلَى بُعْدٍ، وَذَاكَ إخْبَارٌ عَنْ رُؤْيَةِ الْجَلِيسِ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْمُبَادَرَةِ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ. قَالَ: وَأََمَّا قَوْلُهُ: «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ» . فقد حمله الشافعي وغيره على أَنَّ الْمُرَادَ بَذَلِكَ تحقق طُلُوع الْفَجِرِ، وحَمِلَهُ الطَّحَاوِيُّ: على أَنَّ الْمُرَادَ به تَطْوِيل الْقِرَاءَةَ فِيهَا حَتَّى يَخرُج مِنَ الصَّلاة مُسْفِرًا. قَوْلُهُ: (مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى صَلَاةً لِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إلَّا صَلَاتَيْنِ) الْحَدِيث. قَالَ الشَّارِحُ: اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِاسْتِحْبَابِ الْإِسْفَارِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: «قَبْلَ مِيقَاتِهَا» قَدْ بُيِّنَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ فِي وَقْتِ الْغَلَسِ. قَالَ الْحَافِظُ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ دَخَلَ فِيهَا مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ، لا أنه صلاها قبل أَنْ يطلعَ الفَجْر. قَوْلُهُ: «يَا مُعَاذُ إذَا كَانَ فِي الشِّتَاءِ فَغَلِّسْ بِالْفَجْرِ وَأَطِلْ الْقِرَاءَةَ قَدْرَ مَا يُطِيقُ النَّاسُ وَلَا تَمَلَّهُمْ، وَإِذَا كَانَ الصَّيْفُ فَأَسْفِرْ بِالْفَجْرِ فَإِنَّ اللَّيْلَ قَصِيرٌ وَالنَّاسُ يَنَامُونَ فَأَمْهِلْهُمْ حَتَّى يُدْرِكُوا» . قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ زَمَانِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فِي الْإِسْفَارِ وَالتَّغْلِيسِ مُعَلَّلَا بِتِلْكَ الْعِلَّةِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُعَارِضُ أَحَادِيثَ التَّغْلِيسِ.

(1/165)


بَابُ بَيَانِ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ فَإِنَّهُ يُتِمُّهَا وَوُجُوبُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْوَقْتِ 601- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 602- وَلِلْبُخَارِيِّ: «إذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ وَإِذَا أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ» . 603- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الْعَصْرِ سَجْدَةً قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ أَوْ مِنْ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ ... أَدْرَكَهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَالسَّجْدَةُ هُنَا الرَّكْعَةُ. 604- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كَيْفَ أَنْتَ إذَا كَانَتْ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ أَوْ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا» ؟ قُلْت: فَمَا تَأْمُرنِي؟ قَالَ: «صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ فَإِنَّهَا لَك ... نَافِلَةٌ» . 605- وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِنْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ - وَأَنْتَ فِي الْمَسْجِدِ - فَصَلِّ» . 606- وَفِي أُخْرَى: «فَإِنْ أَدْرَكَتْكَ (يَعْنِي الصَّلَاةَ) مَعَهُمْ فَصَلِّ وَلَا تَقُلْ: إنِّي قَدْ صَلَّيْتُ فَلَا أُصَلِّي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 607- وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «سَتَكُونُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي أُمَرَاءُ تَشْغَلُهُمْ أَشْيَاءُ عَنْ الصَّلَاةِ لِوَقْتِهَا فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا» . فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُصَلِّي مَعَهُمْ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ إنْ شِئْتَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأَحْمَدُ بِنَحْوِهِ. 608- وَفِي لَفْظِ: «وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ تَطَوُّعًا» . قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ» الْحَدِيث. وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: «فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ كُلَّهَا إلَّا أَنَّهُ يَقْضِي مَا فَاتَهُ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ

(1/166)


رَكْعَةٍ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْوَقْتِ، وَأَنَّ صَلَاتَهُ تَكُونُ قَضَاءً، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ الْبَعْضُ: أَدَاءٌ. وَالْحَدِيثُ يَرُدُّهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعَمُّدُ التَّأْخِيرِ إلَى هَذَا الْوَقْتِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى اخْتِصَاصِ هَذَا الْوَقْتِ بِالْمُضْطَرِّينَ. قَوْلُهُ: «يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ» أَيْ يُؤَخِّرُونَهَا فَيَجْعَلُونَهَا كَالْمَيِّتِ الَّذِي خَرَجَتْ رُوحُهُ وَالْمُرَادُ بِتَأْخِيرِهَا عَنْ وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ لَا عَنْ جَمِيعِ وَقْتِهَا فَإِنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ الْأُمَرَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ إنَّمَا هُوَ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ وَلَمْ يُؤَخِّرْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ جَمِيعِ وَقْتِهَا فَوَجَبَ حَمْلُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى مَا هُوَ الْوَاقِعُ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ لِوَقْتِهَا وَتَرْكِ الِاقْتِدَاءِ بِالْأُمَرَاءِ إذَا أَخَّرُوهَا عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَأَنَّ الْمُؤْتَمَّ يُصَلِّيهَا مُنْفَرِدًا ثُمَّ يُصَلِّيهَا مَعَ الْإِمَامِ فَيَجْمَعُ بَيْنَ فَضِيلَةِ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَطَاعَةِ الْأَمِيرِ. قَوْلُهُ: «فَإِنَّهَا لَك نَافِلَةً» صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْفَرِيضَةَ الْأُولَى وَالنَّافِلَةَ الثَّانِيَةَ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «سَتَكُونُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي أُمَرَاءُ تَشْغَلُهُمْ أَشْيَاءُ عَنْ الصَّلَاةِ ... لِوَقْتِهَا» . الْحَدِيث. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ رَأَى الْمُعَادَةَ نَافِلَةً، وَلِمَنْ لَمْ يُكَفِّرْ تَارِكَ الصَّلَاةِ، وَلِمَنْ أَجَازَ إمَامَةَ الْفَاسِقِ. قَالَ الشَّارِحُ: الْأَصلُ أَنَّ مَنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ لِنَفْسِهِ صَحَّتْ لِغَيْرِهِ. بَابُ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ 609- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 610- وَلِمُسْلِمٍ: «إذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنْ الصَّلَاةِ أَوْ غَفَلَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {أَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} » . 611- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا

(1/167)


ذَكَرَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ. 612- وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: ذَكَرُوا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَوْمَهُمْ عَنْ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: «إنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ إنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ، فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 613- وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ - فِي قِصَّةِ نَوْمِهِمْ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ - قَالَ: ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ فَصَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 614- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: سَرَيْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ عَرَّسْنَا فَلَمْ نَسْتَيْقِظْ حَتَّى أَيْقَظَنَا حَرُّ الشَّمْسِ فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنَّا يَقُومُ دَهِشًا إلَى طَهُورِهِ، فَقالَ: فَأَمَرَهُم النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَسْكُنُوا، ثُمَّ ارتَحَلْنَا فَسَرَّنَا حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ تَوَضَأ، ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ، ثُمَّ صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّيْنَا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَلَا نُعِيدُهَا فِي وَقْتِهَا مِنْ الْغَدِ؟ فَقَالَ: «أَيَنْهَاكُمْ رَبُّكُمْ تَعَالَى عَنْ الرِّبَا وَيَقْبَلُهُ مِنْكُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى وُجُوبِ فِعْلِ الصَّلَاةِ إذَا مَا فَاتَتْ بِنَوْمٍ أَوْ نِسْيَانٍ وَهُوَ إجْمَاعٌ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَفِيهِ أَنَّ الْفَوَائِتَ يَجِبُ قَضَاؤُهَا عَلَى الْفَوْرِ وَأَنَّهَا تُقْضَى فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَغَيْرِهَا، وَأَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَلَاةٌ فَإِنَّهَا لَا تُقْضَى عَنْهُ وَلَا يُطْعَمُ عَنْهُ لَهَا لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ» وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدْ نَسْخُهُ. قَوْلُهُ: «لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ إنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَة» . قَالَ الشَّارِحُ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّائِمَ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ حَالَ نَوْمِهِ وَهُوَ إجْمَاعٌ وَلَا يُنَافِيهِ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ مَا أَتْلَفَهُ وَإِلْزَامُهُ أَرْشَ مَا جَنَاهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْوَضْعِيَّةِ لَا التَّكْلِيفِيَّةِ، وَأَحْكَامُ الْوَضْعِ تَلْزَمُ النَّائِمَ وَالصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ بِالِاتِّفَاقِ.

(1/168)


قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ فَصَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ) . قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْأَذَانِ لِلصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ. وَاسْتِحْبَابُ قَضَاءِ السُّنَّةِ الرَّاتِبَةِ؛ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ صِفَةَ قَضَاءِ الْفَائِتَةِ كَصِفَةِ أَدَائِهَا، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ يُجْهَرُ فِي الصُّبْحِ الْمَقْضِيَّةِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْجَهْرِ فِي قَضَاءِ الْفَجْرِ نَهَارًا. قَوْلُهُ: (سَرَيْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -) . الْحَدِيث. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَائِتَةَ يُسَنُّ لَهَا الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ وَالْجَمَاعَةُ، وَأَنَّ النِّدَاءَيْنِ مَشْرُوعَانِ فِي السَّفَرِ، وَأَنَّ السُّنَنَ الرَّوَاتِبَ تُقْضَى. بَابُ التَّرْتِيبِ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ 615- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَاَللَّهَ مَا صَلَّيْتُهَا» . فَتَوَضَّأَ وَتَوَضَّأْنَا فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 616- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: حُبِسْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْمَغْرِبَ بِهَوِيٍّ مِنْ اللَّيْلِ كُفِينَا، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُومِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِلَالًا فَأَقَامَ الظُّهْرَ فَصَلَّاهَا فَأَحْسَنَ صَلَاتهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعَصْرَ فَصَلَّاهَا فَأَحْسَنَ صَلَاتَهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ فَصَلَّاهَا كَذَلِكَ. قَالَ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ ... {فَإِنَّ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَغْرِبَ. قَوْلُهُ: مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، فَقَالَ ...

(1/169)


النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَاَللَّهَ مَا صَلَّيْتُهَا» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ الْمَتْرُوكَةِ لِعُذْرِ الِاشْتِغَالِ بِالْقِتَالِ، وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي سَبَبِ تَرْكِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ لِهَذِهِ الصَّلَاةَ، فَقِيلَ: تَرَكُوهَا نِسْيَانًا، وَقِيلَ: شُغِلُوا فَلَمْ يَتَمَكَّنُوا وَهُوَ الْأَقْرَبُ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ. وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْفَوَائِتِ الْمَقْضِيَّةِ وَالْمُؤَدَّاةِ. قَالَ: وَحَدِيثُ أبِي سَعِيد يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ الْمَتْرُوكَةِ لِعُذْرِ الِاشْتِغَالِ بِحَرْبِ الْكُفَّارِ وَنَحْوِهِمْ، لَكِنْ إنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ شَرْعِيَّةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ كَمَا فِي آخِرِ الْحَدِيثِ، وَالْوَاجِبُ بَعْدَ شَرْعِيَّتِهَا عَلَى مَنْ حُبِسَ بِحَرْبِ الْعَدُوِّ أَنْ يَفْعَلَهَا، وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِصَلَاةِ الْخَوْفِ. قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ فِي الْجَمَاعَةِ وَخَالَفَ فِيهِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْإِقَامَةِ لِلْفَوَائِتِ وَعَلَى أَنَّ صَلَاةَ النَّهَارِ - وَإِنْ قُضِيَتْ لَيْلًا - لَا يُجْهَرُ فِيهَا. وَعَلَى أَنَّ تَأْخِيرَهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ نُسِخَ بِشَرْعِ صَلَاةِ الْخَوْفِ.

(1/170)


أَبْوَابُ الْأَذَانِ بَابُ وُجُوبِهِ وَفَضِيلَتِهِ 617- عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ لَا يُؤَذِّنُونَ وَلَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ إلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 618- وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 619- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ الْمُؤَذِّنِينَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ. 620- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْإِمَامُ ضَامِنٌ وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ اللَّهُمَّ أَرْشِدْ الْأَئِمَّةَ وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 621- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «يَعْجَبُ رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي شَظِيَّةٍ بِجَبَلٍ يُؤَذِّنُ لِلصَّلَاةِ وَيُصَلِّي، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اُنْظُرُوا إلَى عَبْدِي هَذَا يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ لِلصَّلَاةِ يَخَافُ مِنِّي فَقَدْ غَفَرْت لِعَبْدِي وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ لَا يُؤَذِّنُونَ وَلَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ إلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لِأَنَّ التَّرْكَ الَّذِي هُوَ مِنْ اسْتِحْوَاذِ الشَّيْطَانِ يَجِبُ تَجَنُّبُهُ.

(1/171)


قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «الْإِمَامُ ضَامِنٌ» . قَالَ الشَّارِحُ: الضَّمَانُ فِي اللُّغَةِ الْكَفَالَةُ وَالْحِفْظُ وَالرِّعَايَةُ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ ضُمَنَاءُ عَلَى الْإِسْرَارِ بِالْقِرَاءَةِ وَالْأَذْكَارِ. قَوْلُهُ: «وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ» قِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ أَمِينٌ عَلَى مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ. وَقِيلَ: أَمِينٌ عَلَى حُرَمِ النَّاسِ لِأَنَّهُ يُشْرِفُ عَلَى الْمَوَاضِعِ الْعَالِيَةِ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «يَعْجَبُ رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي شَظِيَّةٍ بِجَبَلٍ يُؤَذِّنُ لِلصَّلَاةِ وَيُصَلِّي» . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ يُسَنُّ لِلْمُنْفَرِدِ وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ. والشَّظِيَّةُ: الطَّرِيقَةُ كَالْجَدَّةِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَيُقَالُ: الشَّظِيَّةُ لِلْقِطْعَةِ الْمُرْتَفِعَةِ مِنْ الْجَبَلِ. بَاب صِفَةُ الْأَذَانِ 622- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ قَالَ: لَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَضْرِبَ بِالنَّاقُوسِ - وَهُوَ لَهُ كَارِهٌ لِمُوَافَقَتِهِ النَّصَارَى - طَافَ بِي مِنْ اللَّيْلِ طَائِفٌ - وَأَنَا نَائِمٌ - رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ، وَفِي يَدِهِ نَاقُوسٌ يَحْمِلُهُ قَالَ: فَقُلْت: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَبِيعُ النَّاقُوسَ، قَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: قُلْت: نَدْعُو بِهِ إلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: أَفَلَا أَدُلُّك عَلَى خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقُلْت: بَلَى، قَالَ: تَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. قَالَ: ثُمَّ اسْتَأْخَرَ غَيْرَ بَعِيدٍ قَالَ: ثُمَّ تَقُولُ إذَا أَقَمْت الصَّلَاةَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْت أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْت، فَقَالَ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَا حَقٌّ

(1/172)


إنْ شَاءَ اللَّهُ» . ثُمَّ أَمَرَ بِالتَّأْذِينِ فَكَانَ بِلَالٌ - مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ - يُؤَذِّنُ بِذَلِكَ وَيَدْعُو رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى الصَّلَاةِ قَالَ: فَجَاءَهُ فَدَعَاهُ ذَاتَ غَدَاةٍ إلَى الْفَجْرِ فَقِيلَ لَهُ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَائِمٌ فَصَرَخَ بِلَالٌ بِأَعْلَى صَوْتِهِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: فَأُدْخِلَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي التَّأْذِينِ إلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 623- وَأَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ، وَفِيهِ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْت، فَقَالَ: «إنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْت فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ» . قَالَ: فَقُمْت مَعَ بِلَالٍ فَجَعَلْت أُلْقِيهِ عَلَيْهِ وَيُؤَذِّنُ بِهِ قَالَ: فَسَمِعَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - وَهُوَ فِي بَيْتِهِ - فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ يَقُولُ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْت مِثْلَ الَّذِي رَأَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَلِلَّهِ الْحَمْدُ» . 624- وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ هَذَا الطَّرَفُ مِنْهُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. 625- وَرَوَى التِّرْمذي هَذَا الطَّرفَ مِنْهُ بِهَذِهِ الطَّرِيق وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيح. وَلَيْسَ فِيهِ لِلنِّسَائِي والتِّرْمذي وابن مَاجَةْ: (إِلا الإِقَامَة) . 626- وَعَنْ ابن عُمر قَالَ: إِنَّمَا كَانَ الأَذَان عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ مَرَّتَيْن مَرَّتَيْن. وَالإِقَامَةُ مَرَّة مَرَّة، غَيْرَ أَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ قَامَتِ الصَّلاةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلاةُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد والنِّسَائِي. 627- وَعَنْ أَبِي محذورة أَنَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَّمَهُ هَذَا الأَذَانُ: (اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ يَعُودُ فَيَقُول: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مَرَّتَيْن أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مَرَّتَيْن حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ مَرَّتَيْن، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، مَرَّتَيْن، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ) . رَواهُ مسلم.

(1/173)


628- وَالنِّسَائِي - وَذَكَر التَّكْبِير فِي أَوِّلِهِ أَرْبَعًا. 629- وَلِلْخَمْسَةِ - عَنْ أَبِي محذورة - أَنَّ النَّبيِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَّمَهُ الأَذَان تسع عَشْرة كلمة، وَالإِقَامَةُ سبع عشرة. قَالَ التِّرْمذي: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحُ. 630- وَعَنْ أَبِي محذورة قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ عَلِّمْنِي سُنَّةَ الأَذَانِ فَعَلَّمَهُ وَقَالَ: «فَإِنْ كَانَ صَلاةَ الصُّبْحِ قُلْتَ: الصَّلاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، الصَّلاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، اللهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لا إِله إِلا الله» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ: لَيْسَ فِي أَخْبَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ. قَالَ الشَّارِحُ: الْحَدِيثُ فِيهِ تَرْبِيعُ التَّكْبِيرِ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالصَّادِقُ وَالْهَادِي وَالْقَاسِمُ إلَى تَثْنِيَتِهِ مُحْتَجِّينَ بِمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ التَّثْنِيَةِ. وَبِحَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّ رِوَايَاتِ التَّرْبِيعِ أَرْجَحُ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الزِّيَادَةِ، وَهِيَ مَقْبُولَةٌ لِعَدَمِ مُنَافَاتِهَا وَصِحَّةِ مَخْرَجِهَا. قال: وَالتَّرْجِيعُ هُوَ الْعَوْدُ إلَى الشَّهَادَتَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ بِرَفْعِ الصَّوْتِ بَعْدَ قَوْلِهَا مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ بِخَفْضِ الصَّوْتِ. قال النووي: وقد ذهب جماعة من المحدثين وغيرهم إلى التخيير بين فعل الترجيح وتركه. قال الشارح: وفيه لتثويب في صلاة الفجر، لقول سعيد بن المسيب فأدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر يعني قول بلال: (الصلاة خير من النوم) وزاد ابن ماجة: فأقرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن قال: والتثويب زيادة ثابتة فالقول بها لازم. والحديث ليس فيه ذكر (حي على خير العمل) وقد ذهبت العترة إلى إثباتها وأنه بعد قول المؤذن (حي على الفلاح) قالوا: يقول مرتين: (حي على خير العمل) ونسبه المهدي في البحر إلى أحد قولي الشافعي وهو خلاف ما في كتب الشافعية فإنا لم نجد في شيء منها هه المقالة بل خلاف ما في كتب أهل البيت. قال في الانتصار: إن الفقهاء الأربعة لا يختلفون في ذلك يعني في أن (حي على خير العمل) ليس من ألفاظ الأذان. قال: وفي الحديث إفراد الإقامة إلى التكبير في أولها وآخرها و (قد قامت الصلاة) وقد

(1/174)


اختلف الناس في ذلك. وفيه دليل على استحباب اتخاذ مؤذن حسن الصوت وقد أخرج الدرامي وأبو الشيخ بإسناد متصل بأبي محذوزرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بنحو عشرين رجلاً فأذنوا فأعجبه صوت أبي محذورة فعلمه الأذان. قال الزبي بن بكار: كان أبو محذورة أحسن الناس صوتًا وأذانًا. ولبعض شعراء قريش في أذان أبي محذورة: أما ورب الكعبة المستوره ... وما تلا حمد من سوره والنغمات من أبي محذوره ... لأفعلن فعلة مذكوره قَوْلُهُ: (أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة) قال الشارح: قوله: ... (أن يشفع الأذان) أي يأتي بألفاظ شفعًا وهو مفسر بقوله: (مثنى مثى) قال الافظ: لكن لم يختلف في أن كلمة التوحيد التي في آخره مفردة، فيحمل قوله: (مثنى) على ما سواها. قال الشارح: وقد استشكل عدم استثناء التكبير في الإقامة يثني كما تقدم في حديث عبد الله بن زيد وأجيب بأنه وتر بالنسبة إلى تكبير لأذان فإن التكبير في أول الأذان أربع وهذا إنما يتم في تكبير أول الأذان لا في آخره كما قال الحافظ: وأنت خبير بأن ترك استثنائه في هذا الحديث لا يقدح في ثبوته لأن روايات التكرير زيادة قبولة. إلى أن قال: ... وقد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز إفراد الإقامة وتثنيتها. قال أبو عمر بن عبد البر: ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن رهويه وداود بن علي ومحمد بن جرير إلى إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك وحملوه على الإباحة والتخيير قالوا: كل ذلك جائز لأنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جميع ذلك وعمل به أصحابه فمن شاء قال الله أكبر أربعًا في أول الأذان ومن شاء ثنى الإقامة ومن شاء أفردها إلا قوله: قد قمات الصلاة فإن ذلك مرتان على كل حال. انتهى ملخصًا. بَابُ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ 631- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْمُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ مَدَّ صَوْتِهِ، وَيَشْهَدُ لَهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ.

(1/175)


632- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ لَهُ: «إنِّي أَرَاك تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِك أَوْ بَادِيَتِك فَارْفَعْ صَوْتَك بِالنِّدَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعَ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إلَّا يَشْهَدُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «الْمُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ مَدَّ صَوْتِهِ، وَيَشْهَدُ لَهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ مَدِّ الصَّوْتِ فِي الْأَذَانِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلْمَغْفِرَةِ وَشَهَادَةِ الْمَوْجُودَاتِ وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْمَجِيءِ إلَى الصَّلَاةِ فَكُلُّ مَا كَانَ أَدْعَى لِإِسْمَاعِ الْمَأْمُورِينَ بِذَلِكَ كَانَ أَوْلَى. قِيلَ: هُوَ تَمْثِيلٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَ الْمَكَانِ الَّذِي يُؤَذِّنُ فِيهِ وَالْمَكَانِ الَّذِي يَبْلُغُهُ صَوْتُهُ ذُنُوبٌ تَمْلَأُ تِلْكَ الْمَسَافَةِ لَغَفَرَهَا اللَّهُ. قَوْلُهُ: «إنِّي أَرَاك تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِك أَوْ بَادِيَتِك فَارْفَعْ صَوْتَك بِالنِّدَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعَ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: وَالسِّرُّ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ مَعَ أَنَّهَا تَقَعُ عِنْدَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ إلَّا أَنَّ أَحْكَامَ الْآخِرَةِ جَرَتْ عَلَى نَعْتِ أَحْكَامِ الْخَلْقِ فِي الدُّنْيَا مِنْ تَوَجُّهِ الدَّعْوَى، وَالْجَوَابِ وَالشَّهَادَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ إشْهَارُ الْمَشْهُودِ لَهُ بِالْفَضْلِ وَعُلُوِّ الدَّرَجَةِ، كَمَا أَنَّ اللَّهَ يَفْضَحُ بِالشَّهَادَةِ قَوْمًا كَذَلِكَ يُكْرِمَ بِالشَّهَادَةِ آخَرِينَ. قَالَ الشَّارِحُ: وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ حُبَّ الْغَنَمِ وَالْبَادِيَةِ لَاسِيَّمَا عِنْدَ نُزُولِ الْفِتْنَةِ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ. بَابُ الْمُؤَذِّنِ يَجْعَلُ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَيَلْوِي عُنُقَهُ عِنْدَ الْحَيْعَلَةِ وَلَا يَسْتَدِيرُ 633- عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: أَتَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِمَكَّةَ - وَهُوَ بِالْأَبْطَحِ فِي قُبَّةٍ لَهُ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ - قَالَ: فَخَرَجَ بِلَالٌ بِوَضُوئِهِ فَمِنْ نَاضِحٍ وَنَائِلٍ قَالَ: فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى بَيَاضِ سَاقَيْهِ - قَالَ: فَتَوَضَّأَ وَأَذَّنَ بِلَالٌ فَجَعَلْت أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَا هُنَا وَهَا هُنَا يَقُولُ يَمِينًا وَشِمَالًا: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَالَ ثُمَّ رُكِزَتْ لَهُ عَنَزَةٌ فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى الظُّهْرَ

(1/176)


رَكْعَتَيْنِ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ الْحِمَارُ وَالْكَلْبُ لَا يَمْنَعُ. وَفِي رِوَايَةٍ: تَمُرُّ مِنْ وَرَائِهَا الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يُصَلِّي حَتَّى رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 634- وَلِأَبِي دَاوُد: رَأَيْت بِلَالًا خَرَجَ إلَى الْأَبْطَحِ فَأَذَّنَ فَلَمَّا بَلَغَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ لَوَى عُنُقَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا وَلَمْ يَسْتَدِرْ. 635- وَفِي رِوَايَةٍ: رَأَيْت بِلَالًا يُؤَذِّنُ وَيَدُورُ وَأَتَتَبَّعُ فَاهُ هَا هُنَا وَهَا هُنَا وَأُصْبُعَاهُ فِي أُذُنَيْهِ قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي قُبَّةٍ لَهُ حَمْرَاءَ أُرَاهَا مِنْ أَدَمٍ قَالَ: فَخَرَجَ بِلَالٌ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالْعَنَزَةِ فَرَكَّزَهَا فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى بِرِيقِ سَاقَيْهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَوْلُهُ: (رَأَيْت بِلَالًا يُؤَذِّنُ وَيَدُورُ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي الِاسْتِدَارَةِ، فَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ كَانَ يَسْتَدِيرُ، وَفِي بَعْضِهَا وَلَمْ يَسْتَدِرْ كَمَا سَلَفَ، وَلَكِنَّهَا لَمْ تُرْوَ الِاسْتِدَارَةُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجٍ وَإِدْرِيسَ الْأَوْدِيِّ وَهُمَا ضَعِيفَانِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ مَنْ أَثْبَتَ الِاسْتِدَارَةَ عَنَى بِهَا اسْتِدَارَةَ الرَّأْسِ، وَمَنْ نَفَاهَا عَنَى اسْتِدَارَةَ الْجَسَدِ كُلَّهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَدُورُ إلَّا إذَا كَانَ عَلَى مَنَارَةٍ لِقَصْدِ إسْمَاعِ أَهْلِ الْجِهَتَيْنِ. وَفِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ وَضْعِ الْأُصْبُعَيْنِ فِي الْأُذُنَيْنِ، وَفِي ذَلِكَ فَائِدَتَانِ ذَكَرَهُمَا الْعُلَمَاءُ الْأُولَى: أَنَّ ذَلِكَ أَرْفَعُ لِصَوْتِهِ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ عَلَامَةٌ لِلْمُؤَذِّنِ لِيَعْرِفَ مَنْ يَرَاهُ عَلَى بُعْدٍ أَوْ مَنْ كَانَ بِهِ صَمَمٌ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ الْأَذَانِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ فِي الْفَجْرِ خَاصَّةً 636- عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ لَا يَخْرُمُ ثُمَّ لَا يُقِيمُ حَتَّى يَخْرُجَ إلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا خَرَجَ أَقَامَ حِينَ يَرَاهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 637- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ مِنْ سَحُورِهِ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ - أَوْ قَالَ: يُنَادِي بِلَيْلٍ - لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ وَيُوقَظَ نَائِمَكُمْ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ.

(1/177)


638- وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَغُرَّنَّكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ، وَلَا بَيَاضُ الْأُفُقِ الْمُسْتَطِيلِ هَكَذَا حَتَّى يَسْتَطِيرَ هَكَذَا» يَعْنِي مُعْتَرِضًا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 639- وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُهُمَا: «لَا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سَحُوركُمْ أَذَانُ بِلالٍ، وَلَا الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ، وَلَكِنْ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ فِي الْأُفُقِ» . 640- وَعَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 641- وَلِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ: «فَإِنَّهُ لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ» . 642- وَلِمُسْلِمٍ: وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنْ يَنْزِلَ هَذَا وَيَرْقَى هَذَا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (لَا يَخْرُمُ) أَيْ لَا يَتْرُكُ شَيْئًا مِنْ أَلْفَاظِهِ. الْحَدِيثُ فِيهِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْأَذَانِ عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِ الظُّهْرِ بِدُونِ تَقْدِيمٍ وَلَا تَأْخِيرٍ. وَهَكَذَا سَائِرُ الصَّلَوَاتِ إلَّا الْفَجْرَ. وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ الْمُقِيمَ لَا يُقِيمُ إلَّا إذَا أَرَادَ الْإِمَامُ الصَّلَاةَ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ أَنَّ الْفَرِيضَةَ تُغْنِي عَنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ. قَوْلُهُ: «لِيَرْجِعَ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ الْمُخَفَّفَةِ مَعْنَاهُ يَرُدُّ الْقَائِمَ: أَيْ الْمُجْتَهِدَ إلَى رَاحَتِهِ لِيَقُومَ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ نَشِيطًا، أَوْ يَتَسَحَّرَ إنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ إلَى الصِّيَامِ وَيُوقِظُ النَّائِمَ لَيَتَأَهَّبَ لِلصَّلَاةِ بِالْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَذَانِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ خَاصَّةً. انْتَهَى. قال الموفق في المغني: ويستحب أن لا يؤذن قبل الفجر إلا أن يكون معه مؤذن آخر يؤذن إذا أصبح كفعل بلال وابن أم مكتوم اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأنه إذا لم يكن كذلك لم يحصل الإعلام بالوقت المقصود بالأذان فإذا كانا مؤذنين حصل الإعلام بالوقت بالثاني وبقربه بالمؤذن الأول وينبغي لمن يؤذن قبل الوقت أن يجعل أذانه في وقت واحد في الليالي كلها ليعلم الناس ذلك من عادته فيعرفوا الوقت بأذانه، ولا يؤذن في الوقت تارة وقبله أخرى فيلبس على الناس ويغتروا بأذنه فربما صلى بعض من مسعه الصبح ربما

(1/178)


امتنع المتحسر من سحوره والمنتقل من صلاته بناء على أذانه ومن علم حاله لا يستفيد بأذانه فائدة لتردده بين الاحتمالين. انتهى. قال الشارح: والحكمة في اختصاص صلاة الفجر بهذا من بين الصلوات ما ورد من الترغيب في الصلاة لأول الوقت والصبح يأتي غالبًا عقيب النوم فناسب أن ينصب من يوقظ الناس قبل دخول وقتها ليتأهبوا ويدركوا فضيلة الوقت. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَغُرَّنَّكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ، وَلَا بَيَاضُ الْأُفُقِ الْمُسْتَطِيلِ هَكَذَا حَتَّى يَسْتَطِيرَ هَكَذَا» يَعْنِي مُعْتَرِضًا. قَالَ الشَّارِحُ: صِفَةُ هَذِهِ الْإِشَارَةِ مُبَيَّنَةٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي الصَّوْمِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ: وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَصَوَّبَ يَدَهُ رَفَعَهَا حَتَّى يَقُولَ هَكَذَا وَفَرَّجَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: لَيْسَ الَّذِي يَقُولُ هَكَذَا. وَجَمَعَ أَصَابِعَهُ ثُمَّ نَكَّسَهَا إلَى الْأَرْضِ، وَلَكِنْ الَّذِي يَقُولُ هَكَذَا وَجَمَعَ أَصَابِعَهُ وَوَضَعَ الْمُسَبِّحَةَ عَلَى الْمُسَبِّحَةِ وَمَدَّ يَدَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: لَيْسَ الَّذِي يَقُولُ هَكَذَا، وَلَكِنْ يَقُولُ هَكَذَا. وَفَسَّرَهَا جَرِيرٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْفَجْرَ هُوَ الْمُعْتَرِضُ وَلَيْسَ بِالْمُسْتَطِيلِ، وَالْمُعْتَرِضُ هُوَ الْفَجْرُ الصَّادِقُ، وَيُقَالُ لَهُ: الثَّانِي، وَالْمُسْتَطِيرُ بِالرَّاءِ، وَأَمَّا الْمُسْتَطِيلُ بِاللَّامِ فَهُوَ الْفَجْرُ الْكَاذِبُ الَّذِي يَكُونُ كَذَنَبِ السِّرْحَانِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ الْفَجْرُ أَوْ الصُّبْحُ» . وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ وَرَفَعَهَا إلَى فَوْقُ وَطَأْطَأَ إلَى أَسْفَلَ حَتَّى يَقُولَ هَكَذَا وَقَالَ زُهَيْرٌ بِسَبَّابَتَيْهِ إحْدَاهُمَا فَوْقَ الْأُخْرَى ثُمَّ أَمَرَّهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اتِّخَاذِ مُؤَذِّنَيْنِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ أَذَانِ الْأَعْمَى، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ إذَا كَانَ مَعَهُ مُؤَذِّنٌ آخَرُ يَهْدِيهِ لِلْأَوْقَاتِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَا يَقُولُ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَبَعْدَ الْأَذَانِ 643- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا سَمِعْتُمْ النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 644- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:

(1/179)


«إذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ فَقَالَ: أَحَدُكُمْ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ - مِنْ قَلْبِهِ - دَخَلَ الْجَنَّةَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 645- وَعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - أَوْ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ بِلَالًا أَخَذَ فِي الْإِقَامَةِ، فَلَمَّا أَنْ قَالَ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا» . وَقَالَ فِي سَائِرِ الْإِقَامَةِ بِنَحْوِ حَدِيثِ عُمَرَ فِي سَائِرِ الْأَذَانِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 646- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ. اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْته، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا. 647- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ. 648- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «الدُّعَاءُ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. قَوْلُهُ: «إذَا سَمِعْتُمْ النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَقُولُ السَّامِعُ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ فِي جَمِيعِ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ الْحَيْعَلَتَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى تَخْصِيصِ الْحَيْعَلَتَيْنِ بِحَدِيثِ عُمَرَ، فَقَالُوا: يَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ فِيمَا عَدَا الْحَيْعَلَتَيْنِ، وَأَمَّا

(1/180)


فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ فَيَقُولُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. قَوْلُهُ: (فَلَمَّا أَنْ قَالَ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا» ... الْحَدِيثُ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ مُجَاوَبَةِ الْمُقِيمِ. وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِسَامِعِ الْإِقَامَةِ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ قَوْلِ الْمُقِيمِ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ: أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُكَبِّرَ الْإِمَامُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْإِقَامَةِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ لَعَلَّهُ يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ: «آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ» . قَالَ الشَّارِحُ: الْوَسِيلَةَ: مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ يُقَالُ: تَوَسَّلْت أَيْ تَقَرَّبْت وَتُطْلَقُ عَلَى الْمَنْزِلَةِ الْعَلِيَّةِ. قَالَ: وَالْمُتَعَيَّنُ أّنَّها مَنْزِلَة فِي الجنةِ كمَا فِي الحَدَيثِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي الْحَدِيثِ الْحَضُّ عَلَى الدُّعَاءِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ لِأَنَّهُ حَالُ رَجَاءِ الْإِجَابَةِ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «الدُّعَاءُ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ عَيَّنَ مَا يُدْعَى بِهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا قَالَ: «الدُّعَاءُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لَا يُرَدُّ» . قَالُوا: فَمَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «سَلُوا اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» . قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. بَابُ مَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ 649- عَنْ زَيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيُّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَخَا صُدَاءَ أَذِّنْ» ، قَالَ: فَأَذَّنْت، وَذَلِكَ حِينَ أَضَاءَ الْفَجْرُ، قَالَ: فَلَمَّا تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ إلَى الصَّلَاةِ فَأَرَادَ بِلَالٌ أَنْ يُقِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ... «يُقِيمُ أَخُو صُدَاءَ فَإِنَّ مَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ وَلَفْظُهُ لِأَحْمَدَ. 650- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ أُرِيَ الْأَذَانَ، قَالَ فَجِئْت إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: «أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ» . فَأَلْقَيْته فَأَذَّنَ فَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا رَأَيْت أُرِيدُ أَنْ أُقِيمَ، قَالَ: «فَأَقِمْ أَنْتَ» . فَأَقَامَ هُوَ

(1/181)


وَأَذَّنَ بِلَالٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ مَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ. قَالَ الْحَازِمِيُّ: وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الرَّجُلِ يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ غَيْرُهُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَوْلَوِيَّةِ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: لَا فَرْقَ، وَالْأَمْرُ مُتَّسِعٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْأَخْذُ بِحَدِيثِ الصُّدَائِيِّ أَوْلَى لِأَنَّ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْآتِي كَانَ أَوَّلَ مَا شُرِعَ الْأَذَانُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى، وَحَدِيثُ الصُّدَائِيِّ بَعْدَهُ. بَابُ الْفَصْلِ بَيْنَ النِّدَاءَيْنِ بِجِلْسَةٍ 651- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُنَا أَنَّ ... رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَقَدْ أَعْجَبَنِي أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ الْمُسْلِمِينَ - أَوْ الْمُؤْمِنِينَ - وَاحِدَةً» . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَمَّا رَجَعْت لِمَا رَأَيْت مِنْ اهْتِمَامِك، رَأَيْت رَجُلًا كَأَنَّ عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ أَخْضَرَيْنِ فَقَامَ عَلَى الْمَسْجِدِ فَأَذَّنَ، ثُمَّ قَعَدَ قَعْدَةً، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ مِثْلَهَا إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ. بَابُ النَّهْيِ عَنْ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى الْأَذَانِ 652- عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ: آخِرُ مَا عَهِدَ إلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَتَّخِذَ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَأْخُذَ الْمُؤَذِّنُ عَلَى أَذَانِهِ جُعْلاً، وَيَقُولُ: إنْ أُعْطِيَ بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ فَلَا بَأْسَ. قال الموفق في المغني: ولا يجوز أخذ الأجرة على الأذان في ظاهر المذهب وحكى عن أحمد رواية أخرى أنه يجوز أخذ الأجرة عليه، ولا نعلم خلافًا في جواز أخذ الرزق عليه لأن بالمسلمين حاجة إليه وقد لا يوجد به ويرزقه الإمام من الفيء. انتهى ملخصًا.

(1/182)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْأُجْرَةَ تَحْرُمُ إذَا كَانَتْ مَشْرُوطَةً إلا إذَا أُعْطِيهَا بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ. بَابٌ فِيمَنْ عَلَيْهِ فَوَائِتُ 653- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: عَرَّسْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ نَسْتَيْقِظْ حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لِيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ بِرَاسِ رَاحِلَتِهِ، فَإِنَّ هَذَا مَنْزِلٌ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ» . قَالَ: فَفَعَلْنَا ثُمَّ دَعَا بِالْمَاءِ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى الْغَدَاةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 654- وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ سَجْدَتَيْ الْفَجْرِ، وَقَالَ فِيهِ: فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى. 655- وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ شَغَلُوا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ مِنْ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعِشَاءَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْسٌ إلَّا أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَأَذَّنَ وَأَقَامَ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الصَّلَاةِ الْمَقْضِيَّةِ. قال: وفيه اسْتِحْبَاب الجماعة في الفائتة.

(1/183)


أَبْوَابُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ بَابُ وُجُوبِ سَتْرِهَا 656- عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: «احْفَظْ عَوْرَتَك إلَّا مِنْ زَوْجَتِك أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك» . قُلْت: فَإِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ؟ قَالَ: «إنْ اسْتَطَعْت أَنْ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا» . قُلْت: فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟ قَالَ: «فَاَللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ: «إلَّا مِنْ زَوْجَتِك أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمَا النَّظَرُ إلَى ذَلِكَ مِنْهُ، وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ. قَالَ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ السَّتْرِ لِلْعَوْرَةِ. بَابُ بَيَانِ الْعَوْرَةِ وَحَدِّهَا 657- عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّه وَجْهه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُبْرِزْ فَخِذَك، وَلَا تَنْظُرْ إلَى فَخِذِ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 658- وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مَعْمَرٍ - وَفَخِذَاهُ مَكْشُوفَتَانِ - فَقَالَ: «يَا مَعْمَرُ غَطِّ فَخِذَيْك فَإِنَّ الْفَخِذَيْنِ عَوْرَةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ. 659- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْفَخِذُ عَوْرَةٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

(1/184)


660- وَأَحْمَدُ وَلَفْظُهُ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَجُلٍ - وَفَخِذُهُ خَارِجَةٌ - فَقَالَ: «غَطِّ فَخِذَيْك فَإِنَّ فَخِذَ الرَّجُلِ مِنْ عَوْرَتِهِ» . 661- وَعَنْ جَرْهَدٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيَّ بُرْدَةٌ، وَقَدْ انْكَشَفَتْ فَخِذِي - فَقَالَ: «غَطِّ فَخِذَك فَإِنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ» . رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حديث حَسَنٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. بَابُ مَنْ يَرَ الْفَخِذَ مِنْ الْعَوْرَةِ وَقَالَ هِيَ السَّوْأَتَانِ فَقَطْ 662- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ جَالِسًا كَاشِفًا عَنْ فَخِذِهِ فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ فَأَذِنَ لَهُ - وَهُوَ عَلَى حَالِهِ - ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَأَذِنَ لَهُ - وَهُوَ عَلَى حَالِهِ - ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ فَأَرْخَى عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، فَلَمَّا قَامُوا قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَأَذِنْت لَهُمَا، وَأَنْتَ عَلَى حَالِكَ فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ أَرْخَيْت عَلَيْكَ ثِيَابَك، فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ أَلَا أَسْتَحْيِي مِنْ رَجُلٍ، وَاَللَّهِ إنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَسْتَحْيِي مِنْهُ» ؟ رَوَاهُ أَحْمَدُ. 663- وَرَوَى أَحْمَدُ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ بِنَحْوِ ذَلِكَ وَلَفْظُهُ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ بَيْنَ فَخِذَيْهِ. وَفِيهِ: فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ تَجَلَّلَ بِثَوْبِهِ. 664- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ خَيْبَرَ حَسَرَ الْإِزَارَ عَنْ فَخِذِهِ حَتَّى إنِّي لَأَنْظُرُ إلَى بَيَاضِ فَخِذِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَقَالَ: حَدِيثُ أَنَسٍ أَسْنَدُ وَحَدِيثُ جَرْهَدَ أَحْوَطُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: والحقُّ أَنَّ الْفَخِذَ مِنْ الْعَوْرَةِ، وَأَمَّا حديثا عائشة وَأَنَسٍِ فَهُمَا وَارِدَان في قَضَايَا مُعَيَّنة مَخْصُوصَة يَتَطَرَّق إِلَيْهَا مِن احْتِمَالِ الْخُصُوصِيَّةِ أَو البَقَاءِ عَلَى أَصْلِ الإِبَاحَةِ مَا لا يَتَطَرَّق إِلَى الأحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ لأَنَّهَا تَتَضَمَّن إِعْطَاء حُكْم كُلِّي وَإِظْهَار شَرْع عَام، فَكَانَ الْعَمَلُ

(1/185)


بِهَا أَوْلَى، عَلَى أنَّ أَطْرَافَ الفَخْذِ قَدْ يُتَسَامَح فِي كَشْفِهِ لاسِيَّمَا فِي مَوَاطِنِ الحَرْبِ وَمَوَاقِفِ الْخَصَامِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الأُصُولِ أَنَّ القَوْل أَرْجَحُ مِنَ الْفِعْلِ. بَابُ بَيَانِ أَنَّ السُّرَّةَ وَالرُّكْبَةَ لَيْسَتَا مِنْ الْعَوْرَةِ 665- عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ قَاعِدًا فِي مَكَان فِيهِ مَاءٌ فَكَشَفَ عَنْ رُكْبَتَيْهِ أَوْ رُكْبَتِهِ فَلَمَّا دَخَلَ عُثْمَانُ غَطَّاهَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 666- وَعَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كُنْت مَعَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فَلَقِيَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ: أَرِنِي أُقَبِّلْ مِنْك حَيْثُ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ، فَقَالَ بِقَمِيصِهِ فَقَبَّلَ سُرَّتَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 667- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَغْرِبَ، فَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ، وَعَقَّبَ مَنْ عَقَّبَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْرِعًا قَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ قَدْ حَسَرَ عَنْ رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: «أَبْشِرُوا هَذَا رَبُّكُمْ قَدْ فَتَحَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ يُبَاهِي بِكُمْ يَقُولُ: اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي قَدْ صَلَّوْا فَرِيضَةً، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ أُخْرَى» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. 668 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ - آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتَيْهِ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ فَسَلَّمَ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِهَذِهِ الْأحَادِيث لِمَذْهَبِ مَنْ قَالَ: إنَّ الرُّكْبَةَ وَالسُّرَّةَ لَيْسَتَا مِنْ الْعَوْرَةِ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَيُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فِي حَدِيثِ: «وَإِذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ خَادِمَهُ عَبْدَهُ أَوْ أَجِيرَهُ فَلَا يَنْظُرْ إلَى مَا دُونِ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ» . وَلَكِنَّهُ أَخَصُّ مِنْ الدَّعْوَى وَالدَّلِيلِ عَلَى مُدَّعِي أَنَّهُمَا عَوْرَةٌ، وَالْوَاجِبُ الْبَقَاءُ عَلَى الْأَصْلِ وَالتَّمَسُّكِ بِالْبَرَاءَةِ حَتَّى يَنْتَهِضَ مَا يَتَعَيَّنُ بِهِ الِانْتِقَالُ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَالرُّجُوعُ إلَى مُسَمَّى الْعَوْرَةِ لُغَةً هُوَ الْوَاجِبُ، وَيُضَمُّ إلَيْهِ الْفَخِذَانِ بِالنُّصُوصِ السَّالِفَةِ. قَوْلُهُ: «أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ» قَالَ الشَّارِحُ: الْمُغَامِرُ فِي الْأَصْلِ

(1/186)


الْمُلْقِي بِنَفْسِهِ فِي الْغَمْرَةِ، وَغَمْرَةُ الشَّيْءِ شِدَّتُهُ وَمُزْدَحِمُهُ، الْجَمْعُ غَمَرَاتٍ. وَالْمُرَادُ بِالْمُغَامَرَةِ هُنَا الْمُخَاصَمَةُ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّكْبَةَ لَيْسَتْ عَوْرَةً. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: وَالْحُجَّةُ مِنْهُ أَنَّهُ أَقَرَّهُ عَلَى كَشْفِ الرُّكْبَةِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ. بَابُ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْحُرَّةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ إلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا 669- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ. 670- وَعَنْ أُمّ سَلَمَةَ أَنَّهَا سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَتُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ وَلَيْسَ عَلَيْهَا إزَارٌ؟ ، قَالَ: «إذَا كَانَ الدِّرْعُ سَابِغًا يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 671- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَكَيْفَ يَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ؟ قَالَ: «يُرْخِينَ شِبْرًا» . قَالَتْ: إذَنْ يَنْكَشِفَ أَقْدَامُهُنَّ، قَالَ: «فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 672- وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَلَفْظُهُ: أَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَأَلْنَهُ عَنْ الذَّيْلِ، فَقَالَ: «اجْعَلْنَهُ شِبْرًا» . فَقُلْنَ: إنَّ شِبْرًا لا يَسْتُرُ مِنْ عَوْرَةٍ. فَقَالَ: «اجْعَلْنَهُ ذِرَاعًا» . قَوْلُهُ: «لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ» قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَائِضُ: مَنْ بَلَغَتْ سِنَّ الْمَحِيضِ. وَالْحَدِيثُ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ الْمَرْأَةِ لِرَأْسِهَا حَالَ الصَّلَاةِ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ عَوْرَةِ الْحُرَّةِ فَقِيلَ: جَمِيعُ بَدَنِهَا مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ. وَقِيلَ: وَالْقَدَمَيْنِ وَمَوْضِعِ الْخَلْخَالِ. وَقِيلَ: بَلْ جَمِيعُهَا إلَّا الْوَجْهَ. وَقِيلَ: جَمِيعُهَا بِدُونِ اسْتِثْنَاءٍ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَا وَقَعَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} . وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: «لَا يَقْبَلُ» صَالِحٌ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى الشَّرْطِيَّةِ كَمَا قِيلَ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ

(1/187)


سَتْرَ الْعَوْرَةِ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ. قَالَ: وَعَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الذَّاكِرِ وَالنَّاسِي، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ كَوْنَهُ سُنَّةً لَا يُبْطِلُ تَرْكُهَا الصَّلَاةَ. قَالَ الشَّارِحُ: فَالْحَقُّ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةَ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ فَقَطْ كَسَائِرِ الْحَالَاتِ لَا شَرْطٌ يَقْتَضِي تَرْكُهُ عَدَمَ الصِّحَّةِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ: وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ دَلِيلٌ لِمَنْ لَمْ يَسْتَثْنِ الْقَدَمَيْنِ مِنْ عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: «يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا» . يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْعَفْوِ. انْتَهَى. قال في الاختبارات: وقد اختلفت عبارة أصحابنا في وجه الحرة في الصلاة. فقال بعضهم: ليس بعورة. وقال بعضهم: عورة وإنما رخص في كشفه في الصلاة للحاجة. والتحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة، وهو عورة في باب النظر إذا لم يجز النظر إليه. بَابُ النَّهْيِ عَنْ تَجْرِيدِ الْمَنْكِبَيْنِ فِي الصَّلَاةِ إلَّا إذَا وَجَدَ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَحْدَهَا 673- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَلَكِنْ قَالَ: «عَلَى عَاتِقَيْهِ» . وَلِأَحْمَدَ اللَّفْظَانِ. 674- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَلْيُخَالِفْ بِطَرَفَيْه» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَحْمَدٌ وَأَبُو دَاوُد، وَزَادَ «عَلَى عَاتِقِهِ» . 675- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا صَلَّيْت فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا فَالْتَحِفْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاِتَّزِرْ بِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ لِأَحْمَدَ. 676- وَفِي لَفْظٍ لَهُ آخَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا مَا اتَّسَعَ الثَّوْبُ فَلْتُعَاطِفْ بِهِ عَلَى مَنْكِبَيْك ثُمَّ صَلِّ، وَإِذَا ضَاقَ عَنْ ذَلِكَ فَشُدَّ بِهِ حَقْوَيْك، ثُمَّ صَلِّ مِنْ غَيْرِ رِدَاءٍ» . قَوْلُهُ: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ

(1/188)


شَيْءٌ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْعَاتِقُ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ إلَى أَصْلِ الْعُنُقِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَتَّزِرُ فِي وَسَطِهِ وَيَشُدُّ طَرَفَيْ الثَّوْبِ فِي حَقْوَيْهِ بَلْ يَتَوَشَّجُ بِهِمَا عَلَى عَاتِقَيْهِ فَيَحْصُلُ السَّتْرُ مِنْ أَعَالِي الْبَدَنِ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، أَوْ لِكَوْنِ ذَلِكَ أَمْكَنَ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَا أَعْلَمُ صِحَّتَهُ، وَأَجْمَعُوا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي ثَوْبَيْنِ أَفْضَلُ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى عَاتِقِ الْمُصَلِّي مِنْهُ شَيْءٌ، وَقَدْ حَمَلَ الْجُمْهُورُ هَذَا النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَعَنْ أَحْمَدَ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فَتَرَكَهُ. وَعَنْهُ أَيْضًا تَصِحُّ وَيَأْثَمُ. وَجَمَعَ الطَّحَاوِيُّ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُصَلِّيَ مُشْتَمِلًا فَإِنْ ضَاقَ اتَّزَرَ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَنْ صَلَّى فِي قَمِيصٍ غَيْرِ مُزَرَّرٍ تَبْدُو مِنْهُ عَوْرَتُهُ فِي الرُّكُوعِ أَوْ غَيْرِهِ 677- عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَكُونُ فِي الصَّيْدِ وَأُصَلِّي وَلَيْسَ عَلَيَّ إلَّا قَمِيصٌ وَاحِدٌ قَالَ: «فَزُرَّهُ وَإِنْ لَمْ تَجِدْ إلَّا شَوْكَةً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 678 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ حَتَّى يَحْتَزِمَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 679- وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي رَهْطٍ مِنْ مُزَيْنَةُ فَبَايَعْنَاهُ، وَإِنَّ قَمِيصَهُ لَمُطْلَقٌ قَالَ: فَبَايَعْتُهُ فَأَدْخَلْت يَدِي مِنْ قَمِيصِهِ فَمَسِسْت الْخَاتَمَ، قَالَ عُرْوَةُ: فَمَا رَأَيْت مُعَاوِيَةَ وَلَا أَبَاهُ فِي شِتَاءٍ وَلَا حَرٍّ إلَّا مُطْلِقَيْ أَزْرَارِهِمَا لَا يُزَرِّرَانِ أَبَدًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ: (وَأُصَلِّي وَلَيْسَ عَلَيَّ إلَّا قَمِيصٌ وَاحِدٌ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ وَفِي الْقَمِيصِ

(1/189)


مُنْفَرِدًا عَنْ غَيْرِهِ مُقَيَّدًا بِعَقْدِ الزُّرَارِ. قَوْلُهُ: (نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ حَتَّى يَحْتَزِمَ) . أَي مَخَافَة أَنْ يُرَى فَرْجَهُ إِذَا رَكَعَ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غَيْرهُ. قَوْلُهُ: (وَإِنَّ قَمِيصَهُ لَمُطْلَقٌ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَكَانَ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ تَكُونَ جُيُوبُهُمْ وَاسِعَةً فَرُبَّمَا يَشُدُّونَهَا وَرُبَّمَا يَتْرُكُونَهَا مَفْتُوحَةً مُطْلَقَةً. وَالْمُصَنِّفُ أَوْرَدَهُ هَا هُنَا تَوَهُّمًا مِنْهُ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ سَلَمَةَ خَاصٌّ بِالصَّلَاةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الصَّلَاةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِإِيرَادِهِ هُنَا الِاسْتِدْلَالَ بِهِ عَلَى جَوَازِ إطْلَاقِ الزُّرَارِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَتْ تَرْجَمَةُ الْبَابِ لَا تُسَاعِدُ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْقَمِيصَ لَمْ يَكُنْ وَحْدَهُ. بَابُ اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبَيْنِ وَجَوَازِهَا فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ 680- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ: «أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ» ؟ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ. 681- زَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ سَأَلَ رَجُلٌ عُمَرَ فَقَالَ: إذَا وَسَّعَ اللَّهُ فَأَوْسِعُوا جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، صَلَّى رَجُلٌ فِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ، فِي إزَارٍ ... وَقَمِيصٍ، فِي إزَارٍ وَقَبَاء، فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَبَاء، فِي تُبَّانٍ وَقَبَاء، فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ. قَالَ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ: فِي تُبَّانٍ وَرِدَاءٍ. 682- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ. مُتَّفَق عَلَيْهِ. 683- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: رَأَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ قَدْ أَلْقَى طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ» قَالَ الْخَطَّابِيُّ:

(1/190)


لَفْظُهُ اسْتِخْبَارٌ وَمَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ قِلَّةِ الثِّيَابِ وَوَقَعَ فِي ضِمْنِهِ الْفَتْوَى مِنْ طَرِيقِ الْفَحْوَى، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ، وَالصَّلَاةُ لَازِمَةٌ، وَلَيْسَ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْكُمْ ثَوْبَانِ فَكَيْفَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ جَائِزَةٌ مَعَ مُرَاعَاةِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ. قَوْلُهُ: (وَقَبَاء) بِالْقَصْرِ وَبِالْمَدِّ. قِيلَ: هُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَقِيلَ: عَرَبِيٌّ مُشْتَقٌّ مِنْ قَبَوْت الشَّيْءَ إذَا ضَمَمْت أَصَابِعَك سُمِّيَ بِذَلِكَ لِانْضِمَامِ أَطْرَافِهِ. قَوْلُهُ: (فِي تُبَّانٍ) التُّبَّانُ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهُوَ عَلَى هَيْئَةِ السَّرَاوِيلِ. إلا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ رِجْلَانِ. قَالَ: وَمَجْمُوعُ مَا ذَكَرَ عُمَرُ مِنْ الْمَلَابِسِ سِتَّةٌ، ثَلَاثَةٌ لِلْوَسَطِ وَثَلَاثَةٌ لِغَيْرِهِ، فَقَدَّمَ مَلَابِسَ الْوَسَطِ لِأَنَّهَا مَحَلُّ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَقَدَّمَ أَسْتَرَهَا وَأَكْثَرَهَا اسْتِعْمَالًا لَهُمْ، وَضَمَّ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدًا فَخَرَجَ مِنْ ذَلِكَ تِسْعُ صُوَرٍ وَلَمْ يَقْصِدْ الْحَصْرَ فِي ذَلِكَ بَلْ يَلْحَقُ بِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ صَحِيحَةٌ. قَوْلُهُ: (مُتَوَشِّحًا بِهِ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ حَاكِيًا عَنْ الْأَخْفَشِ: إنَّ التَّوَشُّحَ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ طَرَفَ الثَّوْبِ الْأَيْسَرِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ الْيُسْرَى فَيُلْقِيَهُ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ وَيُلْقِيَ طَرَفَ الثَّوْبِ الْأَيْمَنِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ، قَالَ: وَهَذَا التَّوَشُّحُ الَّذِي جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ إذَا تَوَشَّحَ بِهِ الْمُصَلِّي، أَوْ وَضَعَ طَرَفًا عَلَى عَاتِقِهِ أَوْ خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ كَرَاهِيَةِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ 684- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ بِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ مِنْهُ: يَعْنِي شَيْءٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 685- وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ: نَهَى عَنْ لِبْسَتَيْنِ: أَنْ يَحْتَبِيَ أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَنْ يَشْتَمِلَ فِي إزَارِهِ إذَا مَا صَلَّى إلَّا أَنْ يُخَالِفَ بِطَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ.

(1/191)


686- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ وَالِاحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ فَإِنَّهُ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. 687- وَلِلْبُخَارِيِّ نَهَى عَنْ لِبْسَتَيْنِ وَاللِّبْسَتَانِ: اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ (وَالصَّمَّاءُ: أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى أَحَدِ عَاتِقَيْهِ فَيَبْدُوَ أَحَدُ شِقَّيْهِ لَيْسَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ، وَاللِّبْسَةُ الْأُخْرَى احْتِبَاؤُهُ بِثَوْبِهِ، وَهُوَ جَالِسٌ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الِاحْتِبَاءُ أَنْ يَقْعُدَ عَلَى أَلْيَتَيْهِ وَيَنْصِبَ سَاقَيْهِ وَيَلُفَّ عَلَيْهِ ثَوْبًا، وَيُقَالُ لَهُ: الْحَبْوَةُ وَكَانَتْ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ. قَوْلُهُ: (لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ سَتْرُ السَّوْأَتَيْنِ فَقَطْ. قَوْلُهُ: (وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: هُوَ أَنْ يُجَلِّلَ جَسَدَهُ بِالثَّوْبِ لَا يَرْفَعُ مِنْهُ جَانِبًا، وَلَا يُبْقِي مَا تَخْرُجُ مِنْهُ يَدُهُ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: سُمِّيَتْ صَمَّاءَ؛ لِأَنَّهُ يَسُدُّ الْمَنَافِذَ كُلَّهَا فَيَصِيرُ كَالصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا خَرْقٌ. وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: هُوَ أَنْ يَلْتَحِفَ بِالثَّوْبِ ثُمَّ يَرْفَعَهُ مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْهِ فَيَضَعَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ فَيَصِيرَ فَرْجُهُ بَادِيًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: فَعَلَى تَفْسِيرِ أَهْلِ اللُّغَةِ يَكُونُ مَكْرُوهًا لِئَلَّا تَعْرِضَ لَهُ حَاجَةٌ فَيَتَعَسَّرَ عَلَيْهِ إخْرَاجُ يَدِهِ فَيَلْحَقَهُ الضَّرَرُ، وَعَلَى تَفْسِيرِ الْفُقَهَاءِ يَحْرُمُ لِأَجْلِ انْكِشَافِ الْعَوْرَةِ. بَابُ النَّهْيِ عَنْ السَّدْلِ وَالتَّلَثُّمِ فِي الصَّلَاةِ 688- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ السَّدْلِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ فَاهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 689- وَلِأَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ السَّدْلِ. 690- وَلِابْنِ مَاجَهْ النَّهْيُ عَنْ تَغْطِيَةِ الْفَمِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (النهي عَنْ السَّدْلِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ

(1/192)


فِي غَرِيبِهِ: السَّدْلُ: إسْبَالُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضُمَّ جَانِبَيْهِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِنْ ضَمَّهُ فَلَيْسَ بِسَدْلٍ. وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: هُوَ أَنْ يَلْتَحِفَ بِثَوْبِهِ، وَيُدْخِلَ يَدَيْهِ مِنْ دَاخِلٍ فَيَرْكَعَ وَيَسْجُدَ، وَهُوَ كَذَلِكَ. قَالَ: وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي الْقَمِيصِ وَغَيْرِهِ مِنْ الثِّيَابِ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ السَّدْلِ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ مَعْنَى النَّهْيِ الْحَقِيقِيِّ، وَكَرِهَهُ ابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا. وَقَالَ أَحْمَدُ: يُكْرَهُ فِي الصَّلَاةِ. قَوْلُهُ: (وَأَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ فَاهُ) قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لِأَنَّهُ مِنْ زِيِّ الْمَجُوسِ. وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى كَرَاهَةِ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُتَلَثِّمًا كَمَا فَعَلَ الْمُصَنِّفُ. بَابُ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْحَرِيرِ وَالْمَغْصُوبِ 691- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَفِيهِ دِرْهَمٌ حَرَامٌ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ صَلَاةً مَا دَامَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَقَالَ: صُمَّتَا إنْ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعْتُهُ يَقُولُهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 692- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 693- وَلِأَحْمَدَ: «مَنْ صَنَعَ أَمْرًا عَلَى غَيْرِ أَمْرِنَا فَهُوَ مَرْدُودٌ» . 694- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: أُهْدِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرُّوجُ حَرِيرٍ فَلَبِسَهُ، ثُمَّ صَلَّى فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَزَعَهُ نَزْعًا عَنِيفًا شَدِيدًا كَالْكَارِهِ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: «لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ» . مُتَّفَق عَلَيْهِ. 695- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَبِسَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَبَاءً لَهُ مِنْ دِيبَاجٍ أُهْدِيَ إلَيْهِ، ثُمَّ أَوْشَكَ أَنْ نَزَعَهُ وَأَرْسَلَ بِهِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقِيلَ: قَدْ أَوْشَكْت مَا نَزَعْته يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَهَانِي عَنْهُ جِبْرِيلُ» . فَجَاءَهُ عُمَرُ يَبْكِي، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَرِهْت أَمْرًا وَأَعْطَيْتَنِيهِ فَمَا لِي؟ فَقَالَ: «مَا أَعْطَيْتُك لِتَلْبَسَهُ إنَّمَا أَعْطَيْتُك تَبِيعُهُ فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَوْلُهُ: (مَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ) إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ

(1/193)


تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إنَّ الصَّلَاةَ فِي الثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ ثَمَنُهُ لَا تَصِحُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: تَصِحُّ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النُّقُودَ تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ. قَوْلُهُ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» قَالَ الشَّارِحُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ؛ لِأَنَّهُ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الْحَصْرُ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: يُحْتَجّ بِهِ فِي إَبْطَالِ جَمِيعِ الْعُقُودِ الْمَنْهِيَّة، وَعَدَمِ وُجُودِ ثَمَرَاتها الْمُتَرَتِّبَة عَلَيْهَا، وَأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الفَسَاد لأّنَّ الْمَنْهِيَّات كُلَّهَا ليْسَتْ مِنْ أَمْرِ الدِّين فَيَجِبُ رَدَّهَا. قَالَ الشَّارِحُ: فَالصَّلَاةُ مَثَلًا الَّتِي تُرِكَ فِيهَا مَا كَانَ يَفْعَلُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، أَوْ فُعِلَ فِيهَا مَا كَانَ يَتْرُكُهُ لَيْسَتْ مِنْ أَمْرِهِ، فَتَكُونُ بَاطِلَةً بِنَفْسِ هَذَا الدَّلِيلِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ الْمَفْعُولُ أَوْ الْمَتْرُوكُ مَانِعًا بِاصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ، أَوْ شَرْطًا أَوْ غَيْرَهُمَا، فَلْيَكُنْ مِنْك هَذَا عَلَى ذِكْرٍ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعْدُودٌ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ، وَقَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِهِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: مَنْ اخْتَرَعَ مِنْ الدِّينِ مَا لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِهِ فَلَا يُلْتَفَتُ ... إلَيْهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا يَنْبَغِي حِفْظُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ فِي إبْطَالِ الْمُنْكَرَاتِ وَإِشَاعَةِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ كَذَلِكَ. قَوْلُهُ: (فَرُّوجُ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ هُوَ الْقَبَا الْمُفَرَّجُ مِنْ خَلْفٍ. وَالْحَدِيثُ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِ الصَّلَاةِ فِي الْحَرِيرِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: إنَّهَا مَكْرُوهَةٌ فَقَطْ، مُسْتَدِلِّينَ بِأَنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ الْخُيَلَاءُ، وَلَا خُيَلَاءَ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا تَخْصِيصٌ لِلنَّصِّ بِحِيَالِ عِلَّةِ الْخُيَلَاءِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ إلَيْهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَبِسَهُ قَبْلَ تَحْرِيمِهِ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ أَنَّهُ لَبِسَهُ بَعْدَ التَّحْرِيمِ فِي صَلَاةٍ وَلَا غَيْرِهَا. وَيَدُلُّ عَلَى إبَاحَتِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: 696- أَنَّ أُكَيْدِرَ دَوْمَةَ أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - جُبَّةَ سُنْدُسٍ - أَوْ دِيبَاجٍ - قَبْلَ أَنْ يَنْهَى عَنْ الْحَرِيرِ فَلَبِسَهَا فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْهَا فَقَالَ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

(1/194)


قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اخْتَلَفُوا هَلْ تُجْزِي الصَّلَاةُ فِي الْحَرِيرِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: إنَّهَا تُجْزِئُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَعَ التَّحْرِيمِ، وَعَنْ مَالِكٍ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ. انْتَهَى.

(1/195)


 كِتَابُ اللِّبَاسِ

بَابُ تَحْرِيمِ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ 697- عَنْ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ» . 798 - عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا فَلَنْ يَلْبَسَهُ فِي الْآخِرَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 699- وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لِلْإِنَاثِ مِنْ أُمَّتِي وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 700- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أُهْدِيَتْ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حُلَّةٌ سِيَرَاءُ فَبَعَثَ بِهَا إلَيَّ فَلَبَسْتُهَا فَعَرَفْت الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ: «إنِّي لَمْ أَبْعَثْ بِهَا إلَيْك لِتَلْبَسَهَا إنَّمَا بَعَثْت بِهَا إلَيْك لِتُشَقِّقَهَا خُمُرًا بَيْنَ النِّسَاءِ» . مُتَّفَق عَلَيْهِ. 701- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ رَأَى عَلَى أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بُرْدَ حُلَّةٍ سِيَرَاءَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ: «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ» إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى تَحْرِيمِ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِمَا فِي الْأَوَّلِ مِنْ النَّهْيِ الَّذِي يَقْتَضِي بِحَقِيقَتِهِ التَّحْرِيمَ، وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَهْلِ

(1/196)


الْجَنَّةِ: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} . وَوَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ مُخْتَصٌّ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مُسْتَدِلًّا بِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْمُخَصِّصُ. وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي الصِّغَارِ أَيْضًا هَلْ يَحْرُمُ إلْبَاسُهُمْ الْحَرِيرَ أَمْ لا؟ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إلَى التَّحْرِيمِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: «أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لِلْإِنَاثِ مِنْ أُمَّتِي وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا» . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ لِلْجَمَاهِيرِ الْقَائِلِينَ بِتَحْرِيمِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ وَتَحْلِيلِهِمَا لِلنِّسَاءِ. قَوْلُهُ: (حُلَّةٌ) قََالَ فِي الْقَامُوسِ: الْحُلَّةُ: إزَارٌ وَرِدَاءٌ، وَلَا تَكُونُ حُلَّةٌ إلَّا مِنْ ثَوْبَيْنِ أَوْ ثَوْبٍ لَهُ بِطَانَةٌ. قَوْلُهُ: (سِيَرَاءُ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: كَعِنَبَاءٍ، نَوْعٌ مِنْ الْبُرُودِ فِيهِ خُطُوطٌ صَفْراء وَيُخَالِطُهُ حَرِيرٌ. وقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هِيَ بُرُودٌ مُضَلَّعَةٌ بِالْقَزِّ، وَقِيلَ: هِيَ حَرِيرٌ مَحْضٌ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ لُبْسِ الثَّوْبِ الْمَشُوبِ بِالْحَرِيرِ إنْ كَانَتْ السِّيَرَاءُ تُطْلَقُ عَلَى الْمَخْلُوطِ بِالْحَرِيرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَالِصًا كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْحَرِيرُ الْخَالِصُ كَمَا قَالَهُ الْبَعْضُ فَلَا إشْكَالَ. وَقَدْ رَجَّحَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ الْخَالِصُ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّمَا نَهَى عَنْ الثَّوْبِ الْمُصْمَتِ. وَسَيَأْتِي وَسَتَعْرِفُ مَا هُوَ الْحَقُّ فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي يَحِلُّ مِنْ الْمَشُوبِ. بَابٌ فِي أَنَّ افْتِرَاشَ الْحَرِيرِ كَلُبْسِهِ 702- عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 703- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الْمَيَاثِرِ، (وَالْمَيَاثِرُ: قِسِيٌّ كَانَتْ تَصْنَعُهُ النِّسَاءُ لِبُعُولَتِهِنَّ عَلَى الرَّحْلِ كَالْقَطَائِفِ مِنْ الْأُرْجُوَانِ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْجُلُوسِ عَلَى

(1/197)


الْحَرِيرِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ: وَاحْتَجَّ بَعْضُ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْفِرَاشَ مَوْضِعُ إهَانَةٍ وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْوَسَائِدِ الْمَحْشُوَّةِ بِالْقَزِّ، وَهَذَا دَلِيلٌ بَاطِلٌ لَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ النُّصُوصِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: (وَالْمَيَاثِرُ: قِسِيٌّ كَانَتْ تَصْنَعُهُ النِّسَاءُ لِبُعُولَتِهِنَّ عَلَى الرَّحْلِ كَالْقَطَائِفِ مِنْ الْأُرْجُوَانِ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ (الْمَيَاثِرِ) عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: مِنْهَا هَذَا التَّفْسِيرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلام وَالْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَغَرِيبِ الْحَدِيثِ: الْقَسِّيٌّ ثِيَابٌ مُضَلَّعَةٌ بِالْحَرِيرِ تُعْمَلُ بِالْقَسِّ - مَوْضِعٌ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ - وَقِيلَ: إنَّهَا مَنْسُوبَةٌ إلَى الْقَزِّ وَهُوَ رَدِيءُ الْحَرِيرِ. قَوْلُهُ: (مِنْ الْأُرْجُوَانِ) وَهُوَ الصُّوفُ الْأَحْمَرُ، كَذَا فِي شَرْحِ السُّنَنِ لِابْنِ رَسْلَانَ. وَقِيلَ: الْأُرْجُوَانُ: الْحُمْرَةُ. وَقِيلَ: الشَّدِيدُ الْحُمْرَةِ. وَقِيلَ: الصِّبَاغُ الْأَحْمَرُ الْقَانِي. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْجُلُوسِ عَلَى مَا فِيهِ حَرِيرٌ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ إبَاحَةِ يَسِيرِ ذَلِكَ كَالْعَلَمِ وَالرُّقْعَةِ. 704- عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ لَبُوسِ الْحَرِيرِ إلَّا هَكَذَا، (وَرَفَعَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُصْبُعَيْهِ الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةَ وَضَمَّهُمَا) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 705- وَفِي لَفْظٍ: نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إلَّا مَوْضِعَ أُصْبُعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَزَادَ فِيهِ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد: وَأَشَارَ بِكَفِّهِ. 706- وَعَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا أَخْرَجَتْ جُبَّةَ طَيَالِسَةٍ عَلَيْهَا لَبِنَةُ - شَبْرٍ -مِنْ دِيبَاجٍ كَسْرَوَانِيٍّ وَفَرْجَيْهَا مَكْفُوفَيْنِ بِهِ، فَقَالَتْ: هَذِهِ جُبَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَلْبَسُهَا كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ فَلَمَّا قُبِضَتْ عَائِشَةُ قَبْضَتُهَا إلَيَّ فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرِيضِ يُسْتَشْفَى بِهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ (وَلَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ الشَّبْرِ) . 707- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ رُكُوبِ النِّمَارِ وَعَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ إلَّا مُقَطَّعًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.

(1/198)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ مِنْ الْحَرِيرِ مِقْدَارُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ كَالطِّرَازِ وَالسِّجَافِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْمُرَكَّبِ عَلَى الثَّوْبِ وَالْمَنْسُوجِ وَالْمَعْمُولِ بِالْإِبْرَةِ وَالتَّرْقِيعِ كَالتَّطْرِيزِ وَيَحْرُمُ الزَّائِدُ عَلَى الْأَرْبَعِ مِنْ الْحَرِيرِ وَمِنْ الذَّهَبِ بِالْأَوْلَى وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. قَوْلُهُ: (جُبَّةَ طَيَالِسَةٍ) هُوَ بِإِضَافَةِ جُبَّةٍ إلَى طَيَالِسَةٍ. وَالطَّيَالِسَةُ: جَمْعُ طَيْلَسَانَ وَهُوَ كِسَاءٌ غَلِيظٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْجُبَّةَ غَلِيظَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ طَيْلَسَانَ. قَوْلُهُ: (كِسْرَوانِيٍّ) نِسْبَةً إلَى كِسْرَى. وَالْفَرْجُ فِي الثَّوْبِ الشِّقُّ الَّذِي يَكُونُ أَمَامَ الثَّوْبِ وَخَلْفَهُ فِي أَسْفَلِهَا. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ مَا فِيهِ مِنْ الْحَرِيرِ هَذَا الْمِقْدَارُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّجَمُّلِ بِالثِّيَابِ. قَوْلُهُ: (عَنْ رُكُوبِ النِّمَارِ) وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ اسْتِعْمَالِ جُلُودِهِا لِمَا فِيهَا مِنْ الزِّينَةِ وَالْخُيَلَاءِ، وَلِأَنَّهُ زِيُّ الْعَجَمِ. قَوْلُهُ: (وَعَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ إلَّا مُقَطَّعًا) لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَقْيِيدِ الْقَطْعِ بِالْقَدْرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ لَا بِمَا فَوْقَهُ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ. قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ: وَالْمُرَادُ بِالنَّهْيِ الذَّهَبُ الْكَثِيرُ لَا الْمُقَطَّعُ قِطَعًا يَسِيرَةً مِنْهُ تُجْعَلُ حَلْقَةً أَوْ قُرْطًا أَوْ خَاتَمًا لِلنِّسَاءِ أَوْ فِي سَيْفِ الرَّجُلِ، وَكُرِهَ الْكَثِيرُ مِنْهُ الَّذِي هُوَ عَادَةُ أَهْلِ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ وَالتَّكَبُّرِ، وَقَدْ يُضْبَطُ الْكَثِيرُ مِنْهُ بِمَا كَانَ نِصَابًا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَالْيَسِيرُ بِمَا لَا تَجِبُ فِيهِ. وَقَدْ ذَكَرَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ الْخَطَّابِيِّ فِي الْمَعَالِمِ وَجَعَلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ خَاصًّا بِالنِّسَاءِ. قَالَ: لِأَنَّ جِنْسَ الذَّهَبِ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ عَلَيْهِنَّ كَمَا حَرُمَ عَلَى الرِّجَالِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ. بَابُ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِلْمَرِيضِ 708- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا أَنَّ لَفْظَ التِّرْمِذِيِّ: 709- أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرَ شَكَوَا إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْقَمْلَ فَرَخَّصَ لَهُمَا فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ فِي غَزَاةٍ لَهُمَا.

(1/199)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالتَّقْيِيدُ بِالسَّفَرِ بَيَانٌ لِلْحَالِ الَّذِي كَانَا عَلَيْهِ لَا لِلتَّقْيِيدِ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِعُذْرِ الْحَكَّةِ وَالْقَمْلِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي لُبْسِ الْخَزِّ وَمَا نُسِجَ مِنْ حَرِيرٍ وَغَيْرِهِ 710- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ قَالَ: رَأَيْت رَجُلًا بِبُخَارَى عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ عَلَيْهِ عِمَامَةُ خَزٍّ سَوْدَاءُ، فَقَالَ: كَسَانِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ. وَقَدْ صَحَّ لُبْسُهُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ. 711- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الثَّوْبِ الْمُصْمَتِ مِنْ قَزٍّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا السَّدَى وَالْعَلَمُ فَلَا نَرَى بِهِ بَأْسًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 712- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حُلَّةٌ مَكْفُوفَةٌ بِحَرِيرٍ إمَّا سَدَاهَا وَإِمَّا لَحْمَتُهَا فَأَرْسَلَ بِهَا إلَيَّ فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَصْنَعُ بِهَا أَلْبَسُهَا؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنْ اجْعَلْهَا خُمُرًا بَيْنَ الْفَوَاطِمِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. 713- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَرْكَبُوا الْخَزَّ وَلَا النِّمَارَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 714- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ» . وَذَكَرَ كَلَامَا قَالَ: «يَمْسَخُ مِنْهُمْ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَقَالَ فِيهِ: «يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ» . قَوْلُهُ: (عِمَامَةُ خَزٍّ) قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: الْخَزُّ ثِيَابٌ تُنْسَجُ مِنْ صُوفٍ وِإِبْرَيْسَمٍ، وَهِيَ مُبَاحَةٌ، وَقَدْ لَبِسَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَقَالَ غَيْرُهُ الْخَزُّ: اسْمُ دَابَّةٍ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الثَّوْبِ الْمُتَّخَذِ مِنْ وَبَرِهَا. وَقَالَ

(1/200)


الْمُنْذِرِيُّ: أَصْلُهُ مِنْ وَبَرِ الْأَرْنَبِ، وَيُسَمَّى ذَكَرُهُ الْخَزَّ. وَقِيلَ: إنَّ الْخَزَّ ضَرْبٌ مِنْ ثِيَابِ الْإِبْرَيْسَمِ. وَفِي النِّهَايَةِ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّ الْخَزَّ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَخْلُوطٌ مِنْ صُوفٍ وَحَرِيرٍ. وَقَالَ عِيَاضٌ فِي: إنَّ الْخَزَّ مَا خُلِطَ مِنْ الْحَرِيرِ وَالْوَبَرِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ وَبَرِ الْأَرْنَبِ. ثُمَّ قَالَ: فَسُمِّيَ مَا خَالَطَ الْحَرِيرَ مِنْ سَائِرِ الْأَوْبَارِ خَزًّا. وَالْحَدِيثُ قَدْ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ الْخَزِّ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ غَايَةَ مَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَسَاهُ عِمَامَةَ الْخَزِّ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ اللُّبْسِ. وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ أَنَّهُ قَالَ: (كَسَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حُلَّةً سِيَرَاءَ فَخَرَجْت بِهَا فَرَأَيْت الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ فَأَطَرْتهَا خُمُرًا بَيْنَ نِسَائِي) . وَهَكَذَا قَالَ لِعُمَر: «إنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا» . قَالَ: وَحَدِيثُ ابْن عَبَّاسٍ يَدُلُّ عَلَى حِلِّ لُبْسِ الثَّوْبِ الْمَشُوبِ بِالْحَرِيرِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ. قَالَ: وَلَا مُتَمَسَّكَ لِلْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِحِلِّ الْمَشُوبِ. إذَا كَانَ الْحَرِيرُ مَغْلُوبًا إلَّا قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا أَعْلَمُ فَانْظُرْ أَيُّهَا الْمُنْصِفُ هَلْ يَصْلُحُ جَعْلُهُ جِسْرًا تُذَادُ عَنْهُ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي تَحْرِيمِ مُطْلَقِ الْحَرِيرِ وَمُقَيِّدِهِ، وَهَلْ يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ مَعَ مَا فِي إسْنَادِهِ مِنْ الضَّعْفِ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ الْمُدَّعُونَ لِلْحِلِّ بِشَيْءٍ تَرْكَنُ النَّفْسُ إلَيْهِ، وَغَايَةُ مَا جَادَلُوا بِهِ أَنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَهَذَا أَمْرٌ هَيِّنٌ، وَالْحَقُّ لَا يُعْرَفُ بِالرِّجَالِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: (أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حُلَّةٌ مَكْفُوفَةٌ بِحَرِيرٍ إمَّا سَدَاهَا وَإِمَّا لَحْمَتُهَا) إِلَى آخره. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ لُبْسِ الثَّوْبِ الْمَخْلُوطِ بِالْحَرِيرِ. قَوْلُهُ: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ» . قَالَ الشَّارِحُ: الْخَزّ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالزَّايِ وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الْحُمَيْدِيِّ وَابْنُ الْأَثِيرِ وَذَكَرَهُ أَبُو مُوسَى فِي بَابِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَهُوَ الْفَرْجُ، وَكَذَلِكَ ابْنُ رَسْلَانَ فِي شَرْحِ السُّنَنِ ضَبَطَهُ بِالْمُهْمَلَتَيْنِ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخَزِّ، وَعَطْفُ الْحَرِيرِ عَلَى الْخَزِّ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ. قَوْلُهُ: (وَذَكَرَ كَلَامَا) قَالَ الشَّارِحُ: هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِ: «وَلَيَنْزِلَنَّ

(1/201)


أَقْوَام إِلَى جَنْبِ عَلم يَرُوح عَلَيْهِم بِسَارِحَة لَهُم يَأْتِيهم - يعني الفَقِير - لِحَاجَتِهِ فَيَقُولُونَ: ارْجعْ إِلَيْنَا غَدًا فَيُبَيِّتَهُم اللهُ وَيَضَعُ الْعلمَ عَلَيْهِم» . قَالَ الشَّارِحُ: والْعَلمُ هُوَ الجبَل. قَوْلُهُ: «يَمْسَخُ مِنْهُمْ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَسْخَ وَاقِعٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْمَلَاهِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: «يُمْسَخُ قَوْمٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ» . فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: «بَلَى وَيَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ» . قَالُوا: فَمَا بَالُهُمْ؟ قَالَ: «اتَّخَذُوا الْمَعَازِفَ وَالدُّفُوفَ وَالْقَيْنَاتِ فَبَاتُوا عَلَى شُرْبِهِمْ وَلَهْوِهِمْ فَأَصْبَحُوا وَقَدْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ وَلَيَمُرَّنَّ الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ فِي حَانُوتِهِ يَبِيعُ فَيَرْجِعُ إلَيْهِ، وَقَدْ مُسِخَ قِرْدًا أَوْ خِنْزِيرًا» . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمْشِيَ الرَّجُلَانِ فِي الْأَمْرِ فَيُمْسَخَ أَحَدُهُمَا قِرْدًا أَوْ خِنْزِيرًا، وَلَا يَمْنَعُ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا مَا رَأَى بِصَاحِبِهِ أَنْ يَمْضِيَ إلَى شَأْنِهِ حَتَّى يَقْضِيَ شَهْوَتَهُ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْمَعَازِفُ: هِيَ أَصْوَاتُ الْمَلَاهِي. قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ: وَفِي الْقَامُوسِ: الْمَعَازِفُ: الْمَلَاهِي كَالْعُودِ وَالطُّنْبُورِ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ لِلتَّوَعُّدِ عَلَيْهَا بِالْخَسْفِ وَالْمَسْخِ. بَابُ نَهْيِ الرِّجَالِ عَنْ الْمُعَصْفَرِ وَمَا جَاءَ فِي الْأَحْمَرِ 715- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فَقَالَ: «إنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 716 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ ... رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ ثَنِيَّةٍ، فَالْتَفَتَ إلَيَّ - وَعَلَيَّ رَيْطَةٌ مُضَرَّجَةٌ بِالْعُصْفُرِ - فَقَالَ: «مَا هَذِهِ» ؟ فَعَرَفْت مَا كَرِهَ فَأَتَيْت أَهْلِي وَهُمْ يَسْجُرُونَ تَنُّورَهُمْ فَقَذَفْتهَا فِيهِ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنْ الْغَدِ، فَقَالَ: «يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا فَعَلَتْ الرَّيْطَةُ» ؟ فَأَخْبَرْته، فَقَالَ: «أَلَا كَسَوْتَهَا بَعْضَ أَهْلِكِ» ؟ . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

(1/202)


717- وَكَذَلِكَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَزَادَ: «فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِلنِّسَاءِ» . 718- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ وَعَنْ لِبَاسِ الْقَسِّيِّ، وَعَنْ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَعَنْ لِبَاسِ الْمُعَصْفَرِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ. 719- وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرْبُوعًا بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ لَهُ شَعْرٌ يَبْلُغُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ رَأَيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ لَمْ أَرَ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ. مُتَّفَق عَلَيْهِ. 720- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَحْمَرَانِ فَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد، وَقَالَ: مَعْنَاهُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَرِهَ الْمُعَصْفَرَ، وَقَالَ: وَرَأَوْا أَنَّ مَا صُبِغَ بِالْحُمْرَةِ مِنْ مَدَرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُعَصْفَرًا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (مُعَصْفَرَيْنِ) الْمُعَصْفَرُ هُوَ الْمَصْبُوغُ بِالْعُصْفُرِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِ لُبْسِ الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ بِعُصْفُرٍ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إلَى الْإِبَاحَةِ، كَذَا قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ. قَالَ: وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِالْكَرَاهَةِ لِلتَّنْزِيهِ، وَحَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى هَذَا لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ) . زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ: وَقَدْ كَانَ يَصْبُغُ بِهَا ثِيَابَهُ كُلَّهَا. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: النَّهْيُ مُنْصَرِفٌ إلَى مَا صُبِغَ مِنْ الثِّيَابِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الصُّفْرَةَ الَّتِي كَانَ يَصْبُغُ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غَيْرُ صُفْرَةِ الْعَصْفَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا سَيَأْتِي فِي لِبَاسِ الْأَبْيَضِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَصْبُغُ بِالزَّعْفَرَانِ) إِلِى أَنْ قَالَ: فَالرَّاجِحُ تَحْرِيمُ الثِّيَابِ الْمُعَصْفَرَةِ، وَالْعُصْفُرُ وَإِنْ كَانَ يَصْبُغُ صَبْغًا أَحْمَرَ كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَلْبَسُ حُلَّةً حَمْرَاءَ كَمَا يَأْتِي، لِأَنَّ النَّهْيَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ يَتَوَجَّهُ إلَى نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ الْحُمْرَةِ، وَهِيَ الْحُمْرَةُ الْحَاصِلَةُ عَنْ صِبَاغِ الْعُصْفُرِ. قَوْلُهُ: (أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ ثَنِيَّةٍ) . وَفِي لَفْظِ ابْنِ مَاجَهْ: مِنْ ثَنِيَّةِ

(1/203)


أَذَاخِرَ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ لُبْسِ الثِّيَابِ الْمُعَصْفَرَةِ. قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عّلِيِّ: (وَعَنْ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ لُبْسِهِ. قَوْلُهُ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرْبُوعًا بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ لَهُ شَعْرٌ يَبْلُغُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ رَأَيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ لُبْسِ الْأَحْمَرِ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَقَدْ زَعَمَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ الْحُلَّةَ الْحَمْرَاءَ بُرْدَانِ يَمَانِيَّانِ مَنْسُوجَانِ بِخُطُوطٍ حُمْرٍ مَعَ الْأَسْوَدِ، وَغَلطَ مَنْ قَالَ إنَّهَا كَانَتْ حَمْرَاءَ بَحْتًا. قَالَ: وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ بِهَذَا الِاسْمِ، وَلَا يَخْفَاك أَنَّ الصَّحَابِيَّ قَدْ وَصَفَهَا بِأَنَّهَا حَمْرَاءُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَالْوَاجِبُ الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ الْحَمْرَاءُ الْبَحْتُ. قَالَ الْحَافِظُ: وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ لُبْسِ الْأَحْمَرِ إنْ كَانَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لُبْسُ الْكُفَّارِ فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ زِيُّ النِّسَاءِ فَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الزَّجْرِ عَنْ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْهُ لَا لِذَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَجْلِ الشُّهْرَةِ أَوْ خَرْمِ الْمُرُوءَةِ فَيُمْنَعُ، حَيْثُ يَقَعُ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا فَيَقْوَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ لُبْسِهِ فِي الْمَحَافِلِ وَالْبُيُوتِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ لُبْسَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْحُلَّةَ كَانَ لِأَجْلِ الْغَزْوِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ كَانَ عَقِيبَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إذْ ذَاكَ غَزْوٌ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: (مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَحْمَرَانِ فَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد، وَقَالَ: مَعْنَاهُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَرِهَ الْمُعَصْفَرَ، وَقَالَ: وَرَأَوْا أَنَّ مَا صُبِغَ بِالْحُمْرَةِ مِنْ مَدَرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُعَصْفَرًا. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْجَمْعُ الَّذِي ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ وَنَسَبَهُ إلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ جَمْعٌ حَسَنٌ لِانْتِهَاضِ الْأَحَادِيثِ الْقَاضِيَةِ بِالْمَنْعِ مِنْ لُبْسِ مَا صُبِغَ بِالْعُصْفُرِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي لُبْسِ الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ وَالْأَخْضَرِ وَالْمُزَعْفَرِ وَالْمُلَوَّنَاتِ 721- عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْبَسُوا ثِيَابَ

(1/204)


الْبَيَاضِ فَإِنَّهَا أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 722- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَلْبَسَهَا الْحِبَرَةَ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. 723- وَعَنْ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ: رَأَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ. . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. 724- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ غَدَاةٍ وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 725- وَعَنْ أُمِّ خَالِدٍ قَالَتْ: أُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَ: «مَنْ تَرَوْنَ نَكْسُو هَذِهِ الْخَمِيصَةَ» ؟ فَأُسْكِتَ الْقَوْمُ، فَقَالَ: «ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ» . فَأُتِيَ بِي إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَلْبَسَنِيهَا بِيَدِهِ، وَقَالَ: «أَبْلِي وَأَخْلِقِي» . مَرَّتَيْنِ وَجَعَلَ يَنْظُرُ إلَى عَلَمِ الْخَمِيصَةِ، وَيُشِيرُ بِيَدِهِ إلَيَّ، وَيَقُولُ: «يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَا هَذَا سَنَا» . وَالسَّنَا بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: الْحَسَنُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 726- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَصْبُغُ ثِيَابَهُ وَيَدَّهِنُ بِالزَّعْفَرَانِ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ تَصْبُغُ ثِيَابَك وَتَدَّهِنُ بِالزَّعْفَرَانِ؟ فَقَالَ: إنِّي رَأَيْته أَحَبَّ الْأَصْبَاغِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَّهِنُ بِهِ وَيَصْبُغُ بِهِ ثِيَابَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 727- وَكَذَلِكَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِنَحْوِهِ وَفِي لَفْظِهِمَا: وَلَقَدْ كَانَ يَصْبُغُ ثِيَابَهُ كُلَّهَا حَتَّى عِمَامَتَهُ. قَوْلُهُ: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابَكُمْ الْبَيَاضَ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ لُبْسِ الْبَيَاضِ وَتَكْفِينُ الْمَوْتَى بِهِ كَوْنُهُ أَطْهَرَ مِنْ غَيْرِهِ وَأَطْيَبَ وَالْأَمْرُ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ. قَوْلُهُ: (كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَلْبَسَهَا الْحِبَرَةَ) . قَالَ الشَّارِحُ: قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْحِبَرَةُ كَعِنَبَةٍ: بُرْدٌ يَمَانٍ يَكُونُ مِنْ كَتَّانٍ أَوْ قُطْنٍ، سُمِّيَتْ حِبَرَةً لِأَنَّهَا مُحَبَّرَةٌ أَيْ مُزَيَّنَةٌ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْحِبَرَةُ أَحَبَّ الثِّيَابِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا كَثِيرُ زِينَةٍ وَلِأَنَّهَا أَكْثَرُ احْتِمَالًا لِلْوَسَخِ مِنْ غَيْرِهَا.

(1/205)


قَوْلُهُ: (رَأَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ) . قَالَ الشَّارِحُ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ لُبْسِ الْأَخْضَرِ لِأَنَّهُ لِبَاسِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ أَنْفَعِ الْأَلْوَانِ لِلْأَبْصَارِ وَمِنْ أَجْمَلِهَا فِي أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ. قَوْلُهُ: (خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ غَدَاةٍ وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ) قَالَ الشَّارِحُ: وَهُوَ بُرْدٌ فِيهِ صُوَر الرِّحَالِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْمُرَادُ تَصَاوِيرُ رِحَالِ الْإِبِلِ وَلَا بَأْسَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِي لُبْسِ السَّوَادِ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «أَبْلِي وَأَخْلِقِي» . قَالَ الشَّارِحُ: هَذَا مِنْ بَابِ التَّفَاؤُلِ وَالدُّعَاءِ لِلَّابِسِ بِأَنْ يُعَمِّرَ، وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا كَذَلِكَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى عَلَى عُمَرَ قَمِيصًا أَبْيَضَ فَقَالَ: «الْبَسْ جَدِيدًا وَعِشْ حَمِيدًا وَمُتْ شَهِيدًا» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا لَبِسَ أَحَدُهُمْ ثَوْبًا جَدِيدًا قِيلَ لَهُ: «تُبْلِي وَيُخْلِفُ اللَّهُ تَعَالَى» . قَوْلُهُ: «هَذَا سَنَّا» بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَفِيهِ جَوَازُ التَّكَلُّمِ بِاللُّغَةِ الْعَجَمِيَّةِ وَمَعْنَاهُ حَسَنٌ. وَالْحَدِيثُ يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلنِّسَاءِ لِبَاسُ الثِّيَابِ السُّودِ وَلَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا. قَوْلُهُ: (كَانَ يَصْبُغُ ثِيَابَهُ وَيَدَّهِنُ بِالزَّعْفَرَانِ) إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ صَبْغِ الثِّيَابِ بِالصُّفْرَةِ. وَمَشْرُوعِيّة الإِدِّهَان بالزَّعْفَرَان وَصِبَاغَ اللحية بالصفرة. انْتَهَى. قال في الشرح الكبير: وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ لِبْسَ الْمُزَعْفَرِ وَالْمُعَصْفَرِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى الرِّجَالَ عَنِ التَّزَعْفُرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: نَهَانِي ... النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ لِبَاسِ الْمُعَصْفَرِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلا بَأْسَ بِلِبْسِهِ لِلنِّسَاءِ لأنَّ تَخْصِيصَ النَّهْي بِالرّجُلِ دَلِيلُ عَلَى إِبَاحَتِهِ لِلنِّسَاءِ. بَابُ حُكْمِ مَا فِيهِ صُورَةٌ مِنْ الثِّيَابِ وَالْبُسُطِ وَالسُّتُورِ وَالنَّهْيِ عَنْ التَّصْوِيرِ 728- عَنْ عَائِشَة أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ يَتْرُكْ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَالِيبُ

(1/206)


إلَّا نَقَضَهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 729- وَأَحْمَدُ وَلَفْظُهُ: لَمْ يَكُنْ يَدَعُ فِي بَيْتِهِ ثَوْبًا فِيهِ تَصْلِيبٌ إلَّا نَقَضَهُ. 730- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا نَصَبَتْ سِتْرًا وَفِيهِ تَصَاوِيرُ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَنَزَعَهُ قَالَتْ: فَقَطَعْته وِسَادَتَيْنِ فَكَانَ يَرْتَفِقُ عَلَيْهِمَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 731- وَفِي لَفْظِ أَحْمَدَ: فَقَطَعْتُهُ مِرْفَقَتَيْنِ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ مُتَّكِئًا عَلَى إحْدَاهُمَا وَفِيهَا صُورَةٌ. 732- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: إنِّي كُنْتُ أَتَيْتُك اللَّيْلَةَ فَلَمْ يَمْنَعُنِي أَنْ أَدْخُلَ الْبَيْتَ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ فِيهِ تِمْثَالُ رَجُلٍ وَكَانَ فِي الْبَيْتِ قِرَامُ - سِتْرٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ - وَكَانَ فِي الْبَيْتِ كَلْبٌ فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِي فِي بَابِ الْبَيْتِ يُقْطَعْ يُصَيَّرُ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ، وَأْمُرْ بِالسِّتْرِ يُقْطَعْ فَيُجْعَلَ وِسَادَتَيْنِ مُنْتَبَذَتَيْنِ تُوطَآنِ، وَأْمُرْ بِالْكَلْبِ يُخْرَجْ» . فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَإِذَا الْكَلْبُ جَرْوٌ وَكَانَ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ تَحْتَ نَضَدٍ لَهُمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 733- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» . 734- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنِّي أُصَوِّرُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ فَأَقْتَنِي فِيهَا، فَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا تُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ فَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَاجْعَلْ الشَّجَرَ وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. قَوْلُهُ: (لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَالِيبُ إلا نَقَضَهُ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فِيهِ تَصَالِيبُ) أَيْ صُورَةُ صَلِيبٍ مِنْ نَقْشِ ثَوْبٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَالصَّلِيبُ فِيهِ صُورَةُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعْبُدُهُ النَّصَارَى. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ اتِّخَاذِ الثِّيَابِ وَالسُّتُورِ وَالْبُسُطِ وَغَيْرِهَا الَّتِي فِيهَا تَصَاوِيرُ، وَعَلَى جَوَازِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِ مَالِكِهِ، زَوْجَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ: تَصْوِيرُ صُورَةِ الْحَيَوَانِ حَرَامٌ

(1/207)


شَدِيدُ التَّحْرِيمِ وَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهِ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَحَادِيثِ، وَسَوَاءٌ صَنَعَهُ لِمَا يُمْتَهَنُ أَوْ لِغَيْرِهِ فَصَنْعَتُهُ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍ، لِأَنَّ فِيهِ مُضَاهَاةً لِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَوَاءٌ مَا كَانَ فِي ثَوْبٍ أَوْ بِسَاطٍ أَوْ دِرْهَمٍ أَوْ دِينَارٍ وَفَلْسٍ وَإِنَاءٍ وَحَائِطٍ وَغَيْرِهَا. وَأَمَّا تَصْوِيرُ صُورَةِ الشَّجَرِ وَجِبَالِ الْأَرْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ صُورَةُ حَيَوَانٍ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ هَذَا حُكْمُ نَقْشِ التَّصْوِيرِ. وَأَمَّا اتِّخَاذُ مَا فِيهِ صُورَةُ حَيَوَانٍ فَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا عَلَى حَائِطٍ أَوْ ثَوْبًا أَوْ عِمَامَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعَدُّ مُمْتَهَنًا فَهُوَ حَرَامٌ وَإِنْ كَانَ فِي بِسَاطٍ يُدَاسُ وَمِخَدَّةٍ وَوِسَادَةٍ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُمْتَهَنُ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ، وَلَكِنْ هَلْ يَمْنَعُ دُخُولَ مَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ ذَلِكَ الْبَيْتَ وَسَيَأْتِي. قَالَ: وَلَا فَرْقٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بَيْنَ مَا لَهُ ظِلٌّ وَمَا لَا ظِلَّ لَهُ. قَالَ هَذَا تَلْخِيصُ مَذْهَبِنَا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَبِمَعْنَاهُ قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إنَّمَا يُنْهَى عَمَّا كَانَ لَهُ ظِلٌّ، وَلَا بَأْسَ بِالصُّوَرِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا ظِلٌّ، وَهَذَا مَذْهَبٌ بَاطِلٌ فَإِنَّ السِّتْرَ الَّذِي أَنْكَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصُّوَرَ فِيهِ لَا يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّهُ مَذْمُومٌ وَلَيْسَ لِصُورَتِهِ ظِلٌّ مَعَ بَاقِي الْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَةِ فِي كُلِّ صُورَةٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: النَّهْيُ فِي الصُّورَةِ عَلَى الْعُمُومِ وَكَذَلِكَ اسْتِعْمَالُ مَا هِيَ فِيهِ، وَدُخُولُ الْبَيْتِ الَّذِي هِيَ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَتْ رَقْمًا فِي ثَوْبِ أَوْ غَيْرَ رَقْمٍ وَسَوَاءٌ كَانَتْ فِي حَائِطٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ بِسَاطٍ مُمْتَهَنٍ أَوْ غَيْرِ مُمْتَهَنٍ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ. لَا سِيَّمَا حَدِيثُ النُّمْرُقَةِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ وَهَذَا مَذْهَبٌ قَوِيٌّ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ مِنْهَا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ سَوَاءٌ اُمْتُهِنَ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ عُلِّقَ فِي حَائِطٍ أَمْ لَا، قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَأَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ مَا كَانَ لَهُ ظِلٌّ وَوُجُوبُ تَغْيِيرِهِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: إلَّا مَا وَرَدَ فِي اللَّعِبُ بِالْبَنَاتِ لِصِغَارِ الْبَنَاتِ وَالرُّخْصَةُ فِي ذَلِكَ، لَكِنْ كَرِهَ مَالِكٌ شِرَاءَ الرَّجُلِ ذَلِكَ لِابْنَتِهِ وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ إبَاحَةَ اللَّعِبِ بِالْبَنَاتِ مَنْسُوخٌ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ. انْتَهَى. قَوْلُهُ: (أَنَّهَا نَصَبَتْ سِتْرًا وَفِيهِ تَصَاوِيرُ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَنَزَعَهُ قَالَتْ: فَقَطَعْته وِسَادَتَيْنِ فَكَانَ يَرْتَفِقُ عَلَيْهِمَا) . قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ الْإِرْشَادُ إلَى إزَالَةِ التَّصَاوِيرِ الْمَنْقُوشَةِ عَلَى السُّتُورِ. فِيهِ أَنَّ الصُّورَةَ وَالتِّمْثَالَ إذَا غُيِّرَا لَمْ

(1/208)


يَكُنْ بِهِمَا بَأْسٌ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَازَ افْتِرَاشُهُمَا وَالِارْتِفَاقُ عَلَيْهِمَا. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ افْتِرَاشِ الثِّيَابِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا تَصَاوِيرُ وَعَلَى اسْتِحْبَابِ الِارْتِفَاقِ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «أَتَانِي جِبْرِيلُ» إِلَى آخره. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ الْبُيُوتَ الَّتِي فِيهَا تَمَاثِيلُ أَوْ كَلْبٌ. قَالَ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ: الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَنْزِلُونَ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَأَمَّا الْحَفَظَةُ فَلَا يُفَارِقُونَ الْجُنُبَ وَغَيْرَهُ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - «الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ التَّصْوِيرَ مِنْ أَشَدِّ الْمُحَرَّمَاتِ لِلتَّوَعُّدِ عَلَيْهِ بِالتَّعْذِيبِ فِي النَّارِ وَبِأَنَّ كُلَّ مُصَوِّرٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لِوُرُودِ لَعْنِ الْمُصَوِّرِينَ فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ. قَوْلُهُ: «فَاجْعَلْ الشَّجَرَ وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ» فِيهِ الْإِذْنُ بِتَصْوِيرِ الشَّجَرِ وَكُلِّ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ التَّحْرِيمِ بِتَصْوِيرِ الْحَيَوَانَاتِ. قَالَ فِي الْبَحْرِ: وَلَا يُكْرَهُ تَصْوِيرُ الشَّجَرِ وَمَا نَحْوُهَا مِنْ الْجَمَادِ إجْمَاعًا. بَابُ مَا جَاءَ فِي لُبْسِ الْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ وَالسَّرَاوِيلِ 735- عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَتَسَرْوَلَونَ وَلَا يَأْتَزِرُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تَسَرْوَلُوا وَائْتَزِرُوا وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 736- وَعَنْ مَالِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: بَعَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رِجْلَ سَرَاوِيلَ - قَبْلَ الْهِجْرَةِ - فَوَزَنَ لِي فَأَرْجَحَ لِي. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 737- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْقُمُصُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 738- وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ: كَانَتْ يَدُ كُمِّ قَمِيصِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى الرُّسْغِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ.

(1/209)


739- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَلْبَسُ قَمِيصًا قَصِيرَ الْيَدَيْنِ وَالطُّولِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. 740- وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا اعْتَمَّ سَدَلَ عِمَامَتَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ. قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُسْدِلُ عِمَامَتَهُ بَيْنَ كَتِفِهِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. قوله - صلى الله عليه وسلم -: «تَسَرْوَلُوا وَائْتَزِرُوا وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ الْإِذْنُ بِلُبْسِ السَّرَاوِيلِ وَإِنَّ مُخَالَفَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الِاتِّزَارِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ. قَوْلُهَا: (كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْقُمُصُ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ لُبْسِ الْقَمِيصِ وَإِنَّمَا كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأَنَّهُ أَمْكَنُ فِي السَّتْرِ مِنْ الرِّدَاءِ وَالْإِزَارِ اللَّذَيْنِ يَحْتَاجَانِ كَثِيرًا إلَى الرَّبْطِ وَالْإِمْسَاكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْقَمِيصِ. قَوْلُهَا: (كَانَتْ يَدُ كُمِّ قَمِيصِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى الرُّسْغِ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَهُوَ مِفْصَلُ مَا بَيْنَ الْكَفِّ وَالسَّاعِدِ. وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْأَكْمَامِ أَنْ لَا تُجَاوِزُ الرُّسْغَ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ: وَأَمَّا الْأَكْمَامُ الْوَاسِعَةُ الطِّوَالُ الَّتِي هِيَ كَالْأَخْرَاجِ فَلَمْ يَلْبَسْهَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَلْبَتَّةَ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِسُنَّتِهِ، وَفِي جَوَازِهَا نَظَرٌ، فَإِنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْخُيَلَاءِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَفِي الْحَدِيثِ الثَّانِي دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ هَدْيَهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ تَقْصِيرَ الْقَمِيصِ لِأَنَّ تَطْوِيلَهُ إسْبَالٌ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. قَوْلُهُ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا اعْتَمَّ سَدَلَ عِمَامَتَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ لُبْسِ الْعِمَامَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ إرْخَاءِ الْعِمَامَةِ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَكَانَ - يَعْنِي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَلْبَسُ الْقَلَنْسُوَةَ بِغَيْرِ عِمَامَةٍ وَيَلْبَسُ الْعِمَامَةَ بِغَيْرِ قَلَنْسُوَةٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: يَجُوزُ لُبْسُ الْعِمَامَةِ بِإِرْسَالِ طَرَفِهَا وَبِغَيْرِ إرْسَالِهِ وَلَا كَرَاهَةَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَمْ يَصِحَّ فِي النَّهْيِ عَنْ تَرْكِ إرْسَالِهَا شَيْءٌ، وَإِرْسَالُهَا إرْسَالًا فَاحِشًا كَإِرْسَالِ الثَّوْبِ يَحْرُمُ لِلْخُيَلَاءِ وَيُكْرَهُ لِغَيْرِهِ.

(1/210)


بَابُ الرُّخْصَةِ فِي اللِّبَاسِ الْجَمِيلِ وَاسْتِحْبَابِ التَّوَاضُعِ فِيهِ وَكَرَاهَةِ الشُّهْرَةِ وَالْإِسْبَالِ 741- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» . فَقَالَ رَجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا. قَالَ: «إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْصُ النَّاسِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 742- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَرَكَ أَنْ يَلْبَسَ صَالِحَ الثِّيَابِ - وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ - تَوَاضُعًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي حُلَلِ الْإِيمَانِ أَيَّتَهُنَّ شَاءَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. 743- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 744- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّ أَحَدَ شِقَّيْ إزَارِي يَسْتَرْخِي إلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَقَالَ: «إنَّك لَسْت مِمَّنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ خُيَلَاءَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا أَنَّ مُسْلِمًا وَابْنَ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيَّ لَمْ يَذْكُرُوا قِصَّةَ أَبِي بَكْرٍ. 745- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: (0 الْإِسْبَالُ فِي الْإِزَارِ وَالْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ مَنْ جَرَّ شَيْئًا خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. 746- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 747- وَلِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ: «مَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ مِنْ الْإِزَارِ فِي النَّارِ» . قَوْلُهُ: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا، قَالَ: «إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَحَبَّةَ لُبْسِ الثَّوْبِ الْحَسَنِ وَالنَّعْلِ الْحَسَنِ وَتَخَيُّرِ اللِّبَاسِ الْجَمِيلِ لَيْسَ مِنْ الْكِبْرِ فِي شَيْءٍ.

(1/211)


قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَرَكَ أَنْ يَلْبَسَ صَالِحَ الثِّيَابِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الزُّهْدِ فِي الْمَلْبُوسِ وَتَرْكِ لُبْسِ حَسَنِ الثِّيَابِ وَرَفِيعِهَا لِقَصْدِ التَّوَاضُعِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لُبْسَ مَا فِيهِ جَمَالٌ زَائِدٌ مِنْ الثِّيَابِ يَجْذِبُ بَعْضَ الطِّبَاعِ إلَى الزَّهْوِ وَالْخُيَلَاءِ وَالْكِبْرِ، وَقَدْ كَانَ هَدْيُهُ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنْ يَلْبَسَ مَا تَيَسَّرَ مِنْ اللِّبَاسِ: الصُّوفِ تَارَةً، وَالْقُطْنِ أُخْرَى، وَالْكَتَّانِ تَارَةً، وَلَبِسَ الْبُرُودَ الْيَمَانِيَّةَ، وَالْبُرْدَ الْأَخْضَرَ، وَلَبِسَ الْجُبَّةَ وَالْقَبَاءَ وَالْقَمِيصَ إِلِى أَنْ قَالَ: قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كَانُوا يَكْرَهُونَ الشُّهْرَتَيْنِ مِنْ الثِّيَابِ الْعَالِي وَالْمُنْخَفِضِ. قَوْلُهُ: «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . قَالَ الشَّارِحُ: قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: الشُّهْرَةُ ظُهُورُ الشَّيْءِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ ثَوْبَهُ يَشْتَهِرُ بَيْنَ النَّاسِ لِمُخَالَفَةِ لَوْنِهِ لِأَلْوَانِ ثِيَابِهِمْ فَيَرْفَعُ النَّاسُ إلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ، وَيَخْتَالُ عَلَيْهِمْ بالْعُجْبِ وَالتَّكَبُّرُ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ لُبْسِ ثَوْبِ الشُّهْرَةِ وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مُخْتَصًّا بِنَفِيسِ الثِّيَابِ، بَلْ قَدْ يَحْصُلُ ذَلِكَ لِمَنْ يَلْبَسُ ثَوْبًا يُخَالِفُ مَلْبُوسَ النَّاسِ مِنْ الْفُقَرَاءِ، لِيَرَاهُ النَّاسُ فَيَتَعَجَّبُوا مِنْ لُبْسِهِ وَيَعْتَقِدُوهُ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . قَالَ الشَّارِحُ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ جَرِّ الثَّوْبِ خُيَلَاءَ. وَالْمُرَادُ بِجَرِّهِ هُوَ جَرُّهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ مِنْ الْإِزَارَ فِي النَّارِ» . وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْإِسْبَالَ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَقَدْ فَهِمَتْ أُمُّ سَلَمَةَ ذَلِكَ لَمَّا سَمِعَتْ الْحَدِيثَ فَقَالَتْ: فَكَيْفَ تَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ؟ قَالَ: «يُرْخِينَهُ شِبْرًا» . فَقَالَتْ: إذن يَنْكَشِفَ أَقْدَامُهُنَّ، قَالَ: «فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ» . وَلَكِنَّهُ قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْإِسْبَالِ لِلنِّسَاءِ، وَظَاهِرُ التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ: «خُيَلَاءَ» . يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ أَنَّ جَرَّ الثَّوْبِ لِغَيْرِ الْخُيَلَاءِ لَا يَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ إلَّا أَنَّهُ مَذْمُومٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: إنَّهُ مَكْرُوهٌ وَهَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُجَاوِزَ بِثَوْبِهِ كَعْبَهُ وَيَقُولُ: لا أَجُرُّهُ خُيَلَاءَ، لِأَنَّ النَّهْيَ قَدْ تَنَاوَلَهُ لَفْظًا.

(1/212)


بَابُ نَهْيِ الْمَرْأَةِ أَنْ تَلْبَسَ مَا يَحْكِي بَدَنَهَا أَوْ تَشَبَّهَ بِالرِّجَالِ 748- عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كَسَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُبْطِيَّةً كَثِيفَةً - كَانَتْ مِمَّا أَهْدَى لَهُ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ - فَكَسَوْتُهَا امْرَأَتِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا لَكَ لَا تَلْبَسُ الْقُبْطِيَّةَ» ؟ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَوْتُهَا امْرَأَتِي، فَقَالَ: «مُرْهَا أَنْ تَجْعَلَ تَحْتَهَا غِلَالَةً فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَصِفَ حَجْمَ عِظَامِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 749- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ تَخْتَمِرُ، فَقَالَ: «لَيَّةً لَا لَيَّتَيْنِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 750- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا بَعْدُ نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ عَلَى رُءُوسِهِنَّ أَمْثَالُ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَرَيْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَرِجَالٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 751- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ الرَّجُلَ يَلْبَسُ لُبْسَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ لُبْسَ الرَّجُلِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ: (قُبْطِيَّةً) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: بِضَمِّ الْقَافِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَقَدْ تُكْسَرُ. وَفِي الضِّيَاءِ بِكَسْرِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: بِالضَّمِّ وَهِيَ نِسْبَةٌ إلَى الْقِبْطِ بِكَسْرِ الْقَافِ وَهُمْ أَهْلُ مِصْرَ. قَوْلُهُ: «غِلالَةً» الْغِلَالَةُ بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ شِعَارٌ يُلْبَسُ تَحْتَ الثَّوْبِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَغَيْرِهِ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَسْتُرَ بَدَنَهَا بِثَوْبٍ لَا يَصِفُهُ، وَهَذَا شَرْطٌ سَاتِرُ الْعَوْرَةِ.، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالثَّوْبِ تَحْتَهُ لِأَنَّ الْقَبَاطِيَّ ثِيَابٌ رَقِيقٌ لَا تَسْتُرُ الْبَشَرَةَ عَنْ رُؤْيَةِ النَّاظِرِ بَلْ تَصِفُهَا. انْتَهَى. قال الموفق في المغني: وَالْمُسْتَحَبُ أَنْ تُصَلَّي الْمَرْأَةُ فِي دَرْعٍ. قَالَ: الدِّرْعُ يُشْبِهُ الْقَمِيص لَكِنَّهُ سَابِغٌ يُغَطِّي قَدَمَيْهَا وَخِمَارٌ يُغَطِّي رَأْسَهَا وَعُنُقَهَا وَجِلْبَابٌ تَلْتَفُ بِهِ مِنْ فَوْقِ الدِّرْعِ. قَالَ: قَد اتَّفَقَ عَامَتُهُمْ عَلَى الدِّرْعِ وَالْخِمَارِ وَمَا زَادَ فَهُوَ خَيْرٌ وَأَسْتَرُ، وَلأنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَيْهَا جِلْبَابٌ فَإِنَّهَا تُجَافِيهِ رَاكِعَة

(1/213)


وَسَاجِدَة لِئَلا تَصِفهَا فَتُبَيِّنُ عَجِيزتهَا وَمَوَاضِع عَوْرَاتِهَا. انتهى. قلت: فلعل قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَصِفَ حَجْمَ عِظَامِهَا» . بِمَعْنَى تبين عجيزتها وَنَحْوَ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ تَخْتَمِرُ، فَقَالَ: «لَيَّةً لا لَيَّتَيْنِ» ) . قَالَ الشَّارِحُ: أَمَرَهَا أَنْ تَلْوِيَ خِمَارَهَا عَلَى رَأْسِهَا وَتُدِيرُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً لَا مَرَّتَيْنِ لِئَلَّا يُشْبِهَ اخْتِمَارُهَا تَدْوِيرَ عَمَائِمِ الرِّجَالِ إذَا اعْتَمُّوا فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ التَّشَبُّهِ الْمُحَرَّمِ. قَوْلُهُ: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» . قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ فَقَدْ وَقَعَ هَذَانِ الصِّنْفَانِ وَهُمَا مَوْجُودَانِ. قَوْلُهُ: «كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ» . قِيلَ: كَاسِيَاتٌ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَارِيَّاتٌ مِنْ شُكْرِهَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَسْتُرُ بَعْضَ بَدَنِهَا وَتَكْشِفُ بَعْضَهُ إظْهَارًا لِجَمَالِهَا وَنَحْوِهِ، وَقِيلَ: تَلْبَسُ ثَوْبًا رَقِيقًا يَصِفُ لَوْنَ بَدَنِهَا. قَوْلُهُ: «مَائِلَاتٌ» أَيْ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَمَا يَلْزَمُهُنَّ حِفْظُهُ «مُمِيلَاتٌ» أَيْ يُعَلِّمْنَ غَيْرَهُنَّ فِعْلَهُنَّ الْمَذْمُومَ. وَقِيلَ: «مَائِلَاتٌ» بِمَشْيِهِنَّ مُتَبَخْتِرَاتٌ. «مُمِيلَاتٌ» بِأَكْتَافِهِنَّ. وَقِيلَ: الْمَائِلَاتُ مِشْطَةُ الْبَغَايَا الْمُمِيلَاتُ بِمُشْطِهِنَّ غَيْرَهُنَّ تِلْكَ الْمِشْطَةُ. قَوْلُهُ: «عَلَى رُءُوسِهِنَّ أَمْثَالُ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ» الإِبِل الْخَراسانية أَيْ يُكْومْنَ شُعُورَهُنَّ وَيُعْظِمْنَهَا بِلَفِّ عِمَامَةٍ أَوْ عِصَابَةٍ أَوْ نَحْوِهَا. وَالْحَدِيثُ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى كَرَاهَةِ لُبْسِ الْمَرْأَةِ مَا يَحْكِي بَدَنَهَا، وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَأَنَّهُ لَا يَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ مَعَ أَنَّ رِيحَهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. وَعِيدٌ شَدِيدٌ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ مِنْ صِفَاتِ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ. قَوْلُهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ الرَّجُلَ يَلْبَسُ لُبْسَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ لُبْسَ الرَّجُلِ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ تَشَبُّهِ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ وَالرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمُتَرَجِّلَاتِ: «أَخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِكُمْ» .

(1/214)


وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمُخَنَّثٍ قَدْ خَضَبَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ بِالْحِنَّاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا بَالُ هَذَا» ؟ فَقَالُوا: يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ، فَأَمَرَ بِهِ فَنُفِيَ إلَى النَّقِيعِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَقْتُلُهُ؟ قَالَ: «إنِّي نُهِيت أَنْ أَقْتُلَ الْمُصَلِّينَ» . بَابُ التَّيَامُنِ فِي اللُّبْسِ وَمَا يَقُولُ مَنْ اسْتَجَدَّ ثَوْبًا 752- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا لَبِسَ قَمِيصًا بَدَأَ بِمَيَامِنِهِ. 753- وَعَنْ أَبِي سَعْدٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا اسْتَجَدَّ ثَوْبًا سَمَّاهُ بِاسْمِهِ؛ عِمَامَةً أَوْ قَمِيصًا أَوْ رِدَاءً، ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ أَنْتَ كَسَوْتَنِيهِ، أَسْأَلُك خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ» . رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الِابْتِدَاءِ فِي لُبْسِ الْقَمِيصِ بِالْمَيَامِنِ، وَكَذَلِكَ لُبْسُ غَيْرِهِ لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَقْدِيمِ الْمَيَامِنِ. وَالْحَدِيثُ الثَّانِي يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ لُبْسِ الثَّوْبِ الْجَدِيدِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا اشْتَرَى عَبْدٌ ثَوْبًا بِدِينَارٍ أَوْ بِنِصْفِ دِينَارٍ فَحَمِدَ اللَّهَ إلَّا لَمْ يَبْلُغْ رُكْبَتَيْهِ حَتَّى يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ» . وَقَالَ: حَدِيثٌ لَا أَعْلَمُ فِي إسْنَادِهِ أَحَدًا ذُكِرَ بِجَرْحٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(1/215)


أَبْوَابُ اجْتِنَابِ النَّجَاسَاتِ وَمَوَاضِعِ الصَّلَوَاتِ بَابُ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالْعَفْوِ عَمَّا لَا يُعْلَمُ بِهَا 754- عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: سَمِعْت رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أُصَلِّي فِي الثَّوْبِ الَّذِي آتِي فِيهِ أَهْلِي؟ قَالَ: «نَعَمْ، إلَّا أَنْ تَرَى فِيهِ شَيْئًا فَتَغْسِلَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 755- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قُلْت لِأُمِّ حَبِيبَةَ: هَلْ كَانَ يُصَلِّي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الثَّوْبِ الَّذِي يُجَامِعُ فِيهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَذًى. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ. 756- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ صَلَّى فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لَهُمْ: «لِمَ خَلَعْتُمْ» . قَالُوا: رَأَيْنَاك خَلَعْت فَخَلَعْنَا، فَقَالَ: «إنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ بِهِمَا خَبَثًا، فَإِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيُقَلِّبْ نَعْلَيْهِ وَلْيَنْظُرْ فِيهِمَا، فَإِنْ رَأَى فَلْيَمْسَحْهُ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ لِيُصَلِّ فِيهِمَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ: أُصَلِّي فِي الثَّوْبِ الَّذِي آتِي فِيهِ أَهْلِي؟ قَالَ: «ةنَعَمْ، إلَّا أَنْ تَرَى فِيهِ شَيْئًا فَتَغْسِلَهُ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى تَجَنُّبِ الْمُصَلِّي لِلثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ. وَهَلْ طَهَارَةُ ثَوْبِ الْمُصَلِّي شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إلَى أَنَّهَا شَرْطٌ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَمِنْ فَوَائِدِ حَدِيثَيْ الْبَابِ أَنَّهُ لَا

(1/216)


يَجِبُ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْمَظِنَّةِ لِأَنَّ الثَّوْبَ الَّذِي يُجَامِعُ فِيهِ مَظِنَّةٌ لِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، فَأَرْشَدَ الشَّارِعُ - صلى الله عليه وسلم - إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ الْعَمَلُ بِالْمَئِنَّةِ دُونَ الْمَظِنَّةِ. وَمِنْ فَوَائِدِهِمَا كَمَا قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ فِي شَرْحِ السُّنَنِ: طَهَارَةُ رُطُوبَةِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هُنَا أَنَّهُ كَانَ يَغْسِلُ ثَوْبَهُ مِنْ الْجِمَاعِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ لَوْ غَسَلَهُ لَنُقِلَ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الذَّكَرَ يَخْرُجُ وَعَلَيْهِ رُطُوبَةٌ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ. انْتَهَى. قَوْلُهُ: (أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ) الْحَدِيثُ. قَالَ الشَّارِحُ: اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَهُوَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ، لِأَنَّ اسْتِمْرَارَهُ عَلَى الصَّلَاةِ الَّتِي صَلَّاهَا قَبْلَ خَلْعِ النَّعْلِ وَعَدَمِ اسْتِئْنَافِهِ لَهَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ كَوْنِ الطَّهَارَةِ شَرْطًا. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ أَنَّ دَلْك النِّعَالَ يُجْزِئُ، وَأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ أُمَّتَهُ أُسْوَتُهُ فِي الْأَحْكَامِ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِي النَّعْلَيْنِ لَا تُكْرَهُ، وَأَنَّ الْعَمَلَ الْيَسِيرَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ. ? بَابُ حَمْلِ الْمُحْدِثِ وَالْمُسْتَجْمِرِ فِي الصَّلَاةِ وَثِيَابِ الصِّغَارِ وَمَا شُكَّ فِي نَجَاسَتِهِ 757- عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ، فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا. مُتَّفَق عَلَيْهِ. 758- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْعِشَاءَ، فَإِذَا سَجَدَ وَثَبَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَى ظَهْرِهِ فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ أَخَذَهُمَا مِنْ خَلْفِهِ أَخْذًا رَفِيقًا وَوَضَعَهُمَا عَلَى الْأَرْضِ، فَإِذَا عَادَ عَادَا حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ، ثُمَّ أَقْعَدَ أَحَدَهُمَا عَلَى فَخِذَيْهِ، قَالَ: فَقُمْت إلَيْهِ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرُدُّهُمَا فَبَرَقَتْ بَرْقَةٌ، فَقَالَ لَهُمَا: «الْحَقَا بِأُمِّكُمَا» . فَمَكَثَ ضَوْؤُهَا حَتَّى دَخَلا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 759- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ وَأَنَا إلَى جَنْبِهِ وَأَنَا حَائِضٌ وَعَلَيَّ مِرْطٌ وَعَلَيْهِ بَعْضُهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ.

(1/217)


760- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَا يُصَلِّي فِي شُعُرِنَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 761- وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَلَفْظُهُ: لَا يُصَلِّي فِي لُحُفِ نِسَائِهِ. قَوْلُهُ: (كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ، فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ وَالْمُنْفَرِدِ وَالْمُؤْتَمِّ وَالْإِمَامِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَحَمَلَ أَكْثَرُ أَهْلُ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ مُتَوَالٍ لِوُجُودِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ. وَمِنْ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ جَوَازُ إدْخَالِ الصِّبْيَانِ الْمَسَاجِدَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ مَسَّ الصَّغِيرَةِ لَا يَنْتَقِضُ بِهِ الْوُضُوءُ، وَأَنَّ الظَّاهِرَ طَهَارَةُ ثِيَابِ مَنْ لَا يَحْتَرِزُ مِنْ النَّجَاسَةِ كَالْأَطْفَالِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ حَالَ التَّنْظِيفِ، لِأَنَّ حِكَايَاتِ الْأَحْوَالِ لَا عُمُومَ لَهَا. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَيَدُ الصَّبِيِّ إِذَا أَدْخَلَهَا فِي الإِنَاءِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِعْمَال الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ، وَكَذَلِكَ تُكْرَهُ الصَّلاةُ فِي ثَوْبِهِ. وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدٌ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي رِوَايَةِ الأَثْرَمِ عَنِ الصَّلاةِ فِي ثَوْبِ الصَّبِيِّ فَكَرِهَهُ. انْتَهَى. قَوْلُهُ: (كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْعِشَاءَ، فَإِذَا سَجَدَ وَثَبَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَى ظَهْرِهِ) . الْحَدِيثُ. قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ إدْخَالِ الصِّبْيَانِ الْمَسَاجِدَ. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ وَحُدُودَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَجَمِّرُوهَا يَوْمَ جُمَعِكُمْ وَاجْعَلُوا عَلَى أَبْوَابِهَا مَطَاهِرَكُمْ» . قَالَ الشَّارِحُ: فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِحَمْلِ الْأَمْرِ بِالتَّجْنِيبِ عَلَى النَّدْبِ، أَوْ بِأَنَّهَا تُنَزَّهُ الْمَسَاجِدُ عَمَّنْ لَا يُؤْمَنُ حَدَثُهُ فِيهَا. قَوْلُهَا: (كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ وَأَنَا إلَى جَنْبِهِ وَأَنَا حَائِضٌ وَعَلَيَّ مِرْطٌ وَعَلَيْهِ بَعْضُهُ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وُقُوفَ الْمَرْأَةِ بِجَنْبِ الْمُصَلِّي لَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّهَا تُبْطِلُ، وَالْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِ. وَفِيهِ أَنَّ ثِيَابَ الْحَائِضِ طَاهِرَةٌ إلَّا مَوْضِعًا يُرَى فِيهِ أَثَرُ الدَّمِ أَوْ النَّجَاسَةِ. وَفِيهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ بِحَضْرَةِ الْحَائِضِ، وَجَوَازُ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ بَعْضُهُ

(1/218)


عَلَى الْمُصَلِّي وَبَعْضُهُ عَلَيْهَا. قَوْلَُهَا: (كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَا يُصَلِّي فِي شُعُرِنَا) . قَالَ الشَّارِحُ: بِضَمِّ الشِّينِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ شِعَارٍ عَلَى وَزْنِ كُتُبٍ وَكِتَابٍ وَهُوَ الثَّوْبُ الَّذِي يَلِي الْجَسَدِ، وَخَصَّتْهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَى أَنْ تَنَالَهَا النَّجَاسَةُ مِنْ الدِّثَارِ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَجَنُّبِ ثِيَابِ النِّسَاءِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةٌ لِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الثِّيَابِ الَّتِي تَكُونُ كَذَلِكَ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ الِاحْتِيَاطَ وَالْأَخْذُ بِالْيَقِينِ جَائِزٌ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ فِي الشَّرْعِ، وَأَنَّ تَرْكَ الْمَشْكُوكِ فِيهِ إلَى الْمَعْلُومِ جَائِزٌ وَلَيْسَ مِنْ نَوْعِ الْوَسْوَاسِ، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ. بَابُ مَنْ صَلَّى عَلَى مَرْكُوبٍ نَجِسٍ أَوْ قَدْ أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ 762- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رَأَيْت النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إلَى خَيْبَرَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 763- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ رَاكِبٌ إلَى خَيْبَرَ وَالْقِبْلَةُ خَلْفَهُ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِالْحَدِيثَيْنِ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَرْكُوبِ النَّجِسِ وَالْمَرْكُوبِ الَّذِي أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ وَهُوَ لَا يَتِمُّ إلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحِمَارَ نَجِسُ عَيْنٍ، نَعَمْ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى مَا فِيهِ نَجَاسَةٌ لِأَنَّ الْحِمَارَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ التَّلَوُّثِ بِهَا. وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى جَوَازِ التَّطَوُّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ. بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الْفِرَاءِ وَالْبُسُطِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمَفَارِشِ 764- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَى بِسَاطٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 765- وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عَلَى الْحَصِيرِ وَالْفَرْوَةِ الْمَدْبُوغَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 766- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي

(1/219)


عَلَى حَصِيرٍ يَسْجُدُ عَلَيْهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 767- وَعَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ. 768- لَكِنَّهُ لَهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه -. 769- وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: مَا أُبَالِي لَوْ صَلَّيْت عَلَى خَمْسِ طَنَافِسَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ. قَوْلُهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَى بِسَاطٍ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْبُسُطِ، وَقَدْ حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. قَوْلُهُ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عَلَى الْحَصِيرِ وَالْفَرْوَةِ الْمَدْبُوغَةِ) وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مَنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ عَلَى غَيْرِ الْأَرْضِ وَمَا خُلِقَ مِنْهَا. قَوْلُهُ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هِيَ بِضَمِّ الْخَاءِ سَجَّادَةٌ مِنْ سعف النَّخْلِ عَلَى قَدْرِ مَا يَسْجُدُ عَلَيْهِ الْمُصَلِّي، فَإِنْ عَظُمَ بِحَيْثُ يَكْفِي لِجَسَدِهِ كُلِّهِ فِي صَلَاةٍ أَوْ اضْطِجَاعٍ فَهُوَ حَصِيرٌ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَى السَّجَّادَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ الْخِرَقِ أَوْ الْخُوصِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ صَغِيرَةً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا لَا تُسَمَّى خَمْرَةً إلَّا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً، أَوْ كَانَتْ كَبِيرَةً. بَابُ الصَّلَاةِ فِي النَّعْلَيْنِ وَالْخُفَّيْنِ 770- عَنْ أَبِي مَسْلَمَةُ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَأَلْت أَنَسًا: أَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 771- وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خَالِفُوا الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَلَا خِفَافِهِمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ فِي النِّعَالِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ نَظَرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي ذَلِكَ هَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ أَوْ

(1/220)


مُبَاحٌ أَوْ مَكْرُوهٌ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا» . وَيُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال لِعَدَمِ الِاسْتِحْبَابِ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَلَا يُؤْذِ بِهِمَا أَحَدًا لِيَجْعَلْهُمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَوْ لِيُصَلِّ فِيهِمَا» . وَهُوَ كَمَا قَالَ الْعِرَاقِيُّ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي حَافِيًا وَمُنْتَعِلًا. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادِهِ إلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي نَعْلَيْهِ فَصَلَّى النَّاسُ فِي نِعَالِهِمْ فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَخَلَعُوا فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: «مَنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي نَعْلَيْهِ فَلْيُصَلِّ وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَخْلَعَ فَلْيَخْلَعْ» . قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَهَذَا مُرْسَلٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَيُجْمَعُ بَيْنَ أَحَادِيثِ الْبَابِ بِجَعْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَا بَعْدَهُ صَارِفًا لِلْأَوَامِرِ الْمَذْكُورَةِ الْمُعَلِّلَةِ بِالْمُخَالَفَةِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْوُجُوبِ إلَى النَّدْبِ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ وَالتَّعْوِيضَ إلَى الْمَشِيئَةِ بَعْدَ تِلْكَ الْأَوَامِرِ لَا يُنَافِي الِاسْتِحْبَابَ كَمَا فِي حَدِيثِ «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ» . وَهَذَا أَعْدَلُ الْمَذَاهِبِ وَأَقْوَاهَا عِنْدِي. بَابُ الْمَوَاضِعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَالْمَأْذُونِ فِيهَا لِلصَّلَاةِ 772- عَنْ جَابِرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 773- وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «جُعِلَتْ لِي كُلُّ الْأَرْضِ طَيِّبَةً مَسْجِدًا وَطَهُورًا» . رَوَاهُ الْخَطَّابِيِّ بِإِسْنَادِهِ. 774- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ» . قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى» . قُلْت: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً» . قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «حَيْثُمَا أَدْرَكْت الصَّلَاةَ فَصَلِّ فَكُلُّهَا مَسْجِدٌ» . مُتَّفَق عَلَيْهِ.

(1/221)


775- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ. 776- وَعَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تُصَلُّوا إلَى الْقُبُورِ وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ. 777- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. 778- وَعَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ - وَهُوَ يَقُولُ: «إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 779- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، وَلَا تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 780- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ جَبِيرَةَ عَنْ دَاوُد بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يُصَلَّى فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ: فِي الْمَزْبَلَةِ، وَالْمَجْزَرَةِ، وَالْمَقْبَرَةِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَفِي الْحَمَّامِ، وَفِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ، وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ. رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: إسْنَادُهُ لَيْسَ بِذَاكَ الْقَوِيِّ، وَقَدْ تُكُلِّمَ فِي زَيْدِ بْنِ جَبِيرَةَ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ. وَقَدْ رَوَى اللَّيْثُ بن سَعْد هَذَا الْحَدِيث عَنْ عَبْدُ اللهِ بن عمر الْعمري عَنْ نَافِع عَنْ ابن عمر عَن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلُه قَالَ: وَحَدِيثُ ابن عمر عَن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَشْبَهُ وَأَصَحُّ مِنْ حَدِيث اللَّيْث بن سَعْد. وَالْعمري ضَعَّفَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيث مِنْ قِبَلِ حِفْظِهْ. قَوْلُهُ: «جُعِلَتْ لِي كُلُّ الْأَرْضِ طَيِّبَةً مَسْجِدًا وَطَهُورًا» . وَعِنْدَ مُسْلِمٍ: «وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ طَيِّبَةً طَهُورًا وَمَسْجِدًا» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: المُرَاد الْأَرْضُ الطَّاهِرَةُ الْمُبَاحَةُ لِأَنَّ الْمُتَنَجِّسَةَ لَيْسَتْ بِطَيِّبَةٍ لُغَةً وَالْمَغْصُوبَةُ لَيْسَتْ بِطَيِّبَةٍ شَرْعًا. قَوْلُهُ: «حَيْثُمَا أَدْرَكْت الصَّلَاةَ فَصَلِّ» . قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ

(1/222)


فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا النَّجَاسَةُ كَالْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ، وَكَذَا مَا نَهَى عَنْهُ لِمَعْنًى آخَرَ، فَمِنْ ذَلِكَ أَعْطَانُ الْإِبِلِ، وَمِنْهُ قَارِعَةُ الطَّرِيقِ وَالْحَمَّامُ وَغَيْرِهِمَا. انْتَهَى. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: أَحَادِيثُ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ إلَى الْقُبُورِ وَالصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ أَحَادِيثُ مُتَوَاتِرَةٌ لَا يَسَعُ أَحَدًا تَرْكُهَا. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ. فَذَهَبَ أَحْمَدُ إلَى تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمَنْبُوشَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَا بَيْنَ أَنْ يُفْرَشَ عَلَيْهَا شَيْئًا يَقِيهِ مِنْ النَّجَاسَةِ أَمْ لَا، وَلَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُبُورِ أَوْ فِي مَكَان مُنْفَرِدٍ عَنْهَا كَالْبَيْتِ. وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَتْ الظَّاهِرِيَّةُ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَبِهِ يَقُولُ طَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ ذَهَبَ إلَى تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ الْمَنْصُورُ بِاَللَّهِ وَالْهَادَوِيَّةُ، وَصَرَّحُوا بِعَدَمِ صِحَّتِهَا إنْ وَقَعَتْ فِيهَا. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَقْبَرَةِ الْمَنْبُوشَةِ وَغَيْرِهَا، فَقَالَ: إذَا كَانَتْ مُخْتَلِطَةً بِلَحْمِ الْمَوْتَى وَصَدِيدِهِمْ، وَمَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ فِيهَا لِلنَّجَاسَةِ، فَإِنْ صَلَّى رَجُلٌ فِي مَكَان طَاهِرٍ مِنْهَا أَجْزَأَتْهُ. وَإِلَى مِثْلِ ذَلِكَ ذَهَبَ أَبُو طَالِبٍ وَأَبُو الْعَبَّاسِ وَالْإِمَامُ يَحْيَى مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: أَمَّا الْمَقْبَرَةُ فَالصَّلَاةُ مَكْرُوهَةٌ فِيهَا بِكُلِّ حَالٍ. وَذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا كَمَا فَرَّقَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ مَعَهُ. وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَعَدَمِ الْكَرَاهَةِ، وَالْأَحَادِيثُ تَرُدُّ عَلَيْهِ وَقَدْ احْتَجَّ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِمَا يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبَ فَاسْتَدَلَّ لَهُ بِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَى قَبْرِ الْمِسْكِينَةِ السَّوْدَاءِ، وَأَحَادِيثُ النَّهْيِ الْمُتَوَاتِرَةُ كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْإِمَامُ لَا تَقْصُرُ عَنْ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ لَهُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَيَكُونُ الْحَقُّ التَّحْرِيمَ وَالْبُطْلَانَ، لِأَنَّ الْفَسَادَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّهْيُ هُوَ الْمُرَادِفُ لِلْبُطْلَانِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ وَبَيْنَ الْمَقَابِرِ وَكُلُّ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْمَقْبَرَةِ. وَأَمَّا الْحَمَّامُ فَذَهَبَ أَحْمَدُ إلَى عَدَمِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا يُصَلِّي فِي حَمَّامٍ وَلَا مَقْبَرَةٍ عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَتْ الظَّاهِرِيَّةُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُصَلَّيَنَّ إلَى حُشٍّ وَلَا فِي حَمَّامٍ وَلَا فِي مَقْبَرَةٍ» . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: مَا نَعْلَمُ لِابْنِ

(1/223)


عَبَّاسٍ فِي هَذَا مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ مَعَ الطَّهَارَةِ وَتَكُونُ مَكْرُوهَةً. وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ وَلا تَجْلِسُوا عَلَيْهِم» . قَالَ الشَّارِحُ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الصَّلاةِ إِلَى الْقُبُور وَعَلَى مَنْعِ الْجُلُوسِ عَلَيْهَا وَظَاهِرِ النَّهْيَ التَّحْرِيم. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا» . قَالَ الشَّارِحُ: لِأَنَّ الْقُبُورَ لَيْسَتْ بِمَحِلٍّ لِلْعِبَادَةِ. وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ» . قَوْلُهُ: «إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ اتِّخَاذِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصُّلَحَاءِ مَسَاجِدَ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ اتِّخَاذِ قَبْرِهِ وَقَبْرِ غَيْرِهِ مَسْجِدًا خَوْفًا مِنْ الْمُبَالَغَةِ فِي تَعْظِيمِهِ وَالِافْتِتَانِ بِهِ، وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى الْكُفْرِ كَمَا جَرَى لِكَثِيرٍ مِنْ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، وَلَمَّا احْتَاجَتْ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَالتَّابِعُونَ إلَى الزِّيَادَةِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ وَامْتَدَّتْ الزِّيَادَةُ إلَى أَنْ دَخَلَتْ بُيُوتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ. وَفِيهَا حُجْرَةُ عَائِشَةَ مَدْفِنُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَصَاحِبَيْهِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بَنَوْا عَلَى الْقَبْرِ حِيطَانًا مُرْتَفِعَةً مُسْتَدِيرَةً حَوْلَهُ لِئَلَّا يَظْهَرَ فِي الْمَسْجِدِ فَيُصَلِّيَ إلَيْهِ الْعَوَامُّ وَيُؤَدِّي إلَى الْمَحْذُورِ، ثُمَّ بَنَوْا جِدَارَيْنِ مِنْ رُكْنَيْ الْقَبْرِ الشَّمَالِيَّيْنِ حَرَّفُوهُمَا حَتَّى الْتَقَيَا حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ أَحَدٌ مِنْ اسْتِقْبَالِ الْقَبْرِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ كَانَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ قَبْلَ الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ، وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُهُمْ الْوَعِيدَ عَلَى مَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لِقُرْبِ الْعَهْدِ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَهُوَ تَقْيِيدٌ بِلَا دَلِيلٍ، لِأَنَّ التَّعْظِيمَ وَالِافْتِتَانَ لَا يَخْتَصَّانِ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: «كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ بِلَفْظِ: «الْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ» إنَّ مَحِلَّ الذَّمِّ عَلَى ذَلِكَ أَنْ تُتَّخَذَ الْمَسَاجِدُ عَلَى الْقُبُورِ بَعْدَ الدَّفْنِ، لَا لَوْ بُنِيَ الْمَسْجِدُ أَوَّلًا وَجُعِلَ الْقَبْرُ فِي جَانِبِهِ

(1/224)


لِيُدْفَنَ فِيهِ وَاقِفُ الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرُهُ فَلَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي ذَلِكَ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ، وَأَنَّهُ إذَا بُنِيَ الْمَسْجِدُ لِقَصْدِ أَنْ يُدْفَنَ فِي بَعْضِهِ أَحَدٌ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي اللَّعْنَةِ بَلْ يَحْرُمُ الدَّفْنُ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ لِمُخَالَفَتِهِ لِمُقْتَضَى وَقْفَهُ مَسْجِدًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَلا تَصِحُّ الصَّلاةَ فِي الْمَقْبَرَةِ وَلا إِلَيْهِا وَالنَّهْي عَنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ سَدٌّ لِذَرِيعَةِ الشِّرْكِ. وَذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْقَبْرَ وَالْقَبْرَيْنِ لا يُمْنَع مِنْ الصَّلاةِ لأَنَّهُ لا يَتَنَاوَلُ اسْم الْمَقْبَرَةِ، وَإِنَّمَا الْمَقْبَرَةِ ثَلاثَةُ قُبُورٍ فَصَاعِدًا. وَلَيْسَ فِي كَلامِ أَحْمَدٍ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ هَذَا الْفَرْق، بَلْ عُمُومُ كَلامِهِمْ وَتَعْلِيلِهِمْ وَاسْتَدْلالِهِمْ يُوجِبُ مَنْع الصَّلاةِ عِنْدَ قَبْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْقُبُورِ، وَهُوَ الصَّوَابُ. وَالْمَقْبَرَةُ كُلُّ مَا قُبِرَ فِيهِ لا أَنَّهُ جَمْعُ قَبْرٍ. انْتَهَى. قَوْلُهُ: «صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، وَلَا تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ» . قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْعَطَنُ مَبْرَكُ الْإِبِلِ حَوْلَ الْمَاءِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، وَعَلَى تَحْرِيمِهَا فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَقَالَ: لَا تَصِحُّ بِحَالٍ. وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ لَا يَجِدُ إلَّا عَطَنَ إبِلٍ، قَالَ: لَا يُصَلِّي فِيهِ. قِيلَ: فَإِنْ بَسَطَ عَلَيْهِ ثَوْبًا قَالَ: لَا. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: لَا تَحِلُّ فِي عَطَنِ إبِلٍ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى حَمْلِ النَّهْيِ عَلَى الْكَرَاهَةِ مَعَ عَدَمِ النَّجَاسَةِ، وَعَلَى التَّحْرِيمِ مَعَ وُجُودِهَا. وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ هِيَ النَّجَاسَةُ، وَذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى نَجَاسَةِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَزْبَالِهَا. وَقَدْ عَرَفْت مَا قَدَّمْنَاهُ فِيهِ، وَلَوْ سَلَّمْنَا النَّجَاسَةَ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ جَعْلُهَا عِلَّةً لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ لَمَا افْتَرَقَ الْحَالُ بَيْنَ أَعْطَانِهَا وَبَيْنَ مَرَابِضِ الْغَنَمِ، إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَرْوَاثِ كُلٍّ مِنْ الْجِنْسَيْنِ وَأَبْوَالِهَا، كَمَا قَالَ الْعِرَاقِيُّ، وَأَيْضًا قَدْ قِيلَ: إنَّ حِكْمَةَ النَّهْيِ مَا فِيهَا مِنْ النُّفُورِ، فَرُبَّمَا نَفَرَتْ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَتُؤَدِّي إلَى قَطْعِهَا، أَوْ أَذًى يَحْصُلُ لَهُ مِنْهَا أَوْ تَشْوِيشُ الْخَاطِرِ الْمُلْهِي عَنْ الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ. وَبِهَذَا عَلَّلَ النَّهْيَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابُ مَالِكٍ، وَعَلَى هَذَا فَيُفَرَّقُ بَيْنَ كَوْنِ الْإِبِلِ فِي مَعَاطِنِهَا وَبَيْنَ غَيْبَتِهَا عَنْهَا إذْ يُؤْمَنُ نُفُورِهَا حِينَئِذٍ، وَيُرْشِدُ إلَى صِحَّةِ هَذَا حَدِيثُ ابْنِ مُغَفَّلٍ عِنْدَ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ بِلَفْظِ: «لَا تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ الْجِنِّ أَلَا تَرَوْنَ إلَى عُيُونِهَا وَهَيْئَتِهَا إذَا نَفَرَتْ» .

(1/225)


وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ أَنْ يُجَاءَ بِهَا إلَى مَعَاطِنِهَا بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي الصَّلَاةِ فَيَقْطَعَهَا أَوْ يَسْتَمِرَّ فِيهَا مَعَ شَغْلِ خَاطِرِهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ الرَّاعِيَ يَبُولُ بَيْنَهَا. وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ كَوْنُهَا خُلِقَتْ مِنْ الشَّيَاطِينِ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا حَدِيثُ ابْنِ مُغَفَّلٍ السَّابِقُ. وَكَذَا عِنْدَ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِهِ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ. وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. إذَا عَرَفْت هَذَا الِاخْتِلَافَ فِي الْعِلَّةِ تَبَيَّنَ لَك أَنَّ الْحَقَّ الْوُقُوفُ عَلَى مُقْتَضَى النَّهْيِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَحْمَدُ وَالظَّاهِرِيَّةُ. وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ فَأَمْرُ إبَاحَةٍ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ. قَوْلُهُ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يُصَلَّى فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ فِي الْمَزْبَلَةِ، وَالْمَجْزَرَةِ) . قَالَ الشَّارِحُ: الْمَزْبَلَةِ: هِيَ الْمَكَانُ الَّذِي يُلْقَى فِيهِ الزِّبْلُ. وَالْمَجْزَرَةِ: الْمَكَانُ الَّذِي يُنْحَرُ فِيهِ الْإِبِلُ وَتُذْبَحُ فِيهِ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْعِلَّةِ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا فِي الْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ فَكَوْنِهِمَا مَحِلًّا لِلنَّجَاسَةِ فَتَحْرُمُ الصَّلَاةُ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ اتِّفَاقًا، وَمَعَ حَائِلٍ فِيهِ خِلَافٌ، وَقِيلَ: إنَّ الْعِلَّةَ فِي الْمَجْزَرَةِ كَوْنُهَا مَأْوَى الشَّيَاطِينِ. وَأَمَّا فِي قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَلِمَا فِيهَا مِنْ شَغْلِ الْخَاطِرِ الْمُؤَدِّي إلَى ذَهَابِ الْخُشُوعِ الَّذِي هُوَ سِرُّ الصَّلَاةِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ النَّجَاسَةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا شَغْلٌ لِحَقِّ الْمَارِّ، وَأَمَّا فِي ظَهْرِ الْكَعْبَةِ فَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ ثَابِتَةٌ تَسْتُرُهُ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ مُصَلٍّ عَلَى الْبَيْتِ لَا إلَى الْبَيْتِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فِي الْكَعْبَةِ 781- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْبَيْتَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلَالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ، فَلَمَّا فَتَحُوا كُنْت أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ فَلَقِيتُ بِلَالًا فَسَأَلْته هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: نَعَمْ، بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ. مُتَّفَق عَلَيْهِ. 782 - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِبِلَالٍ: هَلْ صَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْكَعْبَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ عَنْ يَسَارِك إذَا دَخَلْت، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى فِي

(1/226)


وُجْهَةِ الْكَعْبَةِ رَكْعَتَيْنِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ لِصَلَاتِهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا. انْتَهَى. قال في الشرح الكبير: وَلا تَصِحُّ الْفَرِيضَةُ فِي الْكَعْبَةِ وَلا عَلَى ظَهْرِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةٍ: تَصِحُّ لأَنَّهُ مَسْجِدٌ وَلأَنَّهُ مَحَلٌّ لِصَلاةِ النَّفْلِ فَكَانَ مَحَلاً لِلْفَرْضِ كَخَارِجِهَا. وَلَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} . وَالْمُصَلِّي فِيهَا أَوْ عَلَى سَطْحِهَا غَيْرُ مُسْتَقْبِلِ لِجِهَتِهَا، فَأَمَّا النَّافِلَةُ فَمَبْنَاهَا عَلَى التَّخْفِيفِ وَالْمُسَامَحَةِ بِدَلِيلِ صِحَّتِهَا قَاعِدًا وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فِي السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَلا تَصِحُّ الْفَرِيضَةُ فِي الْكَعْبَةِ بَلِ النَّافِلَة، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدٍ وَأَمَّا صَلاة النَّبَيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْبَيْتِ فَإِنَّهُ كَانَتْ تَطَوُّعًا فَلا يَلْحِقُ الْفَرْضُ لأَنَّهً - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى دَاخِلَ الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ الْقِبْلَةِ» . فَيَشْبَهُ وَاللهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَهَ لِهَذَا الْكَلامِ فِي عُقَيْبِ الصَّلاةِ خَارِج الْبَيْتِ بَيَانًا لأَنَّ الْقُبْلَةَ الْمَأْمُورُ بِاسْتِقْبَالِهَا هِيَ الْبِنْيَةِ كُلِّهُاَ لِئَلا يَتَوَهَّم مُتَوَهِّمْ أَنْ اسْتِقْبَالَ بَعْضِهَا كَافٍ فِي الْفَرْضِ لأَجْلِ أَنَّهُ صَلَّى التَّطَوُّعَ فِي الْبَيْتِ، وَإِلا فَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ كُلُّهُمْ أَنَّ الْكَعْبَةَ فِي الْجُمْلَةِ هِيَ الْقِبْلَة. فَلا بُدَّ لِهَذَا الْكَلام مِنْ فَائِدَةٍ. وَعِلْمُ شَيْءٍ قَدْ يَخْفَى وَيَقَعُ فِي مَحِلِّ الشُّبُهَةِ. وَابْنُ عَبَّاسٍ رَوَى هَذَا الْحَدِيث وَفَهِمَ مِنْهُ هَذَا الْمَعْنَى. وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَعْنَى مَا سَمِعَ. انْتَهَى. وَاللهُ أَعْلَمُ. بَابُ الصَّلَاةِ فِي السَّفِينَةِ 783- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - كَيْفَ أُصَلِّي فِي السَّفِينَةِ؟ قَالَ: «صَلِّ فِيهَا قَائِمًا، إلَّا أَنْ تَخَافَ الْغَرَقَ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ مِنْ قِيَامٍ فِي السَّفِينَةِ وَلَا يَجُوزُ الْقُعُودُ إلَّا لِعُذْرِ مَخَافَةِ غَرَقٍ أَوْ غَيْرِهِ لِأَنَّ مَخَافَةَ الْغَرَقِ تَنْفِي عَنْهُ الِاسْتِطَاعَةَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . وَثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «إذَا أُمِرْتُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» .

(1/227)


بَابُ صَلَاةِ الْفَرْضِ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِعُذْرٍ 784- عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - انْتَهَى إلَى مَضِيقٍ هُوَ وَأَصْحَابُهُ - وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَالسَّمَاءُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَالْبِلَّةُ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ - فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ ثُمَّ تَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَاحِلَتِهِ فَصَلَّى بِهِمْ يُومِئُ إيمَاءً يَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. 785- وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةِ قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ - يُسَبِّحُ يُومِئُ بِرَأْسِهِ قِبَلَ أَيِّ وِجْهَةٍ تَوَجَّهَ، وَلَمْ يَكُنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى ما ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبَعَضُ مِنْ صِحَّةِ جَوَازِ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ كَمَا تَصِحُّ فِي السَّفيِنَةٍ بالإِجْمَاعِ. وَيُعَارِضُ هَذَا حَدِيثُ عَامِرِ بن رَبِيْعَةِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّطَوُّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِلْمُسَافِرِ قِبَلَ جِهَةِ مَقْصِدِهِ. فَالظَّاهِرُ صِحَّةُ الْفَرِيضَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ لِمَنْ حَصَلَ لَهُ مِثْلُ هَذَا الْعُذْرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي هَوْدَجٍ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِخَبَرِ مَنْ أَخْبَرَنَا بِشَرْعٍ لَمْ يَعْلَمْهُ غَيْرُهُ، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لا يَعْلَمُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ الرُّخْصَةُ إذَا كَانَ الضَّرَرُ بِذَلِكَ بَيِّنًا، فَأَمَّا الْيَسِيرُ فَلَا. 786- رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: قَالَ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ حَتَّى رَأَيْت أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. بَابُ اتِّخَاذِ مُتَعَبَّدَات الْكُفَّارِ وَمَوَاضِع الْقُبُورِ إذَا نُبِشَتْ مَسَاجِدُ 787- عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَسَاجِدَ الطَّائِفِ حَيْثُ كَانَ طَوَاغِيتُهُمْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ عُمَرُ: إنَّا لَا نَدْخُلُ كَنَائِسَهُمْ مِنْ أَجْلِ التَّمَاثِيلِ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَلِّي فِي الْبِيعَةِ إلَّا بِيْعَةً فِيهَا التَّمَاثِيلُ. 788- وَعَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجْنَا وَفْدًا إلَى

(1/228)


النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَبَايَعْنَاهُ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ وَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّ بِأَرْضِنَا بِيعَةٌ لَنَا وَاسْتَوْهَبْنَاهُ مِنْ فَضْلِ طَهُورِهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ وَتَمَضْمَضَ، ثُمَّ صَبَّهُ فِي إدَاوَةٍ وَأَمَرَنَا، فَقَالَ: «اُخْرُجُوا فَإِذَا أَتَيْتُمْ أَرْضَكُمْ فَاكْسِرُوا بِيعَتَكُمْ وَانْضَحُوا مَكَانَهَا بِهَذَا الْمَاءِ وَاِتَّخِذُوهَا مَسْجِدًا» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 789- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، وَأَنَّهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَأَرْسَلَ إلَى مَلَأٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، فَقَالَ: «يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا» . قَالُوا: لَا وَاَللَّهِ مَا نَطْلُبُ ثَمَنِهِ إلَّا إلَى اللَّهِ، فَقَالَ أَنَسٌ: وَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ وَفِيهِ خِرَبٌ وَفِيهِ نَخْلٌ فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ وَجَعَلُوا عَضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ - وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ - وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَهُمْ وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إلَّا خَيْرُ الْآخِرَةِ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ» . مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ مُتَّفَق عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَسَاجِدَ الطَّائِفِ حَيْثُ كَانَ طَوَاغِيتُهُمْ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ جَعْلِ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ وَأَمْكِنَةِ الْأَصْنَامِ مَسَاجِدَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ حِينَ فَتَحُوا الْبِلَادَ، جَعَلُوا مُتَعَبَّدَاتِهِمْ مُتَعَبَّدَاتٍ لِلْمُسْلِمِينَ وَغَيَّرُوا مَحَارِيبَهَا. وَالْأَثَرَانِ يَدُلَّانِ عَلَى جَوَازِ دُخُولِ الْبِيَعِ وَالصَّلَاةِ فِيهَا، إلَّا إذَا كَانَ فِيهَا تَمَاثِيلُ. بَابُ فَضْلِ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا 790- عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 791- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا - وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ - لِبَيْضِهَا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

(1/229)


قَوْلُهُ: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا» . أَي لَا يُرِيدُ بِهِ رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، «بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» وَقَوْلُهُ: «وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ» حَمَلَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ يَزِيدُ فِي مَسْجِدٍ هَذَا الْقَدْرَ أَوْ يَشْتَرِكُ جَمَاعَةٌ فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ فَيَقَعُ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْقَدْرُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ مَعْنَاهُ «بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ» . فِي مُسَمَّى الْبَيْتِ، وَأَمَّا صِفَتُهُ فِي السِّعَةِ وَغَيْرِهَا فَمَعْلُومٌ فَضْلُهَا فَإِنَّهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ فَضْلَهُ عَلَى بُيُوتِ الْجَنَّةِ كَفَضْلِ الْمَسْجِدِ عَلَى بُيُوتِ الدُّنْيَا. قَالَ الْحَافِظُ: لَفْظُ (الْمِثْلِ) لَهُ اسْتِعْمَالَانِ: أَحَدُهُمَا الْإِفْرَادُ مُطْلَقًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} والآخَرُ الْمُطَابَقَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} . إِلِى أَنْ قَالَ: وَمِنْ الْأَجْوِبَةِ الْمُرْضِيَةِ أَنَّ الْمِثْلِيَّةَ هُنَا بِحَسَبِ الْكَمِّيَّةِ وَالزِّيَادَةِ حَاصِلَةٌ بِحَسَبِ الْكَيْفِيَّةِ فَكَمْ مِنْ بَيْتٍ خَيْرٍ مِنْ عَشَرَةٍ بَلْ مِنْ مِائَةٍ، قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذَا الَّذِي ارْتَضَاهُ هُوَ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ. قَالَ فِي الْمُفْهِمِ: هَذَا الْبَيْتُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِثْلُ بَيْتِ خَدِيجَةَ الَّذِي قَالَ فِيهِ: «إنَّهُ مِنْ قَصَبٍ» . يُرِيدُ أَنَّهُ مِنْ قَصَبِ الزُّمُرُّدِ وَالْيَاقُوتِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. والله أعلم. بَابُ الِاقْتِصَادِ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ 792- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أُمِرْت بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ» . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. 793- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيُّ. 794- وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: كَانَ سَقْفُ الْمَسَاجِدِ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ. 795- وَأَمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ: أَكِنَّ النَّاسَ وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ.

(1/230)


قَالَ الْبَغَوِيّ: التَّشْيِيدُ رَفْعُ الْبِنَاءِ وَتَطْوِيلُهُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالزَّخْرَفَةُ: الزِّينَةُ. قَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ: إنَّهُمْ زَخْرَفُوا الْمَسَاجِدَ عِنْدَمَا بَدَّلُوا دِينَهُمْ وَحَرَّفُوا كُتُبَهُمْ وَأَنْتُمْ تَصِيرُونَ إلَى مِثْلِ حَالِهِمْ، وَسَيَصِيرُ أَمْرُكُمْ إلَى الْمُرَاءَاةِ بِالْمَسَاجِدِ وَالْمُبَاهَاةِ بِتَشْيِيدِهَا وَتَزْيِينِهَا. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إذَا حَلَّيْتُمْ مَصَاحِفَكُمْ وَزَوَّقْتُمْ مَسَاجِدَكُمْ فَالدَّمَارُ عَلَيْكُمْ. قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِإِخْبَارِهِ - صلى الله عليه وسلم - عَمَّا سَيَقَعُ بَعْدَهُ، فَإِنَّ تَزْوِيقَ الْمَسَاجِدِ وَالْمُبَاهَاةِ بِزَخْرَفَتِهَا كَثُرَ مِنْ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِالْقَاهِرَةِ وَالشَّامِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ بِأَخْذِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ ظُلْمًا وَعِمَارَتِهِمْ بِهَا الْمَدَارِسَ عَلَى شَكْلٍ بَدِيعٍ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ. قَوْلُهُ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ» قَالَ الشَّارِحُ: أَيْ يَتَفَاخَرُونَ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَالْمُبَاهَاةُ بِهَا كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنْ يَتَفَاخَرُوا بِهَا بِالنَّقْشِ وَالْكَثْرَةِ. وَرَوَى فِي شَرْحِ السُّنَّةِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: غَدَوْنَا مَعَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إلَى الزَّاوِيَةِ فَحَضَرَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ فَمَرَرْنَا بِمَسْجِدٍ فَقَالَ أَنَسٌ: أَيُّ مَسْجِدٍ هَذَا؟ قَالُوا: مَسْجِدٌ أُحْدِثَ الْآنَ، فَقَالَ أَنَسٌ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَتَبَاهَوْنَ فِي الْمَسَاجِدِ ثُمَّ لَا يَعْمُرُونَهَا إلَّا قَلِيلًا» . قَوْلُهُ: (أَكِنَّ النَّاسَ وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ) . قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: كَأَنَّ عُمَرَ فَهِمَ مِنْ ذَلِكَ رَدَّ الشَّارِعِ الْخَمِيصَةَ إلَى أَبِي جَهْمٍ مِنْ أَجْلِ الْأَعْلَامِ الَّتِي فِيهَا، وَقَالَ: «إنَّهَا أَلْهَتْنِي عَنْ صَلَاتِي» . قَالَ الْحَافِظُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ عُمَرَ مِنْ ذَلِكَ عِلْمٌ خَاصٌّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «مَا سَاءَ عَمَلُ قَوْمٍ قَطُّ إلَّا زَخْرَفُوا مَسَاجِدَهُمْ» . بَابُ كَنْسِ الْمَسَاجِدِ وَتَطْيِيبِهَا وَصِيَانَتِهَا مِنْ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ 796- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي حَتَّى الْقَذَاةُ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ - أَوْ آيَةٍ - أُوتِيَهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

(1/231)


797- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ وَأَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ. 798- وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَتَّخِذَ الْمَسَاجِدَ فِي دِيَارِنَا، وَأَمَرَنَا أَنْ نُنَظِّفَهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 799- وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَفْظُهُ: كَانَ يَأْمُرُنَا بِالْمَسَاجِدِ أَنْ نَصْنَعَهَا فِي دِيَارِنَا وَنُصْلِحَ صَنْعَتَهَا وَنُطَهِّرَهَا. 800- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَالْبَصَلَ وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ» . مُتَّفَق عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي حَتَّى الْقَذَاةُ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنْ الْمَسْجِدِ» . الحديث. قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ: فِيهِ تَرْغِيبٌ فِي تَنْظِيفِ الْمَسَاجِدِ مِمَّا يَحْصُلُ فِيهَا مِنْ الْقُمَامَاتِ الْقَلِيلَةِ أَنَّهَا تُكْتَبُ فِي أُجُورِهِمْ وَتُعْرَضُ عَلَى نَبِيِّهِمْ، وَإِذَا كُتِبَ هَذَا الْقَلِيلُ وَعُرِضَ فَيُكْتَبُ الْكَبِيرُ وَيُعْرَضُ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى وَبِالطَّاهِرِ عَنْ النَّجِسِ وَالْحَسَنَاتُ عَلَى قَدْرِ الْأَعْمَالِ. قَوْلُهُ: (أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ) . قَالَ الْبَغَوِيّ فِي شَرْحِ السَّنَةِ: يُرِيدُ الْمَحَالَّ الَّتِي فِيهَا الدُّورُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} (الأعراف: 145) . قَالَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ: وَالْبَسَاتِينُ فِي مَعْنَى الدُّورِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَعَلَى هَذَا فَيُسْتَحَبُّ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ لَبِنٍ أَوْ مَدَرٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَحَلَّةٍ يَحِلُّهَا الْمُقِيمُونَ بِهَا وَكُلِّ بَسَاتِينَ مُجْتَمِعَةٍ. قَوْلُهُ: «مَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَالْبَصَلَ وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا» . وَفي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «فَلَا يَقْرَبَنَّ الْمَسَاجِدَ» . قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا تَصْرِيحٌ بِنَهْيِ مَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَنَحْوَهُ عَنْ دُخُولِ كُلِّ مَسْجِدٍ. قال: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ مَنْ أَكَلَ الثُّومَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَإِنْ كَانَ خَالِيًا لِأَنَّهُ مَحِلُّ الْمَلَائِكَةِ.

(1/232)


بَابُ مَا يَقُولُ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَإِذَا خَرَجَ مِنْهُ 801- وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ وَأَبِي أَسِيد قَالا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لَنَا أَبْوَابَ رَحْمَتِك، وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَكَذَا مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد، وَقَالَ: عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ أَوْ أَبِي أَسِيد (بِالشَّكِّ) . 802- وَعَنْ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك» . وَاذَا خَرَجَ قَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِك» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ: وَسُؤَالُ الْفَضْلِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} يَعْنِي الرِّزْقَ الْحَلالَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فَيَنْبَغِي لِدَاخِلِ الْمَسْجِدِ وَالْخَارِجِ مِنْهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ التَّسْمِيَةِ وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَالدُّعَاءِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالدُّعَاءِ بِالْفَتْحِ لِأَبْوَابِ الرَّحْمَةِ دَاخِلًا وَلِأَبْوَابِ الْفَضْلِ خَارِجًا قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَضُمَّ إلَى ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ: «أَعُوذُ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» . قَالَ فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ قَالَ الشَّيْطَانُ: حُفِظَ مِنِّي سَائِرَ الْيَوْمِ. وَمَا أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} . قَالَ: هُوَ الْمَسْجِدُ إذَا دَخَلْته فَقُلْ: (السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ) . بَابٌ جَامِعٌ فِيمَا تُصَانُ عَنْهُ الْمَسَاجِدُ وَمَا أُبِيحَ فِيهَا 803- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ فِي مَسْجِدٍ ضَالَّةً فَلْيَقُلْ: لَا أَدَّاهَا اللَّهُ إلَيْك، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا» . 804 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ أَنَّ رَجُلًا نَشَدَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: مَنْ دَعَا إلَى الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا وَجَدْت إنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ» .

(1/233)


رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ. 805- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ دَخَلَ مَسْجِدَنَا هَذَا لِيَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ لِيُعَلِّمَهُ كَانَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ دَخَلَ لِغَيْرِ ذَلِكَ كَانَ كَالنَّاظِرِ إلَى مَا لَيْسَ لَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 806- وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّاظِرِ إلَى مَتَاعِ غَيْرِهِ. 807- وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا يُسْتَقَادُ فِيهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ) . 808- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَك وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً فَقُولُوا: لَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْك» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. 809- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنْ تُنْشَدَ فِيهِ الْأَشْعَارُ، وَأَنْ تُنْشَدَ فِيهِ الضَّالَّةُ، وَعَنْ الْحِلَقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَلَيْسَ لِلنَّسَائِيِّ فِيهِ إنْشَادُ الضَّالَّةِ. 810- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ؟ الْحَدِيثَ: فَتَلَاعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ. مُتَّفَق عَلَيْهِ. 811- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: شَهِدْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ فِي الْمَسْجِدِ وَأَصْحَابُهُ يَتَذَاكَرُونَ الشِّعْرَ وَأَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَرُبَّمَا تَبَسَّمَ ... مَعَهُمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 812- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: مَرَّ عُمَرُ فِي الْمَسْجِدِ - وَحَسَّانُ فِيهِ يُنْشِدُ - فَلَحَظَ إلَيْهِ، فَقَالَ: كُنْت أُنْشِدُ فِيهِ، وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْك، ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: أَنْشُدُك اللَّهَ أَسْمَعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ... «أَجِبْ عَنِّي اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» ؟ قَالَ: نَعَمْ. مُتَّفَق عَلَيْهِ. 813- وَعَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَلْقِيًا فِي

(1/234)


الْمَسْجِدِ - وَاضِعًا إحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى -. مُتَّفَق عَلَيْهِ. 814- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ - وَهُوَ شَابٌّ عَزَبٌ لَا أَهْلَ لَهُ - فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 815- وَأَحْمَدَ وَلَفْظُهُ: كُنَّا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ وَنَقِيلُ فِيهِ وَنَحْنُ شَبَابٌ. 816- قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ: قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُكْلٍ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَكَانُوا فِي الصُّفَّةِ. 817- وَقَالَ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: كَانَ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ الْفُقَرَاءَ. 818- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُصِيبَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ رَمَاهُ ... رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ - يُقَالُ لَهُ: حِبَّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ - فِي الْأَكْحَلِ فَضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 819- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَطْعَمَ الْيَوْمَ مِسْكِينًا» ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: دَخَلْت الْمَسْجِدَ فَإِذَا أَنَا بِسَائِلٍ يَسْأَلُ فَوَجَدْت كِسْرَةَ خُبْزٍ بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَأَخَذْتهَا فَدَفَعْتهَا إلَيْهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 820- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: كُنَّا نَأْكُلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَسْجِدِ الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ. قَوْلُهُ: «لَا أَدَّاهَا اللَّهُ إلَيْك» . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ عَلَى النَّاشِدِ فِي الْمَسْجِدِ بِعَدَمِ الْوُجْدَانِ مُعَاقَبَةً لَهُ فِي مَالِهِ مُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ. قَالَ: وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ فِيهِ بِمَا يَقْتَضِي مَصْلَحَةً تَرْجِعُ إلَى الرَّافِعِ صَوْتَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «وَإِنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ» . قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْمُذَاكَرَةِ فِي الْخَيْرِ وَنَحْوِهَا.

(1/235)


قَوْلُهُ: «مَنْ دَخَلَ مَسْجِدَنَا هَذَا لِيَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ لِيُعَلِّمَهُ» . الحَدِيث. قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ التَّنْوِيهُ بِشَرَفِ تَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمِهِ. وَفِيهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ وَالْإِرْشَادُ إلَى أَنَّ التَّعْلِيمَ وَالتَّعَلُّمَ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ الْأَمْكِنَةِ. قَوْلَةُ: «إذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَك» . الْحَدِيثُ قَالَ الشَّارِحُ: أَمَّا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَا عُقِدَ مِنْ الْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ. وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ حَمْلَ النَّهْيِ عَلَى الْكَرَاهَةِ يَحْتَاجُ إلَى قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ عَنْ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ التَّحْرِيمُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ النَّهْيَ حَقِيقَةٌ فِي التَّحْرِيمِ وَهُوَ الْحَقُّ. وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ النَّقْضِ وَصِحَّةِ الْعَقْدِ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّحْرِيمِ فَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُ قَرِينَةً لِحَمْلِ النَّهْيِ عَلَى الْكَرَاهَةِ. وَأَمَّا إنْشَادُ الْأَشْعَارِ فِي الْمَسْجِدِ فَحَدِيثُ الْبَابِ وَمَا مَعْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى ... عَدَمِ جَوَازِهِ وَيُعَارِضُهُ تَصْرِيحُ حَسَّانَ بِأَنَّهُ كَانَ يُنْشِدُ الشِّعْرَ بِالْمَسْجِدِ وَفِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: حَمْلُ النَّهْيِ عَلَى التَّنْزِيهِ وَالرُّخْصَةِ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ. وَالثَّانِي: حَمْلُ أَحَادِيثِ الرُّخْصَةِ عَلَى الشِّعْرِ الْحَسَنِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَيُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى التَّفَاخُرِ وَالْهِجَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: بَابُ الرُّخْصَةِ فِي إنْشَادِ الشِّعْرِ الْحَسَنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الشِّعْرُ كَلَامٌ فَحَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ. وَقَدْ وَرَدَ هَذَا مَرْفُوعًا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لا بَأْسَ بِإِنْشَادِ الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ إذَا كَانَ فِي مَدْحِ الدِّينِ وَإِقَامَةِ الشَّرْعِ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَلَا بَأْسَ بِإِنْشَادِ الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ إذَا لَمْ يَرْفَعْ بِهِ صَوْتَهُ بِحَيْثُ يُشَوِّشُ بِذَلِكَ عَلَى مُصَلٍّ أَوْ قَارِئٍ أَوْ مُنْتَظِرِ الصَّلَاةِ. أَمَّا التَّحَلُّقُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَحَمَلَ النَّهْيَ عَنْهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رُبَّمَا قَطَعَ الصُّفُوفَ مَعَ كَوْنِهِمْ مَأْمُورِينَ بِالتَّبْكِيرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالتَّرَاصِّ فِي الصُّفُوفِ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: (فَتَلَاعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ) قَالَ الشَّارِحُ: الْحَدِيثُ سَيَأْتِي

(1/236)


بِطُولِهِ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى. وَسَاقَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى جَوَازِ اللِّعَانِ فِي الْمَسْجِدِ. قَوْلُهُ: (أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِدِ وَاضِعًا إحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ أَوْ يُحْمَلُ النَّهْيُ حَيْثُ يَخْشَى أَنْ تَبْدُوَ عَوْرَتُهُ، وَالْجَوَازُ حَيْثُ يُؤْمَنُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ الْحَافِظُ: الثَّانِي أَوْلَى مِنْ ادِّعَاءِ النَّسْخِ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِلْقَاءِ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ وَعَلَى غَيْرِهَا لِعَدَمِ الْفَارِقِ. قَوْلُهُ: (عَزَبٌ) قَالَ الْحَافِظُ: الْمَشْهُورُ فِيهَا فَتْحُ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرُ الزَّايِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ (أَعْزَبُ) وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ مَعَ أَنَّ الْقَزَّازَ أَنْكَرَهَا. وَالْمُرَادُ بِهِ الَّذِي لَا زَوْجَةَ لَهُ. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى جَوَازِ النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ. قَوْلُهُ: (فِي الْأَكْحَلِ) هُوَ عِرْقٌ فِي الْيَدِ، وَتَمَامُ الْحَدِيثِ فِي الْبُخَارِيِّ. قَالَتْ: (فَلَمْ يَرُعْهُمْ وَفِي الْمَسْجِدِ خَيْمَةٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ إلَّا الدَّمُ يَسِيلُ إلَيْهِمْ فَقَالُوا: يَا أَهْلَ الْخَيْمَةِ مَا هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ؟ فَإِذَا سَعْدٌ يَغْذُو جُرْحُهُ دَمًا فَمَاتَ فِيهَا) . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ الْمَرِيضِ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَظِنَّةٌ لِخُرُوجِ شَيْءٍ مِنْهُ يَتَنَجَّسُ بِهِ الْمَسْجِدُ. قَوْلُهُ: «هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَطْعَمَ الْيَوْمَ مِسْكِينًا» ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: دَخَلْت الْمَسْجِدَ فَإِذَا أَنَا بِسَائِلٍ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّصَدُّقِ فِي الْمَسْجِدِ وَعَلَى جَوَازِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ. قَوْلُهُ: (كُنَّا نَأْكُلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَسْجِدِ الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ مِنْهُ وَهُوَ جَوَازُ الْأَكْلِ فِي الْمَسْجِدِ، وَفِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا سُكْنَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فِي الْمَسْجِدِ. وَمِنْهَا إنْزَالُ وَفْدِ ثَقِيفٍ الْمَسْجِدَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: 821- وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَسَرَ ثُمَامَةَ بْنَ أَثَالٍ فَرُبِطَ بِسَارِيَةٍ فِي الْمَسْجِدِ قَبْلَ إسْلَامِهِ.

(1/237)


822- وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ نَثَرَ مَالًا جَاءَ مِنْ الْبَحْرَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ وَقَسَمَهُ فِيهِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى جَوَازِ رَبْطِ الْأَسِيرِ الْمُشْرِكِ فِي الْمَسْجِدِ وَالْمُسْلِمُ بِالْأَوْلَى وَعَلَى جَوَازِ قِسْمَةِ الْأَمْوَالِ فِي الْمَسَاجِدِ وَنَثْرِهَا فِيهَا. بَابُ تَنْزِيهِ قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ عَمَّا يُلْهِي الْمُصَلِّي 823- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ - قَدْ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا - فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَمِيطِي عَنِّي قِرَامَك هَذَا فَإِنَّهُ لَا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي فِي صَلَاتِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 824- وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَعَا - بَعْدَ دُخُولِهِ الْكَعْبَةَ - فَقَالَ: «إنِّي كُنْت رَأَيْت قَرْنَيْ الْكَبْشِ حِينَ دَخَلْت الْبَيْتَ فَنَسِيت أَنْ آمُرَك أَنْ تُخَمِّرَهُمَا فَخَمِّرْهُمَا فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي قِبْلَةِ الْبَيْتِ شَيْءٌ يُلْهِي الْمُصَلِّي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ: (كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِي الْأَمْكِنَةِ الَّتِي فِيهَا تَصَاوِيرُ، وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَفْسُدُ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَقْطَعْهَا وَلَمْ يُعِدْهَا. قَوْلُهُ: «إِنِّي كُنْتُ رَأَيْتُ قَرْنَيْ الْكَبْشِ» . قَالَ الشَّارِحُ: أَيْ كَبْشُ إبْرَاهِيمَ الَّذِي فَدَى بِهِ إسْمَاعِيلَ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ تَزْيِينِ الْمَحَارِيبِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَسْتَقْبِلُهُ الْمُصَلِّي بِنَقْشٍ أَوْ تَصْوِيرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا يُلْهِي. بَابُ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْأَذَانِ حَتَّى يُصَلِّيَ إلَّا لِعُذْرٍ 825- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا كُنْتُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ فَلَا يَخْرُجْ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُصَلِّيَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 826- وَعَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَمَا أُذِّنَ فِيهِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ.

(1/238)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى تَحْرِيمِ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَ سَمَاعِ الْأَذَانِ لِغَيْرِ الْوُضُوءِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَمَا تَدْعُو الضَّرُورَةُ إلَيْهِ حَتَّى يُصَلِّيَ فِيهِ تِلْكَ الصَّلَاةَ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَسْجِدَ قَدْ تَعَيَّنَ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ. قَالَ: وَفِي الْبَابِ عَنْ عُثْمَانَ بِلَفْظِ: «مَنْ أَدْرَكَ الْأَذَانَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ خَرَجَ لَمْ يَخْرُجْ لِحَاجَةٍ وَهُوَ لَا يُرِيدُ الرَّجْعَةَ فَهُوَ مُنَافِقٌ» .

(1/239)


أَبْوَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ بَابُ وُجُوبِهِ لِلصَّلَاةِ 827- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - فِي حَدِيثٍ يَأْتِي ذِكْرُهُ - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «فَإِذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ» . 828- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاء - فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ - إذْ جَاءَهُمْ آتٍ، فَقَالَ: إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ فَاسْتَقْبَلُوهَا وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إلَى الْكَعْبَةِ. مُتَّفَق عَلَيْهِ. 829- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَنَزَلَتْ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} . فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ - وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ - وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً فَنَادَى: أَلَا إنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ، فَمَالُوا كَمَا هُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ: «ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: والْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِقْبَالِ وَهُوَ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ إلَّا فِي حَالَةِ الْعَجْزِ أَوْ فِي الْخَوْفِ عِنْدَ الْتِحَامِ الْقِتَالِ أَوْ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ كَمَا سَيَأْتِي. وَقَدْ دَلَّ عَلَى الْوُجُوبِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ. وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ

(1/240)


قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا فَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . قَوْلُهُ: (بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَا فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَلِلْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا أَنَّ حُكْمَ النَّاسِخِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ حَتَّى يَبْلُغَهُ لِأَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالْإِعَادَةِ. وَمِنْهَا جَوَازُ تَعْلِيمِ مَنْ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ مَنْ هُوَ فِيهَا، وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ قَالَ: وَهُوَ حُحَّةٌ فِي قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ حُجَّةِ مَنْ رَأَى فَرْضَ الْبَعِيدِ إصَابَةَ الْجِهَةِ لَا الْعَيْنِ 830- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 831- وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ: «وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غُرِّبُوا» . يُعَضِّدُ ذَلِكَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ عَلَى مَنْ بَعُدَ عَنْ الْكَعْبَةِ الْجِهَةُ لَا الْعَيْنُ، وأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ ... رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: قَالَ «الْبَيْتُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ، وَالْمَسْجِدُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ ... الْحَرَمِ، وَالْحَرَمُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مَشَارِقِهَا وَمَغَارِبِهَا مِنْ أُمَّتِي» . بَابُ تَرْكِ الْقِبْلَةِ لِعُذْرِ الْخَوْفِ 832- عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَصَفَهَا، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالًا قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ وَرُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرِ مُسْتَقْبِلِيهَا، قَالَ نَافِعٌ: وَلَا أَرَى ابْنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ إلَّا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ لاسِيَّمَا إذَا كَثُرَ الْعَدُوُّ تَجُوزُ حَسَبَ الْإِمْكَانِ فَيَنْتَقِلُ عَنْ الْقِيَامِ إلَى الرُّكُوعِ، وَعَنْ

(1/241)


الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَى الْإِيمَاءِ، وَيَجُوزُ تَرْكُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَرْكَانِ. وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ. بَابُ تَطَوُّعِ الْمُسَافِرِ عَلَى مَرْكُوبِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَ بِهِ 833- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُسَبِّحُ عَلَى رَاحِلَتِهِ قِبَلَ أَيِّ وِجْهَةٍ تَوَجَّهَ وَيُوتِرُ عَلَيْهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا إلَّا الْمَكْتُوبَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 834- وَفِي رِوَايَةِ: كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ، وَفِيهِ نَزَلَت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 835- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: رَأَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ النَّوَافِلَ فِي كُلِّ جِهَةٍ، وَلَكِنْ يَخْفِضُ السُّجُودَ مِنْ الرُّكُوعِ وَيُومِئُ إيمَاءً. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 836- وَفِي لَفْظِ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَاجَةٍ فَجِئْت وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، وَالسُّجُودُ أَخْفَضُ مِنْ الرُّكُوعِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 837- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رَاحِلَتِهِ تَطَوُّعًا اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَكَبَّرَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ خَلَّى عَنْ رَاحِلَتِهِ فَصَلَّى حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّنَفُّلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُجُودَ مَنْ صَلَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ يَكُونُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى السَّرْجِ وَلَا بَذْلُ. غَايَةِ الْوُسْعِ فِي الِانْحِنَاءِ بَلْ يَخْفِضُ سُجُودَهُ بِمِقْدَارٍ يَفْتَرِقُ بِهِ السُّجُودُ عَنْ الرُّكُوعِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِقْبَالِ حَالَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، ثُمَّ لَا يَضُرُّ الْخُرُوجَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ سَمْتِ الْقِبْلَةِ.

(1/242)


أَبْوَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ بَابُ افْتِرَاضِ افْتِتَاحِهَا بِالتَّكْبِيرِ 838- عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَحْسَنُ. 839- وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 840- وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ كَانَ يَفْتَتِحُ بِالتَّكْبِيرِ. قَوْلُهُ: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ» قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أَوَّلُ شَيْءٍ يَفْتَتِحُ بِهِ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ. قَوْلُهُ: «وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّكْبِيرِ دُونِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَذْكَارِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَنْعَقِدُ الصَّلَاةُ بِكُلِّ لَفْظٍ قُصِدَ بِهِ التَّعْظِيمُ، وَالْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِ. بَابُ أَنَّ تَكْبِيرَ الْإِمَامِ بَعْدَ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ وَالْفَرَاغِ مِنْ الْإِقَامَةِ 841- عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسَوِّي صُفُوفَنَا إذَا قُمْنَا إلَى الصَّلَاةِ، فَإِذَا اسْتَوَيْنَا كَبَّرَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 842- وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قُمْتُمْ إلَى

(1/243)


الصَّلَاةِ فَلْيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ، وَإِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ فَأَنْصِتُوا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَوْلُهُ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسَوِّي صُفُوفَنَا إذَا قُمْنَا إلَى الصَّلَاةِ، فَإِذَا اسْتَوَيْنَا كَبَّرَ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد بِهَذَا اللَّفْظِ، وَبِلَفْظٍ آخَرَ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ النُّعْمَانِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسَوِّينَا فِي الصُّفُوفِ كَمَا يُقَوَّمُ الْقَدَحُ حَتَّى إذَا ظَنَّ أَنْ قَدْ أَخَذْنَا عَنْهُ ذَلِكَ وَفَقِهْنَا أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ بِوَجْهِهِ إذَا رَجُلٌ مُنْتَبِذٌ بِصَدْرِهِ فَقَالَ: «لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفُنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ» . بَابُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ وَبَيَانُ صِفَتِهِ وَمَوَاضِعِهِ 843- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ مَدًّا. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. 844- وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ التَّكْبِيرَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 845- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَا بِحَذْوِ مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ يُكَبِّرُ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَهُمَا مِثْلُ ذَلِكَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ أَيْضًا وَقَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 846- وَلِلْبُخَارِيِّ: وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ يَسْجُدُ، وَلَا حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ. 847- وَلِمُسْلِمٍ: وَلَا يَفْعَلُهُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ. 848- وَلَهُ أَيْضًا: وَلَا يَرْفَعُهُمَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ. 849- وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا كَانَ إذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» . رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَرَفَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد.

(1/244)


850- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَذْو مَنْكِبَيْهِ، وَيَصْنَعُ مِثْلُ ذَلِكَ إذَا قَضَى قِرَاءَتَهُ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ، وَيَصْنَعُهُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَإِذَا قَامَ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ كَذَلِكَ وَكَبَّرَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 851- وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ رَأَى مَالِكَ بْنِ الْحُوَيْرِثِ إذَا صَلَّى كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَنَعَ هَكَذَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 852- وَفِي رِوَايَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا أُذُنَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا أُذُنَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، فَقَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» . فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 853- وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا: حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْهِ. 854- وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ -وَهُوَ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَدُهُمْ أَبُو قَتَادَةَ بن ربعي -: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا: مَا كُنْت أَقْدَمَ لَهُ صُحْبَةً، وَلَا أَكْثَرَنَا لَهُ إتْيَانًا، قَالَ: بَلَى، قَالُوا: فَاعْرِضْ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ اعْتَدَلَ قَائِمًا وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ» . وَرَكَعَ، ثُمَّ اعْتَدَلَ فَلَمْ يُصَوِّبْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُقْنِعْ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «لاسَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» . وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَاعْتَدَلَ حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عَظْمٍ فِي مَوْضِعِهِ مُعْتَدِلًا، ثُمَّ هَوَى إلَى الْأَرْض سَاجِدًا، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ» . ثُمَّ ثَنَى رِجْلَهُ وَقَعَدَ عَلَيْهَا، وَاعْتَدَلَ حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عَظْمٍ فِي مَوْضِعِهِ، ثُمَّ نَهَضَ، ثُمَّ صَنَعَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى إذَا قَامَ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ كَمَا صَنَعَ حِينَ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ صَنَعَ كَذَلِكَ حَتَّى إذَا كَانَتْ الرَّكْعَةُ الَّتِي تَنْقَضِي فِيهَا صَلَاتُهُ، أَخَّرَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَقَعَدَ عَلَى شِقِّهِ مُتَوَرِّكًا ثُمَّ سَلَّمَ، قَالُوا: صَدَقْت، هَكَذَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ، وَصَحَّحَهُ

(1/245)


التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُخْتَصَرًا. قَوْلُهُ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ مَدًّا) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ. وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ: إنَّهَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ. قَالَ الشَّارِحُ: وَإِلَى الرَّفْعِ فِي الثَّلَاثَةِ الْمَوَاطِنِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ يَحْكِ التِّرْمِذِيُّ عَنْ مَالِكٍ غَيْرَهُ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ رَفْعُهُمَا فِي مَوْضِعِ رَابِعٍ وَهُوَ إذَا قَامَ مِنْ التَّشَهُّدِ الْأَوْسَطِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ، فَقَدْ صَحَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ. وَصَحَّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ. قَالَ الشَّارِحُ: قَوْلُهُ في حديث الباب: (حَتَّى يَكُونَا بِحَذْوِ مَنْكِبَيْهِ) . وَهَكَذَا فِي رِوَايَةِ عَلِيٍّ أَبِي حُمَيْدٍ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ. وَفِي حَدِيثِ مَالِك بْنِ الْحُوَيْرِثِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا أُذُنَيْهِ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: (حَتَّى يُحَاذِيَ بِظَهْرِ كَفَّيْهِ الْمَنْكِبَيْنِ وَبِأَطْرَافِ أَنَامِلِهِ الْأُذُنَيْنِ) . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوِ مَنْكِبَيْهِ فِي الافتتاح وَفِي غَيْرِهِ دُونَ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: (وَإِذَا قَامَ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ كَذَلِكَ وَكَبَّرَ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْمُرَادُ بِالسَّجْدَتَيْنِ الرَّكْعَتَانِ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الرَّفْعِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْمَوَاطِنِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: 855- وَقَدْ صَحَّ التَّكْبِيرُ فِي الْمَوَاضِعِ الْأَرْبَعَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالْحَدِيثُ تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْحِكْمَةِ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ إعْظَامٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَإتِّبَاعٌ لِرَسُولِهِ. وَقِيلَ: إشَارَةٌ إلَى طَرْحِ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى صَلَاتِهِ وَمُنَاجَاتِهِ رَبَّهُ، كَمَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: «اللَّهُ أَكْبَرُ» . وَقِيلَ: إلَى رَفْعِ الْحِجَابِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْبُودِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ

(1/246)


الشَّارِحُ: وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السُّنَّةُ تَشْتَرِكُ فِيهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَلَمْ يَرِد مَا يَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِيهَا. قَوْلُهُ: (أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -) فِيهِ مَدْحُ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ لِمَنْ يَأْخُذُ عَنْهُ لِيَكُونَ كَلَامُهُ أَوْقَعَ وَأَثْبَتَ عِنْدَ السَّامِعِ. وَالْحَدِيثُ قَدْ اشْتَمَلَ عَلَى جُمْلَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ صِفَةِ صَلَاتِهِ - صلى الله عليه وسلم -. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَا جَاءَ فِي وَضْعِ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ 856- عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَكَبَّرَ، ثُمَّ الْتَحَفَ بِثَوْبِهِ، ثُمَّ وَضَعَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ أَخْرَجَ يَدَيْهِ، ثُمَّ رَفَعَهُمَا وَكَبَّرَ فَرَكَعَ، فَلَمَّا قَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» . رَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا سَجَدَ سَجَدَ بَيْن كَفَّيْهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 857- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد: ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى كَفِّهِ الْيُسْرَى وَالرُّسْغَ وَالسَّاعِدَ. 858- وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ. قَالَ أَبُو حَازِمٍ: وَلَا أَعْلَمُهُ إلَّا يَنْمِي ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 859- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي، فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى، فَرَآهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. 860- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إنَّ مِنْ السَّنَةِ فِي الصَّلَاةِ وَضْعُ الْأَكُفِّ عَلَى الْأَكُفِّ تَحْتَ السُّرَّةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ وَضْعِ الْكَفِّ عَلَى الْكَفِّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَنَقَلَ ابْنُ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ الْوَضْعَ. قَالَ الْحَافِظُ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحِكْمَةُ فِي هَذِهِ الْهَيْئَةِ أَنَّهَا صِفَةُ السَّائِلِ الذَّلِيلِ، وَهُوَ أَمْنَعُ لِلْعَبَثِ وَأَقْرَبُ إلَى الْخُشُوعِ.

(1/247)


قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اختُلِفَ في مَحَلِّ وَضْعِ الْيَدَيْنِ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ مَنْ قَالَ: إنَّ الْوَضْعَ يَكُونُ تَحْتَ السُّرَّةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ الْوَضْعَ يَكُونُ تَحْتَ صَدْرِهِ فَوْقَ سُرَّتِهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ، وَرِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا وَلَا تَرْجِيحَ وَبِالتَّخْيِيرِ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ مُصَرِّحٌ بِأَنَّ الْوَضْعَ عَلَى الصَّدْرِ، وَلَا شَيْءَ فِي الْبَابِ أَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ وَائِلٍ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِتَفْسِيرِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ} بِأَنَّ النَّحْرَ وَضْعُ الْيُمْنَى عَلَى الشِّمَالِ فِي مَحَلِّ النَّحْرِ وَالصَّدْرِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ نَظَرِ الْمُصَلِّي إلَى سُجُودِهِ وَالنَّهْيِ عَنْ رَفْعِ الْبَصَرِ فِي الصَّلَاةِ 861- عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُقَلِّبُ بَصَرَهُ فِي السَّمَاءِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ. 862- وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ بِنَحْوِهِ وَزَادَ فِيهِ: وَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ لِلرَّجُلِ أَنْ لَا يُجَاوِزَ بَصَرُهُ مُصَلَّاهُ. وَهُوَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ. 863- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 864- وَعَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِمْ» ؟ فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: «لَيَنْتَهُنَّ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا وَالتِّرْمِذِيَّ. 865- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا جَلَسَ فِي التَّشَهُّدِ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى وَيَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَلَمْ يُجَاوِزْ بَصَرُهُ إشَارَتَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ: (وَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ لِلرَّجُلِ أَنْ لَا يُجَاوِزَ بَصَرُهُ مُصَلَّاهُ) . قَالَ الشَّارِحُ

(1/248)


رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ النَّظَرِ إلَى الْمُصَلَّى وَتَرْكِ مُجَاوَزَةِ الْبَصَرِ لَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ رَفْعَ الْبَصَرِ إلَى السَّمَاءِ حَالَ الصَّلَاةِ حَرَامٌ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ بِالْعَمَى لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ مُحَرَّمٍ. انتهى مخلصًا. بَابُ ذِكْرِ الِاسْتِفْتَاحِ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ 866- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا كَبَّرَ فِي الصَّلَاةِ سَكَتَ هُنَيْهَةً قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ - بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي -أَرَأَيْت سُكُوتَك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: «أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْمَاءِ وَالْبَرَدِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ. 867- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ قَالَ: «وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُك ظَلَمْت نَفْسِي وَاعْتَرَفْت بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْك وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك أَنَا بِك وَإِلَيْك تَبَارَكْت وَتَعَالَيْت أَسَتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك» . وَإِذَا رَكَعَ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَك رَكَعْت، وَبِك آمَنْت، وَلَك أَسْلَمْت خَشَعَ لَك سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي» . وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ» . وَإِذَا سَجَدَ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَك سَجَدْت، وَبِك آمَنْت، وَلَك أَسْلَمْت، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ، وَبَصَرَهُ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ» . ثُمَّ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ: ... «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت، وَمَا أَخَّرْت، وَمَا أَسْرَرْت، وَمَا أَعْلَنْت، وَمَا أَسْرَفْت، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّر، لَا إلَه إلَّا أَنْتَ» .

(1/249)


رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 868- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ: ... «سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، وَتَبَارَكَ اسْمُك، وَتَعَالَى جَدُّك، وَلَا إلَهَ ... غَيْرُك» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 869- وَالدَّارَقُطْنِيّ مِثْلُهُ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ. 870- وَلِلْخَمْسَةِ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ. 871- وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَجْهَرُ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: يَقُولُ: «سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، وَتَبَارَكَ اسْمُك، وَتَعَالَى جَدُّك، وَلَا إلَهَ غَيْرُك» . 872- وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه - أَنَّهُ كَانَ يَسْتَفْتِحُ بِذَلِكَ. 873- وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. 874- وَابْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. 875- وَقَالَ الْأَسْوَدُ: كَانَ عُمَرُ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ: (سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، وَتَبَارَكَ اسْمُك، وَتَعَالَى جَدُّك، وَلَا إلَهَ غَيْرُك) . يُسْمِعُنَا ذَلِكَ وَيُعَلِّمُنَا. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الدُّعَاءِ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَالْأَحَادِيثُ تَرُدُّ عَلَيْهِ. وَفِيهِ جَوَازُ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ بِمَا لَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ. وَفِيهِ أَنَّ دُعَاءَ الِاسْتِفْتَاحِ يَكُونُ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ. قَوْلُهُ: «سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك» قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جَلَّادٍ: قَالَ: سَأَلْت الزَّجَّاجَ عَنْ قَوْلِهِ: «سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك» فَقَالَ: مَعْنَاهُ سُبْحَانَك وَبِحَمْدِك سَبَّحْتُك. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: وَاخْتِيَارُ هَؤُلَاءِ لِهَذَا الِاسْتِفْتَاحِ وَجَهْرُ عُمَرَ بِهِ أَحْيَانًا بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ

(1/250)


لِتَعْلِيمِهِ النَّاسَ - مَعَ أَنَّ السُّنَّةَ إخْفَاؤُهُ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْأَفْضَلُ وَأَنَّهُ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُدَاوِمُ عَلَيْهِ غَالِبًا وَإِنْ اسْتَفْتَحَ بِمَا رَوَاهُ عَلِيٌّ - رضي الله عنه - أَوْ أَبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - فَحُسْن لِصِحَّةِ الرِّوَايَةِ بِهِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْلَى بِالْإِيثَارِ وَالِاخْتِيَارِ وَأَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي الِاسْتِفْتَاحِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ حَدِيثُ عَلِيٍّ. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْمَعَ فِي الاسْتِفْتَاحِ بَيْنَ قَوْلِهِ: «سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك» .. إلى آخره، وَبَيْنَ «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ» .. إلى آخره. انْتَهَى. قُلْتُ: وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ قَوْلِهِ: «سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك» إلى آخره. وَقَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَاي» . إِلَى آخِرِهِ فَهُوَ حَسَنٌ لَيَجْمَعَ بَيْنَ نَوْعَيِ الذِّكْرِ: الثَّنَاءِ، وَالدُّعَاءِ. وَاللهُ أَعْلَمُ. بَابُ التَّعَوُّذِ بِالْقِرَاءَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْت الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} . 876- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ اسْتَفْتَحَ ثُمَّ يَقُولُ: «أَعُوذُ بِاَللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. 877- وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ: ... «أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» . 878- وَقَالَ الْأَسْوَدُ: رَأَيْت عُمَرَ - حِينَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ - يَقُولُ: ... (سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، وَتَبَارَكَ اسْمُك، وَتَعَالَى جَدُّك، وَلَا إلَه غَيْرُك) . ثُمَّ يَتَعَوَّذُ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الِافْتِتَاحِ بِمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ، وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ التَّعَوُّذِ مِنْ الشَّيْطَان مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ، وَقَالَ: الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي التَّعَوُّذِ لَيْسَ فِيهَا إلَّا أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى.

(1/251)


بَابُ مَا جَاءَ فِي (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) 879- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: قَالَ: صَلَّيْت مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 880- وَفِي لَفْظِ: صَلَّيْت خَلْفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَكَانُوا لَا يَجْهَرُونَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ. 881- وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٌ: صَلَّيْت خَلْفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا. 882- وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ - فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ - عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: صَلَّيْت خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَلَمْ يَكُونُوا يَسْتَفْتِحُونَ الْقِرَاءَةَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. قَالَ شُعْبَةُ: فَقُلْت لِقَتَادَةَ: أَنْتَ سَمِعْته مِنْ أَنَسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ نَحْنُ سَأَلْنَاهُ عَنْهُ. 883- وَلِلنَّسَائِيِّ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ عَنْ أَنَسٍ بن مالك قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُسْمِعْنَا قِرَاءَةَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى بِنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَلَمْ نَسْمَعْهَا مِنْهُمَا. 884- وَعَنْ ابن عَبْد اللهِ بن مُغَفَّل قَالَ: سَمِعَنِي أَبِي وَأَنَا أَقُول: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم فَقَالَ: يَا بُنَيِّ إِيَّاكَ والحدث. قَالَ: وَلَمْ أَر من أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رجلاً كَان أَبْغُض إِلَيْه حدثًا فِي الإسلام مِنْهُ فَإِنِّي صَلَّيْتُ مَعْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَمَعَ عُمَر، وَمَعَ عُثْمَان فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقُولُهَا فَلا تَقُلْهَا إِذَا أَنْتَ قَرَأْتَ فَقُلْ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِين. رَوَاهُ الْخَمْسَةَ إِلا أَبَا دَاودَ. 885- وَعَنْ قَتَادَة قَالَ: سُئِلَ أَنَس: كَيْفَ كَانَت قِرَاءَةُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقَالَ:

(1/252)


كَانَتْ مَدًّا ثُمَّ قَرَأَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم. يَمُدُّ بِبِسْمِ اللهِ وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَن وَيَمُدُّ بِالرَّحِيم. رَوَاهُ الْبُخَارِي. 886- وَرَوَى ابن جَرِيج عَنْ عَبْدُ اللهِ بن أَبِي مليكة عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ قِرَاءَة رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالتَ: كَانَ يَقْطَعُ قِرَاءَتَهُ آية آية {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاود. قَوْلُهُ: (لَا يَجْهَرُونَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لا يَجْهَرُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِي: إِنَّهُ لَمْ يَصِحُّ فِي الْجَهْرِ بِهَا حَدِيث. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَعْنَى قَوْلُهُ: لا تقلها. وَقَوْلُهُ: لا يَقْرأونهَا. أَوْ لا يَذْكُرُونَهَا. أَوْ لا يَسْتَفْتِحُونَ بِهَا أَيْ جَهْرًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - فِي رِوَاية تَقَدَّمَتْ -: وَلا يَجْهَرُون بِهَا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قِرَاءَتِهِمْ لَهَا سِرًّا. وَقَالَ ابن الْقَيِّم: إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَان يَجْهَرُ بِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم تَارَةً وَيُخْفِيهَا أَكْثَرُ مِمَّا يَجْهَرَ بِهَا، وَلا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِهَا دَائِمًا فِي كُلِّ يَوْمُ وَلَيْلَة خَمْسُ مَرَّات أَبَدًا حَضْرًا وَسَفْرًا وَيُخْفَى ذَلِكَ عَلَى خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَعَلَى جُمْهُور أَصْحَابِهِ وَأَهْلُ بَلَدِهِ فِي الأَعْصَار الْفَاضِلة وَهَذَا مِنْ أَمْحَلَ الْمحال حَتَّى يُحْتَاجَ إِلَى التَّشَبُّث فِيهِ بِأَلْفَاظَ مُجملة وَأَحَادِيث وَاهِيَةْ فَصَحِيحُ تِلْكَ الأَحَادِيث غَيْر صَرِيحُ وَصَرِيحُهَا غَيْر صَحِيح. انْتَهَى. قَالَ الشَّارِحُ: وَأَكْثَرُ مَا فِي الْمَقَام الاخْتِلاف فِي مُسْتَحَبٍّ أَوْ مَسْنُون فَلَيْسَ شَيء مِنْ الْجَهْرِ وَتَرْكِهِ يَقْدَحُ فِي الصَّلاة ببطلان بالإِجْمَاع. بَابٌ فِي الْبَسْمَلَةِ هَلْ هِيَ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَأَوَائِلِ السُّوَرِ أَمْ لَا؟ 887- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ» . يَقُولُهَا ثَلَاثًا، فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ، فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِك فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -

(1/253)


يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي. فَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ. 888- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ - ثَلَاثُونَ آيَةً - شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ وَهِيَ: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 889- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فِي الْمَسْجِدِ إذْ أَغْفَى، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا، فَقُلْنَا لَهُ: مَا أَضْحَكَك يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «نَزَلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إنَّا أَعْطَيْنَاك الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ * إنَّ شَانِئَك هُوَ الْأَبْتَرُ} » . ثُمَّ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرَ» ؟ قَالَ: وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 890- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} » إلَى آخِرِ السُّورَةِ إنَّمَا كَانَ هَذَا لِلْعَبْدِ لِأَنَّهُ سُؤَالٌ يَعُودُ نَفْعُهُ إلَى الْعَبْدِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اهْدِنَا وَمَا بَعْدَهُ إلَى آخِرِ السُّورَةِ ثَلَاثُ آيَاتٍ لَا آيَتَانِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مِنْ الْفَاتِحَةِ أَمْ لا. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ لِأَنَّ الْفَاتِحَةَ سَبْعُ آيَاتٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَمْ تُذْكَرْ الْبَسْمَلَةُ فِي الْحَدِيثِ وَلَوْ كَانَتْ مِنْهَا لَذُكِرَتْ.

(1/254)


قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً» . إلى آخره. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَلَا يَخْتَلِفُ الْعَادُّونَ أَنَّهَا ثَلَاثُونَ آيَةً بِدُونِ التَّسْمِيَةِ. قَوْلُهُ: «ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ» . تَمَامُ الْحَدِيثِ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «إنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَهُوَ حَوْضٌ يَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ فَيَخْتَلِجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ فَأَقُولُ: رَبِّ إنَّهُ مِنْ أُمَّتِي، فَيَقُولُ: مَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ بَعْدَك» . قَالَ الشَّارِحُ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جُمْلَةِ أَدِلَّةِ مَنْ أَثْبَتَ الْبَسْمَلَةَ. قَوْلُهُ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) . وَالْحَدِيثُ اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ مِنْ الْقُرْآنِ. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَالْبَسْمَلَةُ آيَةٌ مُنْفَرِدَةٌ فَاصِلَةٌ بَيْنَ السُّوَرِ لَيْسَتْ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، لا الْفَاتِحَة وَلا غَيْرهَا. بَابُ وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ 891- عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 892- وَفِي لَفْظٍ: «لَا تُجْزِئُ صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَقَالَ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ. 893- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 894- وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. 895- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَهُ أَنْ يَخْرُجَ فَيُنَادِيَ لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَمَا زَادَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: والْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَعْين فَاتِحَة الْكِتَابِ

(1/255)


فِي الصَّلَاةِ وَأَنَّهُ لا يُجْزِئُ غَيْرهَا. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدهُمْ. قَوْلُهُ: (إلَّا بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَمَا زَادَ) . قَالَ الشَّارِحُ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الشَّوَاهِد وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَا تَقْصُرُ عَنْ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ قُرْآنٍ مَعَ الْفَاتِحَةِ وَلَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ السُّورَةِ مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْجُمُعَةِ وَالْأُولَيَيْنِ مِنْ كُلِّ الصَّلَوَاتِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَادَّعَى ابْنُ حِبَّانَ وَالْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمَا الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى الْفَاتِحَةِ. وَفِيهِ نَظَرٌ لِثُبُوتِهِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ. بَابُ مَا جَاءَ فِي قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ وَإِنْصَاتِهِ إذَا سَمِعَ إمَامَهُ 896- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ، وَقَالَ مُسْلِمٌ: هُوَ صَحِيحٌ. 897- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ: «هَلْ قَرَأَ مَعِي أَحَدٌ مِنْكُمْ آنِفًا» ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَإِنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ» . قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الصَّلَوَاتِ بِالْقِرَاءَةِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. 898- وَعَنْ عُبَادَةَ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصُّبْحَ فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: «إنِّي أَرَاكُمْ تَقْرَءُونَ وَرَاءَ إمَامِكُمْ» ؟ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْ وَاَللَّهِ، قَالَ: «لَا تَفْعَلُوا إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 899- وَفِي لَفْظٍ: «فَلَا تَقْرَءُوا مِنْ الْقُرْآنِ - إذَا جَهَرْت بِهِ - إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ. 900- وَعَنْ عُبَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا يَقْرَأَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا مِنْ

(1/256)


الْقُرْآنِ - إذَا جَهَرْت بِالْقِرَاءَةِ - إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: رِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ. 901- وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» . وَقَدْ رُوِيَ مُسْنَدًا مِنْ طُرُقٍ كُلِّهَا ضِعَافٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ. 902- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ فَجَعَلَ رَجُلٌ يَقْرَأُ خَلْفَهُ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى} فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «أَيُّكُمْ قَرَأَ» . أَوْ: ... «أَيُّكُمْ الْقَارِئُ» ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا، فَقَالَ: «لَقَدْ ظَنَنْت أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا» . مُتَّفَق عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ: قَوْلُهُ: «وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا» . احْتَجَّ بِذَلِكَ الْقَائِلُونَ أَنَّ الْمُؤْتَمَّ لَا يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةَ: لَا يُقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ لَا فِي سِرِّيَّةٍ وَلَا فِي جَهْرِيَّةٍ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ الْآتِي وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ. وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ أَنَّ الْمُؤْتَمَّ لَا يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الْجَهْرِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ إلَى وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى الْمُؤْتَمِّ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْجَهْرِيَّةِ وَالسِّرِّيَّةِ سَوَاءٌ سَمِعَ الْمُؤْتَمُّ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ أَمْ لا. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. وَأَجَابُوا عَنْ أَدِلَّةِ أَهْلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهَا عُمُومَاتٌ وَحَدِيثُ عُبَادَةَ خَاصٌّ وَبِنَاءُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَاجِبٌ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ. وَهَذَا لَا مَحِيصَ عَنْهُ. وَيُؤَيِّدُهُ الْأَحَادِيثُ الْقَاضِيَةُ بِوُجُوبِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ عَنْ عدتِهَا إنَّمَا تَحْصُلُ بِنَاقِلٍ صَحِيحٍ لَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ الَّتِي اقْتَرَنَتْ بِمَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهَا. قَوْلُهُ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصُّبْحَ فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: «إنِّي أَرَاكُمْ تَقْرَءُونَ وَرَاءَ إمَامِكُمْ» . قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْ وَاَللَّهِ، قَالَ: «لَا تَفْعَلُوا إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا» . قَالَ الشَّارِحُ: قَوْلُهُ: «لَا تَفْعَلُوا» هَذَا النَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بِلَفْظِ: «إذَا جَهَرْت بِه» . وَالْحَدِيثُ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ قِرَاءَةِ

(1/257)


الْفَاتِحَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ وَهُوَ الْحَقُّ. قَوْلُهُ: إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ فَجَعَلَ رَجُلٌ يَقْرَأُ خَلْفَهُ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «أَيُّكُمْ قَرَأَ» . أَوْ «أَيُّكُمْ الْقَارِئُ» ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا، فَقَالَ: «لَقَدْ ظَنَنْت أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا» . قَالَ الشَّارِحُ: قَوْلُهُ: «خَالَجَنِيهَا» أَيْ نَازَعَنِيهَا وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ فِي جَهْرِهِ أَوْ رَفْعِ صَوْتِهِ بِحَيْثُ أَسْمَعَ غَيْرَهُ لَا عَنْ أَصْلِ الْقِرَاءَةِ، بَلْ فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَ بِالسُّورَةِ فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ وَفِيهِ إثْبَاتُ قِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي الظُّهْرِ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَنَا وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ ضَعِيفٌ أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ الْمَأْمُومُ السُّورَةَ فِي السِّرِّيَّةِ كَمَا لَا يَقْرَؤُهَا فِي الْجَهْرِيَّةِ. وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ فِي الْجَهْرِيَّةِ يُؤْمَرُ بِالْإِنْصَاتِ، وَهُنَا لَا يُسْمَعُ فَلَا مَعْنَى لِسُكُوتِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِمَاعٍ وَلَوْ كَانَ بَعِيدًا عَنْ الْإِمَامِ لَا يَسْمَعُ قِرَاءَتَهُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقْرَأُ السُّورَةَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. انْتَهَى. قَالَ الشَّارِحُ: وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ الْمَنْعُ مِنْ قِرَاءَةِ مَا عَدَا الْفَاتِحَةَ مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَسْمَعَ الْمُؤْتَمَّ الْإِمَامُ أَوْ لَا يَسْمَعُهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: «فَلَا تَقْرَءُوا بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ إذَا جَهَرْت» يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْقِرَاءَةِ عِنْدَ مُجَرَّدِ وُقُوعِ الْجَهْرِ مِنْ الْإِمَامِ وَلَيْسَ فِيهِ وَلَا فِي غَيْرِهِ مَا يُشْعِرُ بِاعْتِبَارِ السَّمَاعِ. بَابُ التَّأْمِينِ وَالْجَهْرِ بِهِ مَعَ الْقِرَاءَةِ 903- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «آمِينَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، إلَّا أَنَّ التِّرْمِذِيَّ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ ابْنِ شِهَابٍ. 904- وَفِي رِوَايَةٍ: «إذَا قَالَ الْإِمَامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ، فَقُولُوا: آمِينَ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ آمِينَ، وَإِنَّ الْإِمَامَ يَقُولُ آمِينَ، فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 905- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا تَلَا {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ، قَالَ: آمِينَ، حَتَّى يُسْمِعَ مَنْ يَلِيهُ مِنْ الصَّفِّ الْأَوَّلِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

(1/258)


906- وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ: حَتَّى يَسْمَعَهَا أَهْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَيَرْتَجَّ بِهَا الْمَسْجِدُ. 907- وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ، فَقَالَ: «آمِينَ» . يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ» فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ التَّأْمِينِ لِلْإِمَامِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: «إذَا أَمَّنَ» . أَيْ أَرَادَ التَّأْمِينَ لِيَقَعَ تَأْمِينُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ مَعًا. قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا الْأَمْرُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِلنَّدْبِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَحَكَى الْمَهْدِيُّ فِي الْبَحْرِ عَنْ الْعِتْرَةِ جَمِيعًا أَنَّ التَّأْمِينَ بِدْعَةٌ وَقَدْ عَرَفْت ثُبُوتَهُ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ فِعْلِهِ وَرِوَايَتِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي كُتُبِ أَهْلِ الْبَيْتِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّهُ قَدْ حَكَى السَّيِّدُ الْعَلَامَةُ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْوَزِيرُ عَنْ الْإِمَامِ الْمَهْدِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُطَهَّرِ وَهُوَ أَحَدُ أَئِمَّتِهِمْ الْمَشَاهِيرِ أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ الرِّيَاضُ النَّدِيَّةُ: أَنَّ رُوَاةَ التَّأْمِينِ جَمٌّ غَفِيرٌ. قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَحْمَدَ بْنِ عِيسَى. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْبَحْرِ عَلَى أَنَّ التَّأْمِينَ بِدْعَةٌ بِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيُّ (إِنَّ هَذِهِ صَلَاتُنَا لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ) وَلَا يُشَكُّ أَنَّ أَحَادِيثَ التَّأْمِينِ خَاصَّةٌ وَهَذَا عَامٌّ. فَإِنْ كَانَتْ أَحَادِيثُهُ الْوَارِدَةُ عَنْ جَمْعٍ مِنْ الصَّحَابَةِ لَا يُقَوِّي بَعْضُهَا عَلَى تَخْصِيصِ حَدِيثِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعَ أَنَّهَا مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ الْعُمُومَاتِ الْقَاضِيَةِ بِمَشْرُوعِيَّةِ مُطْلَقِ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ لأَنَّ التَّأْمِينَ دُعَاءٌ فَلَيْسَ فِي الصَّلَاةِ تَشَهُّدٌ، وَقَدْ أَثْبَتَتْهُ الْعِتْرَةُ فَمَا هُوَ جَوَابُهُمْ فِي إثْبَاتِهِ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِكَلَامِ النَّاس فِي الْحَدِيثِ هُوَ تَكْلِيمُهُمْ لِأَنَّهُ اسْمُ مَصْدَرِ كَلَّمَ لَا تَكَلَّمَ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَأَمَّا مَا رَوَاهُ فِي الْجَامِعِ الْكَافِي عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ إبْرَاهِيمَ أَنَّ آمِينَ لَيْسَتْ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ فَهَذِهِ كُتُبُ اللُّغَةِ بِأَجْمَعِهَا عَلَى ظَهْرِ الْبَسِيطَةِ. قَوْلُهُ: (فَقَالَ: «آمِينَ» يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ) . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّأْمِينِ لِلْإِمَامِ وَمَشْرُوعِيَّةِ الْجَهْرِ وَمَدِّ الصَّوْتِ بِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَبِهِ يَقُولُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ

(1/259)


الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الرَّجُلَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّأْمِينِ وَلَا يُخْفِيهَا، وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. قَالَ الشَّارِحُ: وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجَهْرِ بِهِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيِّ بِلَفْظِ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا حَسَدَتْكُمْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى قَوْلِ آمِينَ فَأَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ آمِينَ» . بَابُ حُكْمِ مَنْ لَمْ يُحْسِنْ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ 908- عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَّمَ رَجُلًا الصَّلَاةَ فَقَالَ: «إنْ كَانَ مَعَكَ قُرْآنٌ فَاقْرَأْ وَإِلَّا فَاحْمَدْ اللَّهَ وَكَبِّرْهُ وَهَلِّلْهُ ثُمَّ ارْكَعْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 909- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي، قَالَ قُلْ: «سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 910- وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَلَفْظُهُ فَقَالَ: إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي فِي صَلَاتِي فَذَكَرَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ الْمَذْكُورَ يُجْزِئ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَظَاهِرُهُ أَنَّهَا تَكْفِي مَرَّةً. وَقَدْ ذَهَبَ الْبَعْضُ إلَى أَنَّهُ يَقُولُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَالْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ لَعَلَّهُمْ يَقُولُونَ بِوُجُوبِهِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. بَاب قِرَاءَة السُّورَةْ بَعْدَ الْفَاتِحَاةِ فِي الأَوْليين وَهُلْ تُسَنُّ قِرَاءَتِهَا فِي الأُخْرَيينْ أَمْ لا؟ 911- عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا، وَيُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مَا لَا يُطِيلُ فِي الثَّانِيَةِ، وَهَكَذَا فِي الْعَصْرِ،

(1/260)


وَهَكَذَا فِي الصُّبْحِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 912- وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَزَادَ قَالَ: فَظَنَنَّا أَنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يُدْرِكَ النَّاسُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى. 913- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِسَعْدٍ: لَقَدْ شَكُوكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الصَّلَاةِ، قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَمُدُّ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَأَحْذِفُ مِنْ الْأُخْرَيَيْنِ وَلَا آلُو مَا اقْتَدَيْت بِهِ مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: صَدَقْت ذَلِكَ الظَّنُّ بِكَ - أَوْ ظَنِّي بِكَ. مُتَّفَق عَلَيْهِ. 914- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً. وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ قِرَاءَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً - أَوْ قَالَ نِصْفَ ذَلِكَ - وَفِي الْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ - فِي كُلِّ رَكْعَةٍ - قَدْرَ قِرَاءَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ نِصْفِ ذَلِكَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إثْبَاتِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ. وَدَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْجَهْرِ فِي السِّرِّيَّةِ وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْإِسْرَارَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ وَعَلَى مَنْ أَوْجَبَ فِي الْجَهْرِ سُجُودَ السَّهْوِ. وَقَوْلُهُ: (أَحْيَانًا) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ. قَوْلُهُ: (وَيُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مَا لَا يُطِيلُ فِي الثَّانِيَةِ) . قَالَ الشَّارِحُ: قَوْلُهُ: (فَظَنَنَّا أَنَّهُ يُرِيدُ) . إلى آخره. فِيهِ أَنَّ وَالْحِكْمَةَ فِي التَّطْوِيلِ الْمَذْكُورِ هِيَ انْتِظَارُ الدَّاخِلِ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقِرَاءَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَعَلَى قِرَاءَةِ سُورَةٍ مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُولَيَيْنِ، وَعَلَى جَوَازِ الْجَهْرِ بِبَعْضِ الْآيَاتِ فِي السِّرِّيَّةِ. قَوْلُهُ: (كَانَ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلَاثِينَ ... آيَةً) . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحِكْمَةُ فِي إطَالَةِ الظُّهْرِ أَنَّهَا فِي وَقْتِ غَفْلَةٍ بِالنَّوْمِ فِي الْقَائِلَةِ فَطُوِّلَتْ لِيُدْرِكَهَا الْمُتَأَخِّرُ وَالْعَصْرُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ تُفْعَلُ فِي وَقْتِ تَعَبِ أَهْلِ الْأَعْمَالِ فَخُفِّفَتْ. انْتَهَى.

(1/261)


قَالَ فِي سُبُلِ السَّلامِ: ظَاهِرُ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَة أَنَّهُ لا يَزِيدُ عَلَى أُمِّ الْكِتَابِ فِي الأُخْرَيَيْنِ، وَلَعَلَّهُ أَرْجَحُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدْ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ وَمَنْ حَيْثُ الدِّرَايَةِ لأَنَّهُ إِخْبَارٌ مَجْزُومٌ بِهِ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَصْنَعُ هَذَا تَارَةً فَيَقْرَأُ فِي الأُخْرَيَيْنِ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ مَعَهَا وَيَقْتَصِرُ فِيهِمَا أَحْيَانًا. فَتَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا فِيهمَا سُنَّة تُفْعَلُ أَحْيَانًا وَتُتْرَكُ أَحْيَانًا. انْتَهَى. وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا سَعَدُ بْن عَتِيقٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. قَالَ فِي الإِنْصَافِ: وَلا تُكْرَهُ الْقِرَاءَة بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فِي الأَخِيرَتَيْنِ بَلْ تُبَاح عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَنْهُ تُسَنُّ. بَابُ قِرَاءَةِ سُورَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَقِرَاءَةِ بَعْضِ سُورَةٍ وَتَنْكِيسِ السُّوَرِ فِي تَرْتِيبِهَا وَجَوَازِ تَكْرِيرِهَا 915- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ فَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ افْتَتَحَ بِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا ثُمَّ يَقْرَأُ سُورَةً أُخْرَى مَعَهَا فَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَلَمَّا أَتَاهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: «وَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ» ؟ قَالَ: إنِّي أُحِبُّهَا قَالَ: «حُبُّكَ إيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا. 916- وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ يُصَلِّي بِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَمَضَى، فَقُلْتُ يَرْكَعُ بِهَا فَمَضَى، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا مُتَرَسِّلًا إذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ: «سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ» فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ ثُمَّ قَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبّنَا لَكَ الْحَمْدُ» . ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ: «سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى» . فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 917- وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ جُهَيْنَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ {إذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ} فِي الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا قَالَ: فَلَا أَدْرِي أَنَسِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمْ قَرَأَ ذَلِكَ عَمْدًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

(1/262)


918- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فِي الْأُولَى مِنْهُمَا: {قُولُوا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا} الْآيَة الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ وَفِي الْآخِرَةِ: {آمَنَّا بِاَللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} . 919- وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ: {قُولُوا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا} وَاَلَّتِي فِي آلِ عِمْرَانَ: {تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «حُبُّكَ إيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: التَّبْشِيرُ لَهُ بِالْجَنَّةِ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِفِعْلِهِ. قَالَ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ الْمُنَيَّرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: إنَّ الْمَقَاصِدَ تُغَيِّرُ أَحْكَامَ الْفِعْلِ، لِأَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ: إنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى إعَادَتِهَا أَنَّهُ لَا يَحْفَظُ غَيْرَهَا لَأَمْكَنَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِحِفْظِ غَيْرِهَا لَكِنَّهُ اعْتَلَّ بِحُبِّهَا فَظَهَرَتْ صِحَّةُ قَصْدِهِ فَصَوَّبَهُ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ سُورَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مَعَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ. قَوْلُهُ: (ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ: إنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ اجْتِهَادٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حِينَ كَتَبُوا الْمُصْحَفَ وَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ تَرْتِيبِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَلْ وَكَلَهُ إلَى أُمَّتِهِ بَعْدَهُ قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالْجُمْهُورِ. قَوْلُهُ: (يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ إذَا زُلْزِلَتْ) قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ قِرَاءَةِ سُورَةٍ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ وَجَوَازُ قِرَاءَةِ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ فِي الصُّبْحِ. قَوْلُهُ: (وَفِي الْآخِرَةِ: {آمَنَّا بِاَللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ) لَفْظ الآية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِيهِمَا بَعْدَ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ بَعْضِ سُورَةٍ فِي الرَّكْعَةِ كَمَا فَعَلَ فِي تَرْجَمَةِ الْبَابِ. بَابُ جَامِعِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ 920- عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِـ {قَ

(1/263)


وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} وَنَحْوِهَا وَكَانَ صَلَاتُهُ بَعْدُ إلَى تَخْفِيفٍ. 921- وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى وَفِي الْعَصْرِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَفِي الصُّبْحِ أَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ. رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 922- وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ إذَا دَحَضَتْ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ وَقَرَأَ بِنَحْوٍ مِنْ: وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى، وَالْعَصْرِ كَذَلِكَ وَالصَّلَوَاتِ كُلِّهَا كَذَلِكَ، إلَّا الصُّبْحَ فَإِنَّهُ كَانَ يُطِيلُهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 923- وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ. 924- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ سَمِعَتْهُ وَهُوَ يَقْرَأُ: ... {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ، إنَّهَا لَآخِرُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. 925- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِسُورَةِ الْأَعْرَافِ فَرَّقَهَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 926- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. 927- وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ» . أَوْ قَالَ: «أَفَاتِنٌ أَنْتَ فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى» ؟ مُتَّفَق عَلَيْهِ. 928- وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشْبَهَ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ فُلَانٍ - لِإِمَامٍ كَانَ بِالْمَدِينَةِ - قَالَ سُلَيْمَانُ: فَصَلَّيْتُ خَلْفَهُ، فَكَانَ يُطِيلُ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ وَيُخَفِّفُ الْآخِرَتَيْنِ، وَيُخَفِّفُ الْعَصْرَ، وَيَقْرَأُ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ، وَيَقْرَأُ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ الْعِشَاءِ مِنْ وَسَطِ الْمُفَصَّلِ، وَيَقْرَأُ فِي الْغَدَاةِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.

(1/264)


قَوْلُهَا: (إنَّهَا لآخِرُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَى مَنْ قَالَ: التَّطْوِيلُ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ مَنْسُوخٌ. قَوْلُهُ: «فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى» . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقِرَاءَةِ فِي الْعِشَاءِ بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ كَمَا حَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ الْعُلَمَاءِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّخْفِيفِ لِلْإِمَامِ لِمَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ مُعَاذٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ بِلَفْظِ: «فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ» . وَفِي لَفْظٍ لَهُ: «فَإِنَّ خَلْفَهُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ» . قَالَ أَبُو عُمَرَ: التَّخْفِيفُ لِكُلِّ إمَامٍ أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ أَقَلُّ الْكَمَالِ وَأَمَّا الْحَذْفُ وَالنُّقْصَانُ فَلَا لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ نَهَى عَنْ نَقْرِ الْغُرَابِ وَرَأَى رَجُلًا يُصَلِّي وَلَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ فَقَالَ لَهُ: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» . وَقَالَ: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَى مَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ» . وَقَالَ أَنَسٌ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخَفَّ النَّاسِ صَلَاةً فِي تَمَامٍ. انْتَهَى. بَابُ الْحُجَّةِ فِي الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ أَثْنَى عَلَى قِرَاءَتِهِ 929- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ، مِنْ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ - فَبَدَأَ بِهِ - وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 930- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 931- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأُبِيٍّ: «إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} » . 932- وَفِي رِوَايَةٍ: «أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ» . قَالَ: وَسَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . فَبَكَى. مُتَّفَق عَلَيْهِ.

(1/265)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ» هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْ الْقُرْآنَ جَمِيعًا فِي عَصْرِهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ. وَالْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَقَدَ هَذَا الْبَابَ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّهَا لَا تُجْزِئُ فِي الصَّلَاةِ إلَّا قِرَاءَةُ السَّبْعَةِ الْقُرَّاءِ الْمَشْهُورِينَ. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَمَا خَالَفَ الْمُصْحَف وَصَحَّ سَنَدَهُ صَحَّتِ الصَّلاةُ بِهِ، وَهَذَا أَنَصُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدٍ، وَمُصْحَفُ عُثْمَانٍ أَحَد الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ. وَقَالَهُ عَامَّةُ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. انْتَهَى. قَوْلُهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأُبِيٍّ: «إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} » قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْحُذَّاقِ فِيهِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ وَالْفَضْلِ، وَإِنْ كَانَ الْقَارِئُ أَفْضَلَ مِنْ الْمَقْرُوءِ عَلَيْهِ وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ شَرِيفَةٌ لِأُبِيٍّ بِقِرَاءَتِهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِ وَلَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا أَحَدٌ لَاسِيَّمَا مَعَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى لِاسْمِهِ وَنَصْهِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ. قَوْلُهُ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَجْهُ تَخْصِيصِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّهَا وَجِيزَةٌ جَامِعَةٌ لِقَوَاعِدَ كَثِيرَةٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ وَمُهِمَّاتِهِ وَالْإِخْلَاصِ وَتَطْهِيرِ الْقُلُوبِ وَكَانَ الْوَقْتُ يَقْتَضِي الِاخْتِصَارَ. قَوْلُهُ: (وَسَمَّانِي لَكَ) فِيهِ جَوَازُ الِاسْتِثْبَاتِ فِي الِاحْتِمَالَاتِ وَسَبَبُهُ هَا هُنَا أَنَّهُ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِهِ وَلَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: (فَبَكَى) فِيهِ جَوَازُ الْبُكَاءِ لِلسُّرُورِ وَالْفَرَحِ بِمَا يُبَشَّرُ الْإِنْسَانُ وَيُعْطَاهُ مِنْ مَعَالِي الْأُمُورِ. وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِي قِرَاءَتِهِ عَلَى أُبَيٍّ فَقِيلَ: سَبَبُهَا أَنْ يَسُنَّ لِأُمَّتِهِ بِذَلِكَ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَهْلِ الْإِتْقَانِ وَالْفَضْلِ وَيَتَعَلَّمُوا آدَابَ الْقِرَاءَةِ وَلَا يَأْنَفُ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ التَّنْبِيهُ عَلَى جَلَالَةِ أُبَيٍّ وَأَهْلِيَّتِهِ لِأَخْذِ الْقُرْآنِ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ كَانَ يَعُدُّهُ - صلى الله عليه وسلم - رَأْسًا وَإِمَامًا فِي إقْرَاءِ الْقُرْآنِ وَهُوَ أَجَلُّ نَاشِرِيهِ أَوْ مِنْ أَجَلِّهِمْ.

(1/266)


بَابُ مَا جَاءَ فِي السَّكْتَتَيْنِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَبَعْدَهَا 933- عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَسْكُتُ سَكْتَتَيْنِ، إذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْقِرَاءَةِ كُلِّهَا. 934- وَفِي رِوَايَةٍ: سَكْتَةً إذَا كَبَّرَ. وَسَكْتَةً إذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} . رَوَى ذَلِكَ أَبُو دَاوُد، وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِمَعْنَاهُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إنَّمَا كَانَ يَسْكُتُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِيَقْرَأَ مَنْ خَلْفَهُ فَلَا يُنَازِعُونَهُ الْقِرَاءَةَ إذَا قَرَأَ. قَالَ الْيَعْمُرِيُّ: كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ هَذَا فِي السَّكْتَةِ الَّتِي بَعْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَأَمَّا السَّكْتَةُ الْأُولَى فَقَدْ وَقَعَ بَيَانُهَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقِ فِي بَابِ الِافْتِتَاحِ أَنَّهُ كَانَ يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ، يَقُولُ: «اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ» . الْحَدِيثَ. بَابُ التَّكْبِيرِ لِلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالرَّفْعِ 935- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُكَبِّرُ فِي كُلِّ رَفْعٍ. وَخَفْضٍ وَقِيَامٍ وَقُعُودٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 936- وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ صَلَّيْتُ الظُّهْرَ بِالْبَطْحَاءِ خَلْفَ شَيْخٍ أَحْمَقَ فَكَبَّرَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ تَكْبِيرَةً يُكَبِّرُ إذَا سَجَدَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تِلْكَ صَلَاةُ أَبِي الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 937- وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَنَا فَبَيَّنَ لَنَا سُنَّتَنَا. وَعَلَّمَنَا صَلَاتَنَا. فَقَالَ: «إذَا صَلَّيْتُمْ فَأَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا وَإِذَا قَالَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فَقُولُوا: آمِينَ، يُجِبْكُمْ اللَّهُ، وَإِذَا كَبَّرَ وَرَكَعَ فَكَبِّرُوا وَارْكَعُوا. فَإِنَّ الْإِمَامَ يَرْكَعُ قَبْلَكُمْ. وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ» . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَتِلْكَ بِتِلْكَ، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ، حَمِدَهُ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ يَسْمَعُ اللَّهُ لَكُمْ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَإِذَا كَبَّرَ وَسَجَدَ فَكَبِّرُوا وَاسْجُدُوا. فَإِنَّ الْإِمَامَ يَسْجُدُ قَبْلَكُمْ، وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ» . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:

(1/267)


«فَتِلْكَ بِتِلْكَ، وَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْقَعْدَةِ فَلْيَكُنْ مِنْ أَوَّلِ قَوْلِ أَحَدِكُمْ: التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد، وَفِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ: «وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّكْبِيرِ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَقِيَامٍ وَقُعُودٍ إلَّا فِي الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ فَإِنَّهُ يَقُولُ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» . قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَمِنْ الْأَعْصَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقَدْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ فِي زَمَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ لَا يَرَى التَّكْبِيرَ إلَّا لِلْإِحْرَامِ. انْتَهَى. بَابُ جَهْرِ الْإِمَامِ بِالتَّكْبِيرِ لِيُسْمِعَ مَنْ خَلْفَهُ وَتَبْلِيغِ الْغَيْرِ لَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ 938- عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: صَلَّى بِنَا أَبُو سَعِيدٍ فَجَهَرَ بِالتَّكْبِيرِ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ، وَحِينَ سَجَدَ، وَحِينَ رَفَعَ، وَحِينَ قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 939- وَهُوَ لِأَحْمَدَ بِلَفْظٍ أَبْسَطَ مِنْ هَذَا. 940- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. 941- وَلِمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ - وَأَبُو بَكْرٍ خَلْفَهُ - فَإِذَا كَبَّرَ، كَبَّرَ أَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُنَا. قَوْلُهُ: (صَلَّى بِنَا أَبُو سَعِيدٍ فَجَهَرَ بِالتَّكْبِيرِ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجَهْرِ بِالتَّكْبِيرِ لِلِانْتِقَالِ. وَقَدْ كَانَ مَرْوَانُ وَسَائِرُ بَنِي أُمَيَّةَ يُسِرُّونَ بِهِ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ لَمَّا صَلَّى بِنَا أَبُو سَعِيدٍ هَذِهِ الصَّلاة، فَقَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: إنِّي وَاَللَّهِ مَا أُبَالِي اخْتَلَفَتْ صَلَاتُكُمْ أَمْ لَمْ تَخْتَلِفْ، إنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هَكَذَا يُصَلِّي.

(1/268)


قَوْلُهُ: (اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ) . قَالَ الشَّارِحُ: الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى جَوَازِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ لِيُسْمِعَهُ النَّاسَ وَيَتَّبِعُوهُ وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُقْتَدِي اتِّبَاعُ صَوْتِ الْمُكَبِّرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. بَابُ هَيْئَاتِ الرُّكُوعِ 942- عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ رَكَعَ فَجَافَى يَدَيْهِ وَوَضَعَ ... يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ مِنْ وَرَاءِ رُكْبَتَيْهِ، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 943- وَفِي حَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَإِذَا رَكَعْتَ فَضَعْ رَاحَتَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 944- وَعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: صَلَّيْتُ إلَى جَنْبِ أَبِي فَطَبَقْتُ بَيْنَ كَفَّيَّ ثُمَّ وَضَعْتُهُمَا بَيْنَ فَخِذَيَّ فَنَهَانِي عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: كُنَّا نَفْعَلُ هَذَا وَأُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا عَلَى الرُّكَبِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: التَّطْبِيقُ: الْإِلْصَاقُ بَيْنَ بَاطِنَيْ الْكَفَّيْنِ حَالَ الرُّكُوعِ وَجَعْلُهُمَا بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: التَّطْبِيقُ مَنْسُوخٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُطَبِّقُونَ. قَالَ الشَّارِحُ: وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ طَبَّقَ يَدَيْهِ بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ فَرَكَعَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ سَعْدًا فَقَالَ: صَدَقَ أَخِي كُنَّا نَفْعَلُ ذَلِكَ ثُمَّ أُمِرْنَا بِهَذَا. بَابُ الذِّكْرِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ 945- عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَكَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: ... «سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ» . وَفِي سُجُودِهِ: «سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى» . وَمَا مَرَّتْ بِهِ آيَةُ رَحْمَةٍ إلَّا وَقَفَ عِنْدَهَا يَسْأَلُ وَلَا آيَةُ عَذَابٍ إلَّا تَعَوَّذَ مِنْهَا. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

(1/269)


946- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ» . فَلَمَّا نَزَلَتْ: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قَالَ: «اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 947- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 948- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» . يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ. 949- وَعَنْ عَوْنٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ، فَقَالَ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَدْ تَمَّ رُكُوعُهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ وَإِذَا سَجَدَ فَقَالَ فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَدْ تَمَّ سُجُودُهُ، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَهُوَ مُرْسَلٌ، عَوْنٌ لَمْ يَلْقَ ابْنَ مَسْعُودٍ. 950- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا صَلَّيْتَ وَرَاءَ أَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَشْبَهَ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ هَذَا الْفَتَى - يَعْنِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ - قَالَ: فَحَزَرْنَا فِي رُكُوعِهِ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ وَفِي سُجُودِهِ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. قَوْلُهُ: فَكَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: «سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ» وَفِي سُجُودِهِ ... «سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ هَذَا التَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: التَّسْبِيحُ وَاجِبٌ فَإِنْ تَرَكَهُ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ نَسِيَهُ لَمْ تَبْطُلْ. وَقَالَ الظَّاهِرِيُّ: وَاجِبٌ مُطْلَقًا. وَأَشَارَ الْخَطَّابِيِّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ إلَى اخْتِيَارِهِ وَقَالَ أَحْمَدُ: التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَقَوْلُ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» . «وَرَبَّنَا لَكَ

(1/270)


الْحَمْدُ» . وَالذِّكْرُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَجَمِيعُ التَّكْبِيرَاتِ وَاجِبٌ، فَإِنْ تَرَكَ مِنْهُ شَيْئًا عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَيَسْجُدْ لِلسَّهْوِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عَنْهُ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أَنَّهُ سُنَّةٌ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ رُوِيَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ تَسْبِيحِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَنْ ابْنِ خُزَيْمَةَ. احْتَجَّ الْمُوجِبُونَ بِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْآتِي وَبِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» . وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ. قَوْلُهَا: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي) . قَالَ الشَّارِحُ: قَوْلُهُ: ... (وَبِحَمْدِكَ) هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ التَّسْبِيحُ: أَيْ وَبِحَمْدِكَ سَبَّحْتُكَ، وَمَعْنَاهُ: بِتَوْفِيقِكَ لِي وَهِدَايَتِكَ وَفَضْلِكَ عَلَيَّ سَبَّحْتُكَ لَا بِحَوْلِي وَقُوَّتِي. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيَظْهَرُ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ إبْقَاءُ مَعْنَى الْحَمْدِ عَلَى أَصْلِهِ وَتَكُونُ الْبَاءُ بَاءَ السَّبَبِيَّةِ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ: بِسَبَبِ أَنَّكَ مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ سَبَّحَكَ الْمُسَبِّحُونَ وَعَظَّمَكَ الْمُعَظِّمُونَ، وَقَدْ رُوِيَ بِحَذْفِ الْوَاوِ مِنْ قَوْلِهِ: ... «وَبِحَمْدِكَ» وَبِإِثْبَاتِهَا. بَابُ النَّهْيِ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ 951- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - السِّتَارَةَ - وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ - فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: النَّهْيُ لَهُ - صلى الله عليه وسلم - نَهْيٌ لِأُمَّتِهِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. بَابُ مَا يَقُولُ فِي رَفْعِهِ مِنْ الرُّكُوعِ وَبَعْدَ انْتِصَابِهِ 952- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ ثُمَّ يَقُولُ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» . حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: «رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ» . ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ

(1/271)


يَرْفَعُ رَأْسَهُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنْ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الْجُلُوسِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 953- وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمْ: «رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ» . 954- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 955- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: «رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ» فِيهِ مُتَمَسَّكٌ لِمَنْ قَالَ: إنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ كُلُّ مُصَلٍّ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمُؤْتَمِّ وَالْمُنْفَرِدِ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِمَامَ وَالْمُنْفَرِدَ يَقُولَانِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقَطْ وَالْمَأْمُومُ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ فَقَطْ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ» . وَفِيهِ وَإِذَا قَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ» . قَوْلُهُ: كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَالَ: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ» . إلى آخره قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَطْوِيلِ الِاعْتِدَالِ مِنْ الرُّكُوعِ وَالذِّكْرِ فِيهِ بِهَذَا. بَابٌ فِي الِانْتِصَابُ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَرْضٌ 956- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى صَلَاةِ رَجُلٍ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ بَيْنَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 957- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُقِمْ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 958- وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا

(1/272)


تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ فِيهَا الرَّجُلُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الِاعْتِدَالِ مِنْ الرُّكُوعِ، وَالِاعْتِدَالِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. قَالُوا: وَلَا تَصِحُّ صَلَاةُ مَنْ لَمْ يُقِمْ صُلْبَهُ فِيهِمَا. وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ. بَابُ هَيْئَاتِ السُّجُودِ وَكَيْفَ الْهَوِيُّ إلَيْهِ 959- وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَإِذَا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا أَحْمَدَ. 960- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ ثُمَّ رُكْبَتَيْهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. وَقَالَ الْخَطَّابِيَّ: حَدِيثُ، وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَثْبَتُ مِنْ هَذَا. 961- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا سَجَدَ يُجَنِّحُ فِي سُجُودِهِ حَتَّى يُرَى وَضَحُ إبِطَيْهِ. مُتَّفَق عَلَيْهِ. 962- وَعَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ وَلَا يَبْسُطُ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 963- وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ فِي صِفَةِ صَلَاةِ، رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إذَا سَجَدَ فَرَّجَ بَيْنَ فَخِذَيْهِ غَيْرَ حَامِلٍ بَطْنَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَخِذَيْهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 964- وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا سَجَدَ أَمْكَنَ أَنْفَهُ وَجَبْهَتَهُ مِنْ الْأَرْضِ، وَنَحَّى يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَوْلُهُ: (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَإِذَا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ) وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى

(1/273)


مَشْرُوعِيَّةِ وَضْعِ الرُّكْبَتَيْنِ قَبْلَ الْيَدَيْنِ وَرَفْعِهِمَا عِنْدَ النُّهُوضِ قَبْلَ رَفْعِ الرُّكْبَتَيْنِ. وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ انْقَلَبَ مَتْنُهُ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَلَعَلَّهُ: «وَلْيَضَعْ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ» . وَقَدْ رَوَاهُ كَذَلِكَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِرُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ وَلَا يَبْرُكْ كَبُرُوكِ الْفَحْلِ» . بَابُ أَعْضَاءِ السُّجُودِ 965- عَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ مَعَهُ سَبْعَةُ آرَابٍ: وَجْهُهُ وَكَفَّاهُ وَرُكْبَتَاهُ وَقَدَمَاهُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ. 966- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُمِرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ وَلَا يَكُفَّ شَعْرًا وَلَا ثَوْبًا: الْجَبْهَةِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. أَخْرَجَاهُ. 967- وَفِي لَفْظٍ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى الْجَبْهَةِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ - وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 968- وَفِي رِوَايَةٍ: «أُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعٍ وَلَا أَكْفِت الشَّعْرَ وَلَا الثِّيَابَ: الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «سَبْعَةِ أَعْظُمٍ» سُمِّيَ كُلُّ وَاحِدٍ عَظْمًا وَإِنْ اشْتَمَلَ عَلَى عِظَامٍ بِاعْتِبَارِ الْجُمْلَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْجُمْلَةِ بِاسْمِ بَعْضِهَا كَذَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ. قَوْلُهُ: «الْجَبْهَةِ» احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ السُّجُودِ عَلَى الْجَبْهَةِ دُونَ الْأَنْفِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَذَهَبَ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَغَيْرُهُمْ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَجْمَعَهُمَا وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ السُّجُودَ عَلَى

(1/274)


مَجْمُوعِ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ مُسْتَحَبٌّ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ وَائِلٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْجُدُ عَلَى الْأَرْضِ وَاضِعًا جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ فِي سُجُودِهِ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ السُّجُودِ عَلَى السَّبْعَةِ الْأَعْضَاءِ جَمِيعًا. بَابُ الْمُصَلِّي يَسْجُدُ عَلَى مَا يَحْمِلُهُ وَلَا يُبَاشِرُ مُصَلَّاهُ بِأَعْضَائِهِ 969- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنْ الْأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 970- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ وَهُوَ يَتَّقِي الطِّينَ إذَا سَجَدَ بِكِسَاءٍ عَلَيْهِ يَجْعَلُهُ دُونَ يَدَيْهِ إلَى الْأَرْضِ إذَا سَجَدَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 971- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: جَاءَنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى بِنَا فِي مَسْجِدِ بَنِي الْأَشْهَلِ فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا يَدَيْهِ فِي ثَوْبِهِ إذَا سَجَدَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ السُّجُودِ عَلَى الثِّيَابِ لِاتِّقَاءِ حَرِّ الْأَرْضِ. وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ السُّجُودِ عَلَى الثَّوْبِ الْمُتَّصِلِ بِالْمُصَلِّي. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْجُمْهُورُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: 972- وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الْقَوْمُ يَسْجُدُونَ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَيَدَاهُ فِي كُمِّهِ. 973- وَرَوَى سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانُوا يُصَلُّونَ فِي الْمَسَاتِقِ وَالْبَرَانِسِ وَالطَّيَالِسَةِ وَلَا يُخْرِجُونَ أَيْدِيَهُمْ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْقَلَنْسُوَةُ: غِشَاءٌ مُبَطَّنٌ يُسْتَرُ بِهِ الرَّأْسُ، وَالْمَسَاتِقُ جَمْعُ مُسْتُقَةٍ: وَهِيَ فَرْوٌ طَوِيلُ الْكُمَّيْنِ.

(1/275)


بَابُ الْجِلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَمَا يَقُولُ فِيهَا 974- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» . قَامَ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَوْهَمَ، ثُمَّ يَسْجُدُ وَيَقْعُدُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَوْهَمَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 975- وَفِي رِوَايَةٍ - مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا - أَنَّ أَنَسًا قَالَ: إنِّي لَا آلُو أَنْ أُصَلِّيَ بِكُمْ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بِنَا فَكَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ انْتَصَبَ قَائِمًا حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ: قَدْ نَسِيَ. وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ مَكَثَ حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ قَدْ نَسِيَ. 976- وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ - بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ -: «رَبِّ اغْفِرْ لِي رَبِّ اغْفِرْ لِي» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ 977- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ - بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ -: ... «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاجْبُرْنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: «وَعَافِنِي» مَكَانَ: «وَاجْبُرْنِي» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَطْوِيلِ الِاعْتِدَالِ مِنْ الرُّكُوعِ وَالْجِلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذَا الْحَدِيثُ - يعني حَدِيث الْبَرَاءِ كَانَ رُكُوعُهُ - صلى الله عليه وسلم - وَسُجُودُهُ وَإِذَا رَفَعَ مِنْ الرُّكُوعِ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ قَرِيبًا مِنْ السَّوَاءِ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِدَالَ رُكْنٌ طَوِيلٌ وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَصْرَحُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ بَلْ هُوَ نَصٌّ فِيهِ، فَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ لِدَلِيلٍ ضَعِيفٍ وَهُوَ قَوْلُهِمْ لَمْ يُسَنَّ فِيهِ تَكْرِيرُ التَّسْبِيحَاتِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَوَجْهُ ضَعْفِهِ أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَهُوَ فَاسِدٌ. بَابُ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ وَلُزُومِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالرَّفْعِ عَنْهُمَا 978- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَل الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» .

(1/276)


فَرَجَعَ فَصَلَّى كَمَا صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ ... تُصَلِّ» . فَرَجَعَ فَصَلَّى كَمَا صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «ارْجِعْ فَصَلِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» . ثَلَاثًا: فَقَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِي. فَقَالَ: «إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَكِنْ لَيْسَ لِمُسْلِمٍ فِيهِ ذِكْرُ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ. 979- وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ» . الْحَدِيثَ. 980- وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا لَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَلَا سُجُودَهُ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ دَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: مَا صَلَّيْتَ، وَلَوْ مِتَّ مِتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 981- وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَشَرُّ النَّاس سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ» . فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْف يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ؟ قَالَ: «لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا» . أَوْ قَالَ: «وَلَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 982- وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِثْلُهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: «يَسْرِقُ صَلَاتَهُ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الأَرْكَانِ. قَوْلُهُ: (وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا لَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَلَا سُجُودَهُ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ دَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: مَا صَلَّيْتَ، وَلَوْ مِتَّ مِتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم -) . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَعَلَى أَنَّ الْإِخْلَالَ بِهَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ. قَوْلُهُ: «أَشَرُّ النَّاس سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ» قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ أَنَّ تَرْكَ إقَامَةِ الصُّلْبِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ جَعَلَهُ الشَّارِعُ مِنْ أَشَرِّ

(1/277)


أَنْوَاعِ السَّرْقِ، وَجَعَلَ الْفَاعِلَ لِذَلِكَ أَشَرَّ مَنْ تَلَبَّسَ بِهَذِهِ الْوَظِيفَةِ الْخَسِيسَةِ الَّتِي لَا أَوْضَعَ وَلَا أَخْبَثَ مِنْهَا تَنْفِيرًا عَنْ ذَلِكَ وَتَنْبِيهًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَقَدْ صَرَّحَ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّ صَلَاةَ مَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ غَيْرُ مُجْزِئَةٍ، كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ: «لَا تُجْزِئُ صَلَاةُ الرَّجُلِ حَتَّى يُقِيمَ ظَهْرَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» . قال: وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ وَكُلُّهَا تَرُدُّ عَلَى مَنْ لَمْ يُوجِبْ الطُّمَأْنِينَةَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالِاعْتِدَالِ مِنْهُمَا. بَابُ كَيْفَ النُّهُوضُ إلَى الثَّانِيَةِ وَمَا جَاءَ فِي جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ 983- عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا سَجَدَ وَقَعَتْ رُكْبَتَاهُ إلَى الْأَرْضِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ كَفَّاهُ فَلَمَّا سَجَدَ وَضَعَ جَبْهَتَهُ بَيْنَ كَفَّيْهِ وَجَافَى عَنْ إبِطَيْهِ وَإِذَا نَهَضَ نَهَضَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَاعْتَمَدَ عَلَى فَخِذَيْهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 984- وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فَإِذَا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ لَمْ يَنْهَضْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا وَابْنَ مَاجَهْ. قَوْلُهُ: (أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فَإِذَا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ لَمْ يَنْهَضْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا) . قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ وَهِيَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ وَقَبْلَ النُّهُوضِ إلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَالرَّابِعَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ، وَذَكَرَ الْخَلَّالُ أَنَّ أَحْمَدَ رَجَعَ إلَى الْقَوْلِ بِهَا وَلَمْ يَسْتَحِبَّهَا الْأَكْثَرُ. ثم ذكر حججهم إِلِى أَنْ قَالَ: وَمَا رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَكَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ

(1/278)


فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ وَفِي الثَّالِثَةِ قَامَ كَمَا هُوَ وَلَمْ يَجْلِسْ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي الْقَوْلَ بِأَنَّهَا سُنَّةٌ لِأَنَّ التَّرْكَ لَهَا مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ إنَّمَا يُنَافِي وُجُوبَهَا فَقَطْ. وَكَذَلِكَ تَرْكُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ لَهَا لَا يَقْدَحُ فِي سُنِّيَّتِهَا لِأَنَّ تَرْكَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ جَائِزٌ. بَابُ افْتِتَاحِ الثَّانِيَةِ بِالْقِرَاءَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَوُّذٍ وَلَا سَكْتَةٍ 985- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا نَهَضَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ افْتَتَحَ الْقِرَاءَةَ بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَلَمْ يَسْكُتْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ السَّكْتَةِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَكَذَلِكَ عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ التَّعَوُّذِ فِيهَا وَحُكْمُ مَا بَعْدَهَا مِنْ الرَّكَعَاتِ حُكْمُهَا، فَتَكُونُ السَّكْتَةُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ مُخْتَصَّةً بِالرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَكَذَلِكَ التَّعَوُّذُ قَبْلَهَا. بَابُ الْأَمْرِ بِالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَسُقُوطِهِ بِالسَّهْوِ. 986- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إنَّ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا قَعَدْتُمْ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَقُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ لِيَتَخَيَّرَ أَحَدُكُمْ مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إلَيْهِ فَلْيَدْعُ بِهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 987- عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا قُمْتَ فِي صَلَاتك فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ عَلَيْكَ مِنْ الْقُرْآنِ، فَإِذَا جَلَسْتَ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ فَاطْمَئِنَّ وَافْتَرِشْ فَخِذَكَ الْيُسْرَى، ثُمَّ تَشَهَّدْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 988- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ - وَعَلَيْهِ جُلُوسٌ - فَلَمَّا أَتَمَّ صَلَاتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ وَسَجَدَهَا النَّاسُ مَعَهُ مَكَانَ مَا نَسِيَ مِنْ الْجُلُوسِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَقُولُوا: التَّحِيَّاتُ» فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ

(1/279)


قَالَ بِوُجُوبِ التَّشَهُّدِ الْأَوْسَطِ وَهُوَ أَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَاللَّيْثُ وَإِسْحَاقُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ دَاوُد وَأَبُو ثَوْرٍ وَرَوَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ جُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إطْلَاقُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِالتَّشَهُّدِ وَعَدَمِ تَقْيِيدِهَا بِالْأَخِيرِ. وَاحْتَجَّ الطَّبَرِيُّ لِوُجُوبِهِ بِأَنَّ الصَّلَاةَ وَجَبَتْ أَوَّلًا رَكْعَتَيْنِ وَكَانَ التَّشَهُّدُ فِيهَا وَاجِبًا، فَلَمَّا زِيدَتْ لَمْ تَكُنْ الزِّيَادَةُ مُزِيلَةً لِذَلِكَ الْوَاجِبِ. إلى أن قَالَ الشَّارِحُ:: وَالْحَاصِلُ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ. قَوْلُهُ: «ثُمَّ لْيَتَخَيَّرَ أَحَدُكُمْ مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إلَيْهِ» . قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ الْإِذْنُ بِكُلِّ دُعَاءٍ أَرَادَ الْمُصَلِّي أَنْ يَدْعُوَ بِهِ فِي الْمَوْضِعِ، وَعَدَمُ لُزُومِ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَا وَرَدَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم -. قَوْلَهُ - صلى الله عليه وسلم -: «فَإِذَا جَلَسْتَ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ فَاطْمَئِنَّ وَافْتَرِشْ فَخِذَكَ الْيُسْرَى» . قَالَ الشَّارِحُ: قَوْلُهُ: «فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ» بِفَتْحِ السِّينِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ: يُقَالُ فِيمَا كَانَ مُتَفَرِّقَ الْأَجْزَاءِ غَيْرَ مُتَّصِلٍ كَالنَّاسِ وَالدَّوَابِّ بِسُكُونِ السِّينِ وَمَا كَانَ مُتَّصِلَ الْأَجْزَاءِ كَالدَّارِ وَالرَّأْسِ فَهُوَ بِالْفَتْحِ، وَالْمُرَادُ هُنَا: الْقُعُودُ لِلتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ، وَيَلْحَقُ بِهِ الْأَوَّلُ فِي الثُّلَاثِيَّةِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ: إنَّ السُّنَّةَ الِافْتِرَاشُ فِي الْجُلُوسِ لِلتَّشَهُّدِ الْأَوْسَطِ وَهُمْ الْجُمْهُورُ. وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلُ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ التَّشَهُّدِ الْأَوْسَطِ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ بُحَيْنَةَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ التَّشَهُّدَ الْأَوْسَطَ غَيْرُ وَاجِبٍ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ صِفَةِ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَمَا جَاءَ فِي التَّوَرُّكِ وَالْإِقْعَاءِ 989- عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فَسَجَدَ، ثُمَّ قَعَدَ فَافْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 990- وَفِي لَفْظٍ - لِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ - قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَا قَعَدَ وَتَشَهَّدَ فَرَشَ قَدَمَهُ الْيُسْرَى عَلَى الْأَرْضِ وَجَلَسَ عَلَيْهَا. 991- وَعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: «إذَا سَجَدْتَ

(1/280)


فَمَكِّنْ لِسُجُودِكَ فَإِذَا جَلَسْتَ فَاجْلِسْ عَلَى رِجْلِكَ الْيُسْرَى» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 992- وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ - وَهُوَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: كُنْتُ أَحْفَظَكُمْ لِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَيْتُهُ إذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلَا قَابِضِهِمَا وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ، فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى، فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْأُخْرَى وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَقَدْ سَبَقَ لِغَيْرِهِ بِلَفْظٍ أَبْسَطَ مِنْ هَذَا. 993- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَكَانَ إذَا رَكَعَ لَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُصَوِّبْهُ، وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ، وَكَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ جَالِسًا، وَكَانَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ، وَكَانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عَقِبِ الشَّيْطَانِ، وَكَانَ يَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلَاةَ بِالتَّسْلِيمِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 994- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ نَقْرَةٍ كَنَقْرَةِ الدِّيكِ، وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ، وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَعَدَ فَافْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ احْتَجَّ بِالْحَدِيثَيْنِ الْقَائِلُونَ بِاسْتِحْبَابِ فَرْشِ الْيُسْرَى وَنَصْبِ الْيُمْنَى فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إنَّهُ يَتَوَرَّكُ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إنَّ التَّوَرُّكَ يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ الَّتِي فِيهَا تَشَهُّدَانِ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَالتَّفْصِيلُ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أَحْمَدُ يَرُدُّهُ قَوْلُ أَبِي حُمَيْدٍ فِي حَدِيثِهِ: (فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ) . وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد: (حَتَّى إذَا كَانَتْ السَّجْدَةُ الَّتِي فِيهَا التَّسْلِيمُ) .

(1/281)


قَوْلُهُ: (وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عَقِبِ الشَّيْطَانِ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَفَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ بِالْإِقْعَاءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَهُوَ أَنْ يُلْصِقَ أَلْيَتَيْهِ بِالْأَرْضِ وَيَنْصِبَ سَاقَيْهِ وَيَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ. وَقَالَ ابْنُ رَسْلَانَ: هِيَ أَنْ يَفْرِشَ قَدَمَيْهِ وَيَجْلِسَ عَلَى عَقِبَيْهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: الْإِقْعَاءُ الَّذَي وَرَدَ النَّهْيِّ عَنْهُ هُوَ الَّذَي يَكُونُ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ. وَالْإِقْعَاءُ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ هُوَ وَضْع الإِلْيَتَيْنِ عَلَى الْعَقِبَيْنِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَهَذَا الْجَمْعُ لا بُدَّ مِنْهُ. قَوْلُهُ: (عَنْ نَقْرَةٍ كَنَقْرَةِ الدِّيكِ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْمُرَادُ بِهَا كَمَا قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: تَرْكُ الطُّمَأْنِينَةِ وَتَخْفِيفُ السُّجُودِ وَأَنْ لَا يَمْكُثَ فِيهِ إلَّا قَدْرَ وَضْعِ الْغُرَابِ مِنْقَارَهُ فِيمَا يُرِيدُ الْأَكْلَ مِنْهُ كَالْجِيفَةِ لِأَنَّهُ يُتَابِعُ فِي النَّقْرِ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ تَلَبُّثٍ. قَوْلُهُ: (وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ) فِيهِ كَرَاهَةُ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ وَرَدَتْ بِالْمَنْعِ مِنْهُ أَحَادِيثُ وَثَبَتَ أَنَّ الِالْتِفَاتَ اخْتِلَاسٌ مِنْ الشَّيْطَانِ. بَابُ ذِكْرِ تَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ 995- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - التَّشَهُّدَ كَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ: «التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 996- وَفِي لَفْظٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ» . وَذَكَرَهُ، وَفِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: «وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» . وَفِي آخِرِهِ: «ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 997- وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: عَلَّمَهُ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - التَّشَهُّدَ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ النَّاسَ: (التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ) . وَذَكَرَهُ، قَالَ

(1/282)


التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَصَحُّ حَدِيثٍ فِي التَّشَهُّدِ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. 998- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ فَكَانَ يَقُولُ: «التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَا رَسُولُ اللَّهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد بِهَذَا اللَّفْظِ. 999- وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ لَكِنَّهُ ذَكَرَ السَّلَامَ مُنْكَرًا. 1000- وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ كَمُسْلِمٍ لَكِنَّهُ قَالَ: «وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» . 1001- وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بِتَنْكِيرِ السَّلَامِ وَقَالَا فِيهِ: وَأَنَّ مُحَمَّدًا، وَلَمْ يَذْكُرَا أَشْهَدُ، وَالْبَاقِي كَمُسْلِمٍ. 1002- وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ كَذَلِكَ لَكِنْ بِتَعْرِيفِ السَّلَامِ. 1003- وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ كَمُسْلِمٍ لَكِنَّهُ نَكَّرَ السَّلَامَ وَقَالَ: وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَفْضَلِ مِنْ التَّشَهُّدِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ إلَى أَنَّ تَشَهُّدَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَفْضَلُ لِزِيَادَةِ لَفْظِ «الْمُبَارَكَاتُ» فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ: تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَفْضَلُ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَشَهُّدُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ عَلَّمَهُ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ. وَقَالَ مُسْلِمٌ: إنَّمَا أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى تَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِأَنَّ أَصْحَابَهُ لَا يُخَالِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَغَيْرُهُ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِهَا كُلِّهَا: يَعْنِي التَّشَهُّدَاتِ الثَّابِتَةِ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ.

(1/283)


بَابٌ فِي أَنَّ التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ فَرْضٌ 1004- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نَقُولُ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْنَا التَّشَهُّدُ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَقُولُوا هَكَذَا وَلَكِنْ قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ» . وَذَكَرَهُ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ. 1005- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ إلَّا بِتَشَهُّدٍ. رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: مَذْهَبُ أَبُو حَنِيفَةِ وَمَالِكِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ التَّشهُّدَيْنِ سُنَّةٌ. وَرَوَى مَالِكٌ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الأَخِيرِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: «إِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاةِ فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّات. وَبِقَوْلِهِ: وأَمَرَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ النَّاس) . الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ التَّشَهْدِ الأَخِيرِ. قَالَ: وَاسْتَدَلُّوا أيضًا بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (كُنَّا نَقُولُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْنَا التَّشَهُّد) . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فُرِضَ عَلَيْهِمْ. بَابُ الْإِشَارَةِ بِالسَّبَّابَةِ وَصِفَةُ وَضْعِ الْيَدَيْنِ 1006- عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّهُ قَالَ فِي صِفَةِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ثُمَّ قَعَدَ فَافْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَوَضَعَ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ وَرُكْبَتِهِ الْيُسْرَى وَجَعَلَ حَدَّ مِرْفَقِهِ الْأَيْمَنِ عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ قَبَضَ ثِنْتَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهِ وَحَلَّقَ حَلْقَةً، ثُمَّ رَفَعَ أُصْبُعَهُ فَرَأَيْتُهُ يُحَرِّكُهَا يَدْعُو بِهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 1007- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَرَفَعَ أُصْبُعَهُ الْيُمْنَى الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ فَدَعَا بِهَا، وَيَدُهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ بَاسِطُهَا عَلَيْهَا. 1008- وَفِي لَفْظٍ: كَانَ إذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ وَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ وَوَضَعَ

(1/284)


كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى. رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَعَدَ فَافْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَوَضَعَ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ وَرُكْبَتِهِ الْيُسْرَى وَجَعَلَ حَدَّ مِرْفَقِهِ الْأَيْمَنِ عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَجَعَلَ حَدَّ مِرْفَقِهِ) أَيْ طَرَفَهُ، وَالْمُرَادُ كَمَا قَالَ فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ: أَنْ يَجْعَلَ عَظْمَ مِرْفَقِهِ كَأَنَّ رَأْسَهُ وَتَدٌ. قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ: يَرْفَعُ طَرَفَ مِرْفَقِهِ مِنْ جِهَةِ الْعَضُدِ عَنْ فَخِذِهِ حَتَّى يَكُونَ مُرْتَفِعًا عَنْهُ كَمَا يَرْتَفِعُ الْوَتَدُ عَنْ الْأَرْضِ، وَيَضَعُ طَرَفَهُ الَّذِي مِنْ جِهَةِ الْكَفِّ عَلَى طَرَفِ فَخِذِهِ الْأَيْمَنِ. قال: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ وَضْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ حَالَ الْجُلُوسِ لِلتَّشَهُّدِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: تَكُونُ الْإِشَارَةُ بِالْأُصْبُعِ عِنْدَ قَوْلِهِ: (إلَّا اللَّهُ) مِنْ الشَّهَادَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالسُّنَّةُ أَنْ لَا يُجَاوِزَ بَصَرُهُ إشَارَتَهُ. قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ: وَالْحِكْمَةُ فِي الْإِشَارَةِ بِهَا إلَى أَنَّ الْمَعْبُودَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاحِدٌ لِيَجْمَعَ فِي تَوْحِيدِهِ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالِاعْتِقَادِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - 1009- عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ لَهُ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ: أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْك فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك؟ قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1010- وَلِأَحْمَدَ فِي لَفْظٍ آخَرَ نَحْوُهُ وَفِيهِ: فَكَيْف نُصَلِّي عَلَيْك إذَا نَحْنُ صَلَّيْنَا فِي صَلَاتِنَا؟ 1011- وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا أَوْ عَرَفْنَا كَيْفَ السَّلَامُ عَلَيْكَ فَكَيْفَ الصَّلَاةُ؟ قَالَ: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ

(1/285)


اللَّهُمَّ ... بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا أَنَّ التِّرْمِذِيَّ قَالَ فِيه: «عَلَى إبْرَاهِيمَ» . فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَلَمْ يَذْكُر آلَهُ. 1012- وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «عَجَّلَ هَذَا» . ثُمَّ دَعَاهُ. فَقَالَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ لِيَدْعُ بَعْدُ مَا شَاءَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: فِي الْحَدِيثِ: «قُولُوا» . اُسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْد التَّشَهُّدِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ إِلِى أَنْ قَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدِي مِنْ الْأَدِلَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَطْلُوبِ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ، وَعَلَى فَرْضِ ثُبُوتِهِ فَتَرْكُ تَعْلِيمِ الْمُسِيءِ لِلصَّلَاةِ لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ» . قَرِينَةٌ صَالِحَةٌ لِحَمْلِهِ عَلَى النَّدْبِ. قَوْلُهُ: سَمِعَ النَّبِيُّ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ فلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «عجل هذا» . قَالَ الشَّارِحُ: قَوْلُهُ: «عجل هذا» . أَي بِدُعَائِهِ قَبْلَ تَقْدِيمِ الصَّلاةِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَقْدِيمِ الصَّلاةِ قَبْلَ الدُّعَاءِ لِيَكُونَ وَسِيلَةً لِلإِجَابَةِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ لَا يَرَى الصَّلَاةَ عَلَيْهِ فَرْضًا حَيْثُ لَمْ يَأْمُرْ تَارِكَهَا بِالْإِعَادَةِ. وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ فِي خَبَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ بَعْدَ ذِكْرِ التَّشَهُّدِ: 1013- «ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ» . بَابُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَفْسِيرِ آلِهِ الْمُصَلَّى عَلَيْهِمْ 1014- عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: قُولُوا: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(1/286)


1015- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى إذَا صَلَّى عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَأَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَذُرِّيَّتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ احْتَجَّ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْآلُ هُمْ الْأَزْوَاجُ وَالذُّرِّيَّةُ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَقَامَ الْأَزْوَاجَ وَالذُّرِّيَّةَ مَقَامَ آلِ مُحَمَّدٍ. بَابُ مَا يَدْعُو بِهِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ 1016- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنْ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَلْيَتَعَوَّذْ باللَّهَ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ. 1017- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيخِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْمَغْرَمِ وَالْمَأْثَمِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَلْيَتَعَوَّذْ) . اُسْتُدِلَّ بِهَذَا الْأَمْرِ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِعَاذَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِتْنَةُ الْمَحْيَا مَا يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ مِنْ الِافْتِتَانِ بِالدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ وَالْجَهَالَاتِ، وَأَعْظَمُهَا وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ أَمْرُ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أعوذ بك مِنْ الْمَغْرَمِ وَالْمَأْثَمِ» . الْمَغْرَمُ الدَّيْنُ، وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَهُ - صلى الله عليه وسلم - قَائِلٌ: مَا أَكْثَرُ مَا تَسْتَعِيذُ مِنْ الْمَغْرَمِ؟ فَقَالَ: «إنَّ الرَّجُلَ إذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ» .

(1/287)


بَابُ جَامِعِ أَدْعِيَةٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ 1018- عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي، قَالَ: «قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدَك وَارْحَمْنِي إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1019- وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ الْقَعْقَاعِ قَالَ: رَمَقَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُصَلِّي، فَجَعَلَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَوَسِّعْ لِي فِي دَارِي، وَبَارِكْ لِي فِيمَا رَزَقْتَنِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1020- وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ: ... «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُك شُكْرَ نِعْمَتِك وَحَسُنَ عِبَادَتِك، وَأَسْأَلُك قَلْبًا سَلِيمًا وَلِسَانًا صَادِقًا، وَأَسْأَلُك مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُك لِمَا تَعْلَمُ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 1021- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: ... «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 1022- وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةً فَأَوْجَزَ فِيهَا، فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ، فَقَالَ: أَلَمْ أُتِمَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ؟ فَقَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَمَا إنِّي دَعَوْت فِيهَا بِدُعَاءٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُو بِهِ: «اللَّهُمَّ بِعِلْمِك الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِك عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْت الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي، أَسْأَلُك خَشْيَتَك فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَلَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِك، وَالشَّوْقَ إلَى لِقَائِك، وَأَعُوذُ بِك مِنْ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَمِنْ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 1023- وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «إنِّي أُوصِيك بِكَلِمَاتٍ تَقُولُهُنَّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد.

(1/288)


1024- وَعَنْ عَائِشَة أَنَّهَا فَقَدَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَضْجَعِهَا، فَلَمَسَتْهُ بِيَدِهَا فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ وَهُوَ يَقُولُ: «رَبِّ أَعْطِ نَفْسِي تَقْوَاهَا زَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1025- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فَجَعَلَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ أَوْ فِي سُجُودِهِ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا، وَعَنْ شِمَالِي نُورًا، وَأَمَامِي نُورًا، وَخَلْفِي نُورًا، وَفَوْقِي نُورًا، وَتَحْتِي نُورًا، وَاجْعَلْ لِي نُورًا» . أَوْ قَالَ: «وَاجْعَلْنِي نُورًا» . مُخْتَصَرٌ مِنْ مُسْلِمٍ. قَوْلُهُ: «اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَرُوِيَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَيَقُولَ (كَثِيرًا كَبِيرًا) . قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ: يَنْبَغِي أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فَيَأْتِيَ مَرَّةً بِالْمُثَلَّثَةِ وَمَرَّةً بِالْمُوَحَّدَةِ، فَإِذَا أَتَى بِالدُّعَاءِ مَرَّتَيْنِ فَقَدْ نَطَقَ بِمَا نَطَقَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِيَقِينٍ، وَإِذَا أَتَى بِمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ لَمْ يَكُنْ آتِيًا بِالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَنْطِقْ بِهِ كَذَلِكَ. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَلا يَجْمَعُ بَيْنَ لَفْظَيِّ كَبِيرٍ وَكَثِيرٍ، بَلْ يَقُولُ هَذَا تَارَّةً وَهَذَا تَارَّةً. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ هَذَا الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِمَحَلِّهِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ مَوْطِنَيْنِ: السُّجُودِ أَوْ التَّشَهُّدِ لِأَنَّهُ أَمَرَ فِيهِمَا بِالدُّعَاءِ، وَقَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إلَى مَحَلِّهِ فَأَوْرَدَهُ فِي بَابِ الدُّعَاءِ قَبْلَ السَّلَامِ. بَابُ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ بِالسَّلَامِ 1026- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 1027- وَعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ أَرَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُسَلِّمُ

(1/289)


عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. 1028- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كُنَّا إذَا صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى الْجَانِبَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَامَ تُومِئُونَ بِأَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ إنَّمَا يَكْفِي أَحَدُكُمْ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ يُسَلِّمُ عَلَى أَخِيهِ مِنْ عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 1029- وَفِي رِوَايَةٍ: كُنَّا نُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «مَا بَالُ هَؤُلَاءِ يُسَلِّمُونَ بِأَيْدِيهِمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ إنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ ثُمَّ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 1030- وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُسَلِّمَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَأَنْ يُسَلِّمَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1031- وَأَبُو دَاوُد وَلَفْظُهُ: أُمِرْنَا أَنْ نَرُدَّ عَلَى الْإِمَامِ، وَأَنْ نَتَحَابَّ، وَأَنْ يُسَلِّمَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ. 1032- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «وَحَذْفُ التَّسْلِيمِ سُنَّةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مَوْقُوفًا وَصَحَّحَهُ. وقال ابن المبارك: معناه أن لا يمد مدًا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّسْلِيمَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَى تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ جَائِزَةٌ. وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ أَوْجَبَ التَّسْلِيمَتَيْنِ جَمِيعًا وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَبِهَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَنَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الظَّاهِرِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ. قَوْلُهُ: (عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ) فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ أَنْ يَكُونَ التَّسْلِيمُ إلَى جِهَةِ الْيَمِينِ ثُمَّ إلَى جِهَةِ الْيَسَارِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الِالْتِفَاتِ إلَى جِهَةِ

(1/290)


الْيَمِينِ وَإِلَى جِهَةِ الْيَسَارِ، وَزَادَ النَّسَائِيّ فَقَالَ: عَنْ يَمِينِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ، وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْسَرِ. قَوْلُهُ: (أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ) قَالَ الشَّارِحُ: جَمْعُ شَمُوسٍ وَهُوَ مِنْ الدَّوَابِّ النُّفُورِ الَّذِي يَمْتَنِعُ عَلَى رَاكِبِهِ، وَمِنْ الرِّجَالِ: صَعْبُ الْخُلُقِ. قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقُلْ (وَرَحْمَةُ اللَّهِ) أَجْزَأهُ. قَوْلُهُ: (أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُسَلِّمَ عَلَى أَئِمَّتِنَا) . قَالَ الشَّارِحُ: أَيْ نَرُدَّ السَّلَامَ عَلَيْهِمْ. قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ كَانَ الْمَأْمُومُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ فَيَنْوِي الرَّدَّ عَلَيْهِ بِالثَّانِيَةِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ يَسَارِهِ فَيَنْوِي الرَّدَّ عَلَيْهِ بِالْأُولَى، وَإِنْ حَاذَاهُ فِيمَا شَاءَ وَهُوَ فِي الْأُولَى أَحَبُّ. قَوْلُهُ: (وَأَنْ يُسَلِّمَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ) ظَاهِرُهُ شَامِلٌ لِلصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَلَكِنَّهُ قَيَّدَهُ الْبَزَّارُ بِالصَّلَاةِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ سَلَامُ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِينَ وَالْمَأْمُومِينَ عَلَى الْإِمَامِ وَسَلَامُ الْمُقْتَدِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَالتَّحَابُبُ: التَّوَادد. قَوْلُهُ: (حَذْفُ التَّسْلِيمِ سُنَّةٌ) . قَالَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْرِجَ لَفْظَ السَّلَامِ وَلَا يَمُدَّ مَدًّا لَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِبُّهُ أَهْلُ الْعِلْمِ. قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ: التَّكْبِيرُ جَزْمٌ وَالسَّلَامُ جَزْمٌ. بَابُ مَنْ اجْتَزَأَ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ 1033- عَنْ هِشَامٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَوْتَرَ بِتِسْعِ رَكَعَاتٍ لَمْ يَقْعُدْ إلَّا فِي الثَّامِنَةِ، فَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيَذْكُرُهُ وَيَدْعُو ثُمَّ يَنْهَضُ وَلَا يُسَلِّمُ ثُمَّ يُصَلِّي التَّاسِعَةَ فَيَجْلِسُ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَدْعُو ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً يُسْمِعُنَا، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ، فَلَمَّا كَبُرَ وَضَعُفَ أَوْتَرَ بِسَبْعِ رَكَعَاتٍ لَا يَقْعُدُ إلَّا فِي السَّادِسَةِ، ثُمَّ

(1/291)


يَنْهَضُ وَلَا يُسَلِّمُ فَيُصَلِّي السَّابِعَةَ، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 1034- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ حَتَّى يُوقِظَنَا. 1035- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْصِلُ بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ بِتَسْلِيمَةٍ يُسْمِعُنَاهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَنْ قَالَ بِمَشْرُوعِيَّةِ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَرَأَى قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً فِي الْمَكْتُوبَةِ، قَالَ: وَأَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تَسْلِيمَتَانِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. بَابٌ فِي كَوْنِ السَّلَامِ فَرِيضَةً 1036- قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» . 1037- وَعَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ الْحُرِّ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ قَالَ: أَخَذَ عَلْقَمَةُ بِيَدِي فَحَدَّثَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ أَخَذَ بِيَدِهِ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ اللَّهِ فَعَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ قَالَ: إذَا قُلْت هَذَا - أوَقَضَيْت هَذَا - فَقَدْ قَضَيْت صَلَاتَك، إنْ شِئْت أَنْ تَقُومَ فَقُمْ وَإِنْ شِئْت أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّ قَوْلَهُ: إذَا قَضَيْت هَذَا، فَقَدْ قَضَيْت صَلَاتَك. مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَصَلَهُ شَبَابَةُ عَنْ زُهَيْرٍ، وَجَعَلَهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَوْلُهُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ مِمَّنْ أَدْرَجَهُ، وَقَدْ اتَّفَقَ مَنْ رَوَى تَشَهُّدَ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى حَذْفِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا يُخَالِفُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ بِلَفْظِ: (مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ التَّكْبِيرُ وَانْقِضَاؤُهَا التَّسْلِيمُ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ فَقُمْ إنْ شِئْت) . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا ... الْأَثَرُ صَحِيحٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: قَدْ صَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ إيجَابُ السَّلَامِ فَرْضًا. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ السَّلَامِ. وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ

(1/292)


أَبُو حَنِيفَةَ وَالنَّاصِرُ. وَذَهَبَ إلَى الْوُجُوبِ أَكْثَرُ الْعِتْرَةِ وَالشَّافِعِيُّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ. بَابٌ فِي الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ 1038- عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْك السَّلَامُ، تَبَارَكْت يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ. 1039- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ حِينَ يُسَلِّمُ. لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ، وَلَهُ الْفَضْلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُهَلِّلُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 1040- وَعَنْ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: «لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» . مُتَّفَق عَلَيْهِ. 1041- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «خَصْلَتَانِ لَا يُحْصِيهِمَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ إلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهُمَا يَسِيرٌ وَمَنْ يَعْمَلُ بِهِمَا قَلِيلٌ، يُسَبِّحُ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ عَشْرًا، وَيُكَبِّرهُ عَشْرًا، وَيَحْمَدُهُ عَشْرًا» . قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْقِدُهَا بِيَدِهِ فَتِلْكَ خَمْسُونَ وَمِائَةٌ بِاللِّسَانِ، وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ فِي الْمِيزَانِ، وَإِذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ سَبَّحَ وَحَمِدَ وَكَبَّرَ مِائَةَ مَرَّةٍ، فَتِلْكَ مِائَةٌ بِاللِّسَانِ، وَأَلْفٌ بِالْمِيزَانِ رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 1042- وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا يُعَلِّمُ الْمُعَلِّمُ الْغِلْمَانَ الْكِتَابَةَ وَيَقُولُ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ دُبُرَ الصَّلَاةِ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ

(1/293)


بِكَ أَنْ أُرَدَّ إلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1043- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ إذَا صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ يُسَلِّمُ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 1044- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: «جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرِ، وَدُبُرُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. قَوْلُهُ: «لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ» قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: زَادَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ الْمُغِيرَةِ: «يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ إلَى قَدِيرٍ» . قَالَ: وَقَدْ اُشْتُهِرَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ فِي الذِّكْرِ الْمَذْكُورِ زِيَادَةٌ «وَلَا رَادَّ لِمَا قَضَيْت» وَهُوَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. قَوْلُهُ: (فَتِلْكَ خَمْسُونَ وَمِائَةٌ بِاللِّسَانِ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَذَلِكَ لِأَنَّ بَعْدَ كُلِّ صَلَاةٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ثَلَاثِينَ. قَالَ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَتَكْرِيرِهِ عَشْرِ مَرَّاتٍ. وَذَكَرَ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: وَكُلُّ مَا وَرَدَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْدَادِ فَحَسَنٌ إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي الْأَخْذُ بِالزَّائِدِ فَالزَّائِدِ. قَالَ: وَقَدْ وَرَدَتْ أَذْكَارٌ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ غَيْرَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. ثُمَّ ذَكَرَهَا إِلِى أَنْ قَالَ: وَوَرَدَ عَقِبَ الْمَغْرِبِ وَالْفَجْرِ بِخُصُوصِهِمَا عِنْدَ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ: «مَنْ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ مِنْهُمَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، عَشْرَ مَرَّاتٍ كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ وَكَانَ يَوْمَهُ فِي حِرْزٍ مِنْ الشَّيْطَانِ» . وَبَعْدَهُمَا أَيْضًا «قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ» عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: «اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنْ النَّارِ سَبْعَ مَرَّاتٍ» . وَعَقِبَ صَلَاةِ الْفَجْرِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ قَالَ فِي دُبُرِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَهُوَ ثَانٍ رِجْلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ وَرَفَعَ لَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ،

(1/294)


وَكَانَ يَوْمَهُ ذَلِكَ فِي حِرْزٍ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَحُرِسَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَلَمْ يَنْبَغِ لِذَنْبٍ أَنْ يُدْرِكَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إلَّا الشِّرْكَ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا ... النَّسَائِيّ وَزَادَ فِيهِ: «بِيَدِهِ الْخَيْرِ» . وَعَقِبِ الْمَغْرِبِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُمَارَةَ بْنِ شَبِيبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ عَلَى أَثَرِ الْمَغْرِبِ، بَعَثَ اللَّهُ لَهُ مَلَائِكَةً يَحْفَظُونَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ حَتَّى يُصْبِحَ. وَيُكْتَبُ لَهُ بِهَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ مُوبِقَاتٍ وَكَانَتْ لَهُ بِعَدْلِ عَشْرِ رَقَبَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ» . وَفِي إسْنَادِهِ رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ وَفِيهِ مَقَالٌ. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَيُسْتَحَبُّ الْجَهْرَ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ عُقَيْبِ الصَّلاةِ، وَقَالَهُ بَعْضُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. انْتَهَى. قُلْتُ: وَهُوَ الصَّوَابُ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتَ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. بَابُ الِانْحِرَافِ بَعْدَ السَّلَامِ وَقَدْرُ اللُّبْثِ بَيْنَهُمَا وَاسْتِقْبَالُ الْمَأْمُومِينَ 1045- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْك السَّلَامُ، تَبَارَكْت يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. 1046- وَعَنْ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 1047- وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كُنَّا إذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ فَيُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 1048- وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَجَّةَ الْوَدَاعِ قَالَ: فَصَلَّى بِنَا صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ انْحَرَفَ جَالِسًا فَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ بِوَجْهِهِ وَذَكَرَ قِصَّةَ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا قَالَ: وَنَهَضَ النَّاسُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَهَضْت مَعَهُمْ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ أَشَبُّ الرِّجَالِ وَأَجْلَدُهُ قَالَ: فَمَا

(1/295)


زِلْت أَزْحَمُ النَّاسَ حَتَّى وَصَلْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخَذْت بِيَدِهِ فَوَضَعْتهَا إمَّا عَلَى وَجْهِي أَوْ صَدْرِي قَالَ: فَمَا وَجَدْت شَيْئًا أَطْيَبَ وَلَا أَبْرَدَ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: وَهُوَ يَوْمَئِذٍ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1049- وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا أَنَّهُ صَلَّى الصُّبْحَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ: ثُمَّ ثَارَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ بِيَدِهِ يَمْسَحُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ، قَالَ: فَأَخَذْت بِيَدِهِ فَمَسَحْت بِهَا وَجْهِي فَوَجَدْتهَا أَبْرَدَ مِنْ الثَّلْجِ وَأَطْيَبَ رِيحًا مِنْ الْمِسْكِ. 1050- وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْهَاجِرَةِ إلَى الْبَطْحَاءِ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ تَمُرُّ مِنْ وَرَائِهَا الْمَرْأَةُ، وَقَامَ النَّاسُ فَجَعَلُوا يَأْخُذُونَ يَدَيْهِ فَيَمْسَحُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ قَالَ: فَأَخَذْت بِيَدِهِ فَوَضَعْتهَا عَلَى وَجْهِي، فَإِذَا هِيَ أَبْرَدُ مِنْ الثَّلْجِ وَأَطْيَبُ رَائِحَةً مِنْ الْمِسْكِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: اسْتِدْبَارُ الْإِمَامِ الْمَأْمُومِينَ إنَّمَا هُوَ لِحَقِّ الْإِمَامَةِ فَإِذَا انْقَضَتْ الصَّلَاةُ زَالَ السَّبَبُ وَاسْتِقْبَالُهُمْ حِينَئِذٍ يَرْفَعُ الْخُيَلَاءَ وَالتَّرَفُّعَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ. قَوْلُهُ: (ثُمَّ انْحَرَفَ جَالِسَا فَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ بِوَجْهِهِ) . الْحَدِيث. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ. قَالَ: وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ التَّبَرُّكِ بِمُلَامَسَةِ أَهْلِ الْفَضْلِ لِتَقْرِيرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَهُ عَلَى ذَلِكَ. بَابُ جَوَازِ الِانْحِرَافِ عَنْ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ 1051- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَا يَجْعَلَنَّ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ شَيْئًا مِنْ صَلَاتِهِ يَرَى أَنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ إلَّا عَنْ يَمِينِهِ، لَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَثِيرًا يَنْصَرِفُ عَنْ يَسَارِهِ. 1052- وَفِي لَفْظٍ: «أَكْثَرُ انْصِرَافِهِ عَنْ يَسَارِهِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ.

(1/296)


1053- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَكْثَرُ مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْصَرِفُ عَنْ يَمِينِهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 1054- وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ هُلْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَؤُمُّنَا فَيَنْصَرِفُ عَنْ جَانِبَيْهِ جَمِيعًا عَلَى يَمِينِهِ وَعَلَى شِمَالِهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: صَحَّ الْأَمْرَانِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قَوْلُهُ: «لَا يَجْعَلَنَّ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ شَيْئًا مِنْ صَلَاتِهِ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: فِيهِ أَنَّ الْمَنْدُوبَاتِ قَدْ تَنْقَلِبُ مَكْرُوهَاتٍ إذَا رُفِعَتْ عَنْ رُتْبَتِهَا؛ لِأَنَّ التَّيَامُنَ مُسْتَحَبٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَكِنْ لَمَّا خَشِيَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنْ يَعْتَقِدُوا وُجُوبَهُ، أَشَارَ إلَى كَرَاهَتِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ هُلْبٍ: وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ: وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَتْ حَاجَتُهُ عَنْ يَمِينِهِ، أَخَذَ عَنْ يَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ حَاجَتُهُ عَنْ يَسَارِهِ أَخَذَ عَنْ يَسَارِهِ. بَابُ لُبْثِ الْإِمَامِ بِالرِّجَالِ قَلِيلًا لِيَخْرُجَ مَنْ صَلَّى مَعَهُ مِنْ النِّسَاءِ 1055- عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ وَهُوَ يَمْكُثُ فِي مَكَانِهِ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ قَالَتْ: فَنَرَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِكَيْ يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ الرِّجَالُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ فِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ مُرَاعَاةُ أَحْوَالِ الْمَأْمُومِينَ وَالِاحْتِيَاطُ فِي اجْتِنَابِ مَا قَدْ يَفْضِي إلَى الْمَحْذُورِ، وَاجْتِنَابُ مَوَاقِعِ التُّهَمِ وَكَرَاهَةُ مُخَالَطَةِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الطُّرُقَاتِ فَضْلًا عَنْ الْبُيُوتِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِحُضُورِ النِّسَاءِ الْجَمَاعَةَ فِي الْمَسْجِدِ. بَابُ جَوَازِ عَقْدِ التَّسْبِيحِ بِالْيَدِ وَعَدِّهِ بِالنَّوَى وَنَحْوِهِ 1056- وَعَنْ بُسَيْرَةَ وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ قَالَتْ: قَالَ لَنَا

(1/297)


.. رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَيْكُنَّ بِالتَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ وَلَا تَغْفُلْنَ فَتُنْسَيْنَ الرَّحْمَةَ وَاعْقِدْنَ بِالْأَنَامِلِ فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 1057- وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى امْرَأَةٍ وَبَيْنَ يَدَيْهَا نَوًى أَوْ حَصًى تُسَبِّحُ بِهِ، فَقَالَ: « (أُخْبِرُكِ بِمَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكِ مِنْ هَذَا أَوْ أَفْضَلُ. سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي السَّمَاءِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقٌ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 1058- وَعَنْ صَفِيَّةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبَيْنَ يَدَيَّ أَرْبَعَةُ آلَافِ نَوَاةٍ أُسَبِّحُ بِهَا، فَقَالَ: «لَقَدْ سَبَّحْت بِهَذَا أَلَا أُعَلِّمُك بِأَكْثَرَ مِمَّا سَبَّحْت بِهِ» ؟ فَقَالَتْ: عَلِّمْنِي فَقَالَ: «قُولِي: سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ عَقْدِ الْأَنَامِلِ بِالتَّسْبِيحِ. قال: وهو أَوْلَى مِنْ السُّبْحَةِ وَالْحَصَى، وَالْحَدِيثَانِ الْآخَرَانِ يَدُلَّانِ عَلَى جَوَازِ عَدِّ التَّسْبِيحِ بِالنَّوَى وَالْحَصَى وَكَذَا بِالسُّبْحَةِ لِعَدَمِ الْفَارِقِ لِتَقْرِيرِهِ - صلى الله عليه وسلم - لِلْمَرْأَتَيْنِ عَلَى ذَلِكَ. وَعَدَمُ إنْكَارِهِ وَالْإِرْشَادُ إلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ لَا يُنَافِي الْجَوَازَ.

(1/298)


أَبْوَابُ مَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَمَا يُكْرَهُ وَيُبَاحُ فِيهَا بَابُ النَّهْيِ عَنْ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ 1059- عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ يُكَلِّمُ الرَّجُلُ مِنَّا صَاحِبَهُ وَهُوَ إلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ، وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. 1060- وَلِلتِّرْمِذِيِّ فِيهِ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الصَّلَاةِ. 1061- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْك فِي الصَّلَاةِ فَتَرُدُّ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ: «إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1062- وَفِي رِوَايَةٍ: كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ كُنَّا بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ نَأْتِيَ أَرْضَ الْحَبَشَةِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ أَتَيْنَاهُ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ فَأَخَذَنِي مَا قَرُبَ وَمَا بَعُدَ حَتَّى قَضَوْا الصَّلَاةَ، فَسَأَلْته فَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أَنْ لَا نَتَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 1063- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيُّ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ ... رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ، فَقُلْت يَرْحَمُك اللَّهُ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ

(1/299)


بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْت: وَاثُكْلَ أُمَّاهُ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إلَيَّ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يَصْمُتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَبِأَبِي وَأُمِّي مَا رَأَيْت مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ فَوَاَللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي قَالَ: «إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» . أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ: لَا يَحِلُّ مَكَانَ لَا يَصْلُحُ. 1064- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: «إنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّحْمِيدُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ عَامِدًا وَهُوَ لَا يُرِيدُ إصْلَاحَ صَلَاتِهِ أَنَّ صَلَاتَهُ فَاسِدَةٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي كَلَامِ السَّاهِي وَالْجَاهِلِ. قَوْلُهُ: (حَتَّى نَزَلَتْ {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ إطْلَاقُ الْقُنُوتِ عَلَى السُّكُوتِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ كَانَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ؛ لِأَنَّ زَيْدًا مَدَنِيٌّ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الصَّلَاةِ إلَى أَنْ نُهُوا. قَوْلُهُ: (فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يَصْمُتُونَنِي، لَكِنِّي سَكَتُّ) . قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: يُرِيدُ لَمْ أَتَكَلَّمْ لَكِنِّي سَكَتُّ. قَوْلُهُ: (فَبِأَبِي وَأُمِّي) . قَالَ الشَّارِحُ: مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ «أَفْدِيهِ بِأَبِي وَأُمِّي» . قَوْلُهُ: «لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ» . قَالَ الشَّارِحُ: اُسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى تَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ سَوَاءٌ كَانَ لِحَاجَةٍ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا فَإِنْ احْتَاجَ إلَى تَنْبِيهٍ أَوْ إذْنٍ لِدَاخِلٍ سَبَّحَ الرَّجُلُ وَصَفَّقَتْ الْمَرْأَةُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنَّهُ يَجُوزُ الْكَلَامُ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ.

(1/300)


قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ مِنْ الصَّلَاةِ وَأَنَّ الْقِرَاءَةَ فَرْضٌ، وَكَذَلِكَ التَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَأَنَّ تَشْمِيتَ الْعَاطِسِ مِنْ الْكَلَامِ الْمُبْطِلِ وَأَنَّ مَنْ فَعَلَهُ جَاهِلًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ حَيْثُ لَمْ يَأْمُرْ بِالْإِعَادَةِ. بَابُ أَنَّ مَنْ دَعَا فِي صَلَاتِهِ بِمَا لَا يَجُوزُ جَاهِلًا لَمْ تَبْطُلْ 1065- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى الصَّلَاةِ وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: «لَقَدْ تَحَجَّرْت وَاسِعًا» . يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ) . قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: وَسِعَتْ فِي الدُّنْيَا الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ وَهِيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لِلْمُتَّقِينَ خَاصَّةً، جَعَلَنَا اللَّهُ مِمَّنْ وَسِعَتْهُ رَحْمَتُهُ فِي الدَّارَيْنِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي النَّحْنَحَةِ وَالنَّفْخِ فِي الصَّلَاةِ 1066- عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ لِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَدْخَلَانِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَكُنْت إذَا دَخَلْت عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي يَتَنَحْنَحُ لِي. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ بِمَعْنَاهُ. 1067- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَفَخَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا. 1068- وَرَوَى أَحْمَدُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ. 1069- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: النَّفْخُ فِي الصَّلَاةِ كَلَامٌ. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ.

(1/301)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّنَحْنُحَ فِي الصَّلَاةِ غَيْرُ مُفْسِدٍ. قَوْلُهُ: (نَفَخَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ فُسِّرَ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: أُفْ، أُفْ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ مَنْ قَالَ أَنَّ النَّفْخَ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يُفْسِدُ الصَّلَاة بِأَحَادِيثِ النَّهْيِ عَنْ الْكَلَامِ، وَالنَّفْخُ كَلَامٌ. وَأُجِيبُ بِمَنْعِ كَوْنِ النَّفْخِ مِنْ الْكَلَامِ لِمَا عَرَفْت مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ مُتَرَكِّبٌ مِنْ الْحُرُوفِ الْمُعْتَمِدَةِ عَلَى الْمَخَارِجِ وَلَا اعْتِمَادَ فِي النَّفْخِ. وَأَيْضًا الْكَلَامُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ هُوَ الْمُكَالَمَةُ، وَلَوْ سَلِمَ صَدَقَ اسْمُ الْكَلَامِ عَلَى النَّفْحِ لَكَانَ فِعْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - لِذَلِكَ فِي الصَّلَاة مُخَصِّصًا لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ الْكَلَامِ. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَالنَّفْخُ إِذَا بَانَ مِنْهُ حَرْفَان هَلْ تَبْطُلُ الصَّلاة بِهِ أَمْ لا؟ فِي الْمَسْأَلَةِ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدٍ رِوَايَتَانِ وَظَاهِرُ كَلامِ ابن عَبَّاسٍ تَرْجِيح عَدَم الإِبْطَالِ وَالسُّعَالِ وَالْعطَاسِ وَالتَّثَاؤُبِ وَالْبُكَاءِ وَالتَّأَوُّهِ وَالأَنِينِ الَّذِي يُمْكِنُ دَفْعَهُ فَهَذِهِ الأَشْيَاءِ كَالنَّفْخِ فَالأَوْلَى أَنْ لا تَبْطُل فَإِنَّ النَّفْخَ أَشْبَهُ بِالْكَلامِ مِنْ هَذِهِ. انْتَهَى. بَابُ الْبُكَاءِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} 1070- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ قَالَ: رَأَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنْ الْبُكَاءِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 1071- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَعُهُ، قِيلَ لَهُ: الصَّلَاةُ، قَالَ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» . فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إذَا قَرَأَ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ، فَقَالَ: «مُرُوهُ فَلْيُصَلِّ» . فَعَاوَدَتْهُ، فَقَالَ: «مُرُوهُ فَلْيُصَلِّ إنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 1072- وَمَعْنَاهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبُكَاءَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ سَوَاءٌ ظَهَرَ مِنْهُ حَرْفَانِ أَمْ لَا.

(1/302)


بَابُ حَمْدِ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ لِعَاطِسٍ أَوْ حُدُوثِ نِعْمَةٍ 1073- عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: صَلَّيْت خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَعَطَسْت فَقُلْت الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى فَلَمَّا صَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ الْمُتَكَلِّمُ فِي الصَّلَاةِ» . فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَهَا الثَّالِثَةَ، فَقَالَ رِفَاعَةُ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ ابْتَدَرَهَا بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ مَلَكًا أَيُّهُمْ يَصْعَدُ بِهَا» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ إحْدَاثِ ذِكْرٍ فِي الصَّلَاةِ غَيْرِ مَأْثُورٍ إذَا كَانَ غَيْرَ مُخَالِفٍ لِلْمَأْثُورِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْحَمْدِ فِي الصَّلَاةِ لِمَنْ عَطَسَ. بَابُ مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يُسَبِّحُ وَالْمَرْأَةُ تُصَفِّقُ 1074- عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ فَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ» . 1075- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: كَانَتْ لِي سَاعَةٌ مِنْ السَّحَرِ أَدْخُلُ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنْ كَانَ قَائِمًا يُصَلِّي سَبَّحَ لِي فَكَانَ ذَلِكَ إذْنَهُ لِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي أَذِنَ لِي. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1076- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ فِي الصَّلَاةِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ: «فِي الصَّلَاةِ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ» أَيْ نَزَلَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْحَوَادِثِ وَالْمُهِمَّاتِ وَأَرَادَ إعْلَامَ غَيْرِهِ كَإِذْنِهِ لِدَاخِلٍ وَإِنْذَارِهِ لِأَعْمَى وَتَنْبِيهِهِ لِسَاهٍ أَوْ غَافِلٍ. قال: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّسْبِيحِ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقِ لِلنِّسَاءِ إذَا نَابَ أَمْرٌ مِنْ الْأُمُورِ، وَهِيَ تَرُدُّ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ

(1/303)


فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ التَّسْبِيحُ دُونَ التَّصْفِيقِ وَعَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ فَسَادِ صَلَاةِ الْمَرْأَةِ إذَا صَفَّقَتْ فِي صَلَاتِهَا. بَابُ الْفَتْحِ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ 1077- عَنْ مُسَوَّرَ بْنِ يَزِيدَ الْمَالِكِيِّ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَرَكَ آيَةً فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ آيَةُ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: «فَهَلَّا ذَكَّرْتَنِيهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ. 1078- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى صَلَاةً فَقَرَأَ فِيهَا فَلَبَسَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لِأَبِي: «أَصْلَيْت مَعَنَا» ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَمَا مَنَعَك» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْفَتْحِ عَلَى الْإِمَامِ. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَلا تَبْطُلُ الصَّلاةَ بِكَلامِ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدٍ وَلا بِمَا إِذَا أُبْدِلَ ضَادًا بِظَاءٍ وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدٍ، وَقَالَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ. بَابُ الْمُصَلِّي يَدْعُو وَيَذْكُرُ اللَّهَ إذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ أَوْ عَذَابٍ أَوْ ذِكْرٍ 1079- رَوَاهُ حُذَيْفَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ سَبَقَ. 1080- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي صَلَاةٍ لَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ فَمَرَّ بِذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَقَالَ: «أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارِ وَيْلٌ لِأَهْلِ النَّارِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ بِمَعْنَاهُ. 1081- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كُنْت أَقُومُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ التَّمَامِ فَكَانَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَآلَ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءَ فَلَا يَمُرُّ بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ إلَّا دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَاسْتَعَاذَ، وَلَا يَمُرُّ بِآيَةٍ فِيهَا اسْتِبْشَارٌ إلَّا دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَرَغِبَ إلَيْهِ رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1082- وَعَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يُصَلِّي فَوْقَ بَيْتِهِ وَكَانَ إذَا قَرَأَ {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} . قَالَ: سُبْحَانَك فَبَلَى

(1/304)


فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ. سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 1083- وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قُمْت مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَبَدَأَ فَاسْتَاكَ وَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى فَبَدَأَ فَاسْتَفْتَحَ الْبَقَرَةَ لَا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إلَّا وَقَفَ فَسَأَلَ، قَالَ: وَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إلَّا وَقَفَ فَتَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ فَمَكَثَ رَاكِعًا بِقَدْرِ قِيَامِهِ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ، وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ، ثُمَّ سَجَدَ بِقَدْرِ رُكُوعِهِ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ، وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ، ثُمَّ قَرَأَ آلَ عِمْرَانَ ثُمَّ سُورَةً سُورَةً، ثُمَّ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد وَلَمْ يَذْكُرْ الْوُضُوءَ وَلَا السِّوَاكَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (لَيْلَةَ التَّمَامِ) أَيْ لَيْلَةَ تَمَامِ الْبَدْرِ. قَوْلُهُ: (لَا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إلَّا وَقَفَ فَسَأَلَ، وَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إلَّا وَقَفَ فَتَعَوَّذَ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ هَذِهِ الْأُمُورِ لِكُلِّ قَارِئٍ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا يَعْنِي فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ. بَابُ الْإِشَارَةِ فِي الصَّلَاةِ لِرَدِّ السَّلَامِ أَوْ حَاجَةٍ تَعْرِضُ 1084- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قُلْت لِبِلَالٍ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرُدُّ عَلَيْهِمْ حِينَ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ؟ ، قَالَ: يُشِيرُ بِيَدِهِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ وَابْنِ مَاجَهْ صُهَيْبًا مَكَانُ بِلَالٍ. 1085- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّهُ قَالَ: مَرَرْت بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُصَلِّي، فَسَلَّمْت، فَرَدَّ إلَيَّ إشَارَةً، وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ إشَارَةً بِأُصْبُعِهِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: كِلَا الْحَدِيثَيْنِ عِنْدِي صَحِيحٌ. 1086- وَقَدْ صَحَّتْ الْإِشَارَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ رِوَايَةِ أُمِّ سَلَمَةَ فِي حَدِيثِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ. 1087، 1088- وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَجَابِرٍ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ جَالِسًا فِي

(1/305)


مَرَضٍ لَهُ فَقَامُوا خَلْفَهُ فَأَشَارَ إلَيْهِمْ أَنْ اجْلِسُوا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُسَلِّمَ غَيْرُ الْمُصَلِّي عَلَى الْمُصَلِّي لِتَقْرِيرِهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ عَلَى ذَلِكَ وَجَوَازِ تَكْلِيمِ الْمُصَلِّي بِالْغَرَضِ الَّذِي يَعْرِضُ لِذَلِكَ وَجَوَازِ الرَّدِّ بِالْإِشَارَةِ. بَابُ كَرَاهَةِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ إلَّا مِنْ حَاجَةٍ 1089- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِيَّاكَ وَالِالْتِفَاتَ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الِالْتِفَاتَ فِي الصَّلَاةِ هَلَكَةٌ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَفِي التَّطَوُّعِ لَا فِي الْفَرِيضَةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1090- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ التَّلَفُّتِ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْعَبْدِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 1091- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَزَالُ اللَّهُ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فَإِذَا صَرَفَ وَجْهَهُ انْصَرَفَ عَنْهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 1092- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ قَالَ: ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ: يَعْنِي صَلَاةَ الصُّبْحِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وَهُوَ يَلْتَفِتُ إلَى الشِّعْبِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد قَالَ: وَكَانَ أَرْسَلَ فَارِسًا إلَى الشِّعْبِ مِنْ اللَّيْلِ يَحْرُسُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: سَمَّى الِالْتِفَاتَ هَلَكَةً بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ سَبَبًا لِنُقْصَانِ الثَّوَابِ الْحَاصِلِ بِالصَّلَاةِ أَوْ لِكَوْنِهِ نَوْعًا مِنْ تَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ وَاخْتِلَاسِهِ، فَمَنْ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ كَانَ مِنْ الْمُتَّبِعِينَ لِلشَّيْطَانِ، وَاتِّبَاعُ الشَّيْطَانِ هَلَكَةٌ أَوْ لِأَنَّهُ إعْرَاضٌ عَنْ التَّوَجُّهِ إلَى اللَّهِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ عَزَّ وَجَلَّ هَلَكَةٌ. قَوْلُهُ: (فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَفِي التَّطَوُّعِ لَا فِي الْفَرِيضَةِ) فِيهِ الْإِذْنُ بِالِالْتِفَاتِ لِلْحَاجَةِ فِي التَّطَوُّعِ وَالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ. قال: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا

(1/306)


كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ مَا لَمْ يَبْلُغْ إلَى حَدِّ اسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ. وَالْحِكْمَةُ فِي التَّنْفِيرِ عَنْهُ مَا فِيهِ مِنْ نَقْصِ الْخُشُوعِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَعَدَمِ التَّصْمِيمِ عَلَى مُخَالَفَةِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ. قَوْلُهُ: (فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وَهُوَ يَلْتَفِتُ إلَى الشِّعْبِ) . قال الْحَازِمِيُّ: يحتمل أن الشعب كان في جهة القبلة. وَقَالَ: لَا بَأْسَ بِالِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ مَا لَمْ يَلْوِ عُنُقَهُ، يعني إذا كان لحاجة. بَابُ كَرَاهَةِ تَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ وَفَرْقَعَتِهَا وَالتَّخَصُّرِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْيَدِ إلَّا لِحَاجَةٍ 1093- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا يُشَبِّكَنَّ فَإِنَّ التَّشْبِيكَ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَزَالُ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1094- وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إلَى الصَّلَاةِ فَلَا يُشَبِّكَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 1095- وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلًا قَدْ شَبَّكَ أَصَابِعَهُ فِي الصَّلَاةِ فَفَرَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَصَابِعِهِ. 1096- وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا تُفَقِّعْ أَصَابِعَك فِي الصَّلَاةِ» . رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ. 1097- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ التَّخَصُّرِ فِي الصَّلَاةِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. 1098- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ مُعْتَمِدٌ عَلَى يَدِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُد: نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَهُوَ مُعْتَمِدٌ عَلَى يَدِهِ. 1099- وَعَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مُحَصِّنٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا أَسَنَّ وَحَمَلَ

(1/307)


اللَّحْمَ اتَّخَذَ عَمُودًا فِي مُصَلَّاهُ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ فِيهِ كَرَاهَةُ التَّشْبِيكِ مِنْ وَقْتِ الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ. وَفِيهِ أَنَّهُ يُكْتَبُ لِقَاصِدِ الصَّلَاةِ أَجْرُ الْمُصَلِّي مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إلَى أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: 1100- وَقَدْ ثَبَتَ فِي خَبَرِ ذِي الْيَدَيْنِ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - شَبَّكَ أَصَابِعَهُ فِي الْمَسْجِدِ. وَذَلِكَ يُفِيدُ عَدَمَ التَّحْرِيمِ وَلَا يَمْنَعُ الْكَرَاهَةَ لِكَوْنِهِ فَعَلَهُ نَادِرًا. قَالَ الشَّارِحُ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ تَشْبِيكَهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثِ السَّهْوِ كَانَ لِاشْتِبَاهِ الْحَالِ عَلَيْهِ فِي السَّهْوِ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ. وَلِذَلِكَ وَقَفَ كَأَنَّهُ غَضْبَانُ. فَأَمَّا حَدِيثُ الْبَابِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّشْبِيكِ لِلْعَبَثِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ وَمُقَدِّمَاتِهَا وَلَوَاحِقِهَا. قَوْلُهُ: (لَا تُفَقِّعْ أَصَابِعَك فِي الصَّلَاةِ) التَّفْقِيعُ: الْفَرْقَعَةُ. قَالَ الشَّارِحُ: وَهُوَ غَمْزُ الْأَصَابِعِ حَتَّى يُسْمَعَ لَهَا صَوْتٌ. قال: والتخصر وضع اليد على الخاصرة. قَوْلُهُ: (نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ مُعْتَمِدٌ عَلَى يَدِهِ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ بِجَمِيعِ أَلْفَاظِهِ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْجُلُوسِ وَعِنْدَ النُّهُوضِ وَفِي مُطْلَقِ الصَّلَاةِ. وَظَاهِرُ النَّهْيِ التَّحْرِيمُ. قال: وَحَدِيثُ أُمِّ قَيْسٍ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْعَمُودِ وَالْعَصَا وَنَحْوِهِمَا، لَكِنْ مُقَيَّدًا بِالْعُذْرِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي مَسْحِ الْحَصَى وَتَسْوِيَتِهِ 1101- عَنْ مُعَيْقِيبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي الرَّجُلِ يُسَوِّي التُّرَابَ حَيْثُ يَسْجُدُ: إنْ كُنْتَ فَاعِلًا فَوَاحِدَةً. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 1102- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ فَلَا يَمْسَحْ الْحَصَى» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ.

(1/308)


1103- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى سَأَلْته عَنْ مَسْحِ الْحَصَى فَقَالَ: «وَاحِدَةً أَوْ دَعْ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الْمَسْحِ عَلَى الْحَصَى، وَفِيهِ الْإِذْنُ بِمَسْحَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ. بَابُ كَرَاهَةِ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مَعْقُوصَ الشَّعْرِ 1104- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ يُصَلِّي وَرَأْسُهُ مَعْقُوصٌ إلَى وَرَائِهِ فَجَعَلَ يَحُلُّهُ وَأَقَرَّ لَهُ الْآخَرُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ مَا لَك وَرَأْسِي؟ قَالَ: إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إنَّمَا مَثَلُ هَذَا كَمَثَلِ الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مَكْتُوفٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 1105- وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَرَأْسُهُ مَعْقُوصٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 1106- وَلِأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ مَعْنَاهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى كَرَاهَةِ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَهُوَ مَعْقُوصُ الشَّعْرِ أَوْ مَكْفُوفُهُ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الشَّعْرَ يَسْجُدُ مَعَهُ إذَا سَجَدَ، وَفِيهِ امْتِهَانٌ لَهُ فِي الْعِبَادَةِ. قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلَيْهِ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَرَأَى فِيهِ رَجُلًا يُصَلِّي عَاقِصًا شَعْرَهُ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إذَا صَلَّيْت فَلَا تَعْقِصْ شَعْرَك فَإِنَّ شَعْرَك يَسْجُدُ مَعَك، وَلَك بِكُلِّ شَعْرَةٍ أَجْرٌ. فَقَالَ الرَّجُلُ: إنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَتَرَّبَ فَقَالَ: تَتْرِيبُهُ خَيْرٌ لَك. بَابُ كَرَاهَةِ تَنَخُّمِ الْمُصَلِّي قِبَلَهُ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ 1107- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى نُخَامَةً فِي جِدَارِ الْمَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَ حَصَاةً فَحَتَّهَا وَقَالَ: «إذَا تَنَخَّمَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَخَّمْنَ قِبَلَ وَجْهِهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(1/309)


1108- وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «فَيَدْفِنُهَا» . 1109- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَا يَبْزُقَنَّ قِبَلَ قِبْلَتِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ» ، ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ وَرَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 1110- وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ نَحْوُهُ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: ظَاهِرُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَرَاهَةُ ذَلِكَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: لا بَأْسَ بِهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ. وَقَالَ مُعَاذٌ بن جَبَلٍ: مَا بَصَقْتُ عَن يَمِيني منذُ أسْلَمتُ. وَلِأَبِي دَاوُد وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ السَّائِبِ اْنِ خَلَّادٍ أَنَّ رَجُلًا أَمَّ قَوْمًا فَبَصَقَ فِي الْقِبْلَةِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُصَلِّي لَكُمْ» . الْحَدِيثَ. وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّك آذَيْت اللَّهَ وَرَسُولَهُ» . بَابٌ فِي أَنَّ قَتْلَ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْمَشْيَ الْيَسِيرَ لِلْحَاجَةِ لَا يُكْرَهُ 1111- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِقَتْلِ الْأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ: الْعَقْرَبِ وَالْحَيَّةِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 1112- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فِي الْبَيْتِ وَالْبَابُ عَلَيْهِ مُغْلَقٌ فَجِئْت فَمَشَى حَتَّى فَتَحَ لِي ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَقَامِهِ وَوَصَفَتْ أَنَّ الْبَابَ فِي الْقِبْلَةِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهِيَةٍ وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَفِي مَعْنَى الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ كُلُّ ضِرَارٍ مُبَاحُ الْقَتْلِ كَالزَّنَابِيرِ وَنَحْوِهَا.

(1/310)


قَالَ الشَّارِحُ: وَحَدِيثُ عائشةِ يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ الْمَشْيِ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ لِلْحَاجَةِ. بَابٌ فِي أَنَّ عَمَلَ الْقَلْبِ لَا يَبْطُلُ وَإِنْ طَالَ 1113- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ الْأَذَانَ، فَإِذَا قُضِيَ الْأَذَانُ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا أَدْبَرَ، فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ يَقُولُ: اُذْكُرْ كَذَا اُذْكُرْ كَذَا لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَضِلَّ الرَّجُلُ إنْ يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا صَلَّى، أَوْ أَرْبَعًا فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ عُمَرُ: «إنِّي لَأُجَهِّزُ جَيْشِي وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَسْوَسَةَ فِي الصَّلَاةِ لَيْسَتْ مُبْطِلَة لَهَا وَكَذَا سَائِرُ الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ. بَابُ الْقُنُوتِ فِي الْمَكْتُوبَةِ عِنْدَ النَّوَازِلِ وَتَرْكِهِ فِي غَيْرِهَا 1114- عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: قُلْت لِأَبِي: يَا أَبَتِ إنَّك قَدْ صَلَّيْت خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ هَا هُنَا بِالْكُوفَةِ قَرِيبًا مِنْ خَمْسِ سِنِينَ أَكَانُوا يَقْنُتُونَ؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ مُحْدَثٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1115- وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَكَانُوا يَقْنُتُونَ فِي الْفَجْرِ؟ . 1116- وَالنَّسَائِيُّ وَلَفْظُهُ قَالَ: صَلَّيْت خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَقْنُتْ، وَصَلَّيْت خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَقْنُتْ، وَصَلَّيْت خَلْفَ عُمَرَ فَلَمْ يَقْنُتْ، وَصَلَّيْت خَلْفَ عُثْمَانَ فَلَمْ يَقْنُتْ، وَصَلَّيْت خَلْفَ عَلِيٍّ فَلَمْ يَقْنُتْ، ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ بِدْعَةٌ. 1117- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَنَتَ شَهْرًا ثُمَّ تَرَكَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

(1/311)


1118- وَفِي لَفْظٍ: قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ ثُمَّ تَرَكَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. 1119- وَفِي لَفْظٍ: قَنَتَ شَهْرًا حِينَ قُتِلَ الْقُرَّاءُ فَمَا رَأَيْته حَزِنَ حُزْنًا قَطُّ أَشَدَّ مِنْهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 1120- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ الْقُنُوتُ فِي الْمَغْرِبِ وَالْفَجْرِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 1121- وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْفَجْرِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1122- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِنْ الْفَجْرِ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا بَعْدَ مَا يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبّنَا وَلَك الْحَمْدُ» . فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} إلَى قَوْلِهِ: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 1123- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى أَحَد، أَوْ يَدْعُوَ لِأَحَدٍ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَرُبَّمَا قَالَ: إذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتَك عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ قَالَ: يَجْهَرُ بِذَلِكَ. وَيَقُولُ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ. اللَّهُمَّ: الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا حَيَّيْنِ مِنْ الْعَرَبِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الْآيَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 1124- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الْعِشَاءَ إذْ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ: اللَّهُمَّ نَجِّ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ. اللَّهُمَّ نَجِّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتَك عَلَى مُضَرَ. اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 1125- وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ: لَأَقْرَبَنَّ بِكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَكَانَ أَبُو

(1/312)


هُرَيْرَةَ يَقْنُتُ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَصَلَاةِ الصُّبْحِ بَعْدَ مَا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1126- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: وَصَلَاةِ الْعَصْرِ مَكَانَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ. 1127- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَهْرًا مُتَتَابِعًا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ، إذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، عَلَى حَيٍّ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَلَى رَعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَيُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 1128- وَأَحْمَدُ وَزَادَ: أَرْسَلَ إلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَقَتَلُوهُمْ، قَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ هَذَا مِفْتَاحُ الْقُنُوتِ. قَوْلُهُ: (يَا أَبَتِ إنَّك قَدْ صَلَّيْت خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -) إِلَى آخِرِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الْقُنُوتِ وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. إِلِى أَنْ قَالَ: الْحَقُّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقُنُوتَ مُخْتَصٌّ بِالنَّوَازِلِ وَإِنَّهُ يَنْبَغِي عِنْدَ نُزُولِ النَّازِلَةِ أَنْ لَا تُخَصَّ بِهِ صَلَاةٌ دُونَ صَلَاةٍ. قال: وَلَوْ صَحَّ حَدِيث أَنَسٍ: (فَأَمَّا الصُّبْحُ فَلَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا) . لَكَانَ قَاطِعًا لِلنِّزَاعِ، وَلَكِنَّهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيّ قَالَ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: إنَّهُ يَخْلِطُ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: يَهِمُ كَثِيرًا. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ: صَدُوقٌ سَيِّئُ الْحِفْظِ. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: ثِقَةٌ وَلَكِنَّهُ يُخْطِئُ. وَقَدْ وَثَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. قَالَ الْحَافِظُ: وَيُعَكِّرُ عَلَى هَذَا مَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ قُلْنَا لِأَنَسٍ إنَّ قَوْمًا مَا يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ فَقَالَ: كَذَبُوا إنَّمَا قَنَتَ شَهْرًا وَاحِدًا يَدْعُو عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَيْسٌ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَكِنَّهُ لَمْ يُتَّهَمْ بِالْكَذِبِ. وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَقْنُتْ إلَّا إذَا دَعَا لِقَوْمٍ أَوْ دَعَا عَلَى قَوْمٍ. قَالَ الْحَافِظُ: فَاخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ أَنَسٍ وَاضْطَرَبَتْ، فَلَا يَقُومُ لِمِثْلِ هَذَا حُجَّةٌ.

(1/313)


أَبْوَابُ السُّتْرَةِ أَمَامَ الْمُصَلِّي وَحُكْمُ الْمُرُورِ دُونَهَا بَابُ اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ إلَى السُّتْرَةِ وَالدُّنُوِّ مِنْهَا وَالِانْحِرَافِ قَلِيلًا عَنْهَا وَالرُّخْصَةِ فِي تَرْكِهَا 1129- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُصَلِّ إلَى سُتْرَةٍ وَلْيَدْنُ مِنْهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 1130- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عَنْ سُتْرَةِ الْمُصَلِّي، فَقَالَ: كَمُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 1131- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ يَأْمُرُ بِالْحَرْبَةِ فَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُصَلِّي إلَيْهَا وَالنَّاسُ وَرَاءَهُ وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ. مُتَّفَق عَلَيْهِ. 1132- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبَيْنَ الْجِدَارِ مَمَرُّ شَاةٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1133- وَفِي حَدِيثِ بِلَالٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ الْكَعْبَةَ فَصَلَّى وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 1134- وَمَعْنَاهُ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. 1135- وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي وَالدَّوَابُّ تَمُرُّ بَيْنَ

(1/314)


أَيْدِينَا فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ أَحَدِكُمْ ثُمَّ لَا يَضُرُّهُ مَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ. 1136- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ شَيْئًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَنْصِبْ عَصًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَصًا فَلْيَخُطَّ خَطًّا، وَلَا يَضُرُّهُ مَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 1137- وَعَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى إلَى عُودٍ وَلَا عَمُودٍ، وَلَا شَجَرَةٍ إلَّا جَعَلَهُ عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْسَرِ أَوْ الْأَيْمَنِ، وَلَا يَصْمُدُ لَهُ صَمْدًا. 1138- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فِي فَضَاءٍ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ. رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَلْيُصَلِّ إلَى سُتْرَةٍ) فِيهِ أَنَّ اتِّخَاذَ السُّتْرَةِ وَاجِبٌ، وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الدُّنُوِّ مِنْ السُّتْرَةِ حَتَّى يَكُونَ مِقْدَارُ مَا بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْحِكْمَةُ فِي السُّتْرَةِ كَفُّ الْبَصَرِ عَمَّا وَرَاءَهَا وَمَنْعُ مَنْ يَجْتَازُ بِقُرْبِهِ. قَالَ الْبَغَوِيّ: اسْتَحَبَّ أَهْلُ الْعِلْمِ الدُّنُوَّ مِنْ السُّتْرَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا قَدْرُ إمْكَانِ السُّجُودِ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ الصُّفُوفِ. قَوْلُهُ: - صلى الله عليه وسلم - (فِي فَضَاءٍ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اتِّخَاذَ السُّتْرَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ فَيَكُونُ قَرِينَةً لِصَرْفِ الْأَوَامِرِ إلَى النَّدْبِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ فِعْلَهُ - صلى الله عليه وسلم - لَا يُعَارِضُ الْقَوْلَ الْخَاصَّ بِنَا، وَتِلْكَ الْأَوَامِرُ السَّابِقَةُ خَاصَّةٌ بِالْأُمَّةِ فَلَا يَصْلُحُ هَذَا الْفِعْلُ أَنْ يَكُونَ قَرِينَةً لِصَرْفِهَا. بَابُ دَفْعِ الْمَارِّ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ وَالرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ لِلطَّائِفِينَ بِالْبَيْتِ. 1139- عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلَا يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّ مَعَهُ الْقَرِينَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ.

(1/315)


1140- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ. 1141- وَعَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي جُهَيْمٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ... «لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ» . قَالَ أَبُو النَّضْرِ: لَا أَدْرِي قَالَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 1142- وَعَنْ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مِمَّا يَلِي بَابَ بَنِي سَهْمٍ وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا سُتْرَةٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 1143- وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ. وَلَفْظُهُمَا: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا فَرَغَ مِنْ سُبْعِهِ جَاءَ حَتَّى يُحَاذِيَ بِالرُّكْنِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي حَاشِيَةِ الْمَطَافِ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّوَافِ أَحَدٌ. قَوْلُهُ: (فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا كُلَّهُ لِمَنْ لَمْ يُفَرِّطْ فِي صَلَاتِهِ بَلْ احْتَاطَ وَصَلَّى إلَى سُتْرَةٍ أَوْ فِي مَكَان يَأْمَنُ الْمُرُورَ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِالسِّلَاحِ لِمُخَالَفَةِ ذَلِكَ لِقَاعِدَةِ الْإِقْبَالِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالِاشْتِغَال بِهَا. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: فَإِنْ دَفَعَهُ بِمَا يَجُوزُ فَهَلَكَ فَلَا قَوَد عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَهَلْ تَجِبُ دِيَةٌ أَمْ يَكُونُ هَدَرًا؟ مَذْهَبَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ. قَالَ الْحَافِظُ: وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ إذَا مَرَّ وَلَمْ يَدْفَعْهُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَادَةً لِلْمُرُورِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ عُمَرَ: «لَوْ يَعْلَمُ الْمُصَلِّي مَا يَنْقُصُ مِنْ صَلَاتِهِ بِالْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ مَا صَلَّى إلَّا إلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ» . قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ» . فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ «مِنْ الْإِثْمِ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرُورَ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مِنْ الْكَبَائِرِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّارِ وَظَاهِرُهُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ.

(1/316)


قَوْلُهُ: (وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا سُتْرَةٌ) . قَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ سُتْرَةٌ. قَوْلُهُ: (فِي حَاشِيَةِ الْمَطَافِ) أَيْ جَانِبِهِ. بَابُ مَنْ صَلَّى وَبَيْنَ يَدَيْهِ إنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ. 1144- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي صَلَاتَهُ مِنْ اللَّيْلِ وَأَنَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ اعْتِرَاضَ الْجِنَازَةِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ. 1145- وَعَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَكُونُ حَائِضًا لَا تُصَلِّي، وَهِيَ مُفْتَرِشَةٌ بِحِذَاءِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى خُمْرَتِهِ، إذَا سَجَدَ أَصَابَنِي بَعْضُ ثَوْبِهِ. مُتَّفَق عَلَيْهِ. 1146- وَعَنْ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: زَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَبَّاسًا فِي بَادِيَةٍ لَنَا وَلَنَا كُلَيْبَةٌ وَحِمَارَةٌ تَرْعَى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - الْعَصْرَ وَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَمْ يُؤَخَّرَا وَلَمْ يُزْجَرَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 1147- وَلِأَبِي دَاوُد مَعْنَاهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهَا: (وَأَنَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ) زَادَ أَبُو دَاوُد (رَاقِدَةٌ) . وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ إلَى النَّائِمِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَهُوَ حُجَّةٌ فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ إلَى النَّائِمِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَحَدِيثُ مَيْمُونَةَ يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ إذَا أَصَابَ ثَوْبُ الْمُصَلِّي امْرَأَتَهُ الْحَائِضَ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا الْحَدِيثُ وَشِبْهُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا اعْتِرَاضُ الْمَرْأَةِ بَيْن الْمُصَلِّي وَقِبْلَتِهِ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْقُعُودِ لَا عَلَى جَوَازِ الْمُرُورِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسِ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكَلْبَ وَالْحِمَارَ لَا يَقْطَعَانِ الصَّلَاةَ. وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ أَنَّهُمَا مَرَّا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَوْنَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْمُرُورَ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.

(1/317)


بَابُ مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ بِمُرُورِهِ 1148- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ وَالْكَلْبُ وَالْحِمَارُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 1149- وَمُسْلِمٌ وَزَادَ: وَيَقِي مِنْ ذَلِكَ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ. 1150- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ وَالْكَلْبُ وَالْحِمَارُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 1151- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَإِنَّهُ يَسْتُرُهُ إذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ، الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ» . قُلْتُ يَا أَبَا ذَرٍّ: مَا بَالُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْكَلْبِ الْأَحْمَرِ مِنْ الْكَلْبِ الْأَصْفَرِ؟ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا سَأَلْتَنِي، فَقَالَ: «الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ. 1152- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي فِي حُجْرَتِهَا، فَمَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ أَوْ عُمَرُ، فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا فَرَجَعَ، فَمَرَّتْ ابْنَةُ أُمّ سَلَمَةَ، فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا فَمَضَتْ؛ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «هُنَّ أَغْلَبُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 1153- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ وَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 1154- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى أَتَانٍ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إلَى غَيْرِ جِدَارٍ فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ فَنَزَلْتُ وَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعُ فَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَلْبَ وَالْمَرْأَةَ وَالْحِمَارَ تَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَالْمُرَادُ بِقَطْعِ الصَّلَاةِ إبْطَالُهَا، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى

(1/318)


ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمِنْ الْأَئِمَّةِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ يُخَصَّصُ بِالْكَلْبِ الْأَسْوَدِ، وَيُتَوَقَّفُ فِي الْحِمَارِ وَالْمَرْأَةِ. وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: أَنَّهُ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ مُرُورُ شَيْءٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَتَأَوَّلَ هَؤُلَاءِ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَطْعِ نَقْصُ الصَّلَاةِ لِشُغْلِ الْقَلْبِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَاخْتَارَ الشَّارِحُ: أَنَّ الْكَلْبَ الأَسْوَدَ وَالْمَرْأَةَ الْحَائِضِ يَقْطَعَانِ الصَّلاةِ. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَيَقْطَعُ الصَّلاة الْمَرْأَة وَالْحِمَار وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ الْبَهِيم، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدِ رَحِمَهُ اللهِ.

(1/319)


أَبْوَابُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ بَابُ سُنَنِ الصَّلَاةِ الرَّاتِبَةِ الْمُؤَكَّدَةِ 1155- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: حَفِظْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ، كَانَتْ سَاعَةٌ لَا أَدْخُلُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا فَحَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ أَنَّهُ كَانَ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» . مُتَّفَق عَلَيْهِ. 1156- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ، وَقَبْلَ الْفَجْرِ ثِنْتَيْنِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1157- وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد بِمَعْنَاهُ لَكِنْ ذَكَرُوا فِيهِ قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا. 1158- وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَجْدَةً سِوَى الْمَكْتُوبَةِ، بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ. 1159- وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ: «مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ: أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ،

(1/320)


وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ» . 1160- وَلِلنَّسَائِيِّ حَدِيثُ أُمِّ حَبِيبَةَ كَالتِّرْمِذِيِّ، لَكِنْ قَالَ: «وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ» . وَلَمْ يَذْكُرْ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى مَشْرُوعِيَّة مَا اشْتَمَلا عَلَيْهِ مِنْ النَّوَافِلِ وَأَنَّهَا مُؤَقَّتَةٌ وَاسْتِحْبَابُ الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. قَالَ: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ صَلَاةِ هَذِهِ الِاثْنَتَيْ عَشْرَة رَكْعَةَ وَهِيَ مِنْ السُّنَنِ التَّابِعَةِ لِلْفَرَائِضِ. بَابُ فَضْلِ الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَبَعْدَهَا وَقَبْلَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ الْعِشَاءِ 1161- عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 1162- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 1163- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا صَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْعِشَاءَ قَطُّ فَدَخَلَ عَلَيَّ إلَّا صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَوْ سِتَّ رَكَعَاتٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 1164- وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ صَلَّى قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا كَانَ كَأَنَّمَا تَهَجَّدَ مِنْ لَيْلَتِهِ، وَمَنْ صَلَّاهُنَّ بَعْدَ الْعِشَاءِ كَانَ كَمِثْلِهِنَّ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ» . رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ اسْتِحْبَابِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهُ، وَكَفَى بِهَذَا التَّرْغِيبِ بَاعِثًا عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: وَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الْعَصْرِ وَالدُّعَاءَ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - بِالرَّحْمَةِ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَالتَّصْرِيحُ بِتَحْرِيمِ بَدَنِهِ عَلَى النَّارِ مِمَّا يَتَنَافَسُ فِيهِ

(1/321)


الْمُتَنَافِسُونَ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ صَلَاةِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ أَوْ سِتِّ رَكَعَاتٍ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ. بَابُ تَأْكِيدِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَتَخْفِيفِ قِرَاءَتِهِمَا وَالضِّجْعَةِ وَالْكَلَامُ بَعْدَهُمَا وَقَضَائِهِمَا إذَا فَاتَتَا 1165- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى شَيْءٍ مِنْ النَّوَافِلِ أَشَدَّ تَعَاهُدًا مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ. مُتَّفَق عَلَيْهِ. 1166- وَعَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1167- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَدَعُوا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَلَوْ طَرَدَتْكُمْ الْخَيْلُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 1168- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رَمَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَهْرًا، فَكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ. 1169- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُخَفِّفُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى إنِّي لَأَقُولُ: هَلْ قَرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ؟ . مُتَّفَق عَلَيْهِ. 1170- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى. جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1171- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ. 1172- وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي وَإِلَّا اضْطَجَعَ. مُتَّفَق عَلَيْهِ. 1173- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، فَلْيُصَلِّهِمَا بَعْدَمَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

(1/322)


1174- وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَاهُمَا مَعَ الْفَرِيضَةِ لَمَّا نَامَ عَنْ الْفَجْرِ فِي السَّفَرِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَعَلَى اسْتِحْبَابِ التَّعَاهُدِ لَهُمَا وَكَرَاهَةِ التَّفْرِيطِ فِيهِمَا. قَالَ: وَالْحَدِيثُ ... يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ سُورَتَيْ الْإِخْلَاصِ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ. اسْتِحْبَابُ تَخْفِيفِهِما. قَالَ: وَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الِاضْطِجَاعِ بَعْدَ صَلَاةِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ إلَى أَنْ يُؤَذَّنَ بِالصَّلَاةِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حُكْمِ هَذَا الِاضْطِجَاعِ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَشْرُوعٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَاجِبٌ مُفْتَرَضٌ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَبِدْعَةٌ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَنْ يَقُومُ بِاللَّيْلِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ لِلِاسْتِرَاحَةِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَلَا يُشْرَعُ لَهُ. الْقَوْلُ السَّادِسُ: أَنَّ الِاضْطِجَاعَ لَيْسَ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْفَصْلُ بَيْنَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَبَيْنَ الْفَرِيضَةِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَاختَارُ الشَّارِحُ مَشْرُوعِيَّتَهُ. وقال ابْنُ الْعَرَبِيُّ: لا يُضْطَجَعُ بَعْدَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لانْتِظَارِ الصَّلَاةِ إِلا أَنْ يَكُونَ قَامَ الليْلَ فَيَضْطَجِعُ اسْتِجْمَامًا لِصَلاةِ الصُّبْحِ فَلا بَأْسَ. قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، فَلْيُصَلِّهِمَا بَعْدَمَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ» . قَالَ الشَّارِحُ: اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَرْكَعْ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ قَبْلَ الْفَرِيضَةِ، فَلَا يَفْعَلْ بَعْدَ الصَّلَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيَخْرُجَ الْوَقْتُ الْمَنْهِيُّ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ. قَالَ: وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ فِعْلِهِمَا بَعْد صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْكَرَاهَةِ حَدِيثُ قَيْسِ بْنِ فَهْدٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّيْتُ مَعَهُ الصُّبْحَ، ثُمَّ انْصَرَفَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَوَجَدَنِي أُصَلِّي، فَقَالَ: «مَهْلًا يَا قَيْسُ أَصَلَاتَانِ مَعًا» ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَمْ أَكُنْ رَكَعْتُ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، قَالَ: «فَلَا إذَنْ» . وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا يُصَلِّي بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ: «صَلَاةُ الصُّبْحِ رَكْعَتَانِ» . فَقَالَ الرَّجُلُ: إنِّي لَمْ أَكُنْ صَلَّيْتُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا فَصَلَّيْتُهُمَا الْآنَ، فَسَكَتَ. قَالَ الشَّارِحُ: وَفِي الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ قَضَاءِ النَّوَافِلِ الرَّاتِبَةِ، وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ فَاتَتْ لِعُذْرٍ، أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ.

(1/323)


بَابُ مَا جَاءَ فِي قَضَاءِ سُنَّتَيْ الظُّهْرِ 1175- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا لَمْ يُصَلِّ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، صَلَّاهُنَّ بَعْدَهَا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. 1176- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا فَاتَتْهُ الْأَرْبَعُ قَبْلَ الظُّهْرِ صَلَّاهُنَّ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. 1177- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى عَنْهُمَا تَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا. أَمَّا حِينَ صَلَّاهُمَا، فَإِنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَخَلَ وَعِنْدِي نِسْوَةٌ مِنْ بَنِي حَرَامٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَصَلَّاهُمَا، فَأَرْسَلْتُ إلَيْهِ الْجَارِيَةَ، فَقُلْتُ: قُومِي بِجَنْبِهِ فَقُولِي لَهُ: تَقُولُ لَكَ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْتُكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ وَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا، فَإِنْ أَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخِرِي عَنْهُ فَفَعَلَتْ الْجَارِيَةُ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخَرَتْ عَنْهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: «يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ سَأَلْتِ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَإِنَّهُ أَتَانِي أُنَاسٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْقِيسِ، فَشَغَلُونِي عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ فَهُمَا هَاتَانِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1178- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: مَا رَأَيْتُهُ صَلَّاهُمَا قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى السُّنَنِ الَّتِي قَبْلَ الْفَرَائِضِ، وَعَلَى امْتِدَادِ وَقْتِهَا إلَى آخِرِ وَقْتِ الْفَرِيضَةِ. قَالَ: وَقَدْ تَمَسَّكَ بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، وَمَنْ أَجَازَ التَّنَفُّلَ بَعْدَ الْعَصْرِ مُطْلَقًا مَا لَمْ يَقْصِدْ الصَّلَاةَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَأَجَابَ مَنْ أَطْلَقَ الْكَرَاهَةَ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ - صلى الله عليه وسلم -. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الَّذِي اُخْتُصَّ بِهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمُدَاوَمَةُ عَلَى ذَلِكَ لَا أَصْلُ الْقَضَاءِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي قَضَاءِ سُنَّةِ الْعَصْرِ 1179- عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ السَّجْدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّيهِمَا قَبْلَ الْعَصْرِ، ثُمَّ إنَّهُ شُغِلَ عَنْهُمَا، أَوْ نَسِيَهُمَا، فَصَلَّاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، ثُمَّ أَثْبَتَهُمَا،

(1/324)


وَكَانَ إذَا صَلَّى صَلَاةً دَاوَمَ عَلَيْهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 1180- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: شُغِلَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ، فَصَلَّاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 1181- وَعَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُجَهِّزُ بَعْثًا، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ ظَهْرٌ، فَجَاءَهُ ظَهْرٌ مِنْ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَ يُقَسِّمُهُ بَيْنَهُمْ، فَحَبَسُوهُ حَتَّى أَرْهَقَ الْعَصْرُ، وَكَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَصَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ رَجَعَ فَصَلَّى مَا كَانَ يُصَلِّي قَبْلَهَا، وَكَانَ إذَا صَلَّى صَلَاةً أَوْ فَعَلَ شَيْئًا يُحِبُّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ قَضَاءِ رَكْعَتَيْ الْعَصْرِ بَعْدَ فِعْلِ الْفَرِيضَةِ، فَيَكُونُ قَضَاؤُهُمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ أَحَادِيثِ النَّهْيِ. وَأَمَّا الْمُدَاوَمَةُ عَلَى ذَلِكَ فَمُخْتَصَّةٌ بِهِ - صلى الله عليه وسلم -. وَاعْلَمْ أَنَّهَا قَدْ اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ فِي النَّافِلَةِ الْمَقْضِيَّةِ بَعْدَ الْعَصْرِ هَلْ هِيَ الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الظُّهْرِ، أَوْ هِيَ سُنَّةُ الْعَصْرِ؟ فَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ التَّصْرِيحِ بِأَنَّهُمَا رَكْعَتَا الظُّهْرِ، وَفِي أَحَادِيثِ الْبَابِ أَنَّهُمَا رَكْعَتَا الْعَصْرِ. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ بِأَنْ يَكُونَ مُرَادُ مَنْ قَالَ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَمَنْ قَالَ قَبْلَ الْعَصْرِ: الْوَقْتُ الَّذِي بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ أَنَّ الْوِتْرَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَأَنَّهُ جَائِزٌ عَلَى الرَّاحِلَةِ 1182- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1183- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: «الْوِتْرُ لَيْسَ بِحَتْمٍ كَهَيْئَةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَلَكِنَّهُ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ. 1184- وَابْنُ مَاجَهْ وَلَفْظُهُ: إنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِحَتْمٍ، وَلَا كَصَلَاتِكُمْ الْمَكْتُوبَةِ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْتَرَ فَقَالَ: «يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ أَوْتِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» .

(1/325)


1185- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْتَرَ عَلَى بَعِيرِهِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 1186- وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «الْوِتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ. 1187- وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُد: «الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» . 1188- وَرَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ فِيهِ: «الْوِتْرُ حَقٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَفِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ الْوِتْرَ غَيْرُ وَاجِبٍ بَلْ سُنَّةٌ، وَخَالَفَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: إنَّهُ وَاجِبٌ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ فَرْضٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرُ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ أَبَا حَنِيفَةَ فِي هَذَا، وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أَوْتَرَ عَلَى بَعِيرِهِ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ. بَابُ الْوِتْرِ بِرَكْعَةٍ وَبِثَلَاثٍ وَخَمْسٍ وَسَبْعٍ وَتِسْعٍ بِسَلَامٍ وَاحِدٍ وَمَا يَتَقَدَّمُهَا مِنْ الشَّفْعِ 1189- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ صَلَاةُ اللَّيْلِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 1190- وَزَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى تُسَلِّمُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ» . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. 1191- وَلِمُسْلِمٍ: قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: مَا مَثْنَى مَثْنَى؟ قَالَ: يُسَلِّم فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ. 1192- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ وَالرَّكْعَةِ فِي الْوِتْرِ حَتَّى إنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِبَعْضِ حَاجَتِهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

(1/326)


1193، 1194- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا سَمِعَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 1195- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مَا بَيْنَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى الْفَجْرِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ، فَإِذَا سَكَبَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَتَبَيَّنَ لَهُ الْفَجْرُ وَجَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلْإِقَامَةِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ. 1196- وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي الْوِتْرِ بِ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَفِي الثَّالِثَةِ بِـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَلَا يُسَلِّمُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 1197- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُوتِرُ بِثَلَاثٍ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1198- وَالنَّسَائِيُّ وَلَفْظُهُ: كَانَ لَا يُسَلِّمُ فِي رَكْعَتَيْ الْوِتْرِ. وَقَدْ ضَعَّفَ أَحْمَدُ إسْنَادَهُ، وَإِنْ ثَبَتَ فَيَكُونُ قَدْ فَعَلَهُ أَحْيَانًا كَمَا أَوْتَرَ بِالْخَمْسِ وَالسَّبْعِ وَالتِّسْعِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ. 1199- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا تُوتِرُوا بِثَلَاثٍ، أَوْتِرُوا بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ، وَقَالَ: كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ. 1200- وَعَنْ أُمّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُوتِرُ بِسَبْعٍ وَبِخَمْسٍ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِسَلَامٍ وَلَا كَلَامٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. 1201- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ، وَلَا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ مِنْهُنَّ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ. مُتَّفَق عَلَيْهِ. 1202- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ: أَنْبِئِينِي عَنْ وِتْرِ

(1/327)


رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. فَقَالَتْ: كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ، فَيَبْعَثَهُ اللَّهُ مَتَى شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنْ اللَّيْلِ، فَيَتَسَوَّكُ وَيَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ لَا يَجْلِسُ فِيهَا إلَّا فِي الثَّامِنَةِ، فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يَنْهَضُ وَلَا يُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي التَّاسِعَةَ، ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَمَا يُسَلِّمُ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَتِلْكَ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يَا بُنَيّ، فَلَمَّا أَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَخَذَهُ اللَّحْمُ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ، وَصَنَعَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِثْلَ صَنِيعِهِ الْأَوَّلِ، فَتِلْكَ تِسْعٌ يَا بُنَيَّ، وَكَانَ رَسُولَ اللَّهِ إذَا صَلَّى صَلَاةً أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا، وَكَانَ إذَا غَلَبَهُ نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، صَلَّى مِنْ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَلَا أَعْلَمُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ، وَلَا قَامَ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ، وَلَا صَامَ شَهْرًا كَامِلًا غَيْرَ رَمَضَانَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 1203- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبِي دَاوُد نَحْوُهُ، وَفِيهَا: فَلَمَّا أَسَنَّ وَأَخَذَهُ اللَّحْمُ أَوْتَرَ بِسَبْعِ رَكَعَاتٍ لَمْ يَجْلِسْ إلَّا فِي السَّادِسَةِ وَالسَّابِعَةِ، وَلَمْ يُسَلِّمْ إلَّا فِي السَّابِعَةِ. 1204- وَفِي رِوَايَةِ لِلنِّسَائِيِّ قَالَت: فَلَمَّا أَسَنَّ وَأَخَذَهُ اللَّحْمُ صَلَّى سَبْعَ رَكَعَاتٍ لَا يَقْعُدُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (كَيْفَ صَلَاةِ اللَّيْلِ) . الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ وَقَعَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْوَصْلِ وَالْفَصْلِ، لَا عَنْ مُطْلَقِ الْكَيْفِيَّةِ. قَوْلُهُ: (مَثْنَى مَثْنَى) . أَيْ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ. وَقَدْ أَخَذَ مَالِكٌ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، فَقَالَ: لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ، وَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لِبَيَانِ الْأَفْضَلِ لِمَا صَحَّ مِنْ فِعْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِرْشَادِ إلَى الْأَخَفِّ إذْ السَّلَامُ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ أَخَفُّ عَلَى الْمُصَلِّي مِنْ الْأَرْبَعِ فَمَا فَوْقَهَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الرَّاحَةِ غَالِبًا. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْأَفْضَلِ مِنْ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: الَّذِي أَخْتَارُهُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، وَإِنْ صَلَّى بِالنَّهَارِ أَرْبَعًا فَلَا بَأْسَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ نَحْوَهُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، قَالَ: وَقَدْ صَحَّ عَنْ

(1/328)


النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ أَوْتَرَ بِخَمْسٍ لَمْ يَجْلِس إلَّا فِي آخِرِهَا، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوَصْلِ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْإِيتَارِ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ مَخَافَةِ هُجُومِ الصُّبْحِ، وَسَيَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ الْجُمْهُورُ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَحَدِيثُ أُبَيِّ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْإِيتَارِ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ مُتَّصِلَةٍ. قَالَ: وَجَمَعَ الْحَافِظُ بَيْنَ الأَحَادِيثِ بِحَمْلِ أَحَادِيثِ النَّهْيِ عَلَى الايتَارِ بِثَلاثٍ بِتَشَهُّدَيْنِ لَمُشَابَهَةِ ذَلِكَ لِصَلاةِ الْمَغْرِبِ، وَأَحَادِيثُ الْإِيتَارِ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ عَلَى أَنَّهَا مُتَّصِلَة. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ... «الْوِتْرُ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى عَشْرَةَ وَتِسْعٍ وَسَبْعٍ وَخَمْسٍ وَثَلَاثٍ وَوَاحِدَةٍ» . قَوْلُهَا: (فَيَتَسَوَّكُ وَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ) إلَى آخرهْ. قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْإِيتَارِ بِتِسْعِ رَكَعَاتٍ مُتَّصِلَة، لَا يُسَلِّم إلَّا فِي آخِرهَا، وَيَقْعُد فِي الثَّامِنَةِ، وَلَا يُسَلِّم. قَوْلُهَا: (ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ قَاعِدٌ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فَعَلَهُمَا - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ الْوِتْرِ جَالِسًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَلَمْ يُوَاظِبْ عَلَى ذَلِكَ. بَابُ وَقْتِ صَلَاةِ الْوِتْرِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهَا وَالْقُنُوتُ 1205- عَنْ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ غَدَاةٍ فَقَالَ: لَقَدْ أَمَدَّكُمْ اللَّهُ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، قُلْنَا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْوِتْرُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ. رَوَاهُ الْخَمْسَة إلَّا النَّسَائِيّ. 1206- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ، فَانْتَهَى وَتْرُهُ إلَى السَّحَرِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 1207- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَوْتِرُوا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُوا» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَأَبَا دَاوُد.

(1/329)


1208- وَعَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَيُّكُمْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ، ثُمَّ لِيَرْقُدْ، وَمَنْ وَثِقَ بِقِيَامٍ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ مِنْ آخِرِهِ، فَإِنَّ قِرَاءَةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَحْضُورَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. 1209- وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الْوِتْرِ بِـ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ. 1210- وَلِلْخَمْسَةِ إلَّا أَبَا دَاوُد مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. 1211- وَزَادَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ فِي حَدِيثِ أُبَيٍّ، فَإِذَا سَلَّمَ قَالَ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. 1212- وَلَهُمَا مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، وَفِي آخِرِهِ: وَرَفَعَ صَوْتَهُ فِي الْآخِرَةِ. 1213- وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ فَإِنَّك تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، إنَّهُ لَا يَذِلُّ مِنْ وَالَيْتَ، وَلا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ. 1214- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ وَتْرِهِ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِك، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» . رَوَاهُمَا الْخَمْسَة. قَوْلُهُ:

(1/330)


(إِنَّ اللَّهَ أَمَدَّكُمْ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ) . الْحَدِيثُ. ... قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ أَوَّل وَقْتِ الْوِتْرِ يَدْخُلُ بِالْفَرَاغِ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَيَمْتَدُّ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ لَا يَصِحُّ الِاعْتِدَادُ بِهِ قَبْلَ الْعِشَاءِ فَقَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ قَبْلَ الْعِشَاءِ بِحَالٍ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْأَحَادِيث الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقُنُوتِ بِهَذَا الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ. بَابُ لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ وَخَتْم صَلَاةِ اللَّيْلِ بِالْوِتْرِ وَمَا جَاءَ فِي نَقْضِهِ 1215- عَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. 1216- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. 1217- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ الْوِتْرِ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَوْ أَوْتَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ، ثُمَّ أَرَدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ بِاللَّيْلِ شَفَعْت بِوَاحِدَةٍ مَا مَضَى مِنْ وِتْرِي، ثُمَّ صَلَيْتُ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا قَضَيْت صَلَاتِي أَوْتَرْت بِوَاحِدَةٍ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَنَا أَنْ نَجْعَلَ آخِرَ صَلَاةِ اللَّيْلِ الْوِتْرَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1218- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الْوِتْرُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ فَمَنْ شَاءَ أَنْ يُوتِرَ أَوَّلَ اللَّيْلِ أَوْتَرَ، فَإِنْ اسْتَيْقَظَ فَشَاءَ أَنْ يَشْفَعَهَا بِرَكْعَةٍ وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى يُصْبِحَ ثُمَّ يُوتِرَ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى يُصْبِحَ، وَإِنْ شَاءَ آخِرَ اللَّيْلِ أَوْتَرَ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ. 1219- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. 1220- وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَزَادَ: وَهُوَ جَالِسٌ. وَقَدْ سَبَقَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَهُوَ حُجَّةٌ لِمَنْ لَمْ يَرَ نَقْضَ الْوِتْرِ. 1221- وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ تَذَاكَرَا الْوِتْرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّي ثُمَّ أَنَامُ عَلَى وِتْرٍ، فَإِذَا

(1/331)


اسْتَيْقَظْتَ صَلَيْتَ شَفْعًا شَفْعًا حَتَّى الصَّبَاحِ، وَقَالَ عُمَرُ: لَكِنْ أَنَامُ عَلَى شَفْعٍ ثُمَّ أُوتِرُ مِنْ آخِرِ السَّحَرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِأَبِي بَكْرٍ: «حَذِرَ هَذَا» . وَقَالَ لِعُمَرَ: «قَوِيَ هَذَا» . رَوَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيِّ بِإِسْنَادِهِ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ» قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اُحْتُجَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْضُ الْوِتْرِ. وَمِنْ جُمْلَةِ الْمُحْتَجِّينَ بِهِ عَلَى ذَلِكَ طَلْقُ بْنُ عَلِيٍّ الَّذِي رَوَاهُ كَمَا قَالَ الْعِرَاقِيُّ، قَالَ: وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَقَالُوا: إنَّ مَنْ أَوْتَرَ وَأَرَادَ الصَّلَاةَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَنْقُضُ وِتْرَهُ، وَيُصَلِّي شَفْعًا شَفْعًا حَتَّى يُصْبِحَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: إنَّهُ أَصَحُّ. بَابُ قَضَاءِ مَا يَفُوتُ مِنْ الْوِتْرِ وَالسُّنَنِ الرَّاتِبَةِ وَالْأَوْرَادِ 1222- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَامَ عَنْ وِتْرِهِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّهِ إذَا ذَكَرَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 1223- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ مِنْ اللَّيْلِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَقَرَأَهُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ، كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنْ اللَّيْلِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ. 1224- وَثَبَتَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ إذَا مَنَعَهُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ صَلَّى مِنْ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً. وَقَدْ ذَكَرنَا عَنْهُ قَضَاءَ السُّنَنِ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ قَضَاءِ الْوِتْرِ إذَا فَاتَ. انْتَهَى. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَامَ عَنْ وِتْرِهِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّهِ إذَا ذَكَرَهُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا النِّسَائِيّ. قَوْلِهِ: «مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ مِنْ اللَّيْلِ» . قَالَ الشَّارِحُ: الحزب الورد. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ اتِّخَاذِ وِرْدٍ فِي اللَّيْلِ، وَعَلَى مَشْرُوعِيَّةٍ قَضَائِهِ إذَا فَاتَ لِنَوْمٍ أَوْ عُذْرٍ مِنْ الْأَعْذَارِ. قَالَ: وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ قَضَاءِ التَّهَجُّدِ إذَا فَاتَهُ مِنْ اللَّيْلِ.

(1/332)


بَابُ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ 1225- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرَغِّبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ، فَيَقُولُ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 1226- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ صِيَامَ رَمَضَانَ، وَسَنَنْت قِيَامَهُ، فَمَنْ صَامَهُ وَقَامَهُ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. 1227- وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُصَلِّ بِنَا حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ مِنْ الشَّهْرِ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا فِي الثَّالِثَةِ، وَقَامَ بِنَا فِي الْخَامِسَةِ، حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ نَفَلْتَنَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ؟ فَقَالَ: «إنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ» . ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا حَتَّى بَقِيَ ثَلَاثٌ مِنْ الشَّهْرِ، فَصَلَّى بِنَا فِي الثَّالِثَةِ وَدَعَا أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى تَخَوَّفْنَا الْفَلَاحَ، قُلْت لَهُ: وَمَا الْفَلَاحُ؟ قَالَ: السَّحُورُ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 1228- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى الثَّانِيَةَ فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنْ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: «رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ فَلَمْ يَمْنَعنِي مِنْ الْخُرُوجِ إلَيْكُمْ إلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْتَرَضَ عَلَيْكُمْ» . وَذَلِكَ فِي رَمَضَان. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1229- وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَتْ: كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ فِي رَمَضَانَ بِاللَّيْلِ أَوْزَاعًا، يَكُونُ مَعَ الرَّجُلِ الشَّيْءُ مِنْ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ مَعَهُ النَّفَر ... الْخَمْسَةُ أَوْ السَّبْعَةُ أَوْ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرُ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، قَالَتْ: فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَنْصِبَ لَهُ حَصِيرًا عَلَى بَابِ حُجْرَتِي فَفَعَلْتُ، فَخَرَجَ إلَيْهِ بَعْدَ أَنْ صَلَّى عِشَاءَ الْآخِرَةَ، فَاجْتَمَعَ إلَيْهِ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ فَصَلَّى بِهِمْ، وَذُكِرَتْ الْقِصَّةُ بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ غَيْرَ أَنَّ فِيهَا: أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِمْ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

(1/333)


1230- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِي قَالَ: خَرَجْت مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي رَمَضَانَ إلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ: إنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْت مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ، فَقَالَ عُمَرُ: نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنْ الَّتِي يَقُومُونَ، يَعْنِي آخِرَ اللَّيْلِ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 1231- وَلِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ فِي زَمَنِ عُمَرَ يَقُومُونَ فِي رَمَضَانَ بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ قِيَامِ رَمَضَانَ وَتَأَكُّدِ اسْتِحْبَابِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ أَيْضًا عَلَى اسْتِحْبَابِ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا، قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ صَلَاتُهَا فِي بَيْتِهِ مُنْفَرِدًا أَمْ فِي جَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ. قَوْلُهُ: (فَقَالَ عُمَرُ: نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ) قَالَ فِي الْفَتْحِ: الْبِدْعَةُ أَصْلُهَا مَا أُحْدِثَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وَتُطْلَقُ فِي الشَّرْعِ عَلَى مُقَابَلَةِ السُّنَّةِ فَتَكُونُ مَذْمُومَةً، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ مِمَّا يَنْدَرِجُ تَحْتَ مُسْتَحْسَنٍ فِي الشَّرْعِ فَهِيَ حَسَنَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يَنْدَرِجُ تَحْتَ مُسْتَقْبَحٍ فِي الشَّرْعِ فَهِيَ مُسْتَقْبَحَةٌ، وَإِلَّا فَهِيَ مِنْ قِسْمِ الْمُبَاحِ، وَقَدْ تَنْقَسِمُ إلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ. قَوْلُهُ: (بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً) . قَالَ الشَّارِحُ: وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهَا إحْدَى عَشْرَةَ. قَالَ الْحَافِظُ: وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ مُمْكِنُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَيُحْتَمَل أَنَّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ بِحَسَبِ تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ وَتَخْفِيفِهَا، فَحَيْثُ تَطُولُ الْقِرَاءَةُ تُقَلَّلُ الرَّكَعَاتُ وَبِالْعَكْسِ، وَبِهِ جَزَمَ الدَّاوُدِيُّ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: أَكْثَرُ مَا قِيلَ: إنَّهُ يُصَلِّي إحْدَى وَأَرْبَعِينَ رَكْعَةً بِرَكْعَةِ الْوِتْرِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ أَحَادِيثُ الْبَابِ وَمَا يُشَابِهُهَا هُوَ مَشْرُوعِيَّةُ الْقِيَامِ فِي رَمَضَانَ، وَالصَّلَاةُ فِيهِ جَمَاعَةً وَفُرَادَى، فَقَصْرُ الصَّلَاةِ الْمُسَمَّاةِ بِالتَّرَاوِيحِ عَلَى عَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَتَخْصِيصُهَا بِقِرَاءَةٍ

(1/334)


مَخْصُوصَةٍ لَمْ يَرِدْ بِهِ سُنَّةٌ. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَالتَّرَاوِيحُ إِنْ صَلاهَا كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدٍ عِشْرَينَ رَكْعَةٍ أَوْ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ سِتًا وَثَلاثِينَ أَوْ ثَلاثَ عَشْرَة أَوْ إِحْدَى عَشْرَة فَقَدْ أَحْسَن كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الإِمَامُ أَحْمَدٍ لِعَدَمِ التَّوْقِيفِ فَيَكُونُ تَكْثِيرُ الرَّكَعَاتِ وَتَقْلِيلِهَا بِحَسْبِ طُول الْقِيامِ وَقِصَرَهُ. بَابُ مَا جَاءَ فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ. 1232- عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} قَالَ: كَانُوا يُصَلُّونَ فِيمَا بَيْن الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. 1233- وَكَذَلِكَ: {تَتَجَافَى جَنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ} . رَوَاهُما أَبُو دَاوُد. 1234- وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: صَلَيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْمَغْرِبَ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَامَ يُصَلِّي، فَلَمْ يَزَلْ يُصَلِّي حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ خَرَجَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. قَوْلُهُ: (كَانُوا يُصَلُّونَ فِيمَا بَيْن الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) . هَذِهِ أَحَدُ الأَقْوَالِ فِي الآيَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَابَدَوا قِيَام الليْلِ فَلا يَنَامُونَ مِنَ الليلِ إِلا أَقَلُّهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الِاسْتِكْثَارِ مِنْ الصَّلَاةِ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ 1235- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ» . قَالَ: فَأَيُّ الصِّيَامِ أَفْضَلُ بَعْدَ رَمَضَانَ؟ قَالَ: «شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ. 1236- وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْهُ فَضْلُ الصَّوْمِ فَقَطْ. 1237- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

(1/335)


1238- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ إلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُد، وَأَحَبَّ الصَّلَاةِ إلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - صَلَاةُ دَاوُد، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ. 1239- فَإِنَّهُ إنَّمَا رَوَى فَضْلَ الصَّوْمِ فَقَطْ. 1240- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِاللَّيْلِ فَقَالَتْ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ يَفْعَلُ، رُبَّمَا أَسَرَّ، وَرُبَّمَا جَهَرَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 1241- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 1242- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ اسْتِحْبَابِ قِيَامِ اللَّيْلِ وَمَشْرُوعِيَّةِ الِاسْتِكْثَارِ مِنْ الصَّلَوَاتِ فِيهِ، وَاسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ الْآخِرِ وَأَنَّهُ وَقْتٌ لِإِجَابَةِ الْمَغْفِرَةِ وَالنُّزُولُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ: وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةِ افْتِتَاحِ صَلَاةِ اللَّيْلِ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ لِيَنْشَطَ بِهِمَا لِمَا بَعْدَهُمَا. وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِذَلِكَ عَلَى تَرْكِ نَقْضِ الْوِتْرِ فَقَالَ: وَعُمُومُهُ حُجَّةٌ فِي تَرْكِ نَقْضِ الْوِتْرِ. بَابُ صَلَاةِ الضُّحَى 1243- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي - صلى الله عليه وسلم - بِثَلَاثٍ: بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1244- وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ: وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى كُلَّ يَوْمٍ. 1245- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ

(1/336)


تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِي مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنْ الضُّحَى» . رَوَاهُ أَحْمَدُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 1246- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «فِي الْإِنْسَانِ سِتُّونَ وَثَلَاثُمِائَةِ مَفْصِلٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ كُلِّ مَفْصِلٍ مِنْهَا صَدَقَةً» . قَالُوا: فَمَنْ الَّذِي يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «النُّخَامَةُ فِي الْمَسْجِدِ يَدْفِنُهَا، أَوْ الشَّيْءُ يُنَحِّيهِ عَنْ الطَّرِيقِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَرَكْعَتَا الضُّحَى تُجْزِئ عَنْكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 1247- وَعَنْ نُعَيْمِ بْنِ هَمَّارٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قَالَ رَبُّكُمْ - عَزَّ وَجَلَّ -: يَا بْنَ آدَمَ صَلِّ لِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَكْفِكَ آخِرَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 1248- وَهُوَ لِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ. 1249- وَعَنْ عَائِشَةً قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللَّهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ. 1250- وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى غُسْلِهِ فَسَتَرَتْ عَلَيْهِ فَاطِمَةُ، ثُمَّ أَخَذَ ثَوْبَهُ فَالْتَحَفَ بِهِ، ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ سُبْحَةَ الضُّحَى. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1251- وَلِأَبِي دَاوُد عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى يَوْمَ الْفَتْحِ سُبْحَةَ الضُّحَى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ يُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ. 1252- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَهْلِ قُبَاءَ وَهُمْ يُصَلُّونَ الضُّحَى، فَقَالَ: «صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ إذَا رَمِضَتْ الْفِصَالُ مِنْ الضُّحَى» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 1253- وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ قَالَ: سَأَلْنَا عَلِيًّا عَنْ تَطَوُّعِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِالنَّهَارِ فَقَالَ: كَانَ إذَا صَلَّى الْفَجْرَ أَمْهَلَ حَتَّى إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ مِنْ هَاهُنَا، يَعْنِي مِنْ الْمَشْرِقِ، مِقْدَارُهَا مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ هَاهُنَا قِبَلَ الْمَغْرِبِ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُمْهِلُ حَتَّى إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ مِنْ هَاهُنَا، يَعْنِي مِنْ قِبَلِ

(1/337)


.. الْمَشْرِقِ، مِقْدَارُهَا مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ هَا هُنَا، يَعْنِي مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ، قَامَ فَصَلَّى أَرْبَعًا، وَأَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَأَرْبَعًا قَبْلَ الْعَصْرِ، يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالنَّبِيِّينَ وَمَنْ يَتْبَعُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا أَبَا دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَلَاةِ الضُّحَى. إِلِى أَنْ قَالَ: فَأَكْثَرُ مَا ثَبَتَ مِنْ فِعْلِهِ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، وَأَكْثَرُ مَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً. بَابُ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ 1254- عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 1255- وَالْأَثْرَمُ فِي سُنَنِهِ، وَلَفْظُهُ: «أَعْطُوا الْمَسَاجِدَ حَقَّهَا» . قَالُوا: وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: «أَنْ تُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَجْلِسُوا» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّحِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ الشَّافِعِيَّةُ وَكَرِهَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ فِي وَقْتِ النَّهْي. قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: هما عُمُومَان تَعَارَضَا: الْأَمْرُ بِالصَّلاةِ لِكُلِّ دَاخِلِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَالنَّهْي عَنِ الصَّلاةِ فِي أَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ فَلا بُدّ مَنْ تَخْصِيصُ أَحَدِ الْعُمُومَيْنِ، فَذَهَبَ جمع إلى تخصيص النهي وتعميم الأمر، وهو الأصح عند الشافعية، وَذَهَبَ جمع إلى عكسه، وهو قول الحنفية والمالكية. قال الطحاوي: الْأَوْقَاتُ التي نهي عن الصلاة فيها ليس هذا الأمر بداخل فيها. قَالَ الْحَافِظُ: وَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ لِلنَّدْبِ. قُلتُ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ وَالنَّهْيُ عَنِ الصَّلاةِ فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ للتّحْرِيمِ فَالأَحْوَطُ تَرْك تَحِيَّة الْمَسْجِدِ فِيهَا. بَابُ الصَّلَاةِ عَقِيبَ الطَّهُورِ 1256- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِبِلَالٍ عِنْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ:

(1/338)


«يَا بِلَالُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْته فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ» . قَالَ: مَا عَمِلْت عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طُهُورًا فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إلَّا صَلَيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ. مُتَّفَق عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلِلْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا جَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي تَوْقِيتِ الْعِبَادَةِ، وَالْحَثِّ عَلَى الصَّلَاةِ عَقِيبَ الْوُضُوءِ وَسُؤَالِ الشَّيْخِ عَنْ عَمَلِ تِلْمِيذِهِ فَيَحُضُّهُ عَلَيْهِ. بَابُ صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ 1257- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: «إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقْدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي» . أَوْ قَالَ: «عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ» . قَالَ: «وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا) دَلِيلٌ عَلَى الْعُمُومِ، وَأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَحْتَقِرُ أَمْرًا لِصِغَرِهِ وَعَدَمِ الِاهْتِمَامِ بِهِ فَيَتْرُكُ الِاسْتِخَارَةَ فِيهِ، فَرُبَّ أَمْرٍ يَسْتَخِفُّ بِأَمْرِهِ فَيَكُونُ فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ أَوْ فِي تَرْكِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَتَّى فِي شِسْعِ نَعْلِهِ» . قَالَ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ وَالدُّعَاءِ عقيبهَا. بَاب مَا جَاءَ فِي طُول الْقِيَامِ وَكَثْرَةِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ 1258- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَقْرَبُ

(1/339)


مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 1259- وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ فَإِنَّك لَنْ تَسْجُدَ لِلَّهِ سَجْدَةً إلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ بِهَا عَنْكَ خَطِيئَةً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 1260- وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - آتِيهِ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ: «سَلْنِي» . فَقُلْت: أَسْأَلُك مُرَافَقَتَك فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ» ؟ فَقُلْت: هُوَ ذَاكَ، فَقَالَ: «أَعِنِّي عَلَى نَفْسِك بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 1261- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1262- وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: إنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيَقُومُ وَيُصَلِّي حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ أَوْ سَاقَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا أَبَا دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ» أَيْ فِي السُّجُودِ لِأَنَّهُ حَالَةُ قُرْبٍ، وَقَالَ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الِاسْتِكْثَارِ مِنْ السُّجُودِ وَمِنْ الدُّعَاءِ فِيهِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ: السُّجُودُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِيَامِ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْمُرَادُ طُولُ الْقِيَامَ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ أَفْضَلُ مِنْ السُّجُودِ وَالرُّكُوعِ وَغَيْرِهِمَا، انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَكَثْرَة الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَطُولِ القِيامِ سَواء فِي الفَضِيلَةِ وَهُو إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عِنْد أَحْمَدٍ. بَابُ إخْفَاءِ التَّطَوُّعِ وَجَوَازُهُ جَمَاعَةً 1263- عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ.

(1/340)


1264- لَكِنَّ لَهُ مَعْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ. 1265- وَعَنْ عِتْبَانُ بْن مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ السُّيُولَ لَتَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَسْجِدِ قَوْمِي، فَأُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنِي فَتُصَلِّيَ فِي مَكَان مِنْ بَيْتِي أَتَّخِذُهُ مَسْجِدًا، فَقَالَ: «سَنَفْعَلُ» . فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: «أَيْنَ تُرِيدُ» ؟ فَأَشَرْت لَهُ إلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْبَيْتِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصُفِفْنَا خَلْفَهُ فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1266، 1267- وَقَدْ صَحَّ التَّنَفُّلُ جَمَاعَةً مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ فِعْلِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فِي الْبُيُوتِ، وَأَنَّ فِعْلَهَا فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْمَسَاجِدِ. قَالَ: وَفِي حَدِيثِ عِتْبَانُ فَوَائِدُ، مِنْهَا جَوَازُ التَّخَلُّفِ عَنْ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَطَرِ وَالظُّلْمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمِنْهَا جَوَازُ اتِّخَاذِ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ لِلصَّلَاةِ. وَأَمَّا النَّهْي عَنْ إيطَانِ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَفِيهِ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا اسْتَلْزَمَ رِيَاءً وَنَحْوَهُ. وَفِيهِ تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ، وَأَنَّ عُمُومَ النَّهْيِ عَنْ إمَامَةِ الزَّائِر مَنْ زَارَهُ مَخْصُوصٌ بِمَا إذَا كَانَ الزَّائِرُ هُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ فَلَا يُكْرَهُ، وَكَذَا مَنْ أَذِنَ لَهُ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ. وَفِيهِ أَنَّهُ يُشْرَعُ لِمَنْ دُعِيَ مِنْ الصَّالِحِينَ لِلتَّبَرُّكِ بِهِ الْإِجَابَةُ، وَإِجَابَةُ الْفَاضِلِ دَعْوَةَ الْمَفْضُولِ. بَاب أَنَّ أَفْضَلَ التَّطَوُّعِ مَثْنَى مَثْنَى فِيهِ 1268، 1269، 1270 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ هَانِئٍ وَقَدْ سَبَقَ. 1271 - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. وَلَيْسَ هَذَا بِمُنَاقِضٍ لِحَدِيثِهِ الَّذِي خَصَّ فِيهِ اللَّيْلَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ وَقَعَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ سَائِلٍ عَيَّنَهُ فِي سُؤَالِهِ.

(1/341)


1272- وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا قَامَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ، صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَأْمُرُ بِشَيْءٍ، وَيُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ. 1273- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَرْقُدُ، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ تَسَوَّكَ ثُمَّ تَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ يَجْلِسُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يُوتِرُ بِخَمْسِ رَكَعَاتٍ لَا يَجْلِسُ وَلَا يُسَلِّمُ إلَّا فِي الْخَامِسَةِ. 1274- وَعَنْ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الصَّلَاةُ مَثْنَى مَثْنَى وَتَشَهَّدُ وَتُسَلِّمُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتَبْأَسُ وَتَمَسْكَنُ وَتُقْنِعُ يَدَيْكَ وَتَقُولُ: اللَّهُمَّ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهِيَ خِدَاجٌ» . رَوَاهُنَّ ثَلَاثَتُهُنَّ أَحْمَدُ. 1275- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ تَسْلِيمَةٌ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. 1276- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي حِينَ تَزِيغُ الشَّمْسُ رَكْعَتَيْنِ وَقَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ يَجْعَلُ التَّسْلِيمَ فِي آخِرِهِ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِي صَلَاةِ تَطَوُّعِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَنْ يَكُونَ مَثْنَى مَثْنَى إلَّا مَا خُصَّ مِنْ ذَلِكَ إمَّا فِي جَانِبِ الزِّيَادَةِ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ صَلَّى أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ صَلَّى أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ. وَإِمَّا فِي جَانِبِ النُّقْصَانِ كَأَحَادِيثِ الْإِيتَارِ بِرَكْعَةٍ. قَالَ: وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَوَائِدُ. مِنْهَا مَشْرُوعِيَّةُ التَّسَوُّكِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ النَّوْمِ، وَمِنْهَا مَشْرُوعِيَّةُ التَّمَسْكُنِ وَالتَّفَاقُرِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ لِلْإِجَابَةِ، وَمِنْهَا مَشْرُوعِيَّةُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الدُّعَاءِ. قَالَ: وَحَدِيثُ عَلِيٍّ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مُتَّصِلَةٍ فِي النَّهَارِ فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُخَصِّصَاتِ لِأَحَادِيثِ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى. بَابُ جَوَازِ التَّنَفُّلِ جَالِسًا وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ 1277- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا بَدَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَثَقُلَ كَانَ أَكْثَرُ صَلَاتِهِ جَالِسًا. مُتَّفَق عَلَيْهِ.

(1/342)


1278- وَعَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فِي سُبْحَتِهِ قَاعِدًا حَتَّى كَانَ قَبْلَ وَفَاتِهِ، فَكَانَ يُصَلِّي فِي سُبْحَتِهِ قَاعِدًا، وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسُّورَةِ فَيُرَتِّلُهَا حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلَ مِنْهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1279- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَلَاةِ الرَّجُلِ قَاعِدًا قَالَ: إنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا. 1280- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي لَيْلًا طَوِيلًا قَائِمًا، وَلَيْلًا طَوِيلًا قَاعِدًا، وَكَانَ إذَا قَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ، رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَائِمٌ، وَإِذَا قَرَأَ قَاعِدًا، رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَاعِدٌ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ. 1281- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا لَمْ تَرَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي صَلَاةَ اللَّيْلِ قَاعِدًا قَطُّ حَتَّى أَسَنَّ، وَكَانَ يَقْرَأُ قَاعِدًا، حَتَّى إذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً ثُمَّ رَكَعَ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ وَزَادُوا إلَّا ابْنَ مَاجَهْ: ثُمَّ يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ كَذَلِكَ. 1282- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: رَأَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مُتَرَبِّعًا. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّنَفُّلِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ. قَالَ: وَحَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّنَفُّلِ مِنْ قُعُودٍ وَاضْطِجَاعٍ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا» . وَقَدْ اخْتَلَفَ شُرَّاحُ الْحَدِيثِ هَلْ هُوَ مَحْمُولُ عَلَى التَّطَوُّعِ أَوْ عَلَى الْفَرْضِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْقَادِرِ، فَحَمَلَهُ الْخَطَّابِيِّ عَلَى الثَّانِي، وَهُوَ مَحْمَلٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْمَرِيضَ الْمُفْتَرَضَ الَّذِي أَتَى بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْقُعُودِ وَالِاضْطِجَاعِ يُكْتَبُ لَهُ جَمِيعُ الْأَجْرِ لَا نِصْفُهُ، وَحَمَلَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ عَلَى التَّطَوُّعِ وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ الْجُمْهُورِ، وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ تَنْصِيفَ الْأَجْرِ إنَّمَا هُوَ لِلصَّحِيحِ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ فَصَلَّى جَالِسًا فَإِنَّهُ مِثْلُ أَجْرِ

(1/343)


الْقَائِمِ. قَالَ: وَحَدِيثُ عَائِشَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لِمَنْ صَلَّى قَاعِدًا أَنْ يَتَرَبَّعَ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ، وَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْعُدَ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ شَاءَ. بَابُ النَّهْي عَنْ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْإِقَامَةِ 1283- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ. 1284- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: «إلَّا الَّتِي أُقِيمَتْ» . 1285- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالكِ ابْنِ بُحَيْنَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلًا وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَاثَ بِهِ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «آلصُّبْحَ أَرْبَعًا، آلصُّبْحَ أَرْبَعًا» . مُتَّفَق عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الشُّرُوعُ فِي النَّافِلَةِ عِنْدَ إقَامَةِ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَغَيْرِهِمَا، وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. بَابُ الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا 1286- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1287- وَفِي لَفْظِ: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاتَيْنِ، بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 1288- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ. 1289- وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة مِثْلُ ذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 1290- وَفِي لَفْظِ عَنْ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ

(1/344)


حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَقَالَا فِيهِ: بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ. 1291- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ قَالَ: قُلْت: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ الصَّلَاةِ، قَالَ: صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَتَرْتَفِعَ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ، ثُمَّ صَلِّ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ، فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى تَغْرُبَ فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 1292- وَلِأَبِي دَاوُد نَحْوُهُ، وَأَوَّلُهُ عِنْدَهُ، قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ اللَّيْلِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَصَلِّ مَا شِئْتَ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَكْتُوبَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الصُّبْحَ. وَهَذِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ فِي الْفَجْرِ لا يَتَعَلَّقُ بِطُلُ, عِهِ بِالْفِعْلِ كَالْعَصْرِ. 1293- وَعَنْ يَسَارِ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رَآنِي ابْنُ عُمَرَ وَأَنَا أُصَلِّي بَعْدَ مَا طَلَعَ الْفَجْرُ، فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ، فَقَالَ: «لِيُبَلِّغْ شَاهِدُكُمْ غَائِبَكُمْ أَنْ لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ إلَّا رَكْعَتَيْنِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 1294- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: ثَلَاثُ سَاعَاتٍ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، أَوْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ، وَحِينَ تُضَيَّفُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ. 1295- وَعَنْ ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعَصْرِ وَيَنْهَى عَنْهَا، وَيُوَاصِلُ وَيَنْهَى عَنْ الْوِصَالِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ

(1/345)


الْفَجْرِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ. قَوْلُهُ: (ثَلَاثُ سَاعَاتٍ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، أَوْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا) إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَكَذَلِكَ الدَّفْنِ. وَقَدْ حَكَى النَّوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْكَرَاهَةِ. قَالَ: وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الْفَرَائِضِ الْمُؤَدَّاةِ فِيهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي النَّوَافِلِ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ. بَاب الرُّخْصَةُ فِي إعَادَةِ الْجَمَاعَةِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ فِي كُلِّ وَقْتٍ 1296- عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: شَهِدْت مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَجَّتَهُ، فَصَلَيْتُ مَعَهُ صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ انْحَرَفَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ فِي أُخْرَى الْقَوْمِ لَمْ يُصَلِّيَا، فَقَالَ: «عَلَيَّ بِهِمَا» . فَجِيءَ بِهِمَا تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا، فَقَالَ: «مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا» ؟ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا، قَالَ: «فَلَا تَفْعَلَا إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. 1297- وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُد: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي رَحْلِهِ ثُمَّ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ فَلْيُصَلِّهَا مَعَهُ، فَإِنَّهَا لَهُ نَافِلَةٌ» . 1298- وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ. 1299- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَوْ يَا بَنِي عَبْدَ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيُصَلِّي، فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ إلَّا عِنْدَ هَذَا الْبَيْتِ يَطُوفُونَ وَيُصَلُّونَ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ» . فيه تصريح بأن الثانية في الصلاة المعادة نافلة، وظاهره عدم الفرق بين أن تكون الأولى

(1/346)


جماعة أو فرادى، لأن ترك الاستفصال في مقام الاجتمال ينزل منزلة العموم في المقال. قَالَ: وَحَدِيثُ الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الدُّخُولِ مَعَ الْجَمَاعَةِ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ لِمَنْ كَانَ قَدْ صَلَّى تِلْكَ الصَّلَاةَ وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ وَقْتَ كَرَاهَةٍ لِلتَّصْرِيحِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ. فَيَكُونُ هَذَا مُخَصِّصًا لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْقَاضِيَةِ بِكَرَاهَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ. قَوْلُهُ: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِحَدِيثَيْ الْبَابِ عَلَى جَوَازِ الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ عَقِيبَهُ فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ.

(1/347)


أَبْوَابُ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ بَابُ مَوَاضِعِ السُّجُودِ فِي سُورَة الْحَجِّ وص وَالْمُفَصَّل 1300- عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَقَرَأَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً فِي الْقُرْآنِ، مِنْهَا ثَلَاثٌ فِي الْمُفَصَّلِ وَفِي الْحَجِّ سَجْدَتَانِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 1301- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ النَّبِيَّ قَرَأَ وَالنَّجْمِ فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرَ أَنَّ شَيْخًا مِنْ قُرَيْشٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَلَقَدْ رَأَيْته بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا. مُتَّفَق عَلَيْهِ. 1302- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَجَدَ بِالنَّجْمِ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1303- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَجَدْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي {إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ، وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ. 1304- وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَيْسَتْ ص مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَلَقَدْ رَأَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْجُدُ فِيهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1305- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَجَدَ فِي ص وَقَالَ: «سَجَدَهَا دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ تَوْبَةً، وَنَسْجُدُهَا شُكْرًا» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ.

(1/348)


1306- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ ص، فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ سَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمٌ آخَرُ قَرَأَهَا، فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ تَشَزَّنَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُكُمْ تَشَزَّنْتُمْ لِلسُّجُودِ فَنَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدُوا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَوَاضِعَ السُّجُودِ خَمْسَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا إِلِى أَنْ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ أَوَّلَ مَوَاضِعَ السُّجُودِ: خَاتِمَةُ الْأَعْرَافِ. وَثَانِيهَا: عِنْدَ قَوْلِهِ فِي الرَّعْد: {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} . وَثَالِثُهَا: عِنْدَ قَوْلِهِ فِي النَّحْلِ {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} . وَرَابِعُهَا: عِنْدَ قَوْلِهِ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} . وَخَامِسُهَا: عِنْدَ قَوْلِهِ فِي مَرْيَمَ: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} . وَسَادِسُهَا: عِنْدَ قَوْلِهِ فِي الْحَجِّ: {إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} . وَسَابِعُهَا: عِنْدَ قَوْله فِي الْفُرْقَانِ: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} . وَثَامِنُهَا: عِنْدَ قَوْلِهِ فِي النَّمْلِ: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} . وَتَاسِعُهَا: عِنْدَ قَوْلِهِ فِي آلم تَنْزِيلُ: {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} . وَعَاشِرُهَا: عِنْدَ قَوْلِهِ فِي ص: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} . وَالْحَادِيَ عَشَرَ: عِنْدَ قَوْلِهِ فِي حم السَّجْدَةِ: {إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ} . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} . وَالثَّانِيَ عَشَرَ، وَالثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ سَجَدَاتُ الْمُفَصَّلِ. وَالْخَامِسَ عَشَرَ السَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْحَجِّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى إثْبَاتِ سُجُودِ التِّلَاوَة وَهُوَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سُنَّةٌ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَاجِبٌ لَيْسَ بِفَرْضٍ. قَوْلُهُ (إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ وَالنَّجْمِ فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ كَانَ مَعَهُ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ السُّجُودِ لِمَنْ حَضَرَ عِنْدَ الْقَارِئِ. فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إثْبَاتِ السُّجُودِ فِي الْمُفَصَّلِ. قَوْله: (لَيْسَتْ ص مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ لَيْسَتْ ص مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَلَقَدْ رَأَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْجُدُ فِيهَا) . قَالَ الشَّارِحُ: الْمُرادُ بِالْعَزَائِمِ: مَا وَرَدَتْ الْعَزِيمَةُ فِي فِعْلِهِ كَصِيغَةِ الْأَمْرِ مَثَلًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمَنْدُوبَاتِ آكَدُ مِنْ بَعْضٍ عِنْدَ مَنْ لَا يَقُولُ بِالْوُجُوبِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ

(1/349)


سَأَلَهُ: مِنْ أَيْنَ أَخَذْتَ السُّجُودَ فِي ص فَقَالَ: مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ} إلَى قَوْلِهِ: {فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} . قَالَ الشَّارِحُ: وَلَا تَعَارُض بَيْنَهُمَا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ اسْتَفَادَهُ مِنْ الطَّرِيقَيْنِ، وَإِنَّمَا لَمْ تَكُنْ السَّجْدَةُ فِي ص مِنْ الْعَزَائِمِ لِأَنَّهَا بِلَفْظِ الرُّكُوعِ، فَلَوْلَا التَّوْقِيفُ مَا ظَهَرَ أَنَّ فِيهَا سَجْدَةً. بَابُ قِرَاءَة السَّجْدَة فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَالسِّرِّ 1307- وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ الصَّائِغِ قَالَ: صَلَيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ {إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فَسَجَدَ فِيهَا، فَقُلْت: مَا هَذِهِ؟ فَقَالَ سَجَدْت بِهَا خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم -، فَمَا أَزَالُ أَسْجُدُ فِيهَا حَتَّى أَلْقَاهُ. مُتَّفَق عَلَيْهِ. 1308- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَجَدَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ فَرَأَى أَصْحَابُهُ أَنَّهُ قَرَأَ تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1309- وَأَبُو دَاوُد، وَلَفْظُهُ: سَجَدَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ فَرَأَيْنَا أَنَّهُ قَرَأَ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ ظَاهِرَ السِّيَاقِ أَنَّ سُجُودَهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ فِي الصَّلَاةِ. وَفِي الْفَتْحِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَشْعَثَ عَنْ مَعْمَرٍ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ سُجُودَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا كَانَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيه رّدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ بِكَرَاهَةِ قِرَاءَةِ مَا فِيهِ. سَجْدَةٌ فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَاب سُجُود الْمُسْتَمِعِ إذَا سَجَدَ التَّالِي وَأَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْجُدْ لَمْ يَسْجُدْ 1310- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ عَلَيْنَا السُّورَةَ فَيَقْرَأُ السَّجْدَةَ فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ مَعَهُ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَكَانًا لِمَوْضِعِ جَبْهَتِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(1/350)


1311- وَلِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ. 1312- وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ رَجُلًا قَرَأَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - السَّجْدَةَ فَسَجَدَ فَسَجَدَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَرَأَ آخَرُ عِنْدَهُ السَّجْدَةَ فَلَمْ يَسْجُدْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَرَأَ فُلَانٌ عِنْدَك السَّجْدَةَ فَسَجَدْت وَقَرَأْت فَلَمْ تَسْجُدْ؟ فَقَالَ ... النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «كُنْتَ إمَامَنَا فَلَوْ سَجَدْتَ سَجَدْتُ» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ هَكَذَا مُرْسَلًا. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِتَمِيمِ بْنِ حَذْلَمَ وَهُوَ غُلَامٌ فَقَرَأَ عَلَيْهِ سَجْدَةً فَقَالَ: «اُسْجُدْ فَإِنَّك إمَامُنَا فِيهَا» . 1313- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَرَأْت عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالنَّجْمِ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. 1314- وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: فَلَمْ يَسْجُدْ مِنَّا أَحَدٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْقَارِئَ إِذَا سَجَدَ لَزَمَ الْمُسْتَمِعَ أَنْ يَسْجُدَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لا أُؤكِّدُ عَلَى السَّامِعِ كَمَا أُؤَكِّدُ عَلَى الْمُسْتَمِِعِ. وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى بِحَدِيثِ زَيْدٍ بْن ثَابِتٍ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ السُّجُودِ فَقَالَ: وَهُوَ حُجَّةٌ فِي أَنَّ السُّجُودَ لا يَجِبُ. قَالَ في الاختيارات: قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَالَّذِي تَبَيَّنَ لِي أَنَّ سُجُودَ التِّلاوَةِ وَاجِبٌ مُطْلَقًا فِي الصَّلاةِ وَغَيْرِهَا، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدٍ وَمَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَلا يَشْرُعُ فِيهِ تَحْرِيمٌ وَلا تَحْلِيلٌ. هَذَا هُوَ السُّنَّةُ الْمَعْرُوفَة عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهَا عَامَّةُ السَّلَفِ وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ هُوَ صَلاةٌ فَلا يُشْتَرَطُ لَهُ شُرُوط الصَّلاةِ بَلْ يَجُوزُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، وَاخْتَارَهَا الْبُخَارِيُّ. لَكِنِ السُّجُود بِشُرُوطِ الصَّلاةِ أَفْضَلُ. وَلا يَنْبَغِي أَنْ يَخِلُّ بِذَلِكَ إِلا لِعُذْرٍ فَالسُّجُودُ بِلا طَهَارَةٍ خَيْرٌ مِنَ الإِخْلالِ بِهِ لَكِنْ يُقَالُ: إِنَّهُ لا يَجِبُ فِي هَذِهِ الْحَال كَمَا لا يَجِبُ عَلَى السَّامِعِ إِذَا لَمْ يَسْجُدْ قَارِئُ السُّجُودِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ السُّجُود جَائِزًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.

(1/351)


باب السجود على الدابة وبيان أنه لا يجب بحال 1315- عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ عَامَ الْفَتْحِ سَجْدَةً فَسَجَدَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْهُمْ الرَّاكِبُ وَالسَّاجِدُ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى إنَّ الرَّاكِبَ لَيَسْجُدُ عَلَى يَدِهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 1316- وَعَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سُورَةَ النَّحْلِ حَتَّى جَاءَ السَّجْدَةَ فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ، حَتَّى إذَا كَانَتْ الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا حَتَّى إذَا جَاءَ السَّجْدَةَ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا لَمْ نُؤْمَرْ بِالسُّجُودِ، فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 1317- وَفِي لَفْظِ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضْ عَلَيْنَا السُّجُودَ إلَّا أَنْ نَشَاءَ) . قَوْلُهُ: (حَتَّى إنَّ الرَّاكِبَ لَيَسْجُدُ عَلَى يَدِهِ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ جَوَاز سُجُود الرَّاكِبِ عَلَى يَدِهِ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَهُوَ يَدُلّ عَلَى جَوَازِ السُّجُودِ فِي التِّلَاوَةِ لِمَنْ كَانَ رَاكِبًا مِنْ دُونِ نُزُولٍ، لِأَنَّ التَّطَوُّعَاتِ عَلَى الرَّاحِلَةِ جَائِزَةٌ. قَالَ: وَالْأَثَرُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْخُطْبَةِ وَجَوَازِ نُزُولِ الْخَطِيبِ وَسُجُودِهِ إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ السُّجُودِ فَوْقَ الْمِنْبَرِ. بَابُ التَّكْبِيرِ لِلسُّجُودِ وَمَا يَقُولُ فِيهِ 1318- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ، فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ كَبَّرَ وَسَجَدَ وَسَجَدْنَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 1319- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ: «سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 1320- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنِّي رَأَيْت الْبَارِحَةَ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي أُصَلِّي إلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ، فَقَرَأْتُ

(1/352)


السَّجْدَةَ، فَسَجَدَتْ الشَّجَرَةُ لِسُجُودِي، فَسَمِعْتُهَا تَقُولُ: اللَّهُمَّ اُحْطُطْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاكْتُبْ لِي بِهَا أَجْرًا وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَرَأَيْت ... النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ. فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ مِثْلَ الَّذِي أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ عَنْ قَوْلِ الشَّجَرَةِ. رَوَاهُ مَاجَهْ. 1321- وَالتِّرْمِذِيُّ وَزَادَ فِيهِ: وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِك دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَوْلُهُ: (فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ كَبَّرَ وَسَجَدَ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ التَّكْبِيرُ لِسُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الذِّكْرِ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ بِمَا اشْتَمَلَا عَلَيْهِ. وَقَالَ أيضًا: (فَائِدَةٌ) : لَيْسَ فِي أَحَادِيثِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ أَنْ يَكُونَ السَّاجِدُ مُتَوَضِّئًا وَقَدْ كَانَ يَسْجُدُ مَعَهُ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ حَضَرَ تِلَاوَتَهُ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَمَرَ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْوُضُوءِ، وَيَبْعُد أَنْ يَكُونُوا جَمِيعًا مُتَوَضِّئِينَ. وَأَيْضًا قَدْ كَانَ يَسْجُدُ مَعَهُ الْمُشْرِكُونَ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُمْ أَنْجَاسٌ لَا يَصِحُّ وُضُوؤُهُمْ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ. إِلِى أَنْ قَالَ: (فَائِدَةٌ أُخْرَى) : رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ سُجُودُ التِّلَاوَةِ الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ. وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ، لِأَنَّ الْمَذْكُورَ لَيْسَ بِصَلَاةٍ، وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي النَّهْيِ مُخْتَصَّةٌ بِالصَّلَاةِ. بَابُ سَجْدَةِ الشُّكْرِ 1322- عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا أَتَاهُ أَمْرٌ يَسُرُّهُ أَوْ بُشِّرَ بِهِ خَرَّ سَاجِدًا: شُكْرًا لِلَّهِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ. 1323- وَلَفْظُ أَحْمَدَ أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَتَاهُ بَشِيرٌ يُبَشِّرُهُ بِظَفَرِ جُنْدٍ لَهُ عَلَى عَدُوِّهِمْ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِ عَائِشَةَ، فَقَامَ فَخَرَّ سَاجِدًا فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَتَوَجَّهَ نَحْوَ صَدَفَتِهِ، فَدَخَلَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ. 1324- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَتَوَجَّهَ نَحْوَ صَدَفَتِهِ، فَدَخَلَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَخَرَّ سَاجِدًا فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ

(1/353)


وَقَالَ: «إنَّ جِبْرِيلَ فَبَشَّرَنِي، فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لَكَ: مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ صَلَيْتُ عَلَيْهِ، وَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ سَلَّمْت عَلَيْهِ، فَسَجَدْت لِلَّهِ شُكْرًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1325- وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَكَّةَ نُرِيدُ الْمَدِينَةَ فَلَمَّا كُنَّا قَرِيبًا مِنْ عَزْوَرَاءَ، نَزَلَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَدَعَا اللَّهَ سَاعَةً، ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا فَمَكَثَ طَوِيلًا، ثُمَّ قَامَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ سَاعَةً. ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا فَعَلَهُ ثَلَاثًا، وَقَالَ: «إنِّي سَأَلْتُ رَبِّي وَشَفَعْتُ لِأُمَّتِي، فَأَعْطَانِي ثُلُثَ أُمَّتِي، فَخَرَرْت سَاجِدًا شُكْرًا لِرَبِّي، ثُمَّ رَفَعْت رَأْسِي فَسَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي فَأَعْطَانِي ثُلُثَ أُمَّتِي، فَخَرَرْتُ سَاجِدًا لِرَبِّي ثُمَّ رَفَعْتُ رَأْسِي فَسَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي، فَأَعْطَانِي الثُّلُثَ الْآخِرَ، فَخَرَرْتُ سَاجِدًا لِرَبِّي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَسَجَدَ أَبُو بَكْرٍ حِينَ جَاءَهُ قَتْلُ مُسَيْلِمَةَ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ. وَسَجَدَ عَلِيٌّ - رضي الله عنه - حِينَ وَجَدَ ذَا الثُّدَيَّةُ فِي الْخَوَارِجِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ. وَسَجَدَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا بُشِّرَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَقِصَّتُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (صَدَفَتُهُ) بِفَتْحِ الصَّادِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَالْفَاءِ. وَالصَّدَفَةُ مِنْ أَسْمَاءِ الْبِنَاءِ الْمُرْتَفِعِ، وَفِي النِّهَايَةِ مَا لَفْظُهُ: (كَانَ إذَا مَرَّ بِصَدَفٍ مَائِلٍ أَسْرَعَ الْمَشْيَ) . قَالَ: الصَّدَفُ بِفَتْحَتَيْنِ وَضَمَّتَيْنِ: كُلّ بِنَاءٍ عَظِيمٍ مُرْتَفِعٍ تَشْبِيهًا بِصَدَفِ الْجَبَلِ، وَهُوَ مَا قَابَلَك مِنْ جَانِبِهِ، وَاسْمٌ لِحَيَوَانٍ فِي الْبَحْرِ. انْتَهَى. قُلْتُ: ومنه قوله تعالى {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا} . قَالَ الشَّارِحُ: وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ سُجُودِ الشُّكْرِ.

(1/354)


أَبْوَابُ سُجُود السَّهْو بَابُ مَا جَاءَ فِيمَنْ سَلَّمَ مِنْ نُقْصَانٍ 1326- عَنْ ابْن سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ إلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَوَضَعَ خَدَّهُ الْأَيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى، وَخَرَجْت السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالُوا: قُصِرَتْ الصَّلَاةُ؟ وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِسيتَ أَمْ قُصِرَتْ الصَّلَاةُ؟ فَقَالَ: «لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ» . فَقَالَ: «أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ» ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَيَقُولُ: أُنْبِئْت أَنَّ عِمْرَانَ ابْنَ حُصَيْنٍ قَالَ: ثُمَّ سَلَّمَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ لِمُسْلِمٍ فِيهِ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْيَدِ وَلَا التَّشْبِيكُ. 1327- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الظُّهْرِ سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقُصِرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِصَّةَ كَانَتْ بِحَضْرَتِهِ وَبَعْدَ إسْلَامِهِ.

(1/355)


1328- وَفِي رِوَايَةٍ - مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا - لَمَّا قَالَ: لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ قَالَ: بَلَى قَدْ نَسِيتُ. وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ تَكَلَّمَ بَعْدمَا عَلِمَ عَدَمَ النَّسْخ كَلَامًا لَيْسَ بِجَوَابِ سُؤَالٍ. 1329- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الْعَصْرَ فَسَلَّمَ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ. وَفِي لَفْظٍ: فَدَخَلَ الْحُجْرَةَ، فَقَامَ إلَيْهِ رَجُلٌ يُقَال لَهُ: الْخِرْبَاقُ، وَكَانَ فِي يَدِهِ طُولٌ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَكَر لَهُ صَنِيعَهُ، فَخَرَجَ غَضْبَانَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى انْتَهَى إلَى النَّاسِ فَقَالَ: «أَصَدَقَ هَذَا» ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَصَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ. 1330- وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ صَلَّى الْمَغْرِبَ فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ، فَنَهَضَ لِيَسْتَلِمَ الْحَجَرَ فَسَبَّحَ الْقَوْمُ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالَ: فَصَلَّى مَا بَقِيَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، قَالَ: فَذُكِرَ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: مَا أَمَاطَ عَنْ سُنَّةِ ... نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَصَلَّى مَا تَرَكَ) فِيهِ جَوَازُ الْبِنَاءِ عَلَى الصَّلَاةِ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا الْمُصَلِّي قَبْلَ تَمَامهَا نَاسِيًا، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. قَالَ: وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كَلامَ السَّاهِيَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَكَذَا كَلَامُ مَنْ ظَنَّ التَّمَامَ. وَفِيهِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ إذَا وَقَعَتْ سَهْوًا أَوْ مَعَ ظَنِّ التَّمَامِ لَا تُفْسِدُ الصَّلَاةَ. قَوْلُهُ: (ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ) . فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ إنَّ سُجُودَ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ كُلُّهُ مَحَلُّهُ بَعْدَ السَّلَامِ. الثَّانِي: أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ كُلَّهُ قَبْلَ السَّلَامِ. الثَّالِثُ: التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، فَيَسْجُدُ لِلزِّيَادَةِ بَعْدَ السَّلَامِ وَلِلنَّقْصِ قَبْلَهُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ كُلُّ حَدِيثٍ كَمَا وَرَدَ وَمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ. إِلِى أَنْ قَالَ: قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَجَمَاعَةٌ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَوْ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ لِلزِّيَادَةِ أَوْ

(1/356)


لِلنَّقْصِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَإِنَّمَا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْأَفْضَلِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَأَحْسَنُ مَا يُقَالُ فِي الْمَقَامِ إنَّهُ يَعْمَل عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ أَقْوَالُهُ وَأَفْعَالُهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ السُّجُودِ قَبْلِ السَّلَامِ وَبَعْدَهُ، فَمَا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ السُّجُودِ مُقَيَّدًا بِقَبْلِ السَّلَام سَجَدَ لَهُ قَبْلَهُ، وَمَا كَانَ مُقَيَّدًا بِبَعْدِ السَّلَامِ سَجَدَ لَهُ بَعْدَهُ، وَمَا لَمْ يَرِدْ تَقْيِيدُهُ بِأَحَدِهِمَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ السُّجُودِ قَبْلَ السَّلَامِ وَبَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ لِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا زَادَ الرَّجُلُ أَوْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» . انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ 1331- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَوَاحِدَةً صَلَّى أَمْ اثْنَتَيْنِ فَلْيَجْعَلْهَا وَاحِدَةً، وَإِذَا لَمْ يَدْرِ ثِنْتَيْنِ صَلَّى أَمْ ثَلَاثًا فَلْيَجْعَلْهَا ثِنْتَيْنِ، وَإِذَا لَمْ يَدْرِ ثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَجْعَلْهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ يَسْجُدُ إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ سَجْدَتَيْنِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1332- وَفِي رِوَايَةٍ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً يَشُكُّ فِي النُّقْصَانِ فَلْيُصَلِّ حَتَّى يَشُكَّ فِي الزِّيَادَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1333- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَطْرَحْ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لَهُ صَلَاتَهُ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى إتْمَامًا لِأَرْبَعٍ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 1334- وَعَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ إبْرَاهِيمُ: زَادَ أَوْ نَقَصَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ؟ قَالَ: «لَا، وَمَا ذَاكَ» ؟ قَالُوا: صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا، فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: «إنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ، وَلَكِنْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ

(1/357)


فَذَكِّرُونِي، وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيُسَلِّمْ، ثُمَّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ. 1335- وَفِي لَفْظِ ابْنِ مَاجَهْ وَمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ: «فَلْيَنْظُرْ أَقْرَبَ ذَلِكَ إلَى الصَّوَابِ» . 1336- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ بَيْنَ ابْنِ آدَمَ وَبَيْنَ نَفْسِهِ فَلَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 1337- وَهُوَ لِبَقِيَّةِ الْجَمَاعَةِ إلَّا قَوْلَهُ: «قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ» . 1338- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَبِمَا ذُكِرَ مَعَهُ مَنْ قَالَ: إنَّ مَنْ شَكَّ فِي رَكْعَةٍ بَنَى عَلَى الْأَقَلِّ مُطْلَقًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ. قَوْلُهُ: «مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ» . قَالَ الشَّارِحُ: احْتَجَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْوَارِدَةُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ لِأَجْلِ الشَّكِّ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ لِهَذَا السَّبَبِ يَكُونُ قَبْلَ السَّلَامِ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ لَا يَنْتَهِضُ لِمُعَارَضَتِهَا، وَلَكِنَّهُ يُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَيَكُونُ الْكُلُّ جَائِزًا. بَابُ مَنْ نَسِيَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ حَتَّى انْتَصَبَ قَائِمًا لَمْ يَرْجِعْ 1339- عَنْ ابْنِ بُحَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَسَبَّحُوا بِهِ فَمَضَى، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 1340- وَعَنْ زِيَادَةَ بْنِ عَلَاقَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَلَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَامَ وَلَمْ يَجْلِسْ فَسَبَّحَ بِهِ مَنْ خَلْفَهُ، فَأَشَارَ إلَيْهِمْ أَنْ قُومُوا بِنَا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِمْ سَلَّمَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا صَنَعَ

(1/358)


بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1341- وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ فَلَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا فَلْيَجْلِسْ وَإِنْ اسْتَتَمَّ قَائِمًا فَلَيَجْلِسْ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَاسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ أَنَّ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ لَيْسَ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ، إذْ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَمَا جُبِرَ بِالسُّجُودِ، وَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهِ كَسَائِرِ الْفُرُوضِ، وَبِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ وَذَهَبَ أَحْمَدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ إلَى وُجُوبِهِ. قَوْلُهُ: (وَإِنْ اسْتَتَمَّ قَائِمًا فَلَا يَجْلِسْ) . فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَوْدُ إلَى الْقُعُودِ وَالتَّشَهُّدِ بَعْدَ الِانْتِصَابِ الْكَامِلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَلَبَّسَ بِالْفَرْضِ فَلَا يَقْطَعُهُ وَيَرْجِعُ إلَى السُّنَّةِ. وَقِيلَ: يَجُوزَ لَهُ الْعَوْدُ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الْقِرَاءَةِ، فَإِنْ عَادَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِظَاهِرِ النَّهْيِ؛ وَلِأَنَّهُ زَادَ قُعُودًا. وَهَذَا إذَا تَعَمَّدَ الْعَوْدَ، فَإِنْ عَادَ نَاسِيًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَسْتَتِمَّ الْقِيَامَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَوْدُ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ فَلَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا فَلْيَجْلِسْ» . بَابُ مَنْ صَلَّى الرُّبَاعِيَّةَ خَمْسًا 1342- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا فَقِيلَ لَهُ: أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: «وَمَا ذَاكَ» ؟ قَالُوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا سَلَّمَ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلّ عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى خَمْسًا سَاهِيًا وَلَمْ يَجْلِسْ فِي الرَّابِعَةِ أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَفْسُدُ. وَإِلَى الْعَمَلِ بِمَضْمُونِهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ مَحَلُّهُمَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ مُطْلَقًا وَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ - صلى الله عليه وسلم - بِزِيَادَةِ الرَّكْعَةِ إلَّا بَعْدَ السَّلَامِ حِينَ سَأَلُوهُ: أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ بَعْدَ السَّلَامِ لِتَعَذُّرِهِ قَبْلَهُ.

(1/359)


بَابُ التَّشَهُّدِ لِسُجُودِ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ 1343- عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِهِمْ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ تَشَهَّدَ ثُمَّ سَلَّمَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ عِمْرَانَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّشَهُّدِ فِي سَجْدَتَيْ السَّهْوِ، فَإِذَا كَانَ بَعْدَ السَّلَامِ كَمَا فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ، فَقَدْ حَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ أَنَّهُ يَتَشَهَّدُ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ قَبْلَ السَّلَامِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعِيدُ التَّشَهُّدَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَهَلْ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ إِذَا سَجَدَ بَعْدَ السَّلامِ؟ فِيهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ، ثَالِثُهَا الْمُخْتَار: يُسَلِّمُ وَلا يَتَشَهَّدُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينِ، وَوَجُهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدٍ وَالأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. انْتَهَى. وَاللهُ أَعْلَمُ. قَالَ الشَّارِحُ: الْحَدِيثُ - يَعْنِي حَدِيثَ عِمْرَانَ - أَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ حِبَّانٍ وَالْحَاكِمُ وَحَسَّنَهُ التّرْمِذِيُّ وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانٍ وَضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِي وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرِهِمَا. قَالُوا: وَالْمَحْفُوظُ فِي حَدِيثِ عِمْرَانٍ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ التَّشَهُّدَ وَإِنَّمَا تَفَرَّدَ بِهِ أَشْعَثُ عَنِ ابْنِ سِيرِين، وَقَدْ خَالَفَ فِيهِ غَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ عَنِ ابْنِ سِيرِين. وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيِ الْحَدِيثِ بِدُونِ ذِكْرِ التَّشَهُّدِ.

(1/360)


أَبْوَابُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ بَابُ وُجُوبِهَا وَالْحَثِّ عَلَيْهَا 1344- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1345- وَلِأَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ أَقَمْتُ صَلَاةَ الْعِشَاءِ وَأَمَرْتُ فِتْيَانِي يُحَرِّقُونَ مَا فِي الْبُيُوتِ بِالنَّارِ» . 1346- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا أَعْمَى قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إلَى الْمَسْجِدِ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ، فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ: «هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ» ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَأَجِبْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 1347- وَعَنْ عَمْرِو ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا ضَرِيرٌ شَاسِعُ الدَّارِ وَلِي قَائِدٌ لَا يُلَائِمُنِي فَهَلْ تَجِدُ لِي رُخْصَةً أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي؟ قَالَ: «أَتَسْمَعُ النِّدَاءَ» ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «مَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ.

(1/361)


1348- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتَنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ. 1349- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» . 1350- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَصَلَاتِهِ فِي سُوقِهِ بِضْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 1351- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الصَّلَاةُ فِي جَمَاعَةٍ تَعْدِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ صَلَاةً، فَإِذَا صَلَّاهَا فِي فَلَاةٍ فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ صَلَاةً» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ: «أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ» إلى آخره. وَالْحَدِيثُ اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ سُنَّةً لَمْ يُهَدَّدْ تَارِكُهَا بِالتَّحْرِيقِ، وَلَوْ كَانَتْ فَرْضَ كِفَايَةٍ لَكَانَتْ قَائِمَةً بِالرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَنْ مَعَهُ. قَوْلُهُ: (أَنَّ رَجُلًا أَعْمَى قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إلَى الْمَسْجِدِ) إلى آخره. وَالْحَدِيثَانِ اسْتَدَلَّ بِهِمَا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْجَمَاعَةَ فَرْضُ عَيْنٍ. وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ سَأَلَ هَلْ لَهُ رُخْصَةٌ فِي أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ وَتَحْصُلُ لَهُ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ لِسَبَبِ عُذْرِهِ؟ فَقِيلَ: لَا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ حُضُورَ الْجَمَاعَةِ يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْعُذْرِ الْعَمَى إذَا لَمْ يَجِدْ قَائِدًا كَمَا فِي حَدِيثِ عِتْبَانِ بْنِ مَالِكٍ. قَوْلُهُ: (صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً) . قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثَيْنِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ (أَفْضَلَ) تَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي أَصْلِ الْفَضْلِ. إِلِى أَنْ قَالَ: فَأَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَأَقْرَبُهَا إلَى الصَّوَابِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ مِنْ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ الَّتِي لَا يُخِلُّ بِمُلَازَمَتِهَا مَا أَمْكَنَ إلَّا مَحْرُومٌ مَشْئُومٌ، وَأَمَّا أَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ أَوْ كِفَايَةٍ أَوْ شَرْطٍ

(1/362)


لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فَلَا. وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا لَفْظُهُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَى مَنْ أَبْطَلَ صَلَاةَ الْمُنْفَرِدِ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَجَعَلَ الْجَمَاعَةَ شَرْطًا؛ لِأَنَّ الْمُفَاضَلَةَ بَيْنَهُمَا تَسْتَدْعِي صِحَّتَهُمَا، وَحَمْلُ النَّصِّ عَلَى الْمُنْفَرِدِ لِعُذْرٍ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ أَجْرَهُ لَا يَنْقُصُ عَمَّا يَفْعَلُهُ لَوْلَا الْعُذْرُ فَرَوَى أَبُو مُوسَى: 1352- عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِثْلَ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 1353- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ رَاحَ فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ صَلَّاهَا وَحَضَرَهَا لَا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. قُلْتُ: صَلاةُ الْجَمَاعَةِ سُنَّةٌ وَالْمُتَخَلِّفُ عَنْهَا ضَالٌّ تَارِكٌ لِسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَالِكٌ سَبِيلَ الْمُنَافِقِينَ، وَكَمْ قَدْ حَصَلَ بِهَذِهِ الدَّعْوَى مِنْ مَفَاسِدٍ يَبْكِي لَهَا الإِسْلامُ فَإِذَا قِيلَ لَهُ: صَلِّ مَعَ الْجَمَاعَةِ. قَالَ: هِيَ سُنَّةٌ إِنْ شِئْتُ صَلَّيْتُ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ شِئْتُ صَلَّيْتُ فِي بَيْتِي فَتَهُونُ عِنْدَهُ صَلاة الْجَمَاعَةِ وَتَثْقُلُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَهُونُ عِنْدَهُ الْوَقْتَ فَلا يُصَلِّيهَا إِلا فِي آخِرِهِ ثُمَّ يَتْرُكُهَا حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ ثُمَّ يُعَاقَبُ بِتَرْكِهَا رَأْسًا وَالاسْتِهْزَاءُ بِأَهْلِهَا. قال الله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون} . وَقَالَ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابن مَسْعُود - رضي الله عنه - قَالَ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا سَالِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ. فَإِنَّ اللهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - سُنَنِ الْهُدَى وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى وَلَوْ أَنَكُمْ صَلَيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ وَلَقَدْ كَانَ

(1/363)


الرَّجُلُ يَؤْتَى بِهِ يَتَهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَام فِي الصَّفِّ. بَابُ حُضُورِ النِّسَاءِ الْمَسَاجِدَ وَفَضْلِ صَلَاتِهِنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ 1354- عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إلَى الْمَسْجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنُ مَاجَهْ. 1355- وَفِي لَفْظِ: «لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ أَنْ يَخْرُجْنَ إلَى الْمَسَاجِدَ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 1356- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 1357- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلَا تَشْهَدْنَ مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 1358- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «خَيْرُ مَسَاجِدِ النِّسَاءِ قَعْرُ بُيُوتِهِنَّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -

(1/364)


رَأَى مِنْ النِّسَاءِ مَا رَأَيْنَا لَمَنَعَهُنَّ مِنْ الْمَسْجِدِ كَمَا مَنَعَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ نِسَاءَهُمْ، قُلْت لِعَمْرَةَ: أَوْ مَنَعَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ نِسَاءَهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ» . الْحَدِيثُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَخُصَّ اللَّيْلُ بِالذِّكْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ السِّتْرِ بِالظُّلْمَةِ. قَالَ: وَوَجْهُ كَوْنِ صَلَاتِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلَ: الْأَمْنُ مِنْ الْفِتْنَةِ. قَوْلُهُ: (وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ) بِفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الْفَاءِ: أَيْ غَيْرِ مُتَطَيِّبَاتٍ. قَالَ: وَيَلْحَقُ بِالطِّيبِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْمُحَرِّكَاتِ لِدَاعِي الشَّهْوَةِ كَحُسْنِ الْمَلْبَسِ وَالتَّحَلِّي الَّذِي يَظْهَرُ أَثَرُهُ وَالزِّينَةُ الْفَاخِرَةُ. بَابُ فَضْلِ الْمَسْجِدِ الْأَبْعَدِ وَالْكَثِيرِ الْجَمْعِ 1359- عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ أَجْرًا أَبْعَدُهُمْ إلَيْهَا مَمْشًى» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 1360- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْأَبْعَدُ فَالْأَبْعَدُ مِنْ الْمَسْجِدِ أَعْظَمُ أَجْرًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 1361- وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «صَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلَاتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ فَهُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ أَجْرَ مَنْ كَانَ مَسْكَنُهُ بَعِيدًا مِنْ الْمَسْجِدِ أَعْظَمُ مِمَّنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ. قَوْلُهُ: (وَمَا كَانَ أَكْثَرَ فَهُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى) فِيهِ أَنَّ مَا كَثُرَ جَمْعُهُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّا قَلَّ جَمْعُهُ. بَابُ السَّعْيِ إلَى الْمَسْجِدِ بِالسَّكِينَةِ 1362- عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ سَمِعَ

(1/365)


جَلَبَةَ رِجَالٍ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: «مَا شَأْنُكُمْ» ؟ قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: «فَلَا تَفْعَلُوا، إذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةَ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1363- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا سَمِعْتُمْ الْإِقَامَةَ فَامْشُوا إلَى الصَّلَاةِ وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةَ وَالْوَقَارَ، وَلَا تُسْرِعُوا فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيُّ. 1364- وَلَفْظُ النَّسَائِيّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ: «فَاقْضُوا» . 1365- وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «إذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ فَلَا يَسْعَى إلَيْهَا أَحَدُكُمْ، وَلَكِنْ لِيَمْشِ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، فَصَلِّ مَا أَدْرَكْتَ، وَاقْضِ مَا سَبَقَكَ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» ، وَرِوَايَةُ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامٍ عَنْ شَيْبَانُ «فَاقْضُوا» . قَالَ الْحَافِظُ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ وَرَدَ بِلَفْظِ «فَأَتِمُّوا» وَأَقَلُّهَا بِلَفْظِ «فَاقْضُوا» ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ ذَلِكَ إذَا جَعَلْنَا بَيْنَ التَّمَامِ وَالْقَضَاءِ مُغَايَرَةً، لَكِنْ إذَا كَانَ مَخْرَجُ الْحَدِيثِ وَاحِدًا وَاخْتُلِفَ فِي لَفْظَةٍ مِنْهُ وَأَمْكَنَ رَدُّ الِاخْتِلَافِ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ كَانَ أَوْلَى، وَهَذَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَإِنْ كَانَ يُطْلَقُ عَلَى الْفَائِتَةِ غَالِبًا لَكِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْأَدَاءِ أَيْضًا، وَيَرِدُ بِمَعْنَى الْفَرَاغِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} وَيَرِدُ لِمَعَانٍ أُخَرَ، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ هُنَا: «فَاقْضُوا» عَلَى مَعْنَى الْأَدَاءِ، وَالْفَرَاغِ فَلَا يُغَايِرُ قَوْلَهُ: «فَأَتِمُّوا» فَلَا حُجَّةَ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِرِوَايَةِ: ... «فَاقْضُوا» عَلَى أَنَّ مَا أَدْرَكَهُ مَعَ الْإِمَامِ هُوَ آخِرُ صَلَاتِهِ حَتَّى يُسْتَحَبَّ لَهُ الْجَهْرُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْآخِرَتَيْنِ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَأَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَشَهَّدَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَوْ كَانَ مَا يُدْرِكُهُ مَعَ الْإِمَامِ آخِرًا لَهُ لَمَا احْتَاجَ إلَى إعَادَةِ التَّشَهُّدِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمَشْيِ إلَى الصَّلَاةِ عَلَى سَكِينَةٍ وَوَقَارٍ وَكَرَاهِيَةِ الْإِسْرَاعِ وَالسَّعْيِ. وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ مَا نُبِّهَ عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إذَا كَانَ يَعْمِدُ إلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ» . أَيْ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي فَيَنْبَغِي لَهُ اعْتِمَادُ مَا يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي اعْتِمَادُهُ وَاجْتِنَابُ مَا يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي اجْتِنَابُهُ.

(1/366)


قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ: إنَّ مَا أَدْرَكَهُ الْمَسْبُوقُ آخِرَ صَلَاتِهِ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِخِلَافِهِ بِلَفْظَةِ الْإِتْمَامِ. بَابُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْإِمَامُ مِنْ التَّخْفِيفِ 1366- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ. فَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. 1367- لَكِنَّهُ لَهُ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ. 1368- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُوجزُ الصَّلَاةَ وَيُكْمِلُهَا. 1369- وَفِي رِوَايَةٍ: مَا صَلَّيْتُ خَلْفَ إمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلَاةً وَلَا أَتَمَّ صَلَاةً مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 1370- وَعَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ إطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا أَبَا دَاوُد وَالنَّسَائِيَّ. 1371- لَكِنَّهُ لَهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (يُوجزُ الصَّلَاةَ وَيُكْمِلُهَا) فِيهِ أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ التَّخْفِيفِ لَا تَسْتَلْزِمُ أَنْ تَبْلُغَ إلَى حَدٍّ يَكُونُ بِسَبَبِهِ عَدَمُ تَمَامِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَقِرَاءَتِهَا، وَأَنَّ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْإِيجَازِ وَالْإِتْمَامِ لَا يُشْتَكَى مِنْهُ تَطْوِيلٌ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُتِمُّونَ وَيُوجِزُونَ وَيُبَادِرُونَ الْوَسْوَسَةَ، فَبَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي تَخْفِيفِهِمْ. قَالَ: وَأَحَادِيثُ الْبَاب تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّخْفِيفِ لِلْأَئِمَّةِ وَتَرْكِ التَّطْوِيلِ لِلْعِلَلِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ الضَّعْفِ وَالسَّقَمِ وَالْكِبَرِ وَالْحَاجَةِ وَاشْتِغَالِ خَاطِرِ أُمِّ الصَّبِيِّ بِبُكَائِهِ، وَيَلْحَقُ بِهَا مَا كَانَ فِيهِ مَعْنَاهَا. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: التَّخْفِيفُ لِكُلِّ إمَامٍ أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، مَنْدُوبٌ

(1/367)


عِنْدَ الْعُلَمَاءِ إلَيْهِ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ أَقَلُّ الْكَمَالِ. وَأَمَّا الْحَذْفُ وَالنُّقْصَانُ فَلا؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ نَهَى عَنْ نَقْرِ الْغُرَابِ، وَرَأَى رَجُلًا يُصَلِّي فَلَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهُ، فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ، وَقَالَ: لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى مَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ. بَابُ إطَالَةِ الْإِمَامِ الرَّكْعَةَ الْأُولَى وَانْتِظَارِ مَنْ أَحَسَّ بِهِ دَاخِلًا لِيُدْرِكَ الرَّكْعَةَ 1372- فِيهِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ وَقَدْ سَبَقَ. 1373- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَال: لَقَدْ كَانَتْ الصَّلَاةُ تُقَامُ فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إلَى الْبَقِيعِ فَيَقْضِي حَاجَتَهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يَأْتِي وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِمَّا يُطَوِّلُهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ. 1374- وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: كَانَ يَقُومُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ حَتَّى لَا يُسْمَعَ وَقْعُ قَدَمٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ مَشْرُوعِيَّةُ التَّطْوِيلِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَغَيْرِهَا، وفي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: «فَظَنَنَّا أَنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يُدْرِكَ النَّاسُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى» . وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: إنْ كَانَ الِانْتِظَارُ لَا يَضُرُّ بِالْمَأْمُومِينَ جَازَ. بَابُ وُجُوبِ مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ وَالنَّهْيِ عَنْ مُسَابَقَتِهِ 1375- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعُونَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1376- وَفِي لَفْظِ: «إنَّمَا الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَلَا تُكَبِّرُوا حَتَّى يُكَبِّرَ، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَلَا تَرْكَعُوا حَتَّى يَرْكَعَ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا،

(1/368)


وَلَا تَسْجُدُوا حَتَّى يَسْجُدَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 1377- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامَ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ، أَوْ يُحَوِّلَ اللَّهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ؟» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 1378- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي إمَامُكُمْ فَلَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ وَلَا بِالْقِيَامِ وَلَا بِالْقُعُودِ وَلَا بِالِانْصِرَافِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 1379- وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَرْكَعُوا حَتَّى يَرْكَعَ، وَلَا تَرْفَعُوا حَتَّى يَرْفَعَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا كَبَّرَ ... فَكَبِّرُوا» . الحديث. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْمُرَادُ بِالْحَصْرِ هُنَا حَصْرُ الْفَائِدَةِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ وَالِاتِّبَاعِ لَهُ، وَمِنْ شَأْنِ التَّابِعِ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ عَلَى الْمَتْبُوعِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لَا يُخَالِفَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْوَالِ الَّتِي فَصَّلَهَا الْحَدِيثُ، وَلَا فِي غَيْرِهَا قِيَاسًا عَلَيْهَا، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ لَا الْبَاطِنَةِ، وَهِيَ مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْمَأْمُومُ كَالنِّيَّةِ فَلَا يَضُرَّ الِاخْتِلَافُ فِيهَا. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا» . فِيهِ أَنَّ الْمَأْمُومَ لَا يَشْرَعُ لَهُ فِي التَّكْبِيرِ إلَّا بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الرُّكُوعُ وَالرَّفْعُ مِنْهُ وَالسُّجُودُ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الرَّفْعِ قَبْلَ الْإِمَامِ لِكَوْنِهِ تَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِالْمَسْخِ وَهُوَ أَشَدُّ الْعُقُوبَاتِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّه آثِمٌ وَتُجْزِئُهُ صَلَاتُهُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ انْعِقَادِ الْجَمَاعَةِ بِاثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا صَبِيٌّ أَوْ امْرَأَةٌ 1380- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ، فَقُمْتُ أُصَلِّي مَعَهُ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِرَأْسِي وَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.

(1/369)


1381- وَفِي لَفْظٍ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا يَوْمَئِذٍ ابْنُ عَشْرٍ، وَقُمْتُ إلَى جَنْبِهِ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، قَالَ: وَأَنَا يَوْمَئِذٍ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1382- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مِنْ اسْتَيْقَظَ مِنْ اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا كُتِبَا مِنْ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ: (بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ) إلخ.. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ لَهُ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ، مِنْهُ مَا بَوَّبَ لَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ انْعِقَادِ الْجَمَاعَةِ بِاثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا صَبِيٌّ، وَلَيْسَ عَلَى قَوْلِ مَنْ مَنَعَ مِنْ انْعِقَادِ إمَامَةِ مَنْ مَعَهُ صَبِيٌّ فَقَطْ دَلِيلٌ. وَمِنْهَا صِحَّةُ صَلَاةِ النَّوَافِلِ جَمَاعَةً، وَمِنْهَا أَنَّ مَوْقِفَ الْمُؤْتَمِّ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ. وَمِنْهَا جَوَازُ الِائْتِمَامِ بِمَنْ لَمْ يَنْوِ الْإِمَامَةَ. وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ لِذَلِكَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «مِنْ اسْتَيْقَظَ مِنْ اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ إيقَاظِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ بِاللَّيْلِ لِلصَّلَاةِ، واسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الْإِمَامَةِ وَانْعِقَادِهَا بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ. بَابُ انْفِرَادِ الْمَأْمُومِ لِعُذْرٍ 1383- ثَبَتَ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ تُفَارِقُ الْإِمَامَ وَتُتِمَّ، وَهِيَ مُفَارِقَةٌ لِعُذْرٍ. 1384- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَؤُمُّ قَوْمَهُ، فَدَخَلَ حَرَامٌ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَسْقِيَهُ نَخْلَهُ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ مَعَ الْقَوْمِ، فَلَمَّا رَأَى مُعَاذًا طَوَّلَ تَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ وَلَحِقَ بِنَخْلِهِ يَسْقِيهِ، فَلَمَّا قَضَى مُعَاذٌ الصَّلَاةَ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ: إنَّهُ لَمُنَافِقٌ أَيَعْجَلُ عَنْ الصَّلَاةِ مِنْ أَجْلِ سَقْيِ نَخْلِهِ؟ قَالَ: فَجَاءَ حَرَامٌ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمُعَاذٌ عِنْدَهُ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَسْقِيَ نَخْلًا لِي، فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ لِأُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ، فَلَمَّا طَوَّلَ تَجَوَّزْتُ فِي صَلَاتِي

(1/370)


وَلَحِقْتُ بِنَخْلِي أَسْقِيهِ، فَزَعَمَ أَنِّي مُنَافِقٌ، فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مُعَاذٍ فَقَالَ: «أَفَتَّانٌ أَنْتَ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ، لَا تُطَوِّلْ بِهِمْ، اقْرَأْ بِ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَنَحْوِهِمَا» . 1385- وَعَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ الْعِشَاءَ فَقَرَأَ فِيهَا {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ} .، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَفْرُغَ فَصَلَّى وَذَهَبَ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ قَوْلًا شَدِيدًا، فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَاعْتَذَرَ إلَيْهِ وَقَالَ: إنِّي كُنْتُ أَعْمَلُ فِي نَخْلٍ وَخُفْتُ عَلَى الْمَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْنِي لِمُعَاذٍ: «صَلِّ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَنَحْوِهَا مِنْ السُّوَرِ» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. 1386- فَإِنْ قِيلَ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي فَارَقَ مُعَاذًا سَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ مَا بَنَى بَلْ اسْتَأْنَفَ، قِيلَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: إنَّ مُعَاذًا اسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُمَا قِصَّتَانِ وَقَعَتَا فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، إمَّا لِرَجُلٍ أَوْ لِرِجْلَيْنِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ قَوَّى الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ إسْنَادَ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: هِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ الْحَمْلُ عَلَى تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ، أَوْ تَرْجِيحُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مَعَ عَدَمِ الْإِمْكَانِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِحَدِيثِ أَنَسٍ وَبُرَيْدَةَ الْمَذْكُورَيْنِ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ مَنْ قَطَعَ الِائْتِمَامَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ لِعُذْرٍ وَأَتَمَّ لِنَفْسِهِ. وَجُمِعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَنَّهُ سَلَّمَ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ بِتَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ: تَجَوَّزْتُ فِي صَلَاتِي كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَصَلَّى وَذَهَبَ كَمَا فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ لَا يُنَافِي الْخُرُوجُ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ بِالتَّسْلِيمِ وَاسْتِئْنَافِهَا فُرَادَى وَالتَّجَوُّزِ فِيهَا، لِأَنَّ جَمِيعَ الصَّلَاةِ تُوصَفُ بِالتَّجَوُّزِ كَمَا تُوصَفُ بِهِ بَقِيَّتُهَا. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ بِلَفْظِ: فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ فَصَلَّى فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: فَانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ. وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ مَا فِي حَدِيثَيْ الْبَابِ مُحْتَمَلًا، وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مُبَيِّنًا لِذَلِكَ.

(1/371)


بَابُ انْتِقَالِ الْمُنْفَرِدِ إمَامًا فِي النَّوَافِلِ 1387- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ فَجَئْتُ فَقُمْتُ خَلْفَهُ، وَقَامَ رَجُلٌ فَقَامَ إلَى جَنْبِي، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ حَتَّى كُنَّا رَهْطًا، فَلَمَّا أَحَسَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّنَا خَلْفَهُ تَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ، ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَصَلَّى صَلَاةً لَمْ يُصَلِّهَا عِنْدَنَا، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَطِنْتَ بِنَا اللَّيْلَةَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، فَذَلِكَ الَّذِي حَمَلَنِي عَلَى مَا صَنَعْتُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 1388- وَعَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اتَّخَذَ حُجْرَةً، قَالَ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: «مِنْ حَصِيرٍ فِي رَمَضَانَ فَصَلَّى فِيهَا لَيَالِيَ، فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا عَلِمَ بِهِمْ جَعَلَ يَقْعُدُ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتُ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 1389- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي فِي حُجْرَتِهِ وَجِدَارُ الْحُجْرَةِ قَصِيرٌ فَرَأَى النَّاسُ شَخْصَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَامَ نَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، فَأَصْبَحُوا فَتَحَدَّثُوا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ، فَقَامَ نَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى مَا بَوَّبَ لَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ جَوَازِ انْتِقَالِ الْمُنْفَرِدِ إمَامًا فِي النَّوَافِلِ وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهَا لِعَدَمِ الْفَارِقِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ عَلَى جَوَاز أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْمُؤْتَمِّينَ بِهِ حَائِطٌ أَوْ سُتْرَةٌ. بَابُ الْإِمَامِ يَنْتَقِلُ مَأْمُومًا إذَا اسْتَخْلَفَ فَحَضَرَ مُسْتَخْلِفُهُ 1390- عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَهَبَ إلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ، فَحَانَتْ الصَّلَاةُ فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: أَتُصَلِّي بِالنَّاسِ فَأُقِيمَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالنَّاسُ فِي الصَّلَاةِ، فَتَخَلَّصَ حَتَّى وَقَفَ فِي الصَّفِّ، فَصَفَّقَ النَّاسُ، وَكَانَ

(1/372)


أَبُو بَكْرٍ لا يَلْتَفِتُ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَّصْفِيقَ الْتَفَتَ، فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَشَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ اُمْكُثْ مَكَانَكَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفِّ، وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إذْ أَمَرْتُكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَا لِي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرْتُمْ التَّصْفِيقَ، مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ، فَإِنَّهُ إذَا سَبَّحَ اُلْتُفِتَ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1391- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ قَالَ: كَانَ قِتَالٌ بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَاهُمْ بَعْدَ الظُّهْرِ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ وَقَالَ: يَا بِلَالُ إنْ حَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَلَمْ آتِ فَمُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، قَالَ: فَلَمَّا حَضَرَتْ الْعَصْرُ أَقَامَ بِلَالٌ الصَّلَاةَ، ثُمَّ أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ فَتَقَدَّمَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. 1392- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّ بِالنَّاسِ» . فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي، فَوَجَدَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ مَكَانَكَ، ثُمَّ أَتَيَا بِهِ حَتَّى جَلَسَ إلَى جَنْبِهِ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِمًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي قَاعِدًا، يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَالنَّاسُ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1393- وَلِلْبُخَارِيِّ فِي رِوَايَةٍ: فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْن رَجُلَيْنِ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ. 1394- وَلِمُسْلِمٍ: وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بِالنَّاسِ وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُهُمْ التَّكْبِيرَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ) أَيْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ. وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: (فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَكَبَّرَ) وَفِي رِوَايَةٍ: (فَاسْتَفْتَحَ أَبُو بَكْرٍ) . وَبِهَذَا يُجَابُ عَنْ سَبَبِ اسْتِمْرَارِهِ فِي الصَّلَاةِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَامْتِنَاعِهِ مِنْ الِاسْتِمْرَارِ فِي هَذَا الْمَقَامِ؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ قَدْ مَضَى مُعْظَمُ الصَّلَاةِ فَحَسُنَ

(1/373)


الِاسْتِمْرَارُ، وَهُنَا لَمْ يَمْضِ إلَّا الْيَسِيرُ. قَالَ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَا بَوَّبَ لَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ جَوَازِ انْتِقَالِ الْإِمَامِ مَأْمُومًا إذَا اسْتَخْلَفَ فَحَضَرَ مُسْتَخْلِفُهُ، وَادَّعَى ابْنُ عَبْد الْبَرِّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ. وَنُوقِضَ أَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ. وَلِلْحَدِيثِ فَوَائِدٌ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَهَا فَقَالَ: فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ أَنَّ الْمَشْيَ مِنْ صَفٍّ إلَى صَفٍّ يَلِيهِ لَا يُبْطِلُ، وَأَنَّ حَمْدَ اللَّهِ لِأَمْرٍ يَحْدُثُ وَالتَّنْبِيهُ بِالتَّسْبِيحِ جَائِزَانِ، وَأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ فِي الصَّلَاةِ لِعُذْرٍ جَائِزٍ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ قُصَارَاهُ وُقُوعُهَا بِإِمَامَيْنِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَمِنْ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ جَوَازُ كَوْنِ الْمَرْءِ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ إمَامًا وَفِي بَعْضِهَا مَأْمُومًا. وَجَوَازُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ الدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ وَجَوَازُ الِالْتِفَاتِ لِلْحَاجَةِ، وَجَوَازُ مُخَاطَبَةِ الْمُصَلِّي بِالْإِشَارَةِ، وَجَوَازُ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ عَلَى الْوَجَاهَةِ فِي الدِّينِ، وَجَوَازُ إمَامَةِ الْمَفْضُولِ لِلْفَاضِلِ، وَجَوَازُ الْعَمَلِ الْقَلِيلِ فِي الصَّلَاةِ. بَابُ مَنْ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً بَعْدَ إمَامِ الْحَيِّ 1395- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَصْحَابِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى ذَا فَيُصَلِّي مَعَهُ» ؟ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَصَلَّى مَعَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ بِمَعْنَاهُ. 1396- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَصْحَابِهِ الظُّهْرَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَذَكَرَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الدُّخُولِ مَعَ مَنْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ مُنْفَرِدًا، وَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ مَعَهُ قَدْ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ. قَالَ: وَالْحَدِيثُ مِنْ مُخَصِّصَاتِ حَدِيثِ: «لَا تُعَادُ صَلَاةٌ فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ» .

(1/374)


بَابُ الْمَسْبُوقِ يَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ وَلَا يَعْتَدُّ بِرَكْعَةٍ لَا يُدْرِكُ رُكُوعُهَا 1397- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا جِئْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ وَنَحْنُ سُجُودٌ فَاسْجُدُوا وَلَا تَعُدُّوهَا شَيْئًا، وَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 1398- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» . أَخْرَجَاهُ. 1399- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الصَّلَاةَ وَالْإِمَامُ عَلَى حَالٍ فَلْيَصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْإِمَامُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «وَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ» . قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا هُنَا الرُّكُوعُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ» فَيَكُونُ مُدْرِكُ الْإِمَامِ رَاكِعًا مُدْرِكًا لِتِلْكَ الرَّكْعَةِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. قَوْلُهُ: «فَلْيَصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْإِمَامُ» . فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ دُخُولِ اللَّاحِقِ مَعَ الْإِمَامِ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءٍ الصَّلَاةِ أَدْرَكَهُ مِنْ غَيْر فَرْقٍ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقُعُودِ. بَابُ الْمَسْبُوقِ يَقْضِي مَا فَاتَهُ إذَا سَلَّمَ إمَامُهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ 1400- عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: تَخَلَّفْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَتَبَرَّزَ وَذَكَرَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ عَمَدَ النَّاسَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ يُصَلِّي بِهِمْ، فَصَلَّى مَعَ النَّاسِ الرَّكْعَةَ الْأَخِيرَةَ، فَلَمَّا سَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُتِمُّ صَلَاتَهُ، فَلَمَّا قَضَاهَا أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: «قَدْ أَحْسَنْتُمْ وَأَصَبْتُمْ» . يَغْبِطُهُمْ أَنْ صَلَّوْا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1401- وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد قَالَ فِيهِ: فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى

(1/375)


الرَّكْعَةَ الَّتِي سُبِقَ بِهَا لَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا شَيْئًا. قَالَ أَبُو دَاوُد أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ عُمَرَ يَقُولُونَ: مَنْ أَدْرَكَ الْفَرْدَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (لَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا شَيْئًا) أَيْ لَمْ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ. فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمَسْبُوقِ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ سُجُودٌ. قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ: وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. بَابُ مَنْ صَلَّى ثُمَّ أَدْرَكَ جَمَاعَةً فَلْيُصَلِّهَا مَعَهُمْ نَافِلَةً فِيهِ 1402، 1403، 1404 - عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَعُبَادَةُ وَيَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ سَبَقَ. 1405- وَعَنْ مِحْجَنِ بْنِ الْأَدْرَعِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى، يَعْنِي وَلَمْ أُصَلِّ، فَقَالَ لِي: «أَلَا صَلَّيْتَ» ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي قَدْ صَلَيْتُ فِي الرَّحْلِ ثُمَّ أَتَيْتُكَ، قَالَ: «فَإِذَا جِئْتَ فَصَلِّ مَعَهُمْ وَاجْعَلْهَا نَافِلَةً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1406- وَعَنْ سُلَيْمَانَ مَوْلَى مَيْمُونَةَ قَالَ: أَتَيْتُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ بِالْبَلَاطِ وَالْقَوْمُ يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقُلْتُ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ النَّاسِ؟ قَالَ: إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَا تُصَلُّوا صَلَاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَحَدِيثُ مِحْجَنٍ وَمَا قَبْلَهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا الْمُصَنِّفُ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الدُّخُولِ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ لِمَنْ كَانَ قَدْ صَلَّى تِلْكَ الصَّلَاةَ، وَلَكِنْ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِالْجَمَاعَاتِ الَّتِي تُقَامُ فِي الْمَسَاجِدِ. قَوْلُهُ: (وَهُوَ بِالْبَلَاطِ) هُوَ مَوْضِعٌ مَفْرُوشٌ بِالْبَلَاطِ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَالسُّوقِ بِالْمَدِينَةِ. قَوْلُهُ: «لَا تُصَلُّوا صَلَاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ» . قَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْقَائِلُونَ

(1/376)


أَنَّ مَنْ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ أَدْرَكَ جَمَاعَةً لَا يُصَلِّي مَعَهُمْ كَيْفَ كَانَتْ؛ لِأَنَّ الْإِعَادَةَ لِتَحْصِيلِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ وَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ الصَّيْدَلَانِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وَصَاحِبِ الْمُرْشِدِ. قَالَ فِي الِاسْتِذْكَارِ: اتَّفَقَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تُصَلُّوا صَلَاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ» . أَنَّ ذَلِكَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ صَلَاةً مَكْتُوبَةً عَلَيْهِ ثُمَّ يَقُومَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا فَيُعِيدَهَا عَلَى جِهَةِ الْفَرْضِ أَيْضًا، وَأَمَّا مَنْ صَلَّى الثَّانِيَةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّهَا نَافِلَةٌ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَمْرِهِ بِذَلِكَ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ إعَادَةِ الصَّلَاةِ فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأُولَى فَرِيضَةٌ وَالثَّانِيَةَ نَافِلَةٌ فَلَا إعَادَةَ حِينَئِذٍ. بَابُ الْأَعْذَارِ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ 1407- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ الْمُنَادِيَ فَيُنَادِي بِالصَّلَاةِ، يُنَادِي: صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ، فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ، وَفِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ فِي السَّفَرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1408- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ فَمُطِرْنَا، فَقَالَ: «لِيُصَلِّ مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فِي رَحْلِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1409- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ: إذَا قُلْتَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلَا تَقُلْ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، قُلْ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ قَالَ: فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَلِكَ، فَقَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَا؟ قَدْ فَعَلَ ذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، يَعْنِي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُخْرِجَكُمْ فَتَمْشُوا فِي الطِّينِ وَالدَّحْضِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1410- وَلِمُسْلِمٍ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَمَرَ مُؤَذِّنَهُ يَوْمَ جُمُعَةٍ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ بِنَحْوِهِ. 1411- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ فَلَا يَعْجَلُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ، وَإِنْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

(1/377)


1412- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 1413- وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ إقْبَالُهُ عَلَى حَاجَتِهِ حَتَّى يُقْبِلَ عَلَى صَلَاتِهِ وَقَلْبُهُ فَارِغٌ. ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. قَالَ الشَّارِحُ: قَوْلُهُ: (يُنَادِي صَلُّوا فِي رَحَّالِكُمْ) . فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ ثُمَّ يَقُول عَلَى أَثَرِهِ يَعْنِي أَثَرَ الْأَذَانِ: «أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ» . وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ كَانَ بَعْدَ فَرَاغِ الْأَذَانِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَيُمْكِن الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ مَعْنَى الصَّلَاةِ فِي الرِّحَالِ رُخْصَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَرَخَّصَ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى التَّرْخِيصِ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ عِنْدَ حُصُولِ الْمَطَرِ وَشِدَّةِ الْبَرْدِ وَالرِّيحِ.

(1/378)


أَبْوَابُ الْإِمَامَةِ وَصِفَةُ الْأَئِمَّةِ بَابُ مَنْ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ 1414- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا كَانُوا ثَلَاثَةً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ، وَأَحَقُّهُمْ بِالْإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 1415- وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ... «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّة سَوَاءً فَأَقَدْمُهُم هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا، وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ وَلَا يَقْعُدُ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ» . . 1416- وَفِي لَفْظِ: «لَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي أَهْلِهِ وَلَا سُلْطَانِهِ» . 1417- وَفِي لَفْظِ: «سِلْمًا» بَدَل «سِنًّا» . رَوَى الْجَمِيعُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 1418- وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ لَكِنْ قَالَ فِيهِ: «لَا يَؤُمُّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا يَقْعُدُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ فِي بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ» . 1419- وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَا وَصَاحِبٌ لِي، فَلَمَّا أَرَدْنَا الْإِقْفَالَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ لَنَا: «إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 1420- وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ: وَكَانَا مُتَقَارِبَيْنِ فِي الْقِرَاءَة.

(1/379)


1421- وَلِأَبِي دَاوُد: وَكُنَّا يَوْمئِذٍ مُتَقَارِبَيْنِ فِي الْعِلْم) . 1422- وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَا يَؤُمَّهُمْ، وَلْيَؤُمَّهُمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِمَامَةِ الزَّائِرِ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَكَانِ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ: «إلَّا بِإِذْنِهِ» . 1423- وَيَعْضُدهُ عُمُومُ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ثَلَاثَةٌ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: عَبْدٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ بِهِ رَاضُونَ، وَرَجُلٌ يُنَادِي بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. 1424- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَؤُمَّ قَوْمًا إلَّا بِإِذْنِهِمْ، وَلَا يَخُصُّ نَفْسَهُ بِدَعْوَةٍ دُونَهُمْ، فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ خَانَهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (إذَا كَانُوا ثَلَاثَة) مَفْهُوم الْعَدَد هُنَا غَيْر مُعْتَبَر لِمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ مَالكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «وَأَحَقّهمْ بِالْإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ» . فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ: يُقَدَّمُ فِي الْإِمَامَةِ الْأَقْرَأُ عَلَى الْأَفْقَهِ. قَوْلُهُ: «فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ» . قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ أَنَّ مَزِيَّةَ الْعِلْمِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى غَيْرهَا مِنْ الْمَزَايَا الدِّينِيَّةِ. قَوْلُهُ: (فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّة سَوَاءً فَأَقَدْمُهُم هِجْرَةً) قَالَ الشَّارِحُ: الْهِجْرَةُ الْمُقَدَّمُ بِهَا فِي الْإِمَامَةِ لَا تَخْتَصُّ بِالْهِجْرَةِ فِي عَصْرِهِ - صلى الله عليه وسلم -، بَلْ هِيَ الَّتِي لَا تَنْقَطِعُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ وَقَالَ بِهِ الْجُمْهُورُ. قَوْله: (فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا) . قَالَ الشَّارِحُ: أَيْ يُقَدَّمُ فِي الْإِمَامَةِ مَنْ كَبِرَ سِنُّهُ فِي الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ ذَلِكَ فَضِيلَةٌ يَرْجَحُ بِهَا، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «سِلْمًا» الْإِسْلَامُ، فَيَكُونُ مَنْ تَقَدَّمَ إسْلَامُهُ أَوْلَى مِمَّنْ تَأَخَّرَ إسْلَامُهُ.

(1/380)


قَوْلُهُ: (وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ صَاحِبَ الْبَيْتِ وَالْمَجْلِسِ وَإِمَامَ الْمَسْجِدِ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَظَاهِرُهُ أَنَّ السُّلْطَانَ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ قُرْآنًا وَفِقْهًا وَوَرَعًا وَفَضْلًا، فَيَكُونُ كَالْمُخَصِّصِ لِمَا قَبْلَهُ. قَوْله: «مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَا يَؤُمُّهُمْ وَلْيَؤُمَّهُمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ» . قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ أَنَّ الْمَزُورَ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ مِنْ الزَّائِرِ وَإِنْ كَانَ أَعْلَمَ أَوْ أَقْرَأَ مِنْ الْمَزُورِ. وَقَدْ عَرَفْتَ مِمَّا سَلَف أَنَّ أَبَا دَاوُد زَادَ فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ: «وَلَا يُؤَمُّ الرَّجُلَ فِي بَيْتِهِ» . فَيَصْلُحُ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ فِي آخِرٍ حَدِيثِهِ: «إلَّا بِإِذْنِهِ» لِتَقْيِيدِ جَمِيعِ الْجُمَلِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ. بَابُ إمَامَةِ الْأَعْمَى وَالْعَبْدِ وَالْمَوْلَى 1425- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَخْلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الْمَدِينَةِ مَرَّتَيْنِ يُصَلِّي بِهِمْ وَهُوَ أَعْمَى. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 1426- وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ أَنَّ عِتْبَانُ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ وَهُوَ أَعْمَى، وَأَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهَا تَكُونُ الظُّلْمَةُ وَالسَّيْلُ وَأَنَا رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ، فَصَلِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي بَيْتِي مَكَانًا أَتَّخِذُهُ مُصَلًّى فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ» . فَأَشَارَ إلَى مَكَان فِي الْبَيْتِ فَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. 1427- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ نَزَلُوا الْعَصْبَةَ، مَوْضِعًا بِقُبَاءَ، قَبْلَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا، وَكَانَ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 1428- وَعَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْتُونَ عَائِشَةَ بِأَعْلَى الْوَادِي هُوَ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرِ وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ وَنَاسٌ كَثِيرٌ، فَيَؤُمّهُمْ أَبُو عَمْرٍو مَوْلَى عَائِشَةَ وَأَبُو عَمْرٍو غُلَامُهَا حِينَئِذٍ لَمْ يُعْتَقْ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (يُصَلِّي بِهِمْ وَهُوَ أَعْمَى) . فِيهِ جَوَازُ

(1/381)


إمَامَةِ الْأَعْمَى، وَقَدْ صَرَّحَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالْغَزَالِيُّ بِأَنَّ إمَامَةَ الْأَعْمَى أَفْضَل مِنْ إمَامَة الْبَصِير لِأَنَّهُ أَكْثَرُ خُشُوعًا مِنْ الْبَصِيرِ، وَرَجَّحَ الْبَعْضُ أَنَّ إمَامَةَ الْبَصِيرِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَشَدُّ تَوَقِّيًا لِلنَّجَاسَةِ، وَاَلَّذِي فَهَمَّهُ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ ... نَصِّ الشَّافِعِيِّ أَنَّ إمَامَةَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ سَوَاءٌ فِي عَدَم الْكَرَاهِيَةِ لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَضِيلَةً، غَيْرُ أَنَّ إمَامَةَ الْبَصِيرِ أَفْضَلُ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْ جَعَلَهُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - إمَامًا الْبُصَرَاءُ. قَالَ الشَّارِحُ: وَفِي حَدِيث عِتْبَانُ فَوَائِدٌ: مِنْهَا إمَامَةُ الْأَعْمَى، وَإِخْبَارُ الْمَرْءِ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا فِيهِ مِنْ عَاهَةٍ، وَالتَّخَلُّفُ عَنْ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَطَرِ وَالظُّلْمَةِ، وَاِتِّخَاذُ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ لِلصَّلَاةِ وَإِمَامَة الزَّائِرِ إذَا كَانَ هُوَ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ، وَالتَّبَرُّكُ بِالْمَوَاضِعِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا - صلى الله عليه وسلم -، وَإِجَابَةُ الْفَاضِلِ دَعْوَةَ الْمَفْضُولِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. قَالَ: وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِإِمَامَةِ سَالِمٍ بِهَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ عَلَى جَوَازِ إمَامَةِ الْعَبْدِ. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ إجْمَاعُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ الْقُرَشِيِّينَ عَلَى تَقْدِيمِهِ. وَكَذَلِكَ اسْتَدَلَّ بِإِمَامَةِ مَوْلَى عَائِشَةَ لِأُولَئِكَ لِمِثْلِ ذَلِكَ. بَابُ مَا جَاءَ فِي إمَامَةِ الْفَاسِقِ 1429- عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا، وَلَا أَعْرَابِيٌّ مُهَاجِرًا، وَلَا يَؤُمَّنَّ فَاجِرٌ مُؤْمِنًا، إلَّا أَنْ يَقْهَرَهُ بِسُلْطَانٍ يَخَافُ سَوْطَهُ أَوْ ... سَيْفَهُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. 1430- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «اجْعَلُوا أَئِمَّتَكُمْ خِيَارَكُمْ، فَإِنَّهُمْ وَفْدُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. 1431- وَعَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ... «الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ، بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا، وَالصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْكُمْ خَلْفَ كُلِّ مُسْلِمٍ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا، وَإِنْ عَمِلَ الْكَبَائِرَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ ومَعْنَاهُ، وَقَالَ مَكْحُولٌ لَمْ يَلْقَ أَبَا هُرَيْرَةَ. 1432- وَعَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْبَكَّاءِ قَالَ: أَدْرَكْتُ عَشَرَةً مِنْ أَصْحَابِ ... النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كُلُّهُمْ يُصَلِّي خَلْفَ أَئِمَّةِ الْجَوْرِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ ثَبَتَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مِنْ بَقِيَّة

(1/382)


الصَّحَابَةِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ إجْمَاعًا فِعْلِيًّا، وَلَا يَبْعُد أَنْ يَكُونَ قَوْلِيًّا، عَلَى الصَّلَاةِ خَلْفَ الْجَائِرِينَ؛ لِأَنَّ الْأُمَرَاءَ فِي تِلْكَ الْأَعْصَارِ كَانُوا أَئِمَّةَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَكَانَ النَّاسُ لَا يَؤُمُّهُمْ إلَّا أُمَرَاؤُهُمْ فِي كُلّ بَلْدَةٍ فِيهَا أَمِيرٌ، وَكَانَتْ الدَّوْلَةُ إذْ ذَاكَ لِبَنِي أُمَيَّةَ وَحَالُهُمْ وَحَالُ أُمَرَائِهِمْ لَا يَخْفَى. إِلِى أَنْ قَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ، وَأَنَّ كُلّ مَنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ لِنَفْسِهِ صَحَّتْ لِغَيْرِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ إنَّمَا هُوَ فِي صِحَّةِ الْجَمَاعَةِ خَلْفَ مَنْ لَا عَدَالَةَ لَهُ، وَأَمَّا أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ فَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. قَوْله: «لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا، وَلَا أَعْرَابِيُّ مُهَاجِرًا» . قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ أَنَّهُ لَا يَؤُمّ الْأَعْرَابِيُّ الَّذِي لَمْ يُهَاجِر بِمَنْ كَانَ مُهَاجِرَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُهَاجِرَ أَوْلَى مِنْ الْمُتَأَخِّرِ عَنْهُ فِي الْهِجْرَةِ، وَمِمَّنْ لَمْ يُهَاجِرْ أَوْلَى بِالْأَوْلَى. بَابُ مَا جَاءَ فِي إمَامَةِ الصَّبِيِّ 1433- عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: لَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ الْفَتْحِ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ، وَبَادَرَ أَبِي قَوْمِي بِإِسْلَامِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ ... النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَقًّا، فَقَالَ: صَلُّوا صَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، وَصَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا، فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِّي لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنْ الرُّكْبَانِ، فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَنَا ابْنُ سِتِّ سِنِينَ، أَوْ سَبْعِ سِنِينَ، وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ كُنْتُ إذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّي فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْحَيِّ: أَلَا تُغَطُّونَ عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ، فَاشْتَرَوْا فَقَطَعُوا لِي قَمِيصًا، فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ فَرَحِي بِذَلِكَ الْقَمِيصِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 1434- وَالنَّسَائِيُّ بِنَحْوِهِ، قَالَ فِيهِ: كُنْتُ أَؤُمّهُمْ وَأَنَا ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ. 1435- وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ فِيهِ: وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ. وَأَحْمَدُ وَلَمْ يَذْكُرْ سِنَّهُ. 1436- وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد: فَمَا شَهِدْتُ مَجْمَعًا مِنْ جَرْمٍ إلَّا كُنْتُ إمَامَهُمْ إلَى يَوْمِي هَذَا. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَا يَؤُمُّ الْغُلَامُ حَتَّى تَجِبَ عَلَيْهِ الْحُدُودُ.

(1/383)


وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا يَؤُمُّ الْغُلَامُ حَتَّى يَحْتَلِمَ. رَوَاهُمَا الْأَثْرَمُ فِي سُنَنِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَقَدَّمُونِي) فِيهِ جَوَازُ إمَامَةِ الصَّبِيِّ وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مَا فِي قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لِيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا» . مِنْ الْعُمُومِ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَيْسَ فِيهِ اطِّلَاعُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وَأُجِيبُ بِأَنَّ إمَامَتَهُ بِهِمْ كَانَتْ حَالَ نُزُولِ الْوَحْيِ، وَلَا يَقَعُ حَالُهُ التَّقْرِيرِ لِأَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى الْخَطَأِ، وَلِذَا اُسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ: كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ. وَأَيْضًا الَّذِينَ قَدَّمُوا عَمْرَو بْنَ سَلَمَةَ كَانُوا كُلُّهُمْ صَحَابَةً. إِلِى أَنْ قَالَ: وَأَمَّا الْقَدْحُ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّ فِيهِ كَشْفَ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ لَا يَجُوز، فَهُوَ مِنْ الْغَرَائِبِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الرِّجَالَ كَانُوا يُصَلُّونَ عَاقِدِي أُزُرِهِمْ، وَيُقَالُ لِلنِّسَاءِ: لَا تَرْفَعْنَ رُءُوسكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا. زَادَ أَبُو دَاوُد: مِنْ ضِيقِ الْأُزُرِ. بَابُ اقْتِدَاءِ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ 1437- عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: مَا سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَفَرًا إلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى يَرْجِعَ، وَإِنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ زَمَنَ الْفَتْحِ ثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً يُصَلِّي بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إلَّا الْمَغْرِبَ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ قُومُوا فَصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا قَدِمَ مَكَّةَ صَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ائْتِمَامِ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْعَكْسِ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَيَدُلُّ لِلْجَوَازِ مُطْلَقًا مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ: «مَا بَالُ الْمُسَافِرِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إذَا انْفَرَدَ وَأَرْبَعًا إذَا ائْتَمَّ بِمُقِيمٍ؟ فَقَالَ: تِلْكَ السُّنَّةُ» . وَفِي لَفْظٍ: تِلْكَ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم -.

(1/384)


بَابُ هَلْ يَقْتَدِي الْمُفْتَرِضُ بِالْمُتَنَفِّلِ أَمْ لَا 1438- عَنْ جَابِرٍ أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عِشَاءَ الْآخِرَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى قَوْمِهِ فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلْكَ الصَّلَاةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1439- وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَزَادَ: هِيَ لَهُ تَطَوُّعٌ وَلَهُمْ مَكْتُوبَةُ. 1440- وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ سُلَيْمٍ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ أَنَّهُ ... أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يَأْتِينَا بَعْدَ مَا نَنَامُ وَنَكُونُ فِي أَعْمَالِنَا فِي النَّهَارِ فَيُنَادِي بِالصَّلَاةِ فَنَخْرُجُ إلَيْهِ فَيُطَوِّلُ عَلَيْنَا، فَقَالَ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا مُعَاذُ لَا تَكُنْ فَتَّانًا، إمَّا أَنْ تُصَلِّيَ مَعِي، وَإِمَّا أَنْ تُخَفِّفَ عَلَى قَوْمِكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ اُسْتُدِلَّ بِالرِّوَايَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ الْمُصَرِّحَةُ بِأَنَّ صَلَاتَهُ بِقَوْمِهِ كَانَتْ لَهُ تَطَوُّعًا عَلَى جَوَازِ اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِض بِالْمُتَنَفِّلِ. وَأُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «إمَّا أَنْ تُصَلِّيَ مَعِي، وَإِمَّا أَنْ تُخَفِّفَ عَلَى قَوْمِكَ» . فَإِنَّهُ ادَّعَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّ مَعْنَاهُ: إمَّا أَنْ تُصَلِّيَ مَعِي وَلَا تُصَلِّيَ مَعَ قَوْمِكَ، وَإِمَّا أَنْ تُخَفِّفَ بِقَوْمِكَ وَلَا تُصَلِّيَ مَعِي. وَيُرَدّ بِأَنَّ غَايَةَ مَا فِي هَذَا أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ بِالصَّلَاةِ مَعَهُ وَالصَّلَاةِ بِقَوْمِهِ مَعَ التَّخْفِيفِ، وَالصَّلَاةِ مَعَهُ فَقَطْ مَعَ عَدَمِهِ، وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى مَطْلُوبِ الْمَانِعِ مِنْ ذَلِكَ، نَعَمْ قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا لَفْظُهُ. وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ مَنْ مَنَعَ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ قَالَ: لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَتَى صَلَّى مَعَهُ امْتَنَعَتْ إمَامَتُهُ، وَبِالْإِجْمَاعِ لَا تَمْتَنِع بِصَلَاةِ النَّفْلِ مَعَهُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَذَا الْقَوْلِ صَلَاةَ الْفَرْضِ وَأَنَّ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي مَعَهُ كَانَ يَنْوِيهِ نَفْلًا. قَالَ الشَّارِحُ: وَعَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ، فَتِلْكَ الزِّيَادَة أَعْنِي قَوْلَهُ: «هِيَ لَهُ تَطَوُّعٌ وَلَهُمْ مَكْتُوبَةٌ» أَرْجَحُ سَنَدًا وَأَصْرَح مَعْنًى. إِلِى أَنْ قَالَ: وَمِنْهَا أَنَّ صَلَاةَ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ مِنْ الِاخْتِلَافِ، وَقَدْ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَخْتَلِفُوا عَلَى إمَامِكُمْ» . وَرُدَّ بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مُبَيَّنٌ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: «فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا» . إلَى آخِرِهِ. وَلَوْ سَلِمَ أَنَّهُ يَعُمُّ كُلَّ اخْتِلَافٍ

(1/385)


لَكَانَ حَدِيثُ مُعَاذٍ وَنَحْوِهِ مُخَصِّصًا لَهُ. بَابُ اقْتِدَاءِ الْجَالِسِ بِالْقَائِمِ 1441- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَرَضِهِ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ قَاعِدًا فِي ثَوْبٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ. 1442- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: صَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ قَاعِدًا. رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُمَا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: والْحَدِيثَانِ يَدُلانِ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا. وَفِيهِمَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ الْقَاعِدِ لِعُذْرٍ خَلْفَ الْقَائِمِ، وَلَا أَعْلَم فِيهِ خِلَافًا. وَقَدْ تَقَدَمَ بَعْض مَا يتعلق بِهِ فِي (بَابِ الْإِمَام ينتفل مَأْمُومًا) . بَابُ اقْتِدَاءِ الْقَادِر عَلَى الْقِيَامِ بِالْجَالِسِ وَأَنَّهُ يَجْلِسُ مَعَهُ 1443- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاكٌّ، فَصَلَّى جَالِسًا وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إلَيْهِمْ أَنْ اجْلِسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا» . 1444- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَقَطَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ فَرَسٍ، فَجُحِشَ شِقُّهُ ... الْأَيْمَنُ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَعُودُهُ، فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى بِنَا قَاعِدًا، فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ، وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعُونَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 1445- وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صُرِعَ عَنْ فَرَسِهِ، فَجُحِشَ شِقُّهُ أَوْ كَتِفُهُ، فَأَتَاهُ أَصْحَابُهُ يَعُودُونَهُ، فَصَلَّى بِهِمْ جَالِسًا وَهُمْ قِيَامٌ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمّ بِهِ، فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا» .

(1/386)


1446- وَلِأَحْمَدَ فِي مُسْنَده: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - انْفَكَّتْ قَدَمُهُ، فَقَعَدَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ دَرَجَتُهَا مِنْ جُذُوعٍ، فَأَتَى أَصْحَابُهُ يَعُودُونَهُ، فَصَلَّى بِهِمْ قَاعِدًا وَهُمْ قِيَامٌ، فَلَمَّا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ الْأُخْرَى قَالَ لَهُمْ: «ائْتَمُّوا بِإِمَامِكُمْ، فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا» . 1447- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَسًا بِالْمَدِينَةِ فَصَرَعَهُ عَلَى جِذْمِ نَخْلَةٍ فَانْفَكَّتْ قَدَمُهُ، فَأَتَيْنَاهُ نَعُودُهُ فَوَجَدْنَاهُ فِي مَشْرُبَةٍ لِعَائِشَةَ يُسَبِّحُ جَالِسًا، قَالَ: فَقُمْنَا خَلْفَهُ فَسَكَتَ عَنَّا، ثُمَّ أَتَيْنَاهُ مَرَّةً أُخْرَى نَعُودُهُ فَصَلَّى الْمَكْتُوبَةَ جَالِسًا، فَقُمْنَا خَلْفَهُ فَأَشَارَ إلَيْنَا فَقَعَدْنَا، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ: ... «إذَا صَلَّى الْإِمَامُ جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا، وَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَلَا تَفْعَلُوا كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ فَارِسَ بِعُظَمَائِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ الْقَائِلُونَ: إنَّ الْمَأْمُومَ يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي الصَّلَاةِ قَاعِدًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَأْمُومُ مَعْذُورًا. وَقَدْ أَجَابَ الْمُخَالِفُونَ لِحَدِيثِ الْبَابِ بِأَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: دَعْوَى النَّسْخِ لأنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِالنَّاسِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ قَاعِدًا وَهُمْ قِيَامٌ. وَأَنْكَرَ أَحْمَدُ نَسْخَ الْأَمْرِ بِذَلِكَ. وَجَمَعَ بَيْن الْحَدِيثَيْنِ بِتَنْزِيلِهِمَا عَلَى حَالَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: إذَا ابْتَدَأَ الْإِمَامُ الرَّاتِبُ الصَّلَاةَ قَاعِدًا لِمَرَضٍ يُرْجَى بُرْؤُهُ فَحِينَئِذٍ يُصَلُّونَ خَلْفَهُ قُعُودًا. ثَانِيَتهمَا: إذَا ابْتَدَأَ الْإِمَامُ الرَّاتِبُ قَائِمًا لَزِمَ الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُصَلُّوا خَلْفَهُ قِيَامًا، سَوَاءٌ طَرَأَ مَا يَقْتَضِي صَلَاةَ إمَامِهِمْ قَاعِدًا أَمْ لَا. وَيُقَوِّي هَذَا الْجَمْعَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ. بَابُ اقْتِدَاءِ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ 1448- فِيهِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ غَزْوَة ذَاتِ السَّلَاسِلِ وَقَدْ سَبَقَ. 1449- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي سَفَرٍ مَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فَكَانُوا يُقَدِّمُونَهُ لِقَرَابَتِهِ مِنْ

(1/387)


رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَصَلَّى بِهِمْ ذَاتَ يَوْمٍ، فَضَحِكَ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ أَصَابَ مِنْ جَارِيَةٍ لَهُ رُومِيَّةٍ، فَصَلَّى بِهِمْ وَهُوَ جُنُبٌ مُتَيَمِّمٌ. رَوَاهُ الْأَثْرَم. وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَته. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ تَقَدَّمَ فِي بَاب الْجُنُب يَتَيَمَّم لِخَوْفِ الْبَرْد مِنْ كِتَاب التَّيَمُّم. وَفِيهِ: أَنَّهُ احْتَلَمَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فَتَيَمَّمَ ثُمَّ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الصُّبْحِ. فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ» ؟ فَقَالَ: ذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} . فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا. وَبِهَذَا التَّقْرِير احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِصِحَّةِ صَلَاةِ الْمُتَوَضِّئِ خَلْفَ الْمُتَيَمِّمِ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ الْبَرَاءِ أَنَّ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا صَلَّى الْإِمَامُ بِقَوْمٍ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ أَجْزَأَتْهُمْ وَيُعِيدُ» . وَفِي إسْنَاده جُوَيْبِرُ بْنُ سَعِيدٍ وَهُوَ مَتْرُوك، وَفِي إسْنَاده أَيْضًا انْقِطَاع. إِلِى أَنْ قَالَ: وَمِنْ الْمُؤَيِّدَات لِجَوَازِ صَلَاة الْمُتَيَمِّم بِالْمُتَوَضِّئِ مَا ذَكَره الْمُصَنِّف مِنْ الْأَثَر الْمَرْوِيّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. بَاب مَنْ اقْتَدَى بِمَنْ أَخْطَأَ بِتَرْكِ شَرْط أَوْ فَرْض وَلَمْ يَعْلَم 1450- عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يُصَلُّونَ بِكُمْ، فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَخْطَأوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 1451- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُول: «الْإِمَامُ ضَامِنٌ، فَإِذَا أَحْسَنَ فَلَهُ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهِ، يَعْنِي: وَلَا عَلَيْهِمْ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ صَلَّى بِالنَّاسِ وَهُوَ جُنُبٌ وَلَمْ يَعْلَم فَأَعَادَ وَلَمْ يُعِيدُوا، وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ قَوْله، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَ. قَوْله: «يُصَلُّونَ بِكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَخْطَأُوا فَلَكُمْ ... وَعَلَيْهِمْ» . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هَذَا الْحَدِيث يَرُدّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ صَلَاة الْإِمَام إذَا

(1/388)


فَسَدَتْ فَسَدَتْ صَلَاة مَنْ خَلْفه. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْله: (وَإِنْ أَخْطَأُُوا) أَيْ ارْتَكَبُوا الْخَطِيئَة، وَلَمْ يُرِدْ الْخَطَأَ الْمُقَابِلَ لِلْعَمْدِ لِأَنَّهُ لَا إثْم فِيهِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِيهِ جَوَاز الصَّلَاةِ خَلْفَ الْبِرِّ وَالْفَاجِرِ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْبَغَوِيّ عَلَى أَنَّهُ يَصِحّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ إذَا كَانَ إمَامُهُمْ مُحَدِّثًا وَعَلَيْهِ الْإِعَادَة. قَالَ فِي الْفَتْح: وَاسْتَدَلَّ بِهِ غَيْره عَلَى أَعَمّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ صِحَّة الِائْتِمَامِ بِمَنْ يُخِلّ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّلَاة رُكْنَا كَانَ أَوْ غَيْره إذَا أَتَمَّ الْمَأْمُوم، وَهُوَ وَجْه لِلشَّافِعِيَّةِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُون الْإِمَام هُوَ الْخَلِيفَة أَوْ نَائِبه. وَالْأَصَحّ عِنْدهمْ صِحَّة الِاقْتِدَاء إلَّا لِمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا. وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الْجَوَاز مُطْلَقَا وَهُوَ الظَّاهِر مِنْ الْحَدِيث، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ الْمُصَنِّف عَنْ الثَّلَاثَة الْخُلَفَاء - رضي الله عنه -. قَوْله: (وَإِنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهِ) فِيهِ أَنَّ الْإِمَام إذَا كَانَ مُسِيئًا كَأَنْ يَدْخُل فِي الصَّلَاة مُخِلًّا بِرُكْنٍ أَوْ شَرْط عَمْدًا فَهُوَ آثِمٌ وَلَا شَيْء عَلَى الْمُؤْتَمِّينَ مِنْ إسَاءَته. بَاب حُكْم الْإِمَام إذَا ذَكَرَ أَنَّهُ مُحْدِث أَوْ خَرَجَ لِحَدَثٍ سَبَقَهُ أَوْ غَيْر ذَلِكَ 1452- عَنْ أَبِي بَكْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ فَكَبَّرَ ثُمَّ أَوْمَأَ إلَيْهِمْ أَنْ مَكَانَكُمْ، ثُمَّ دَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ فَصَلَّى بِهِمْ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَإِنِّي كُنْت جُنُبًا» . رَوَاهُ أَحْمَد. 1453- وَأَبُو دَاوُد، وَقَالَ: رَوَاهُ أَيُّوبُ وَابْنُ عَوْنٍ وَهِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «فَكَبَّرَ ثُمَّ أَوْمَأَ إلَى الْقَوْمِ أَنْ اجْلِسُوا، وَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ» . 1454- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: إنِّي لَقَائِمٌ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ عُمَرَ غَدَاةَ أُصِيبَ إلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَمَا هُوَ إلَّا أَنْ كَبَّرَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَتَلَنِي أَوْ أَكَلَنِي الْكَلْبُ، حِين طَعَنَهُ، وَتَنَاوَلَ عُمَرُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَقَدَّمَهُ فَصَلَّى بِهِمْ صَلَاةً خَفِيفَةً. مُخْتَصَرٌ مِنْ الْبُخَارِيِّ. 1455- وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: صَلَّى عَلِيٌّ - رضي الله عنه - ذَات يَوْم

(1/389)


فَرَعَفَ، فَأَخَذَ بِيَدِ رَجُلٍ فَقَدَّمَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ. رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنه. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إنْ اسْتَخْلَفَ الْإِمَامُ فَقَدْ اسْتَخْلَفَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ، وَإِنْ صَلَّوْا وُحْدَانًا فَقَدْ طُعِنَ مُعَاوِيَةُ وَصَلَّى النَّاسُ وُحْدَانًا مِنْ حَيْثُ طُعِنَ أَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدِيث أَبِي بَكْرَة قَالَ الْحَافِظ: اُخْتُلِفَ فِي وَصْله وَإِرْسَاله. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَلْفَاظٍ لَيْسَ فِيهَا ذِكْر أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْد الدُّخُول فِي الصَّلَاة، وَفِي بَعْضِهَا التَّصْرِيح بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْل التَّكْبِير. قَالَ فِي الْفَتْح: يُمْكِن الْجَمْع بَيْن رِوَايَة الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا بِأَنْ يُحْمَل قَوْله: «فَكَبَّرَ» عَلَى: أَرَادَ أَنْ يُكَبِّر أَوْ بِأَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إنَّهُ الْأَظْهَر فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ وَإِلَّا فَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَصَحّ. قَوْله: (فَقَدَّمَهُ فَصَلَّى بِهِمْ) سَيَأْتِي حَدِيث عُمَرَ مُطَوَّلَا فِي كِتَاب الْوَصَايَا، وَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، وَفِيهِ جَوَاز الِاسْتِخْلَاف لِلْإِمَامِ عِنْد عُرُوض عُذْر يَقْتَضِي ذَلِكَ لِتَقْرِيرِ الصَّحَابَة لِعُمَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَعَدَم الْإِنْكَار مِنْ أَحَد مِنْهُمْ فَكَانَ إجْمَاعًا، وَكَذَلِكَ فَعَلَ عَلِيٌّ وَتَقْرِيرهمْ لَهُ عَلَى ذَلِكَ. بَاب مَنْ أَمَّ قَوْمًا يَكْرَهُونَهُ 1456- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ: «ثَلَاثَةٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُمْ صَلَاةً: مَنْ تَقَدَّمَ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، وَرَجُلٌ أَتَى الصَّلَاةَ دِبَارًا - وَالدِّبَارُ أَنْ يَأْتِيَهَا بَعْدَ أَنْ تَفُوتَهُ - وَرَجُلٌ اعْتَبَدَ مُحَرَّرَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ فِيهِ: يَعْنِي بَعْد مَا يَفُوتهُ الْوَقْت. 1457- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلَاثَةٌ لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ آذَانَهُمْ: الْعَبْدُ الْآبِقُ حَتَّى يَرْجِعَ، وَزَوْجَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَإِمَامُ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَحَادِيث الْبَاب يُقَوِّي بَعْضهَا بَعْضَا، فَيَنْتَهِضُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى تَحْرِيم أَنْ يَكُون الرَّجُل إمَامَا لِقَوْمٍ يَكْرَهُونَهُ. وَيَدُلّ

(1/390)


عَلَى التَّحْرِيم. نَفْي قَبُول الصَّلَاة وَأَنَّهَا لَا تُجَاوِز آذَان الْمُصَلِّينَ وَلُعِنَ الْفَاعِل لِذَلِكَ. وَقَدْ ذَهَبَ إلَى التَّحْرِيم قَوْم وَإِلَى الْكَرَاهَة آخَرُونَ، وَقَدْ قَيَّدَ ذَلِكَ جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم بِالْكَرَاهَةِ الدِّينِيَّة لِسَبَبٍ شَرْعِيِّ، فَأَمَّا الْكَرَاهَة لِغَيْرِ الدِّين فَلَا عِبْرَة بِهَا. قَوْله: (وَرَجُل اعْتَبَدَ مُحَرَّره) أَيْ اتَّخَذَ مُعْتَقَهُ عَبْدَا بَعْد إعْتَاقه. قَوْله: (وَامْرَأَة) إلَى آخِرِهِ. فِيهِ أَنَّ إغْضَاب الْمَرْأَة لِزَوْجِهَا حَتَّى يَبِيت سَاخِطًا عَلَيْهَا مِنْ الْكَبَائِر.

(1/391)


أَبْوَاب مَوْقِف الْإِمَام وَالْمَأْمُوم وَأَحْكَام الصُّفُوف بَاب وُقُوف الْوَاحِد عَنْ يَمِين الْإِمَام وَالِاثْنَيْنِ فَصَاعِدَا خَلْفه 1458- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الْمَغْرِبَ، فَجِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَنَهَانِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ جَاءَ صَاحِبٌ لِي فَصَفَّنَا خَلْفَهُ، فَصَلَّى بِنَا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُخَالِفًا بَيْنَ طَرَفَيْهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1459- وَفِي رِوَايَة: قَامَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لِيُصَلِّيَ، فَجِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدَارَنِي حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ جَاءَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ فَقَامَ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فَأَخَذَ بِأَيْدِينَا جَمِيعًا، فَدَفَعَنَا حَتَّى أَقَامَنَا خَلْفَهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 1460- وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا كُنَّا ثَلَاثَةً أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدُنَا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. 1461- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَلَّيْتُ إلَى جَنْبِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَائِشَةُ مَعَنَا تُصَلِّي خَلْفَنَا وَأَنَا إِلَى جَنْبَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أُصَلِّي مَعَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 1462- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِهِ وَبِأُمِّهِ أَوْ خَالَتِهِ، قَالَ: فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ وَأَقَامَ الْمَرْأَةَ خَلْفَنَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 1463- وَعَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَعَمِّي عَلْقَمَةُ عَلَى ابْنِ

(1/392)


مَسْعُودٍ بِالْهَاجِرَةِ، قَالَ: فَأَقَامَ الظُّهْرَ لِيُصَلِّيَ فَقُمْنَا خَلْفَهُ، فَأَخَذَ بِيَدِي وَيَدِ عَمِّي، ثُمَّ جَعَلَ أَحَدَنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ، فَصَفَّفَنَا صَفًّا وَاحِدًا، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْنَعُ إذَا كَانُوا ثَلَاثَةً. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1464- وَلِأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مَعْنَاهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْله: (فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينه) فِيهِ أَنَّ مَوْقِف الْوَاحِد عَنْ يَمِينِ الْإِمَام، وَقَدْ ذَهَبَ الْأَكْثَر إلَى أَنَّ ذَلِكَ وَاجِب، وَفِيهِ جَوَاز الْعَمَل فِي الصَّلَاة. قَوْله: (فَصَفَّنَا خَلْفه) وَكَذَلِكَ قَوْله: (فَدَفَعَنَا حَتَّى أَقَامَنَا خَلْفه) . وَقَوْله: (أَمَرَنَا - صلى الله عليه وسلم - إذَا كُنَّا ثَلَاثَة أَنْ يَتَقَدَّم أَحَدُنَا) فِي هَذِهِ الرِّوَايَات دَلِيل عَلَى أَنَّ مَوْقِف الرَّجُلَيْنِ مَعَ الْإِمَام فِي الصَّلَاة خَلْفه. قَالَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ: وَلَيْسَ ذَلِكَ شَرْطًا، وَلَكِنَّ الْخِلَاف فِي الْأَوْلَى وَالْأَحْسَن. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ. (أَنَّ الِاثْنَيْنِ يَقِفَانِ عَنْ يَمِين الْإِمَام وَعَنْ شِمَاله وَالزَّائِد خَلْفه) . قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا الْحَدِيث لَا يَصِحّ رَفْعه، وَالصَّحِيح فِيهِ عِنْدهمْ أَنَّهُ مَوْقُوف عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحه وَالتِّرْمِذِيُّ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَدْ ذَكَر جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْل الْعِلْم مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ أَنَّ حَدِيث ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا مَنْسُوخٌ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَعَلَّمَ هَذِهِ الصَّلَاة مِنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ بِمَكَّةَ، وَفِيهَا التَّطْبِيق وَأَحْكَام أُخَرُ هِيَ الْآن مَتْرُوكَة، وَهَذَا الْحُكْم مِنْ جُمْلَتهَا، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَة تَرَكَهُ، وَعَلَى فَرْض عَدَم عِلْم التَّارِيخ لَا يَنْتَهِضُ هَذَا الْحَدِيث لِمُعَارَضَةِ الْأَحَادِيث الْمُتَقَدِّمَة. انْتهى ملخصًا. قَوْله: (صَلَّيْتُ إلَى جَنْبِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَائِشَةُ مَعَنَا تُصَلِّي خَلْفَنَا) إِلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّهُ إذَا حَضَرَ مَعَ إمَام الْجَمَاعَة رَجُل وَامْرَأَة كَانَ مَوْقِف الرَّجُل عَنْ يَمِينه وَمَوْقِف الْمَرْأَة خَلْفهمَا وَأَنَّهَا لَا تُصَفُّ مَعَ الرِّجَال، وَالْعِلَّة فِي ذَلِكَ مَا يُخْشَى مِنْ الِافْتِتَان، فَلَوْ خَالَفَتْ أَجْزَأَتْ صَلَاتُهَا عِنْد الْجُمْهُور، وَعِنْد الْحَنَفِيَّة تَفْسُد صَلَاة الرَّجُل دُون الْمَرْأَة. قَالَ فِي الْفَتْح: وَهُوَ عَجِيب. وَفِي تَوْجِيهه تَعَسُّف حَيْثُ قَالَ قَائِلهمْ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ... «أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ» . وَالْأَمْر لِلْوُجُوبِ، فَإِذَا حَاذَتْ الرَّجُل فَسَدَتْ

(1/393)


صَلَاة الرَّجُل لِأَنَّهُ تَرَكَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ تَأْخِيرهَا. قَالَ: وَحِكَايَة هَذَا تُغْنِي عَنْ جَوَابه. بَاب وُقُوف الْإِمَام تِلْقَاء وَسْط الصَّفّ وَقُرْب أُوَلِي الْأَحْلَام وَالنُّهَى مِنْهُ 1465- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «وَسِّطُوا الْإِمَامَ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 1466- وَعَنْ أَبِي مَسْعُود الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ وَيَقُولُ: «اسْتَوُوا وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، لِيَلِيَنِّي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. 1467- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لِيَلِيَنِّي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الْأَسْوَاقِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 1468- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّ أَنْ يَلِيَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ لِيَأْخُذُوا عَنْهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «وَسِّطُوا الْإِمَام» فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ جَعْل الْإِمَام مُقَابِلًا لِوَسْطِ الصَّفّ. قَوْلُهُ: «اسْتَوُوا وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ» . قَالَ الشَّارِحُ: لِأَنَّ مُخَالَفَة الصُّفُوف مُخَالَفَة الظَّوَاهِر، وَاخْتِلَاف الظَّوَاهِر سَبَب لِاخْتِلَافِ الْبَوَاطِن. قَوْله: «لِيَلِيَنِّي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى» قَالَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ: الْأَحْلَام وَالنُّهَى بِمَعْنًى وَاحِد، وَالنُّهَى جَمْع نُهْيَة بِالضَّمِّ أَيْضًا وَهِيَ الْعَقْل لِأَنَّهَا تَنْهَى عَنْ الْقُبْح. وَقِيلَ: الْمُرَاد بِأُولِي الْأَحْلَام: الْبَالِغُونَ، وَبِأُولِي النُّهَى: الْعُقَلَاء. قَالَ الشَّارِحُ: وَإِنَّمَا خَصَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - هَذَا النَّوْع بِالتَّقْدِيمِ لِأَنَّهُ الَّذِي يَتَأَتَّى مِنْهُ التَّبْلِيغ، وَيُسْتَخْلَف إذَا اُحْتِيجَ إلَى اسْتِخْلَافه، وَيَقُوم بِتَنْبِيهِ الْإِمَام إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ.

(1/394)


قَوْله: «وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَات الْأَسْوَاق» أَيْ اخْتِلَاطهَا وَالْمُنَازَعَة وَالْخُصُومَات وَارْتِفَاع الْأَصْوَات وَاللَّغَط وَالْفِتَن الَّتِي فِيهَا وَالْهَوْشَةُ: الْفِتْنَة وَالِاخْتِلَاط. وَالْمُرَاد النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَكُون اجْتِمَاع النَّاس فِي الصَّلَاة مِثْل اجْتِمَاعهمْ فِي الْأَسْوَاق مُتَدَافِعِينَ مُتَغَايِرِينَ مُخْتَلِفِي الْقُلُوب وَالْأَفْعَال. قَوْله: (يُحِبّ أَنْ يَلِيهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار) فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ تَقَدُّمِ أَهْل الْعِلْم وَالْفَضْل لِيَأْخُذُوا عَنْ الْإِمَام وَيَأْخُذ عَنْهُمْ غَيْرهمْ، لِأَنَّهُمْ أَمَسّ بِضَبْطِ صِفَة الصَّلَاة وَحِفْظهَا وَنَقْلهَا وَتَبْلِيغهَا. بَاب مَوْقِف الصِّبْيَان وَالنِّسَاء مِنْ الرِّجَال 1469- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يُسَوِّي بَيْنَ الْأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْقِيَامِ، وَيَجْعَلُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى هِيَ أَطْوَلُهُنَّ لِكَيْ يَثُوبَ النَّاسُ، وَيَجْعَلُ الرِّجَالَ قُدَّامَ الْغِلْمَانِ، وَالْغِلْمَانَ خَلْفَهُمْ، وَالنِّسَاءَ خَلْفَ الْغِلْمَانِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1470- وَلِأَبِي دَاوُد عَنْهُ قَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَصَفَّ الرِّجَالَ وَصَفَّ خَلْفَهُمْ الْغِلْمَانَ، ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ. فَذَكَر صَلَاتَهُ. 1471- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ، فَأَكَلَ ثُمَّ قَالَ: قُومُوا فَلَأُصَلِّ لَكُمْ، فَقُمْتُ إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ سُوِّدَ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقُمْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ وَقَامَتْ الْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا، فَصَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ. رَوَاهُ الْجَمَاعَة إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. 1472- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: صَلَّيْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ فِي بَيْتِنَا خَلْفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأُمِّي خَلْفَنَا أُمُّ سُلَيْمٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 1473- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا» . رَوَاهُ الْجَمَاعَة إلَّا الْبُخَارِيَّ.

(1/395)


قَوْلُهُ: (وَيَجْعَلُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى هِيَ أَطْوَلُهُنَّ لِكَيْ يَثُوبَ النَّاسُ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَيْ يَرْجِع النَّاس إلَى الصَّلَاة وَيُقْبِلُوا إلَيْهَا. قَوْله: (وَيَجْعَل الرِّجَال قُدَّام الْغِلْمَان) إلَى آخِرِهِ. فِيهِ تَقْدِيم صُفُوف الرِّجَال عَلَى الْغِلْمَان، وَالْغِلْمَان عَلَى النِّسَاءِ، هَذَا إذَا كَانَ الْغِلْمَان اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، فَإِنْ كَانَ صَبِيّ وَاحِد دَخَلَ مَعَ الرِّجَال وَلَا يَنْفَرِد خَلْف الصَّفّ. وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيث أَنَسٍ الْمَذْكُور فِي الْبَاب. إِلِى أَنْ قَالَ: وَقِيلَ عِنْد اجْتِمَاع الرِّجَال وَالصَّبِيَّانِ يَقِف بَيْن كُلّ رَجُلَيْنِ صَبِيّ لِيَتَعَلَّمُوا مِنْهُمْ الصَّلَاة وَأَفْعَالهَا. قَوْله: (وَقُمْت أَنَا وَالْيَتِيم وَرَاءَهُ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ أَنَّ الصَّبِيّ يَسُدّ الْجَنَاح، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُور. وَيُؤَيِّده جَذْبه - صلى الله عليه وسلم - لِابْنِ عَبَّاس مِنْ جِهَة الْيَسَار إلَى جِهَة الْيَمِين وَصَلَاته مَعَهُ وَهُوَ صَبِيّ، وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ مِنْ جَعْله - صلى الله عليه وسلم - لِلْغِلْمَانِ صَفَّا بَعْد الرِّجَال فَفِعْل لَا يَدُلّ عَلَى فَسَاد خِلَافه. بَاب مَا جَاءَ فِي صَلَاة الرَّجُل فَذًّا وَمَنْ رَكَعَ أَوْ أَحْرَمَ دُون الصَّفّ ثُمَّ دَخَلَهُ 1474- عَنْ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ فَوَقَفَ حَتَّى انْصَرَفَ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ: اسْتَقْبِلْ صَلَاتَكَ، فَلَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 1475- وَعَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ صَلَاتَهُ. رَوَاهُ الْخَمْسَة إلَّا النَّسَائِيّ. 1456- وَفِي رِوَايَة قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ رَجُلٍ صَلَّى خَلْفَ الصُّفُوفِ وَحْدَهُ، فَقَالَ: يُعِيدُ الصَّلَاةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1477- وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ انْتَهَى إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الصَّفِّ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «زَادَك اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 1478- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، فَصَلَّيْتُ

(1/396)


خَلْفَهُ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَجَرَّنِي حَتَّى جَعَلَنِي حِذَاءَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَف فِي صَلَاة الْمَأْمُوم خَلْف الصَّفّ وَحْده، فَقَالَتْ طَائِفَة: لَا يَجُوز وَلَا يَصِحّ. وَفَرَّقَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ فَرَأَوْا عَلَى الرَّجُل الْإِعَادَة دُون الْمَرْأَة. وَتَمَسَّكَ الْقَائِلُونَ بِالصِّحَّةِ بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ قَالُوا: لِأَنَّهُ أَتَى بِبَعْضِ الصَّلَاة خَلْف الصَّفّ وَلَمْ يَأْمُرهُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْإِعَادَةِ، فَيُحْمَل الْأَمْر بِالْإِعَادَةِ عَلَى جِهَة النَّدْب مُبَالَغَة فِي الْمُحَافَظَة عَلَى الْأَوْلَى وَمِنْ جُمْلَة مَا تَمَسَّكُوا بِهِ حَدِيث ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ. وَهُوَ تَمَسّك غَيْر مُفِيد لِلْمَطْلُوبِ. قِيلَ: الْأَوْلَى الْجَمْع بَيْن أَحَادِيث الْبَاب بِحَمْلِ عَدَم الْأَمْر بِالْإِعَادَةِ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ مَعَ خَشْيَة الْفَوْت لَوْ انْضَمَّ إلَى الصَّفّ وَأَحَادِيث الْإِعَادَة عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِغَيْرِ عُذْر. قَالَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ: وَلَا يُعَدّ حُكْم الشُّرُوعِ فِي الرُّكُوع خَلْف الصَّفّ حُكْم الصَّلَاة كُلّهَا خَلْفه، فَهَذَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَرَى أَنَّ صَلَاة الْمُنْفَرِد خَلْف الصَّلَاة بَاطِلَة، وَيَرَى أَنَّ الرُّكُوع دُون الصَّفّ جَائِز. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَاب الْحَثّ عَلَى تَسْوِيَة الصُّفُوف وَرَصّهَا وَسَدّ خَلَلهَا 1479- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ» . 1480- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ قَبْل أَنْ يُكَبِّرَ فَيَقُولُ: «تَرَاصُّوا وَاعْتَدِلُوا» . مُتَّفَق عَلَيْهِمَا. 1481- وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسَوِّي صُفُوفَنَا كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهِ الْقِدَاحَ حَتَّى رَأَى أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ، ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا فَقَامَ حَتَّى كَادَ أَنْ يُكَبِّرَ فَرَأَى رَجُلًا بَادِيًا صَدْرُهُ مِنْ الصَّفِّ، فَقَالَ: عِبَادَ اللَّهِ لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَة إلَّا الْبُخَارِيَّ فَإِنَّ لَهُ مِنْهُ. 1482-: «لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ» . 1483- وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد فِي رِوَايَة قَالَ: فَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يُلْزِقُ كَعْبَهُ

(1/397)


بِكَعْبِ صَاحِبِهِ، وَرُكْبَتَهُ بِرُكْبَتِهِ، وَمَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِهِ. 1484- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه: «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، وَحَاذُوا بَيْنَ مَنَاكِبِكُمْ، وَلِينُوا فِي أَيْدِي إخْوَانِكُمْ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ فِيمَا بَيْنَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْحَذْفِ» . - يَعْنِي أَوْلَاد الضَّأْن الصِّغَار - رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1485- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: ... «أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا» ؟ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: «يُتِمُّونَ الصَّفَّ الْأَوَّلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَة إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ. 1486- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَتِمُّوا الصَّفَّ الْأَوَّلَ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، فَإِنْ كَانَ نَقْصٌ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. 1487- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ الصُّفُوفِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 1488- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا فَقَالَ لَهُمْ: تَقَدَّمُوا فَائْتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ وَرَاءَكُمْ، لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ» فِيهِ أَنَّ تَسْوِيَة الصُّفُوف وَاجِبَة. قَوْلُهُ: «تَرَاصُّوا» : أَيْ تَلَاصَقُوا بِغَيْرِ خَلَل، وَفِيهِ جَوَاز الْكَلَام بَيْن الْإِقَامَة وَالدُّخُول فِي الصَّلَاة. قَوْلُهُ: «وَلِينُوا فِي أَيْدِي إخْوَانكُمْ» . أَيْ إذَا جَاءَ الْمُصَلِّي وَوَضَعَ يَده عَلَى مَنْكِب الْمُصَلِّي فَلْيَلِنْ لَهُ بِمَنْكِبِهِ، وَكَذَا إذَا أَمَرَهُ مَنْ يُسَوِّي الصُّفُوفَ بِالْإِشَارَةِ بِيَدِهِ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي الصَّفّ أَوْ وَضَعَ يَده عَلَى مَنْكِبه فَلْيَسْتَوِ، وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُل فِي الصَّفّ فَلْيُوسِعْ لَهُ.

(1/398)


قَوْلُهُ: «الْحَذْفُ» قَالَ النَّوَوِيُّ: بِحَاءٍ مُهْمَلَة وَذَال مُعْجَمَة مَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ فَاء وَاحِدَتهَا حَذَفَةٌ مِثْل قَصَب وَقَصَبَة، وَهِيَ غَنَم سُود صِغَار تَكُون بِالْيَمَنِ وَالْحِجَاز. قَوْلُهُ: «أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفّ الْمَلَائِكَة عِنْد رَبّهَا» فِيهِ الِاقْتِدَاء بِأَفْعَالِ الْمَلَائِكَة فِي صَلَاتهمْ وَتَعَبُّدَاتهمْ. قَوْلُهُ: «أَتِمُّوا الصَّفَّ الْأَوَّل» فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ تَمَام الصَّفّ الْأَوَّل. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الصَّفّ الْأَوَّل فِي الْمَسْجِد الَّذِي فِيهِ مِنْبَر، هَلْ هُوَ الْخَارِج بَيْن يَدَيْ الْمِنْبَر، أَوْ الَّذِي هُوَ أَقْرَب إلَى الْقِبْلَة؟ فَقَالَ الْغَزَالِيّ فِي الْإِحْيَاء: إنَّ الصَّفّ الْأَوَّل هُوَ الْمُتَّصِل الَّذِي فِي فِنَاء الْمِنْبَر وَمَا عَنْ طَرَفَيْهِ مَقْطُوع. قَالَ: وَكَانَ سُفْيَانُ يَقُول: الصَّفّ الْأَوَّل هُوَ الْخَارِج بَيْن يَدَيْ الْمِنْبَر. قَالَ: وَلَا يَبْعُد أَنْ يُقَال: الْأَقْرَب إلَى الْقِبْلَة هُوَ الْأَوَّل. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْح مُسْلِمٍ: الصَّفّ الْأَوَّل الْمَمْدُوح الَّذِي وَرَدَتْ الْأَحَادِيث بِفَضْلِهِ هُوَ الصَّفّ الَّذِي يَلِي الْإِمَام سَوَاء جَاءَ صَاحِبه مُقَدَّمًا أَوْ مُؤَخَّرًا، سَوَاء تَخَلَّلَهُ مَقْصُورَةٌ أَوْ نَحْوُهَا، هَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي جَزَمَ بِهِ الْمُحَقِّقُونَ. وَقَالَ طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء: الصَّفّ الْأَوَّل هُوَ الْمُتَّصِل مِنْ طَرَف الْمَسْجِد إلَى طَرَفه لَا تَقْطَعهُ مَقْصُورَة وَنَحْوهَا، فَإِنْ تَخَلَّلَ الَّذِي يَلِي الْإِمَام فَلَيْسَ بِأَوَّلَ، بَلْ الْأَوَّل مَا لَمْ يَتَخَلَّلهُ شَيْء، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْغَزَالِيّ. قَوْلُهُ: «إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ» إلَى آخِرِهِ لَفْظ أَبِي دَاوُد «إنَّ اللَّه وَمَلَائِكَته يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِن الصُّفُوف» . وَفِيهِ اسْتِحْبَاب الْكَوْن فِي يَمِينِ الصَّفّ الْأَوَّل وَمَا بَعْده مِنْ الصُّفُوف. قَوْلُهُ: (لَا يَزَال قَوْم يَتَأَخَّرُونَ) زَادَ أَبُو دَاوُد: «عَنْ الصَّفّ الْأَوَّل» . قَوْلُهُ: (قَوْلُهُ: (حَتَّى يُؤَخِّرهُمْ اللَّه) أَيْ يُؤَخِّرهُمْ اللَّهُ عَنْ رَحْمَته وَعَظِيم فَضْله، أَوْ عَنْ رُتْبَة الْعُلَمَاء الْمَأْخُوذ عَنْهُمْ، أَوْ عَنْ رُتْبَة السَّابِقِينَ. وَفِيهِ الْحَثّ عَلَى الْكَوْن فِي الصَّفّ الْأَوَّل وَالتَّنْفِير عَنْ التَّأَخُّر عَنْهُ.

(1/399)


بَاب هَلْ يَأْخُذ الْقَوْم مَصَافَّهُمْ قَبْل الْإِمَام أَمْ لَا 1489- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ تُقَامُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَيَأْخُذُ النَّاسُ مَصَافَّهُمْ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُقَامَهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 1490- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، وَعُدِّلَتْ الصُّفُوفُ قِيَامًا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَخَرَجَ إلَيْنَا، فَلَمَّا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ تَذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ، فَقَالَ لَنَا: «مَكَانَكُمْ» . فَمَكَثْنَا عَلَى هَيْئَتِنَا - يَعْنِي قِيَامًا - ثُمَّ رَجَعَ ... فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، فَكَبَّرَ فَصَلَّيْنَا مَعَهُ. مُتَّفَق عَلَيْهِ. 1491- وَلِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ: حَتَّى إذَا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ وَانْتَظَرْنَا أَنْ يُكَبِّرَ انْصَرَفَ. وَذَكَرَ نَحْوه. 1492- وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي قَدْ خَرَجْتُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَة إلَّا ابْنَ مَاجَهْ، وَلَمْ يَذْكُر الْبُخَارِيُّ فِيهِ «قَدْ خَرَجْتُ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَيَأْخُذ النَّاسُ مَصَافَّهُمْ) يَعْنِي مَكَانهمْ مِنْ الصَّفّ. قَوْلُهُ: (قَبْل أَنْ يَخْرُج) فِيهِ جَوَاز قِيَام الْمُؤْتَمِّينَ وَتَعْدِيل الصُّفُوف قَبْل خُرُوج الْإِمَام، وَهُوَ مُعَارِض لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ وَيُجْمَع بَيْنهمَا بِأَنَّ ذَلِكَ رُبَّمَا وَقَعَ لِبَيَانِ الْجَوَاز، أَو بِأَنَّ صَنِيعهمْ فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ كَانَ سَبَبًا لِلنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فِي حَدِيث أَبِي قَتَادَةَ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ سَاعَة تُقَام الصَّلَاة وَلَوْ لَمْ يَخْرُج النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَقَع لَهُ شُغْل يُبْطِئ فِيهِ عَنْ الْخُرُوج فَيَشُقّ عَلَيْهِمْ انْتِظَاره. قَوْله: (إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي قَدْ خَرَجْتُ) قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ أَنَّ قِيَام الْمُؤْتَمِّينَ فِي الْمَسْجِد إلَى الصَّلَاة يَكُونُ عِنْد رُؤْيَة الْإِمَام. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّهُمْ يَقُومُونَ إذَا كَانَ الْإِمَام مَعَهُمْ فِي الْمَسْجِد عِنْد فَرَاغ الْإِقَامَة. وَعَنْ أَنَس أَنَّهُ كَانَ يَقُوم إذَا قَالَ الْمُؤَذِّن: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: لَمْ أَسْمَع فِي قِيَام النَّاس حِين تُقَام الصَّلَاةُ بِحَدٍّ مَحْدُود، إلَّا أَنِّي أَرَى ذَلِكَ عَلَى طَاقَة النَّاس فَإِنَّ فِيهِمْ الثَّقِيل وَالْخَفِيف وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الْإِمَام فِي الْمَسْجِد، فَذَهَبَ الْجُمْهُور إلَى أَنَّهُمْ

(1/400)


يَقُومُونَ حِين يَرَوْنَهُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَاب كَرَاهَة الصَّفّ بَيْن السَّوَارِي لِلْمَأْمُومِ 1493- عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ مَحْمُودٍ، قَالَ: صَلَّيْنَا خَلْفَ أَمِيرٍ مِنْ الْأُمَرَاءِ فَاضْطَرَّنَا النَّاسُ فَصَلَّيْنَا بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَلَمَّا صَلَّيْنَا قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: كُنَّا نَتَّقِي هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ الْخَمْسَة إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. 1494- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا نُنْهَى أَنْ نَصُفَّ بَيْنَ السَّوَارِي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنُطْرَدُ عَنْهَا طَرْدًا. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. 1495- وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الْكَعْبَةَ صَلَّى بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى كَرَاهَة الصَّلَاة بَيْن السَّوَارِي، وَالْعِلَّة فِي الْكَرَاهَة مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ إمَّا لِانْقِطَاعِ الصَّفّ. أَوْ لِأَنَّهُ مَوْضِع جَمْع النِّعَال. قَالَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ: وَالْأَوَّل أَشْبَه لِأَنَّ الثَّانِي مُحْدَث. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَلَا خِلَاف فِي جَوَازه عِنْد الضِّيق، وَأَمَّا عِنْد السَّعَة فَهُوَ مَكْرُوه لِلْجَمَاعَةِ، فَأَمَّا الْوَاحِد فَلَا بَأْس بِهِ، وَقَدْ صَلَّى - صلى الله عليه وسلم - فِي الْكَعْبَة بَيْن سَوَارِيهَا. بَاب وُقُوف الْإِمَام أَعْلَى مِنْ الْمَأْمُوم وَبِالْعَكْسِ 1496- عَنْ هَمَّامٍ أَنَّ حُذَيْفَةَ أَمَّ النَّاسَ بِالْمَدَائِنِ عَلَى دُكَّانٍ، فَأَخَذَ أَبُو مَسْعُودٍ بِقَمِيصِهِ فَجَبَذَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: بَلَى قَدْ ذَكَرْتُ حِينَ مَدَدْتنِي. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 1497- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَقُومَ الْإِمَامُ فَوْقَ شَيْءٍ وَالنَّاسُ خَلْفَهُ، يَعْنِي أَسْفَلَ مِنْهُ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. 1498- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ وُضِعَ، فَكَبَّرَ وَهُوَ عَلَيْهِ، ثُمَّ رَكَعَ ثُمَّ نَزَلَ الْقَهْقَرَى، فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَرَغَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعَلَّمُوا صَلَاتِي. مُتَّفَق عَلَيْهِ.

(1/401)


وَمَنْ ذَهَبَ إلَى الْكَرَاهَة حَمَلَ هَذَا عَلَى الْعُلُوِّ الْيَسِير وَرَخَّصَ فِيهِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ بصَلَاةِ الْإِمَامِ. وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ فِي دَارِ أَبِي نَافِعٍ عَنْ يَمِينِ الْمَسْجِدِ فِي غُرْفَةٍ قَدْرَ قَامَةٍ مِنْهَا، لَهَا بَابٌ مُشْرِفٌ عَلَى الْمَسْجِدِ بِالْبَصْرَةِ، فَكَانَ أَنَسٌ يَجْمَعُ فِيهِ وَيَأْتَمُّ بِالْإِمَامِ. رَوَاهُمَا سَعِيدٌ فِي سُنَنه. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الدُّكَّانُ: الْحَانُوت، وَهِيَ الدَّكَّة بِفَتْحِ الدَّال: وَهُوَ الْمَكَان الْمُرْتَفِع يُجْلَس عَلَيْهِ. وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ يُكْرَه ارْتِفَاع الْإِمَام فِي الْمَجْلِس. إِلِى أَنْ قَالَ: وَالْحَاصِل مِنْ الْأَدِلَّة مَنْع ارْتِفَاع الْإِمَام عَلَى الْمُؤْتَمِّينَ مِنْ غَيْر فَرْق بَيْن الْمَسْجِد وَغَيْره وَبَيْن الْقَامَة وَدُونهَا وَفَوْقهَا، لِقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ: إنَّهُمْ كَانُوا يُنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ. وَقَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. الْحَدِيث. وَأَمَّا صَلَاته - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَر. فَقِيلَ: إنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِغَرَضِ التَّعْلِيم كَمَا يَدُلّ عَلَيْهِ. قَوْله: «وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي» . وَغَايَة مَا فِيهِ جَوَاز وُقُوف الْإِمَام عَلَى مَحَلّ أَرْفَع مِنْ الْمُؤْتَمِّينَ إذَا أَرَادَ تَعْلِيمهمْ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَدِلّ بِهِ عَلَى جَوَاز الِارْتِفَاع مِنْ غَيْر قَصْد التَّعْلِيم لَمْ يَسْتَقِمْ. بَاب مَا جَاءَ فِي الْحَائِل بَيْن الْإِمَام وَالْمَأْمُوم 1499- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ لَنَا حَصِيرَةٌ نَبْسُطُهَا بِالنَّهَارِ، وَنَحْتَجِزُ بِهَا بِاللَّيْلِ، فَصَلَّى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ قِرَاءَته فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ كَثُرُوا فَاطَّلَعَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: اكْلَفُوا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْحَائِل بَيْن الْإِمَام وَالْمُؤْتَمِّينَ غَيْر مَانِع مِنْ صِحَّة الصَّلَاة. بَاب مَا جَاءَ فِيمَنْ يُلَازِم بُقْعَة بِعَيْنِهَا مِنْ الْمَسْجِد 1500- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى فِي الصَّلَاةِ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ نَقْرَةِ الْغُرَابِ، وَافْتِرَاشِ السَّبُعِ، وَأَنْ يُوَطِّنَ الرَّجُلُ الْمُقَامَ الْوَاحِدَ

(1/402)


كَإِيطَانِ الْبَعِيرِ. رَوَاهُ الْخَمْسَة إلَّا التِّرْمِذِيَّ. 1501- وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ: أَنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ الْأُسْطُوَانَةِ الَّتِي عِنْدَ الْمُصْحَفِ، وَقَالَ: رَأَيْتُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَهَا. مُتَّفَق عَلَيْهِ. 1502- وَلِمُسْلِمٍ أَنَّ سَلَمَةَ كَانَ يَتَحَرَّى مَوْضِعَ الْمُصْحَف يُسَبِّح فِيهِ، وَذَكَر أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَحَرَّى ذَلِكَ الْمَكَانَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْله: (الَّتِي عِنْد الْمُصْحَف) هَذَا دَالّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لِلْمُصْحَفِ مَوْضِع خَاصّ بِهِ. وَوَقَعَ عِنْد مُسْلِمٍ بِلَفْظِ يُصَلِّي وَرَاءَ الصُّنْدُوقِ. وَكَأَنَّهُ كَانَ لِلْمُصْحَفِ صُنْدُوق يُوضَع فِيهِ. قَالَ الْحَافِظ: وَالْأُسْطُوَانَة الْمَذْكُورَة حَقَّقَ لَنَا بَعْض مَشَايِخنَا أَنَّهَا الْمُتَوَسِّطَة فِي الرَّوْضَةِ الْمُكَرَّمَةِ وَأَنَّهَا تُعْرَف بِأُسْطُوَانَةِ الْمُهَاجِرِينَ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيث الْأَوَّل يَدُلّ عَلَى كَرَاهَة اعْتِيَاد الرَّجُل بُقْعَة مِنْ بِقَاعِ الْمَسْجِد. وَلَا يُعَارِضهُ الْحَدِيث الثَّانِي لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُول أَنَّ فِعْله - صلى الله عليه وسلم - يَكُونُ مُخَصِّصًا لَهُ مِنْ الْقَوْل الشَّامِل لَهُ بِطَرِيقِ الظُّهُور كَمَا تَقَدَّمَ غَيْر مَرَّة إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيل التَّأَسِّي وَعِلَّة النَّهْي عَنْ الْمُوَاظَبَة عَلَى مَكَان فِي الْمَسْجِد مَا سَيَأْتِي فِي الْبَاب الَّذِي بَعْد هَذَا مِنْ مَشْرُوعِيَّة تَكْثِير مَوَاضِع الْعِبَادَة. قَالَ الْمُصَنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: قُلْتُ: وَهَذَا مَحْمُول عَلَى النَّفَل، وَيُحْمَل النَّهْي عَلَى مَنْ لَازَمَ مُطْلَقًا لِلْفَرْضِ وَالنَّفَل. بَاب اسْتِحْبَاب التَّطَوُّع فِي غَيْر مَوْضِع الْمَكْتُوبَة 1503- عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يُصَلِّي الْإِمَامُ فِي مُقَامِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْمَكْتُوبَة حَتَّى يَتَنَحَّى عَنْهُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو دَاوُد. 1504- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ إذَا صَلَّى

(1/403)


أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 1505- وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَا: يَعْنِي فِي السُّبْحَة. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى مَشْرُوعِيَّة انْتِقَال الْمُصَلِّي عَنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ.

(1/404)


 كِتَاب صَلَاة الْمَرِيض

1506- عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ ... النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الصَّلَاةِ فَقَالَ: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِكَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَة إلَّا مُسْلِمًا. 1507- وَزَادَ النَّسَائِيّ: «فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا» . 1508- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يُصَلِّي الْمَرِيضُ قَائِمًا إنْ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ صَلَّى قَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَسْجُدَ أَوْمَأَ بِرَأْسِهِ، وَجَعَلَ سُجُودَهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ، صَلَّى مُسْتَلْقِيًا رِجْلَاهُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَظَاهِر الْأَحَادِيث أَنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ الْإِيمَاء مِنْ الْمُسْتَلْقِي لَمْ يَجِب عَلَيْهِ شَيْء بَعْد ذَلِكَ. وَقِيلَ: يَجِب الْإِيمَاء بِالْعَيْنَيْنِ. وَقِيلَ: بِالْقَلْبِ وَقِيلَ: يَجِب إمْرَار الْقُرْآن عَلَى الْقَلْب وَالذِّكْر عَلَى اللِّسَان ثُمَّ عَلَى الْقَلْب، وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ قَوْل اللَّه تَعَالَى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . وَقَوْله - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: مَتَى عَجَزَ الْمَرِيضُ عَنِ الإِيمَاءِ بِرَأْسِهِ سَقَطَتْ عَنْهُ الصَّلاة وَلا يَلْزَمُهُ الإِيمَاءِ بَطَرْفِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةٍ وَرِوَايَة عَنْ أَحْمَدٍ.

(1/405)


بَاب الصَّلَاة فِي السَّفِينَة 1509- عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: كَيْفَ أُصَلِّي فِي السَّفِينَةِ؟ قَالَ: «صَلِّ فِيهَا قَائِمًا إلَّا أَنْ تَخَافَ الْغَرَقَ» . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْط الصَّحِيحَيْنِ. 1510- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةُ قَالَ: صَحِبْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبَا هُرَيْرَةَ فِي سَفِينَةٍ فَصَلَّوْا قِيَامًا فِي جَمَاعَةٍ أَمَّهُمْ بَعْضُهُمْ وَهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْجُدِّ. رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (صَلِّ فِيهَا قَائِمًا إلَّا أَنْ تَخَافَ الْغَرَقَ) . فِيهِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى مَنْ يُصَلِّي فِي السَّفِينَةِ الْقِيَامُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْقُعُودُ إلَّا عِنْدَ خَشْيَةِ الْغَرَقِ. وَيُقَاسُ عَلَى مَخَافَةِ الْغَرَقِ مَا سِوَاهَا مِنْ الْأَعْذَارِ. قَوْلُهُ: (وَهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْجُدِّ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ: هُوَ شَاطِئُ الْبَحْرِ. وَفِيهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ فِي السَّفِينَةِ وَإِنْ كَانَ الْخُرُوجُ إلَى الْبَرِّ مُمْكِنًا.

(1/406)


أَبْوَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ بَابُ اخْتِيَارِ الْقَصْرِ وَجَوَازِ الْإِتْمَامِ 1511- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: صَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1512- وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا} . فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ، فَقَالَ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ. 1513- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي عُمْرَةِ رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ وَصُمْتُ، وَقَصَرَ وَأَتْمَمْتُ، فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي أَفْطَرْتَ وَصُمْتُ، وَقَصَرْتَ وَأَتْمَمْتُ، فَقَالَ: «أَحْسَنْتِ يَا عَائِشَةُ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: هَذَا إسْنَادٌ حَسَنٌ. 1514- وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ وَيُتِمُّ، وَيُفْطِرُ وَيَصُومُ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: إسْنَادٌ صَحِيحٌ. 1515- وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ مِنْ غَيْرِ قَصْرٍ،

(1/407)


عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. 1516- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَانَا وَنَحْنُ ضُلَّالٌ فَعَلَّمَنَا، فَكَانَ فِيمَا عَلَّمَنَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنَا أَنْ نُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 1517- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَوْلُهُ: (صَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ) . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: وَصَحِبْتُ عُثْمَانَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: تَأَوَّلَ الْعُلَمَاءُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي غَيْرِ مِنًى، وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ بِإِتْمَامِ عُثْمَانَ بَعَدَ صَدْرٍ مِنْ خِلَافَتِهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْإِتْمَامِ بِمِنًى خَاصَّة. ... قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ الْقَصْرُ وَاجِبٌ أَمْ رُخْصَةٌ وَالتَّمَامُ أَفْضَلُ؟ إِلِى أَنْ قَالَ: وَقَدْ لَاحَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَا رُجْحَانُ الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ. قَوْلُهَا: (خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي عُمْرَةِ رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ وَصُمْتُ، وَقَصَرَ وَأَتْمَمْتُ، فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي أَفْطَرْتَ وَصُمْتُ، وَقَصَرْتَ وَأَتْمَمْتُ، فَقَالَ: «أَحْسَنْتِ يَا عَائِشَةُ» . قَالَ الشَّارِحُ: فَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ حُجَّةً، وَلَكِنَّهُ لَا يَنْتَهِضُ لِمُعَارَضَةِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَ يُتِمُّ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي السَّفَرِ، وَحَدِيثُ عَائِشَة فِي مُخَالَفَةِ ذَلِكَ لا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّة. بَابُ الرَّدّ عَلَى مَنْ قَالَ إذَا خَرَجَ نَهَارَا لَمْ يَقْصُر إلَى اللَّيْل 1518- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1519- وَعَنْ شُعْبَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَزِيدَ الْهُنَائِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا عَنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، أَوْ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. - شُعْبَةُ الشَّاكُّ - رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد.

(1/408)


قَوْلُهُ: (وَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى إبَاحَة الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ، لِأَنَّ بَيْن الْمَدِينَة وَذِي الْحُلَيْفَةِ سِتَّة أَمْيَال. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَا الْحُلَيْفَةِ لَمْ تَكُنْ مُنْتَهَى السَّفَر، وَإِنَّمَا خَرَجَ إلَيْهَا حَيْثُ كَانَ قَاصِدَا إلَى مَكَّةَ وَاتَّفَقَ نُزُوله بِهَا وَكَانَتْ أَوَّل صَلَاة حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْر فَقَصَرَهَا وَاسْتَمَرَّ يَقْصُر إلَى أَنْ يَرْجَعَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الْخِلَاف الطَّوِيل بَيْن عُلَمَاء الْإِسْلَام فِي مِقْدَار الْمَسَافَةِ الَّتِي يَقْصُرُ فِيهَا الصَّلَاةَ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: فَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِر وَغَيْره فِيهَا نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ قَوْلَا، أَقَلّ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ: يَوْم وَلَيْلَة، وَأَكْثَره: مَا دَامَ غَائِبَا عَنْ بَلَده. وَقِيلَ: أَقَلّ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ الْمِيل كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ، وَاحْتُجَّ لَهُ بِإِطْلَاقِ السَّفَر فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى، وَفِي سُنَّة رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. وَقَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِ حَدِيثِ أَنَسٍ الظَّاهِرِيَّةُ فَذَهَبُوا إلَى أَنَّ أَقَلّ مَسَافَةِ الْقَصْرِ ثَلَاثَة أَمْيَال. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَهُوَ أَصَحّ حَدِيثٍ وَرَدَ فِي ذَلِكَ وَأَصْرَحه، وَقَدْ حَمَلَهُ مَنْ خَالَفَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد الْمَسَافَة الَّتِي يُبْتَدَأُ مِنْهَا الْقَصْر لَا غَايَة السَّفَر. قَالَ: وَلَا يَخْفَى بَعَدَ هَذَا الْحَمْل. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَفُقَهَاءُ أَصْحَاب الْحَدِيثِ وَغَيْرهمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز إلَّا فِي مَسِيرَة مَرْحَلَتَيْنِ وَهُمَا ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ مِيلًا هَاشِمِيَّة كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَقَدْ أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ اخْتِيَاره أَنَّ أَقَلّ مَسَافَة الْقَصْر يَوْم وَلَيْلَة. قَالَ الشَّارِحُ: وَأَمَّا حَدِيث ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إلَى عُسْفَانَ» . فَلَيْسَ مِمَّا تَقُوم بِهِ حُجَّة، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوف عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. إذَا تَقَرَّرَ لَك هَذَا فَالْمُتَيَقَّن هُوَ ثَلَاثَة فَرَاسِخَ، لِأَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ مُتَرَدِّد مَا بَيْنهَا وَبَيْن ثَلَاثَة أَمْيَال، وَالثَّلَاثَة الْأَمْيَال مُنْدَرِجَة فِي الثَّلَاثَة الْفَرَاسِخِ، فَيُؤْخَذ بِالْأَكْثَرِ احْتِيَاطًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِر: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لِمُرِيدِ السَّفَر أَنْ يَقْصُر إذَا خَرَجَ عَنْ جَمِيع بُيُوتِ الْقَرْيَة الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْ الْبُيُوت، فَذَهَبَ الْجُمْهُور إلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُفَارَقَة جَمِيع الْبُيُوت. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قال في الاخيارات: وَيَجُوزُ قَصْرُ الصَّلاةَ فِي كُلِّ مَا سُمِّيَ سَفَرًا سَوَاء

(1/409)


قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَلا يَتَقَدَّرُ عَدُّهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الظَّاهِرِيَّةِ وَنَصَرَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي فِيهِ وَسَوَاء كَانَ مُبَاحًا أَوْ محرمًا. وَنَصَرَهُ ابْنُ عقيلٍ فِي مَوْضِعٍ، وَقَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَسَوَاء نَوَى إِقَامَة أَكْثَر مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَوْ لا، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. انْتَهَى. وَاللهُ أَعْلَمُ. بَابُ أَنَّ مَنْ دَخَلَ بَلَدًا فَنَوَى الْإِقَامَة فِيهِ أَرْبَعًا يَقْصُر 1520- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلَى مَكَّةَ فِي الْمَسِيرِ وَالْمُقَامِ بِمَكَّةَ إلَى أَنْ رَجَعُوا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَده. 1521- وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ قُلْتُ: أَقَمْتُمْ بِهَا شَيْئًا؟ قَالَ: أَقَمْنَا بِهَا عَشْرًا. مُتَّفَق عَلَيْهِ. 1522- وَلِمُسْلِمٍ: خَرَجْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى الْحَجِّ. ثُمَّ ذَكَرَ مِثْله. وَقَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا وَجْه حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ حَسَبُ مُقَام النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمَكَّةَ وَمِنًى، وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لَهُ غَيْر هَذَا. 1523- وَاحْتُجَّ بِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ مَكَّةَ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَأَقَامَ بِهَا الرَّابِعَ وَالْخَامِسَ وَالسَّادِسَ وَالسَّابِعَ، وَصَلَّى الصُّبْحَ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى مِنًى، وَخَرَجَ مِنْ مَكَّةَ مُتَوَجِّهًا إلَى الْمَدِينَةِ، بَعْدَ أَيَّامَ التَّشْرِيق. وَمَعْنَى ذَلِكَ كُلّه فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَقّ أَنَّ مَنْ حَطَّ رَحْله بِبَلَدٍ وَنَوَى الْإِقَامَة بِهَا أَيَّامًا مِنْ دُون تَرَدُّد لَا يُقَال لَهُ: مُسَافِر، فَيُتِمّ الصَّلَاة وَلَا يَقْصُر. بَابُ مَنْ أَقَامَ لَقَضَاءِ حَاجَة وَلَمْ يَجْمَع إقَامَة 1524- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد.

(1/410)


1525- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَشَهِدْتُ مَعَهُ الْفَتْحَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يُصَلِّي إلَّا رَكْعَتَيْنِ يَقُولُ: «يَا أَهْلَ الْبَلْدَةِ صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا سَفْرٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ إقَامَةً. 1526- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا فَتَحَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ أَقَامَ فِيهَا تِسْعَ عَشْرَةَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: فَنَحْنُ إذَا سَافَرْنَا فَأَقَمْنَا تِسْعَ عَشْرَةَ قَصَرْنَا، وَإِنْ زِدْنَا أَتْمَمْنَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. 1527- وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَكِنَّهُ قَالَ: سَبْعَ عَشْرَةَ. وَقَالَ: قَالَ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَقَامَ تِسْعَ عَشْرَةَ. وَعَنْ ثُمَامَةَ بْنِ شَرَاحِيلَ قَالَ: خَرَجْتُ إلَى ابْنِ عُمَرَ فَقُلْتُ: مَا صَلَاةُ الْمُسَافِرِ؟ قَالَ: رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إلَّا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ ثَلَاثًا، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إنْ كُنَّا بِذِي الْمَجَازِ؟ قَالَ: وَمَا ذِي الْمَجَازِ؟ قُلْتُ: مَكَانٌ نَجْتَمِعُ فِيهِ، وَنَبِيعُ فِيهِ، وَنَمْكُثُ عِشْرِينَ لَيْلَةً أَوْ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ كُنْتُ بِأَذْرَبِيجَانَ - لَا أَدْرِي قَالَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ - فَرَأَيْتُهُمْ يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَقْدِير الْمُدَّةِ الَّتِي يَقْصُرُ فِيهَا الْمُسَافِرُ إذَا أَقَامَ بِبَلْدَةٍ وَكَانَ مُتَرَدِّدًا غَيْرَ عَازِمٍ عَلَى إقَامَةِ أَيَّامٍ مَعْلُومَةٍ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَالْحَقّ أَنَّ الْأَصْل فِي الْمُقِيم الْإِتْمَام، لِأَنَّ الْقَصْر لَمْ يُشْرِعْهُ الشَّارِعُ إلَّا لِلْمُسَافِرِ، وَالْمُقِيم غَيْر مُسَافِر، فَلَوْلَا مَا ثَبَتَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ قَصْره بِمَكَّةَ وَتَبُوكَ مَعَ الْإِقَامَة لَكَانَ الْمُتَعَيَّن هُوَ الْإِتْمَام، فَلَا يَنْتَقِل عَنْ ذَلِكَ الْأَصْل إلا بِدَلِيلٍ، وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيل عَلَى الْقَصْر مَعَ التَّرَدُّد إلَى عِشْرِينَ يَوْمًا كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، وَلَمْ يَصِحّ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - قَصَرَ فِي الْإِقَامَة أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ فَيُقْتَصَر عَلَى هَذَا الْمِقْدَار، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَصْره - صلى الله عليه وسلم - فِي تِلْكَ الْمُدَّة لَا يَنْفِي الْقَصْر فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّ مُلَاحَظَة الْأَصْل الْمَذْكُور هِيَ الْقَاضِيَة بِذَلِكَ.

(1/411)


بَابُ مَنْ اجْتَازَ فِي بَلَدٍ فَتَزَوَّجَ فِيهِ أَوْ لَهُ فِيهِ زَوْجَةٌ فَلْيُتِمَّ 1528- عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ صَلَّى بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ مُنْذُ قَدِمْتُ، وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ تَأَهَّلَ فِي بَلَدٍ فَلْيُصَلِّ صَلَاةَ الْمُقِيمِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيث أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْبَيْهَقِيُّ وَأَعَلَّهُ بِالِانْقِطَاعِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَالْمَنْقُول فِي سَبَبِ إتْمَامِ عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ يَرَى الْقَصْر مُخْتَصًّا بِمَنْ كَانَ شَاخِصَا سَائِرَا. وَأَمَّا مَنْ أَقَامَ فِي مَكَان أَثْنَاءَ سَفَرِهِ فَلَهُ حُكْم الْمُقِيم فَيُتِمّ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْوَجْه الصَّحِيح فِي ذَلِكَ أَنَّ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ كَانَا يَرَيَانِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّمَا قَصَرَ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِالْأَيْسَرِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أُمَّته، وَآخَذَا أَنْفُسهمَا بِالشِّدَّةِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إنَّمَا صَلَّى عُثْمَان بِمِنًى أَرْبَعًا لِأَنَّ الْأَعْرَابَ كَانُوا كَثُرُوا فِي ذَلِكَ الْعَام، فَأَحَبَّ أَنْ يُعْلِمهُمْ أَنَّ الصَّلَاة أَرْبَع. وَعَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا نَادَاهُ فِي مِنًى: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ مَا زِلْت أُصَلِّيهَا مُنْذُ رَأَيْتُك عَام أَوَّل رَكْعَتَيْنِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قال الموفق في المغني: وَإِنْ مَرَّ فِي طَرِيقِهِ عَلَى بَلَدٍ لَهُ فِيهِ أَهْلٌ أَوْ مَالٍ فَقَالَ أَحْمَدٌ فِي مَوْضِعٍ: يَتِمُّ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: يَتِمُّ إِلا أَنْ يَكُونَ مَارًا. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الزُّهَرِيُّ: إِذَا مَرَّ بِمَزْرَعَةٍ لَهُ أَتَمَّ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا مَرَّ بِقَرْيَةٍ فِيهَا أَهْلُهُ أَوْ مَالُهُ أَتَمَّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا يَوْمًا وَلَيْلَةٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرُ: يَقْصِرُ مَا لَمْ يجمعْ عَلَى إِقَامَةِ أَرْبَعٍ لأَنَّهُ مُسَافِرٌ لَمْ يَجْمَعْ عَلَى أَرْبَعٍ وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانٍ أَنَّهُ صَلَّى بِمِنَى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي تَأَهَّلْتُ بِمَكَّة مُنْذُ قَدِمْتُ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ تَأَهَّلَ فِي بَلَدٍ فَلْيُصَلِّ صَلاةَ الْمُقِيمِ» . رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا قَدِمْتَ عَلَى أَهْلٍ لَكَ أَوْ مَالٍ فَصَلِّ صَلاةَ الْمُقِيمِ وَلأَنَّهُ مُقِيمٌ بِبَلَدٍ فِيهِ أَهْلُهُ فَأَشْبَهُ الْبَلَد الذي سَافَرَ مِنْهُ. انْتَهَى.

(1/412)


أَبْوَابُ الْجَمْع بَيْن الصَّلَاتَيْنِ. بَابُ جَوَازه فِي السَّفَر فِي وَقْت إحْدَاهُمَا 1529- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا رَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ زَاغَتْ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ. مُتَّفَق عَلَيْهِ. 1530- وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا. 1531- وَعَنْ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَهَا إلَى الْعَصْرِ يُصَلِّيهِمَا جَمِيعًا، وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ سَارَ، وَكَانَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْعِشَاءِ، وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ عَجَّلَ الْعِشَاءَ فَصَلَّاهَا مَعَ الْمَغْرِبِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 1532- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: كَانَ فِي السَّفَرِ إذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ، فَإِذَا لَمْ تَزِغْ لَهُ فِي مَنْزِلِهِ سَارَ حَتَّى إذَا حَانَتْ الْعَصْرُ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَإِذَا حَانَتْ لَهُ الْمَغْرِبُ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ، وَإِذَا لَمْ تَحِنْ فِي مَنْزِلِهِ رَكِبَ حَتَّى إذَا كَانَتْ الْعِشَاءُ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1533- وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ بِنَحْوِهِ وَقَالَ فِيهِ: وَإِذَا سَارَ قَبْلَ أَنْ

(1/413)


تَزُولَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَصْرِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ. 1534- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ اُسْتُغِيثَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ فَجَدَّ بِهِ السَّيْرُ فَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِهَذَا اللَّفْظ وَصَحَّحَهُ. 1535- وَمَعْنَاهُ لِسَائِرِ الْجَمَاعَة إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيل عَلَى جَوَاز جَمْعِ التَّأْخِيرِ فِي السَّفَرِ، وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَاف فِي الْجَمْع فِي السَّفَر، فَذَهَبَ إلَى جَوَازه مُطْلَقًا تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا كَثِير مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمِنْ الْفُقَهَاءِ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَشْهَبُ. وَقَالَ قَوْم: لَا يَجُوز الْجَمْع مُطْلَقًا إلَّا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ. وَقَالَ اللَّيْثُ: وَهُوَ الْمَشْهُور عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْجَمْع يَخْتَصّ بِمَنْ جَدّ بِهِ السَّيْر. إِلِى أَنْ قَالَ: وَفِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي الْمُوَطَّأِ: إنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَخَّرَ الصَّلَاةَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا أَوْضَحُ دَلِيل فِي الرَّدّ عَلَى مَنْ قَالَ: لَا يَجْمَع إلَّا مَنْ جَدَّ بِهِ السَّيْر وَهُوَ قَاطِع لِلِالْتِبَاسِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَكَأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَ ذَلِكَ لِبَيَانِ الْجَوَاز، وَكَانَ أَكْثَر عَادَته مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَنَسٍ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ جَمْع الْمُقِيم لِمَطَرٍ أَوْ غَيْره 1536- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعًا وَثَمَانِيًا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ. مُتَّفَق عَلَيْهِ. 1537- وَفِي لَفْظ لِلْجَمَاعَةِ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ: جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ. قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا أَرَادَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ الْبَابِ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ الْجَمْعِ مُطْلَقًا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَّخِذَ ذَلِكَ خُلُقًا وَعَادَةً. وَذَهَبَ الْجُمْهُور إلَى أَنَّ

(1/414)


الْجَمْع لِغَيْرِ عُذْر لَا يَجُوز. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْت: وَهَذَا يَدُلّ بِفَحْوَاهُ عَلَى الْجَمْع لِلْمَطَرِ وَالْخَوْف وَلِلْمَرَضِ، وَإِنَّمَا خُولِفَ ظَاهِر مَنْطُوقه فِي الْجَمْع لِغَيْرِ عُذْر لِلْإِجْمَاعِ وَلِأَخْبَارِ الْمَوَاقِيت فَتَبْقَى فَحَوَاهُ عَلَى مُقْتَضَاهُ، وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ فِي الْجَمْع. لِلْمُسْتَحَاضَةِ، وَالِاسْتِحَاضَة نَوْع مَرَض. وَلِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا جَمَعَ الْأُمَرَاءُ بَيْن الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي الْمَطَر جَمَعَ مَعَهُمْ. وَلِلْأَثْرَمِ فِي سُنَنه عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ السُّنَّة إذَا كَانَ يَوْم مَطِير أَنْ يُجْمَع بَيْن الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. بَابُ الْجَمْع بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ مِنْ غَيْر تَطَوُّع بَيْنَهُمَا 1538- عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ جَمِيعًا كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِإِقَامَةٍ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا، وَلَا عَلَى أَثَرِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَالنَّسَائِيُّ. 1539- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الصَّلَاتَيْنِ بِعَرَفَةَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَأَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ. مُخْتَصَرٌ لِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ. 1540- وَعَنْ أُسَامَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتْ الْعِشَاءُ فَصَلَّاهَا وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا. مُتَّفَق عَلَيْهِ. 1541- وَفِي لَفْظ: رَكِبَ حَتَّى جِئْنَا الْمُزْدَلِفَةَ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ النَّاسُ فِي مَنَازِلهمْ، وَلَمْ يَحُلُّوا حَتَّى أَقَامَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ فَصَلَّى ثُمَّ حَلُّوا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.

(1/415)


1542- وَفِي لَفْظ: أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلُّوا الْمَغْرِبَ، ثُمَّ حَلُّوا رِحَالَهُمْ وَأَعَنْتُهُ ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَهُوَ حُجَّة فِي جَوَاز التَّفْرِيق بَيْنَ الْمَجْمُوعَتَيْنِ فِي وَقْت الثَّانِيَة. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إنْسَان بَعِيرَهُ) فِيهِ جَوَاز الْفَصْلِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ بِمِثْلِ هَذَا.

(1/416)


أَبْوَابُ الْجُمُعَة بَابُ التَّغْلِيظ فِي تَرْكهَا 1543- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِقَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الْجُمُعَةِ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ أُحَرِّقَ عَلَى رِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الْجُمُعَةِ بُيُوتَهُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 1544- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا سَمِعَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 1545- وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. 1546- وَعَنْ أَبِي الْجَعْدِ الضَّمْرِيِّ - وَلَهُ صُحْبَةٌ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَة. 1547- وَلِأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيث جَابِرٍ نَحْوه. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَة مِنْ فُرُوض الْأَعْيَان. وَقَدْ حَكَى ابْنِ الْمُنْذِر الْإِجْمَاع عَلَى أَنَّهَا فَرْض عَيْن. وَقَالَ ابْنُ قَدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ الْجُمع. قَالَ الشَّارِحُ: وَمِنْ جُمْلَة الْأَدِلَّة الدَّالَّة عَلَى أَنَّ الْجُمُعَة مِنْ فَرَائِض الْأَعْيَان قَوْل اللَّه تَعَالَى: {إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} .

(1/417)


بَابُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَمَنْ لَا تَجِبُ 1548- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 1549- وَالدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ فِيهِ: «إنَّمَا الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ» . 1550- وَعَنْ حَفْصَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «رَوَاحُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 1551- وَعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إلَّا أَرْبَعَةً: عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، أَوْ امْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَرِيضٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ: وَطَارِقُ بْنُ شِهَابٍ قَدْ رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَسْمَع مِنْهُ شَيْئًا. 1552- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَلَا هَلْ عَسَى أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَّخِذَ الصُّبَّةَ مِنْ الْغَنَمِ عَلَى رَأْسِ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ فَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْكَلَأُ فَيَرْتَفِعُ وتَجِيءُ الْجُمُعَةُ فَلا يَشْهَدُهَا، وَتَجِيءُ الْجُمُعَةُ فَلَا يَشْهَدُهَا، حَتَّى يَطْبَعَ عَلَى قَلْبِهِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. 1553- وَعَنْ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: بَعَثَ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فِي سَرِيَّةٍ فَوَافَقَ ذَلِكَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، قَالَ: فَتَقَدَّمَ أَصْحَابُهُ وَقَالَ: أَتَخَلَّفُ فَأُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْجُمُعَةَ ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ، قَالَ: فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ رَآهُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَك أَنْ تَغْدُوَ مَعَ أَصْحَابِك؟ فَقَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ مَعَكَ الْجُمُعَةَ ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَدْرَكْتَ غَدْوَتَهُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ شُعْبَةُ: لَمْ يَسْمَع الْحَكَمُ مِنْ مِقْسَمٍ إلَّا خَمْسَة أَحَادِيثَ وَعَدَّهَا، وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا عَدَّهُ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - أَنَّهُ أَبْصَرَ رَجُلًا عَلَيْهِ هَيْئَةُ السَّفَرِ فَسَمِعَهُ يَقُولُ: لَوْلَا أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ جُمُعَةٍ لَخَرَجْتُ، فَقَالَ عُمَرُ: اُخْرُجْ فَإِنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَحْبِسُ

(1/418)


عَنْ سَفَرٍ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَده. قَوْلُهُ: «الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، حَكَى ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُمْ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَاوِي الْحَدِيثِ. وَحَدِيثُ الْبَابِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ الْمَقَال الْمُتَقَدِّم فَيَشْهَد لِصِحَّتِهِ قَوْله تَعَالَى: {إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} . الْآيَة. إِلِى أَنْ قَالَ: وَقَدْ حَكَى الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْجُمُعَة عَلَى أَهْل الْمِصْر وَإِنْ لَمْ يَسْمَعُوا النِّدَاء. قَوْلُهُ: «أَلَا هَلْ عَسَى أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَّخِذَ الصُّبَّةَ مِنْ الْغَنَمِ» . قَالَ الشَّارِحُ: الصُّبَّة بِصَادٍ مُهْمَلَة مَضْمُومَة وَبَعْدهَا بَاءٌ مُوَحَّدَة مُشَدَّدَة. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هُنَّ مِنْ الْعِشْرِينَ إلَى الْأَرْبَعِينَ ضَأْنًا، وَقِيلَ: مَعْزًا خَاصَّة، وَقِيلَ: مَا بَيْن السِّتِّينَ إلَى السَّبْعِينَ، وَلَفْظ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «أَنْ يَتَّخِذ الضِّبْنَة» قَالَ الْعِرَاقِيُّ: بِكَسْرِ الضَّاد الْمُعْجَمَة ثُمَّ بَاءٌ مُوَحَّدَة سَاكِنَةٌ ثُمَّ نُون: هِيَ مَا تَحْت يَدك مِنْ مَال أَوْ عِيَال. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ فِيهِ الْحَث عَلَى حُضُورِ الْجُمُعَةِ وَالتَّوَعُّدُ عَلَى التَّشَاغُلِ عَنْهَا بِالْمَالِ. وَفِيهِ أَنَّهَا لَا تَسْقُط عَمَّنْ كَانَ خَارِجًا عَنْ بَلَد إقَامَتهَا وَإِنَّ طَلَبَ الْكَلَأ وَنَحْوه لَا يَكُون عُذْرَا فِي تَرْكهَا. إِلِى أَنْ قَالَ: وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَاز السَّفَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى الزَّوَالِ عَلَى خَمْسَة أَقْوَال: الْأَوَّل: الْجَوَاز، قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَهُوَ قَوْل أَكْثَر الْعُلَمَاءِ. وَالثَّانِي: الْمَنْع مِنْهُ. وَالثَّالِثُ: جَوَازه لِسَفَرِ الْجِهَاد دُون غَيْره. وَالرَّابِع: جَوَازه لِلسَّفَرِ الْوَاجِبِ دُون غَيْره. وَالْخَامِس: جَوَازه لِسَفَرِ الطَّاعَة وَاجِبًا كَانَ أَوْ مَنْدُوبًا. وَأَمَّا بَعْد الزَّوَال فَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: قَدْ ادَّعَى بَعْضُهُمْ الِاتِّفَاق عَلَى عَدَم جَوَازه وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ إلَى جَوَازه، وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ عَامَّة الْعُلَمَاء. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ انْعِقَاد الْجُمُعَة بِأَرْبَعِينَ وَإِقَامَتهَا فِي الْقُرَى 1554- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَ قَائِدَ أَبِيهِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ بَصَرُهُ عَنْ أَبِيهِ كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ إذَا سَمِعَ النِّدَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَرَحَّمَ

(1/419)


لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: إذَا سَمِعْت النِّدَاءَ تَرَحَّمْتَ لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ بِنَا فِي هَزْمِ النَّبِيتِ مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ فِي نَقِيعٍ يُقَال لَهُ: نَقِيعُ الْخَضِمَاتِ، قُلْت: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمئِذٍ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ رَجُلًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 1555- وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ فِيهِ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى بِنَا صَلَاةَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَكَّةَ. 1556- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَسْجِدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِجُوَاثَى مِنْ الْبَحْرَيْنِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد، وَقَالَ: بِجُوَاثَى: قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الْبَحْرَيْنِ. قَوْلُهُ: (كَمْ كُنْتُمْ يَوْمئِذٍ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ رَجُلًا) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِأَرْبَعِينَ رَجُلًا. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ لَا دَلَالَة فِي الْحَدِيث عَلَى اشْتِرَاط الْأَرْبَعِينَ، لِأَنَّ هَذِهِ وَاقِعَة عَيْن. وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ مَنْ دُون الْأَرْبَعِينَ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَة. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُول أَنَّ وَقَائِع الْأَعْيَان لَا يُحْتَجّ بِهَا عَلَى الْعُمُوم. وَقَوْلُهُمْ: لَمْ يَثْبُت أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الْجُمُعَة بِأَقَلّ مِنْ أَرْبَعِينَ، يَرُدّهُ حَدِيثُ جَابِرٍ الْآتِي فِي بَابِ انْفِضَاض الْعَدَد لِتَصْرِيحِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا اثْنَا عَشَر رَجُلًا. إِلِى أَنْ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَاف فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة مُنْتَشِر جِدًّا. وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي فَتْحِ الْبَارِي خَمْسَة عَشَر مَذْهَبًا. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ صَحَّتْ الْجَمَاعَة فِي سَائِر الصَّلَوَات بِاثْنَيْنِ، وَلَا فَرْق بَيْنَهَا وَبَيْن الْجَمَاعَةِ، وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ مِنْ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّ الْجُمُعَة لَا تَنْعَقِد إلَّا بِكَذَا، وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدِي. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ إنَّهُ لَا يَثْبُت فِي عَدَد الْجُمُعَة حَدِيثٌ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَتَنْعَقِدُ الْجُمُعَةِ بِثَلاثَةِ: وَاحِدٌ يَخْطُبُ وَاثْنَانُ يَسْتَمِعَانِ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدٍ وَقَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ يُقَالُ بِوُجُوبِهَا عَلَى الأَرْبَعِينَ لأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ وُجُوبهَا عَلَى مَنْ دُونِهِمْ وَتَصِحُّ مِمَّنْ دُونِهِمْ لأَنَّهُ انْتِقَالَ إِلَى أَعْلَمُ الْعَرْضَيْنِ كَالْمَرِيضِ. انْتَهَى.

(1/420)


بَابُ التَّنْظِيفِ وَالتَّجَمُّلِ لِلْجُمُعَةِ وَقَصْدِهَا بِسَكِينَةٍ وَالتَّبْكِيرِ وَالدُّنُوِّ مِنْ الْإِمَام 1557- عَنْ ابْنِ سَلَامٍ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ: «مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو دَاوُد. 1558- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَلْبَسُ مِنْ صَالِحِ ثِيَابِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ طِيبٌ مَسَّ مِنْهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1559- وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ بِمَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ ثُمَّ يَرُوحُ إلَى الْمَسْجِدِ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ لِلْإِمَامِ إذَا تَكَلَّمَ إلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَ الْجُمُعَةِ إلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 1560- وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إنْ كَانَ عِنْدَهُ، وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ، ثُمَّ خَرَجَ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَسْجِدَ فَيَرْكَعَ إنْ بَدَا لَهُ وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا، ثُمَّ أَنْصَتَ إذَا خَرَجَ إمَامُهُ حَتَّى يُصَلِّيَ كَانَتْ كَفَّارَة لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمُعَة الْأُخْرَى» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1561- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَة إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. 1562- وَعَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اُحْضُرُوا الذِّكْرَ، وَادْنُوَا مِنْ

(1/421)


الْإِمَامِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يُزَالُ يَتَبَاعَدُ حَتَّى يُؤَخَّرَ فِي الْجَنَّةِ وَإِنْ دَخَلَهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ الْأَوَّل يَدُلّ عَلَى اسْتِحْبَابِ لِبْسِ الثِّيَابِ الْحَسَنَة يَوْم الْجُمُعَة وَتَخْصِيصه بِمَلْبُوسٍ غَيْر مَلْبُوس سَائِر الْأَيَّام. وَحَدِيث أَبِي سَعِيدٍ فِيهِ مَشْرُوعِيَّة الْغُسْلِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاللُّبْسِ مِنْ صَالِحِ الثِّيَابِ وَالتَّطَيُّبِ. قَوْلُهُ: «ثُمَّ يُنْصِتُ لِلْإِمَامِ إذَا تَكَلَّمَ» . قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ حَالَ تَكَلُّمِ الْإِمَامِ لَمْ يَحْصُل لَهُ مِنْ الْأَجْر مَا فِي الْحَدِيثِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ دَلِيل عَلَى جَوَاز الْكَلَامِ قَبْلَ تَكَلُّمِ الْإِمَامِ. قَوْلُهُ: «وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَة الثَّانِيَة» . قَالَ الشَّارِحُ: قَدْ اُخْتُلِفَ فِي السَّاعَة الْمَذْكُورَة فِي الْحَدِيث مَا الْمُرَاد بِهَا، فَقِيلَ: إنَّهَا مَا يَتَبَادَر إلَى الذِّهْن مِنْ الْعُرْف فِيهَا. وَقِيلَ: الْمُرَاد بِالسَّاعَاتِ بَيَان مَرَاتِب التَّبْكِير مِنْ أَوَّل النَّهَار إلَى الزَّوَال. وَقِيلَ: خَمْس لَحَظَات لَطِيفَة: أَوَّلهَا زَوَال الشَّمْس وَآخِرهَا قُعُود الْخَطِيبِ عَلَى الْمِنْبَر. وَالْحَدِيث يَدُلّ عَلَى مَشْرُوعِيَّة الِاغْتِسَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَفَضِيلَة التَّبْكِير إلَيْهَا. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ أَفْضَل الْهَدْيِ الْإِبِل ثُمَّ الْبَقَر ثُمَّ الْغَنَم، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ أَجَازَ الْجُمُعَة فِي السَّادِسَة، وَمَنْ قَالَ إنَّهُ إذَا نَذَرَ هَدْيًا مُطْلَقًا أَجْزَأَهُ إهْدَاءُ أَيِّ مَالٍ كَانَ. بَابُ فَضْل يَوْم الْجُمُعَة وَذِكْر سَاعَة الْإِجَابَة وَفَضْل الصَّلَاة عَلَى رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ 1563- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَم عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

(1/422)


1564- وَعَنْ أَبِي لُبَابَةَ الْبَدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «سَيِّدُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَأَعْظَمُهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَأَعْظَمُ عِنْدَ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ الْأَضْحَى، وَفِيهِ خَمْسُ خِلَالٍ: خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلام وَأَهْبَطَ اللَّهُ فِيهِ آدَمَ إلَى الْأَرْضِ، وَفِيهِ تَوَفَّى اللَّهُ آدَمَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَسْأَلُ الْعَبْدُ فِيهَا شَيْئًا إلَّا آتَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ مَا لَمْ يَسْأَلْ حَرَامًا، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، مَا مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ وَلَا رِيَاحٍ وَلَا جِبَالٍ وَلَا بَحْرٍ إلَّا هُنَّ يُشْفِقْنَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 1565- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ» . وَقَالَ بِيَدِهِ قُلْنَا يُقَلِّلُهَا يَعْنِي يُزَهِّدُهَا. رَوَاهُ الْجَمَاعَة، إلَّا أَنَّ التِّرْمِذِيَّ وَأَبَا دَاوُد لَمْ يَذْكُرَا الْقِيَامَ وَلَا يُقَلِّلُهَا. 1566- وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ فِي سَاعَةِ الْجُمُعَةِ: «هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ، يَعْنِي عَلَى الْمِنْبَر إلَى أَنْ يَقْضِيَ الصَّلَاةَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 1567- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةً لَا يَسْأَلُ اللَّهَ الْعَبْدُ فِيهَا شَيْئًا إلَّا آتَاهُ إيَّاهُ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَّةُ سَاعَةٍ هِيَ؟ قَالَ: «حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ إلَى الِانْصِرَافِ مِنْهَا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ. 1568- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: قُلْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ: إنَّا لَنَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا شَيْئًا إلَّا قَضَى لَهُ حَاجَتَهُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَأَشَارَ إلَيَّ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ بَعْضُ سَاعَةٍ، فَقُلْتُ: صَدَقْتَ أَوْ بَعْضُ سَاعَةٍ، قُلْتُ: أَيُّ سَاعَةٍ هِيَ؟ قَالَ: «آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَار» . قُلْتُ: إنَّهَا لَيْسَتْ سَاعَةَ صَلَاةٍ؟ قَالَ: «بَلَى إنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إذَا صَلَّى ثُمَّ جَلَسَ لَا يُجْلِسُهُ إلا الصَّلَاةُ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. 1569- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ فِي الْجُمُعَةِ

(1/423)


سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا خَيْرًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ، وَهِيَ بَعْدَ الْعَصْرِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1570- وَعَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَوْمُ الْجُمُعَةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً، مِنْهَا سَاعَةٌ لَا يُوجَدُ عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا آتَاهُ إيَّاها، وَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْر» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد. وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اجْتَمَعُوا فَتَذَاكَرُوا السَّاعَةَ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَتَفَرَّقُوا وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهَا آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ. رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنه. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: أَكْثَر الْأَحَادِيثِ فِي السَّاعَة الَّتِي يُرْجَى فِيهَا إجَابَةُ الدُّعَاءِ أَنَّهَا بَعْد صَلَاة الْعَصْر، وَيُرْجَى بَعَدَ زَوَال الشَّمْس. 1571- وَعَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ: فِيهِ خُلِقَ آدَم، وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْف تُعْرَضُ عَلَيْك صَلَاتُنَا وَقَدْ أَرِمْتَ؟ يَعْنِي وَقَدْ بَلِيتَ، فَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَة إلَّا التِّرْمِذِيَّ. 1572- وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَكْثِرُوا الصَّلَاةَ عَلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَة، فَإِنَّهُ مَشْهُودٌ تَشْهَدُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَإِنَّ أَحَدًا لَنْ يُصَلِّي عَلَيَّ إلَّا عُرِضَتْ عَلَيَّ صَلَاتُهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. 1573- وَعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَكْثِرُوا الصَّلَاةَ عَلَيَّ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ، فَإِنَّ صَلَاةَ أُمَّتِي تُعْرَضُ عَلَيَّ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنه. 1574- وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةُ الْجُمُعَةِ فَأَكْثِرُوا الصَّلَاةَ عَلَيَّ» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَده. وَهَذَا وَاَلَّذِي قَبْله مُرْسَلَانِ.

(1/424)


قَوْلُهُ: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ الْعِرَاقِيُّ: الْمُرَاد بِتَفْضِيلِ الْجُمُعَة بِالنِّسْبَةِ إلَى أَيَّام الْجُمُعَة، وَتَفْضِيل يَوْم عَرَفَةَ أَوْ يَوْم النَّحْر بِالنِّسْبَةِ إلَى أَيَّام السَّنَة. قَوْلُهُ: «وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَسْأَلُ الْعَبْدُ فِيهَا شَيْئًا إلَّا آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إيَّاهُ مَا لَمْ يَسْأَلْ حَرَامًا» . قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ فِي تَعْيِين هَذِهِ السَّاعَة. قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: أَصَحّ الْأَحَادِيثِ فِي تَعْيِينِهَا حَدِيث أَبِي مُوسَى. قَالَ الشَّارِحُ: وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى تَرْجِيحِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَلَكِنَّهُ يُشْكِل عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَهوَ قَائِم يُصّلِّي. وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ الْقَاضِي عِيَاض بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَاد الْقِيَام الْحَقِيقِيّ، وَإِنَّمَا الْمُرَاد بِهِ الِاهْتِمَام بِالْأَمْرِ، كَقَوْلِهِمْ: فُلَان قَامَ فِي الْأَمْر الْفُلَانِيّ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} . قَالَ الشَّارِحُ: وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَة فِي كَوْنهَا بَعَدَ الْعَصْر أَرْجَح لِكَثْرَتِهَا وَاتِّصَالهَا بِالسَّمَاعِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِف فِي رَفْعهَا وَالِاعْتِضَاد بِكَوْنِهِ قَوْل أَكْثَر الصَّحَابَةِ، فَفِيهَا أَرْبَعَة مُرَجِّحَات. وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى مُرَجِّحٌ وَاحِد وَهُوَ كَوْنه فِي أَحَد الصَّحِيحَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: فَائِدَة الْإِبْهَام لِهَذِهِ السَّاعَة وَلِلَيْلَةِ الْقَدْر بَعْثَ الدَّوَاعِي عَلَى الْإِكْثَار مِنْ الصَّلَاة وَالدُّعَاءِ. قَوْلُهُ: (وَقَدْ أَرِمْتَ) . قَالَ الشَّارِحُ: ِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَة وَرَاءٍ مَكْسُورَة وَمِيم سَاكِنَة بَعْدهَا تَاءُ الْمُخَاطَبِ الْمَفْتُوحَة. وَالْأَحَادِيثُ فِيهَا مَشْرُوعِيَّة الْإِكْثَارِ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَنَّهَا تُعْرَضُ عَلَيْهِ. بَابُ الرَّجُل أَحَقّ بِمَجْلِسِهِ وَآدَابُ الْجُلُوس النَّهْي عَنْ التَّخَطِّي إلَّا لِحَاجَةٍ. 1575- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يُقِيمُ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ يُخَالِفُهُ إلَى مَقْعَدِهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ افْسَحُوا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 1576- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ نَهَى: أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا» . مُتَّفَق عَلَيْهِ. وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا قَامَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ مَجْلِسِهِ لَمْ يَجْلِسْ فِيهِ.

(1/425)


1577- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 1578- وَعَنْ وَهْبِ بْنِ حُذَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: الرَّجُلُ أَحَقُّ بِمَجْلِسِهِ، وَإِنْ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ ثُمَّ عَادَ فَهُوَ أَحَقُّ بِمَجْلِسِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1579- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي مَجْلِسِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلْيَتَحَوَّلْ إلَى غَيْرِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1580- وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْحِبْوَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حَسَن) . 1581- وَعَنْ يَعْلَى بْنِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ مُعَاوِيَةَ فَتْحَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَجَمَعَ بِنَا، فَإِذَا جُلُّ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَرَأَيْتُهُمْ مُحْتَبِينَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 1582- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ، وَزَادَ: «وَآنَيْتَ» . 1583- وَعَنْ أَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ الْمَخْزُومِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ... «الَّذِي يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاس يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ، كَالْجَارِّ قُصْبَهُ فِي النَّار» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1584- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ، ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إلَى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ، فَرَأَى أَنَّهُمْ قَدْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ، قَالَ: ... «ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ كَانَ عِنْدنَا، فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يُقِيمُ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

(1/426)


وَذَكَر يَوْم الْجُمُعَة فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مِنْ بَاب التَّنْصِيص عَلَى بَعْض أَفْرَاد الْعَامّ لَا مِنْ بَابِ التَّقْيِيد لِلْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَة، وَلَا مِنْ بَابِ التَّخْصِيص لِلْعُمُومَاتِ، فَمَنْ سَبَقَ إلَى مَوْضِع مُبَاح سَوَاءٌ كَانَ مَسْجِدًا أَوْ غَيْره فِي يَوْم جُمُعَة أَوْ غَيْرهَا لِصَلَاةٍ أَوْ لِغَيْرِهَا مِنْ الطَّاعَات فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَيَحْرُم عَلَى غَيْره إقَامَته مِنْهُ وَالْقُعُود فِيهِ، إلَّا أَنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ: الْمَوْضِع الَّذِي قَدْ سَبَقَ لِغَيْرِهِ فِيهِ حَقّ، كَأَنْ يَقْعُدَ رَجُلٌ فِي مَوْضِعٍ ثُمَّ يَقُومُ مِنْهُ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ مِنْ الْحَاجَاتِ ثُمَّ يَعُودُ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ أَحَقّ بِهِ مِمَّنْ قَعَدَ فِيهِ بَعَدَ قِيَامه، قَالَ: وَظَاهِر حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ يَجُوز لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْعُد فِي مَكَان غَيْره إذَا أَقْعَدَهُ بِرِضَاهُ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي مَجْلِسِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلْيَتَحَوَّلْ إلَى غَيْرِهِ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحِكْمَة فِي الْأَمْر بِالتَّحَوُّلِ: أَنَّ الْحَرَكَة تُذْهِبُ النُّعَاس. وَيُحْتَمَل أَنَّ الْحِكْمَة فِيهِ انْتِقَاله مِنْ الْمَكَان الَّذِي أَصَابَتْهُ فِيهِ الْغَفْلَة بِنَوْمِهِ. قَوْلُهُ: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْحِبْوَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ) . قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ الِاحْتِبَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْت لِأَنَّهُ يَجْلِبُ النَّوْم وَيُعَرِّض طَهَارَته لِلِانْتِقَاضِ. قَوْلُهُ: (وَآنَيْت) قَالَ الشَّارِحُ: بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَة: أَيْ أَبْطَأْت وَتَأَخَّرْت. قَالَ: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلّ عَلَى كَرَاهَة التَّخَطِّي يَوْمَ الْجُمُعَة، وَظَاهِر التَّقْيِيد بِيَوْمِ الْجُمُعَة أَنَّ الْكَرَاهَة مُخْتَصَّة بِهِ. وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون التَّقْيِيد خَرَجَ مَخْرَج الْغَالِبِ لِاخْتِصَاصِ الْجُمُعَة بِكَثْرَةِ النَّاس، بِخِلَافِ سَائِر الصَّلَوَات فَلَا يَخْتَصّ ذَلِكَ بِالْجُمُعَةِ، بَلْ يَكُون حُكْم سَائِر الصَّلَوَات حُكْمهَا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ التَّعْلِيل بِالْأَذِيَّةِ، وَظَاهِر هَذَا التَّعْلِيل أَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي فِي مَجَالِس الْعِلْم وَغَيْرهَا. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَقَدْ اُسْتُثْنِيَ مِنْ التَّحْرِيم أَوْ الْكَرَاهَة الْإِمَام أَوْ مَنْ كَانَ بَيْن يَدَيْهِ فُرْجَة لَا يَصِل إلَيْهَا إلَّا بِالتَّخَطِّي. بَابُ التَّنَفُّل قَبْل الْجُمُعَة مَا لَمْ يَخْرُجْ الْإِمَام وَأَنَّ انْقِطَاعه بِخُرُوجِهِ إلَّا تَحِيَّة الْمَسْجِد 1585- عَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ الْمُسْلِمَ إذَا اغْتَسَلَ

(1/427)


يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ أَقْبَلَ إلَى الْمَسْجِدِ لَا يُؤْذِي أَحَدًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْإِمَامَ خَرَجَ صَلَّى مَا بَدَا لَهُ، وَإِنْ وَجَدَ الْإِمَامَ قَدْ خَرَجَ جَلَسَ فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ حَتَّى يَقْضِيَ الْإِمَامُ جُمُعَتَهُ وَكَلَامَهُ، إنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ فِي جُمُعَتِهِ تِلْكَ ذُنُوبُهُ كُلُّهَا أَنْ تَكُونَ كَفَّارَةً لِلْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1586- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يُطِيلُ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ وَيُصَلِّي بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَيُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 1587- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ ثُمَّ أَنْصَتَ حَتَّى يَفْرُغَ الْإِمَامُ مِنْ خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى وَفَضْلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 1588- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ... وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ. رَوَاهُ الْخَمْسَة إلَّا أَبَا دَاوُد. 1589- وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَفْظه: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي هَيْئَةٍ بَذَّةٍ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ، فَأَمَرَهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ. قُلْتُ: وَهَذَا يُصَرِّحُ بِضَعْفِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ أَمْسَكَ عَنْ خُطْبَتِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ. 1590- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ فَقَالَ: «صَلَّيْت» ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: «فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَة. 1591- وَفِي رِوَايَة: «إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَة وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 1592- وَفِي رِوَايَة: «إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَدْ خَرَجَ الْإِمَامُ فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ» . مُتَّفَق عَلَيْهِ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الْمُسْلِمَ إذَا اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ أَقْبَلَ إلَى الْمَسْجِدِ لَا يُؤْذِي أَحَدًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْإِمَامَ خَرَجَ صَلَّى مَا بَدَا لَهُ» . الحديث. قَالَ الشَّارِحُ

(1/428)


رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّة الصَّلَاةِ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَالْكَفِّ عَنْهَا بَعْدَ خُرُوجِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ لِلْجُمُعَةِ سُنَّةٌ قَبْلَهَا أَوْ لَا؟ فَأَنْكَرَ جَمَاعَة أَنَّ لَهَا سُنَّة قَبْلهَا وَبَالَغُوا فِي ذَلِكَ، قَالُوا: لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّن لِلْجُمُعَةِ إلَّا بَيْن يَدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّيهَا، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ، لِأَنَّهُ إذَا خَرَجَ الْإِمَام انْقَطَعَتْ الصَّلَاة. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وصَلاة الرَّكعَتيْنِ قبل الْجُمُعَةِ حسنة مَشْرُوعَة ولا يدَاوم عَلَيْهَا إلا لمصْلَحَةٍ. انْتَهَى. وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِحَدِيثِ الْبَاب عَلَى تَرْك التَّحِيَّة بَعَدَ خُرُوج الْإِمَام فَقَالَ: وَفِيهِ حُجَّة بِتَرْكِ التَّحِيَّة كَغَيْرِهَا. قَوْلُهُ: (وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يُطِيلُ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ) الحديث. وَقَوْلُهُ: «مَنْ اغْتَسَلَ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى مَشْرُوعِيَّة الصَّلَاةِ قَبْلَ الْجُمُعَةِ، وَلَمْ يَتَمَسَّك الْمَانِع مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِحَدِيثِ النَّهْي عَنْ الصَّلَاة وَقْت الزَّوَال، وَهُوَ مَعَ كَوْن عُمُومه مُخَصَّصًا بِيَوْمِ الْجُمُعَة لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلّ عَلَى الْمَنْع مِنْ الصَّلَاة قَبْلَ الْجُمُعَة عَلَى الْإِطْلَاق، وَغَايَة مَا فِيهِ الْمَنْع فِي وَقْت الزَّوَال وَهُوَ غَيْر مَحِلّ النِّزَاع. وَالْحَاصِل أَنَّ الصَّلَاة قَبْلَ الْجُمُعَة مُرَغَّبٌ فِيهَا عُمُومًا وَخُصُوصًا، فَالدَّلِيل عَلَى مُدَّعِي الْكَرَاهَة عَلَى الْإِطْلَاق. قَوْلُهُ: (فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ) فِيهِ أَنَّ الصَّلَاة قَبْلَ الْجُمُعَة لَا حَدّ لَهَا. إِلِى أَنْ قَالَ: وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّة تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ حَالَ الْخُطْبَةِ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَة وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا» . قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ مَشْرُوعِيَّة التَّخْفِيفِ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ لِيَتَفَرَّغَ لِسَمَاعِ الْخُطْبَةِ. قَوْلُهُ: «فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ» . فِيهِ أَنَّ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ حَالَ الْخُطْبَةِ يَقْتَصِرُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَفْهُومُهُ يَمْنَعُ مِنْ تَجَاوُزِ الرَّكْعَتَيْنِ بِمُجَرَّدِ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ.

(1/429)


1593- وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ قَالَ: جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ، فَقَالَ لَهُ: «أَصَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ» ؟ قَالَ لَا، قَالَ: «فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَرِجَالُ إسْنَادِهِ ثِقَاتٌ. وَقَوْلُهُ: «قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ سُنَّةٌ لِلْجُمُعَةِ قَبْلهَا وَلَيْسَتَا تَحِيَّةً لِلْمَسْجِدِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ ذَهَبَ إلَى مِثْل مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ الْأَوْزَاعِيُّ فَقَالَ: إنْ كَانَ صَلَّى فِي الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ فَلَا يُصَلِّيَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صَلَاةِ التَّحِيَّةِ لَا يُجِيزُ التَّنَفُّلَ حَالَ الْخُطْبَةِ مُطْلَقًا. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ: أَيْ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ. وَفَائِدَةُ الِاسْتِفْهَامِ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ صَلَّاهَا فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ تَقَدَّمَ لِيَقْرُبَ مِنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «أَصَلَّيْتَ الرَّكْعَتَيْنِ» بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَهُوَ لِلْعَهْدِ، وَلَا عَهْدَ هُنَاكَ أَقْرَبَ مِنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ. انْتَهَى. بَابُ مَا جَاءَ فِي التَّجْمِيعِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ 1594- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 1595- وَعَنْهُ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْجُمُعَةَ ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى الْقَائِلَةِ فَنَقِيلُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 1596- وَعَنْهُ أيضًا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلَاةِ، وَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ، يَعْنِي الْجُمُعَةَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هَكَذَا. 1597- وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ. أَخْرَجَاهُ. 1598- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: مَا كُنَّا نَقِيلُ وَلَا نَتَغَدَّى إلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.

(1/430)


1599- وَزَادَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ: فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. 1600- وَعَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ثُمَّ نَذْهَبُ إلَى جِمَالِنَا فَنُرِيحُهَا حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ، يَعْنِي النَّوَاضِحَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِيلَانَ السُّلَمِيُّ قَالَ: شَهِدْتُ الْجُمُعَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَكَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلَاتُهُ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ، ثُمَّ شَهِدْتُهَا مَعَ عُمَرَ فَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَخُطْبَتُهُ إلَى أَنْ أَقُولَ: انْتَصَفَ النَّهَارُ، ثُمَّ شَهِدْتُهَا مَعَ عُثْمَانَ فَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَخُطْبَتُهُ إلَى أَنْ أَقُولَ زَالَ النَّهَارُ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا عَابَ ذَلِكَ وَلَا أَنْكَرَهُ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَة ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَاحْتَجَّ بِهِ وَقَالَ: وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ وَسَعِيدٍ وَمُعَاوِيَةَ: أَنَّهُمْ صَلَّوْهَا قَبْلَ الزَّوَالِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَثَرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سِيلانَ السُّلَمِيُّ فِيهِ مَقَالٌ، لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ: لَا يُتَابَع عَلَى حَدِيثِهِ. وَحَكَى فِي الْمِيزَانِ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ مَجْهُولٌ لَا حُجَّةَ فِيهِ. قَوْلُهُ: (حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ) فِيهِ إشْعَارٌ بِمُوَاظَبَتِهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ. قَوْلُهُ: (كُنَّا نُصَلِّي الْجُمُعَة مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى الْقَائِلَةِ فَنَقِيلُ) وَفِي لَفْظ لِلْبُخَارِيِّ: (كُنَّا نُبَكِّرُ بِالْجُمُعَةِ وَنَقِيلُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ) . وَفِي لَفْظٍ لَهُ أَيْضًا: (كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْجُمُعَةَ ثُمَّ تَكُونُ الْقَائِلَةُ) . وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ بَاكِرَ النَّهَارِ. قَالَ الْحَافِظُ: لَكِنَّ طَرِيقَ الْجَمْعِ أَوْلَى مِنْ دَعْوَى التَّعَارُضِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ التَّبْكِيرَ يُطْلَقُ عَلَى فِعْلِ الشَّيْءِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهِ أَوْ تَقْدِيمِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا يَبْدَءُونَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْقَيْلُولَةِ، بِخِلَافِ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الْحَرِّ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقِيلُونَ ثُمَّ يُصَلُّونَ لِمَشْرُوعِيَّة الْإِبْرَادِ. انْتَهَى.

(1/431)


قَوْلُهُ: (إذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلَاةِ) أَيْ صَلَّاهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا. قَوْلُهُ: (وَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ، يَعْنِي الْجُمُعَةَ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: (يَعْنِي الْجُمُعَةَ) مِنْ كَلَامِ التَّابِعِيِّ أَوْ مَنْ دُونِهِ، أَخَذَهُ قَائِلُهُ مِمَّا فَهِمَهُ مِنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالظُّهْرِ عِنْدَ أَنَسٍ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ عَنْ أَنَسٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى وَلَيْسَ فِيهِ قَوْلُهُ: «يَعْنِي الْجُمُعَةَ. قَوْلُهُ: (كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ) . قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيْءٌ يَسِيرٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِشِدَّةِ التَّبْكِيرِ وَقَصْرِ حِيطَانِهِمْ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: ثُمَّ نَنْصَرِفُ وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ نَسْتَظِلُّ بِهِ. وَالْمُرَادُ نَفْيَ الظِّلِّ الَّذِي يُسْتَظَلُّ بِهِ، لَا نَفْيَ أَصْلِ الظِّلِّ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: (ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ) . فَلَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ قَبْلَ الزَّوَالِ. قَوْلُهُ: (مَا كُنَّا نَقِيلُ وَلَا نَتَغَدَّى إلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ) قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ بِجَوَازِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَصِحُّ فِيهِ قَبْلَ الزَّوَالِ، هَلْ هُوَ السَّاعَةُ السَّادِسَةُ أَوْ الْخَامِسَةُ أَوْ وَقْتِ دُخُولِ وَقْتِ صَلَاةِ الْعِيدِ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ الْغَدَاءَ وَالْقَيْلُولَةَ مَحَلُّهُمَا قَبْلَ الزَّوَالِ. وَحَكَوْا عَنْ ابْنِ قُتَيْبَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُسَمَّى غَدَاءً وَلَا قَائِلَةً بَعْدَ الزَّوَالِ، وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ وَيَجْلِسُ بَيْنَهُمَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُذَكِّرُ النَّاسَ، وَكَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ. وَلَوْ كَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلَاتُهُ بَعْدَ الزَّوَالِ لَمَا انْصَرَفَ مِنْهَا إلَّا وَقَدْ صَارَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ يُسْتَظَلُّ بِهِ وَقَدْ خَرَجَ وَقْتَ الْغَدَاءِ وَالْقَائِلَةِ. وَأَصْرَحُ مِنْ هَذَا حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ، فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ثُمَّ يَذْهَبُونَ إلَى جِمَالِهِمْ فَيُرِيحُونَهَا عِنْدَ الزَّوَالِ، وَلَا مُلْجِئَ إلَى التَّأْوِيلَاتِ الْمُتَعَسِّفَةِ الَّتِي ارْتَكَبَهَا الْجُمْهُورُ، وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِالْأَحَادِيثِ الْقَاضِيَةِ بِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الْجُمُعَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا يَنْفِي الْجَوَازَ قَبْلَهُ. انْتَهَى. قَالَ الْمُوفق فِي المغني: الْمُسْتَحَبُّ إِقَامَة الْجُمُعَة بَعْد الزَّوَالِ لأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. قَالَ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ

(1/432)


الْفَيْءَ. مُتَّفَقٌ عليهِ. وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ. أخرجه الْبُخَارِيُّ. وَلأنَّ فِي ذَلِكَ خُرُوجًا مِنَ الْخِلاف فَإِنَّ عُلَمَاءَ الأمةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ وَقت للجمعةِ، وَإِنَّمَا الْخِلافُ فِيمَا قَبْلَهُ. وَلا فَرْق فِي اسْتِحْبَابِ إِقَامَتهَا عُقَيْب الزَّوَالِ بَيْنَ شِدَّةِ الْحَرِّ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَإِنَّ الْجُمْعَة يَجْتَمِعُ لَهَا النَّاس فَلَوْ انتَظَرُوا الإِبْرَاد شَقّ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعلهَا إِذَا زَالَتْ الشَّمْس فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ عَلَى مِيقَاتٍ وَاحِدٍ. انْتَهَى. بَابُ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ إذَا رَقَى الْمِنْبَرَ وَالتَّأْذِين إذَا جَلَسَ عَلَيْهِ وَاسْتِقْبَالِ الْمَأْمُومِينَ لَهُ 1601- عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ سَلَّمَ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَفِي إسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ. 1602- وَهُوَ لِلْأَثْرَمِ فِي سُنَنِهِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُرْسَلاً. 1603- وَعَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلُهُ إذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ وَكَثُرَ النَّاسُ زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُؤَذِّنٌ غَيْرَ وَاحِدٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 1604- وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمْ: فَلَمَّا كَانَتْ خِلَافَةُ عُثْمَانَ وَكَثُرُوا، أَمَرَ عُثْمَانُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْأَذَانِ الثَّالِثِ فَأُذِّنَ بِهِ عَلَى الزَّوْرَاءِ، فَثَبَتَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ. 1605- وَلِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ: كَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ إذَا جَلَسَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ، وَيُقِيمُ إذَا نَزَلَ. 1606- وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ اسْتَقْبَلَهُ أَصْحَابُهُ بِوُجُوهِهِمْ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّة التَّسْلِيمِ مِنْ الْخَطِيبِ عَلَى النَّاسِ بَعْدَ أَنْ يَرْقَى الْمِنْبَرَ وَقَبْلَ أَنْ يُؤَذِّنَ الْمُؤَذِّنُ. وَقَالَ فِي الِانْتِصَارِ بَعْد فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ.

(1/433)


قَوْلُهُ: (زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ) فِي رِوَايَةٍ: (فَأَمَرَ عُثْمَانُ بِالنِّدَاءِ الْأَوَّلِ) وَفِي رِوَايَةٍ: (التَّأْذِينُ الثَّانِي أَمَرَ بِهِ عُثْمَانُ) وَلَا مُنَافَاةَ لِأَنَّهُ سُمِّيَ ثَالِثً بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَزِيدًا، وَأَوَّلًا بِاعْتِبَارِ كَوْنِ فِعْلِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَثَانِيًا بِاعْتِبَارِ الْأَذَانِ الْحَقِيقِيّ لَا الْإِقَامَةَ. قَوْلُهُ: (عَلَى الزَّوْرَاءِ) . قَالَ الْبُخَارِيُّ: هِيَ مَوْضِعٌ بِسُوقِ الْمَدِينَةِ. قَوْلُهُ: (كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ اسْتَقْبَلَهُ أَصْحَابُهُ بِوُجُوهِهِمْ) . قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ مَشْرُوعِيَّة اسْتِقْبَالِ النَّاسِ لِلْخَطِيبِ حَالَ الْخُطْبَةِ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَنْ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ دُونَ مَنْ بَعْد فَلَمْ يَسْمَعْ، فَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ أَوْلَى بِهِ مِنْ تَوَجُّهِهِ لِجِهَةِ الْخُطْبَةِ. بَابُ اشْتِمَالِ الْخُطْبَةِ عَلَى حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالْمَوْعِظَةِ وَالْقِرَاءَةِ 1607- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كُلُّ كَلَامٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأَحْمَدُ بِمَعْنَاهُ. 1608- وَفِي رِوَايَةٍ: «الْخُطْبَةُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَهَادَةٌ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: «تَشَهُّدٌ» بَدَل «شَهَادَةٌ» . 1609- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا تَشَهَّدَ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا بَيْن يَدَيْ السَّاعَةِ، مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إلَّا نَفْسَهُ، وَلَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا» . 1610- وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَشَهُّدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَقَالَ: وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى. رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. 1611- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ قَائِمًا وَيَجْلِسُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ وَيَقْرَأُ آيَاتٍ وَيُذَكِّرُ النَّاسَ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ.

(1/434)


1612- وَعَنْهُ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهُ كَانَ لَا يُطِيلُ الْمَوْعِظَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إنَّمَا هِيَ كَلِمَاتٌ يَسِيرَاتٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 1613- وَعَنْ أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَتْ: مَا أَخَذْتُ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلَّا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَؤُهَا كُلَّ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إذَا خَطَبَ النَّاسَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ كَلَامٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ» . قَالَ الشَّارِحُ: شَبَّهَ الْكَلَامَ الَّذِي لَا يُبْتَدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِنْسَانٍ مَجْذُومٍ تَنْفِيرًا مَنْهُ وَإِرْشَادًا إلَى اسْتِفْتَاحِ الْكَلَامِ بِالْحَمْدِ. قَوْلُهُ: (لَيْسَ فِيهَا شَهَادَةٌ) أَيْ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَه إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا ... رَسُولُ اللَّهِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِالْحَدِيثِ عَلَى مَشْرُوعِيَّة الْحَمْدِ لِلَّهِ فِي الْخُطْبَةِ، لِأَنَّهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى دَاخِلَةٌ تَحْتِ عُمُومِ الْكَلَامِ. قَوْلُهُ: (وَمَنْ يَعْصِهِمَا) فِيهِ جَوَازُ التَّشْرِيكِ بَيْنَ ضَمِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - بِلَفْظِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا. وَمَا ثَبَتَ أَيْضًا: أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي يَوْمَ خَيْبَرَ: أنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ. وَأَمَّا مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: (أَنَّ خَطِيبًا خَطَبَ عِنْدَ ... النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ، قُلْ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى» . فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ مِنْ أَنَّ سَبَبَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ أَنَّ الْخُطْبَةَ شَأْنُهَا الْبَسْطُ وَالْإِيضَاحُ وَاجْتِنَابُ الْإِشَارَاتِ وَالرُّمُوزِ. قَالَ: وَلِهَذَا ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا لِتُفْهَمَ عَنْهُ. قَالَ: وَإِنَّمَا ثَنَّى الضَّمِيرَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ، «أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا» . لِأَنَّهُ لَيْسَ خُطْبَةُ وَعْظٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَعْلِيمُ حُكْمٍ، فَكُلُّ مَا قَلَّ لَفْظُهُ كَانَ أَقْرَبُ إلَى حِفْظِهِ، بِخِلَافِ خُطْبَةِ الْوَعْظِ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ حِفْظَهَا وَإِنَّمَا يُرَادُ الِاتِّعَاظُ بِهَا، وَلَكِنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الْجَمْعُ بَيْن الضَّمِيرَيْنِ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَهُوَ وَارِدٌ فِي الْخُطْبَةِ لَا فِي تَعْلِيمِ الْأَحْكَامِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ

(1/435)


الْعُلَمَاءِ: إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّمَا أَنْكَرَ عَلَى الْخَطِيبِ تَشْرِيكَهُ فِي الضَّمِيرِ الْمُقْتَضِي لِلتَّسْوِيَةِ وَأَمَرَهُ بِالْعَطْفِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى بِتَقْدِيمِ اسْمِهِ كَمَا قَالَ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ» . وَيَرُدُّ عَلَى هَذَا مَا قَدَّمْنَا مِنْ جَمْعِهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْن ضَمِيرِ اللَّهِ وَضَمِيرِهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّمَا أَنْكَرَ عَلَى ذَلِكَ الْخَطِيبِ التَّشْرِيكَ لِأَنَّهُ فَهِمَ مِنْهُ اعْتِقَادَ التَّسْوِيَةِ فَنَبَّهَهُ عَلَى خِلَافِ مُعْتَقَدِهِ، وَأَمَرَهُ بِتَقْدِيمِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى اسْمِ رَسُولِهِ لِيَعْلَمَ بِذَلِكَ فَسَادَ مَا اعْتَقَدَهُ. قَوْلُهُ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ قَائِمًا وَيَجْلِسُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ) . قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ أَنَّ الْقِيَامَ حَالَ الْخُطْبَةِ مَشْرُوعٌ، وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّة الْجُلُوسِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ. وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّة الْقِرَاءَةِ وَالْوَعْظِ فِي الْخُطْبَةِ. قَوْلُهَا: (مَا أَخَذْتُ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلَّا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَؤُهَا كُلَّ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إذَا خَطَبَ النَّاسَ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَفِي الْبَابِ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ قَالَ: (سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} . إِلِى أَنْ قَالَ: وَالظَّاهِرُ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ لَا يُلَازِمُ قِرَاءَةَ سُورَةٍ أَوْ آيَةٍ مَخْصُوصَةٍ فِي الْخُطْبَةِ، بَلْ كَانَ يَقْرَأُ مَرَّةً هَذِهِ السُّورَة وَمَرَّةً هَذِهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ هَيْئَات الْخُطْبَتَيْنِ وَآدَابِهِمَا 1614- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمًا، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ كَمَا يَفْعَلُونَ الْيَوْمَ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 1615- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا، فَمَنْ نَبَّأَكَ أنََّّهُ يَخْطُبُ جَالِسًا فَقَدْ كَذَبَ، فَقَدْ وَاَللَّهِ صَلَّيْتُ مَعَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ صَلَاةٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 1616- وَعَنْ الْحَكَمِ بْنِ حَزْنٍ الْكُلَفِيِّ قَالَ: قَدِمْتُ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ... سَابِعَ سَبْعَةٍ أَوْ تَاسِعَ تِسْعَةٍ، فَلَبِثْنَا عِنْدَهُ أَيَّامًا شَهِدْنَا فِيهَا الْجُمُعَةَ، فَقَامَ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَوَكِّئًا عَلَى قَوْسٍ، أَوْ قَالَ عَلَى عَصَا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ

(1/436)


كَلِمَاتٍ خَفِيفَاتٍ طَيِّبَاتٍ مُبَارَكَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ لَنْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تُطِيقُوا كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ وَلَكِنْ سَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 1617- وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. وَالْمَئِنَّةُ: الْعَلَامَةُ وَالْمَظِنَّةُ. 1618- وَعَنْ جَابِرٍ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَصْدًا، وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَأَبَا دَاوُد. 1619- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُطِيلُ الصَّلَاةَ، وَيَقْصُرُ الْخُطْبَةَ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 1620- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلَا صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ. 1621- وَعَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: كُنْتُ إلَى جَنْبِ عُمَارَةَ بْنِ رُوَيْبَةَ، وَبِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ يَخْطُبُنَا، فَلَمَّا دَعَا رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ عُمَارَةُ: يَعْنِي قَبَّحَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ إذَا دَعَا يَقُولُ هَكَذَا، فَرَفَعَ السَّبَّابَةَ وَحْدَهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ بِمَعْنَاهُ وَصَحَّحَهُ. 1622- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَاهِرًا يَدَيْهِ قَطُّ يَدْعُو عَلَى مِنْبَرٍ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ، وَمَا كَانَ يَدْعُو إلَّا يَضَعُ يَدَهُ حَذْوَ مَنْكِبِهِ وَيُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إشَارَةً. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1623- وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ فِيهِ: لَكِنْ رَأَيْتُهُ يَقُولُ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَعَقَدَ الْوُسْطَى بِالْإِبْهَامِ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمًا) فِيهِ أَنَّ الْقِيَامَ حَالَ الْخُطْبَةِ مَشْرُوعٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَار. قَالَ الشَّارِحُ: وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى الْوُجُوبِ.

(1/437)


قَوْلُهُ: (فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَوَكِّئًا عَلَى قَوْسٍ، أَوْ قَالَ عَلَى عَصَا) . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ فِيهِ مَشْرُوعِيَّة الِاعْتِمَادِ عَلَى سَيْفٍ أَوْ عَصًا حَالَ الْخُطْبَةِ. قِيلَ: وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ الِاشْتِغَالَ عَنْ الْعَبَثِ، وَقِيلَ: إنَّهُ أَرْبَطُ لِلْجَأْشِ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَإِنَّمَا كَانَ إقْصَارُ الْخُطْبَةِ عَلَامَةً مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ، لِأَنَّ الْفَقِيهَ هُوَ الْمُطَّلِعُ عَلَى جَوَامِعِ الْأَلْفَاظِ، فَيَتَمَكَّنُ بِذَلِكَ مِنْ التَّعْبِيرِ بِاللَّفْظِ الْمُخْتَصَرِ عَنْ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ. قَوْلُهُ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ) . الْحَدِيثُ. قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْخَطِيبِ أَنْ يُفَخِّمَ أَمْرَ الْخُطْبَةِ وَيَرْفَعَ صَوْتَهُ وَيُجْزِلَ كَلَامَهُ وَيُظْهِرَ غَايَةَ الْغَضَبِ وَالْفَزَعِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْأَوْصَافِ إنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ اشْتِدَادِهَا قَوْلُهُ: (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ إذَا دَعَا يَقُولُ هَكَذَا (رَفَعَ السَّبَّابَةَ وَحْدَهَا) . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي الْبَابِ يَدُلَّانِ عَلَى كَرَاهَةِ رَفْعِ الْأَيْدِي عَلَى الْمِنْبَرِ حَالَ الدُّعَاءِ وَأَنَّهُ بِدْعَةٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إلَّا فِي الِاسْتِسْقَاءِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إبْطَيْهِ. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ فِي غَيْرِ الِاسْتِسْقَاءِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ رَفْعُ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ فِي مَوَاطِنَ وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى. قَالَ: وَقَدْ جَمَعْتُ مِنْهَا نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ حَدِيثًا مِنْ الصَّحِيحَيْنِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَظَاهِرُ حَدِيثَيْ الْبَابِ أَنَّهَا تَجُوزُ الْإِشَارَةُ بِالْأُصْبُعِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ. بَابُ الْمَنْعِ مِنْ الْكَلَامِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ وَالرُّخْصَةِ فِي تَكَلُّمِهِ وَتَكْلِيمِهِ لِمَصْلَحَةٍ وَفِي الْكَلَامِ قَبْلَ أَخْذِهِ فِي الْخُطْبَةِ وَبَعْدَ إتْمَامِهَا 1624- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِك يَوْمَ الْجُمُعَةِ: أَنْصِتْ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. 1625- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - فِي حَدِيثٍ لَهُ قَالَ: مَنْ دَنَا مِنْ الْإِمَامِ فَلَغَا وَلَمْ يَسْتَمِعْ وَلَمْ يُنْصِتُ كَانَ عَلَيْهِ كِفْلٌ مِنْ الْوِزْرِ، وَمَنْ قَالَ:

(1/438)


صَهٍ، فَقَدْ لَغَا، وَمَنْ لَغَا فَلَا جُمُعَةَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا سَمِعْت نَبِيَّكُمْ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 1626- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَهُوَ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، وَاَلَّذِي يَقُولُ لَهُ: أَنْصِتْ، لَيْسَ لَهُ جُمُعَةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1627- وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: جَلَسَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا عَلَى الْمِنْبَرِ فَخَطَبَ النَّاسَ وَتَلَا آيَةً، وَإِلَى جَنْبِي أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ، فَقُلْتُ: يَا أُبَيّ مَتَى أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ فَأَبَى أَنْ يُكَلِّمَنِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَبَى أَنْ يُكَلِّمَنِي، حَتَّى نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُ أُبَيّ: مَا لَكَ مِنْ جُمُعَتِكَ إلَّا مَا لَغَيْتَ. فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: «صَدَقَ أُبَيٌّ، فَإِذَا سَمِعْت إمَامَكَ يَتَكَلَّمُ فَأَنْصِتْ حَتَّى يَفْرُغَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1628- وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُنَا، فَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْمِنْبَرِ، فَحَمَلَهُمَا فَوَضَعَهُمَا بَيْن يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ، نَظَرْتُ إلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَلَمْ أَصْبِر حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. 1629- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْزِلُ مِنْ الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيُكَلِّمُهُ الرَّجُلُ فِي الْحَاجَةِ فَيُكَلِّمُهُ ثُمَّ يَتَقَدَّمُ إلَى مُصَلَّاهُ فَيُصَلِّي. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. وَعَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعُمَرُ جَالِسٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ قَامَ عُمَرُ، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ حَتَّى يَقْضِيَ الْخُطْبَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا، فَإِذَا قَامَتْ الصَّلَاةُ وَنَزَلَ عُمَرُ تَكَلَّمُوا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ. وَسَنَذْكُرُ سُؤَالَ الْأَعْرَابِيِّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - الِاسْتِسْقَاءَ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِك يَوْمَ الْجُمُعَةِ: أَنْصِتْ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ

(1/439)


لَغَوْتَ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِ النَّهْيِ بِحَالِ الْخُطْبَةِ، وقَالَ: وَقَدْ ذَهَبَ إلَى تَحْرِيمِ كُلِّ كَلَامٍ حَالَ الْخُطْبَةِ الْجُمْهُورُ. قَالُوا: وَإِذَا أَرَادَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ فَلْيَجْعَلْهُ بِالْإِشَارَةِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَقَدْ اُسْتُثْنِيَ مِنْ الْإِنْصَاتِ فِي الْخُطْبَة مَا إذَا انْتَهَى الْخَطِيبُ إلَى كَلَامٍ لَمْ يُشْرَعْ فِي الْخُطْبَةِ مِثْلِ الدُّعَاءِ لِلسُّلْطَانِ مَثَلًا، بَلْ جَزَمَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ بِأَنَّ الدُّعَاءَ لِلسُّلْطَانِ مَكْرُوهٌ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَحَلُّهُ إذَا جَاوَزَ وَإِلَّا فَالدُّعَاءُ لِوُلَاةِ الْأَمْرِ مَطْلُوبٌ. قَالَ الْحَافِظُ: وَمَحَلُّ التَّرْكِ إذَا لَمْ يَخَفْ الضَّرَرَ وَإِلَّا فَيُبَاحُ لِلْخَطِيبِ إذَا خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ. قَوْلُهُ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْزِلُ مِنْ الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيُكَلِّمُهُ الرَّجُلُ فِي الْحَاجَةِ) . الحديث. قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْس بِالْكَلَامِ بَعْدَ فَرَاغِ الْخَطِيبِ مِنْ الْخُطْبَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَحْرُم وَلَا يُكْرَهُ. قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُكْرَهُ الْكَلَامُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بَعْدَ الْخُطْبَةِ، لِأَنَّ مُسْلِمًا قَدْ رَوَى أَنَّ السَّاعَةَ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ هِيَ مِنْ حِينِ يَجْلِسُ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ إلَى أَنْ تُقَامَ الصَّلَاةُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَجَرَّد لِلذِّكْرِ وَالتَّضَرُّع. قَالَ الشَّارِحُ: وَاَلَّذِي فِي مُسْلِمٍ إنَّهَا مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ» . وَمِمَّا يُرَجِّحُ تَرْكَ الْكَلَامِ بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي الْإِنْصَاتِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الصَّلَاةُ كَمَا عِنْدَ النَّسَائِيّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ بِلَفْظِ: فَيُنْصِت حَتَّى يَقْضِيَ صَلَاتَهُ. وَيُجْمَع بَيْن الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْكَلَامَ الْجَائِزَ بَعْدَ الْخُطْبَةِ هُوَ كَلَامُ الْإِمَامِ لِحَاجَةٍ، أَوْ كَلَامُ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ لِحَاجَةِ. بَابُ مَا يُقْرَأُ بِهِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَفِي صُبْحِ يَوْمِهَا 1630- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: اسْتَخْلَفَ مَرْوَانُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَخَرَجَ إلَى مَكَّةَ، فَصَلَّى لَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَرَأَ بَعْدَ سُورَةِ الْجُمُعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ {إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} . فَقُلْتُ لَهُ حِينَ انْصَرَفَ: إنَّك قَرَأْتَ سُورَتَيْنِ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَقْرَأُ بِهِمَا فِي الْكُوفَةِ، قَالَ: إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ بِهِمَا فِي الْجُمُعَةِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالنَّسَائِيُّ. 1631- وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: وَسَأَلَهُ الضَّحَّاكُ بن قيس: مَا كَانَ

(1/440)


النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى أَثَرِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: كَانَ يَقْرَأُ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ. 1632- وَعَنْ النُّعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَةِ: بِـ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} . قَالَ: وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ يَقْرَأُ بِهِمَا فِي الصَّلَاتَيْنِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ. 1633- وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ: بِـ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 1634- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ {آلم تَنْزِيلُ} ، وَ {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} . وَفِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 1635- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ {آلم تَنْزِيلُ} ، {وَهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ وَأَبَا دَاوُد. 1636- لَكِنَّهُ لَهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَقْرَأَ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَة فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِالْجُمُعَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالْمُنَافِقِينَ، أَوْ فِي الْأُولَى بِـ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِـ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} . أَوْ فِي الْأُولَى بِالْجُمُعَةِ وَفِي الثَّانِيَةِ بِـ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} . قَوْلُهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ {آلم تَنْزِيلُ} . وَهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِيهَا مَشْرُوعِيَّة قِرَاءَةِ تَنْزِيلِ السَّجْدَةِ وَ {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَان} .

(1/441)


بَابُ انْفِضَاضِ الْعَدَدِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَوْ الْخُطْبَةِ 1637- عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَجَاءَتْ عِيرٌ مِنْ الشَّامِ، فَانْفَتَلَ النَّاسُ إلَيْهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ إلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْجُمُعَةِ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1638- وَفِي رِوَايَةٍ: أَقْبَلَتْ عِيرٌ وَنَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْجُمُعَةَ، فَانْفَضَّ النَّاسُ إلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. قَوْلُهُ: (وَنَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْجُمُعَة) . أَيْ نَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إنَّ عَدَدَ الْجُمُعَةِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَقَدْ اسْتَشْكَلَ الْأَصِيلِيُّ حَدِيثَ الْبَابِ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَصَفَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّهُمْ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، ثُمَّ أَجَابَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا الَّذِي يَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي آيَةِ النُّورِ التَّصْرِيحُ بِنُزُولِهَا فِي الصَّحَابَةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ لَهُمْ نَهْيٌ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْجُمُعَةِ وَفَهِمُوا مِنْهَا ذَمّ ذَلِكَ اجْتَنِبُوهُ، فَوُصِفُوا بَعَدَ ذَلِكَ بِمَا فِي آيَةِ النُّورِ. بَابُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ 1639- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ. 1640- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 1641- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إذَا كَانَ بِمَكَّةَ فَصَلَّى الْجُمُعَةَ تَقَدَّمَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَصَلَّى أَرْبَعًا، وَإِذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ صَلَّى الْجُمُعَةَ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يُصَلِّ فِي الْمَسْجِدِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُ ذَلِكَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

(1/442)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: واقْتَصَارَه عَلَى رَكْعَتَيْنِ لَا يُنَافِي مَشْرُوعِيَّة الْأَرْبَعِ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْأَرْبَعِ الرَّكَعَاتِ هَلْ تَكُونُ مُتَّصِلَةً بِتَسْلِيمٍ فِي آخِرِهَا، أَوْ يُفْصَلُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ بِتَسْلِيمٍ. إِلِى أَنْ قَالَ: قَالَ أَبَو عبد الله المازري وابن العربي: إنَّ أَمْرَهُ - صلى الله عليه وسلم - لِمَنْ يُصَلِّي بَعَدَ الْجُمُعَةِ بِأَرْبَعٍ لِئَلَّا يَخْطِرَ عَلَى بَالِ جَاهِلٍ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لِتَكْمِلَةِ الْجُمُعَةِ، أَوْ لِئَلَّا يَتَطَرَّقَ أَهْلُ الْبِدَعِ إلَى صَلَاتِهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا. انْتَهَى. بَابُ مَا جَاءَ فِي اجْتِمَاعِ الْعِيدِ وَالْجُمُعَة 1642- عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَسَأَلَهُ مُعَاوِيَةُ: هَلْ شَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِيدَيْنِ اجْتَمَعَا؟ قَالَ نَعَمْ، صَلَّى الْعِيدَ أَوَّلَ النَّهَارِ، ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ فَقَالَ: «مَنْ شَاءَ أَنْ يُجَمِّعَ فَلْيُجَمِّعْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 1643- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «قَدْ اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ، فَمَنْ شَاءَ أَجْزَأَهُ مِنْ الْجُمُعَةِ وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 1644- وَعَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: اجْتَمَعَ عِيدَانِ عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَأَخَّرَ الْخُرُوجَ حَتَّى تَعَالَى النَّهَارُ، ثُمَّ خَرَجَ فَخَطَبَ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى وَلَمْ يُصَلِّ لِلنَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: أَصَابَ السُّنَّةَ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد بِنَحْوِهِ، لَكِنْ مِنْ رِوَايَة عَطَاءٍ. وَلِأَبِي دَاوُد أيْضًا عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: اجْتَمَعَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَيَوْمُ الْفِطْرِ عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: عِيدَانِ اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَجَمَعَهُمَا جَمِيعًا فَصَلَّاهُمَا رَكْعَتَيْنِ بُكْرَةً لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِمَا حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ) إلَى آخره. فِيهِ أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ يَجُوزُ تَرْكُهَا. وَظَاهِرُ الْحَدِيثَيْنِ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ مَنْ صَلَّى الْعِيدَ وَمَنْ لَمْ يُصَلِّ، وَبَيْنَ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَيَدُلّ عَلَى عَدَم الْوُجُوبِ وَأَنَّ التَّرْخِيصَ عَامٌّ لِكُلِّ أَحَدٍ تَرْكُ ابْنِ الزُّبَيْرِ لِلْجُمُعَةِ وَهُوَ

(1/443)


الْإِمَامُ إذْ ذَاكَ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَصَابَ السُّنَّةَ، وَعَدَمُ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعَدَ أَنْ سَاقَ الرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ: قُلْتُ إنَّمَا وَجْه هَذَا أَنَّهُ رَأَى تَقْدِمَةَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ فَقَدَّمَهَا وَاجْتَزَأَ بِهَا عَنْ الْعِيدِ. قَالَ الشَّارِحُ: لَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنْ التَّعَسُّفِ. انْتَهَى. قال الموفق في المغني: وَإِنِ اتَّفَقَ عِيدٌ فِي يَوْمِ جُمْعَةٍ سَقَطَ حُضُورِ الْجُمُعَةِ عَمَّنْ صَلَّى الْعِيدِ إِلا الإِمَامُ فَإِنَّهَا لا تَسْقُطُ عَنْهُ إِلا أَنْ لا يَجْتَمِعَ لَهُ مَنْ يُصَلِّي بِهِ الْجُمُعَةِ. وَقِيلَ فِي وُجُوبِهَا عَلَى الإِمَامِ رِوَايَتَانِ. وَمِمَّن قَالَ بِسُقُوطِهَا الشّعَبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالأّوْزَاعِيُّ. وَقِيلَ: هَذَا مَذْهَبُ عُمَر وَعُثْمَان وَعَلِيٍّ وَسَعِيدٍ وَابْنِ عُمَر وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءُ: تَجِبُ الْجُمُعَة لِعُمُومِ الآيَةِ وَالأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِهَا وَلأَنَّهُمَا صَلاتَانِ وَاجِبَتَانِ فَلَمْ تَسْقُطْ إِحْدَاهُمَا بِالأُخْرَى كَالظًّهْرِ مَعَ الْعِيدِ وَلَنَا مَا رَوَى إِيَاسُ بْن أَبِي رملةٍ الشَّامِيُّ قَالَ: شَهِدْتُ مُعَاوِيَةَ يَسْأَلُ زَيْدَ بْن أَرْقَمٍ: هَلْ شَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عِيدِيْنِ اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ: نَعَم. قَالَ: فَكَيْفَ صَنَعَ؟ قَالَ: صَلَّى الْعِيدَ ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ. فَقَالَ: «مَنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّي فَيْلُصَلِّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاود وَالإِمَامُ أَحْمَدٍ وَلَفْظُهُ: «مَنْ شَاءَ أَنْ يَجْمَعَ فَلْيَجْمَعَ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ فَمَنْ شَاءَ أَجْزَأَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ وَإِنَّا مُجْمِعُونَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَة. وَعَن ابْنِ عُمَر وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَحْوَ ذَلِكَ وَلأَنَّ الْجُمُعَةَ إِنَّمَا زَادَتْ عَنِ الظُّهْرِ بِالْخُطُبَةِ وَقَدْ حَصُلَ سَمَاعَهَا فِي الْعِيدِ فَأَجْزَأَهُ عَنْ سَمَاعِهَا ثانيًا. انْتَهَى.

(1/444)


 كِتَابُ الْعِيدَيْنِ

بَابُ التَّجَمُّلِ لِلْعِيدِ وَكَرَاهَةُ حَمْلِ السِّلَاحِ فِيهِ إلَّا لِحَاجَةٍ 1645- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: وَجَدَ عُمَرُ حُلَّةً مِنْ إسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ، فَأَخَذَهَا فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْ هَذِهِ فَتَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوَفْدِ، فَقَالَ: «إنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1646- وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَلْبَسُ بُرُدَ حِبَرَةٍ فِي كُلِّ عِيدٍ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ حِينَ أَصَابَهُ سِنَانُ الرُّمْحِ فِي أَخْمَصِ قَدَمِهِ، فَلَزِقَتْ قَدَمُهُ بِالرِّكَابِ، فَنَزَلْتُ فَنَزَعْتُهَا وَذَلِكَ بِمِنًى، فَبَلَغَ الْحَجَّاجَ فَجَاءَ يَعُودُهُ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ: لَوْ نَعْلَمُ مَنْ أَصَابَكَ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَنْتَ أَصَبْتَنِي، قَالَ: كَيْفَ؟ قَالَ: حَمَلْتَ السِّلَاحَ فِي يَوْمٍ لَمْ يَكُنْ يُحْمَلُ فِيهِ، وَأَدْخَلْتَ السِّلَاحَ الْحَرَمَ، وَلَمْ يَكُنْ السِّلَاحُ يَدْخُلُ الْحَرَمَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ: 1647- قَالَ الْحَسَنُ: نُهُوا أَنْ يَحْمِلُوا السِّلَاحَ يَوْمَ عِيدٍ إلَّا أَنْ يَخَافُوا عَدُوًّا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (إنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ) . الْخَلَاقُ: النَّصِيبُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ لُبْسُ الْحَرِيرِ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَشْرُوعِيَّة التَّجَمُّلِ لِلْعِيدِ تَقْرِيرُهُ - صلى الله عليه وسلم - لِعُمَرَ عَلَى أَصْلِ التَّجَمُّلِ لِلْعِيدِ.

(1/445)


قَوْلُهُ: (نُهُوا أَنْ يَحْمِلُوا السِّلَاحَ يَوْمَ عِيدٍ إلَّا أَنْ يَخَافُوا عَدُوًّا) . قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ تَقْيِيدٌ لِإِطْلَاقِ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ. بَابُ الْخُرُوجِ إلَى الْعِيدِ مَاشِيًا وَالتَّكْبِيرُ فِيهِ وَمَا جَاءَ فِي خُرُوجِ النِّسَاءِ 1648- عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْعِيدِ مَاشِيًا وَأَنْ يَأْكُلَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. 1649- وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى: الْعَوَاتِقَ وَالْحُيَّضَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلَاةَ، وَفِي لَفْظٍ: الْمُصَلَّى، وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ، قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إحْدَانَا لَا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ، قَالَ: «لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، وَلَيْسَ لِلنَّسَائِيِّ فِيهِ أَمْرُ الْجِلْبَابِ. 1650-وَلِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد فِي رِوَايَةٍ: وَالْحُيَّضُ يَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ يُكَبِّرْنَ مَعَ النَّاسِ. 1651- وَلِلْبُخَارِيِّ: قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نُخْرِجَ الْحُيَّضَ فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ. 1652- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا غَدَا إلَى الْمُصَلَّى كَبَّرَ فَرَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ. 1653- وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ يَغْدُو إلَى الْمُصَلَّى يَوْمَ الْفِطْرِ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَيُكَبِّرُ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى، ثُمَّ يُكَبِّرُ بِالْمُصَلَّى حَتَّى إذَا جَلَسَ الْإِمَامُ تَرَكَ التَّكْبِيرَ رَوَاهُمَا الشَّافِعِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْعِيدِ مَاشِيًا) . فِيهِ مَشْرُوعِيَّة الْخُرُوجِ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ وَالْمَشْيُ إلَيْهَا وَتَرْكُ الرُّكُوبِ. قَوْلُهُ: (وَأَنْ يَأْكُلَ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْأَكْلِ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الصَّلَاةِ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بَعِيدِ الْفِطْرِ. وَأَمَّا عِيدُ النَّحْرِ فَيُؤَخَّرُ الْأَكْلُ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ.

(1/446)


قَوْلُهُ: (الْعَوَاتِقُ) جَمْعُ عَاتِقٍ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ الشَّابَّةُ أَوَّلَ مَا تُدْرِكُ. وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي لَمْ تَبِنْ مِنْ وَالِدَيْهَا وَلَمْ تُزَوَّجْ بَعْدَ إدْرَاكِهَا. وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: هِيَ الَّتِي قَارَبَتْ الْبُلُوغَ. قَوْلُهُ: (وَذَوَاتُ الْخُدُورِ) جَمْعُ خِدْرٍ وَهُوَ نَاحِيَةٌ فِي الْبَيْتِ يُجْعَلُ عَلَيْهَا سُتْرَةً فَتَكُونُ فِيهِ الْجَارِيَةُ الْبِكْرُ، وَهِيَ الْمُخَدَّرَةُ: أَيْ خُدِّرَتْ فِي الْخِدْرِ. قَوْلُهُ: (لَا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ) . الْجِلْبَابُ هُوَ الْإِزَارُ وَالرِّدَاءُ. وَقِيلَ: الْمِلْحَفَةُ. وَقِيلَ الْمِقْنَعَةُ تُغَطِّي بِهَا الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا وَظَهْرَهَا. وَقِيلَ: هُوَ الْخِمَارُ وَالْحَدِيثُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ قَاضِيَةٌ بِمَشْرُوعِيَّة خُرُوجِ النِّسَاءِ فِي الْعِيدَيْنِ إلَى الْمُصَلَّى مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ وَالشَّابَّةِ وَالْعَجُوزِ وَالْحَائِضِ وَغَيْرِهَا مَا لَمْ تَكُنْ مُعْتَدَّةً أَوْ كَانَ خُرُوجُهَا فِتْنَةً أَوْ كَانَ لَهَا عُذْرٌ. قَوْلُهُ: (إذَا غَدَا إلَى الْمُصَلَّى كَبَّرَ) . دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّة التَّكْبِيرِ حَالَ الْمَشْيِ إلَى الْمُصَلَّى. إِلِى أَنْ قَالَ: وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَهُوَ مِنْ خُرُوجِ الْإِمَامِ مِنْ بَيْتِهِ لِلصَّلَاةِ إلَى ابْتِدَاءِ الْخُطْبَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ. بَابُ اسْتِحْبَابِ الْأَكْلِ قَبْلَ الْخُرُوجِ فِي الْفِطْرِ دُونَ الْأَضْحَى 1654- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ، وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 1655- وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - لَا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ، وَلَا يَأْكُلُ يَوْمَ الْأَضْحَى حَتَّى يَرْجِعَ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ، وَزَادَ: فَيَأْكُلُ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ. 1656- وَلِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُؤْمَرُونَ بِالْأَكْلِ قَبْلَ الْغُدُوِّ يَوْمَ الْفِطْرِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ الْمُهَلَّبُ: الْحِكْمَةُ فِي الْأَكْلِ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَنْ لَا يَظُنُّ ظَانٍّ لُزُومَ الصَّوْمِ حَتَّى يُصَلِّيَ الْعِيدَ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ سَدَّ هَذِهِ الذَّرِيعَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا وَقَعَ وُجُوبُ الْفِطْرِ عَقِبَ وُجُوبِ الصَّوْمِ اُسْتُحِبَّ

(1/447)


تَعْجِيلُ الْفِطْرِ مُبَادَرَةً إلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَشَارَ إلَى ذَلِكَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ. قَالَ الْحَافِظُ: وَالْحِكْمَةُ فِي اسْتِحْبَابِ التَّمْرِ فِيهِ لِمَا فِي الْحُلْوِ مِنْ تَقْوِيَةِ الْبَصَرِ الَّذِي يُضْعِفُهُ الصَّوْمُ، وَلِأَنَّ الْحُلْوَ مِمَّا يُوَافِقُ الْإِيمَانَ وَيُعْبَرُ بِهِ الْمَنَامُ وَيَرِقُّ الْقَلْبُ وَهُوَ أَسَرُّ مِنْ غَيْرِهِ، وَمِنْ ثَمَّ اسْتَحَبَّ بَعْضُ التَّابِعِينَ أَنْ يُفْطِرَ عَلَى الْحُلْوِ مُطْلَقًا كَالْعَسَلِ. وَالْحِكْمَةُ فِي جَعْلِهِنَّ وِتْرًا الْإِشَارَةُ إلَى الْوَحْدَانِيَّةِ. قَوْلُهُ: (وَلَا يَأْكُلُ يَوْمَ الْأَضْحَى حَتَّى يَرْجِعَ) . فِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ: (وَلَا يَطْعَمُ يَوْمَ الْأَضْحَى حَتَّى يُصَلِّيَ) . وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ بِلَفْظِ: «حَتَّى يُضَحِّيَ» وَقَدْ خَصَّصَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ اسْتِحْبَابَ تَأْخِيرِ الْأَكْلِ فِي عِيدِ الْأَضْحَى بِمَنْ لَهُ ذَبْحٌ. وَالْحِكْمَةُ فِي تَأْخِيرِ الْفِطْرِ يَوْمَ الْأَضْحَى أَنَّهُ يَوْمٌ تُشْرَعُ فِيهِ الْأُضْحِيَّةُ وَالْأَكْلُ مِنْهَا، فَشَرَعَ لَهُ أَنْ يَكُونَ فِطْرُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ. بَابُ مُخَالَفَةِ الطَّرِيقِ فِي الْعِيدِ وَالتَّعْيِيد فِي الْجَامِعِ لِلْعُذْرِ 1657- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 1658- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا خَرَجَ إلَى الْعِيدِ يَرْجِعُ فِي غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّذِي خَرَجَ فِيهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ. 1659- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ يَوْمَ الْعِيدِ فِي طَرِيقٍ ثُمَّ رَجَعَ فِي طَرِيقٍ آخَرَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 1660- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَصَلَّى بِهِمْ ... النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الذَّهَابِ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ فِي طَرِيقٍ وَالرُّجُوعِ فِي طَرِيقٍ أُخْرَى لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَوْلُهُ: (أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَصَلَّى بِهِمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ) . قَالَ الشَّارِحُ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْخُُروجِ إِلَى الْجَبَّانَةِ

(1/448)


وَفِعْلَ الصَّلاةِ عِنْدَ عُرُوضِ عُذْرِ الْمَطََرِ غَيْر مَكْرُوهٍ. بَابُ وَقْتِ صَلَاةِ الْعِيدِ 1661- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّاسِ يَوْمَ عِيدِ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى، فَأَنْكَرَ إبْطَاءَ الْإِمَامِ وَقَالَ: إنَّا كُنَّا قَدْ فَرَغْنَا سَاعَتَنَا هَذِهِ، وَذَلِكَ حِينَ التَّسْبِيحِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 1662- وَلِلشَّافِعِيِّ فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ إلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَهُوَ بِنَجْرَانَ: أَنْ عَجِّلْ الْأَضْحَى وَأَخِّرْ الْفِطْرَ وَذَكِّرْ النَّاسَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّة التَّعْجِيلِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ وَكَرَاهَةِ تَأْخِيرِهَا تَأْخِيرًا زَائِدًا عَلَى الْمِيعَادِ. وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّة تَعْجِيلِ الْأَضْحَى وَتَأْخِيرِ الْفِطْرِ. وَأَحْسَنُ مَا وَرَدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي تَعْيِينِ وَقْتِ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ حَدِيثُ جُنْدُبٍ عِنْدَ أَحْمَد بْنِ حَسَنٍ الْبَنَّاءِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بِنَا يَوْمَ الْفِطْرِ، وَالشَّمْسُ عَلَى قَيْدِ رُمْحَيْنِ وَالْأَضْحَى عَلَى قِيدِ رُمْحٍ. بَابُ صَلَاةِ الْعِيدِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ وَمَا يُقْرَأُ فِيهَا 1663- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا أَبَا دَاوُد. 1664- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْعِيدَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 1665- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَا: لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَلَا يَوْمَ الْأَضْحَى. مُتَّفَق عَلَيْهِ. 1666- وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَابِرٌ أَنْ لَا أَذَانَ لِصَلَاةٍ يَوْمَ الْفِطْرِ حِينَ يَخْرُجُ الْإِمَامُ، وَلَا بَعْدَ مَا يَخْرُجُ، وَلَا إقَامَةَ، وَلَا نِدَاءَ، وَلَا شَيْءَ، لَا نِدَاءَ يَوْمَئِذٍ وَلَا إقَامَةَ.

(1/449)


1667- وَعَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ: بِـ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1668- وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مِثْلُهُ. 1669- وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ النُّعْمَانِ لِغَيْرِهِ فِي الْجُمُعَةِ. 1670- وَعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ وَسَأَلَهُ عُمَرُ: مَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ؟ فَقَالَ: كَانَ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ، {وَاقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ} . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ عَلَى الْخُطْبَةِ. قَوْلُهُ: (لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَلَا يَوْمَ الْأَضْحَى) . وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ شَرْعِيَّةِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ. قَوْلُهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ: بِـ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} . قَالَ الشَّارِحُ: وَأَكْثَرُ أَحَادِيث الْبَاب تَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْقِرَاءَةِ فِي الْعِيدَيْنِ بِـ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى} وَالْغَاشِيَةِ. وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى اسْتِحْبَابِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا بِـ {ق} وَ {اقْتَرَبَتْ} . وَاسْتَحَبَّ ابْنُ مَسْعُودٍ الْقِرَاءَةَ فِيهِمَا بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُؤَقَّتٌ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَرَأَ فِي يَوْمِ عِيدٍ بِالْبَقَرَةِ حَتَّى رَأَيْت الشَّيْخَ يَمِيدُ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ وَقَدْ جَمَعَ النَّوَوِيُّ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ فَقَالَ: كَانَ فِي وَقْتٍ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ بِـ {ق} وَ {اقْتَرَبَتْ} ، وَفِي وَقْتٍ بِـ {سَبِّحْ} وَ {هَلْ أَتَاكَ} . بَابُ عَدَدِ التَّكْبِيرَاتِ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ وَمَحَلِّهَا 1671- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَبَّرَ فِي عِيدٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً: فِي الْأُولَى سَبْعًا، وَخَمْسًا فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يُصَلِّ

(1/450)


قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ أَحْمَدُ: أَنَا أَذْهَبُ إلَى هَذَا. 1672- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «التَّكْبِيرُ فِي الْفِطْر سَبْعٌ فِي الْأُولَى، وَخَمْسٌ فِي الْآخِرَةِ، وَالْقِرَاءَةُ بَعْدَهُمَا كِلْتَيْهِمَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ. 1673- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَبَّرَ فِي الْعِيدَيْنِ: فِي الْأُولَى سَبْعًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هُوَ أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَلَمْ يَذْكُرْ الْقِرَاءَةَ. 1674- لَكِنَّهُ رَوَاهُ وَفِيهِ الْقِرَاءَةُ كَمَا سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ الْمُؤَذِّنِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي عَدَدِ التَّكْبِيرَاتِ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ وَفِي مَوْضِعِ التَّكْبِيرِ عَلَى عَشَرَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُكَبِّرُ فِي الْأُولَى سَبْعًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّ السَّبْعَ فِي الْأُولَى بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ مَعْدُودَةٌ مِنْ السَّبْعِ فِي الْأُولَى، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ. إِلِى أَنْ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ طَرِقِ حَسَّانَ أَنَّهُ كَبَّرَ فِي الْعِيدَيْنِ سَبْعًا فِي الْأُولَى وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ قَوِيٍّ وَلَا ضَعِيفٍ خِلَافُ هَذَا، وَهُوَ أَوْلَى مَا عُمِلَ بِهِ. انْتَهَى. قَالَ الشَّارِحُ: وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيّ (سِوَى تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ) ، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد (سِوَى تَكْبِيرَتَيْ الرُّكُوعِ) ، وَهُوَ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ: إنَّ السَّبْعَ لَا تُعَدُّ فِيهَا تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ وَالرُّكُوعِ، وَالْخَمْسَ لَا تُعَدُّ فِيهَا تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَأَرْجَحُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَوَّلُهَا فِي عَدَدِ التَّكْبِيرِ وَفِي مَحَلِّ الْقِرَاءَةِ. وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ هَلْ الْمَشْرُوعُ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ تَكْبِيرَاتِ صَلَاةِ الْعِيدِ أَوْ الْفَصْلُ بَيْنَهَا بِشَيْءٍ مِنْ التَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ إلَى أَنَّهُ يُوَالِي بَيْنَهَا كَالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. قَالُوا: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَهَا ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ التَّكْبِيرُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهُ

(1/451)


يَقِفُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ، يُهَلِّلُ وَيُمَجِّدُ وَيُكَبِّرُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ لَا صَلَاةَ قَبْلَ الْعِيدِ وَلَا بَعْدَهَا 1675- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ عِيدٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهُمَا وَلَا بَعْدَهُمَا. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 1676- وَزَادُوا إلَّا التِّرْمِذِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ: ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَبِلَالٌ مَعَهُ فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تَصَدَّقَ بِخُرْصِهَا وَسِخَابِهَا. 1677- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمَ عِيدٍ فَلَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1678- وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَرِهَ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْعِيدِ. 1679- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهُ كَانَ لَا يُصَلِّي قَبْلَ الْعِيدِ شَيْئًا، فَإِذَا رَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَأَحْمَدُ بِمَعْنَاهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا) . فِيهِ وَفِي بَقِيَّةِ أَحَادِيثِ الْبَابِ دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَبَعْدَهَا، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَتَطَوَّعُ فِي الْمُصَلَّى قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، وَلَهُ فِي الْمَسْجِدِ رِوَايَتَانِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءَنَا يَذْكُرُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ تِلْكَ الصَّلَاةِ وَلَا بَعْدَهَا. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: الْكُوفِيُّونَ يُصَلُّونَ بَعْدَهَا لَا قَبْلَهَا، وَالْبَصْرِيُّونَ يُصَلُّونَ قَبْلَهَا لَا بَعْدَهَا، وَالْمَدَنِيُّونَ لَا قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا. وَعَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ الْبَزَّارِ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنُ سَرِيعٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَسَأَلَهُ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِهِ عَنْ الصَّلَاةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَبَعْدَهَا، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إلَى الصَّلَاةِ فَصَلَّى بِالنَّاسِ فَكَبَّرَ سَبْعًا وَخَمْسًا ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ ثُمَّ نَزَلَ فَرَكِبَ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ يُصَلُّونَ، قَالَ: فَمَا عَسَيْتُ أَنْ أَصْنَعَ سَأَلْتُمُونِي عَنْ السُّنَّةِ، إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، فَمَنْ شَاءَ فَعَلَ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَ، أَتَرَوْنَنِي أَمْنَعُ قَوْمًا يُصَلُّونَ فَأَكُون بِمَنْزِلَةِ مَنْ مَنَعَ عَبْدًا إذَا صَلَّى؟ .

(1/452)


بَابُ خُطْبَةِ الْعِيدِ وَأَحْكَامِهَا 1680- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى إلَى الْمُصَلَّى، وَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلَاةُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ وَالنَّاسُ جُلُوسٌ عَلَى صُفُوفِهِمْ، فَيَعِظهُمْ وَيُوصِيهِمْ وَيَأْمُرُهُمْ، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ بَعْثًا أَوْ يَأْمُرَ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1681- وَعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْرَجَ مَرْوَانُ الْمِنْبَرَ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَبَدَأَ بِالْخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا مَرْوَانُ خَالَفْتَ السُّنَّةَ أَخْرَجْتَ الْمِنْبَرَ فِي يَوْمَ عِيدٍ وَلَمْ يَكُنْ يَخْرُجُ فِيهِ، وَبَدَأْتَ بِالْخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا هَذَا قَضَى مَا عَلَيْهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مُنْكَرًا فاسْتَطَاعَ أَنْ يُغَيِّرَهُ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 1682- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْعِيدِ، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ، ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلَالٍ، فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهَ، وَحَثَّ عَلَى الطَّاعَةِ، وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 1683- وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: فَلَمَّا فَرَغَ نَزَلَ فَأَتَى النِّسَاءَ فَذَكَّرَهُنَّ. 1684- وَعَنْ سَعْدٍ الْمُؤَذِّنُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُكَبِّرُ بَيْنَ أَضْعَافِ الْخُطْبَةِ، يُكْثِرُ التَّكْبِيرَ فِي خُطْبَةِ الْعِيدَيْنِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. 1685- وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةُ قَالَ: السُّنَّةُ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ فِي الْعِيدَيْنِ خُطْبَتَيْنِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجُلُوسٍ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. 1686- وَعَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْعِيدَ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ: إنَّا نَخْطُبُ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَجْلِسَ لِلْخُطْبَةِ فَلْيَجْلِسْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَذْهَبَ فَلْيَذْهَبْ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (إلَى الْمُصَلَّى) هُوَ مَوْضِعٌ بِالْمَدِينَةِ

(1/453)


مَعْرُوفٌ. وَقَالَ فِي الْفَتْحِ: بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَابِ الْمَسْجِدِ أَلْفِ ذِرَاع. قَوْلُهُ: (وَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلَاةُ) فِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ عَلَى الْخُطْبَةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْمُصَلَّى فِي زَمَانِهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْبَرٌ. قَوْلُهُ: (فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهَ، وَحَثَّ عَلَى الطَّاعَةِ) . الْحَدِيثُ قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ، وَاسْتِحْبَابُ وَعْظِ النِّسَاءِ وَتَذْكِيرِهِنَّ وَحَثِّهِنَّ عَلَى الصَّدَقَةِ إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ وَخَوْفُ فِتْنَةٍ عَلَى الْوَاعِظِ أَوْ الْمَوْعُوظِ أَوْ غَيْرِهِمَا. قَوْلُهُ: (فَلَمَّا فَرَغَ نَزَلَ) . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هَذَا النُّزُولُ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَيْسَ كَمَا قَالَ إنَّمَا نَزَلَ إلَيْهِنَّ بَعْدَ خُطْبَةِ الْعِيدِ وَبَعْدَ انْقِضَاءِ وَعْظِ الرِّجَالِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَوْلُهُ: (نَزَلَ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خُطْبَتَهُ كَانَتْ عَلَى شَيْءٍ عَالٍ. انْتَهَى. قَوْلُهُ: (إنَّا نَخْطُبُ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَجْلِسَ) . الْحَدِيثُ. قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ أَنَّ الْجُلُوسَ لِسَمَاعِ خُطْبَةِ الْعِيدِ غَيْرُ وَاجِبٍ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْخُطْبَةَ سُنَّةٌ، إذْ لَوْ وَجَبَتْ وَجَبَ الْجُلُوسُ لَهَا. بَابُ اسْتِحْبَابِ الْخُطْبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ 1687- عَنْ الْهِرْمَاسِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ النَّاسَ عَلَى نَاقَتِهِ الْعَضْبَاءَ يَوْمَ الْأَضْحَى بِمِنًى. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 1688- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: سَمِعْتُ خُطْبَةَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 1689- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاذٍ التَّيْمِيِّ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ بِمِنًى، فَفُتِحَتْ أَسْمَاعُنَا حَتَّى كُنَّا نَسْمَعُ مَا يَقُولُ وَنَحْنُ فِي مَنَازِلِنَا، فَطَفِقَ يُعَلِّمَهُمْ مَنَاسِكَهُمْ حَتَّى بَلَغَ الْجِمَارَ، فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: «بِحَصَى الْخَذْفِ» . ثُمَّ أَمَرَ الْمُهَاجِرِينَ فَنَزَلُوا فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدَ، وَأَمَرَ الْأَنْصَارَ

(1/454)


فَنَزَلُوا مِنْ وَرَاءِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ نَزَلَ النَّاسُ بَعْد ذَلِكَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِمَعْنَاهُ. 1690- وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ: «أَتَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ هَذَا» ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ» ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «أَيُّ شَهْرٍ هَذَا» ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ» ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا» ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: «أَلَيْسَتْ الْبَلْدَةُ» ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، إلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبّكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ» ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّة الْخُطْبَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ. قَوْلُهُ: (أَتَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ هَذَا) . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحِكْمَةُ فِي سُؤَالِهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الثَّلَاثَةِ وَسُكُوتِهِ بَعْدَ كُلِّ سُؤَالٍ مِنْهَا مَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِاسْتِحْضَارِ فُهُومِهِمْ، وَلْيُقْبِلُوا عَلَيْهِ بِكُلِّيَّتِهِمْ وَيَسْتَشْعِرُوا عَظَمَةَ مَا يُخْبِرُهُمْ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ هَذَا: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ» إلَى آخِرِهِ. مُبَالَغَةٌ فِي بَيَانِ تَحْرِيمِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. قَوْلُهُ: «فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» . قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِيهِ أَنَّهُ يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ مَنْ يَكُونُ لَهُ مِنْ الْفَهْمِ وَالْعِلْمِ مَا لَيْسَ لِمَنْ تَقَدَّمَهُ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ رُبَّ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّقْلِيلِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْخُطْبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَفِيهِ وُجُوبُ تَبْلِيغِ الْعِلْمِ وَتَأْكِيدُ تَحْرِيمِ تِلْكَ الْأُمُورِ وَتَغْلِيظِهَا بِأَبْلَغِ مَا يُمْكِنُ.

(1/455)


بَابُ حُكْمِ الْهِلَالِ العِيد إذَا غُمَّ ثُمَّ عُلِمَ بِهِ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ 1691- عَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنْ الْأَنْصَارِ - رضي الله عنه - قَالُوا غُمَّ عَلَيْنَا هِلَالُ شَوَّالٍ فَأَصْبَحْنَا صِيَامًا، فَجَاءَ رَكْبٌ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ فَشَهِدُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُمْ رَأَوْا الْهِلَالَ بِالْأَمْسِ، فَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يُفْطِرُوا مِنْ يَوْمِهِمْ، وَأَنْ يَخْرُجُوا لَعِيدِهِمْ مِنْ الْغَدِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ. 1692- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ، وَالْأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. 1693- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الصَّوْمُ يَوْمَ يَصُومُونَ، وَالْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُونَ، وَالْأَضْحَى يَوْمَ يُضَحُّونَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا. 1694- وَهُوَ لِأَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ «إلَّا فَصْلَ الصَّوْمِ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ: إنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ تُصَلَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي إنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ الْعِيدُ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ صَلَاتِهِ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: (الْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ) . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَفَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: إنَّمَا مَعْنَى هَذَا: أَنَّ الصَّوْمَ وَالْفِطْرَ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَعَظِيمِ النَّاسِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ: إنَّ الْخَطَأَ مَرْفُوعٌ عَنْ النَّاسِ فِيمَا كَانَ سَبِيلُهُ الِاجْتِهَادَ فَلَوْ أَنَّ قَوْمًا اجْتَهَدُوا فَلَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ إلَّا بَعْدَ الثَّلَاثِينَ فَلَمْ يُفْطِرُوا حَتَّى اسْتَوْفُوا الْعَدَدَ ثُمَّ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الشَّهْرَ كَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ فَإِنَّ صَوْمَهُمْ وَفِطْرَهُمْ مَاضٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ مِنْ وِزْرٍ أَوْ عَيْبٍ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَجِّ إذَا أَخْطَأُوا يَوْمَ عَرَفَةَ لَيْسَ عَلَيْهِمْ إعَادَةٌ. بَابُ الْحَثِّ عَلَى الذِّكْرِ وَالطَّاعَةِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ 1695- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبَّ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ» يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا وَالنَّسَائِيُّ.

(1/456)


1696- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَلَا أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1697- وَعَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشَرْبٍ، وَذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} أَيْام الْعَشْرِ، وَالْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ: أَيْ التَّشْرِيقِ. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا. قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ فَيُكَبِّرُونَ وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الْأَسْوَاقِ حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ فِيهِ تَفْضِيلُ أَيَّامِ الْعَشْرِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ السَّنَةِ، وَالْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ إجْمَاعُ أُمَّهَاتِ الْعِبَادَةِ فِيهَا: الْحَجُّ، وَالصَّدَقَةُ، وَالصِّيَامُ، وَالصَّلَاةُ. قَوْلُهُ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} أَيْام الْعَشْرِ، وَالْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ: أَيْ التَّشْرِيقِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَمُقْتَضَى كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْفِقْهِ أَنَّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: مَا بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، عَلَى اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ هِيَ ثَلَاثَةٌ أَوْ يَوْمَانِ.

(1/457)


 كِتَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ

بَابُ الْأَنْوَاعِ الْمَرْوِيَّةِ فِي صِفَتِهَا 1698- عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتُ عَمَّنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ أَنَّ الطَّائِفَةَ صَفَّتْ مَعَهُ، وَطَائِفَةً وِجَاهَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِاَلَّتِي مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا، فَأَتَمُّوا؛ لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَصَلَّى بِهِمْ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ صَلَاتِهِ ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا، فَأَتَمُّوا؛ لِأَنْفُسِهِمْ فَسَلَّمَ بِهِمْ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. 1699- وَفِي رِوَايَةٍ لِلْجَمَاعَةِ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتُ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِ هَذِهِ الصِّفَةِ. نَوْعٌ آخَرُ 1700- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الْخَوْفِ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً، وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مُوَاجِهَةٌ الْعَدُوِّ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَقَامُوا فِي مَقَامِ أَصْحَابِهِمْ مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوِّ وَجَاءَ أُولَئِكَ، ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ قَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَةً، وَهَؤُلَاءِ رَكْعَةً. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. نَوْعُ آخَرُ 1701- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الْخَوْفِ فَصَفَّنَا صَفَّيْنِ خَلْفَهُ، وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَبَّرْنَا

(1/458)


جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤخَرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - السُّجُودَ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ وَقَامُوا، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الْمُقَدَّمُ، ثُمَّ رَكَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ الَّذِي كَانَ مُؤَخَّرًا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - السُّجُودَ بِالصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ. 1702- وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ هَذِهِ الصِّفَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيُّ وَقَالَ: صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِعُسْفَانَ، وَمَرَّةً بِأَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ. نَوْعٌ آخَرَ 1703- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِذَاتِ الرِّقَاعِ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ تَأَخَّرُوا، وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ، فَكَانَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَرْبَعٌ، وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1704- وَلِلشَّافِعِيِّ وَالنَّسَائِيُّ. عَنْ الْحَسَنِ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى بِآخَرِينَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ. 1705- وَعَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَصَلَّى بِبَعْضِ أَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ تَأَخَّرُوا وَجَاءَ الْآخَرُونَ وَكَانُوا فِي مَقَامِهِمْ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، فَصَارَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 1706- وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَكَذَلِكَ قَالَ سُلَيْمَانُ الْيَشْكُرِيُّ عَنْ جَابِرٍ عَنْ ... النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.

(1/459)


نَوْع آخَرَ 1707- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الْخَوْفِ عَامَ غَزْوَةِ نَجْدٍ، فَقَامَ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ فَقَامَتْ مَعَهُ طَائِفَةٌ، وَطَائِفَةٌ أُخْرَى مُقَابِلَ الْعَدُوِّ وَظُهُورُهُمْ إلَى الْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ فَكَبَّرُوا جَمِيعًا الَّذِينَ مَعَهُ وَاَلَّذِينَ مُقَابِلَ الْعَدُوِّ ثُمَّ رَكَعَ رَكْعَةً وَاحِدَةً وَرَكَعَتْ الطَّائِفَةُ الَّتِي مَعَهُ، ثُمَّ سَجَدَ فَسَجَدَتْ الطَّائِفَةُ الَّتِي تَلِيهِ وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ مُقَابِلِي الْعَدُوِّ، ثُمَّ قَامَ وَقَامَتْ الطَّائِفَةُ الَّتِي مَعَهُ، فَذَهَبُوا إلَى الْعَدُوِّ فَقَابَلُوهُمْ وَأَقْبَلَتْ الطَّائِفَةُ الَّتِي كَانَتْ مُقَابِلَ الْعَدُوِّ، فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا هُوَ، ثُمَّ قَامُوا فَرَكَعَ رَكْعَةً أُخْرَى وَرَكَعُوا مَعَهُ وَسَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ الطَّائِفَةُ الَّتِي كَانَتْ مُقَابِلَ الْعَدُوِّ فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَاعِدٌ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ كَانَ السَّلَامُ فَسَلَّمَ وَسَلَّمُوا جَمِيعًا، فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَينِ، وَلِكُلِّ رَجَلٌ مِن الطَّائِفَتَيْن رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. نَوْعٌ آخَرُ 1708- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِذِي قَرَدٍ فَصَفَّ النَّاسَ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ: صَفًا خَلْفَهُ، وَصَفًّا مُوَازِيَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِاَلَّذِينَ خَلْفَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ انْصَرَفَ هَؤُلَاءِ إلَى مَكَانِ هَؤُلَاءِ، وَجَاءَ أُولَئِكَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً، وَلَمْ يَقْضُوا رَكْعَةً. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 1709- وَعَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَهْدَمٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِطَبَرِسْتَانَ فَقَالَ: أَيُّكُمْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الْخَوْفِ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا، فَصَلَّى بِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَبِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَلَمْ يَقْضُوا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 1710- وَرَوَى النَّسَائِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَ صَلَاةِ حُذَيْفَةَ، كَذَا قَالَ. 1711- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى نَبِيَّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.

(1/460)


قَوْلُهُ: (يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هِيَ غَزْوَةُ نَجْدٍ لَقِيَ بِهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - جَمْعًا مِنْ غَطَفَانَ فَتَوَقَّفُوا وَلَمْ يَكُنْ بَيْنُهُمْ قِتَالٌ، وَصَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْخَوْفِ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ صِفَاتِ صَلَاةِ الْخَوْفِ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ فِي الثُّنَائِيَّةِ بِطَائِفَةٍ رَكْعَةً، ثُمَّ يَنْتَظِرُ حَتَّى يُتِمُّوا؛ لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً وَيَذْهَبُوا فَيَقُومُوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَيُصَلُّونَ مَعَهُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ يَنْتَظِرُ حَتَّى يُتِمُّوا؛ لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً وَيُسَلِّمُ بِهِمْ. قَوْلُهُ: (عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنه - قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الْخَوْفِ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ: الْحَدِيثُ فِيهِ أَنَّ مِنْ صِفَةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ بِطَائِفَةٍ مِنْ الْجَيْشِ رَكْعَةً، وَالطَّائِفَة الْأُخْرَى قَائِمَةً تِجَاهَ الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَنْصَرِفُ الطَّائِفَةُ الَّتِي صَلَّتْ مَعَهُ الرَّكْعَةَ وَتَقُومُ تُجَاهَ الْعَدُوِّ، وَتَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَتُصَلِّي مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ تَقْضِي كُلُّ طَائِفَةٍ لِنَفْسِهَا رَكْعَةً. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: (ثُمَّ قَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَهَؤُلَاءِ رَكْعَةً) أَنَّهُمْ أَتَمُّوا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ أَتَمُّوا عَلَى التَّعَاقُبِ، قَالَ: وَهُوَ الرَّاجِحُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَإِلَّا فَيَسْتَلْزِم تَضْيِيعَ الْحِرَاسَةِ الْمَطْلُوبَةِ وَإِفْرَادِ الْإِمَامِ وَحْدَهُ وَيُرَجِّحُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَفْظُهُ: ثُمَّ سَلَّمَ وَقَامَ هَؤُلَاءِ أَيِّ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَصَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمُوا ثُمَّ ذَهَبُوا وَرَجَعَ أُولَئِكَ إلَى مَقَامِهِمْ فَصَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمُوا. قَالَ: وَظَاهِرُهُ أَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ وَاَلَتِ بَيْنَ رَكْعَتَيْهَا، ثُمَّ أَتَمَّتْ الطَّائِفَةُ الْأُولَى بَعْدَهَا. قَوْلُهُ: (شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الْخَوْفِ فَصَفَّنَا صَفَّيْنِ خَلْفَهُ، وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَفِي الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ صَلَاةَ الطَّائِفَتَيْنِ مَعَ الْإِمَامِ جَمِيعًا وَاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْحِرَاسَةِ وَمُتَابَعَتِهِ فِي جَمِيعِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ إلَّا السُّجُودَ فَتَسْجُدُ مَعَهُ طَائِفَةٌ وَتَنْتَظِرُ الْأُخْرَى حَتَّى تَفْرُغَ الطَّائِفَةُ الْأُولَى ثُمَّ تَسْجُدُ، وَإِذَا فَرَغُوا مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى تَقَدَّمَتْ الطَّائِفَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ مَكَانَ الطَّائِفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَتَأَخَّرَتْ الْمُتَقَدِّمَةُ. قَوْلُهُ: (فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ) إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ: وَحَدِيثُ جَابِرٍ وَأَبِي بَكْرَةَ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ مِنْ صِفَاتِ صَلَاةِ الْخَوْفِ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ بِكُلِّ

(1/461)


طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ فَيَكُونُ مُفْتَرِضًا فِي رَكْعَتَيْنِ وَمُتَنَفِّلًا فِي رَكْعَتَيْنِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَكَذَلِكَ الْمَغْرِبِ ليَكُون لِلْإِمَامِ سِتُّ رَكَعَاتٍ وَلِلْقَوْمِ ثَلَاثٌ انْتَهَى. وَهُوَ قِيَاسٌ صَحِيحٌ. . قَوْلُهُ: (فَقَامَ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ فَقَامَتْ مَعَهُ طَائِفَةٌ، وَطَائِفَةٌ أُخْرَى مُقَابِلَ الْعَدُوِّ وَظُهُورُهُمْ إلَى الْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ فَكَبَّرُوا جَمِيعًا) إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ فِيهِ أَنَّ مِنْ صِفَةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ أَنْ تَدْخُلَ الطَّائِفَتَانِ مَعَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ جَمِيعًا، ثُمَّ تَقُومُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ وَتُصَلِّي مَعَهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً ثُمَّ يَذْهَبُونَ فَيَقُومُونَ وِجَاهَ الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَتُصَلِّي لَنَفْسِهَا رَكْعَةً وَالْإِمَامُ قَائِمٌ، ثُمَّ يُصَلِّي بِهِمْ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مَعَهُ، ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الْقَائِمَةُ فِي وِجَاهَ الْعَدُوِّ فَيُصَلُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً وَالْإِمَامُ قَاعِدٌ، ثُمَّ يُسَلِّم الْإِمَام وَيُسَلِّمُونَ جَمِيعًا. قَوْلُهُ: (فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً، وَلَمْ يَقْضُوا) . قَالَ الشَّارِحُ: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ صِفَةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ الِاقْتِصَارُ عَلَى رَكْعَةٍ لِكُلِّ طَائِفَةٍ. فَائِدَةٌ: وَقَعَ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ صَلاةَ الْمَغْرِبَ لا يَدْخُلُهَا قَصْرٌ وَوَقَعَ الْخِلافَ هَلْ الأَوْلَى أَنْ يُصَلِّي الإِمَامُ بِالطَّائِفَةِ الأُولَى ثَنْتَيْنِ وَالثَّانِيَةِ وَاحِدَةٌ أَوِ الْعَكْسِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ أَخَذَ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ صَلاةِ الْخَوْفِ الْوَارِدَةِ عَنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الأَنْوَاعِ الثَّابِتَةِ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ بْن حَنْبَلٍ: لا أَعْلَمُ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثًا إِلا صَحِيحًا. وَقَالَ الْخَطَّابِي: صَلاةُ الْخَوْفِ أَنْوَاعٌ صَلاهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَيَّامٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَشْكَالٍ مُتَبَايِنَةٍ يَتَحَرَّى فِي كُلِّهَا مَا هُوَ أَحْوَطُ لِلصَّلاةِ وَأَبْلَغُ فِي الْحِرَاسَةِ فَهِيَ عَلَى اخْتِلافِ صُوَرِهَا مُتَّفَقَةُ الْمَعْنَى. وَقَالَ أَحْمَدٌ: ثَبَتَ فِي صَلاةِ الْخَوْفِ سِتَّة أَحَادِيثِ أَوْ سَبْعَةٍ أَيُّهَا فَعَلَ الْمَرْءِ جَازَ وَمَالَ إِلَى تَرْجِيحِ حَدِيثِ سَهْلِ بن أَبِي خَيْثَمَةْ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ الصَّلَاةِ فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ بِالْإِيمَاءِ وَهَلْ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا أَمْ لَا؟ 1712- عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَصَفَ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَقَالَ: وَإِنْ

(1/462)


كَانَ خَوْفٌ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ فَرِجَالًا وَرُكْبَانًا. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. 1713- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٌ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ الْهُذَلِيِّ وَكَانَ نَحْوَ عَرنةَ وَعَرَفَاتٍ، فَقَالَ: «اذْهَبْ فَاقْتُلْهُ» . قَالَ: فَرَأَيْتُهُ وحَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَقُلْتُ: إنِّي لَأَخَافُ أَنْ يَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ، فَانْطَلَقْتُ أَمْشِي وَأَنَا أُصَلِّي أُومِئُ إيمَاءً نَحْوَهُ، فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ قَالَ لِي: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَجْمَعُ لِهَذَا الرَّجُلِ فَجِئْتُكَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إنِّي لَفِي ذَلِكَ، فَمَشِيتُ مَعَهُ سَاعَةً، حَتَّى إذَا أَمْكَنَنِي عَلَوْتُهُ بِسَيْفِي حَتَّى بَرَدَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 1714- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَادَى فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ انْصَرَفَ عَنْ الْأَحْزَابِ أَنْ لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَتَخَوَّفَ نَاسٌ فَوْتَ الْوَقْتِ فَصَلَّوْا دُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا نُصَلِّي إلَّا حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنْ فَاتَنَا الْوَقْتُ، قَالَ: فَمَا عَنَّفَ وَاحِدًا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 1715- وَفِي لَفْظٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْأَحْزَابِ قَالَ: لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمْ الْعَصْرَ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ مِنَّا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُعَنِّفْ أحدًا مِنْهُمْ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ اسْتَدَلَّ بِهِمَا عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عِنْدَ شِدَّةِ الْخَوْفِ بِالْإِيمَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ الْعِلْمَ يَقُولُ: إنَّ الْمَطْلُوبَ يُصَلِّي عَلَى دَابَّتِهِ يُومِئُ إيمَاءً، وَإِنْ كَانَ طَالِبًا نَزَلَ فَصَلَّى بِالْأَرْضِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: إلَّا أَنْ يَنْقَطِعَ عَنْ أَصْحَابِهِ فَيَخَافُ عَوْدَ الْمَطْلُوبِ عَلَيْهِ فَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إذَا خَافَ الطَّالِبُونَ إنْ نَزَلُوا الْأَرْضَ فَوْتَ الْعَدُوِّ صَلَّوْا حَيْثُ وُجِّهُوا عَلَى كُلِّ حَالٍ. قَوْلُهُ: (نَادَى فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ انْصَرَفَ عَنْ الْأَحْزَابِ أَنْ لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ) إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ اسْتَدَلَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ بِالْإِيمَاءِ وَحَالَ الرُّكُوبِ. قَالَ الْحَافِظُ:

(1/463)


وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَوِيَّةِ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ أَخَّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى وَصَلُوا إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ لَمْ يُعَنَّفُوا مَعَ كَوْنِهِمْ فَوَّتُوا الْوَقْتَ، وَصَلَاةُ مِنْ لَا يُفَوِّتُ الْوَقْتَ بِالْإِيمَاءِ أَوْ كَيْفَمَا يُمْكِنْ أُولَى مِنْ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا. انْتَهَى.

(1/464)


أَبْوَابُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ بَابُ النِّدَاءِ لَهَا وَصِفَتُهَا 1716- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: لَمَّا كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نُودِيَ أَنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ، فَرَكَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَيْنِ فِي سَجْدَةٍ، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي سَجْدَةٍ، ثُمَّ جُلِّيَ عَنْ الشَّمْسِ قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَكَعْتُ رُكُوعًا قَطُّ وَلَا سَجَدْتُ سُجُودًا قَطُّ، كَانَ أَطْوَلَ مِنْهُ. 1717- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خُسِفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَبَعَثَ مُنَادِيًا: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، فَقَامَ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ. 1718- وَعَنْ عَائِشَةَ عَنْهَا قَالَتْ: خَسَفَتْ الشَّمْسُ فِي حَيَاةِ ... رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى الْمَسْجِدِ، فَقَامَ فَكَبَّرَ وَصَفَّ النَّاسُ وَرَاءَهُ، فَاقْتَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا هُوَ أَدْنَى مِنْ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ» . ثُمَّ قَامَ فَاقْتَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً هِيَ أَدْنَى مِنْ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا هُوَ أَدْنَى مِنْ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ» . ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى اسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، وَانْجَلَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ، ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: «إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ» .

(1/465)


1719- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَسَفَتْ الشَّمْسُ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتْ الشَّمْسُ فَقَالَ: «إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يُخْسَفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ» . مُتَّفَقٌ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ. 1720- وَعَنْ أَسْمَاءَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ، فَأَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ ثُمَّ رَفَعَ، ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ رَفَعَ، ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ انْصَرَفَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 1721- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ فَأَطَالَ الْقِيَامَ حَتَّى جَعَلُوا يَخِرُّونَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ، ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ قَامَ فَصَنَعَ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ فَكَانَتْ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (رَكْعَتَيْنِ فِي سَجْدَةٍ) . الْمُرَادُ بِالسَّجْدَةِ هُنَا الرَّكْعَة بِتَمَامِهَا، وَبِالرَّكْعَتِينِ الرُّكُوعَانِ. قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ) . فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْخُطْبَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْكُسُوفِ. قَوْلُهُ: (فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْمُبَادَرَةِ وَأَنَّهُ لَا وَقْتَ لِصَلَاةِ الْكُسُوفِ مَعِينٌ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عُلِّقَتْ بِرُؤْيَةِ الشَّمْسِ أَوْ الْقَمَرِ، وَهِيَ مُمْكِنَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ. قَالَ: وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ تَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ رَكْعَتَانِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ.

(1/466)


قَوْلُهُ: (ثُمَّ رَفَعَ ثُمَّ سَجَدَ) لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ تَطْوِيلُ الرَّفْعِ الَّذِي يَتَعَقَّبُهُ السُّجُودُ. وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِلَفْظِ: (ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ ثُمَّ سَجَدَ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: هِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ. وَتُعُقِّبَ بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَفِيهِ: «ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ حَتَّى قِيلَ: لَا يَرْفَعُ، ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ حَتَّى قِيلَ: لَا يَسْجُدُ، ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ حَتَّى قِيلَ: لَا يَرْفَعُ، ثُمَّ رَفَعَ فَجَلَسَ فَأَطَالَ الْجُلُوسَ حَتَّى قِيلَ: لَا يَسْجُدُ، ثُمَّ سَجَدَ) . بَاب مِنْ أَجَازَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلَاثَةَ رُكُوعَاتٍ وَأَرْبَعَةً وَخَمْسَةً 1722- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى سِتَّ رَكَعَاتٍ بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 1723- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهُ صَلَّى فِي كُسُوفٍ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ ثُمَّ قَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ وَالْأُخْرَى مِثْلُهَا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1724- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى سِتَّ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ. 1725- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فِي كُسُوفٍ، فقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ قَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ قَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ، وَالْأُخْرَى مِثْلُهَا. 1726- وَفِي لَفْظٍ: صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ. رَوَى ذَلِكَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 1727- وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى بِهِمْ فَقَرَأَ بِسُورَةٍ مِنْ الطُّوَلِ، وَرَكَعَ خَمْسَ رَكَعَاتٍ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ إلَى الثَّانِيَةِ فَقَرَأَ بِسُورَةِ مِنْ الطُّوَلِ وَرَكَعَ خَمْسَ رَكَعَاتٍ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ كَمَا هُوَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ يَدْعُو حَتَّى انْجَلَى كُسُوفُهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي الْمُسْنَدِ. 1728، 1729، 1730- وَقَدْ رُوِيَ بِأَسَانِيدَ حِسَانٍ مِنْ حَدِيثِ

(1/467)


سَمُرَةَ وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّاهَا رَكْعَتَيْنِ كُلَّ رَكْعَةٍ بِرُكُوعٍ. 1731- وَفِي حَدِيثِ قَبِيصَةَ الْهِلَالِيِّ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَصَلُّوهَا كَأَحْدَثِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا مِنْ الْمَكْتُوبَةِ» . وَالْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ كُلِّهِ لِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ. وَالْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ بِتَكْرَارِ الرُّكُوعِ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلَاثَةُ رُكُوعَاتٍ. قَالَ: وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ صِفَاتِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ رَكْعَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ أَرْبَعَةُ رُكُوعَاتٍ. قَالَ: وَقَدْ احْتَجَّ بِحَدِيثِ أُبَيٍّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ رَكْعَتَانِ فِي كُلّ رَكْعَةٍ خمسةُ رُكُوعَاتٍ. قَالَ: وَقَدْ احْتَجَّ بِحَدِيثِ قَبِيصَةَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ رَكْعَتَانِ بِرُكُوعٍ وَاحِدٍ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَدْ قَالَ بِكُلِّ نَوْعٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرُّ: أَصَحُّ مَا فِي الْبَابِ رُكُوعَانِ وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ فَمُعَلَّلٌ أَوْ ضَعِيفٌ. وَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ، وَنَقَلَ صَاحِبُ الهدي عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدٍ وَالْبُخَارِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ الزِّيَادَةَ عَلَى الرُّكُوعَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ غَلَطًا مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ لأَنَّ أَكْثَرَ طُرُقِ الْحَدِيثِ يُمْكِنُ رَدَّ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ وَيَجْمَعُهَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ مَوْتِ إِبْرَاهِيمِ، وَإِذَا اتَّحَدَتِ الْقِصَّةُ تَعَيَّنَ الأَخْذ بِالرَّاجِحِ، وَلا شَكَّ أَنَّ أَحَادِيثَ الرُّكُوعَيْنِ أَصَحُّ. وَاللهُ أَعْلَمُ. بَابُ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ 1732- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَهَرَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ. أَخْرَجَاهُ. 1733- وَفِي لَفْظِ: صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ فَجَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1734- وَفِي لَفْظِ قَالَت: خَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -

(1/468)


فَأَتَى الْمُصَلَّى فَكَبَّرَ فَكَبَّرَ النَّاسُ، ثُمَّ قَرَأَ فَجَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ وَأَطَالَ الْقِيَامَ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1735- وَعَنْ سَمُرَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي كُسُوفٍ رَكْعَتَيْنِ لَا نَسْمَعُ لَهُ فِيهَا صَوْتًا. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعهُ لِبُعْدِهِ؛ لِأَنَّ فِي رِوَايَةٍ مَبْسُوطَةٍ لَهُ: أَتَيْنَا وَالْمَسْجِدُ قَدْ امْتَلَأَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الْجَهْرِ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ. بَابُ الصَّلَاةِ لِخُسُوفِ الْقَمَرِ فِي جَمَاعَةٍ مُكَرَّرَةِ الرُّكُوعِ 1736- عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا كَذَلِكَ فَافْزَعُوا إلَى الْمَسَاجِدِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1737- وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: خُسِفَ الْقَمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَمِيرٌ عَلَى الْبَصْرَةِ، فَخَرَجَ فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ فِي كُلّ رَكْعَةٍ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكِبَ وَقَالَ: إنَّمَا صَلَّيْتُ كَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى مَشْرُوعِيَّة التَّجْمِيعِ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّبْوِيبِ عَلَى ذِكْرِ الْقَمَرِ؛ لِأَنَّ التَّجْمِيعَ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ مَعْلُومٌ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ تُسَنُّ الْجَمَاعَةُ فِيهِمَا. بَابُ الْحَثِّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالذِّكْرِ فِي الْكُسُوفِ وَخُرُوجِ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِالتَّجَلِّي 1738- عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: لَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْعَتَاقَةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ.

(1/469)


1739- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يُخْسَفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوا وَتَصَدَّقُوا وَصَلُّوا» . 1740- وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: خَسَفَتْ الشَّمْسُ فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى وَقَالَ: «إذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ» . 1741- وَعَنْ الْمُغِيرَةِ قَالَ: انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ مَاتَ إبْرَاهِيمُ، فَقَالَ النَّاسُ: انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللَّهَ تَعَالَى وَصَلُوا حَتَّى يَنْجَلِيَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّة الْإِعْتَاقِ عِنْدَ الْكُسُوفِ. وَالْحَثُّ عَلَى الدُّعَاءِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّصَدُّقِ وَالصَّلَاةِ وَالذَّكَرِ وَالِاسْتِغْفَارِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَدْفَعُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْبَلَاءَ.

(1/470)


 كِتَابُ الِاسْتِسْقَاءِ

1742- عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي حَدِيثٍ لَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَمْ يُنْقِصْ قَوْمٌ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ وَلا يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. 1743- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: شَكَا النَّاسُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُحُوطَ الْمَطَرِ، فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ فَوُضِعَ لَهُ فِي الْمُصَلَّى، وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ؛ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَكَبَّرَ وَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ قَالَ: إنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ وَاسْتِئْخَارَ الْمَطَرِ عَنْ إبَّانِ زَمَانِهِ عَنْكُمْ، وَقَدْ أَمَرَكُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَدْعُوهُ، وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ، ثُمَّ قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُمَّ أَنْتَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ، وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلَتْ لَنَا قُوَّةً وَبَلَاغًا إلَى حِينٍ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي الرَّفْعِ حَتَّى بَدَا بَيَاضُ إبْطَيْهِ، ثُمَّ حَوَّلَ إلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ، وَقَلَبَ أَوْ حَوَّلَ رِدَاءَهُ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، وَنَزَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَأَنْشَأَ اللَّهُ تَعَالَى سَحَابَةً، فَرَعَدَتْ وَبَرَقَتْ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَأْتِ مَسْجِدَهُ حَتَّى سَالَتْ السُّيُولُ؛ فَلَمَّا رَأَى سُرْعَتَهُمْ إلَى الْكِنِّ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ فَقَالَ: «أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

(1/471)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (لَمْ يَنْقُصْ قَوْمٌ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ) إلَى آخِرِهِ. فِيهِ أَنَّ نَقْصَ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ سَبَبٌ لِلْجَدْبِ وَشِدَّةِ الْمُؤْنَةِ وَجَوْرِ السَّلَاطِينِ، وَأَنَّ مَنْعَ الزَّكَاةِ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِمَنْعِ قَطْرِ السَّمَاءِ، وَأَنَّ نُزُولَ الْغَيْثِ عِنْدَ وُقُوعِ الْمَعَاصِي إنَّمَا هُوَ رَحْمَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِلْبَهَائِمِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: «مَهْلًا عَنْ اللَّهِ مَهْلًا فَإِنَّهُ لَوْلَا شَبَابٌ خُشَّعٌ وَبَهَائِمُ رُتَّعٌ وَأَطْفَالٌ رُضَّعٌ لَصُبَّ عَلَيْكُمْ الْعَذَابُ صَبًّا» . انْتَهَى. ملخصًا. قَوْلُهُ: (فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ) إلَى آخِرِهِ. فِيهِ اسْتِحْبَابُ الصُّعُودِ عَلَى الْمِنْبَرِ لِخُطْبَةِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْخُرُوجِ لِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ لَا وَقْتَ لَهَا مُعَيَّنٌ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ أَحْكَامِهَا كَالْعِيدِ، لَكِنَّهَا مُخَالِفَةٌ بِأَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِيَوْمٍ مُعَيَّنٍ. وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا لَا تُصَلَّى فِي وَقْتِ الْكَرَاهَةِ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْمُبَالَغَةِ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الِاسْتِسْقَاءِ، وَاسْتِحْبَابُ اسْتِقْبَالِ الْخَطِيبِ عِنْدَ تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ الْقِبْلَةَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ صِفَةِ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَجَوَازُهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ وَبَعْدَهَا 1744- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا يَسْتَسْقِي، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ، ثُمَّ خَطَبَنَا وَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ رَافِعًا يَدَيْهِ، ثُمَّ قَلَبَ رِدَاءَهُ فَجَعَلَ الْأَيْمَنَ عَلَى الْأَيْسَرِ، وَالْأَيْسَرَ عَلَى الْأَيْمَنِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 1745- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى الْمُصَلَّى فَاسْتَسْقَى وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ حِينَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1746- وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ: رَأَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ خَرَجَ يَسْتَسْقِي قَالَ: فَحَوَّلَ إلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَدْعُو، ثُمَّ حَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 1747- وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَهْرَ بِالْقِرَاءَةِ) .

(1/472)


1748- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ فَقَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَوَاضِعًا مُتَبَذِّلًا مُتَخَشِّعًا مُتَضَرِّعًا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيدِ لَمْ يَخْطُبْ خُطْبَتَكُمْ هَذِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. 1749- وَفِي رِوَايَةٍ: خَرَجَ مُتَبَذِّلًا مُتَوَاضِعًا مُتَضَرِّعًا حَتَّى أَتَى الْمُصَلَّى فَرَقَى الْمِنْبَرَ وَلَمْ يَخْطُبْ خُطْبَتَكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّكْبِيرِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَكَذَلِكَ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، لَكِنْ قَالَا: وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ التِّرْمِذِيُّ رُقِيَّ الْمِنْبَرِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ فِي تَقْدِيمِ الْخُطْبَةِ عَلَى الصَّلَاةِ أَوْ الْعَكْسِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُعْتَضَدُ الْقَوْلُ بِتَقْدِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى الْخُطْبَةِ بِمُشَابَهَتِهَا لِلْعِيدِ وَكَذَا مَا تَقَرَّرَ مِنْ تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ أَمَامَ الْحَاجَةِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا اخْتَلَفَ مِنْ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - بَدَأَ بِالدُّعَاءِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَطَبَ فَاقْتَصَرَ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَلَى شَيْءٍ، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ بِالدُّعَاءِ عَنْ الْخُطْبَةِ فَلِذَلِكَ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ الشُّرُوعُ بِالصَّلَاةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَبِهِ قَالَ الْجَمَاهِيرُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ قَدَّمَ الْخُطْبَةَ عَلَى الصَّلَاةِ صَحَّتَا، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ كَصَلَاةِ الْعِيدِ وَخُطْبَتِهَا. قَالَ الشَّارِحُ: وَجَوَازُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بِلَا أَوْلَوِيَّةٍ هُوَ الْحَقُّ. قَوْلُهُ: (مُتَبَذِّلًا) أَيْ لَابِسًا لِثِيَابِ الْبِذْلَةِ تَارِكًا لِثِيَابِ الزِّينَةِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ: (مُتَخَشِّعًا) أَيْ مُظْهِرًا لِلْخُشُوعِ لِيَكُونَ ذَلِكَ وَسِيلَةً إلَى نَيْلِ مَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَوْلُهُ: (مُتَضَرِّعًا) أَيْ مُظْهِرًا لِلضَّرَاعَةِ وَهِيَ التَّذَلُّلُ عِنْدَ طَلَبِ الْحَاجَةِ. بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ بِذَوِي الصَّلَاحِ وَإِكْثَارِ الِاسْتِغْفَارِ وَرَفْعِ الْأَيْدِي بِالدُّعَاءِ وَذِكْرِ أَدْعِيَةٍ مَأْثُورَةٍ فِي ذَلِكَ 1750- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إذَا قَحَطُوا، اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ ابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - فَتُسْقِينَا،

(1/473)


وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيَّكَ فَاسْقِنَا، قَالَ: فَيُسْقَوْنَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ يَسْتَسْقِي، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ، فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَاكَ اسْتَسْقَيْتَ، فَقَالَ: لَقَدْ طَلَبْتُ الْغَيْثَ بِمَجَادِيحِ السَّمَاءِ الَّذِي يُسْتَنْزَلُ بِهِ الْمَطَرُ، ثُمَّ قَرَأَ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} . {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ} . رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ. 1751- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إلَّا فِي الِاسْتِسْقَاءِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إبْطَيْهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ 1752- وَلِمُسْلِمٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَسْقَى فَأَشَارَ بِظَهْرِ كَفِّهِ إلَى السَّمَاءِ. 1753- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الْمَاشِيَةُ، وَهَلَكَتْ الْعِيَالُ، وَهَلَكَ النَّاسُ؛ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَيهُ يَدْعُو، وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ مَعَهُ يَدْعُونَ؛ قَالَ: فَمَا خَرَجْنَا مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى مُطِرْنَا. مُخْتَصَرٌ مَنْ الْبُخَارِيِّ. 1754- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ جِئْتُكَ مِنْ عِنْدِ قَوْمٍ مَا يَتَزَوَّدُ لَهُمْ رَاعٍ، وَلَا يَخْطِرُ لَهُمْ فَحْلٌ، فَصَعِدَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا مَرِيئًا مَرِيعًا طَبَقًا غَدَقًا عَاجِلًا غَيْرَ رَائِثٍ» . ثُمَّ نَزَلَ فَمَا يَأْتِيهِ أَحَدٌ مِنْ وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ إلَّا قَالُوا: قَدْ أُحْيِينَا. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. 1755- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا اسْتَسْقَى قَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِ عِبَادَكَ وَبَهَائِمَك، وَانْشُرْ رَحْمَتَك وَأَحْيِ بَلَدَك الْمَيِّتَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 1756- وَعَنْ الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْمَطَرِ: ... «اللَّهُمَّ سُقْيَا رَحْمَةٍ، وَلَا سُقْيَا عَذَابٍ، وَلَا بَلَاءٍ، وَلَا هَدْمٍ، وَلَا غَرَقٍ، اللَّهُمَّ عَلَى الظِّرَابِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ؛ اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَهُوَ مُرْسَلٌ.

(1/474)


قَوْلُهُ: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إذَا قَحَطُوا، اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَقَدْ بَيَّنَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارَ صِفَةَ مَا دَعَا بِهِ الْعَبَّاسُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ فَأَخْرَجَ بِإِسْنَادِهِ: «أَنَّ الْعَبَّاسَ لَمَّا اسْتَسْقَى بِهِ عُمَرُ قَالَ: اللَّهُمَّ إنَّهُ لَا يَنْزِلُ بَلَاءٌ إلَّا بِذَنْبٍ وَلَمْ يُكْشَفْ إلَّا بِتَوْبَةٍ، وَقَدْ تَوَجَّهَ بِي الْقَوْمُ إلَيْكَ لِمَكَانِي مِنْ نَبِيِّكَ وَهَذِهِ أَيْدِينَا إِلَيْكَ بِالذُّنُوبِ، وَنَوَاصِينَا إلَيْك بِالتَّوْبَةِ، فَاسْقِنَا الْغَيْثَ؛ فَأَرْخَتْ السَّمَاءُ مِثْلَ الْجِبَالِ حَتَّى أَخْصَبَتْ الْأَرْضُ وَعَاشَ النَّاسُ) . قَالَ: وَيُسْتَفَادُ مِنْ قِصَّةِ الْعَبَّاسِ اسْتِحْبَابُ الِاسْتِشْفَاعِ بِأَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ وَأَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، وَفِيهِ فَضْلُ الْعَبَّاسِ وَفَضْلُ عُمَرَ لِتَوَاضُعِهِ لِلْعَبَّاسِ وَمَعْرِفَتِهِ بِحَقِّهِ. قَوْلُهُ: (كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إلَّا فِي الِاسْتِسْقَاءِ) إلى آخرِهِ. قَالَ الشَّارِحُ: ظَاهِرُهُ نَفْيُ الرَّفْعِ فِي كُلِّ دُعَاءٍ غَيْرَ الِاسْتِسْقَاءِ، وَهُوَ مُعَارِضٌ لِلْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ فِي الرَّفْعِ فِي غَيْرِ الِاسْتِسْقَاءِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ، فَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِهَا أَوْلَى، وَحُمِلَ حَدِيثُ أَنَسٍ عَلَى نَفْيِ رُؤْيَتِهِ وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ رُؤْيَةِ غَيْرِهِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى تَأْوِيلِ حَدِيثِ أَنَسٍ لِأَجْلِ الْجَمْعِ بِأَنْ يُحْمَلَ النَّفْيُ عَلَى جِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ: إمَّا عَلَى الرَّفْعِ الْبَلِيغِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: «حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إبْطَيْهِ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ غَالِبَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ. إنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا مَدُّ الْيَدَيْنِ وَبَسْطُهُمَا عِنْدَ الدُّعَاءِ، وَكَأَنَّهُ عِنْدَ الِاسْتِسْقَاءِ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَرَفَعَهُمَا إلَى جِهَةِ وَجْهِهِ حَتَّى حَاذَتَاهُ وَحِينَئِذٍ يُرَى بَيَاضُ إبْطَيْهِ، وَإِمَّا عَلَى صِفَةِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ وَلِأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: «كَانَ يَسْتَسْقِي هَكَذَا وَمَدَّ يَدَيْهِ وَجَعَلَ بُطُونَهُمَا مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إبْطَيْهِ» . قَوْلُهُ: (فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَيْهُ يَدْعُو) - صلى الله عليه وسلم -. زَادَ مُسْلِمٌ: حِذَاءَ وَجْهِهِ. وَزَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا فِي الْأَدَبِ فَنَظَرَ إلَى السَّمَاءِ. قَوْلُهُ: (فَأَشَارَ بِظَهْرِ كَفِّهِ إلَى السَّمَاءِ) قَالَ فِي الْفَتْحِ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: السُّنَّةُ فِي كُلِّ دُعَاءٍ لِرَفْعِ بَلَاءٍ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ جَاعِلًا ظَهْرَ كَفَّيْهِ إلَى السَّمَاءِ، وَإِذَا دَعَا بِحُصُولِ شَيْءٍ أَوْ تَحْصِيلِهِ أَنْ يَجْعَلَ بَطْنَ كَفَّيْهِ إلَى السَّمَاءِ.

(1/475)


بَابُ تَحْوِيلِ الْإِمَامِ وَالنَّاسِ أَرْدِيَتَهُمْ فِي الدُّعَاءِ وَصِفَتِهِ وَوَقْتِهِ 1757- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ اسْتَسْقَى لَنَا أَطَالَ الدُّعَاءَ وَأَكْثَرَ الْمَسْأَلَةَ قَالَ: ثُمَّ تَحَوَّلَ إلَى الْقِبْلَةِ وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ فَقَلَبَهُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ وَتَحَوَّلَ النَّاسُ مَعَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1758- وَفِي رِوَايَةٍ: خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا يَسْتَسْقِي فَحَوَّلَ رِدَاءَهُ وَجَعَلَ عِطَافَهُ الْأَيْمَنَ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ، وَجَعَلَ عِطَافَهُ الْأَيْسَرَ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ. 1759- وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَسْقَى وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ لَهُ سَوْدَاءُ، فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ أَسْفَلَهَا فَيَجْعَلَهُ أَعْلَاهَا، فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ، فَقَلَبَهَا الْأَيْمَنَ عَلَى الْأَيْسَرِ، وَالْأَيْسَرَ عَلَى الْأَيْمَنِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ اسْتِحْبَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ حَالَ تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ، وَمَحَلُّهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْخُطْبَةِ وَإِرَادَةِ الدُّعَاءِ. قَوْلُهُ: «وَتَحَوَّلَ النَّاسُ مَعَهُ» هَكَذَا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَرَوَاهُ غَيْرُهُ بِلَفْظِ «وَحَوَّلَ» وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ اسْتِحْبَابِ تَحْوِيلِ النَّاسِ بِتَحْوِيلِ الْإِمَامِ. بَابُ مَا يَقُولُ وَمَا يَصْنَعُ إذَا رَأَى الْمَطَرَ وَمَا يَقُولُ إذَا كَثُرَ جِدًّا 1760 - عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا رَأَى الْمَطَرَ قَالَ: ... «اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. 1761 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَطَرٌ، قَالَ: فَحَسِرَ ثَوْبَهُ حَتَّى أَصَابَهُ مِنْ الْمَطَرِ، فَقُلْنَا: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ قَالَ: «لِأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 1762- وَعَنْ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ جُمُعَةٍ مِنْ بَابٍ كَانَ نَحْوَ دَارِ الْقَضَاءِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَائِمٌ يَخْطُبُ،

(1/476)


فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَائِمًا ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الْأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ يُغِثْنَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا» . قَالَ أَنَسٌ: وَلَا وَاَللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَزَعَةٍ وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلَا دَارٍ، قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَاءَهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ: فَلَمَّا تَوَسَّطَتْ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ، قَالَ: فَلَا وَاَللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْتًا قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَائِمًا يَخْطُبُ. فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الْأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا عَنَّا؛ قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: ... «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ» . قَالَ: فَانْقَلَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ، قَالَ شَرِيكٌ: فَسَأَلْتُ أَنَسًا أَهُوَ الرَّجُلُ الْأَوَّلُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لِأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ» . قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَيْ بِتَكْوِينِ رَبِّهِ إيَّاهُ. قَوْلُهُ: (إِنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ جُمُعَةٍ) إِلَى آخرِهِ. قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا اتَّفَقَ وُقُوعُ الِاسْتِسْقَاءِ يَوْمَ جُمُعَةٍ انْدَرَجَتْ خُطْبَةُ الِاسْتِسْقَاءِ وَصَلَاتِهَا فِي الْجُمُعَةِ. قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ: جَوَازُ الْمُكَالَمَةِ مِنْ الْخَطِيبِ حَالَ الْخُطْبَةِ وَتَكْرَارِ الدُّعَاءِ وَإِدْخَالِ الِاسْتِسْقَاءِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَالدُّعَاءِ بِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَتَرْكِ تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ وَالِاسْتِقْبَالِ. وَفِيهِ عِلْمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ.

(1/477)


 كِتَابُ الْجَنَائِزِ

بَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ 1763- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلَامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1764- وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الْمُسْلِمَ إذَا عَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ لَمْ يَزَلْ فِي مُخْرَفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ. 1765- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إذَا عَادَ الْمُسْلِمُ أَخَاهُ مَشَى فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسَ، فَإِذَا جَلَسَ غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ، فَإِنْ كَانَ غَدْوَةً صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ كَانَ مَسَاءً صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَأَبِي دَاوُد نَحْوُهُ. 1766- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَعُودُ مَرِيضًا إلَّا بَعْدَ ثَلَاثٍ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. 1767- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: عَادَنِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِعَيْنِي. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «حَقُّ الْمُسْلِمِ» أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي

(1/478)


تَرْكُهُ وَيَكُونُ فِعْلُهُ إمَّا وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا نَدْبًا مُؤَكَّدًا شَبِيهًا بِالْوَاجِبِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمُرَادُ بِالْحَقِّ هُنَا الْحُرْمَةُ وَالصُّحْبَةُ. قَالَ الشَّارِحُ: قَوْلُهُ: (وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ) . فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّة عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَجَزَمَ الْبُخَارِيُّ بِوُجُوبِهَا فَقَالَ: بَابُ وَجُوَبِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ بِالنَّدْبِ، وَقَدْ تَصِلُ إلَى الْوُجُوبِ فِي حَقِّ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ. قَوْلُهُ: «إنَّ الْمُسْلِمَ إذَا عَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ لَمْ يَزَلْ فِي مُخْرَفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ» . قَالَ الشَّارِحُ: مَخْرَفَة بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى زِنَةِ مَرْحَلَةٍ وَهِيَ الْبُسْتَانُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الطَّرِيقِ اللَّاحِبِ: أَيْ الْوَاضِحِ. وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ: «لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ» . وَيُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ لِلْمَرِيضِ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ فَقَالَ عِنْدَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَك، إلَّا عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ» . بَابُ مَنْ كَانَ آخِرُ قَوْلِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَتَلْقَيْنِ الْمُحْتَضَرِ وَتَوْجِيهِهِ وَتَغْمِيضِ الْمَيِّتِ وَالْقِرَاءَةِ عِنْدَهُ 1768- عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ كَانَ آخِرُ قَوْلِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 1769- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ. 1770- وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْكَبَائِرُ؟ قَالَ: «هِيَ سَبْعٌ» . فَذَكَرَ مِنْهَا: وَاسْتِحْلَالُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ قِبْلَتِكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا «. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 1771- وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا حَضَرْتُمْ مَوْتَاكُمْ فَأَغْمِضُوا الْبَصَرَ، فَإِنَّ الْبَصَرَ يَتْبَعُ الرُّوحَ، وَقُولُوا خَيْرًا فَإِنَّهُ يُؤَمَّنُ عَلَى مَا قَالَ أَهْلُ الْمَيِّتِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ.

(1/479)


1772- وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اقْرَءُوا يس عَلَى مَوْتَاكُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 1773- وَأَحْمَدُ، وَلَفْظُهُ: «يس قَلْبُ الْقُرْآنِ لَا يَقْرَؤُهَا رَجُلٌ يُرِيدُ اللَّهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ إلَّا غُفِرَ لَهُ وَاقْرَءُوهَا عَلَى مَوْتَاكُمْ» . قَوْلُهُ: «مَنْ كَانَ آخِرُ قَوْلِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى نَجَاةِ مَنْ كَانَ آخِرُ قَوْلِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مِنْ النَّارِ، وَاسْتِحْقَاقُهُ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ. قَوْلُهُ: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» . قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَجْمَعُ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا التَّلْقِينِ وَكَرِهُوا الْإِكْثَارَ عَلَيْهِ وَالْمُوَالَاةَ لِئَلَّا يَضْجَرَهُ لِضِيقِ حَالِهِ وَشِدَّةِ كَرْبِهِ فَيَكْرَهُ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ أَوْ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ لَا يَلِيقُ، قَالُوا: وَإِذَا قَالَهُ مَرَّةً لَا يُكَرَّرُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بَعْدَهُ بِكَلَامٍ آخَرَ فَيُعَادُ التَّعْرِيضُ لَهُ بِهِ لِيَكُونَ آخِرُ كَلَامِهِ. قَوْلُهُ: «وَاسْتِحْلَالُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ قِبْلَتِكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا» . قَالَ الشَّارِحُ: استدل بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّة تَوْجِيه الْمُحْتضِر إلَى الْقِبْلَةِ. وَالْأَوْلَى الاستدلال بِمَا رَواهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ البراء بن معرور أَوْصَى أن يوجه للقبلة إذا اختضر، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أصاب الفِطرة» . قَوْلُهُ: «إذَا حَضَرْتُمْ مَوْتَاكُمْ فَأَغْمِضُوا الْبَصَرَ» . الْحَدِيث. قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ أَنَّ تَغْمِيضَ الْمَيِّتِ عِنْدَ مَوْتِهِ مَشْرُوعٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ. قَالُوا: وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنْ لَا يُقَبَّحَ مَنْظَرُهُ. قَوْلُهُ: «اقْرَءُوا يس عَلَى مَوْتَاكُمْ» . قَالَ الشَّارِحُ: قَالَ أَحْمدٌ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَة حَدَّثَنَا صَفْوَانُ قَالَ: كَانَتْ المَشْيَخةُ يَقُولُونَ: إِذَا قُرِئَتْ يَعْنِي يَس لِمَيْتٍ خُفِفَ عَنْهُ بِهَا. وأّسندَ صاحِبُ الفردوس من طريق مروان بن سالم عن صفوان بن عمرو عن شريح عن أبي الدرداء وأبي ذر قالا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ مَيْت يَمُوت فَيُقْرَأ عِنْدَهُ يس إلا هَوَّنَ اللهُ عَلَيْهِ» .

(1/480)


بَابُ الْمُبَادَرَةِ إلَى تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ وَقَضَاءِ دَيْنِهِ 1774- عَنْ الْحُصَيْنِ بْنِ وَحْوَحٍ: أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ الْبَرَاءِ مَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُهُ، فَقَالَ: «إنِّي لَا أَرَى طَلْحَةَ إلَّا قَدْ حَدَثَ فِيهِ الْمَوْتُ فَآذِنُونِي بِهِ وَعَجِّلُوا، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مُسْلِمٍ أَنْ تُحْبَسَ بَيْنَ ظَهْرَيْ أَهْلِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 1775- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّة التَّعْجِيلِ بِالْمَيِّتِ وَالْإِسْرَاعِ فِي تَجْهِيزِهِ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ» . قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ الْحَثُّ لِلْوَرَثَةِ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ» . بَابُ تَسْجِيَةِ الْمَيِّتِ وَالرُّخْصَةِ فِي تَقْبِيلِهِ 1776- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ تُوُفِّيَ سُجِّيَ بِبُرْدٍ حِبَرَةٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1777- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُسَجًّى بِبُرْدِهِ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ وَأَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. 1778- وَعَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَبَّلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ مَوْتِهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. 1779- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ

(1/481)


وَهُوَ مَيِّتٌ، حَتَّى رَأَيْتُ الدُّمُوعَ تَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَسْجِيَةِ الْمَيِّتِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَحِكْمَتُهُ صِيَانَتُهُ مِنْ الِانْكِشَافِ وَسَتْرِ عَوْرَتِهِ الْمُتَغَيِّرَةِ عَنْ الْأَعْيُنِ. قَالَ: وَتَكُونُ التَّسْجِيَةُ بَعْدَ نَزْعِ ثِيَابِهِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا لِئَلَّا يَتَغَيَّرَ بَدَنُهُ بِسَبَبِهَا. قَوْلُهُ: (فَقَبَّلَهُ) فِيهِ جَوَازُ تَقْبِيلِ الْمَيِّتِ.

(1/482)


أَبْوَابُ غُسْلِ الْمَيِّتِ. بَابُ مَنْ يَلِيهِ وَرِفْقِهِ بِهِ وَسَتْرِهِ عَلَيْهِ 1780- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَأَدَّى فِيهِ الْأَمَانَةَ وَلَمْ يُفْشِ عَلَيْهِ مَا يَكُونُ مِنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وَقَالَ: لِيَلِهِ أَقْرَبُكُمْ إنْ كَانَ يَعْلَمُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، فَمَنْ تَرَوْنَ عِنْدَهُ حَظًّا مِنْ وَرَعٍ وَأَمَانَةٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1781- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ كَسْرَ عَظْمِ الْمَيِّتِ مِثْلُ كَسْرِ عَظْمِهِ حَيًّا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 1782- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1783- وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبَضَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَغَسَّلُوهُ وَكَفَّنُوهُ وَحَنَّطُوهُ وَحَفَرُوا لَهُ وَأَلْحَدُوا وَصَلُّوا عَلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلُوا قَبْرَهُ فَوَضَعُوهُ فِي قَبْرِهِ، وَوَضَعُوا عَلَيْهِ اللَّبِنَ، ثُمَّ خَرَجُوا مِنْ الْقَبْرِ، ثُمَّ حَثَوْا عَلَيْهِ التُّرَابَ، ثُمَّ قَالُوا: (يَا بَنِي آدَمَ هَذِهِ سُنَّتُكُمْ) . رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي الْمُسْنَدِ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ أَنَّ الْأَحَقَّ بِغَسْلِ الْمَيِّتِ مَنَ النَّاسِ الْأَقْرَبُ إلَى الْمَيِّتِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ. قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الرِّفْقِ بِالْمَيِّتِ فِي غُسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ وَحَمْلِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالتَّرْغِيب فِي سَتْرِ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(1/483)


بَابُ مَا جَاءَ فِي غُسْلِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ 1784- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: رَجَعَ إلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ جِنَازَةٍ بِالْبَقِيعِ وَأَنَا أَجِدُ صُدَاعًا فِي رَأْسِي وَأَقُولُ: وَارَأْسَاهُ، فَقَالَ: «بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهُ، مَا ضَرَّكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي فَغَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ، ثُمَّ صَلَّيْتُ عَلَيْكِ وَدَفَنْتُكِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 1785- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ الْأَمْرِ مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا غَسَّلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا نِسَاؤُهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصِّدِّيقَ أَوْصَى أَسْمَاءَ زَوْجَتَهُ أَنْ تُغَسِّلَهُ فَغَسَّلَتْهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَغَسَّلْتُك) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ يُغَسِّلُهَا زَوْجُهَا إذَا مَاتَتْ وَهِيَ تُغَسِّلُهُ قِيَاسًا، وَبِغُسْلِ أَسْمَاءَ لِأَبِي بَكْرٍ، وَعَلِيٍّ لِفَاطِمَةَ، وَلَمْ يَقَعْ مِنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ إنْكَارٌ عَلَى عَلِيٍّ وَأَسْمَاءَ فَكَانَ إجْمَاعًا. وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. بَابُ تَرْكِ غَسْلِ الشَّهِيدِ وَمَا جَاءَ فِيهِ إذَا كَانَ جُنُبًا 1786- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ، وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1787- وَلِأَحْمَدَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فِي قَتْلَى أُحُدٍ لَا تُغَسِّلُوهُمْ، فَإِنَّ كُلَّ جُرْحٍ أَوْ كُلَّ دَمٍ يَفُوحُ مِسْكًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ) . 1788- وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي بِإِسْنَادٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ صَاحِبَكُمْ لَتُغَسِّلُهُ الْمَلَائِكَةُ - يَعْنِي حَنْظَلَةَ - فَسَأَلُوا أَهْلَهُ مَا شَأْنُهُ» ؟ فَسُئِلَتْ صَاحِبَتُهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ حِينَ سَمِعَ الْهَائِعَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لِذَلِكَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ» .

(1/484)


1789- وَعَنْ أَبِي سَلَامٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَغَرْنَا عَلَى حَيٍّ مِنْ جُهَيْنَةَ» . فَطَلَب رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ فَضَرَبَهُ فَأَخْطَأَهُ وَأَصَابَ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَخُوكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ» . فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ فَوَجَدُوهُ قَدْ مَاتَ، فَلَفَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِثِيَابِهِ وَدِمَائِهِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ وَدَفَنَهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَشَهِيدٌ هُوَ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَأَنَا لَهُ شَهِيدٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ) إلَى آخِرِهِ. فِيهِ جَوَازُ جَمْعِ الرَّجُلَيْنِ فِي كَفَنٍ وَاحِدٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَقْدِيمِ مَنْ كَانَ أَكْثَرُ قُرْآنًا، وَمِثْلُهُ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْفَضَائِلِ قِيَاسًا. قَوْلُهُ: (وَلَمْ يُغَسَّلُوا) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّهِيدَ لَا يُغَسَّلُ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَأَمَّا سَائِرُ مَنْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّهِيدِ كَالطَّعِينِ وَالْمَبْطُونِ وَالنُّفَسَاءِ وَنَحْوِهِمْ فَيُغَسَّلُونَ إجْمَاعًا. وَقَال: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ حنظلة مَنْ قَالَ: إنَّهُ يُغَسَّلُ الشَّهِيدُ إذَا كَانَ جُنُبًا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ: لَا يُغَسَّلُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: (فَلَفَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِثِيَابِهِ وَدِمَائِهِ) قَالَ الشَّارِحُ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يُغَسِّلْهُ وَلَا أَمَرَ بِغُسْلِهِ، فَيَكُونَ مِنْ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الشَّهِيدَ لَا يُغَسَّلُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ فِي الْمَعْرَكَةِ خَطَأً حُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ فِي تَرْكِ الْغُسْلِ. قَوْلُهُ: (وَصَلَّى عَلَيْهِ) فِيهِ إثْبَاتُ الصَّلَاةِ عَلَى الشَّهِيدِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ. بَابُ صِفَةِ الْغُسْلِ 1790- عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ تُوُفِّيَتْ ابْنَتُهُ، فَقَالَ: اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ رَأَيْتُنَّ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الْأَخِيرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَعْطَانَا حَقْوَهُ، فَقَالَ: «أَشْعِرْنَهَا إيَّاهُ» . يَعْنِي إزَارَهُ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.

(1/485)


1791- وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمْ: «ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا» . 1792- وَفِي لَفْظٍ: «اغْسِلْنَهَا وِتْرًا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ رَأَيْتُنَّ» . وَفِيهِ قَالَتْ: فَضَفَرْنَا شَعْرَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ فَالْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. لَكِنْ لَيْسَ لِمُسْلِمٍ فِيهِ: فَأَلْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا. 1793- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا أَرَادُوا غَسْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالُوا: وَاَللَّهِ مَا نَدْرِي كَيْفَ نَصْنَعُ، أَنُجَرِّدُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا، أَمْ نُغَسِّلُهُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ؛ قَالَتْ: فَلَمَّا اخْتَلَفُوا أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ السِّنَةَ، حَتَّى وَاَللَّهِ مَا مِنْ الْقَوْمِ مِنْ رَجُلٍ إلَّا ذَقَنُهُ فِي صَدْرِهِ نَائِمًا، قَالَتْ: ثُمَّ كَلَّمَهُمْ مُكَلِّمٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لَا يَدْرُونَ مَنْ هُوَ فَقَالَ: اغْسِلُوا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ، قَالَتْ: فَبادرُوا إلَيْهِ فَغَسَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي قَمِيصِهِ يُفَاضُ عَلَيْهِ الْمَاءُ وَالسِّدْرُ وَيَدْلُكُ الرِّجَالُ بِالْقَمِيصِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ: «اغْسِلْنَهَا وِتْرًا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ رَأَيْتُنَّ» . ... قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى التَّفْوِيضِ إلَى اجْتِهَادِ الْغَاسِلِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ لَا التَّشَهِّي. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إنَّمَا فَوَّضَ الرَّأْيَ إلَيْهِنَّ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ الْإِيتَارُ. قَوْلُهُ: (بِمَاءٍ وَسِدْرٍ) . قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: ظَاهِرُهُ أَنَّ السِّدْرَ يُخْلَطُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْ مَرَّاتِ الْغُسْلِ. قَوْلُهُ: (وَاجْعَلْنَ فِي الْأَخِيرَةِ كَافُورًا) أَوْ (شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ) هُوَ شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي. وَقَدْ جَزَمَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُجْعَلُ الْكَافُورُ فِي الْمَاءِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ النَّخَعِيّ وَالْكُوفِيُّونَ: إنَّمَا يُجْعَلُ الْكَافُورُ فِي الْحَنُوطِ، وَالْحِكْمَةُ فِي الْكَافُورِ، كَوْنُهُ طَيِّبَ الرَّائِحَةِ وَذَلِكَ وَقْتٌ تَحْضُرُ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ، وَفِيهِ أَيْضًا تَبْرِيدٌ وَقُوَّةُ نُفُوذٍ، وَخَاصَّةً فِي تَصَلُّبِ بَدَنِ الْمَيِّتِ وَطَرْدِ الْهَوَامِّ عَنْهُ وَرَدْعِ مَا يَتَحَلَّلُ مِنْ الْفَضَلَاتِ، وَمَنْعِ إسْرَاعِ الْفَسَادِ إلَيْهِ، وَإِذَا عُدِمَ قَامَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ مِمَّا فِيهِ هَذِهِ الْخَوَاصُّ أَوْ بَعْضُهَا.

(1/486)


قَوْلُهُ: «ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا» . لَيْسَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ تَنَافٍ لِإِمْكَانِ الْبُدَاءَةِ بِمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ وَبِالْمَيَامِنِ مَعًا. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: قَوْلُهُ «ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا» . أَيْ فِي الْغَسَلَاتِ الَّتِي لَا وُضُوءَ فِيهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا: أَيْ فِي الْغَسْلَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْوُضُوءِ. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ لَمْ يَقُلْ بِاسْتِحْبَابِ الْبُدَاءَةِ بِالْمَيَامِنِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي غَسْلِ الْمَيِّتِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ ضَفْرِ شَعْرِ الْمَرْأَةِ وَجَعْلِهِ ثَلَاثَةَ قُرُونٍ وَهِيَ نَاصِيَتُهَا وَقَرْنَاهَا: أَيْ جَانِبَا رَأْسِهَا، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ جَعْلِ ضَفَائِرِ الْمَرْأَةِ خَلْفَهَا.

(1/487)


أَبْوَابُ الْكَفَنِ وَتَوَابِعِهِ بَابُ التَّكْفِينِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ 1794- عَنْ خَبَّابُ بْنِ الْأَرَتِّ أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَلَمْ يَتْرُكْ إلَّا نَمِرَةً، فَكُنَّا إذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُغَطِّيَ بِهَا رَأْسَهُ وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْئًا مِنْ الْإِذْخِرِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. 1795- وَعَنْ خَبَّابُ أَيْضًا أَنَّ حَمْزَةَ لَمْ يُوجَدْ لَهُ كَفَنٌ إلَّا بُرْدَةٌ مَلْحَاءُ إذَا جُعِلَتْ عَلَى قَدَمَيْهِ قَلَصَتْ عَنْ رَأْسِهِ حَتَّى مُدَّتْ عَلَى رَأْسِهِ وَجُعِلَ عَلَى قَدَمَيْهِ الْإِذْخِرُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (إلَّا نَمِرَةٌ) هِيَ شَمْلَةٌ فِيهَا خُطُوطٌ بِيضٌ وَسُودٌ أَوْ بُرْدَةٌ مِنْ صُوفٍ يَلْبَسُهَا الْأَعْرَابُ. كَذَا فِي الْقَامُوسِ. قَوْلُهُ: (فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُغَطِّيَ بِهَا رَأْسَهُ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا ضَاقَ الْكَفَنُ عَنْ سِتْرِ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَلَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ جُعِلَ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ وَجُعِلَ النَّقْصُ مِمَّا يَلِي الرِّجْلَيْنِ. قَالَ وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثَيْنِ عَلَى أَنَّ الْكَفَنَ يَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. بَابُ اسْتِحْبَابِ إحْسَانِ الْكَفَنِ مِنْ غَيْرِ مُغَالَاةٍ 1796- عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا وَلِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ

(1/488)


فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ. 1797- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَ يَوْمًا فَذَكَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ قُبِضَ فَكُفِّنَ فِي كَفَنٍ غَيْرِ طَائِلٍ، وَقُبِرَ لَيْلًا، فَزَجَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ لَيْلًا حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَضْطَرَّ إنْسَانٌ إلَى ذَلِكَ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 1798- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ نَظَرَ إلَى ثَوْبٍ عَلَيْهِ كَانَ يُمَرَّضُ فِيهِ بِهِ رَدْعٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ، فَقَالَ: اغْسِلُوا ثَوْبِي هَذَا، وَزِيدُوا عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ فَكَفِّنُونِي فِيهَا، قُلْتُ: إنَّ هَذَا خَلَقٌ؟ قَالَ: إنَّ الْحَيَّ أَحَقُّ بِالْجَدِيدِ مِنْ الْمَيِّتِ إنَّمَا هُوَ لِلْمُهْلَةِ مُخْتَصَرٌ مِنْ الْبُخَارِيِّ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: ضُبِطَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَإِسْكَانِهَا قَالَ النَّوَوِيُّ: وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ، وَالْمُرَادُ بِإِحْسَانِ الْكَفَنِ: نَظَافَتُهُ وَنَقَاؤُهُ وَكَثَافَتُهُ وَسِتْرُهُ وَتَوَسُّطُهُ. قَالَ: وَفِي أَثَرِ أَبِي بَكْرٍ جَوَازُ التَّكْفِينِ فِي الثِّيَابِ الْمَغْسُولَةِ. بَابُ صِفَةُ الْكَفَنِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ 1799- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ: قَمِيصِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَحُلَّةٍ نَجْرَانِيَّةٍ، الْحُلَّةُ ثَوْبَانِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 1800- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ جُدُدٍ يَمَانِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ أُدْرِجَ فِيهَا إدْرَاجًا. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 1801- وَلَهُمْ إلَّا أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيَّ وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ: وَأَمَّا الْحُلَّةُ فَإِنَّمَا شُبِّهَ عَلَى النَّاسِ فِيهَا إنَّمَا اُشْتُرِيَتْ لِيُكَفَّنَ فِيهَا فَتُرِكَتْ الْحُلَّةُ وَكُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ. 1802- وَلِمُسْلِمٍ: قَالَتْ: أُدْرِجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حُلَّةٍ يَمَنِيَّةٍ كَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ نُزِعَتْ عَنْهُ وَكُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ

(1/489)


يَمَانِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا عِمَامَةٌ وَلَا قَمِيصٌ. 1803- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمْ الْبَيَاضَ فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 1804- وَعَنْ لَيْلَى بِنْتِ قَانِفٍ الثَّقَفِيَّةِ قَالَتْ: كُنْتُ فِيمَنْ غَسَّلَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ وَفَاتِهَا، وَكَانَ أَوَّلَ مَا أَعْطَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْحِقَى، ثُمَّ الدَّرْعُ، ثُمَّ الْخِمَارُ ثُمَّ الْمِلْحَفَةُ أُدْرِجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الثَّوْبِ الْآخِرِ. قَالَتْ: وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ الْبَابِ مَعَهُ كَفَنُهَا، يُنَاوِلُنَا ثَوْبًا ثَوْبًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ الْحَسَنُ: الْخِرْقَةُ الْخَامِسَةُ يُشَدُّ بِهَا الْفَخِذَانِ وَالْوَرِكَانِ تَحْتَ الدِّرْعِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إسْنَادِهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ وَقَدْ تَغَيَّرَ، وَهَذَا مِنْ أَضْعَفِ حَدِيثِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَى ضَعْفِ يَزِيدَ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ بَيَّنَ مُسْلِمٌ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يُكَفَّنْ فِي الْحُلَّةِ، وَإِنَّمَا شُبِّهَ عَلَى النَّاسِ كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي أَفْضَلِ الْكَفَنِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَكْثَرُ مِنْ ثَوْبٍ وَاحِدٍ يَسْتُرُ جَمِيعَ الْبَدَنِ. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ أَفْضَلَهَا ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ بِيضٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَتَقْرِيرُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَكُنْ لِيَخْتَارَ لِنَبِيِّهِ إلَّا الْأَفْضَلَ. قَوْلُهُ: (وَكَانَ أَوَّلَ مَا أَعْطَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْحِقَى) قَالَ الشَّارِحُ: بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ مَقْصُورٌ قِيلَ: هُوَ لُغَةٌ فِي الْحَقْوِ، وَهُوَ الْإِزَارُ وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي كَفَنِ الْمَرْأَةِ أَنْ يَكُونَ إزَارًا وَدِرْعًا وَخِمَارًا وَمِلْحَفَةً وَدَرَجًا. وَقَوْلُ الْحَسَنِ: إنَّ الْخِرْقَةَ الْخَامِسَةَ يُشَدُّ بِهَا الْفَخِذَانِ وَالْوَرِكَانِ. قَالَ بِهِ زُفَرُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تُشَدُّ عَلَى صَدْرِهَا لِيُضَمَّ أَكْفَانُهَا.

(1/490)


بَابُ وُجُوبِ تَكْفِينِ الشَّهِيدِ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا 1805- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ أُحُدٍ بِالشُّهَدَاءِ أَنْ نَنْزِعَ عَنْهُمْ الْحَدِيدَ وَالْجُلُودَ وَقَالَ: «ادْفِنُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 1806- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ: ... «زَمِّلُوهُمْ فِي ثِيَابِهِمْ، وَجَعَلَ يَدْفِنُ فِي الْقَبْرِ الرَّهْطَ وَيَقُولُ: قَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ الْمَذْكُورَانِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا فِيهَا مَشْرُوعِيَّة دَفْنِ الشَّهِيدِ بِمَا قُتِلَ فِيهِ مِنْ الثِّيَابِ وَنَزْعِ الْحَدِيدِ وَالْجُلُودِ عَنْهُ وَكُلِّ مَا هُوَ آلَةُ حَرْبٍ. قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ بِدَفْنِ الشَّهِيدِ بِمَا قُتِلَ فِيهِ مِنْ الثِّيَابِ لِلْوُجُوبِ. بَابُ تَطْيِيبِ بَدَنِ الْمَيِّتِ وَكَفَنِهِ إلَّا الْمُحْرِمَ 1807- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أَجْمَرْتُمْ الْمَيِّتَ فَأَجْمِرُوهُ ثَلَاثًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1808- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَفَةَ إذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ وَلَا تُحَنِّطُوهُ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 1809- وَالنَّسَائِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اغْسِلُوا الْمُحْرِمَ فِي ثَوْبَيْهِ اللَّذَيْنِ أَحْرَمَ فِيهِمَا وَاغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ وَلَا تُمِسُّوهُ بِطِيبٍ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُحْرِمًا» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (إذَا أَجْمَرْتُمْ الْمَيِّتَ) أَيْ بَخَّرْتُمُوهُ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَبْخِيرِ الْمَيِّتِ ثَلَاثًا. قَوْلُهُ: (وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ) فِيهِ أَنَّهُ يُكَفَّنُ الْمُحْرِمُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا.

(1/491)


قَوْلُهُ: (وَلَا تُحَنِّطُوهُ) هُوَ مِنْ الْحَنُوطِ بِالْمُهْمَلَةِ وَهُوَ الطِّيبُ الَّذِي يُوضَعُ لِلْمَيِّتِ. قَوْلُهُ: (وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ) أَيْ لَا تُغَطُّوهُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ حُكْمِ الْإِحْرَامِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَفِي الْحَدِيثِ إبَاحَةُ غُسْلِ الْمُحْرِمِ الْحَيِّ بِالسِّدْرِ خِلَافًا لَمَنْ كَرِهَهُ، وَأَنَّ الْوِتْرَ فِي الْكَفَنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَأَنَّ الْكَفَنَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لِأَمْرِهِ - صلى الله عليه وسلم - بِتَكْفِينِهِ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ أَمْ لَا؟ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَكْفِينِ الْمُحْرِمِ فِي إحْرَامِهِ، وَأَنَّ إحْرَامَهُ بَاقٍ، وَأَنَّهُ لَا يُكَفَّنُ فِي الْمُحَنَّطِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ التَّكْفِينُ فِي الثِّيَابِ الْمَلْبُوسَةِ، وَأَنَّ الْإِحْرَامَ يَتَعَلَّقُ بِالرَّأْسِ.

(1/492)


أَبْوَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ بَابُ مَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَمَنْ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، الصَّلَاةُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ 1810- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرْسَالًا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى إذَا فَرَغُوا أَدْخَلُوا النِّسَاءَ، حَتَّى إذَا فَرَغُوا أَدْخَلُوا الصِّبْيَانَ، وَلَمْ يَؤُمَّ النَّاسَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَدٌ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - فُرَادَى، الرِّجَالُ ثُمَّ النِّسَاءُ ثُمَّ الصِّبْيَانُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَصَلَاةُ النَّاسِ عَلَيْهِ أَفْرَادًا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ دِحْيَةَ: كَانَ الْمُصَلُّونَ عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ أَلْفًا. قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَتَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَدَّمَ النِّسَاءَ عَلَى الصِّبْيَانِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى جَنَائِزِهِمْ وَحَالَ دَفْنِهِمْ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ. تَرْكُ الصَّلَاةِ عَلَى الشَّهِيدِ 1811- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ لَمْ يُغَسَّلُوا وَدُفِنُوا بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَدْ أَسَلَفْنَا هَذَا الْمَعْنَى مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ، وَقَدْ رُوِيَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ بِأَسَانِيدَ لَا تَثْبُتُ.

(1/493)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اختلف أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: قَالَ بَعْضُهُمْ: يُصَلَّى عَلَى الشَّهِيدِ وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ الْمَدَنِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. قَالَ الشَّارِحُ: وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا الْمُصَنِّفُ وَقَالَ: إنَّهَا بِأَسَانِيدَ لَا تَثْبُت فَسَتَعْرِفُ الْكَلَامَ عَلَيْهَا. إِلِى أَنْ قَالَ: وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ صَلَاتَهُ عَلَى مَيِّتٍ كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: إنَّ مَعْنَى صَلَاتِهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِمْ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، أَوْ يَكُونَ مِنْ سُنَّتِهِمْ أَنْ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ إلَّا بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ، أَوْ تَكُونَ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ جَائِزَةً بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَأَيُّهَا كَانَ فَقَدْ ثَبَتَ بِصَلَاتِهِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ عَلَى الشُّهَدَاءِ، ثُمَّ الْكَلَامُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي عَصْرِنَا إنَّمَا هُوَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ دَفْنِهِمْ، وَإِذَا ثَبَتَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الدَّفْنِ كَانَتْ قَبْلَ الدَّفْنِ أَوْلَى. قَالَ الشَّارِحُ: وَأُجِيبَ بِأَنَّ صَلَاتَهُ عَلَيْهِمْ تَحْتَمِلُ أُمُورًا أُخَرَ: مِنْهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ خَصَائِصِهِ، وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، ثُمَّ هِيَ وَاقِعَةُ عَيْنِ لَا عُمُومَ لَهَا، فَكَيْفَ يَنْتَهِضُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا لِدَفْعِ حُكْمٍ قَدْ ثَبَتَ. وَأَيْضًا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِالِاحْتِمَالِ الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيَّ، كَذَا قَالَ الْحَافِظُ. قَالَ الشَّارِحُ: وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ دَعْوَى الِاخْتِصَاصِ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَدَعْوَى أَنَّ الصَّلَاةَ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ يَرُدُّهَا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «صَلَاتُهُ عَلَى الْمَيِّتِ» وَأَيْضًا قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْحَقَائِقَ الشَّرْعِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ، فَلَوْ فُرِضَ عَدَمُ وُرُودُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لَكَانَ الْمُتَعَيَّنُ الْمَصِيرَ إلَى حَمْلِ الصَّلَاةِ عَلَى حَقِيقَتِهَا الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ ذَاتُ الْأَذْكَارِ وَالْأَرْكَانِ، وَدَعْوَى أَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ لَهَا يَرُدُّهَا أَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا ثَبَتَ لِوَاحِدٍ أَوْ لِجَمَاعَةٍ فِي عَصْرِهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُبُوتُهُ لِلْغَيْرِ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ مُعَارَضَةُ هَذِهِ الدَّعْوَى بِمِثْلِهَا فَيُقَالُ: تَرْكُ الصَّلَاةِ عَلَى الشُّهَدَاءِ فِي يَوْمِ أُحُدٍ وَاقِعَةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ لَهَا، فَلَا تَصْلُحُ لَلِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى مُطْلَقِ التَّرْكِ بَعْدَ ثُبُوتِ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَوُقُوعِ الصَّلَاةِ مِنْهُ عَلَى خُصُوصِ الشَّهِيدِ فِي غَيْرِهَا كَمَا فِي حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ وَأَبِي سَلَامٍ. فَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ حَالَ الْوَاقِعَةِ، وَتَرَكْنَا جَمِيعَ هَذِهِ الْمُرَجِّحَاتِ

(1/494)


لَكَانَتْ صَلَاتُهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ مُفِيدَةً لِلْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّهَا كَالِاسْتِدْرَاكِ لِمَا فَاتَ مَعَ اشْتِمَالِهَا عَلَى فَائِدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الشَّهِيدِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُتْرَكَ بِحَالٍ وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ وَتَرَاخَتْ إلَى غَايَةٍ بَعِيدَةٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَلَامٍ فَلَمْ أَقِفْ لِلْمَانِعِينَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى جَوَابٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِنْ أَدِلَّةِ الْمُثْبِتِينَ؛ لِأَنَّهُ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَسَمَّاهُ شَهِيدًا وَصَلَّى عَلَيْهِ، نَعَمْ لَوْ كَانَ النَّفْيُ عَامًّا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِوَقْعَةِ أُحُدٍ وَلَمْ يَرِدْ فِي الْإِثْبَاتِ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ لَكَانَ مُخْتَصًّا بِمَنْ قُتِلَ عَلَى مِثْلِ صِفَتِهِ. وَحَدِيثُ أَبِي سَلَامٍ الذي أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّارِحُ تَقَدَّمَ فِي بَابِ تَرْكِ غُسْل الشَّهِيدِ وَلَفْظُهُ: عَنْ أَبِي سَلام عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: أَغَرْنَا عَلَى حَيِّ مِنْ جُهَيْنَة فَطَلَبَ رَجُلٌ مَنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلاً مِنْهُمْ فَضَرَبَهُ فَأَخْطَأَهُ وَأَصَابَ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَخُوكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ» . فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ فَوَجَدُوهُ قَدْ مَاتَ فَلَفَّهُ رَسُولُ اللهِ بِثِيَابِهِ وَدِمَائِهِ وَصَلَّى عَلَيْهِ وَدَفَنَهُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَشَهِيدٌ هٌوَ؟ قَالَ: «نَعَم، وَأَنَا لَهُ شَهِيدٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاود وَحَدِيثُ شَدَّادِ بن الْهَادِ ذَكَرَهُ الشَّارِحُ عِنْدَ النّسَائِيّ بِلَفْظِ: أَنَّ رَجُلاً مِنْ الأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ - وَفِي الْحَدِيثِ - وَإِنَّهُ اسْتَشْهَدَ فَصَلَى عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - فَحَفِظَ مِنْ دُعَائِهِ لَهُ: «اللهمَّ إِنَّ هَذَا عَبْدَكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ فَقُتِلَ فِي سَبِيلِكَ» . قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَتَرْكُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - غسلَ الشَّهِيد وَالصَّلاةُ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، أَمَّا اسْتِحْبَاب التَّرْكِ فَلا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْفِعْلِ. الصَّلَاةُ عَلَى السِّقْطِ وَالطِّفْلِ 1812- عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الرَّاكِبُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ وَالْمَاشِي أَمَامَهَا قَرِيبًا مِنْهَا عَنْ يَمِينِهَا أَوْ عَنْ يَسَارِهَا وَالسِّقْطُ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْعَى لِوَالِدَيْهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1813- وَأَبُو دَاوُد، وَقَالَ فِيهِ: «وَالْمَاشِي يَمْشِي خَلْفَهَا وَأَمَامَهَا وَعَنْ يَمِينِهَا وَيَسَارِهَا قَرِيبًا مِنْهَا» . 1814- وَفِي رِوَايَةٍ «الرَّاكِبُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ وَالْمَاشِي حَيْثُ شَاءَ مِنْهَا وَالطِّفْلُ يُصَلَّى عَلَيْهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

(1/495)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّة الصَّلَاةِ عَلَى السِّقْطِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَتْ الْعِتْرَةُ وَالْفُقَهَاءُ، وَلَكِنَّهَا إنَّمَا تُشْرَعُ إذَا كَانَ قَدْ اسْتَهَلَّ، وَالِاسْتِهْلَالُ: الصِّيَاحُ أَوْ الْعُطَاسُ أَوْ حَرَكَةٌ يُعْلَمُ بِهَا حَيَاةُ الطِّفْلِ. وَيَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الِاسْتِهْلَالِ حَدِيثُ جَابِرٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنِ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيِّ بِلَفْظِ: إذَا اسْتَهَلَّ السِّقْطُ صُلِّيَ عَلَيْهِ وَوَرِثَ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّمَا يُغَسَّلُ لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إذْ يَكْتُبُ فِي الْأَرْبَعِينَ الرَّابِعَةُ رِزْقُهُ وَأَجَلُهُ وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلْحَيِّ وَقَدْ رَجَّحَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا وَاسْتَدَلَّ لَهُ فَقَالَ: قُلْتُ وَإِنَّمَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إذَا نُفِخَتْ فِيهِ الرُّوحُ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَكْمِلَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَأَمَّا إنْ سَقَطَ لِدُونِهَا فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَيِّتٍ إذْ لَمْ يُنْفَخْ فِيهِ رُوحٌ. 1815- وَأَصْلُ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: «إنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنَ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إلَيْهِ مَلَكًا بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ يَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. تَرْكُ الْإِمَامِ الصَّلَاةَ عَلَى الْغَالِّ وَقَاتِلِ نَفْسِهِ 1816- عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ تُوُفِّيَ بِخَيْبَرَ، وَأَنَّهُ ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ الْقَوْمِ لِذَلِكَ؛ فَلَمَّا رَأَى الَّذِي بِهِمْ قَالَ: إنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَفَتَّشْنَا مَتَاعَهُ فَوَجَدْنَا فِيهِ خَرَزًا مِنْ خَرَزِ الْيَهُودِ مَا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ. 1817- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ) . فِيهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ عَلَى الْعُصَاةِ. وَأَمَّا تَرْكُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَلَعَلَّهُ لِلزَّجْرِ عَنْ الْغُلُولِ.

(1/496)


قَوْلُهُ: (أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ) . فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ: إنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى الْفَاسِقِ وَهُمْ الْعِتْرَةُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْأَوْزَاعِيُّ، فَقَالُوا: لَا يُصَلَّى عَلَى الْفَاسِقِ تَصْرِيحًا أَوْ تَأْوِيلًا، وَوَافَقَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فِي الْبَاغِي وَالْمُحَارِبِ، وَوَافَقَهُمْ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ لَهُ فِي قَاطِعِ الطَّرِيقِ. وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى الْفَاسِقِ. وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّمَا لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ زَجْرًا لِلنَّاسِ وَصَلَّتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا عِنْدَ النَّسَائِيّ بِلَفْظِ: «أَمَّا أَنَا فَلَا أُصَلِّي عَلَيْهِ» . وَيَدُلُّ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى الْفَاسِقِ حَدِيثُ: «صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» . الصَّلَاةُ عَلَى مَنْ قُتِلَ فِي حَدٍّ 1818- عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَاعْتَرَفَ بِالزِّنَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَقَال َلَهُ: «أَبِكَ جُنُونٌ» ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: «أُحْصِنْتَ» ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ بِالْمُصَلَّى؛ فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ فَرَّ، فَأُدْرِكَ فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - خَيْرًا وَصَلَّى عَلَيْهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. 1819- وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَقَالُوا: وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ. وَرِوَايَةُ الْإِثْبَاتِ أَوْلَى. 1820- وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّهُ صَلَّى عَلَى الْغَامِدِيَّةِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَا نَعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَى أَحَدٍ إلَّا عَلَى الْغَالِّ وَقَاتِلِ نَفْسِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: رِوَايَةُ الصَّلَاةِ أَرْجَحُ مِنْ جِهَاتٍ: الْأُولَى: كَوْنُهَا فِي الصَّحِيحِ. الثَّانِيَةُ: كَوْنُهَا مُثْبَتَةً. الثَّالِثَةُ: كَوْنُهَا مُعْتَضَدَةً.

(1/497)


الصَّلَاةُ عَلَى الْغَائِبِ بِالنِّيَّةِ وَعَلَى الْقَبْرِ إلَى شَهْرٍ 1821- عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَى أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا. 1822- وَفِي لَفْظٍ قَالَ: تُوُفِّيَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنْ الْحَبَشِ فَهَلُم فَصَلُّوا عَلَيْهِ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، قَالَ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ صُفُوفٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 1823- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَخَرَجَ بِهِمْ إلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 1824- وَفِي لَفْظٍ: نَعَى النَّجَاشِيَّ لِأَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لَهُ» . ثُمَّ خَرَجَ بِأَصْحَابِهِ إلَى الْمُصَلَّى، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى بِهِمْ كَمَا يُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1825- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ أَخَاكُمْ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ» . فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَيْهِ، قَالَ: فَقُمْنَا فَصَفَفْنَا عَلَيْهِ كَمَا نصفُّ عَلَى الْمَيِّتِ، وَصَلَّيْنَا عَلَيْهِ كَمَا نُصَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1826- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى قَبْرٍ رَطْبٍ فَصَلَّى عَلَيْهِ وَصَفُّوا خَلْفَهُ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا. 1827- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ أَوْ شَابًّا، فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَ عَنْهَا أَوْ عَنْهُ، فَقَالُوا: مَاتَ، فقَالَ: «أَفَلَا كنتم آذَنْتُمُونِي» ؟ قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا أَوْ أَمْرَهُ، فَقَالَ: «دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ» . فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ: «إنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 1828- وَلَيْسَ لِلْبُخَارِيِّ «إنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً» إلَى آخِرِ الْخَبَرِ. 1829- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَى قَبْرٍ بَعْدَ شَهْرٍ.

(1/498)


1830- وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَى مَيِّتٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ. رَوَاهُمَا الدَّارَقُطْنِيّ. 1831- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ أُمَّ سَعْدٍ مَاتَتْ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - غَائِبٌ، فَلَمَّا قَدِمَ صَلَّى عَلَيْهَا وَقَدْ مَضَى لِذَلِكَ شَهْرٌ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ النَّجَاشِيِّ الْقَائِلُونَ بِمَشْرُوعِيَّة الصَّلَاةِ عَلَى الْغَائِبِ عَنْ الْبَلَدِ قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ دُعَاءٌ لَهُ فَكَيْفَ لَا يُدْعَى لَهُ وَهُوَ غَائِبٌ أَوْ فِي الْقَبْرِ. وَذَهَبَتْ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّهَا لَا تُشْرَعُ الصَّلَاةُ عَلَى الْغَائِبِ مُطْلَقًا. قَالَ الْحَافِظُ: وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ أَوْ مَا قَرُبَ مِنْهُ لَا إذَا طَالَتْ الْمُدَّةَ. وَاعْتَذَرَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْغَائِبِ عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِأَعْذَارٍ مِنْهَا: أَنَّهُ كَانَ بِأَرْضٍ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ بِهَا أَحَدٌ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا يُصَلَّى عَلَى الْغَائِبِ إلَّا إذَا وَقَعَ مَوْتُهُ بِأَرْضٍ لَيْسَ فِيهَا مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَاسْتَحْسَنَهُ الرُّويَانِيُّ، وَتَرْجَمَ بِذَلِكَ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ فَقَالَ: بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُسْلِمِ يَلِيهِ أَهْلُ الشِّرْكِ فِي بَلَدٍ آخَرَ. وَمِمَّنْ اخْتَارَ هَذَا التَّفْصِيلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ حَفِيدُ الْمُصَنِّفِ وَالْمُحَقِّقُ الْمُقْبِلِيُّ، إِلِى أَنْ قَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ الْمَانِعُونَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْغَائِبِ بِشَيْءٍ يُعْتَدَّ بِهِ سِوَى الِاعْتِذَارِ بِأَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِمَنْ كَانَ فِي أَرْضٍ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ فِيهَا، وَهُوَ أَيْضًا جُمُودٌ عَلَى قِصَّةِ النَّجَاشِيِّ يَدْفَعُهُ الْأَثَرُ وَالنَّظَرُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قال ابن القيم: ولم يكن من هديه وسنته الصلاة على كل ميت غائب، فلقد مات خلق كثير من المسلمين وهم غيب فلم يصل عليهم. قَوْلُهُ: (انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى قَبْرٍ رَطْبٍ فَصَلَّى عَلَيْهِ وَصَفُّوا خَلْفَهُ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ قَالَ بِمَشْرُوعِيَّة الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ الْجُمْهُورُ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَمَدِ ذَلِكَ، فَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ إلَى شَهْرٍ. وَقِيلَ: مَا لَمْ يَبْلَ الْجَسَدُ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَبَدًا.

(1/499)


بَابُ فَضْلِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَمَا يُرْجَى لَهُ بِكَثْرَةِ الْجَمْعِ 1832- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ شَهِدَ الْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ» . قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: «مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1833- وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ «حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ» بَدَلَ «تُدْفَنَ» وَفِيهِ دَلِيلُ فَضِيلَةِ اللَّحْدِ عَلَى الشَّقِّ. 1834- وَعَنْ مَالِكِ بْنِ هُبَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ مُؤْمِنْ يَمُوتُ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، يَبْلُغُونَ أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ إلَّا غُفِرَ لَهُ فَكَانَ مَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ يَتَحَرَّى إذَا قَلَّ أَهْلُ الْجِنَازَةِ أَنْ يَجْعَلَهُمْ ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ. 1835- وَعَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ مَيِّتٍ يُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ إلَّا شُفِّعُوا فِيهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1836- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جِنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا لَا يُشْرِكُونَ بِاَللَّهِ شَيْئًا، إلَّا شَفَّعَهُمْ اللَّهُ فِيهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 1837- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَشْهَدُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَبْيَاتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الْأَدْنَيَيْنَ إلَّا قَالَ اللَّهُ: قَدْ قَبِلْت عِلْمَهُمْ فِيهِ وَغَفَرْتُ لَهُ مَا لَا يَعْلَمُونَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (يَبْلُغُونَ أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غُفِرَ لَهُ، وَأَقَلُّ مَا يُسَمَّى صَفًّا رَجُلَانِ، وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي كَرَاهَةِ النَّعْيِ 1838- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إيَّاكُمْ وَالنَّعْيَ، فَإِنَّ النَّعْيَ

(1/500)


عَمَلُ الْجَاهِلِيَّةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ كَذَلِكَ، وَرَوَاهُ مَوْقُوفَا وَذَكَرَ أَنَّهُ أَصَحُّ. 1839- وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا مِتُّ فَلَا تُؤْذِنُوا بِي أَحَدًا إنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ نَعْيًا، إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى عَنْ النَّعْيِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1840- وَعَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ إذَا مَاتَ الرَّجُلُ أَنْ يُؤْذَنَ صَدِيقُهُ وَأَصْحَابُهُ، إنَّمَا كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُطَافَ فِي الْمَجَالِسِ فَيُقَالَ: أَنْعِي فُلَانًا، فِعْلَ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ. رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ. 1841- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ - وَإِنَّ عَيْنَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَتَذْرِفَانِ - ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ غَيْرِ إمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: النَّعْيُ: هُوَ الْإِخْبَارُ بِمَوْتِ الْمَيِّتِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: إنَّمَا نَهَى عَمَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَصْنَعُونَهُ، وَكَانُوا يُرْسِلُونَ مَنْ يُعْلِنُ بِخَبَرِ مَوْتِ الْمَيِّتِ عَلَى أَبْوَابِ الدُّورِ وَالْأَسْوَاقِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَيُسْتَدَلُّ لِجَوَازِ مُجَرَّدِ الْإِعْلَامِ بِحَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ ثَلَاثُ حَالَاتٍ: الْأُولَى: إعْلَامُ الْأَهْلِ وَالْأَصْحَابِ وَأَهْلِ الصَّلَاحِ فَهَذَا سُنَّةٌ. الثَّانِيَةُ: الدَّعْوَةُ لِلْمُفَاخَرَةِ بِالْكَثْرَةِ فَهَذَا مَكْرُوهٌ. الثَّالِثَةُ: الْإِعْلَامُ بِنَوْعٍ آخَرَ كَالنِّيَاحَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا مُحَرَّمٌ. انْتَهَى. قَالَ الشَّارِحُ: فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِعْلَامَ لِلْغُسْلِ وَالتَّكْفِينِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَمْلِ وَالدَّفْنِ مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومِ النَّهْيِ. بَابُ عَدَدِ تَكْبِيرِ صَلَاةِ الْجَنَائِزِ 1842، 1843، 1844 - قَدْ ثَبَتَ الْأَرْبَعُ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ. 1845- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كَانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا، وَإِنَّهُ كَبَّرَ خَمْسًا عَلَى جِنَازَةٍ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكَبِّرُهَا. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ.

(1/501)


1846- وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَكَبَّرَ خَمْسًا، ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ مَا نَسِيتُ وَلَا وَهَمْتُ، وَلَكِنْ كَبَّرْتُ كَمَا كَبَّرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَكَبَّرَ خَمْسًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1847- وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ سِتًّا، وَقَالَ: إنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 1848- وَعَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا يُكَبِّرُونَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ خَمْسًا وَسِتًّا وَسَبْعًا. رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِلَى مَشْرُوعِيَّة الْأَرْبَعِ التَّكْبِيرَاتِ فِي الْجِنَازَةُ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثِ تَكْبِيرَاتٍ إلَى تِسْعٍ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعٍ. بَابُ الْقِرَاءَةِ وَالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا 1849- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَقَالَ: لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا لسُّنَّةِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1850- وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ فِيهِ: فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ وَجَهَرَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: سُنَّةٌ وَحَقٌّ. 1851- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ السُّنَّةَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ أَنْ يُكَبِّرَ الْإِمَامُ ثُمَّ يَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى سِرًّا فِي نَفْسِهِ، ثُمَّ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَيُخْلِصَ الدُّعَاءَ لِلْجِنَازَةِ فِي التَّكْبِيرَاتِ، وَلَا يَقْرَأَ فِي شَيْءٍ مِنْهُنَّ، ثُمَّ يُسَلِّمَ سِرًّا فِي نَفْسِهِ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ) . 1852- وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: قَرَأَ الَّذِي صَلَّى عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ) .

(1/502)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِي هَذِهِ أَحَادِيثِ الْبَابِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّة قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ. وَاختلف فِي وُجُوبِهَا وَالْحَقُّ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ. قَالَ: وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّة قِرَاءَةِ سُورَةٍ مَعَ الْفَاتِحَةِ، وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّة الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّة السَّلَامِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْإِسْرَارِ بِهِ. وَقَدْ اختلف فِي مَشْرُوعِيَّة الرَّفْعِ عِنْدَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي غَيْرِ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى شَيْءٌ يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قَالَ الْحَافِظُ: وَقَدْ صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي تَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ. بَابُ الدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ وَمَا وَرَدَ فِيهِ 1853- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 1854- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ قَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا؛ اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. 1855- وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، وَزَادَ: «اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ» . 1856- وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَاعْفُ عَنْهُ وَعَافِهِ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِمَاءٍ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ، وَنَقِّهِ مِنْ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَقِه فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ» . قَالَ عَوْفٌ: فَتَمَنَّيْتُ أَنْ لَوْ كُنْتُ أَنَا الْمَيِّتَ لِدُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِذَلِكَ الْمَيِّتِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 1857- وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إنَّ فُلَانَ ابْنَ فُلَانٍ فِي ذِمَّتِكَ

(1/503)


وَحَبْلِ جِوَارِكَ، فَقِهِ مِنْ فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ، وَأَنْتَ أَهْلُ الْوَفَاءِ وَالْحَمْدِ، اللَّهُمَّ فَاغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، إنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 1858- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ مَاتَتْ ابْنَةٌ لَهُ، فَكَبَّرَ عَلَيْهَا أَرْبَعًا ثُمَّ قَامَ بَعْدَ الرَّابِعَةِ قَدْرَ مَا بَيْنَ التَّكْبِيرَتَيْنِ يَدْعُو، ثُمَّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْنَعُ فِي الْجِنَازَةِ هَكَذَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ بِمَعْنَاهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ دُعَاءٌ مَخْصُوصٌ مِنْ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ الْوَارِدَةِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي عَلَى الْمَيِّتِ أَنْ يُخْلِصَ الدُّعَاءَ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ مُحْسِنًا أَوْ مُسِيئًا، فَإِنَّ مُلَابِسَ الْمَعَاصِي أَحْوَجُ النَّاسِ إلَى دُعَاءِ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَأَفْقَرُهُمْ إلَى شَفَاعَتِهِمْ. قَوْلُهُ: (سَمِعْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ) الْحَدِيثُ، قَوْلُهُ: (فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إنَّ فُلَانَ ابْنَ فُلَانٍ» ) . قَالَ الشَّارِحُ: جَمِيعَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَهَرَ بِالدُّعَاءِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ اسْتِحْبَابِ الْإِسْرَارِ بِالدُّعَاءِ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ جَهْرَهُ - صلى الله عليه وسلم - بِالدُّعَاءِ لِقَصْدِ تَعْلِيمِهِمْ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجَهْرَ وَالْإِسْرَارَ بِالدُّعَاءِ جَائِزَانِ. قَوْلُهُ: (فَكَبَّرَ عَلَيْهَا أَرْبَعًا ثُمَّ قَامَ بَعْدَ الرَّابِعَةِ قَدْرَ مَا بَيْنَ التَّكْبِيرَتَيْنِ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْآخِرَةِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ. وَفِيهِ خِلَافٌ، وَالرَّاجِحُ الِاسْتِحْبَابُ لِهَذَا الْحَدِيثِ. بَابُ مَوْقِفِ الْإِمَامِ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَكَيْفَ يَصْنَعُ إذَا اجْتَمَعَتْ أَنْوَاعٌ 1859- عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا، فَقَامَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الصَّلَاةِ وَسْطَهَا. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 1860- وَعَنْ أَبِي غَالِبٍ الْحَنَّاطِ قَالَ: شَهِدْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ صَلَّى عَلَى جِنَازَةِ رَجُلٍ فَقَامَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَلَمَّا رُفِعَتْ أُتِيَ بِجِنَازَةِ امْرَأَةٍ فَصَلَّى عَلَيْهَا فَقَامَ وَسْطَهَا، وَفِينَا الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ الْعَلَوِيُّ؛ فَلَمَّا رَأَى اخْتِلَافَ قِيَامِهِ

(1/504)


عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ قَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُومُ مِنْ الرَّجُلِ حَيْثُ قُمْتَ، وَمِنْ الْمَرْأَةِ حَيْثُ قُمْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ. 1861- وَأَبُو دَاوُد، وَفِي لَفْظِهِ: فَقَالَ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ: يَا أَبَا حَمْزَةَ هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ كَصَلَاتِكَ يُكَبِّرُ عَلَيْهَا أَرْبَعًا وَيَقُومُ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ، وَعَجِيزَةِ الْمَرْأَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. 1862- وَعَنْ عَمَّارٍ مَوْلَى الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ قَالَ: حَضَرْتُ جِنَازَةَ صَبِيٍّ وَامْرَأَةٍ، فَقُدِّمَ الصَّبِيُّ مِمَّا يَلِي الْقَوْمَ، وَوُضِعَتْ الْمَرْأَةُ وَرَاءَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِمَا، وَفِي الْقَوْمِ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبُو قَتَادَة وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو قَتَادَةَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ فَسَأَلْتُهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا: السُّنَّةُ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد. وَعَنْ عَمَّارٍ أَيْضًا أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ وَابْنَهَا زَيْدَ بْنَ عُمَرَ أُخْرِجَتْ جِنَازَتَاهُمَا، فَصَلَّى عَلَيْهِمَا أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، فَجَعَلَ الْمَرْأَةَ بَيْنَ يَدَيْ الرَّجُلِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَثَمَّ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ. وَعَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ وَابْنَهَا زَيْدَ بْنَ عُمَرَ تُوُفِّيَا جَمِيعًا فَأُخْرِجَتْ جِنَازَتَاهُمَا فَصَلَّى عَلَيْهِمَا أَمِيرُ الْمَدِينَةِ فَسَوَّى بَيْنَ رُءُوسِهِمَا وَأَرْجُلِهِمَا حِينَ صَلَّى عَلَيْهِمَا. رَوَاهُمَا سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَسْطَهَا) بِسُكُونِ السِّينِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ يَسْتَقْبِلُ وَسْطَهَا. وَأَمَّا الرَّجُلُ فَالْمَشْرُوعُ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ حِذَاءَ رَأْسِهِ. قَوْلُهُ: (الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ الْعَلَوِيُّ) الَّذِي فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ كَجَامِعِ الْأُصُولِ وَالْكَاشِفِ وَغَيْرِهِمَا الْعَدَوِيِّ وَهُوَ الصَّوَابُ. قَوْلُهُ: (حَضَرْتُ جِنَازَةَ صَبِيٍّ وَامْرَأَةٍ) . إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ إذَا اجْتَمَعَتْ جَنَائِزُ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كَيْفِيَّةِ صَلَاتِهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَلَاةً وَحَمْزَةَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ وَأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى كُلِّ عَشْرَةٍ صَلَاةً وَأَخْرَجَ

(1/505)


ابْنُ شَاهِينَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْقِلِ بْنِ مُقَرِّنٍ أُتِيَ بِجِنَازَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ فَصَلَّى عَلَى الرَّجُلِ ثُمَّ صَلَّى عَلَى الْمَرْأَةِ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا صُلِّيَ عَلَيْهِ مَعَ امْرَأَةٍ كَانَ الصَّبِيُّ مَا يَلِي الْإِمَامَ وَالْمَرْأَةُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ، وَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْمَسْجِدِ 1863- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لَمَّا تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: اُدْخُلُوا بِهِ الْمَسْجِدَ حَتَّى أُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: وَاَللَّهِ لَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ: سُهَيْلٍ وَأَخِيهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 1864- وَفِي رِوَايَةٍ مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى سُهَيْلِ بْنِ الْبَيْضَاءِ إلَّا فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ) . وَعَنْ عُرْوَةَ قَالَ: صُلِّيَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي الْمَسْجِدِ) . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صُلِّيَ عَلَى عُمَرَ فِي الْمَسْجِدِ رَوَاهُمَا سَعِيدٌ، وَرَوَى الثَّانِيَ مَالِكٌ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إدْخَالِ الْمَيِّتِ إلَى الْمَسْجِدِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِيهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ ... وَالْجُمْهُورُ.

(1/506)


أَبْوَابُ حَمْلِ الْجِنَازَةِ وَالسَّيْرِ بِهَا 1865- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ اتَّبَعَ جِنَازَةً فَلْيَحْمِلْ بِجَوَانِبِ السَّرِيرِ كُلِّهَا فَإِنَّهُ مِنْ السُّنَّةِ، ثُمَّ إنْ شَاءَ فَلْيَتَطَوَّعْ، وَإِنْ شَاءَ فَلْيَدَعْ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّة الْحَمْلِ لِلْمَيِّتِ، وَأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَكُونَ بِجَمِيعِ جَوَانِبِ السَّرِيرِ. بَابُ الْإِسْرَاعِ بِهَا مِنْ غَيْرِ رَمَلٍ 1866- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَرَّبْتُمُوهَا إلَى الْخَيْرِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 1867- وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: مَرَّتْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جِنَازَةٌ تَمْخَضُ مَخْضَ الزِّقِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَيْكُمْ الْقَصْدَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1868- وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنَّا لَنَكَادُ نَرْمُلُ بِالْجِنَازَةِ رَمَلًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 1869- وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ عَنْ رَافِعٍ قَالَ: أَسْرَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى تَقَطَّعَتْ نِعَالُنَا يَوْمَ مَاتَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْمُرَادُ بِالْإِسْرَاعِ شِدَّةُ الْمَشْيِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِسْرَاعُ بِهَا لَكِنْ بِحَيْثُ لَا يَنْتَهِي إلَى شِدَّةٍ

(1/507)


يُخَافُ مَعَهَا حُدُوثُ مَفْسَدَةِ الْمَيِّتِ أَوْ مَشَقَّةٍ عَلَى الْحَامِلِ أَوْ الْمُشَيِّعِ لِئَلَّا يَتَنَافَى الْمَقْصُودُ مِنْ النَّظَافَةِ وَإِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِ. بَابُ الْمَشْيِ أَمَامَ الْجِنَازَةِ وَمَا جَاءَ فِي الرُّكُوبِ مَعَهَا 1870- قَدْ سَبَقَ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ. 1871- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ. 1872- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اتَّبَعَ جِنَازَةَ ابْنِ الدَّحْدَاحِ مَاشِيًا، وَرَجَعَ عَلَى فَرَسٍ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. 1873- وَفِي رِوَايَةٍ: أُتِيَ بِفَرَسٍ مَعْرُوري، فَرَكِبَهُ حِينَ انْصَرَفْ مِنْ جِنَازَةِ ابْنِ الدَّحْدَاحِ وَنَحْنُ نَمْشِي حَوْلَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 1874- وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي جِنَازَةٍ فَرَأَى نَاسًا رُكْبَانًا فَقَالَ: «أَلَا تَسْتَحْيُونَ إنَّ مَلَائِكَةَ اللَّهِ عَلَى أَقْدَامِهِمْ وَأَنْتُمْ عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ» ؟ . رَوَاهُ أَحْمَد وابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ. 1875- وَعَنْ ثَوْبَانَ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بِدَابَّةٍ وَهُوَ مَعَ جِنَازَةٍ فَأَبَى أَنْ يَرْكَبَهَا فَلَمَّا انْصَرَفَ أُتِيَ بِدَابَّةٍ فَرَكِبَ فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: «إنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تَمْشِي فَلَمْ أَكُنْ لِأَرْكَبَ وَهُمْ يَمْشُونَ، فَلَمَّا ذَهَبُوا رَكِبْتُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «أَلَا تَسْتَحْيُونَ» فِيهِ كَرَاهَةُ الرُّكُوبِ لِمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لِلْجِنَازَةِ، وَيُعَارِضُهُ حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ إذْنِهِ لِلرَّاكِبِ أَنْ يَمْشِيَ خَلْفَ الْجِنَازَةِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ قَوْلَهُ - صلى الله عليه وسلم -: «الرَّاكِبُ خَلْفَهَا» لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْكَرَاهَةِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، فَيَكُونُ الرُّكُوبُ جَائِزًا مَعَ الْكَرَاهَةِ، أَوْ بِأَنَّ إنْكَارَهُ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مَنْ رَكِبَ وَتَرَكَهُ لِلرُّكُوبِ إنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ مَشْيِ الْمَلَائِكَةِ، وَمَشْيُهُمْ مَعَ الْجِنَازَةِ الَّتِي مَشَى مَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَسْتَلْزِمُ مَشْيَهُمْ مَعَ كُلِّ جِنَازَةٍ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُمْ تَبَرُّكًا بِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيَكُونُ

(1/508)


الرُّكُوبُ عَلَى هَذَا جَائِزًا غَيْرَ مَكْرُوهٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. بَابُ مَا يُكْرَهُ مَعَ الْجِنَازَةِ مِنْ نِيَاحَةٍ أَوْ نَارٍ 1876- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَتْبَعَ جِنَازَةً مَعَهَا رَانَّةٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 1877- وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: أَوْصَى أَبُو مُوسَى حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَقَالَ: لَا تَتْبَعُونِي بِمِجْمَرٍ، قَالُوا: أَوْ سَمِعْت فِيهِ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (مَعَهَا رَانَّةٌ) أَيْ مُصَوِّتَةٌ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ اتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ الَّتِي مَعَهَا النَّائِحَةُ. قَوْلُهُ: (بِمِجْمَرٍ) الْمِجْمَرُ كَمِنْبَرٍ الَّذِي يُوضَعُ فِيهِ الْجَمْرُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ بِالْمَجَامِرِ وَمَا يُشَابِهُهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. بَابُ مَنْ اتَّبَعَ الْجِنَازَةَ فَلَا يَجْلِسُ حَتَّى تُوضَعَ 1878- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا رَأَيْتُمْ الْجِنَازَةَ فَقُومُوا لَهَا، فَمَنْ اتَّبَعَهَا فَلَا يَجْلِسُ حَتَّى تُوضَعَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنُ مَاجَهْ. 1879- لَكِنْ إنَّمَا لِأَبِي دَاوُد مِنْهُ «إذَا اتَّبَعْتُمْ الْجِنَازَةَ فَلَا تَجْلِسُوا حَتَّى تُوضَعَ» . وَقَالَ: رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الثَّوْرِيُّ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ فِيهِ: «حَتَّى تُوضَعَ فِي الْأَرْضِ» وَرَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ سُهَيْلٍ: «حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ» وَسُفْيَانُ أَحْفَظُ مِنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ. 1880- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - أَنَّهُ ذَكَرَ الْقِيَامَ فِي الْجَنَائِزِ حَتَّى تُوضَعَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَعَدَ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1881- وَلِمُسْلِمٍ مَعْنَاهُ.

(1/509)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (إذَا رَأَيْتُمْ الْجِنَازَةَ فَقُومُوا لَهَا) . فِيهِ مَشْرُوعِيَّة الْقِيَامِ لِلْجِنَازَةِ إذَا مَرَّتْ لِمَنْ كَانَ قَاعِدًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا. قَوْلُهُ: (فَمَنْ اتَّبَعَهَا فَلَا يَجْلِسُ) . فِيهِ النَّهْيُ عَنْ جُلُوسِ الْمَاشِي مَعَ الْجِنَازَةِ قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ عَلَى الْأَرْضِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي الْقِيَامِ لِلْجِنَازَةِ إذَا مَرَّتْ 1882- عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا رَأَيْتُمْ الْجِنَازَةَ فَقُومُوا لَهَا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ أَوْ تُوضَعَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 1883- وَلِأَحْمَدَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا رَأَى جِنَازَةً قَامَ حَتَّى تُجَاوِزَهُ. 1884- وَلَهُ أَيْضًا عَنْهُ: أَنَّهُ رُبَّمَا تَقَدَّمَ الْجِنَازَةَ فَقَعَدَ حَتَّى إذَا رَآهَا قَدْ أَشْرَفَتْ قَامَ حَتَّى تُوضَعَ. 1885 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: مَرَّ بِنَا جِنَازَةٌ، فَقَامَ لَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ: «إذَا رَأَيْتُمْ الْجِنَازَةَ فَقُومُوا لَهَا» . 1886- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُمَا كَانَا قَاعِدَيْنِ بِالْقَادِسِيَّةِ فَمَرُّوا عَلَيْهِمَا بِجِنَازَةٍ فَقَامَا، فَقِيلَ لَهُمَا: إنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ: أَيْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَقَالَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كَانَ أَبُو مَسْعُودٍ وَقَيْسُ يَقُومَانِ لِلْجِنَازَةِ. 1887- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَنَا بِالْقِيَامِ فِي الْجِنَازَةِ، ثُمَّ جَلَسَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَمَرَنَا بِالْجُلُوسِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ بِنَحْوِهِ. 1888- وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ جِنَازَةً مَرَّتْ بِالْحَسَنِ وَابْنِ عَبَّاسٍ فَقَامَ الْحَسَنُ وَلَمْ يَقُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ الْحَسَنُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَمَا قَامَ لَهَا

(1/510)


رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: قَامَ وَقَعَدَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقِيَامَ لِلْجِنَازَةِ مَنْسُوخٌ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: ذَهَبَ جَمْعٌ مِنْ السَّلَفِ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقِيَامِ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ هَذَا. وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ النَّسْخَ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ، وَهُوَ هَا هُنَا مُمْكِنٌ. قَالَ الشَّارِحُ: وَاختلف الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَذَهَبَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ حَبِيبٍ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ أَنَّ الْقِيَامَ لِلْجِنَازَةِ لَمْ يُنْسَخْ، وَالْقُعُودُ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - إنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، فَمَنْ جَلَسَ فَهُوَ فِي سَعَةٍ، وَمَنْ قَامَ فَلَهُ أَجْرٌ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: إنَّ الْقِيَامَ مَنْسُوخٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْقِيَامُ مَنْسُوخًا أَوْ يَكُونَ لَعِلَّةٍ، وَأَيُّهُمَا كَانَ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ تَرَكَهُ بَعْدَ فِعْلِهِ وَالْحُجَّةُ فِي الْآخَرِ مِنْ أَمْرِهِ وَالْقُعُودُ أَحَبُّ إلَيَّ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

(1/511)


أَبْوَابُ الدَّفْنِ وَأَحْكَامُ الْقُبُورِ بَابُ تَعْمِيقِ الْقَبْرِ وَاخْتِيَارِ اللَّحْدِ عَلَى الشَّقِّ 1889- عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَ: خَرَجْنَا فِي جِنَازَةٍ فَجَلَسَ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى حَفِيرَةِ الْقَبْرِ فَجَعَلَ يُوصِي الْحَافِرَ وَيَقُولُ: «أَوْسِعْ مِنْ قِبَلِ الرَّأْسِ، وَأَوْسِعْ مِنْ قِبَلِ الرِّجْلَيْنِ رُبَّ عِزْقٍ لَهُ فِي الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 1890- وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: شَكَوْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ أُحُدٍ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَفْرُ عَلَيْنَا لِكُلِّ إنْسَانٍ شَدِيدٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَعْمِقُوا واحْفِرُوا وَأَحْسِنُوا وَادْفِنُوا الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ» . فَقَالُوا: فَمَنْ نُقَدِّمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «قَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا، وَكَانَ أَبِي ثَالِثَ ثَلَاثَةٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ بِنَحْوِهِ وَصَحَّحَهُ. 1891- وَعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ سَعْدُ: الْحَدُوا لِي لَحْدًا، وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. 1892- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ رَجُلٌ يَلْحَدُ، وَآخَرُ يَضْرَحُ، فَقَالُوا: نَسْتَخِيرُ رَبَّنَا وَنَبْعَثُ إلَيْهِمَا، فَأَيُّهُمَا سَبَقَ تَرَكْنَاهُ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِمَا فَسَبَقَ صَاحِبُ اللَّحْدِ فَلَحَدُوا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 1893- وَلِابْنِ مَاجَهْ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيهِ: إنَّ أَبَا

(1/512)


عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ كَانَ يَضْرَحُ، وَإِنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَانَ يَلْحَدُ. 1894- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّحْدُ لَنَا، وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّة إعْمَاقِ الْقَبْرِ وَإِحْسَانِهِ. وَجَوَازُ الْجَمْعِ بَيْنَ جَمَاعَةٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ إذَا دَعَتْ إلَى ذَلِكَ حَاجَةٌ وَإِلَّا كَانَ مَكْرُوهًا، وَأَنَّهُ يُقَدَّمُ فِي اللَّحْدِ مَنْ كَانَ أَكْثَرَهُمْ أَخَذًا لِلْقُرْآنِ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ سَائِرُ الْمَزَايَا الدِّينِيَّةِ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ نَصْبِ اللَّبِنِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ. وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ اللَّحْدِ وَأَنَّهُ أَوْلَى مِنْ الضَّريحِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْأَكْثَرُ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ. وَحُكِيَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ اللَّحْدِ وَالشَّقِّ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ الْمَيِّتُ قَبْرَهُ وَمَا يُقَالُ: عِنْدَ ذَلِكَ وَالْحَثْيُ فِي الْقَبْرِ 1895- عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: أَوْصَى الْحَارِثُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْقَبْرَ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْ الْقَبْرِ وَقَالَ: هَذَا مِنْ السُّنَّةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 1896- وَسَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ وَزَادَ ثُمَّ قَالَ: أَنْشِطُوا الثَّوْبَ فَإِنَّمَا يُصْنَعُ هَذَا بِالنِّسَاءِ. 1897- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: كَانَ إذَا وُضِعَ الْمَيِّتُ فِي الْقَبْرِ قَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» . 1898- وَفِي لَفْظِ: «وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ. 1899- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ ثُمَّ أَتَى قَبْرَ الْمَيِّتِ: فَحَثَى عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ثَلَاثًا. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

(1/513)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنَّ يَدْخُلَ الْمَيِّتُ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْ الْقَبْرِ: أَيْ مَوْضِعِ رِجْلَيْ الْمَيِّتِ مِنْهُ عِنْدَ وَضْعِهِ، وفِيهِ اسْتِحْبَابُ هَذَا الذِّكْرِ عِنْدَ وَضَعِ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ أَنْ يُحْثَى عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ جِهَةِ رَأْسِهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ ذَلِكَ: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} . انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ تَسْنِيمِ الْقَبْرِ وَرَشِّهِ بِالْمَاءِ وَتَعْلِيمِهِ لِيُعْرَفَ وَكَرَاهَةِ الْبِنَاءِ وَالْكِتَابَةِ عَلَيْهِ 1900- عَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُسَنَّمًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. 1901- وَعَنْ الْقَاسِمِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ: يَا أُمَّهْ بِاَللَّهِ اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَصَاحِبَيْهِ، فَكَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلَاثَةِ قُبُورٍ لَا مُشْرِفَةٍ، وَلَا لَاطِئَةٍ مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 1902- وَعَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: لَا تَدَعْ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْتَهُ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ. 1903- وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَشَّ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ وَوَضَعَ عَلَيْهِ حَصْبَاءَ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. 1904- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - علم قَبْرَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ بِصَخْرَةٍ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. 1905- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 1906- وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَلَفْظُهُ: نَهَى أَنْ تُجَصَّصَ الْقُبُورُ، وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهَا، وَأَنْ تُوطَأَ. 1907- وَفِي لَفْظِ النَّسَائِيّ: نَهَى أَنْ يُبْنَى عَلَى الْقَبْرِ أَوْ يُزَادَ عَلَيْهِ أَوْ يُجَصَّصَ أَوْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ.

(1/514)


قَوْلُهُ: (إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَعْلَمَ قَبْرَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ بِصَخْرَةٍ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ جَعْلِ عَلَامَةٍ عَلَى قَبْرِ الْمَيِّتِ كَنَصْبِ حَجَرٍ أَوْ نَحْوِهَا. قَوْلُهُ: (أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ) فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: (عَنْ تَجْصِيصِ الْقُبُورِ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ تَحْرِيمُ تَجْصِيصِ الْقُبُورِ. قَوْلُهُ: (وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْقُعُودِ عَلَى الْقَبْرِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. قَوْلُهُ: (وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْبِنَاءِ عَلَى الْقَبْرِ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَأَيْت الْأَئِمَّةَ بِمَكَّةَ يَأْمُرُونَ بِهَدْمِ مَا يُبْنَى. قَوْلُهُ: (وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا) فِيهِ تَحْرِيمُ الْكِتَابَةِ عَلَى الْقُبُورِ. قَوْلَهُ: (أَوْ يُزَادُ عَلَيْهِ) بَوَّبَ عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ الْبَيْهَقِيُّ: بَابُ (لَا يُزَادُ عَلَى الْقَبْرِ أَكْثَرُ مِنْ تُرَابِهِ لِئَلَّا يَرْتَفِعَ) . قَوْلُهُ: (لَا تَدَعْ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْتَهُ) فِيهِ الْأَمْرُ بِتَغْيِيرِ صُوَرِ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ. قَوْلُهُ: (وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْتَهُ) فِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنَّ الْقَبْرَ لَا يُرْفَعُ رَفْعًا كَثِيرًا مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مَنْ كَانَ فَاضِلًا وَمَنْ كَانَ غَيْرَ فَاضِلٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ رَفْعَ الْقُبُورِ زِيَادَةً عَلَى الْقَدْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ مُحَرَّمٌ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٌ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَحْظُورٍ لِوُقُوعِهِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بِلَا نَكِيرٍ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ يَحْيَى وَالْمَهْدِيُّ فِي الْغَيْثِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ غَايَةَ مَا فِيهِ أَنَّهُمْ سَكَتُوا عَنْ ذَلِكَ، وَالسُّكُوتُ لَا يَكُونُ دَلِيلًا إذَا كَانَ فِي الْأُمُورِ الظَّنِّيَّةِ، وَتَحْرِيمُ رَفْعِ الْقُبُورِ ظَنِّيٌّ، وَمِنْ رَفْعِ الْقُبُورِ الدَّاخِلِ تَحْتَ الْحَدِيثِ دُخُولًا أَوَّلِيَّا الْقُبَبُ وَالْمَشَاهِدُ الْمَعْمُورَةُ عَلَى الْقُبُورِ، وَأَيْضًا هُوَ مِنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ، وَقَدْ لَعَنَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَاعِلَ ذَلِكَ، وَكَمْ قَدْ سَرَى عَنْ تَشْيِيدِ أَبْنِيَةِ الْقُبُورِ وَتَحْسِينِهَا مِنْ مَفَاسِدَ يَبْكِي لَهَا الْإِسْلَامُ، مِنْهَا اعْتِقَادُ الْجَهَلَةِ لَهَا كَاعْتِقَادِ الْكُفَّارِ لِلْأَصْنَامِ: وَعَظُمَ ذَلِكَ فَظَنُّوا أَنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى جَلْبِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ فَجَعَلُوهَا مَقْصِدًا لِطَلَبِ قَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَمَلْجَأً لِنَجَاحِ الْمَطَالِبِ وَسَأَلُوا

(1/515)


مِنْهَا مَا يَسْأَلُهُ الْعِبَادُ مِنْ رَبِّهِمْ، وَشَدُّوا إلَيْهَا الرِّحَالَ وَتَمَسَّحُوا بِهَا وَاسْتَغَاثُوا. وَبِالْجُمْلَةِ إنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوا شَيْئًا مِمَّا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ بِالْأَصْنَامِ إلَّا فَعَلُوهُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَمَعَ هَذَا الْمُنْكَرِ الشَّنِيعِ وَالْكُفْرِ الْفَظِيعِ لَا تَجِدُ مَنْ يَغْضَبُ لِلَّهِ وَيَغَارُ حَمِيَّةً لِلدِّينِ الْحَنِيفِ لَا عَالِمًا وَلَا مُتَعَلِّمًا وَلَا أَمِيرًا وَلَا وَزِيرًا وَلَا مَلِكًا، وَقَدْ تَوَارَدَ إلَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ مَا لَا يُشَكُّ مَعَهُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَقْبُورِينَ أَوْ أَكْثَرِهِمْ إذَا تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ مِنْ جِهَةِ خَصْمِهِ حَلَفَ بِاَللَّهِ فَاجِرًا، فَإِذَا قِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: احْلِفْ بِشَيْخِك وَمُعْتَقَدِكَ الْوَلِيِّ الْفُلَانِيِّ تَلَعْثَمَ وَتَلَكَّأَ وَأَبَى وَاعْتَرَفَ بِالْحَقِّ. وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ شِرْكَهُمْ قَدْ بَلَغَ فَوْقَ شِرْكِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ تَعَالَى ثَانِيَ اثْنَيْنِ أَوْ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، فَيَا عُلَمَاءَ الدِّينِ وَيَا مُلُوكَ الْمُسْلِمِينَ، أَيُّ رُزْءٍ لِلْإِسْلَامِ أَشَدُّ مِنْ الْكُفْرِ، وَأَيُّ بَلَاءٍ لِهَذَا الدِّينِ أَضَرُّ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ؟ وَأَيُّ مُصِيبَةٍ يُصَابُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ تَعْدِلُ هَذِهِ الْمُصِيبَةَ؟ وَأَيُّ مُنْكَرٍ يَجِبُ إنْكَارُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ إنْكَارُ هَذَا الشِّرْكِ الْبَيِّنِ وَاجِبًا: لَقَدْ أَسْمَعْت لَوْ نَادَيْتَ حَيًّا ... وَلَكِنْ لَا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي وَلَوْ نَارًا نَفَخْت بِهَا أَضَاءَتْ ... وَلَكِنْ أَنْتَ تَنْفُخُ فِي رَمَادِ انْتَهَى. قُلْتُ: وَقَدْ مَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ نَجْدٍ بِآلِ سُعُودٍ وَمُجَدِّدِ الْقَرْن الثَّانِي عَشَر مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الْوَهَابِ وَذُرِّيَتِهِ وَأَعْوَانِهِمْ فَهَدَمُوا الْقُبُورَ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى وَدَعوا النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَإِتِبَاعِ سُنَّةِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -. بَابُ مَنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْفِنَ الْمَرْأَةَ 1908- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: شَهِدْتُ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تُدْفَنُ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ، فَقَالَ: «هَلْ فِيكُمْ مِنْ أَحَدٍ لَمْ يُقَارِفْ اللَّيْلَةَ» ؟ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَنَا، قَالَ: «فَأنَزَلَ فِي قَبْرِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 1909- وَلِأَحْمَدَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رُقَيَّةَ لَمَّا مَاتَتْ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَدْخُلْ الْقَبْرَ رَجُلٌ قَارَفَ اللَّيْلَةَ أَهْلَهُ» . فَلَمْ يَدْخُلْ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الْقَبْرَ.

(1/516)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُدْخِلَ الْمَرْأَةَ فِي قَبْرِهَا الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، وَأَنَّهُ يُقَدَّمُ الرِّجَالُ الْأَجَانِبُ الَّذِينَ بَعُدَ عَهْدُهُمْ بِالْمَلَاذِ فِي الْمُوَارَاةِ عَلَى الْأَقَارِبِ الَّذِينَ قَرُبَ عَهْدُهُمْ بِذَلِكَ كَالْأَبِ وَالزَّوْجِ. وَفِيهِ جَوَازُ الْجُلُوسِ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، وَجَوَازُ الْبُكَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ. بَابُ آدَابِ الْجُلُوسِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَالْمَشْيِ فِيهَا 1910- عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إلَى الْقَبْرِ وَلَمْ يُلْحَدْ بَعْدُ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَجَلَسْنَا مَعَهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 1911- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتَحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ. 1912- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ: رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَّكِئًا عَلَى قَبْرٍ فَقَالَ: «لَا تُؤْذِ صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ» . أَوْ: «لَا تُؤْذِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1913- وَعَنْ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلًا يَمْشِي فِي نَعْلَيْنِ بَيْنَ الْقُبُورِ فَقَالَ: يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ أَلْقِهِمَا. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الِاسْتِقْبَالِ فِي الْجُلُوسِ لِمَنْ كَانَ مُنْتَظِرًا دَفْنَ الْجِنَازَةِ. قَوْلُهُ: (لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ) إلَى آخِرِهِ. فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجُلُوسُ عَلَى الْقَبْرِ. قَوْلُهُ: (يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ) قَالَ الشَّارِحُ: ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَشْيُ بَيْنَ الْقُبُورِ بِالنَّعْلَيْنِ.

(1/517)


بَاب الدَّفْنِ لَيْلاً 1914- عَنِ الشّعبيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَاتَ إنْسَانٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُهُ، فَمَاتَ بِاللَّيْلِ فَدَفَنُوهُ لَيْلًا؛ فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: «مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُعْلِمُونِي» ؟ قَالُوا: كَانَ اللَّيْلُ فَكَرِهْنَا، - وَكَانَ ظُلْمَةٌ - أَنْ نَشُقَّ عَلَيْكَ، فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَدُفِنَ أَبُو بَكْرٍ لَيْلًا. 1915- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا عَلِمْنَا بِدَفْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى سَمِعْنَا صَوْتَ الْمَسَاحِي مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَالْمَسَاحِي: الْمُرُورُ رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1916- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: رَأَى نَاسٌ نَارًا فِي الْمَقْبَرَةِ فَأَتَوْهَا، فَإِذَا ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْقَبْرِ يَقُولُ: «نَاوِلُونِي صَاحِبَكُمْ» . فَإِذَا هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالذِّكْرِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ: (فَإِذَا هُوَ الَّذِي كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالذِّكْرِ) . فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ قَبْرًا لَيْلًا فَأَسْرَجَ لَهُ سِرَاج فَأَخَذَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ. وَقَالَ: «رَحِمَكَ اللَّهُ إنْ كُنْتَ لَأَوَّاهًا تَلَّاءً لِلْقُرْآنِ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الدَّفْنِ بِاللَّيْلِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ، وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - زَجَرَ أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ لَيْلًا حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ أَنَّ الزَّجْرَ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - إنَّمَا كَانَ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ لَا لِلدَّفْنِ بِاللَّيْلِ، أَوْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْفِنُونَ بِاللَّيْلِ لِرَدَاءَةِ الْكَفَنِ. فَإِذَا لَمْ يَقَعْ تَقْصِيرٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ فَلَا بَأْسَ بِالدَّفْنِ لَيْلًا. بَابُ الدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ 1917- عَنْ عُثْمَانَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

(1/518)


1918- وَعَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ وَضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ وَحَكِيمِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالُوا: إذَا سُوِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ قَبْرُهُ وَانْصَرَفَ النَّاسُ عَنْهُ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يُقَالَ لِلْمَيِّتِ عِنْدَ قَبْرِهِ: يَا فُلَانُ قُلْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَا فُلَانُ قُلْ: رَبِّي اللَّهُ، وَدِينِي الْإِسْلَامُ وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ يَنْصَرِفُ رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (إذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ) إلَى آخِرِهِ. فِيهِ مَشْرُوعِيَّة الِاسْتِغْفَارِ لِلْمَيِّتِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ دَفْنِهِ وَسُؤَالِ التَّثْبِيتِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يُسْأَلُ فِي تِلْكَ الْحَالِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ حَيَاةِ الْقَبْرِ. وَقَدْ وَرَدَتْ بِذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ بَلَغَتْ حَدَّ التَّوَاتُرِ، وَفِيهِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يُسْأَلُ فِي قَبْرِهِ، وَقَدْ وَرَدَتْ بِهِ أَيْضًا أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. قَوْلُهُ: (كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ) ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُسْتَحِبَّ لِذَلِكَ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ أَدْرَكُوهُمْ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ. بَابُ النَّهْيِ عَنْ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ وَالسُّرُجِ فِي الْمَقْبَرَةِ 1919- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1920- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. قَوْلُهُ: «اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: ظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَهَا مَسَاجِدَ يُصَلُّونَ فِيهَا، وَقِيلَ: هُوَ أَعَمُّ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا وَفِيهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا أَوْ عَلَيْهَا» . وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ذَلِكَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ مِنْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِخَمْسٍ، وَزَادَ فِيهِ: «فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ. قَوْلُهُ: «لَعَنَ اللَّهُ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ» . فِيهِ تَحْرِيمُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ لِلنِّسَاءِ.

(1/519)


قَوْلُهُ: (وَالسُّرُجَ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ اتِّخَاذِ السُّرُجِ عَلَى الْمَقَابِرِ لِمَا يُفْضِي إلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ. بَابُ وُصُولِ ثَوَابِ الْقُرَبِ الْمُهْدَاةِ إلَى الْمَوْتَى 1921- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ الْعَاصِ بْنَ وَائِلٍ نَذَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَنْحَرَ مِائَةَ بَدَنَةٍ، وَأَنَّ هِشَامَ بْنَ الْعَاصِ نَحَرَ حِصَّتَهُ خَمْسِينَ، وَأَنَّ عَمْرًا سَأَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «أَمَّا أَبُوكَ فَلَوْ أَقَرَّ بِالتَّوْحِيدِ فَصُمْتَ وَتَصَدَّقْتَ عَنْهُ نَفَعَهُ ذَلِكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1922- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يُوصِ، أَفَيَنْفَعُهُ أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. 1923- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ أُمِّي اُفْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأُرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إنْ تَصَدَّقْت عَلَيْهَا؟ قَالَ «نَعَمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1924- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ، أَيَنْفَعُهَا إنْ تَصَدَّقْت عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: فَإِنَّ لِي مَخْرَفًا، فَأَنَا أُشْهِدُك أَنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 1925- وَعَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّ أُمَّهُ مَاتَتْ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أُمِّي مَاتَتْ أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» . قال: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «سَقْيُ الْمَاءِ» . قَالَ الْحَسَنُ: فَتِلْكَ سِقَايَةُ آلِ سَعْدٍ بِالْمَدِينَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (نَحَرَ حِصَّتَهُ خَمْسِينَ) إنَّمَا كَانَتْ حِصَّتَهُ خَمْسِينَ؛ لِأَنَّ الْعَاصِ بْنَ وَائِلٍ خَلَفَ ابْنَيْنِ هِشَامًا وَعَمْرًا، فَأَرَادَ هِشَامٌ أَنْ يَفِيَ بِنَذْرِ أَبِيهِ فَنَحَرَ حِصَّتَهُ مِنْ الْمِائَةِ الَّتِي نَذَرَهَا وَحِصَّتُهُ خَمْسُونَ، وَأَرَادَ عَمْرٌو أَنْ يَفْعَلَ كَفِعْلِ أَخِيهِ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ مَوْتَ أَبِيهِ عَلَى الْكُفْرِ مَانِعٌ مِنْ وُصُولِ نَفْعِ ذَلِكَ إلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالتَّوْحِيدِ لَأَجْزَأَ ذَلِكَ عَنْهُ وَلَحِقَهُ

(1/520)


ثَوَابُهُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نَذْرَ الْكَافِرِ بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ لَا يَلْزَمُ إذَا مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ. وَأَمَّا إذَا أَسْلَمَ وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُ نَذْرٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَفِيهِ خِلَافٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ لِمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ لَهُ - صلى الله عليه وسلم -: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ» . قَوْلُهُ: (نَفَعَهُ ذَلِكَ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْوَلَدُ لِأَبِيهِ الْمُسْلِمِ مِنْ الصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ يَلْحَقُهُ ثَوَابُهُ. قَوْلُهُ: (سَقْيُ الْمَاءِ) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سَقْيَ الْمَاءِ أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ. وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد: (فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الْمَاءُ» . فَحَفَرَ بِئْرًا وَقَالَ: هَذِهِ لِأُمِّ سَعْدٍ) . وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ مِنْ الْوَلَدِ تَلْحَقُ الْوَالِدَيْنِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا بِدُونِ وَصِيَّةٍ مِنْهُمَا وَيَصِلُ إلَيْهِمَا ثَوَابُهَا. إِلِى أَنْ قَالَ: وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَجَمَاعَةِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ لا يَصِلُ إِلَى الْمَيِّتِ ثَوَابَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. وَذَهَبَ أَحْمَدُ بن حَنْبَل وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهُ يَصِلُ. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ حَكَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ الإِجْمَاعَ عَلَى وُصُولِ الدُّعَاءِ إِلَى الْمَيِّتِ وَعَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ عَنِ الْمَيِّتِ وَيَصِلَهُ ثَوَابَهَا، وَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِالْوَلَدِ. بَابُ تَعْزِيَةِ الْمُصَابِ وَثَوَابِ صَبْرِهِ وَأَمْرِهِ بِهِ وَمَا يَقُولُ لِذَلِكَ 1926- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ إلَّا كَسَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حُلَلِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. 1927- وَعَنْ الْأَسْوَدِ بنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ. 1928- وَعَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلَمٍ وَلَا مُسْلِمَةٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ فَيَذْكُرُهَا وَإِنْ قَدُمَ عَهْدُهَا فَيُحْدِثُ لِذَلِكَ اسْتِرْجَاعًا

(1/521)


إلَّا جَدَّدَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَأَعْطَاهُ مِثْلَ أَجْرِهَا يَوْمَ أُصِيبَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 1929- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 1930- وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَاءَتْ التَّعْزِيَةُ سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ: إنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَدَرَكًا مِنْ كُلِّ فَائِتٍ، فَبِاَللَّهِ فَثِقُوا وَإِيَّاهُ فَارْجُوا، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. 1931- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَجَرَهُ اللَّهُ مِن مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا، قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ قَالَتْ: مَنْ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَتْ: ثُمَّ عَزَمَ اللَّهُ لِي فَقُلْتُهَا، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، قَالَتْ: فَتَزَوَّجْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ أْجُرْنِي) قَالَ الْقَاضِي: يُقَالُ: أْجُرْنِي بِالْقَصْرِ وَالْمَدِّ حَكَاهُمَا صَاحِبُ الْأَفْعَالِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ: قَالُوا: هُوَ مَقْصُورٌ لَا يُمَدُّ، وَمَعْنَى أَجَرَهُ اللَّهُ: أَعْطَاهُ أَجْرَهُ وَجَزَاهُ صَبْرَهُ وَهَمَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ. قَوْلُهُ: (وَأَخْلِفْ لِي) قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِقَطْعِ الْهَمْزَة وَكَسْرِ اللَّامِ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: يُقَالُ لِمَنْ ذَهَبَ لَهُ مَالٌ أَوْ وَلَدٌ أَوْ قَرِيبٌ أَوْ شَيْءٌ يُتَوَقَّعُ حُصُولُ مِثْلِهِ أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْك: أَيْ رَدَّ عَلَيْك مِثْلَهُ، فَإِنْ ذَهَبَ مَا لَا يُتَوَقَّعُ مِثْلُهُ بِأَنْ ذَهَبَ وَالِدٌ أَوْ عَمٌّ قِيلَ لَهُ: خَلَفَ اللَّهُ عَلَيْك بِغَيْرِ أَلِفٍ: أَيْ كَانَ اللَّهُ خَلِيفَةً مِنْهُ عَلَيْك. قَوْلُهُ: (إلَّا أَجَرَهُ اللَّهُ) قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِقَصْرِ الْهَمْزَةِ وَمَدِّهَا، وَالْقَصْرُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ.

(1/522)


بَابُ صُنْعِ الطَّعَامِ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ وَكَرَاهَتِهِ مِنْهُمْ لِلنَّاسِ 1932- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ حِينَ قُتِلَ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ. 1933- وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصَنْعَةَ الطَّعَامِ بَعْدَ دَفْنِهِ مِنْ النِّيَاحَةِ رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1934- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا عَقْرَ فِي الْإِسْلَامِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ: قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: كَانُوا يَعْقِرُونَ عِنْدَ الْقَبْرِ بَقَرَةً أَوْ شَاةً. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ) فِي مَشْرُوعِيَّة الْقِيَامِ بِمُؤْنَةِ أَهْلِ الْمَيِّتِ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ لِاشْتِغَالِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِمَا دَهَمَهُمْ مِنْ الْمُصِيبَةِ. قَوْلُهُ: (كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ) إلَى آخِرِهِ. يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ الِاجْتِمَاعَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ، وَأَكْلَ الطَّعَامِ عَنْدَهُمْ نَوْعًا مِنْ النِّيَاحَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّثْقِيلِ عَلَيْهِمْ وَشَغْلِهِمْ مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ شُغْلَةِ الْخَاطِرِ بِمَوْتِ الْمَيِّتِ وَمَا فِيهِ مِنْ مُخَالِفَةِ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِأَنْ يَصْنَعُوا لِأَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا فَخَالَفُوا ذَلِكَ وَكَلَّفُوهُمْ صَنْعَةَ الطَّعَامِ لِغَيْرِهِمْ. قَوْلُهُ: «لَا عَقْرَ فِي الْإِسْلَامِ» . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْعَقْرِ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْقِرُونَ الْإِبِلَ عَلَى قَبْرِ الرَّجُلِ الْجَوَادِ يَقُولُونَ: نُجَازِيهِ عَلَى فِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْقِرُهَا فِي حَيَاتِهِ فَيُطْعِمُهَا الْأَضْيَافَ، فَنَحْنُ نَعْقِرُهَا عِنْدَ قَبْرِهِ حَتَّى تَأْكُلَهَا السِّبَاعُ وَالطَّيْرُ فَيَكُونُ مُطْعِمًا بَعْدَ مَمَاتِهِ كَمَا كَانَ مُطْعِمًا فِي حَيَاتِهِ قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَذْهَبُ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّهُ إذَا عُقِرَتْ رَاحِلَتُهُ عِنْدَ قَبْرِهِ حُشِرَ فِي الْقِيَامَةِ رَاكِبًا، وَمَنْ لَمْ يُعْقَرْ عِنْدَهُ حُشِرَ رَاجِلًا انْتَهَى. بَابُ مَا جَاءَ فِي الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ وَبَيَانِ الْمَكْرُوهِ مِنْهُ 1935- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أُصِيبَ أَبِي يَوْمَ أُحُدٍ فَجَعَلْتُ أَبْكِي، فَجَعَلُوا

(1/523)


يَنْهَوْنِي وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَنْهَانِي فَجَعَلَتْ عَمَّتِي فَاطِمَةُ تَبْكِي، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «تَبْكِينَ أَوْ لَا تَبْكِينَ مَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 1936- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَاتَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبَكَتْ النِّسَاءُ فَجَعَلَ عُمَرُ يَضْرِبُهُنَّ بِسَوْطِهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ وَقَالَ: مَهْلًا يَا عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ: «إيَّاكُنَّ وَنَعِيقَ الشَّيْطَانِ» . ثُمَّ قَالَ: «إنَّهُ مَهْمَا كَانَ مِنْ الْعَيْنِ وَالْقَلْبِ فَمِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمِنْ الرَّحْمَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ الْيَدِ وَاللِّسَانِ فَمِنْ الشَّيْطَانِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1937- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ، فَأَتَاهُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَهُ فِي غَاشِيَّةٍ، فَقَالَ: «قَدْ قَضَى» . فَقَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَهُ بَكَوْا؛ فقَالَ: «أَلَا تَسْمَعُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا، وَأَشَارَ إلَى لِسَانِهِ أَوْ يَرْحَمُ» . 1938- وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ إحْدَى بَنَاتِهِ تَدْعُوهُ وَتُخْبِرُهُ أَنَّ صَبِيًّا لَهَا فِي الْمَوْتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: لِلرَّسُول «ارْجِعْ إلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ» . فَعَادَ الرَّسُولُ فَقَالَ: إنَّهَا أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا، قَالَ: فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ مَعَهُمْ، فَرُفِعَ إلَيْهِ الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنَّةٍ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ سَعْدٌ: مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 1939- وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ لَمَّا مَاتَ حَضَرَهُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، قَالَتْ: فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنِّي لَأَعْرِفُ بُكَاءَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ بُكَاءِ عُمَرَ وَأَنَا فِي حُجْرَتِي. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1940- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا قَدِمَ مِنْ أُحُدٍ سَمِعَ

(1/524)


نِسَاءً مِنْ عَبْدِ الْأَشْهَلِ يَبْكِينَ عَلَى هَلْكَاهِنَّ، فَقَالَ: «ولَكِنْ حَمْزَةُ لَا بَوَاكِيَ لَهُ» . فَجِئْنَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ فَبَكَيْنَ عَلَى حَمْزَةَ عِنْدَهُ، فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «وَيْحَكُنَّ أَنْتُنَّ هَا هُنَا تَبْكِينَ حَتَّى الْآنَ، مُرُوهُنَّ فَلْيَرْجِعْنَ وَلَا يَبْكِينَ عَلَى هَالِكٍ بَعْدَ الْيَوْمِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 1941- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَ يَعُودُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَابِتٍ فَوَجَدَهُ قَدْ غُلِبَ، فَصَاحَ بِهِ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَاسْتَرْجَعَ وَقَالَ: «غُلِبْنَا عَلَيْك يَا أَبَا الرَّبِيعِ» . فَصَاحَ النِّسْوَةُ وَبَكَيْنَ، فَجَعَلَ ابْنُ عَتِيكٍ يُسَكِّنُهُنَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْهُنَّ فَإِذَا وَجَبَ فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ» . قَالُوا: وَمَا الْوُجُوبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الْمَوْتُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَلَكِنْ حَمْزَةُ لَا بَوَاكِيَ لَهُ) . هَذِهِ الْمَقَالَةُ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ عَدَمِ إنْكَارِهِ لِلْبُكَاءِ الْوَاقِعِ مِنْ نِسَاءِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ هَلْكَاهُنَّ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ مُجَرَّدِ الْبُكَاءِ. وَقَوْلُهُ: «وَلَا يَبْكِينَ عَلَى هَالِكٍ بَعْدَ الْيَوْمِ» . ظَاهِرُهُ الْمَنْعُ مِنْ مُطْلَقِ الْبُكَاءِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ: «فَإِذَا وَجَبَ فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ» . وَذَلِكَ يُعَارِضُ مَا فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ مِنْ الْإِذْنِ بِمُطْلَقِ الْبُكَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ. إِلِى أَنْ قَالَ: فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِحَمْلِ النَّهْيِ عَنْ الْبُكَاءِ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا بِبُعْدِ الْمَوْتِ عَلَى الْبُكَاءِ الْمُفْضِي إلَى مَا لَا يَجُوزُ مِنْ النَّوْحِ وَالصُّرَاخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْإِذْنُ بِهِ عَلَى مُجَرَّدِ الْبُكَاءِ الَّذِي هُوَ دَمْعُ الْعَيْنِ وَمَا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ مِنْ الصَّوْتِ. وَقَدْ أَشَارَ إلَى هَذَا الْجَمْعِ قَوْلُهُ: «وَلَكِنْ نَهَيْت عَنْ صَوْتَيْنِ أحمقين فاجرين: صوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان» . الحديث. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ النَّهْيِ عَنْ النِّيَاحَةِ وَالنَّدْبِ وَخَمْشِ الْوُجُوهِ وَنَشْرِ الشَّعْرِ وَنَحْوِهِ الرُّخْصَةُ فِي يَسِيرِ الْكَلَامِ مِنْ صِفَةِ الْمَيِّتِ 1942- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَةِ الْجَاهِلِيَّةِ» . 1943- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: وَجِعَ أَبُو مُوسَى وَجَعًا فَغُشِيَ عَلَيْهِ

(1/525)


وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ، فَصَاحَتْ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئًا، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ بَرِيءَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَإِنَّ ... رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَرِيءَ مِنْ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ. 1944- وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إنَّهُ مَنْ ينحَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ» . 1945- وَعَنْ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ. 1946- وَفِي رِوَايَةٍ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ. 1947- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» . 1948- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: إنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «إنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ. 1949- وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ» . 1950- وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ بِالْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ وَالنِّيَاحَةُ» . وَقَالَ: «النَّائِحَةُ إذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 1951- وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ إذَا قَالَتْ النَّائِحَةُ: وَاعَضُدَاهَ وَانَاصِرَاهُ وَاكَسِبَاهُ، جُبِذَ الْمَيِّتُ وَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ عَضُدُهَا أَنْتَ نَاصِرُهَا أَنْتَ كَاسِبُهَا» ؟ . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1952- وَفِي لَفْظِ «مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ بَاكِيهِم فَيَقُولُ: وَاجَبَلاهُ وَامسَنَدَاهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ إلَّا وُكِّلَ بِهِ مَلَكَانِ يَلْهَزَانِهِ أَهَكَذَا كُنْتَ» ؟ . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. 1953- وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ

(1/526)


فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِي: وَاجَبَلَاهُ وَاكَذَا وَاكَذَا تُعَدِّدُ عَلَيْهِ، فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ: مَا قُلْت شَيْئًا إلَّا قِيلَ لِي أَنْتَ كَذَلِكَ؛ فَلَمَّا مَاتَ لَمْ تَبْكِ عَلَيْهِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 1954- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ الْكَرْبُ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: وَاكَرْبَ أَبَتَاهُ، فَقَالَ: «لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ» . فَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ، يَا أَبَتَاهُ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ يَا أَبَتَاهُ إلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهُ فَلَمَّا دُفِنَ قَالَتْ فَاطِمَةُ: أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - التُّرَابَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 1955- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ وَفَاتِهِ فَوَضَعَ فَمَه بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى صُدْغَيْهِ وَقَالَ: وَانَبِيَّاهُ وَاخَلِيلَاهُ وَاصَفِيَّاهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (لَيْسَ مِنَّا) أَيْ مِنْ أَهْلِ سُنَّتِنَا وَطَرِيقَتنَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ إخْرَاجَهُ مِنْ الدِّينِ، وَفَائِدَةُ إيرَادِ هَذَا اللَّفْظِ الْمُبَالَغَةُ فِي الرَّدْعِ عَنْ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ. قَالَ: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى تَحْرِيمِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّهَا مُشْعِرَةٌ بِعَدَمِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ. قَوْلُهُ: «مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ» . ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى الْأَخْذِ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إلَى تَأْوِيلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِمَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُبْكَى عَلَيْهِ. وَقالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّ بِدْءِ عَذَابِ الْمَيِّتِ يَقَعُ عِنْدَ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْكَافِرِ دُونَ الْمُؤْمِنِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ لِمَنْ أَهْمَلَ نَهْيَ أَهْلِهِ عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى التَّعْذِيبِ تَوْبِيخُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ فَيَنْزِلَ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ؛ بِأَنْ يُقَالَ مَثَلًا: مَنْ كَانَ طَرِيقَتُهُ النَّوْحَ فَمَشَى أَهْلُهُ عَلَى طَرِيقَتِهِ أَوْ بَالَغَ فَأَوْصَاهُمْ بِذَلِكَ عُذِّبَ بِصَنِيعِهِ، وَمَنْ كَانَ ظَالِمًا فَنُدِبَ بِأَفْعَالِهِ الْجَائِرَةِ عُذِّبَ بِمَا نُدِبَ بِهِ، وَمَنْ كَانَ يَعْرِفُ مِنْ أَهْلِهِ النِّيَاحَةَ وَأَهْمَلَ نَهْيَهُمْ

(1/527)


عَنْهَا فَإِنْ كَانَ رَاضِيًا بِذَلِكَ الْتَحَقَ بِالْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ رَاضٍ عُذِّبَ بِالتَّوْبِيخِ كَيْفَ أَهْمَلَ النَّهْيَ، وَمَنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَاحْتَاطَ فَنَهَى أَهْلَهُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ ثُمَّ خَالَفُوهُ وَفَعَلُوا ذَلِكَ كَانَ تَعْذِيبُهُ تَأَلُّمَهُ بِمَا يَرَاهُ مِنْهُ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ وَإِقْدَامِهِمْ عَلَى مَعْصِيَةِ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ الشَّارِحُ: وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ فَاطِمَةَ جَوَازُ ذِكْرِ الْمَيِّتِ بِمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ إنْ كَانَ مَعْلُومًا. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: لَيْسَ هَذَا مِنْ نَوْحِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ الْكَذِبِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ وَغَيْرِهِ إنَّمَا هُوَ نُدْبَةٌ مُبَاحَةٌ. بَابُ الْكَفِّ عَنْ ذِكْرِ مَسَاوِئِ الْأَمْوَاتِ 1956- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إلَى مَا قَدَّمُوا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. 1957- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا تَسُبُّوا أَمْوَاتَنَا فَتُؤْذُوا أَحْيَاءَنَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ» ظَاهِرُهُ النَّهْيُ عَنْ سَبِّ الْأَمْوَاتِ عَلَى الْعُمُومِ، وَقَدْ خُصِّصَ هَذَا الْعُمُومَ بِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ثَنَائِهِمْ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ: «وَجَبَتْ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ» . وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: إنَّ السَّبَّ يَكُونُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ وَفِي حَقِّ الْمُسْلِمِ أَمَّا فِي حَقِّ الْكَافِرِ فَيَمْتَنِعُ إذَا تَأَذَّى بِهِ الْحَيُّ الْمُسْلِمُ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَحَيْثُ تَدْعُو الضَّرُورَةُ إلَى ذَلِكَ كَأَنْ يَصِيرَ مِنْ قَبِيلِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَجِبُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَقَدْ تَكُونُ مَصْلَحَةً لِلْمَيِّتِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْوَجْهُ تَبْقِيَةُ الْحَدِيثِ عَلَى عُمُومِهِ إلَّا مَا خَصَّهُ دَلِيلٌ كَالثَّنَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ بِالشَّرِّ وَجَرْحِ الْمَجْرُوحِينَ مِنْ الرُّوَاةِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ وَذِكْرِ مَسَاوِئِ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ لِلتَّحْذِيرِ مِنْهُمْ وَالتَّنْفِيرِ عَنْهُمْ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَالْمُتَحَرِّي لِدِينِهِ فِي اشْتِغَالِهِ بِعُيُوبِ نَفْسِهِ مَا يَشْغَلُهُ عَنْ نَشْرِ مَثَالِبِ الْأَمْوَاتِ، وَسَبِّ مَنْ لَا يَدْرِي كَيْفَ حَالُهُ عِنْدَ بَارِئِ الْبَرِّيَّاتِ.

(1/528)


بَابُ اسْتِحْبَابِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ وَمَا يُقَالُ عِنْدَ دُخُولِهَا 1958- عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَقَدْ أُذِنَ لَمُحَمَّدٍ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّهِ، فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ ... الْآخِرَةَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1959 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: زَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، فَقَالَ: «اسْتَأْذَنْت رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 1960- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 1961- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَنَّ عَائِشَةَ أَقْبَلَتْ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ الْمَقَابِرِ فَقُلْت لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْت؟ قَالَتْ: مِنْ قَبْرِ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقُلْت لَهَا: أَلَيْسَ كَانَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ كَانَ نَهَى عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، ثُمَّ أَمَرَ بِزِيَارَتِهَا. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ فِي سُنَنِهِ. 1962- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَتَى الْمَقْبَرَةَ فَقَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 1963- وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةِ مِثْلُهُ وَزَادَ: «اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ» . 1964 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُهُمْ إذَا خَرَجُوا إلَى الْمَقَابِرِ أَنْ يَقُولَ قَائِلُهُمْ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِيهَا مَشْرُوعِيَّة زِيَارَةِ

(1/529)


الْقُبُورِ وَنَسْخُ النَّهْيِ عَنْ الزِّيَارَةِ. وَقَدْ حَكَى وَالنَّوَوِيُّ اتِّفَاقَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ لِلرِّجَالِ جَائِزَةٌ. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ ذَهَبَ إلَى كَرَاهَةِ الزِّيَارَةِ لِلنِّسَاءِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَرَاهَةِ هَلْ هِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إلَى الْجَوَازِ إذَا أُمِنَتْ الْفِتْنَةُ وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا دُخُولُهُنَّ تَحْتَ الْإِذْنِ الْعَامِّ بِالزِّيَارَةِ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْإِذْنَ الْعَامَّ مُخَصَّصٌ بِهَذَا النَّهْيِ الْخَاصِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ اللَّعْنِ. قََالَ الْقُرْطُبِيُّ: اللَّعْنُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ إنَّمَا هُوَ لِلْمُكْثِرَاتِ مِنْ الزِّيَارَةِ لِمَا تَقْتَضِيهِ الصِّيغَةُ مِنْ الْمُبَالَغَةِ، وَلَعَلَّ السَّبَبَ مَا يَقْتَضِي إلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ تَضْيِيعِ حَقِّ الزَّوْجِ وَالتَّبَرُّجِ، وَمَا يَنْشَأُ مِنْ الصِّيَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ يُقَالُ إذَا أَمِنَ جَمِيعَ ذَلِكَ فَلَا مَانِعَ مِنْ، الْإِذْنِ لَهُنَّ؛ لِأَنَّ تَذَكُّرَ الْمَوْتِ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمَيِّتِ يُنْقَلُ أَوْ يُنْبَشُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ 1965- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَبْدَ اللَّه بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَمَا دُفِنَ فَأَخْرَجَهُ فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ. 1966- وَفِي رِوَايَةٍ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ. فَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَكَانَ كَسَا عَبَّاسًا قَمِيصًا قَالَ سُفْيَانُ: فَيَرَوْنَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَلْبَسَ عَبْدَ اللَّهِ قَمِيصَهُ مُكَافَأَةً بِمَا صَنَعَ. رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ. 1967- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُرَدُّوا إلَى مَصَارِعِهِمْ وَكَانُوا نُقِلُوا إلَى الْمَدِينَةِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: دُفِنَ مَعَ أَبِي رَجُلٌ، فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَخْرَجْتُهُ فَجَعَلْتُهُ فِي قَبْرٍ عَلَى حِدَةٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. وَلِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ سَمِعَ غَيْرَ وَاحِدٍ يَقُولُ: إنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَسَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ مَاتَا بِالْعَقِيقِ فَحُمِلَا إلَى الْمَدِينَةِ وَدُفِنَا بِهَا. وَلِسَعِيدٍ فِي سُنَنِهِ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ الْحَضْرَمِيِّ أَنَّ رِجَالًا قَبَرُوا صَاحِبًا

(1/530)


لَهُمْ لَمْ يُغَسِّلُوهُ وَلَمْ يَجِدُوا لَهُ كَفَنًا ثُمَّ لَقُوا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ فَأَخْبَرُوهُ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُخْرِجُوهُ، فَأَخْرَجُوهُ مِنْ قَبْرِهِ ثُمَّ غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَحُنِّطَ، ثُمَّ صُلِّيَ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (بَعْدَ مَا دُفِنَ) . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إخْرَاجِ الْمَيِّتِ مِنْ قَبْرِهِ إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لَهُ مِنْ زِيَادَةِ الْبَرَكَةِ عَلَيْهِ وَنَحْوِهَا. قَوْلُهُ: (وَكَانُوا نُقِلُوا إلَى الْمَدِينَةِ) . فِيهِ جَوَازُ إرْجَاعِ الشَّهِيدِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أُصِيبَ فِيهِ بَعْدَ نَقْلِهِ مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا أَنَّهُمْ كَانُوا دُفِنُوا فِي الْمَدِينَةِ ثُمَّ أُخْرِجُوا مِنْ الْقُبُورِ وَنُقِلُوا. قَوْلُهُ: (فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ نَبْشُ الْمَيِّتِ لِأَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالْحَيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمَيِّتِ فِي دَفْنِ مَيِّتٍ آخَرَ مَعَهُ. قَوْلُهُ: (فَحُمِلَا إلَى الْمَدِينَةِ) فِيهِ جَوَازُ نَقْلِ الْمَيِّتِ مِنْ الْمَوْطِنِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ إلَى مَوْطِنٍ آخَرَ يُدْفَنُ فِيهِ، وَالْأَصْلُ الْجَوَازُ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا لِدَلِيلٍ. قَوْلُهُ: (فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُخْرِجُوهُ) إلَى آخِرِهِ. فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ نَبْشُ الْمَيِّتِ لِغُسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. والله أعلم.

(1/531)


 كِتَابُ الزَّكَاة

بَابُ الْحَثِّ عَلَيْهَا وَالتَّشْدِيدِ فِي مَنْعِهَا 1968- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ قَالَ: إنَّك تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ؛ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 1969- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ إلَّا أُحْمِيَ عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُجْعَلُ صَفَائِحَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبَاهُ وَجَبْهَتُهُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يُرَى سَبِيلُهُ، إمَّا إلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إلَى النَّارِ، وَمَا مِنْ صَاحِبِ إبِلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا، إلَّا بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ كَأَوْفَرِ مَا كَانَتْ تَسْتَنُّ عَلَيْهِ، كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ،

(1/532)


ثُمَّ يُرَى سَبِيلُهُ، إمَّا إلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إلَى النَّارِ، وَمَا مِنْ صَاحِبِ غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلَّا بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ كَأَوْفَرِ مَا كَانَتْ فَتَطَأهُ بِأَظْلَافِهَا، وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ وَلَا جَلْحَاءُ، كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، ثُمَّ يُرَى سَبِيلُهُ، إمَّا إلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إلَى النَّارِ قَالُوا: فَالْخَيْلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا أَوْ قَالَ: الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ: هِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَلِرَجُلٍ وِزْرٌ فَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ، فَالرَّجُلُ يَتَّخِذُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيُعِدُّهَا لَهُ فَلَا تُغَيِّبُ شَيْئًا فِي بُطُونِهَا إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرًا، وَلَوْ رَعَاهَا فِي مَرْجٍ فَمَا أَكَلَتْ مِنْ شَيْءٍ إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا أَجْرًا، وَلَوْ سَقَاهَا مِنْ نَهْرٍ كَانَ لَهُ بِكُلِّ قَطْرَةٍ تُغَيِّبُهَا فِي بُطُونِهَا أَجْرٌ حَتَّى ذَكَرَ الْأَجْرَ فِي أَبْوَالِهَا وَأَرْوَاثِهَا، وَلَوْ اسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ تَخْطُوهَا أَجْرٌ. وَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ فَالرَّجُلُ يَتَّخِذُهَا تَكَرُّمًا وَتَجَمُّلًا وَلَا يَنْسَى حَقَّ ظُهُورِهَا وَبُطُونِهَا فِي عُسْرِهَا وَيُسْرِهَا وَأَمَّا الَّتِي هِيَ عَلَيْهِ وِزْرٌ، فَاَلَّذِي يَتَّخِذُهَا أَشَرًا وَبَطَرًا وَبَذَخًا وَرِيَاءَ النَّاسِ، فَذَلِكَ الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ وِزْرٌ قَالُوا: فَالْحُمُرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ فِيهَا شَيْئًا إلَّا هَذِهِ الْآيَةَ الْجَامِعَةَ الْفَاذَّةَ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 1970- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ، فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ» . فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا، قَالَ عُمَرُ: فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْت أَنَّهُ الْحَقُّ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. 1971- لَكِنْ فِي لَفْظِ مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَأَبِي دَاوُد: لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ بَدَلَ الْعَنَاقِ. 1972- وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «فِي كُلِّ إبِلٍ سَائِمَةٍ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ لَا تُفْرَقُ إبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا، مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أَجْرُهَا، وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا،

(1/533)


وَشَطْرَ إبِلِهِ عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 1973- وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ: «وَشَطْرَ مَالِهِ» . وَهُوَ حُجَّةٌ فِي أَخْذِهَا مِنْ الْمُمْتَنِعِ وَوُقُوعِهَا مَوْقِعِهَا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ أَبُو بَكْر بن الْعَرَبِي: تُطْلَقُ الزَّكَاة عَلَى الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ وَالنَّفَقَةِ وَالْعَفْو وَالْحَقّ. وَتَعْرِيفُهَا فِي الشَّرْعِ: إِعْطَاءُ جُزْءٍ مِنَ النِّصَابِ إِلَى فَقِيرٍ وَنَحْوُهُ غَيْرَ مُتَّصِفُ بِمَانِعٍ شَرْعِي يَمْنَعُ مِنَ الصَّرْفِ إِلَيْهِ. قَوْلُهُ: «تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ» اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الإِمَامَ هُوَ الذي يَتَوَلَّى قَبْض الزَّكَاةِ وَصَرْفَهَا إِمَّا بِنَفْسِهِ وِإِمَّا بِنَائِبِهِ فَمَنِ امْتَنَعَ مِنْهُمْ أُخِذَتْ مِنْهُ قَهْرًا. قَوْلُهُ: «عَلَى فُقَرَائِهِمْ» . اسْتَدَلَّ بِهِ لِقَوْلِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يَكْفِي إِخْرَاج الزَّكَاة فِي صَنْفٍ وَاحِدٍ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ مَنْ لا يَرَى عَلَى الْمَدْيُونِ زَكَاة إِذَا لَمْ يَفْضُلْ مِنَ الدَّيْنِ الذي عَلَيْهِ قَدْرَ نِصَابٍ لأَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيٍّ إِذْ إِخْرَاجُ مَالِهِ مُسْتَحَقٌ لِغُرَمَائِهِ. قَوْلُهُ: «فَإِيَّاكَ وَكَرَائِم أَمْوَالِهِمْ» . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ لِلْمُصَّدِقِ أَخْذَ خِيَارَ الْمَالِ لأَنَّ الزَّكَاةَ لِمُوَاسَاةُ الْفُقَرَاءُ فَلا يُنَاسِبُ ذَلِكَ الإِجْحَافُ بِالْمَالِكِ إِلا بِرِضَاهُ. قَوْلُهُ: «وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ» . فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَالنُّكْتَة فِي ذِكْرِهِ عَقِبَ الْمَنْع مِنْ أَخْذِ كَرَائِمِ الأَمْوَالِ الإِشَارَة إِلَى أَنَّ أَخْذَهَا ظُلْمٌ. قَوْلُهُ: «حِجَاب» . أَيّ لَيْسَ لَهَا صَارِفٌ يَصْرِفُهَا وَلا مَانِعٍ وَالْمُرَادُ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة عِنْدَ أَحْمَدٍ مَرْفُوعًا: «دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ» . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ صَرْفِ الزَّكَاةِ فِي بَلَدِهَا، وَاشْتِرَاطُ إٍسْلام

(1/534)


الْفَقِيرِ وَأَنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِ الطِّفْلِ الْغَنِيِّ عَمَلاً بِعُمُومِهِ كَمَا تُصْرَفُ فِيهِ مَعَ الْفُقَرَاءِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى بَعْثِ السَّعَادَةِ وَتَوْصِيَةِ الإِمَامِ عَامِلهُ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الأَحْكَامِ وَقُبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَوُجُوب الْعَمَلِ بِهِ وَإِيَجَابِ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الْمَجْنُونِ لِلْعُمُومِ أَيْضًا وَأَنَّ الْمَالَ إِذَا تَلَفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الأَدَاءِ سَقَطَتْ الزَّكَاة لإِضَافَةِ الصَّدَقَةِ إِلَى الْمَالِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: «مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ» . قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرَ الطَّبَرَانِيُّ: الْكَنْزُ كُلُّ شَيْءٍ مَجْمُوعٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ سَوَاءٌ كَانَ فِي بَطْنِ الْأَرْضِ أَوْ فِي ظَهْرِهَا. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمُرَادِ بِالْكَنْزِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ وَفِي الْحَدِيثِ، فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: هُوَ كُلُّ مَالٍ وَجَبَتْ فِيهِ صَدَقَةُ الزَّكَاةِ فَلَمْ تُؤَدَّ فَأَمَّا مَالٌ أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَقَدْ زَادَ مُسْلِمٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «وَلَا صَاحِبَ بَقَرٍ» . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ تَارِكَ الزَّكَاةِ لَا يُقْطَعُ لَهُ بِالنَّارِ وَآخِرُهُ دَلِيلٌ فِي إثْبَاتِ الْعُمُومِ. قَوْلُهُ: (وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ) . قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَهْلُ الرِّدَّةِ كَانُوا صِنْفَيْنِ: صِنْفٌ ارْتَدُّوا عَنْ الدِّينِ وَنَابَذُوا الْمِلَّةَ وَعَدَلُوا إلَى الْكُفْرِ وَهُمْ الَّذِينَ عَنَاهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ. قَالَ: وَالصِّنْفُ الْآخَرُ هُمْ الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الصَّلَاةِ وَبَيْنَ الزَّكَاةِ فَأَنْكَرُوا وُجُوبَهَا وَوُجُوبَ أَدَائِهَا إلَى الْإِمَامِ، وَقَدْ كَانَ فِي ضِمْنِ هَؤُلَاءِ الْمَانِعِينَ لِلزَّكَاةِ مَنْ كَانَ يَسْمَحُ بِالزَّكَاةِ وَلَمْ يَمْنَعْهَا إلَّا أَنَّ رُؤَسَاءَهُمْ صَدُّوهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَقَبَضُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَفِي أَمْرِ هَؤُلَاءِ عَرَضَ الْخِلَافُ وَوَقَعَتْ الشُّبْهَةُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَرَاجَعَ أَبُو بَكْرٍ وَنَاظَرَهُ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ... «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ» الْحَدِيثَ، وَكَانَ هَذَا مِنْ عُمَرَ تَعَلُّقًا بِظَاهِرِ الْكَلَامِ قَبْلَ أَنْ يَنْظُرَ فِي آخِرِهِ وَيَتَأَمَّلَ شَرَائِطَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: إنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ يُرِيدُ أَنَّ الْقَضِيَّةَ قَدْ تَضَمَّنَتْ عِصْمَةَ دَمٍ وَمَالٍ مُتَعَلِّقَةً بِأَطْرَافِ شَرَائِطِهَا، وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطَيْنِ لَا يَحْصُلُ بِأَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ مَعْدُومٌ، ثُمَّ قَايَسَهُ بِالصَّلَاةِ وَرَدَّ الزَّكَاةَ

(1/535)


إلَيْهَا، فَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قِتَالَ الْمُمْتَنِعِ مِنْ الصَّلَاةِ كَانَ إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلِذَلِكَ رَدَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ إلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: (حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ) إلَى آخِرِهِ. الْمُرَادُ بِهَذَا أَهْلُ الْأَوْثَانِ دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَيُقَاتَلُونَ وَلَا يُرْفَعُ عَنْهُمْ السَّيْفُ. قَوْلُهُ: (لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ) قَالَ النَّوَوِيُّ: ضَبَطْنَاهُ بِوَجْهَيْنِ: بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِهَا، وَمَعْنَاهُ مَنْ أَطَاعَ فِي الصَّلَاةِ وَجَحَدَ فِي الزَّكَاةِ أَوْ مَنَعَهَا. قَوْلُهُ: (عَنَاقًا) . بِفَتْحِ الْعَيْنِ: وَهُيَ الْأُنْثَى مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: «عِقَالًا» وَقَدْ اختلف فِي تَفْسِيرِهِ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِقَالِ: زَكَاةُ عَامٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ كَذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ. وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِقَالِ: الْحَبْلُ الَّذِي يُعْقَلُ بِهِ الْبَعِيرُ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَحْكَي عَنْ مَالِكٍ وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَغَيْرِهِمَا، ُ قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ صَدَقَةُ عَامٍ تَعَسُّفٌ وَذَهَابٌ عَنْ طَرِيقَةِ الْعَرَبِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّضْيِيقِ وَالتَّشْدِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فَيَقْتَضِي قِلَّةَ مَا عُلِّقَ بِهِ الْعِقَالُ وَحَقَارَتَهُ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى صَدَقَةِ الْعَامِ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْمَعْنَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي غَيْرُهُ وَكَذَلِكَ أَقُولُ أَنَا. وَاعْلَمْ أَنَّهَا قَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ مَانِعَ الزَّكَاةِ يُقَاتَلُ حَتَّى يُعْطِيَهَا، فَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ إلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» . انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلَهُ: «فِي كُلِّ إبِلٍ سَائِمَةٍ» . يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي الْمَعْلُوفَةِ. قَوْلَهُ: (لَا تُفْرَقُ إبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا) . أَيْ لَا يُفَرِّقُ أَحَدُ الْخَلِيطَيْنِ مِلْكَهُ عَنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ. قَوْلُهُ: (مُؤْتَجِرًا) أَيْ: طَالِبًا لِلْأَجْرِ.

(1/536)


قَوْلُهُ: (فَإِنَّا آخِذُوهَا) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يجوز للإمام أن يأخذ الزكاة قهرًا إذا لم يرض رب المال، وعلى أنه يُكتفى بنية الإمام. قَوْلُهُ: (وَشَطْر مَاله) أَيْ: بَعْضهُ، وَقَدْ استدل بِهِ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ لِلإِمَامِ أَنْ يُعَاقِبَ بِأَخْذِ الْمَال وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ مِنْ قَوْلَيْهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ وَقَالَ إِنَّهُ مَنْسُوخٍ. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَالتَّعْزِيرُ بِالْمَالِ سَائِغٌ إِتْلافًا وَأَخْذًا وَهُوَ جَارٍ عَلَى أَصْلِ أَحْمَدٍ لأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُهُ أَنَّ الْعُقُوبَاتِ فِي الأَمْوَالِ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ كُلّهَا، وَقَوْل أَبِي الشَّيْخِ الْمَقْدِسِيّ: وَلا يَجُوزُ أَخْذَ مَال الْمُعَزَّرِ، فَإِشَارَةٌ مِنْهُ إِلَى مَا يَفْعَلُهُ الْوُلاةُ الظَّلَمَةُ. بَابُ صَدَقَةِ الْمَوَاشِي 1974- عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُمْ: إنَّ هَذِهِ فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَرَسُولُهُ، فَمَنْ سُئِلَهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا، وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَ ذَلِكَ فَلَا يُعْطِهِ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ، وَالْغَنَمِ فِي كُلِّ خَمْسِ ذَوْدٍ شَاةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ؛ فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا ابْنَةُ لَبُونٍ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْفَحْلِ إلَى سِتِّينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ؛ فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ إلَى تِسْعِينَ فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَتِسْعِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْفَحْلِ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ابِنْة لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ؛ فَإِذَا تَبَايَنَ أَسْنَانُ الْإِبِلِ فِي فَرَائِضِ الصَّدَقَاتِ، فَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إنْ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا؛ وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إلَّا جَذَعَةً فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ؛ وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ ابْنَةُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَيُجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إنْ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا؛ وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ ابْنَةِ لَبُونٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إلَّا حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ

(1/537)


عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ؛ وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ ابْنَةِ لَبُونٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ ابْنَةُ لَبُونٍ وَعِنْدَهُ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إنْ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا؛ وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ ابْنَةِ مَخَاضٍ وَلَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا ابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ؛ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا أَرْبَعٌ مِنْ الْإِبِلِ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا. وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا شَاةٌ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ فَفِيهَا شَاتَانِ إلَى مِائَتَيْنِ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ إلَى ثَلَاثِمِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ وَلَا يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ وَلَا تَيْسٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُصَدِّقُ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمَعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ؛ وَإِذَا كَانَ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا. وَفِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَالُ إلَّا تِسْعِينَ وَمِائَةً دِرْهَم فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالْبُخَارِيُّ وَقَطَّعَهُ فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ كَذَلِكَ. 1975- وَلَهُ فِيهِ فِي رِوَايَةٍ فِي صَدَقَةِ الْإِبِلِ: فَإِذَا بَلَغَتْ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ وَرُوَاتُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ. 1976- وَعَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ كَتَبَ الصَّدَقَةَ وَلَمْ يُخْرِجْهَا إلَى عُمَّالِهِ حَتَّى تُوُفِّيَ، قَالَ: فَأَخْرَجَهَا أَبُو بَكْرٍ مِنْ بَعْدِهِ فَعَمِلَ بِهَا حَتَّى تُوُفِّيَ؛ ثُمَّ أَخْرَجَهَا عُمَرُ مِنْ بَعْدِهِ فَعَمِلَ بِهَا حَتَّى تُوفِّي، قَالَ: فَلَقَدْ هَلَكَ عُمَرُ يَوْمَ هَلَكَ وَإِنَّ ذَلِكَ لَمَقْرُونٌ بِوَصِيَّتِهِ، قَالَ: فَكَانَ فِيهَا فِي الْإِبِلِ فِي خَمْسٍ شاة حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ؛ فَإِذَا بَلَغَتْ إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا حِقَّةٌ إلَى سِتِّينَ؛ فَإِذَا زَادَتْ

(1/538)


فَفِيهَا جَذَعَةٌ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ؛ فَإِذَا زَادَتْ فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ إلَى تِسْعِينَ؛ فَإِذَا زَادَتْ فَفِيهَا حِقَّتَانِ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ؛ فَإِذَا كَثُرَتْ الْإِبِلُ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ. وَفِي الْغَنَمِ مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ. فَإِذَا زَادَتْ شَاةٌ فَفِيهَا شَاتَانِ إلَى مِائَتَيْنِ، فَإِذَا زَادَتْ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ إلَى ثَلَاثِمِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ بَعْدُ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعَمِائَةٍ، فَإِذَا كَثُرَتْ الْغَنَمُ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، وَكَذَلِكَ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ مَخَافَةَ الصَّدَقَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ لَا تُؤْخَذُ هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عَيْبٍ مِنْ الْغَنَمِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. 1977- وَفِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ مُرْسَلًا: فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَمِائَةً، فَإِذَا كَانَتْ ثَلَاثِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ وَحِقَّةٌ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ وَمِائَةً. فَإِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَبِنْتُ لَبُونٍ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةً، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَخَمْسِينَ وَمِائَةً فَإِذَا كَانَتْ سِتِّينَ وَمِائَةً فَفِيهَا أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَسِتِّينَ وَمِائَةً، فَإِذَا كَانَتْ سَبْعِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ وَحِقَّةٌ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَسَبْعِينَ وَمِائَةً، فَإِذَا بَلَغَتْ ثَمَانِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَابْنَتَا لَبُونٍ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَثَمَانِينَ وَمِائَةً، فَإِذَا كَانَتْ تِسْعِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَابْنَةُ لَبُونٍ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ وَمِائَةً، فَإِذَا كَانَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ أَيُّ السِّنِينِ وُجِدَتْ أُخِذَتْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 1978- وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى الْيَمَنِ وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً وَمِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَلَيْسَ لِابْنِ مَاجَهْ فِيهِ حُكْمُ الْحَالِمِ. 1979- وَعَنْ يَحْيَى بْنِ الْحَكَمِ أَنَّ مُعَاذًا قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُصَدِّقُ أَهْلَ الْيَمَنِ، فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ الْبَقَرِ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا، وَمِنْ كُلِّ

(1/539)


أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً، فَعَرَضُوا عَلَيَّ أَنْ آخُذَ مَا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ وَالْخَمْسِينَ، وَمَا بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ. وَمَا بَيْنَ الثَّمَانِينَ وَالتِّسْعِينَ، فَقَدِمْتُ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَرَنِي أَنْ لَا آخُذَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَزَعَمَ أَنَّ الْأَوْقَاصَ لَا فَرِيضَةَ فِيهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1980- وَعَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: سِعْرٌ، عَنْ مُصَدِّقِي رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُمَا قَالا: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَأْخُذَ شَافِعًا. وَالشَّافِعُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا وَلَدُهَا. 1981- وَعَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: أَتَانَا مُصَدِّقُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إنَّ فِي عَهْدِي أَنَّا لَا نَأْخُذُ مِنْ رَاضِعِ لَبَنٍ، وَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، وَلَا نَجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ. وَأَتَاهُ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ كَوْمَاءَ فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَهَا. رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 1982- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْغَاضِرِيِّ مِنْ غَاضِرَةِ قَيْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلَاثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ طَعِمَ طَعْمَ الْإِيمَانِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ رَافِدَةً عَلَيْهِ كُلَّ عَامٍ، وَلَا يُعْطِي الْهَرِمَةَ وَلَا الدَّرِنَةَ وَلَا الْمَرِيضَةَ وَلَا الشَّرَطَ اللَّئِيمَةَ، وَلَكِنْ مِنْ وَسَطِ أَمْوَالِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْأَلْكُمْ خَيْرَهُ. وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ بِشَرِّهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 1983- وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُصَدِّقًا، فَمَرَرْتُ بِرَجُلٍ فَلَمْ أَجِدْ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إلَّا ابْنَةَ مَخَاضٍ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّهَا صَدَقَتُهُ، فَقَالَ: ذَاكَ مَا لَا لَبَنَ فِيهِ وَلَا ظَهْرَ وَمَا كُنْتُ لِأُقْرِضَ اللَّهَ مَا لَا لَبَنَ فِيهِ وَلَا ظَهْرَ، وَلَكِنْ هَذِهِ نَاقَةٌ سَمِينَةٌ فَخُذْهَا فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِآخِذٍ مَا لَمْ أُومَرْ بِهِ، فَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْك قَرِيبٌ فَخَرَجَ مَعِي وَخَرَجَ بِالنَّاقَةِ حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ذَاكَ الَّذِي عَلَيْكَ، وَإِنْ تَطَوَّعْتَ بِخَيْرٍ قَبِلْنَاهُ مِنْك، وَآجَرَكَ اللَّهُ فِيهِ» . قَالَ: فَخُذْهَا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقَبْضِهَا وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1984- وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: تَعَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ يَحْمِلُهَا الرَّاعِي وَلَا تَأْخُذْهَا الْأَكُولَةَ وَلَا الرُّبَّى وَلَا الْمَاخِضَ وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ، وَتَأْخُذُ الْجَذَعَةَ وَالثَّنِيَّةَ وَذَلِكَ عَدْلٌ بَيْنَ غِذَاءِ

(1/540)


الْمَالَ وَخِيَارِهِ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ) إلَى آخِرِهِ. فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُصَدِّقِ قَبُولُ مَا هُوَ أَدْوَنَ، وَيَأْخُذُ التَّفَاوُتَ مِنْ جِنْسٍ غَيْرِ جِنْسِ الْوَاجِبِ وَكَذَا الْعَكْسُ. قَوْلُهُ: (فَفِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ) . مُقْتَضَاهُ أَنَّهَا لَا تَجِبُ الشَّاةُ الرَّابِعَةُ حَتَّى تُوُفِّيَ أَرْبَعَمِائَةِ شَاةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. قَوْلُهُ: (وَلَا يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ) . أَي معِيبة. قَالَ الشَّارِحُ: وَاختلف فِي مِقْدَارِ ذَلِكَ، فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ مَا ثَبَتَ بِهِ الرَّدُّ فِي الْبَيْعِ، وَقِيلَ: مَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ فِي الْأُضْحِيَّةِ، وَيَدْخُلُ فِي الْمَعِيبِ الْمَرِيضُ، وَالذَّكَرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُنْثَى وَالصَّغِيرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى سِنٍّ أَكْبَرَ مِنْهُ. قَوْلُهُ: (وَلَا تَيْسٌ) . وَهُوَ فَحْلُ الْغَنَمِ. قَوْلُهُ: (إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُصَدِّقُ) قَالَ فِي الْفَتْحِ: اختلف فِي ضَبْطِهِ، فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ بِالتَّشْدِيدِ، وَالْمُرَادُ الْمَالِكُ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ وَتَقْدِيرُ الْحَدِيثِ: لَا هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عَيْبٍ أَصْلًا، وَلَا يَأْخُذُ التَّيْسَ إلَّا بِرِضَا الْمَالِكِ لِكَوْنِهِ مُحْتَاجًا إلَيْهِ، فَفِي أَخْذِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ إضْرَارٌ بِهِ، وَعَلَى هَذَا فَالِاسْتِثْنَاءُ مُخْتَصٌّ بِالثَّالِثِ. وَمِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَهُ بِتَخْفِيفِ الصَّادِ وَهُوَ السَّاعِي، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إلَى التَّفْوِيضِ إلَيْهِ فِي اجْتِهَادِهِ لِكَوْنِهِ يَجْرِي مَجْرَى الْوَكِيلِ فَلَا يَتَصَرَّفُ بِغَيْرِ الْمَصْلَحَةِ فَيَتَقَيَّدُ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْقَوَاعِدُ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. قَوْلُهُ: (وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ) . قَالَ فِي الْفَتْحِ: قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: مَعْنَى هَذَا أَنْ يَكُونَ النَّفَرُ الثَّلَاثَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ شَاةً وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ فَيَجْمَعُونَهَا حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ فِيهَا إلَّا شَاةٌ وَاحِدَةٌ، أَوْ يَكُونُ لِلْخَلِيطَيْنِ مِائَتَا شَاةٍ وَشَاةٌ فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا فِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، فَيُفَرِّقُونَهَا حَتَّى لَا يَكُونَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا شَاةٌ وَاحِدَةٌ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى إبْطَالِ الْحِيلَةِ وَالْعَمَلِ عَلَى الْمَقَاصِدِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِالْقَرَائِنِ.

(1/541)


قَوْلُهُ: (وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطٍ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ) . قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ شَاةً مَثَلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِشْرُونَ قَدْ عَرَفَ مِنْهُمَا عَيْنَ مَالِهِ، فَيَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ مِنْ أَحَدِهِمَا شَاةً فَيَرْجِعُ الْمَأْخُوذُ مِنْ مَالِهِ عَلَى خَلِيطِهِ بِقِيمَةِ نِصْفِ شَاةٍ. قَوْلُهُ: (وَفِي الرِّقَةِ) . بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ: هِيَ الْفِضَّةُ الْخَالِصَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ مَضْرُوبَةً أَوْ غَيْرَ مَضْرُوبَةٍ. قَوْلُهُ: (مَعَافِرَ) . بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ: حَيٌّ مِنْ هَمْدَانَ لَا يَنْصَرِفُ لِمَا فِيهِ مِنْ صِيغَةِ مُنْتَهَى الْجُمُوعِ، وَإِلَيْهِمْ تُنْسَبُ الثِّيَابُ الْمَعَافِرِيَّةُ، وَالْمُرَادُ هُنَا: الثِّيَابُ الْمَعَافِرِيَّةُ، كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ أَبُو دَاوُد. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ السُّنَّةَ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَأَنَّهُ النِّصَابُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ فِيهَا. قَوْلُهُ: (مِنْ رَاضِعِ لَبَنٍ) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْ الصِّغَارِ الَّتِي تَرْضَعُ اللَّبَنَ. قَوْلُهُ: (وَأَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ رَافِدَةً عَلَيْهِ كُلَّ عَامٍ) . قَالَ الشَّارِحُ: قَوْلُهُ: (رَافِدَةً) : أَيْ مُعِينَةٌ لَهُ عَلَى أَدَاءِ الزَّكَاةِ. قَوْلُهُ: (وَلَا الدَّرِنَةَ) . بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ مُشَدَّدَةً بَعْدَهَا رَاءٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ نُونٌ وَهِيَ الْجَرْبَاءُ، قَالَهُ الْخَطَّابِيِّ. قَوْلُهُ: (وَلَا الشَّرَطَ اللَّئِيمَةَ) . الشَّرَطُ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هِيَ صِغَارُ الْمَالِ وَشِرَارُهُ. وَاللَّئِيمَةُ: الْبَخِيلَةُ بِاللَّبَنِ. قَوْلُهُ: (الْأَكُولَةَ) . بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْكَافِ: الْعَاقِرُ مِنْ الشِّيَاهِ، وَالشَّاةُ تُعْزَلُ لِلْأَكْلِ. قَوْلُهُ: (وَلَا الرُّبَّى) . بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ: هِيَ الشَّاةُ الَّتِي تُرَبَّى فِي الْبَيْت لِلَبَنِهَا. قَوْلُهُ: (وَتَأْخُذُ الْجَذَعَةَ وَالثَّنِيَّةَ) . الْمُرَادُ الْجَذَعَةُ مِنْ الضَّأْنِ وَالثَّنِيَّةُ مِنْ الْمَعْزِ.

(1/542)


قَوْلُهُ: (وَذَلِكَ عَدْلٌ بَيْنَ غِذَاءِ الْمَالَ وَخِيَارِهِ) . قَالَ الشَّارِحُ: الْغِذَاءُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ الْمَكْسُورَةِ بَعْدَهَا ذَالٌ مُعْجَمَةٌ جَمْعُ غِذًى كَغِنًى: السِّخَالُ. بَابُ لَا زَكَاةَ فِي الرَّقِيقِ وَالْخَيْلِ وَالْحُمُرِ 1985- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ صَدَقَةٌ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ 1986- وَلِأَبِي دَاوُد لَيْسَ فِي الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ زَكَاةٌ إلَّا زَكَاةَ الْفِطْرِ في الرقيق. 1987- وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ لَيْس فِي الْعَبْدِ صَدَقَةٌ إلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ. 1988- وَعَنْ عُمَرَ وَجَاءَهُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَقَالُوا: إنَّا قَدْ أَصَبْنَا أَمْوَالًا خَيْلًا وَرَقِيقًا نُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَنَا فِيهَا زَكَاةٌ طَهُورٌ، قَالَ: مَا فَعَلَهُ صَاحِبَايَ قَبْلِي فَأَفْعَلُهُ، وَاسْتَشَارَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وَفِيهِمْ عَلِيٌّ - رضي الله عنه -، فَقَالَ عَلِيٌّ: هُوَ حَسَنٌ إنْ لَمْ تَكُنْ جِزْيَةً رَاتِبَةً يُؤْخَذُونَ بِهَا مِنْ بَعْدِكَ رَوَاهُ أَحْمَدُ. 1989- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْحَمِيرِ فِيهَا زَكَاةٌ؟ فَقَالَ مَا جَاءَنِي فِيهَا شَيْءٌ إلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْفَاذَّةُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مَعْنَاهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ صَدَقَةٌ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ» . قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: أَرَادَ بِذَلِكَ الْجِنْسَ فِي الْفَرَسِ وَالْعَبْدَ لَا الْفَرْدَ الْوَاحِدَ، إذْ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ فِي الْعَبْدِ الْمُتَصَرِّفِ وَالْفَرَسِ الْمُعَدِّ لِلرُّكُوبِ. انْتَهَى. وَقَدْ احْتَجَّ بِظَاهِرِ حَدِيثِ الْبَابِ الظَّاهِرِيَّةُ فَقَالُوا: لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ لَا لِتِجَارَةٍ وَلَا لِغَيْرِهَا. وَأُجِيبَ عَنْهُمْ بِأَنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ فَيَخُصُّ بِهِ عُمُومَ هَذَا الْحَدِيثِ. قَالَ الشَّارِحُ: قَوْلُهُ: (إنْ لَمْ تَكُنْ جِزْيَة) إلَى آخِرِهِ. ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ عَلِيًّا لَا يَقُولُ بِجَوَازِ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ، وَإِنَّمَا حَسُنَ الْأَخْذُ مِنْ الْجَمَاعَةِ الْمَذْكُورِينَ لِكَوْنِهِمْ قَدْ طَلَبُوا مِنْ عُمَرَ ذَلِكَ.

(1/543)


بَابُ زَكَاةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ 1990- عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قَدْ عَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ، فَهَاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَةِ عَنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَم، وَلَيْسَ فِي تِسْعِينَ وَمِائَةٍ شَيْءٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 1991- وَفِي لَفْظِ: «قَدْ عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ زَكَاةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 1992- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنْ الْإِبِلِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ صَدَقَةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمُ. 1993- وَهُوَ لِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ. 1994- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا كَانَتْ لَكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَلَيْسَ عَلَيْكَ شَيْءٌ يَعْنِي فِي الذَّهَبِ حَتَّى يَكُونَ لَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا، فَإِذَا كَانَ لَك عِشْرُونَ دِينَارًا وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْفِضَّةِ، وَعَلَى أَنَّ زَكَاتَهَا رُبْعُ الْعُشْرِ وَلَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِي زَكَاةِ الْفِضَّةِ، وَهُوَ إجْمَاعٌ أَيْضًا وَعَلَى أَنَّهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ. قَالَ الْحَافِظُ: وَلَمْ يُخَالِفْ فِي أَنَّ نِصَابَ الْفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ إلَّا ابْنُ حَبِيبٍ الْأَنْدَلُسِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّ أَهْلَ كُلِّ بَلَدٍ يَتَعَامَلُونَ بِدَرَاهِمِهِمْ. قَوْلُهُ: (فَإِذَا كَانَتْ لَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا) إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نِصَابَ الذَّهَبِ عِشْرُونَ دِينَارًا، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْأَكْثَرُ. قَوْلُهُ: (وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْحَوْلِ فِي زَكَاةِ الذَّهَبِ وَمِثْلُهُ الْفِضَّةُ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْأَكْثَرُ.

(1/544)


قَوْلُهُ: (فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ زَكَاةَ الذَّهَبِ رُبْعُ الْعُشْرِ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. بَابُ زَكَاةِ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ 1995- عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «فِيمَا سَقَتْ الْأَنْهَارُ وَالْغَيْمُ الْعُشُورُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّانِيَةِ نِصْفُ الْعُشُورِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ: «الْأَنْهَارُ وَالْعُيُونُ» . 1996- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثْرِيًّا الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا، لَكِنَّ لَفْظَ النَّسَائِيّ وَأَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ «بَعْلًا» بَدَلَ «عَثْرِيًّا» . 1997- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 1998- وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلَا حَبٍّ صَدَقَةٌ» . 1999- وَلِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ: «مِنْ ثَمَرٍ» بِالثَّاءِ ذَاتِ النُّقَطِ الثَّلَاثِ. 2000- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «الْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 2001- وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ زَكَاةٌ، وَالْوَسْقُ سِتُّونَ مَخْتُومًا» . 2002- وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: أَرَادَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَرْضِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ مِنْ الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةً، فَقَالَ ابْنُ طَلْحَةَ: لَيْسَ لَك ذَلِكَ، إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ: «لَيْسَ فِي ذَلِكَ صَدَقَةٌ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ فِي سُنَنِهِ. هُوَ مِنْ أَقْوَى الْمَرَاسِيلِ لِاحْتِجَاجِ مَنْ أَرْسَلَهُ بِهِ.

(1/545)


2003- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ - صلى الله عليه وسلم - يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فَيَخْرُصُ النَّخْلَ حِينَ يَطِيبُ قَبْلَ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ ثُمَّ يُخَيِّرُ يَهُودَ يَأْخُذُونَهُ بِذَلِكَ الْخَرْصِ أَوْ يَدْفَعُونَهُ إلَيْهِمْ بِذَلِكَ الْخَرْصِ لِكَيْ يُحْصِيَ الزَّكَاةَ قَبْلَ أَنْ تُؤْكَلَ الثِّمَارُ وَتُفَرَّقَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 2004- وَعَنْ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَبْعَثُ عَلَى النَّاسِ مَنْ يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ كُرُومَهُمْ وَثِمَارَهُمْ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. 2005- وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُخْرَصَ الْعِنَبُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ، فَتَأَخَذَ زَكَاتُهُ زَبِيبًا كَمَا تُؤْخَذُ صَدَقَةُ النَّخْلِ تَمْرًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 2006- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا وَدَعُوا الثُّلُثَ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبْعَ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. 2007- وَعَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَهَى ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْجُعْرُورِ وَلَوْنِ الْحُبَيْقِ أَنْ يُؤْخَذَ فِي الصَّدَقَةِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: تَمْرَيْنِ مِنْ تَمْرِ الْمَدِينَةِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 2008- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} . قَالَ: هُوَ الْجُعْرُورُ وَلَوْنُ الْحُبَيْقِ، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُؤْخَذَ فِي الصَّدَقَةِ الرُّذَالَةُ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ) . الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمَطَرُ أَوْ الثَّلْجُ أَوْ الْبَرَدُ أَوْ الطَّلُّ، وَالْمُرَادُ بِالْعُيُونِ: الْأَنْهَارُ الْجَارِيَةُ الَّتِي يُسْتَقَى مِنْهَا دُونَ اغْتِرَافٍ بِآلَةٍ بَلْ تُسَاحُ إسَاحَةً. قَوْلُهُ: (أَوْ كَانَ عَثْرِيًّا) . قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ الَّذِي يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ مِنْ غَيْرِ سَقْيٍ. وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْعُشْرُ فِيمَا سُقِيَ بِمَاءِ السَّمَاءِ وَالْأَنْهَارِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا لَيْسَ فِيهِ مُؤْنَةٌ كَثِيرَةٌ، وَنِصْفُ الْعُشْرِ فِيمَا سُقِيَ بِالنَّوَاضِحِ، وَنَحْوِهَا مِمَّا فِيهِ مُؤْنَةٌ كَثِيرَةٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ

(1/546)


وُجِدَ مِمَّا يُسْقَى بِالنَّضْحِ تَارَةً وَبِالْمَطَرِ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِوَاءِ وَجَبَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ كَانَ حُكْمُ الْأَقَلِّ تَبَعًا لِلْأَكْثَرِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. قَوْلُهُ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ» . قَالَ الشَّارِحُ: هَذَا خَاصٌّ بِقَدْرِ الْخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيمَا دُونَهَا وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. قَوْلُهُ: (إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ: لَيْسَ فِي ذَلِكَ صَدَقَةٌ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْخَضْرَاوَاتِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَا: إنَّمَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيمَا يُكَالُ وَيُدَّخَرُ لِلِاقْتِيَاتِ. قَوْلُهُ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فَيَخْرُصُ النَّخْلَ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّة الْخَرْصِ فِي الْعِنَبِ وَالنَّخْلِ، وَقِيلَ: يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِمَّا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِالْخَرْصِ. قَوْلُهُ: (وَدَعَوَا الثُّلُثَ) . قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لَهُ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَتْرُكَ الثُّلُثَ أَوْ الرُّبْعَ مِنْ الْعُشْرِ. وَثَانِيهِمَا أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ تُعْشَرَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَدَعَ ثُلُثَ الزَّكَاةِ أَوْ رُبْعَهَا لِيُفَرِّقَهَا هُوَ بِنَفْسِهِ. وَقِيلَ: يَدْعُ لَهُ وَلِأَهْلِهِ قَدْرَ مَا يَأْكُلُونَ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الصَّحَابَةِ مِنْ طَرِيقِ الصَّلْتِ بْنِ زُبَيْدِ بْنِ الصَّلْتِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْخَرْصِ فَقَالَ: «أَثْبِتْ لَنَا النِّصْفَ وَابَقِ لَهُمْ النِّصْفَ فَإِنَّهُمْ يَسْرِقُونَ وَلَا تَصِلُ إلَيْهِمْ. قَوْلُهُ: (الْجُعْرُورُ) . قَالَ فِي الْقَامُوسِ: هُوَ تَمْرٌ رَدِيءٌ. قَوْلُهُ: (وَلَوْنُ الْحُبَيْقِ) . بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: حُبَيْقٌ كَزُبَيْرٍ: تَمْرٌ دَقَلٌ. قَوْلُهُ: (الرُّذَالَةُ) . بِضَمِّ الرَّاءِ: هِيَ مَا انْتَفَى جَيِّدُهُ. قَوْلُهُ: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -) إلَى آخِرِهِ. فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمَالِكِ

(1/547)


أَنْ يُخْرِجَ الرَّدِيءَ عَنْ الْجَيِّدِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ نَصًّا فِي التَّمْرِ وَقِيَاسًا فِي سَائِرِ الْأَجْنَاسِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْمُصَدِّقِ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ. بَابُ مَا جَاءَ فِي زَكَاةِ الْعَسَلِ 2009- عَنْ أَبِي سَيَّارَةَ الْمُتَعِيِّ قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي نَخْلًا، قَالَ: «فَأَدِّ الْعُشُورَ» . قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِ لِي جَبَلَهَا، قَالَ: فَحَمَى لِي جَبَلَهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 2010- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ الْعَسَلِ الْعُشْرَ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. 2011- وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: جَاءَ هِلَالٌ أَحَدُ بَنِي مُتْعَانَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِعُشُورِ نَخْلٍ لَهُ، وَكَانَ يسَأَلَهُ أَنْ يَحْمِيَ لَهُ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ: سَلَبَةُ، فَحَمَى لَهُ ذَلِكَ الْوَادِي فَلَمَّا وُلِّيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَتَبَ سُفْيَانُ بْنُ وَهْبٍ إلَى عُمَرَ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَكَتَبَ عُمَرُ: إنْ أَدَّى إلَيْكَ مَا كَانَ يُؤَدِّي إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ عُشُورِ نَخْلِهِ فَاحْمِ لَهُ سَلَبَةَ، وَإِلَّا فَإِنَّمَا هُوَ ذُبَابُ غَيْثٍ يَأْكُلُهُ مَنْ يَشَاءُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 2012- وَلأَبي دَاوُد في رِوَايَةٍ بِنَحْوِهِ وَقَالَ: «مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةٌ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدِيثُ أَبِي سَيَّارَةَ أَخْرَجَهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ أَبِي سَيَّارَةَ قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَمْ يُدْرِكْ سُلَيْمَانُ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَيْسَ فِي زَكَاةِ الْعَسَلِ شَيْءٌ يَصِحُّ. قَوْلُهُ: (مُتْعَانُ) . بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ وَكَذَا الْمُتَعِيُّ. قَوْلُهُ: (سَلَبَةَ) . بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَاللَّامِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ: هُوَ وَادٍ لِبَنِي مُتْعَانَ، قَالَهُ: الْبَكْرِيُّ فِي مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى

(1/548)


وُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الْعَسَلِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَحَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ الْجُمْهُورِ إلَى عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَسَلِ، وَأَشَارَ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ إلَى أَنَّ الَّذِي نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ الْجُمْهُورِ أَوْلَى مِنْ نَقْلِ التِّرْمِذِيِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي سَيَّارَةَ وَحَدِيثَ هِلَالٍ إنْ كَانَ غَيْرَ أَبِي سَيَّارَةَ لَا يَدُلَّانِ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَسَلِ لِأَنَّهُمَا تَطَوَّعَا بِهَا وَحَمَى لَهُمَا بَدَلَ مَا أَخَذَ، وَعَقَلَ عُمَرُ الْعِلَّةَ فَأَمَرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ سَبِيلُهُ سَبِيلَ الصَّدَقَاتِ لَمْ يُخَيِّرْ فِي ذَلِكَ. وَبَقِيَّةُ أَحَادِيثِ الْبَابِ لَا تَنْتَهِضُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهَا. بَابُ مَا جَاءَ فِي الرِّكَازِ وَالْمَعْدِنِ 2013- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 2014- وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَقْطَعَ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْمُزَنِيّ مَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةِ، وَهِيَ مِنْ نَاحِيَةِ الْفَرْعِ فَتِلْكَ الْمَعَادِنُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا إلَّا الزَّكَاةُ إلَى الْيَوْمِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَمَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَكَاةَ الرِّكَازِ الْخُمْسُ، وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْوَاجِدُ لَهُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. قَوْلُهُ: (فَتِلْكَ الْمَعَادِنُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا إلَّا الزَّكَاةُ) . فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ: إنَّ الْوَاجِبَ فِي الْمَعَادِنِ الزَّكَاةُ وَهِيَ رُبْعُ الْعُشْرِ.

(1/549)


أَبْوَابُ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ بَابُ الْمُبَادَرَةِ إلَى إخْرَاجِهَا 2015- عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْعَصْرَ فَأَسْرَعَ، ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ، فَقُلْتُ: أَوْ قِيلَ لَهُ: فَقَالَ كُنْت خَلَّفْت فِي الْبَيْتِ تِبْرًا مِنْ الصَّدَقَةِ فَكَرِهْت أَنْ أُبَيِّتَهُ فَقَسَمْتُهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 2016- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَا خَالَطَتْ الصَّدَقَةُ مَالًا قَطُّ إلَّا أَهْلَكَتْهُ» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ. 2017- وَالْحُمَيْدِيُّ، وَزَادَ قَالَ: يَكُونُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْك فِي مَالِكَ صَدَقَةٌ فَلَا تُخْرِجْهَا فَيُهْلِكُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ. وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ مَنْ يَرَى تَعَلُّقَ الزَّكَاةِ بِالْعَيْنِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (تِبْرًا) . بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ: الذَّهَبُ الَّذِي لَمْ يَصْفُ وَلَمْ يُضْرَبْ. قَوْلُهُ: (أَنْ أُبَيِّتَهُ) . أَيْ أَتْرُكَهُ يَبِيتُ عِنْدِي. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّة الْمُبَادَرَةِ بِإِخْرَاجِ الصَّدَقَةِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ أَنَّ الْخَيْرَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَادَرَ بِهِ، فَإِنَّ الْآفَاتِ تَعْرِضُ وَالْمَوَانِعَ تَمْنَعُ، وَالْمَوْتَ لَا يُؤْمَنُ، وَالتَّسْوِيفَ غَيْرُ مَحْمُودٍ زَادَ غَيْرُهُ: وَهُوَ أَخْلَصُ لِلذِّمَّةِ وَأَنْفَى لِلْحَاجَةِ وَأَبْعَدُ مِنْ الْمَطْلِ الْمَذْمُومِ وَأَرْضَى لِلرَّبِّ تَعَالَى وَأَمْحَى لِلذَّنْبِ.

(1/550)


وَالْحَدِيثُ الثَّانِي: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ مُخَالَطَةِ الصَّدَقَةِ لِغَيْرِهَا مِنْ الْأَمْوَالِ سَبَبٌ لِإِهْلَاكِهِ. وَاحْتِجَاجُ مَنْ احْتَجَّ بِهِ عَلَى تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِالْعَيْنِ صَحِيحٌ. بَابُ مَا جَاءَ فِي تَعْجِيلِهَا 2018- عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ. 2019- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَبَّاسٌ عَمُّ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إلَّا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا مَعَهَا» . ثُمَّ قَالَ: «يَا عُمَرُ أَمَا شَعَرْت أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ» ؟ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 2020- وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ عُمَرَ، وَلَا مَا قِيلَ لَهُ فِي الْعَبَّاسِ، وَقَالَ فِيهِ: «فَهِيَ عَلَيْهِ وَمِثْلُهَا مَعَهَا» قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَرَى - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ أَخَّرَ عَنْهُ الصَّدَقَةَ عَامَيْنِ لِحَاجَةٍ عَرَضَتْ لِلْعَبَّاسِ وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَخِّرَ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ، ثُمَّ يَأْخُذَهُ، وَمَنْ رَوَى فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا، فَيُقَالُ: كَانَ تَسَلَّفَ مِنْهُ صَدَقَةَ عَامَيْنِ، ذَلِكَ الْعَامِ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَأَعْتَادَهُ) . هِيَ آلَاتُ الْحَرْبِ مِنْ السِّلَاحِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِهَا، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْ خَالِدٍ زَكَاةَ أَعْتَادِهِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا لِلتِّجَارَةِ وَأَنَّ الزَّكَاةَ فِيهَا وَاجِبَةٌ، فَقَالَ لَهُمْ: لَا زَكَاةَ فِيهَا عَلَيَّ، فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ خَالِدًا مَنَعَ الزَّكَاةَ فَقَالَ: «إنَّكُمْ تَظْلِمُونَهُ؛ لِأَنَّهُ حَبَسَهَا وَوَقَفَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ الْحَوْلِ عَلَيْهَا فَلَا زَكَاةَ فِيهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لَأَعْطَاهَا وَلَمْ يَشِحَّ بِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَقَفَ أَمْوَالَهُ لِلَّهِ تَعَالَى مُتَبَرِّعًا فَكَيْفَ يَشِحُّ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ.

(1/551)


وَاسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا وُجُوبَ زَكَاةِ التِّجَارَةِ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ خِلَافًا لِدَاوُدَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْوَقْفِ، وَصِحَّةِ وَقْفِ الْمَنْقُولِ وَبِهِ قَالَتْ الْأُمَّةُ بِأَسْرِهَا إلَّا أَبَا حَنِيفَةَ وَبَعْضَ الْكُوفِيِّينَ. قَوْلُهُ: (فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا مَعَهَا) . مِمَّا يُقَوِّي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ تَعَجَّلَ مِنْ الْعَبَّاسِ صَدَقَةَ عَامَيْنِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِعُمَرَ: «إنَّا كُنَّا تَعَجَّلْنَا صَدَقَةَ مَالِ الْعَبَّاسِ عَامَ الْأَوَّلِ» . إِلِى أَنْ قَالَ: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَلَوْ لِعَامَيْنِ. بَابُ تَفْرِقَةِ الزَّكَاةِ فِي بَلَدِهَا وَمُرَاعَاةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لَا الْقِيمَةِ وَمَا يُقَالُ عِنْدَ دَفْعِهَا 2021- عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا مُصَدِّقُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَجَعَلَهَا فِي فُقَرَائِنَا، فَكُنْتُ غُلَامًا يَتِيمًا فَأَعْطَانِي مِنْهَا قَلُوصًا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. 2022- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا رَجَعَ قِيلَ لَهُ: أَيْنَ الْمَالُ قَالَ: وَلِلْمَالِ أَرْسَلْتَنِي؟ أَخَذْنَاهُ مِنْ حَيْثُ كُنَّا نَأْخُذُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَوَضَعْنَاهُ حَيْثُ كُنَّا نَضَعُهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 2023- وَعَنْ طَاوُسٍ قَالَ: كَانَ فِي كِتَابِ مُعَاذٍ: «مَنْ خَرَجَ مِنْ مِخْلَافٍ إلَى مِخْلَافٍ فَإِنَّ صَدَقَتَهُ وَعُشْرَهُ فِي مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ فِي سُنَنِهِ. 2024- وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: «خُذْ الْحَبَّ مِنْ الْحَبِّ، وَالشَّاةَ مِنْ الْغَنَمِ وَالْبَعِيرَ مِنْ الإِبِلِ، وَالْبَقَرَةَ مِنْ الْبَقَرِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. وَالْجُبْرَانَاتُ الْمُقَدَّرَةُ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيمَةَ لَا تُشْرَعُ وَإِلَّا كَانَتْ تِلْكَ الْجُبْرَانَاتُ عَبَثًا.

(1/552)


2025- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أَعْطَيْتُمْ الزَّكَاةَ فَلَا تَنْسَوْا ثَوَابَهَا أَنْ تَقُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مَغْنَمًا، وَلَا تَجْعَلْهَا مَغْرَمًا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. 2026- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَةٍ قَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ» . فَأَتَاهُ أَبِي أَبُو أَوْفَى بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: ... «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: (فَأَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَجَعَلَهَا فِي فُقَرَائِنَا) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى مَشْرُوعِيَّة صَرْفِ زَكَاةِ كُلِّ بَلْدَةٍ فِي فُقَرَاءِ أَهْلِهِ وَكَرَاهَةِ صَرْفِهَا فِي غَيْرِهِمْ. قَوْلُهُ: «مَنْ خَرَجَ مِنْ مِخْلَافٍ إلَى مِخْلَافٍ فَإِنَّ صَدَقَتَهُ وَعُشْرَهُ فِي مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ» . قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِنْ انْتَقَلَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ كَانَ زَكَاةُ مَالِهِ لِأَهْلِ الْبَلَدِ الَّذِي انْتَقَلَ مِنْهُ مَهْمَا أَمْكَنَ إيصَالُ ذَلِكَ إلَيْهِمْ. قَوْلُهُ: «خُذْ الْحَبَّ مِنْ الْحَبِّ» إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ: إنَّهَا تَجِبُ الزَّكَاةُ مِنْ الْعَيْنِ وَلَا يَعْدِلُ عَنْهَا إلَى الْقِيمَةِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِهَا وَعَدَمِ الْجِنْسِ. قَوْلُهُ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَةٍ صَلَّى عَلَيْهِمْ) إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ: وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يُعَكَّرُ عَلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: يَدْعُو آخِذُ الصَّدَقَةِ بِهَذَا الدُّعَاءِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، فَصَلَاةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أُمَّتِهِ دُعَاءٌ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ، وَصَلَاةُ أُمَّتِهِ دُعَاءٌ لَهُ بِزِيَادَةِ الْقُرْبَةِ وَالزُّلْفَى لِذَلِكَ كَانَتْ لَا تَلِيقُ بِغَيْرِهِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ عِنْدَ أَخْذِ الزَّكَاةِ لِمُعْطِيهَا. بَابُ مَنْ دَفَعَ صَدَقَتَهُ إلَى مَنْ ظَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا فَبَانَ غَنِيًّا 2027- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ:

(1/553)


لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى سَارِقٍ، لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، فَقَالَ: لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى سَارِقٍ وَعَلَى زَانِيَةٍ وَعَلَى غَنِيٍّ، فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُك فَقَدْ قُبِلَتْ، أَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا تَسْتَعِفُّ بِهِ مِنْ زِنَاهَا، وَلَعَلَّ السَّارِقَ أَنْ يَسْتَعِفَّ بِهِ عَنْ سَرِقَتِهِ، وَلَعَلَّ الْغَنِيَّ أَنْ يَعْتَبِرَ فَيُنْفِقَ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (لَكَ الْحَمْدُ) أَيْ لَا لِي؛ لِأَنَّ صَدَقَتِي وَقَعَتْ فِي يَدِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا فَلَكَ الْحَمْدُ حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ بِإِرَادَتِكَ لَا بِإِرَادَتِي. وَفِيهِ أَنَّ نِيَّةَ الْمُتَصَدِّقِ إذَا كَانَتْ صَالِحَةً قُبِلَتْ صَدَقَتُهُ وَلَوْ لَمْ تَقَعْ الْمَوْقِعَ. بَابٌ بَرَاءَةُ رَبِّ الْمَالِ بِالدَّفْعِ إلَى السُّلْطَانِ مَعَ الْعَدْلِ وَالْجَوْرِ وَأَنَّهُ إذَا ظَلَمَ بِزِيَادَةٍ لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ عَنْ شَيْءٍ 2028- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: إذَا أَدَّيْتَ الزَّكَاةَ إلَى رَسُولِكَ فَقَدْ بَرِئْت مِنْهَا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ إذَا أَدَّيْتَهَا إلَى رَسُولي فَقَدْ بَرِئْت مِنْهَا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَكَ أَجْرُهَا وَإِثْمُهَا عَلَى مَنْ بَدَّلَهَا» . مُخْتَصَرٌ لِأَحْمَدَ. وَقَدْ احْتَجَّ بِعُمُومِهِ مَنْ يَرَى الْمُعَجَّلَةَ إلَى الْإِمَامِ إذَا هَلَكَتْ عِنْدَهُ مِنْ ضَمَانِ الْفُقَرَاءِ دُونَ الْمُلَّاكِ. 2029- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2030- وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَجُلٌ

(1/554)


يَسْأَلُهُ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَمْنَعُونَا حَقَّنَا وَيَسْأَلُونَا حَقَّهُمْ؟ فَقَالَ: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 2031- وَعَنْ بَشِيرِ ابْنِ الْخَصَاصِيَةِ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ: إنَّ قَوْمًا مِنْ أَصْحَابِ الصَّدَقَةِ يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا أَفَنَكْتُمُ مِنْ أَمْوَالِنَا بِقَدْرِ مَا يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ: «لا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ اسْتَدَلَّ بِهَا الْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ دَفْعِ الزَّكَاةِ إلَى سَلَاطِينِ الْجَوْرِ وَإِجْزَائِهَا. وَهُوَ الْحَقُِّ. بَابُ أَمْرِ السَّاعِي أَنْ يُعِدَّ الْمَاشِيَةَ حَيْثُ تَرِدُ الْمَاءَ وَلَا يُكَلِّفُهُمْ حَشْدَهَا إلَيْهِ 2032- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «تُؤْخَذُ صَدَقَاتُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مِيَاهِهِمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2033- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد: «لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ، وَلَا تُؤْخَذُ صَدَقَاتُهُمْ إلَّا فِي دِيَارِهِمْ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: مَعْنَى «لَا جَلَبَ» : أَنْ تُصَدَّقَ الْمَاشِيَةُ فِي مَوْضِعِهَا وَلَا تُجْلَبُ إلَى الْمُصَدِّقِ. وَمَعْنَى لَا جَنَبَ: أَنْ يَكُونَ الْمُصَدِّقُ بِأَقْصَى مَوَاضِعِ أَصْحَابِ الصَّدَقَةِ فَتُجْنَبُ إلَيْهِ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَفَسَّرَ مَالِكٌ الْجَلَبَ: بِأَنْ تُجْلَبَ الْفَرَسُ فِي السِّبَاقِ فَيُحَرَّكَ وَرَاءَهُ الشَّيْءُ يُسْتَحَثُّ بِهِ فَيَسْبِقَ. وَالْجَنَبُ: أَنْ يُجْنَبَ الْفَرَسُ الَّذِي سَابَقَ بِهِ فَرَسًا آخَرَ حَتَّى إذَا دَنَا تَحَوَّلَ الرَّاكِبُ عَنْ الْفَرَسِ الْمَجْنُوبِ فَسَبَقَ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُصَدِّقَ. هُوَ الَّذِي يَأْتِي لِلصَّدَقَاتِ وَيَأْخُذُهَا عَلَى مِيَاهِ أَهْلِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْهَلُ لَهُمْ. بَابُ سِمَةِ الْإِمَامِ الْمَوَاشِيَ إذَا تَنَوَّعَتْ عِنْدَهُ 2034- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: غَدَوْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي

(1/555)


طَلْحَةَ لِيُحَنِّكَهُ فَوَافَيْتُهُ فِي يَدِهِ الْمِيسَمُ يَسِمُ إبِلَ الصَّدَقَةِ. أَخْرَجَاهُ. 2035- وَلأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ: دَخَلْت عَلَى النَّبِيِّ وَهُوَ يَسِمُ غَنَمًا فِي آذَانِهَا. 2036- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ: إنَّ فِي الظَّهْرِ نَاقَةً عَمْيَاءَ، فَقَالَ: أَمِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ، أَوْ مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ؟ قَالَ أَسْلَمُ: مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ، وَقَالَ: إنَّ عَلَيْهَا مِيسَمَ الْجِزْيَةِ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ وَسْمِ إبِلِ الصَّدَقَةِ، وَيَلْحَقُ بِهَا غَيْرُهَا مِنْ الْأَنْعَامِ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ تَمْيِيزُهَا، وَلِيَرُدَّهَا مَنْ أَخَذَهَا وَمَنْ الْتَقَطَهَا وَلِيَعْرِفَهَا صَاحِبُهَا فَلَا يَشْتَرِيهَا إذَا تُصُدِّقَ بِهَا مَثَلًا لِئَلَّا يَعُودَ فِي صَدَقَتِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ اعْتِنَاءُ الْإِمَامِ بِأَمْوَالِ الصَّدَقَةِ وَتَوَلِّيهَا بِنَفْسِهِ وَجَوَازُ تَأْخِيرِ الْقِسْمَةِ لِأَنَّهَا لَوْ عُجِّلَتْ لَاسْتُغْنِيَ عَنْ الْوَسْمِ.

(1/556)


أَبْوَابُ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ بَابُ مَا جَاءَ فِي الْفَقِيرِ وَالْمِسْكَيْنِ وَالْمَسْأَلَةِ وَالْغَنِيِّ 2037- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَلَا اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، إنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي يَتَعَفَّفُ، اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا} . 2038- وَفِي لَفْظِ «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ، تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنْ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلَ النَّاسَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 2039- وَعَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «الْمَسْأَلَةُ لَا تَحِلُّ إلَّا لِثَلَاثَةٍ لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْغَارِمَ لَا يَأْخُذُ مَعَ الْغِنَى. 2040- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ. 2041- لَكِنَّهُ لَهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلِأَحْمَدَ الْحَدِيثَانِ. 2042- وَعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ: أَنَّ رَجُلَيْنِ أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلانِهِ مِنْ الصَّدَقَةِ، فَقَلَّبَ فِيهِمَا الْبَصَرَ وَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ، فَقَالَ:

(1/557)


.. «إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. وَقَالَ أَحْمَدُ: هَذَا أَجْوَدُهَا إسْنَادًا. 2043- وَعَنْ الْحسن بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لِلسَّائِلِ حَقٌّ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. وَهُوَ حُجَّةٌ فِي قَبُولِ قَوْلِ السَّائِلِ مِنْ غَيْرِ تَحْلِيفٍ وَإِحْسَانِ الظَّنِّ بِهِ. 2044- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَأَلَ وَلَهُ قِيمَةُ أُوقِيَّةٍ فَقَدْ أَلْحَفَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 2045- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا يُغْنِيهِ؟ قَالَ: «مَا يُغَدِّيهِ أَوْ يُعَشِّيهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَاحْتَجَّ بِهِ، وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ: «يُغَدِّيهِ وَيُعَشِّيهِ» . 2046- وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَأَلَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُدُوشًا أَوْ كُدُوشًا فِي وَجْهِهِ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَا غِنَاهُ؟ قَالَ: «خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ حِسَابُهَا مِنْ الذَّهَبِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَزَادَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ، فَقَالَ رَجُلٌ لِسُفْيَانَ: إنَّ شُعْبَةَ لَا يُحَدِّثُ عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَقَالَ سُفْيَانُ: حَدَّثَنَاهُ زُبَيْدٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ يَزِيدَ. 2047- وَعَنْ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «إنَّ الْمَسْأَلَةَ كَدٌّ يَكِدُّ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ إلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ سُلْطَانًا أَوْ فِي أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 2048- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَتَصَدَّقَ مِنْهُ وَيَسْتَغْنِيَ بِهِ عَنْ النَّاسِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلًا أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(1/558)


2049- وَعَنْهُ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ. 2050- وَعَنْ خَالِدِ بْنِ عَدِيٍّ الْجُهَنِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «مَنْ بَلَغَهُ مَعْرُوفٌ عَنْ أَخِيهِ عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إشْرَافِ نَفْسٍ فَلْيَقْبَلْهُ وَلَا يَرُدَّهُ فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2051- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ يُعْطِنِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ: «خُذْهُ إذَا جَاءَك مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ» . إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ هُوَ الْجَامِعُ بَيْنَ عَدَمِ الْغِنَى وَعَدَمِ تَفَطُّنِ النَّاسِ لَهُ مَا يُظَنُّ بِهِ لِأَجْلِ تَعَفُّفِهِ وَتُظْهِرُهُ بِصُورَةِ الْغَنِيِّ مِنْ عَدَمِ الْحَاجَةِ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ الْمُسْتَعْفِفُ عَنْ السُّؤَالِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْمِسْكَيْنِ، وَإِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَهُ شَيْءٌ لَكِنَّهُ لَا يَكْفِيهِ، وَالْفَقِيرُ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} . فَسَمَّاهُمْ مَسَاكِينَ مَعَ أَنَّ لَهُمْ سَفِينَةً يَعْمَلُونَ فِيهَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ. قَوْلُهُ: «الْمَسْأَلَةُ لَا تَحِلُّ إلَّا لِثَلَاثَةٍ لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ» . قَالَ الشَّارِحُ: قَوْلُهُ: (مُدْقِعٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ: وَهُوَ الْفَقْرُ الشَّدِيدُ الْمُلْصِقُ صَاحِبَهُ بِالدَّقْعَاءِ وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي لَا نَبَاتَ بِهَا. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمَسْأَلَةِ لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ. قَوْلُهُ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ) . الْمِرَّةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمِرَّةُ: الْقُوَّةُ وَشِدَّةُ الْعَقْلِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمِرَّةُ: الْقُوَّةُ عَلَى الْكَسْبِ وَالْعَمَلِ، وَإِطْلَاقُ الْمِرَّةِ هُنَا وَهِيَ الْقُوَّةُ مُقَيَّدٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ أَعْنِي قَوْلَهُ: «وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» فَيُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْقُوَّةِ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ الِاسْتِحْقَاقِ إلَّا إذَا قُرِنَ بِهَا الْكَسْبُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ

(1/559)


لِلْإِمَامِ أَوْ الْمَالِكِ الْوَعْظُ وَالتَّحْذِيرُ وَتَعْرِيفُ النَّاسِ بِأَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ وَلَا ذِي قُوَّةٍ عَلَى الْكَسْبِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَيَكُونُ ذَلِكَ بِرِفْقٍ. قَوْلُهُ: (وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ) . فِيهِ الْأَمْرُ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ الَّذِي امْتَهَنَ نَفْسَهُ بِذُلِّ السُّؤَالِ فَلَا يُقَابِلُهُ بِسُوءِ الظَّنِّ بِهِ، بَلْ يُكْرِمُهُ بِإِظْهَارِ السُّرُورِ لَهُ، وَيُقَدِّرُ أَنَّ الْفَرَسَ الَّتِي تَحْتَهُ عَارِيَّةٌ، أَوْ أَنَّهُ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ مَعَ الْغِنَى كَمَنْ تَحَمَّلَ حَمَالَةً أَوْ غَرِمَ غُرْمًا لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ. قَوْلُهُ: «إنَّ الْمَسْأَلَةَ كَدٌّ يَكِدُّ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ إلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ سُلْطَانًا أَوْ فِي أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ» . قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ سُؤَالِ السُّلْطَانِ مِنْ الزَّكَاةِ أَوْ الْخُمْسِ أَوْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، يَخُصُّ بِهِ عُمُومَ أَدِلَّةِ تَحْرِيمِ السُّؤَالِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَالْحَاجَةِ الَّتِي لَا بُدَّ عِنْدَهَا مِنْ السُّؤَالِ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ. قَوْلُهُ: «لَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ فَيَحْتَطِبَ» إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ الْحَثُّ عَلَى التَّعَفُّفِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَالتَّنَزُّهِ عَنْهَا وَلَوْ امْتَهَنَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ وَارْتَكَبَ الْمَشَقَّةَ فِي ذَلِكَ، وَلَوْلَا قُبْحُ الْمَسْأَلَةِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ لَمْ يُفَضِّلْ ذَلِكَ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ لِمَا يَدْخُلُ عَلَى السَّائِلِ مِنْ ذُلِّ السُّؤَالِ وَمِنْ ذُلِّ الرَّدِّ إذَا لَمْ يُعْطَ، وَلِمَا يَدْخُلُ عَلَى الْمَسْئُولِ مِنْ الضِّيقِ فِي مَالِهِ إنْ أَعْطَى كُلَّ سَائِلٍ. قَوْلُهُ: «إذَا جَاءَك مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ» . قَالَ الشَّارِحُ: عَطِيَّةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِعُمَرَ بِسَبَبِ الْعُمَالَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ السَّعْدِيِّ. بَابُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا 2052- عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ ابْنَ السَّعْدِيِّ الْمَالِكِيَّ قَالَ: اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْهَا وَأَدَّيْتُهَا إلَيْهِ أَمَرَ لِي بِعُمَالَةٍ، قُلْتُ: إنَّمَا عَمِلْتُ لِلَّهِ، فَقَالَ: خُذْ مَا أُعْطِيتَ، فَإِنِّي عَمِلْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَفَعَمَّلَنِي، فَقُلْتُ مِثْلَ قَوْلِكَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: «إذَا أُعْطِيتَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَ فَكُلْ وَتَصَدَّقَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(1/560)


2053- وَعَنْ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ وَالْفَضْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ انْطَلَقَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ثُمَّ تَكَلَّمَ أَحَدُنَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْنَاكَ لَتُؤَمِّرَنَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَاتِ، فَنُصِيبُ مَا يُصِيبُ النَّاسُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، وَنُؤَدِّي إلَيْكَ مَا يُؤَدِّي النَّاسُ، فَقَالَ: «إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ، إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ» . مُخْتَصَرٌ لِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ. 2054- وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا: «لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ» . 2055- وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ الْخَازِنَ الْمُسْلِمَ الْأَمِينَ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مُوَقَّرًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ، حَتَّى يَدْفَعَهُ إلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2056- وَعَنْ بُرَيْدَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَ بَعْد ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَعَمَّلَنِي) . بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ: أَيْ أَعْطَانِي أُجْرَةَ عَمَلٍ وَجَعَلَ لِي عُمَالَةً. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَمَلَ السَّاعِي سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْأُجْرَةَ، وَفِيهِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ نَوَى التَّبَرُّعَ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نَصِيبَ الْعَامِلِ يَطِيبُ لَهُ وَإِنْ نَوَى التَّبَرُّعَ أَوْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا. قَوْلُهُ: «إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ، إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ» . قَالَ الشَّارِحُ: هَذَا بَيَانٌ لَعِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَالْإِرْشَادِ إلَى تَنَزُّهِ الْآلِ عَنْ أَكْلِ الْأَوْسَاخِ. وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ أَوْسَاخًا لِأَنَّهَا مُطَهِّرَةٌ لِأَمْوَالِ النَّاسِ وَنُفُوسِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} . فَذَلِكَ مِنْ التَّشْبِيهِ، وَفِيهِ إِشَارَة إلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ عَلَى الْآلِ إنَّمَا هُوَ الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا تَطْهِيرُ الْمَالِ. وَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَنَقَلَ الْخَطَّابِيِّ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ أَنَّهَا تَحِلُّ، وَتَحِلُّ لِلْآلِ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ، وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُمْ وَلَوْ كَانَ أَخْذُهُمْ

(1/561)


لَهَا مِنْ بَابِ الْعُمَالَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهُوَ يَمْنَعُ جَعْلَ الْعَامِلِ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى. قَوْلُهُ: «إنَّ الْخَازِنَ الْمُسْلِمَ الْأَمِينَ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مُوَقَّرًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ، حَتَّى يَدْفَعَهُ إلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَمَعْنَى الْمُشَارَكَةِ أَنَّ لَهُ أَجْرًا كَمَا أَنَّ لِصَاحِبِهِ أَجْرًا. قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ: وَيَدْخُلُ فِي الْخَازِنِ مَنْ يَتَّخِذُهُ الرَّجُلُ، عَلَى عِيَالِهِ مِنْ وَكِيلٍ وَعَبْدٍ وَامْرَأَةٍ وَغُلَامٍ، وَمَنْ يَقُومُ عَلَى طَعَامِ الضِّيفَانِ. قَوْلُهُ: «مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ» . إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْعَامِلِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا فَرَضَ لَهُ مَنْ اسْتَعْمَلَهُ، وَأَنَّ مَا أَخَذَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ الْغُلُولِ. قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَأْخُذَ الْعَامِلُ حَقَّهُ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ، فَيَقْبِضُ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ. بَابُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ 2057- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُسْأَلُ شَيْئًا عَلَى الْإِسْلَامِ إلَّا أَعْطَاهُ، قَالَ: فَأَتَاهُ رَجُلٌ سَأَلَهُ، فَأَمَرَ لَهُ بِشَاءٍ كَثِيرٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ مَنْ شَاءِ الصَّدَقَةِ، قَالَ: فَرَجَعَ إلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. 2058- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِمَالٍ أَوْ سَبْيٍ فَقَسَمَهُ، فَأَعْطَى رِجَالًا وَتَرَكَ رِجَالًا، فَبَلَغَهُ أَنَّ الَّذِينَ تَرَكَ عَتَبُوا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ، وَأَدَعُ الرَّجُلَ، وَاَلَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الَّذِي أُعْطِي، وَلَكِنِّي أُعْطِي أَقْوَامًا لِمَا أَرَى فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إلَى مَا جُعِلَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْغِنَى وَالْخَيْرِ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ» . فَوَاَللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ حُمْرَ النَّعَمِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ.

(1/562)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى جَوَازِ التَّأْلِيفِ لِمَنْ لَمْ يَرْسُخْ إيمَانُهُ مِنْ مَالِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -. بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَفِي الرِّقَابِ} وَهُوَ يَشْمَلُ بِعُمُومِهِ الْمُكَاتَبَ وَغَيْرَهُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يَعْتِقَ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ ذَكَرَهُ عَنْهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 2059- وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إلَى الْجَنَّةِ، وَيُبْعِدُنِي مِنْ النَّارِ، فَقَالَ: «أَعْتِقْ النَّسَمَةَ، وَفُكَّ الرَّقَبَةَ» . قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَيْسَا وَاحِدًا؟ قَالَ: «لَا عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تُفْرَدَ بِعِتْقِهَا، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ. 2060- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ يُقَرِّبُنِي إلَى الْجَنَّةِ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُ: الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الْمُتَعَفِّفُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا أَبَا دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ اختلف الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ} . فَقَالَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمُرَادَ بِهِ الْمُكَاتَبُونَ يُعَانُونَ مِنْ الزَّكَاةِ عَلَى الْكِتَابَةِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَإِلَيْهِ مَالَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهَا تُشْتَرَى رِقَابٌ لِتُعْتَقَ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهَا لَوْ اخْتَصَّتْ بِالْمُكَاتَبِ لَدَخَلَ فِي حُكْمِ الْغَارِمِينَ لِأَنَّهُ غَارِمٌ، وَبِأَنَّ شِرَاءَ الرَّقَبَةِ لِتُعْتَقَ أَوْلَى مِنْ إعَانَةِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ قَدْ يُعَانُ وَلَا يُعْتَقُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ؛ وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ يَتَيَسَّرُ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ الْآيَةَ تَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ، وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ الْمَذْكُورُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فَكَّ الرِّقَابِ غَيْرُ عِتْقِهَا، وَعَلَى أَنَّ الْعِتْقَ وَإِعَانَةَ الْمُكَاتَبِينَ عَلَى مَالِ الْكِتَابَةِ مِنْ الْأَعْمَالِ الْمُقَرِّبَةِ مِنْ الْجَنَّةِ وَالْمُبْعِدَةِ مِنْ النَّارِ.

(1/563)


بَابُ الْغَارِمِينَ 2061- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ إلا لِثَلاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 2062- وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيِّ قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهُ فِيهَا، فَقَالَ: أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا قَبِيصَةُ إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ لأحد إلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ. وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ قَالَ: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ، حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَى مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ قَالَ: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ فَمَا سِوَاهُنَّ مِنْ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ فَسُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (حَمَالَةً) . بِفَتْحِ الْهَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ مَا يَتَحَمَّلُهُ الْإِنْسَانُ وَيَلْتَزِمُهُ فِي ذِمَّتِهِ بِالِاسْتِدَانَةِ لِيَدْفَعَهُ فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَإِنَّمَا تَحِلُّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ بِسَبَبِهِ وَيُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ. قَوْلُهُ: (جَائِحَةٌ) . هِيَ مَا اجْتَاحَ الْمَالَ وَأَتْلَفَهُ إتْلَافًا ظَاهِرًا كَالسَّيْلِ وَالْحَرِيقِ. قَوْلُهُ: (قِوَامًا) . بِكَسْرِ الْقَافِ: وَهُوَ مَا تَقُومُ بِهِ حَاجَتُهُ وَيَسْتَغْنِي بِهِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ: الِاعْتِدَالُ. قَوْلُهُ: (سِدَادًا) . هُوَ بِكَسْرِ السِّينِ: مَا تُسَدُّ بِهِ الْحَاجَةُ وَالْخَلَلُ. وَأَمَّا السَّدَادُ بِالْفَتْحِ فَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هُوَ الْإِصَابَةُ فِي النُّطْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالرَّأْيِ، وَمِنْهُ سَدَادٌ مِنْ عَوَزٍ. قَوْلُهُ: (مِنْ ذَوِي الْحِجَا) . بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مَقْصُورُ الْعَقْلِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْعَقْلَ مُعْتَبَرًا لِأَنَّ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: «مِنْ

(1/564)


قَوْمِهِ» لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُ بِحَالِهِ وَأَعْلَمُ بِبَاطِنِ أَمْرِهِ، وَالْمَالُ مِمَّا يَخْفَى فِي الْعَادَةِ وَلَا يَعْلَمُهُ إلَّا مَنْ كَانَ خَبِيرًا بِحَالِهِ، وَظَاهِرُهُ اعْتِبَارُ شَهَادَةِ ثَلَاثَةٍ عَلَى الْإِعْسَارِ. قَوْلُهُ: (فَاقَةٌ) قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْفَاقَةُ: الْفَقْرُ وَالْحَاجَةُ. قَوْلُهُ: (فَسُحْتٌ) بِضَمِّ السِّينِ: وَهُوَ الْحَرَامُ، وَسُمِّيَ سُحْتًا لِأَنَّهُ ... يُسْحَتُ: أَيْ يُمْحَقُ. بَابُ الصَّرْفِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ 2063- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ ابْنِ السَّبِيلِ، أَوْ جَارٍ فَقِيرٍ يُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ فَيُهْدِي لَكَ أَوْ يَدْعُوَكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 2064- وَفِي لَفْظٍ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِي إلَّا لِخَمْسَةٍ: لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أَوْ رَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ غَارِمٍ، أَوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ مِسْكِينٍ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ بِهَا فَأَهْدَى مِنْهَا لِغَنِيٍّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 2065- وَعَنْ ابْنِ لَاسٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: حَمَلَنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى إبِلٍ مِنْ الصَّدَقَةِ إلَى الْحَجِّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا. 2066- وَعَنْ أُمِّ مَعْقِلٍ الْأَسَدِيَّةِ أَنَّ زَوْجَهَا جَعَلَ بَكْرًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنَّهَا أَرَادَتْ الْعُمْرَةَ، فَسَأَلَتْ زَوْجَهَا الْبَكْرَ فَأَبَى، فَأَتَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَتْ لَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2067- وَعَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلامٍ عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ مَعْقِلٍ قَالَتْ: لَمَّا حَجَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَكَانَ لَنَا جَمَلٌ فَجَعَلَهُ أَبُو مَعْقِلٍ في سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَصَابَنَا مَرَضٌ وَهَلَكَ أَبُو مَعْقِلٍ وَخَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ حَجَّتِهِ جِئْتُهُ، فَقَالَ: «يَا أُمَّ مَعْقِلٍ مَا مَنَعَكِ أَنْ تَخْرُجِي» ؟ قَالَتْ: لَقَدْ تَهَيَّأْنَا فَهَلَكَ أَبُو مَعْقِلٍ وَكَانَ لَنَا جَمَلٌ هُوَ الَّذِي نَحُجُّ عَلَيْهِ فَأَوْصَى بِهِ أَبُو مَعْقِلٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: «فَهَلَّا خَرَجْتِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

(1/565)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (إلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) . أَيْ لِلْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْآخِرَةِ. قَوْلُهُ: (أَوْ ابْنِ السَّبِيلِ) . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ الْمُسَافِرُ الْمُنْقَطِعُ يَأْخُذُ مِنْ الصَّدَقَةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ. قَوْلُهُ: (لِعَامِلٍ عَلَيْهَا) . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيَدْخُلُ فِي الْعَامِلِ: السَّاعِي وَالْكَاتِبُ وَالْقَاسِمُ وَالْحَاشِرُ الَّذِي يَجْمَعُ الْأَمْوَالَ وَحَافِظُ الْمَالِ وَالْعَرِيفُ وَهُوَ كَالنَّقِيبِ لِلْقَبِيلَةِ وَكُلُّهُمْ عُمَّالٌ، لَكِنَّ أَشْهَرَهُمْ السَّاعِي وَالْبَاقِي أَعْوَانٌ لَهُ. قَوْلُهُ: (أَوْ رَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ) . فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِغَيْرِ دَافِعِ الزَّكَاةِ شِرَاؤُهَا. وَيَجُوزُ لِآخِذِهَا بَيْعُهَا وَلَا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ وَالصَّدَقَةَ إذَا مَلَكَهَا الْآخِذُ تَغَيَّرَتْ صِفَتُهَا وَزَالَ عَنْهَا اسْمُ الزَّكَاةِ وَتَغَيَّرَتْ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَا. قَوْلُهُ: (أَوْ غَارِمٍ) . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَيُحْمَلُ هَذَا الْغَارِمُ عَلَى مَنْ تَحَمَّلَ حَمَالَةً لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ كَمَا فِي حَدِيثِ قَبِيصَةَ لَا لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ «أَوْ ذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةِ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ. قَوْلُهُ: «الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّ مَنْ جَعَلَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جَازَ لَهُ صَرْفُهُ فِي تَجْهِيزِ الْحُجَّاجِ وَالْمُعْتَمِرِينَ، وَإِذَا كَانَ شَيْئًا مَرْكُوبًا جَازَ حَمْلُ الْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ عَلَيْهِ. وَتَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُ شَيْءٍ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ الزَّكَاةِ إلَى قَاصِدِينَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي اسْتِيعَابِ الْأَصْنَافِ 2068- عَنْ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -

(1/566)


فَبَايَعْتُهُ، فَأَتَى رَجُلٌ فَقَالَ: أَعْطِنِي مِنْ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى حَكَمَ فِيهَا هُوَ فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 2069- وَيُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِسَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ: «اذْهَبْ إلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ فَقُلْ لَهُ فَيَدْفَعْهَا إلَيْكَ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذِهِ الرِّوَايَةُ تُعَارِضُ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ ... (أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَعَانَهُ بِعِرْقٍ مِنْ تَمْرٍ) . وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى أَنَّ الصَّرْفَ فِيمَنْ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ مِنْ الزَّكَاةِ جَائِزٌ. انْتَهَى. قَالَ الْمُوَفَّقُ فِي (الْمُقْنِعِ) : وَيُسْتَحَبُّ صَرْفَهَا فِي الْأَصْنَافِ كُلِّهَا فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى إِنْسَانٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَهُ. وَعَنْهُ لا يُجْزِئُهُ إِلا ثَلاثَةَ مِنْ كُلِّ صَنْفٍ إِلا الْعَامِل فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا. قَالَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: يُسْتَحَبُّ صَرْفَ الزَّكَاةِ إلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ أَوْ إِلَى مَنْ أَمْكَن مِنْهُمْ لأَنَّهُ يَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنَ الْخِلافِ وَيُحْتَمَلُ الإِجْزَاء يَقِينًا فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى إِنْسَانٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَ وَهَذَا قَوْلُ عُمَر وَحُذَيْفَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنْ قَالَ: وَرَوِيَ عَنِ النّخَعِيِّ: إِنْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا يَحْتَمَلُ الأَصْنَاف قَسَّمَهُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ قَلِيلاً جَازَ وَضْعُهُ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ مَالِكٌ يَتَحَرَّى مَوْضِعَ الْحَاجَةِ مِنْهُمْ وَيُقَدِّمُ الأَوْلَى فَالأَوْلَى. بَابُ تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَمَوَالِيهِمْ دُونَ مَوَالِي أَزْوَاجِهِمْ 2070- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «كَخْ كَخْ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ» ؟ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2071- وَلِمُسْلِمٍ: «إنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ» . 2072- وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ - مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -

(1/567)


بَعَثَ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقَالَ لِأَبِي رَافِعٍ: اصْحَبْنِي كَيْمَا تُصِيبَ مِنْهَا، قَالَ: لَا، حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَسْأَلُهُ، فَانْطَلَقَ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: «إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لَنَا، وَإِنَّ مَوَالِيَ الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 2073- وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: بَعَثَ إلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشَاةٍ مِنْ الصَّدَقَةِ، فَبَعَثْتُ إلَى عَائِشَةَ مِنْهَا بِشَيْءٍ؛ فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ شَيْءٍ» ؟ فَقَالَتْ: لَا إلَّا أَنَّ نُسَيْبَةَ بَعَثَتْ إلَيْنَا مِنْ الشَّاةِ الَّتِي بَعَثْتُمْ بِهَا إلَيْهَا، فَقَالَ: «إنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2074- وَعَنْ جَوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهَا فَقَالَ: «هَلْ مِنْ طَعَامٍ» ؟ فَقَالَتْ: لَا وَاَللَّهِ مَا عِنْدَنَا طَعَامٌ إلَّا عَظْمٌ مِنْ شَاةٍ أَعْطَيْتُهَا مَوْلَاتِي مِنْ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: «قَدِّمِيهَا فَقَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «كَخْ كَخْ» . بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِهَا وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ مُثَقَّلًا وَمُخَفَّفًا وَبِكَسْرِهَا مُنَوَّنَةً وَغَيْرَ مُنَوَّنَةٍ، وَالثَّانِيَةُ تَأْكِيدٌ لِلْأُولَى، وَهِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ لِرَدْعِ الصَّبِيِّ عِنْدَ تَنَاوُلِهِ مَا يُسْتَقْذَرُ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله. وَاختلف مَا الْمُرَادُ بِالْآلِ هُنَا، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَشْرَكَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَعَ بَنِي هَاشِمٍ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ بَنِي هَاشِمٍ لَا تَحِلُّ لَهُمْ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَقَدْ نَقَلَ الطَّبَرِيُّ الْجَوَازَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ عَنْهُ: تَجُوزُ لَهُمْ إذَا حُرِمُوا سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَهُوَ وَجْهٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ. وَحَكَى فِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تَحِلُّ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ لَا مِنْ غَيْرِهِمْ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّحْرِيمِ عَلَى الْعُمُومِ تَرُدُّ عَلَى الْجَمِيعِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَبَنُو هَاشِمٍ إِذَا مُنِعُوا مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ جَازَ لَهُمْ الأَخْذُ مِنَ الزَّكَاةِ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي يَعْقُوب وَغَيْرِهِِِِِِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَقَالَهُ أَبُو يُوسُف وَالأصْطرخي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ لأَنَّهُ مَحَلُ حَاجَةٍ وَضَرُورَةٍ وَيَجُوزُ لِبَنِي

(1/568)


هَاشِمٍ الأَخْذُ مِنَ زَكَاةِ الْهَاشِمِيِّينَ وَهُوَ مَحْكِيٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ. انْتَهَى. قَالَ الشَّارِحُ: وَحَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهَا عَلَى مَوَالِي آلِ بَنِي هَاشِمٍ، وَلَوْ كَانَ الْأَخْذُ عَلَى جِهَةِ الْعِمَالَةِ. قَوْلُهُ: «بَلَغَتْ مَحِلَّهَا» . أَيْ إنَّهَا لَمَّا تَصَرَّفَتْ فِيهَا بِالْهَدِيَّةِ لِصِحَّةِ مِلْكِهَا لَهَا انْتَقَلَتْ عَنْ حُكْمِ الصَّدَقَةِ فَحَلَّتْ مَحِلَّ الْهَدِيَّةِ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَوَالِي أَزْوَاجِ بَنِي هَاشِمٍ لَيْسَ حُكْمُهُمْ كَحُكْمِ مَوَالِي بَنِي هَاشِمٍ فَتَحِلُّ لَهُمْ الصَّدَقَةُ. قَالَ: وَفِي الْحَدِيثَيْنِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ الْأَكْلُ مِنْهَا بَعْدَ مَصِيرِهَا إلَى الْمَصْرِفِ وَانْتِقَالِهَا عَنْهُ بِهِبَةٍ أَوْ هَدِيَّةٍ أَوْ نَحْوِهَا. بَابُ نَهْيِ الْمُتَصَدِّقِ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا تَصَدَّقَ بِهِ 2075- عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ فَأَرَدْت أَنْ أَشْتَرِيَهُ وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرَخْصٍ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «لَا تَشْتَرِهِ، وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2076- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي لَفْظٍ تَصَدَّقَ بِفَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ رَآهَا تُبَاعُ، فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا، فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ يَا عُمَرُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. زَادَ الْبُخَارِيُّ: فَبِذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَتْرُكُ أَنْ يَبْتَاعَ شَيْئَا تَصَدَّقَ بِهِ إلَّا جَعَلَهُ صَدَقَةً. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ) . الْمُرَادُ أَنَّهُ مَلَّكَهُ إيَّاهُ وَلِذَلِكَ سَاغَ لَهُ بَيْعُهُ. قَوْلُهُ: (فَبِذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَتْرُكُ أَنْ يَبْتَاعَ شَيْئَا تَصَدَّقَ بِهِ إلَّا جَعَلَهُ صَدَقَةً) قَالَ الشَّارِحُ: أَيْ كَانَ إذَا اتَّفَقَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِمَّا تَصَدَّقَ بِهِ لَا يَتْرُكُهُ فِي مُلْكِهِ حَتَّى يَتَصَدَّقَ بِهِ، فَكَأَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ شِرَاءِ الصَّدَقَةِ إنَّمَا هُوَ

(1/569)


لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا لَا لِمَنْ يَرُدُّهَا صَدَقَةً. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الرُّجُوعِ عَنْ الصَّدَقَةِ وَأَنَّ شِرَاءَهَا بِرُخْصٍ نَوْعٌ مِنْ الرُّجُوعِ فَيَكُونُ مَكْرُوهًا وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ يُعَارِضُ هَذَا الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ عنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي حِلِّ الصَّدَقَةِ لِرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ هَذَا عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَحَمَلَ قَوْمٌ هَذَا عَلَى التَّنْزِيهِ وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ: 2077- «أَوْ رَجُلٌ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ» فِي خَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ابْتِيَاعُ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ رَاوِي الْخَبَرِ، وَلَوْ فُهِمَ مِنْهُ التَّحْرِيمُ لَمَا فَعَلَهُ وَتَقَرَّبَ بِصَدَقَةٍ تَسْتَنِدُ إلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَذَاكَ فِي صَدَقَةِ الْفَرِيضَةِ، فَيَكُونُ الشِّرَاءُ جَائِزًا فِي صَدَقَةِ الْفَرِيضَةِ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الرُّجُوعُ فِيهَا حَتَّى يَكُونَ الشِّرَاءُ مُشَبَّهًا لَهُ بِخِلَافِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ فَإِنَّهُ يَتَصَوَّرُ الرُّجُوعَ فِيهَا فَكَرِهَ مَا يُشْبِهُهُ وَهُوَ الشِّرَاءُ. انْتَهَى. قلت: الظاهر أن حديث أبي سعيد في اشتراء صدقة غيره لا صدقة نفسه. بَابُ فَضْلِ الصَّدَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ وَالْأَقَارِبِ 2078- عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تَصَدَّقْنَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ» . قَالَتْ: فَرَجَعْتُ إلَى عَبْدِ اللهِ فَقُلْتُ: إنَّكَ رَجُلٌ خَفِيفُ ذَاتِ الْيَدِ، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ فَائتِهِ فَاسْأَلْهُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُجْزِئُ عَنِّي وَإِلا صَرَفْتُهَا إلَى غَيْرِكُمْ قَالَتْ: فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: بَلْ ائْتِيهِ أَنْتِ، قَالَتْ: فَانْطَلَقْتُ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ بِبَابِ ... رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَاجَتِي حَاجَتُهَا، قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ الْمَهَابَةُ، قَالَتْ: فَخَرَجَ عَلَيْنَا بِلالٌ فَقُلْنَا لَهُ: ائْتِ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبِرْهُ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ بِالْبَابِ يَسْأَلانِكَ: أَتُجْزِئُ الصَّدَقَةُ عَنْهُمَا عَلَى أَزْوَاجِهِمَا، وَعَلَى أَيْتَامٍ في حُجُورِهِمَا، وَلَا تُخْبِرْ مَنْ نَحْنُ، قَالَتْ: فَدَخَلَ بِلَالٌ فَسَأَلَهُ،

(1/570)


فقَالَ لَهُ: ... «مَنْ هُمَا» ؟ فَقَالَ: امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَزَيْنَبُ، قَالَ: «أَيُّ الزَّيَانِبِ» ؟ قَالَ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: «لَهُمَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2079- وَفي لَفْظُ الْبُخَارِيِّ أَيُجْزِئُ عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي، وَعَلَى أَيْتَام لِي فِي حَجْرِي. 2080- وَعَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكَيْنِ صَدَقَةٌ، وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ. 2081- وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أَفْضَلَ الصَّدَقَةِ الصَّدَقَةُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2082- وَلَهُ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ. 2083- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إذَا كَانَ ذَوُوا قَرَابَةٍ لَا تَعُولُهُمْ فَأَعْطِهِمْ مِنْ زَكَاةِ مَالِكَ، وَإِنْ كُنْتَ تَعُولُهُمْ فَلَا تُعْطِهِمْ وَلَا تَجْعَلْهَا لِمَنْ تَعُولُ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ فِي سُنَنِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (إنَّك رَجُلٌ خَفِيفٌ ذَاتَ الْيَدِ) . هَذَا كِنَايَةٌ عَنْ الْفَقْرِ. وَقَالَ: اُسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَدْفَعَ زَكَاتَهَا إلَى زَوْجِهَا، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ صَرْفُ زَكَاتِهَا إلَى زَوْجِهَا، أَمَّا أَوَّلًا فَلِعَدَمِ الْمَانِعِ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ تَرْكَ اسْتِفْصَالِهِ - صلى الله عليه وسلم - لَهَا يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ. وَقَدْ اختلف فِي الزَّوْجِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ زَكَاتَهُ إلَى زَوْجَتِهِ؟ فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُعْطِي زَوْجَتَهُ مِنْ الزَّكَاةِ شَيْئًا لِأَنَّ نَفَقَتَهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: (الْكَاشِحِ) . هُوَ الْمُضْمِرُ لِلْعَدَاوَةِ. وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثَيْنِ عَلَى جَوَازِ

(1/571)


صَرْفِ الزَّكَاةِ إلَى الْأَقَارِبِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَإِذَا كَانَتْ الأُمُ فَقِيرَةٌ وَلَهَا أَوْلادٌ صِغَارٌ لَهُمْ مَالٌ وَنَفَقَتُهَا تَضُرُّ بِهِمْ أُعْطِيَتْ مِنْ زَكَاتِهِمْ. بَابُ زَكَاةِ الْفِطْرِ 2084- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 2085- وَلِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُد وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِي التَّمْرَ إلَّا عَامًا وَاحِدًا أَعْوَزَ التَّمْرُ فَأَعْطَى الشَّعِيرَ. 2086- وَلِلْبُخَارِيِّ وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ. 2087- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ. أَخْرَجَاهُ. 2088- وَفِي رِوَايَةٍ: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ إذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، فَلَمْ نَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاوِيَةُ الْمَدِينَةَ، فَقَالَ: إنِّي لَأَرَى مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامَ يَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ؛ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. لَكِنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ قَالَ: أَبُو سَعِيدٍ فَلَا أَزَالُ إلَى آخِرِهِ،. وَابْنُ مَاجَهْ لَمْ يَذْكُرْ لَفْظَةً أَوْ في شَيء مِنْهُ. 2089- وَلِلنَّسَائِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ. وَهُوَ حُجَّةٌ فِي أَنَّ الْأَقِطَ أَصْلٌ.

(1/572)


2090- وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: مَا أَخْرَجْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا صَاعًا مِنْ دَقِيقٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ سُلْتٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، فَقَالَ: ابْنُ الْمَدِينِيِّ لِسُفْيَانَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إنَّ أَحَدًا لَا يَذْكُرُ فِي هَذَا الدَّقِيقِ، فَقَالَ: بَلَى هُوَ فِيهِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ عَلَى إجْزَاءِ الدَّقِيقِ. 2091- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلَى الصَّلَاةِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. 2092- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، فَمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 2093- وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ الرَّازِيّ قَالَ: قُلْتُ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: أَبَا عَبْدِ اللَّهِ كَمْ قَدْرُ صَاعِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ أَنَا حَزَرْتُهُ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ خَالَفْتَ شَيْخَ الْقَوْمِ، قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قُلْتُ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ، فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا ثُمَّ قَالَ لِجُلَسَائِنَا: يَا فُلَانُ هَاتِ صَاعَ جَدِّكَ، يَا فُلَانُ هَاتِ صَاعَ عَمِّكَ، يَا فُلَانُ هَاتِ صَاعَ جَدَّتِكَ قَالَ إِسْحَاقُ: فَاجْتَمَعَتْ آصُعٌ، فَقَالَ: مَا تَحْفَظُونَ فِي هَذَا؟ فَقَالَ هَذَا: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُؤَدِّي بِهَذَا الصَّاعِ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ هَذَا: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَخِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُؤَدِّي بِهَذَا الصَّاعِ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ الْآخَرُ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أُمِّهِ أَنَّهَا أَدَّتْ بِهَذَا الصَّاعِ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ مَالِكٌ: أَنَا حَزَرْتُ هَذِهِ فَوَجَدْتُهَا خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثًا. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَرَضَ) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ مِنْ الْفَرَائِضِ. قَوْلُهُ: (صَاعًا مِنْ طَعَامٍ) إلَى آخِرِهِ. ظَاهِرُهُ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَ الطَّعَامِ وَبَيْنَ مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ. وَقَدْ حَكَى الْخَطَّابِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّعَامِ هُنَا الْحِنْطَةُ، وَأَنَّهُ اسْمٌ خَاصٌّ

(1/573)


لَهُ، قَالَ هُوَ وَغَيْرُهُ: قَدْ كَانَتْ لَفْظَةُ الطَّعَامِ تُسْتَعْمَلُ فِي الْحِنْطَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ حَتَّى إذَا قِيلَ: اذْهَبْ إلَى سُوقِ الطَّعَامِ، فُهِمَ مِنْهُ سُوقُ الْقَمْحِ، وَإِذَا عَقَبَ الْعُرْفُ نَزَلَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: تَمَسَّكَ بِقَوْلِ مُعَاوِيَةَ مَنْ قَالَ بِالْمُدَّيْنِ مِنْ الْحِنْطَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ فِعْلُ صَحَابِيٍّ قَدْ خَالَفَ فِيهِ أَبُو سَعِيدٍ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ أَطْوَلُ صُحْبَةً مِنْهُ وَأَعْلَمُ بِحَالِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ رَأْيٌ رَآهُ لَا أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قَوْلُهُ: (مِنْ سُلْتٍ) بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ: نَوْعٌ مِنْ الشَّعِيرِ وَهُوَ كَالْحِنْطَةِ فِي مَلَاسَتِهِ وَكَالشَّعِيرِ فِي بُرُودَتِهِ وَطَبْعِهِ. وَالرِّوَايَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْفِطْرَةِ صَاعٌ. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَيُجْزِئُهُ فِي الْفِطْرَةِ مِنْ قَوْتِ بَلَدِهِ مِثْل الأرز وَغَيْرِهِ وَلَوْ قَدِرَ عَلَى الأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدٍ وَقَوْلُ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ. وَلا يَجُوزُ دَفْعُ زَكَاةٍ إِلا لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْكَفَّارَةَ وَهُوَ مَنْ يَأْخُذُ لِحَاجَتِهِ، لا فِي الرِّقَابِ وَالْمُؤَلَّفَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ دَفْعَهَا إِلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدٍ. وَلا يُعْتَبَرُ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ مِلْك لِنِصَابٍ بَلْ تَجِبُ عَلَى مَنْ مَلَكَ صَاعًا فَاضِلاً عَنْ قُوتِهِ يَوْم الْعِيدِ وَلَيْلَتِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٍ وَصَاحِبُهُ لا يُطَالِبُهُ بِهِ أَدَّى صَدَقَةَ الْفِطْرِ كَمَا يُطْعِمُ عِيَالَهُ يَوْمَ الْعِيدِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدٍ، وَمَنْ عَجَزَ عَنْ صَدَقَةِ الْفَطْرِ وَقْتَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ ثُمَّ أَيْسَرَ فَأَدَّاهَا فَقَدْ أَحْسَن. انْتَهَى. وَاللهُ أَعْلَمُ.

(1/574)


 كِتَابُ الصِّيَامِ

بَابُ مَا يَثْبُتُ بِهِ الصَّوْمُ وَالْفِطْرُ مِنْ الشُّهُودِ 2094- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ وَهُوَ ثِقَةٌ. 2095- وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنِّي رَأَيْتُ الْهِلَالَ: يَعْنِي رَمَضَانَ فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: «يَا بِلَالُ أَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا أَحْمَدَ. 2096- وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا بِمَعْنَاهُ وَقَالَ: فَأَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ أَنْ يَقُومُوا وَأَنْ يَصُومُوا. 2097- وَعَنْ رِبْعِيٍّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فَقَدِمَ أَعْرَابِيَّانِ فَشَهِدَا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِاَللَّهِ لَأَهَلَّ الْهِلَالُ أَمْسِ عَشِيَّةً فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ أَنْ يُفْطِرُوا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 2098- وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَإِنْ يَغْدُوا إلَى مُصَلَّاهُمْ. 2099- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ خَطَبَ فِي الْيَوْمِ

(1/575)


الَّذِي شُكَّ فِيهِ فَقَالَ: أَلَا إنِّي جَالَسْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَسَأَلْتُهُمْ، وَأَنَّهُمْ حَدَّثُونِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَانْسُكُوا لَهَا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَتَمُّوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ مُسْلِمَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ مُسْلِمَانِ. 2100- وَعَنْ أَمِيرِ مَكَّةَ الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ قَالَ: عَهِدَ إلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَنْسُكَ لِلرُّؤْيَةِ، فَإِنْ لَمْ نَرَهُ وَشَهِدَ شَاهِدَا عَدْلٍ نَسَكْنَا بِشَهَادَتِهِمَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: هَذَا إسْنَادٌ مُتَّصِلٌ صَحِيحٌ. قَوْلُهُ: (تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ) إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي الْبَابِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّهَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ فِي دُخُولِ رَمَضَانَ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَبِهِ قَالَ الْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَالْهَادَوِيَّةُ: إنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْوَاحِدُ بَلْ يُعْتَبَرُ اثْنَانِ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ وَبِحَدِيثِ أَمِيرِ مَكَّةَ. وَتَأْوَلُوا الْحَدِيثَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَدْ شَهِدَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - غَيْرُهُمَا. وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِالِاثْنَيْنِ غَايَةُ مَا فِيهِ الْمَنْعُ مِنْ قَبُولِ الْوَاحِدِ بِالْمَفْهُومِ. وَحَدِيثَا الْبَابِ يَدُلَّانِ عَلَى قَبُولِهِ بِالْمَنْطُوقِ، وَدَلَالَةُ الْمَنْطُوقِ أَرْجَحُ. وَأُمَّا التَّأْوِيلُ بِالِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ فَتَعَسُّفٌ وَتَجْوِيزٌ لَوْ صَحَّ اعْتِبَارُ مِثْلِهِ لَكَانَ مُفْضِيًا إلَى طَرْحِ أَكْثَرِ الشَّرِيعَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ عَدْلٍ وَاحِدٍ عَلَى هِلَالِ شَوَّالٍ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ إلَّا أَبَا ثَوْرٍ فَجَوَّزَهُ بِعَدْلٍ. بَابُ مَا جَاءَ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ وَالشَّكِّ 2101- عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ» . أَخْرَجَاهُ هُمَا وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. 2102- وَفِي لَفْظٍ «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

(1/576)


2103- وَفِي لَفْظٍ أَنَّهُ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَضَرَبَ بِيَدَيْهِ فَقَالَ: «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» ثُمَّ عَقَدَ إبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا ثَلَاثِينَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 2104- وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ. وَزَادَ قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ إذَا مَضَى مِنْ شَعْبَانَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا يَبْعَثُ مَنْ يَنْظُرُ فَإِنْ رَأَى فَذَاكَ وَإِنْ لَمْ يَرَ وَلَمْ يَحِلْ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ وَلَا قَتَرٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا وَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرٌ أَصْبَحَ صَائِمًا. 2105- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غَبِيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 2106- وَمُسْلِمٌ وَقَالَ: «فَإِنْ غَبِيَ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ» . 2107- وَفِي لَفْظٍ «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2108- وَفِي لَفْظٍ «إذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ. 2109- وَفِي لَفْظٍ «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ ثُمَّ أَفْطِرُوا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 2110- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سَحَابٌ فَكَمِّلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ، وَلَا تَسْتَقْبِلُوا الشَّهْرَ اسْتِقْبَالًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ بِمَعْنَاهُ وَصَحَّحَهُ. 2111- وَفِيهِ لَفْظٍ لِلنَّسَائِيِّ: «فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ عِدَّةَ شَعْبَانَ» . رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي يُونُسَ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ. 2112- وَفِي لَفْظِ: «لَا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ بِصِيَامِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ، وَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ ثُمَّ صُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ حَالَ دُونَهُ غَمَامَةٌ فَأَتِمُّوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ ثُمَّ أَفْطِرُوا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

(1/577)


2113- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَحَفَّظُ مِنْ هِلَالِ شَعْبَانَ مَا لَا يَتَحَفَّظُهُ مِنْ غَيْرِهِ، يَصُومُ لِرُؤْيَةِ رَمَضَانَ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِ عَدَّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: إسْنَادٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. 2114- وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، ثُمَّ صُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 2115- وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا أَحْمَدَ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ لِلْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «إذَا رَأَيْتُمُوهُ - أَيْ الْهِلَالَ - فَصُومُوا» . وَظَاهِرُهُ إيجَابِ الصَّوْمِ حِينَ الرُّؤْيَةِ مَتَى وُجِدَتْ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا لَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى صَوْمِ الْيَوْمِ الْمُسْتَقْبِلِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي النَّهْيِ عَنْ ابْتِدَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ قَبْلَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَيَدْخُلُ فِيهِ صُورَةُ الْغَمِّ وَغَيْرُهَا. قَوْلُهُ: «فَإِنْ غُمَّ» أَيْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَكُمْ سَحَابٌ أَوْ نَحْوُهُ. قَوْلُهُ: «فَاقْدُرُوا لَهُ» قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: يُقَالُ: قَدَرْتُ الشَّيْءَ أَقْدِرُهُ، وَأَقْدُرُهُ وَقَدَّرْتُهُ وَأَقْدَرْتُهُ كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهِيَ مِنْ التَّقْدِيرِ كَمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَمَعْنَاهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: فَاقْدُرُوا لَهُ تَمَامَ الثَّلَاثِينَ يَوْمًا لَا كَمَا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ. قَوْلُهُ: «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا» إلَى آخِرِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: حَاصِلُهُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْهِلَالِ، لِأَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ إِمَّا ثَلَاثِينَ، وَقَدْ يَكُونُ نَاقِصًا تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَقَدْ لَا يُرَى الْهِلَالُ فَيَجِبُ إكْمَالُ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ، قَالُوا: وَقَدْ يَقَعُ النَّقْصُ مُتَوَالِيًا فِي شَهْرَيْنِ وَثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ، وَلا يُقِيمُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ. قَوْلُهُ: (وَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرٌ أَصْبَحَ صَائِمًا) قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ بِصَوْمِ الشَّكِّ. قال: والحَاصِل أَنَّ

(1/578)


الصَّحابةَ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ بِِحُجَّة على أَحَد والْحُجَّةُ مَا جَاءَنَا عَنْ الشَّارِع وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ الْهِلَالِ إذَا رَآهُ أَهْلُ بَلْدَةٍ هَلْ يَلْزَمُ بَقِيَّةَ الْبِلَادِ الصَّوْمُ 2116- عَنْ كُرَيْبٌ أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بَعَثَتْهُ إلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ فَقَالَ: فَقَدِمْتُ الشَّامَ فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا وَاسْتُهِلَّ عَلَيَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ فَرَأَيْتُ الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ فَسَأَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ؟ فَقُلْتُ: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ أَوْ نَرَاهُ، فَقُلْتُ: أَلَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ؟ فَقَالَ: لَا، هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَاسْتُهِلَّ عَلَيَّ رَمَضَانَ) هُوَ بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ اسْتَهَلَّ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ. وَقَدْ تَمَسَّك بِحَدِيثِ كُرَيْبٌ هَذَا مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَهْلَ بَلَدٍ رُؤْيَةُ أَهْلِ بَلَدٍ غَيْرِهَا. وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ لِأَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ رُؤْيَتُهُمْ وَلَا يَلْزَمُهُمْ رُؤْيَةُ غَيْرِهِمْ. حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَالِمٍ وَإِسْحَاقَ، وَحَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَمْ يَحْكِ سِوَاهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَهْلَ بَلَدٍ رُؤْيَةُ غَيْرِهِمْ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ فَيَلْزَمُ كُلُّهُمْ، قَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا إنْ تَقَارَبَتْ الْبِلَادُ كَانَ الْحُكْمُ وَاحِدًا وَإِنْ تَبَاعَدَتْ فَوَجْهَانِ؛ لَا يَجِبُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، قَالَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ. إِلِى أَنْ قَالَ: سَادِسُهَا: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ إذَا اخْتَلَفَتْ الْجِهَتَانِ ارْتِفَاعًا وَانْحِدَارًا. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: تَخْتَلِفُ الْمَطَالِعِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِهَذَا، فَإِنْ اتَّفَقَتْ لَزَمَ وَإِلا فَلا، وَهُوَ الأَصَحُّ للشّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدُ.

(1/579)


بَابُ وُجُوبِ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ فِي الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ 2117- عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَجْمَعْ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. 2118- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: «هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ شَيْءٍ» ؟ فَقُلْنَا: لَا، فَقَالَ: «فَإِنِّي إذَنْ صَائِمٌ» . ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَقَالَ: «أَرِينِيهِ فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا فَأَكَلَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ. 2119- وَزَادَ النَّسَائِيّ: ثُمَّ قَالَ: «إنَّمَا مَثَلُ صَوْمِ الْمُتَطَوِّعِ مَثَلُ الرَّجُلِ يُخْرِجُ مِنْ مَالِهِ الصَّدَقَةَ، فَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهَا، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهَا» . 2120- وَفِي لَفْظٍ لَهُ أَيْضًا قَالَ: «يَا عَائِشَةُ إنَّمَا مَنْزِلَةُ مَنْ صَامَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ أَوْ فِي التَّطَوُّعِ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ أَخْرَجَ صَدَقَةَ مَالِهِ فَجَادَ مِنْهَا بِمَا شَاءَ فَأَمْضَاهُ، وَبَخِلَ مِنْهَا بِمَا شَاءَ فَأَمْسَكَهُ» . قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ: كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: عِنْدَكُمْ طَعَامٌ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ يَوْمِي هَذَا. قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةُ - رضي الله عنه -. قَوْلُهُ: «مَنْ لَمْ يَجْمَعْ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ وَإِيقَاعِهَا فِي جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ. قَالَ: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَا يَجِبُ تَبْيِيتُ النِّيَّةِ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ وَهُمْ الْجُمْهُورُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُتَطَوِّعِ بِالصَّوْمِ أَنْ يُفْطِرَ وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى الصَّوْمِ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ بِالْإِجْمَاعِ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي التَّطَوُّعِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَمَنْ خَطَرَ بِقَلْبِهِ أَنَّهُ صَائِمٌ غَدًا فَقَدْ نَوَى، وَالصَّائِمُ لَمَّا يَتَعَشَّى عَشَاءَ مَنْ يُرِيدُ الصِّيَامَ، وَلِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْن عَشَاءِ لَيْلَةِ الْعِيدِ وَعَشَاءِ لَيَالِي رَمَضَان. انْتَهَى.

(1/580)


بَابُ الصَّبِيِّ يَصُومُ إذَا أَطَاقَ وَحُكْمُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ أَوْ الْيَوْمِ 2121- عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إلَى قُرَى الْأَنْصَارِ الَّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ: مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ. فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ وَنُصَوِّمُهُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ مِنْهُمْ وَنَذْهَبُ إلَى الْمَسْجِدِ فَنَجْعَلُ لَهُمْ اللُّعْبَةَ مِنْ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ مِنْ الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهَا إيَّاهُ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ. أَخْرَجَاهُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ عُمَرُ لِنَشْوَانَ فِي رَمَضَانَ: وَيْلَكَ وَصِبْيَانُنَا صِيَامٌ وَضَرَبَهُ. 2122- وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا وَفْدُنَا الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِإِسْلَامِ ثَقِيفٍ، وقَالَ: وَقَدِمُوا عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ، وَضَرَبَ عَلَيْهِمْ قُبَّةً فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا صَامُوا مَا بَقِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ الشَّهْرِ} . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. 2123- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَسْلَمَةُ عَنْ عَمِّهِ أَنَّ أَسْلَمَ أَتَتْ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «صُمْتُمْ يَوْمَكُمْ هَذَا» ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: «فَأَتِمُّوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ وَاقْضُوا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ عَاشُورَاءَ كَانَ فَرْضًا قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ، وَعَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَمْرُ الصِّبْيَانِ بِالصَّوْمِ لِلتَّمْرِينِ عَلَيْهِ إذَا أَطَاقُوهُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَى الْغُلَامِ إذَا عَقَلَ، وَالصَّوْمُ إذَا أَطَاقَ، وَالْحُدُودُ وَالشَّهَادَةُ إذَا احْتَلَمَ. قَالَ: وَحَدِيث إِسْلام ثَقِيفٍ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الصِّيَامِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ فِي رَمَضَانَ وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَالْحَدِيثُ الثَّانِي: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَيَلْحَقُ بِهِ مَنْ تَكَلَّفَ أَوْ أَفَاقَ مِنْ الْجُنُونِ أَوْ زَالَ عَنْهُ عُذْرُهُ الْمَانِعُ مِنْ

(1/581)


الصَّوْمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِالصَّوْمِ فِي أَوَّلِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذَا حُجَّةٌ فِي أَنَّ صَوْمَ عَاشُورَاءَ كَانَ وَاجِبًا، وَأَنَّ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ فِي أَثْنَاءِ نَوْمِهِ لَزِمَهُ إمْسَاكُهُ وَقَضَاؤُهُ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى سُقُوطِ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ لِأَنَّ صَوْمَهُ إنَّمَا لَزِمَهُمْ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ.

(1/582)


أَبْوَابُ مَا يُبْطِلُ الصَّوْمَ وَمَا يُكْرَهُ وَمَا يُسْتَحَبُّ بَابُ مَا جَاءَ فِي الْحِجَامَةِ 2124- عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. 2125، 2126- وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ وَحَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ مِثْلُهُ. 2127- وَلِأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ. 2128- وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَحَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مِثْلُهُ. 2130- وَعَنْ ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَى عَلَى رَجُلٍ يَحْتَجِمُ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» . 2131 - وَعَنْ الْحَسَنِ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَرَّ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا أَحْتَجِمُ فِي ثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَقَالَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. وَهُمَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَا يُفْطِرُ جَاهِلًا يَفْسُدُ صَوْمُهُ بِخِلَافِ النَّاسِي. قَالَ أَحْمَدُ: أَصَحُّ حَدِيثٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ،

(1/583)


وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ ثَوْبَانَ وَشَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ. 2132- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 2133- وَفِي لَفْظٍ: «احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 2134- وَعَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيَّ أَنَّهُ قَالَ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: لَا إلَّا مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 2135- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْوِصَالِ فِي الصِّيَامِ وَالْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ إبْقَاءً عَلَى أَصْحَابِهِ وَلَمْ يُحَرِّمْهُمَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 2136- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا كُرِهَتْ الْحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «أَفْطَرَ هَذَانِ» . ثُمَّ رَخَّصَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدُ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ. وَكَانَ أَنَسٌ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَلَا أَعْلَمُ لَهُ عِلَّةً. قَوْلُهُ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ الْقَائِلُونَ بِفِطْرِ الْحَاجِمِ وَالْمَحْجُومِ. قَالَ: وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ الْحِجَامَةَ لَا تُفْسِدُ ... الصَّوْمَ. وَأَجَابُوا عَنْ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ. وَقَالَ الْبَغَوِيّ: مَعْنَى «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» أَيْ تَعَرَّضَا لِلْإِفْطَارِ، أَمَّا الْحَاجِمُ فَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ وُصُولُ شَيْءٍ مِنْ الدَّمِ إلَى جَوْفِهِ عِنْدَ الْمَصِّ، وَمَا الْمَحْجُومُ فَأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ ضَعْفِ قُوَّتِهِ بِخُرُوجِ الدَّمِ، فَيَئُولُ أَمْرُهُ إلَى أَنْ يُفْطِرَ. قَالَ الشَّارِحُ: فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْحِجَامَةَ مَكْرُوهَةٌ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ يَضْعُفُ بِهَا وَتَزْدَادُ الْكَرَاهَةُ إذَا كَانَ الضَّعْفُ يَبْلُغُ إلَى حَدٍّ يَكُونُ سَبَبًا لِلْإِفْطَارِ، وَلَا تُكْرَهُ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ لَا يَضْعَفُ بِهَا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ تَجَنُّبُ الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ أَوْلَى، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ قَوْلِهِ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» عَلَى الْمَجَازِ لِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ الصَّارِفَةِ لَهُ عَنْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ. انْتَهَى. قَالَ فِي

(1/584)


الاخْتِيَارَات: وَيفطرُ بِإِخْرَاجِ الدَّمّ بِالحِجَامَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدُ، بِالْفَصْدِ وَالتَّشْرِيطِ، وَهُوَ وَجْهٌ لَنَا، وَبِإِرْعَافِ نَفْسَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيُّ، وَيفطر الحَاجِم إِنْ مَصَّ القَارُورَة. انتهى. والله أعلم. بَابُ مَا جَاءَ فِي الْقَيْءِ وَالِاكْتِحَالِ 2137- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَمَنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَلْيَقْضِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ. 2138- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ هَوْذَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهُ أَمَرَ بِالْإِثْمِدِ الْمُرَوِّحِ عَنْ النَّوْمِ، وَقَالَ: «لِيَتَّقِهِ الصَّائِمُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَفِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ قَرِيبٌ. قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ هَذَا ضَعِيفٌ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: هُوَ صَدُوقٌ. قَالَ الشَّارِحُ: قَوْلُهُ: «مَنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا» أَيْ اسْتَدْعَى الْقَيْءَ وَطَلَبَ خُرُوجَهُ تَعَمُّدًا. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ صَوْمُ مَنْ غَلَبَهُ الْقَيْءُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَيَبْطُلُ صَوْمُ مَنْ تَعَمَّدَ إخْرَاجَهُ وَلَمْ يَغْلِبْهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ تَعَمُّدَ الْقَيْءِ يُفْسِدُ الصِّيَامَ. قَوْلُهُ: «لِيَتَّقِهِ الصَّائِمُ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى فَقَالَا: إنَّ الْكُحْلَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَخَالَفَهُمْ الْعِتْرَةُ وَالْفُقَهَاءُ وَغَيْرِهم فَقَالُوا: إنَّ الْكُحْلَ لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ. وَأَجَابُوا عَنْ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ لَا يَنْتَهِضُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْكُحْلَ لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اكْتَحَلَ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ صَائِمٌ. وَفِي إسْنَادِهِ بَقِيَّةُ عَنْ الزُّبَيْدِيِّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَالظَّاهِرُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ الْأَصْلِيَّةَ لَا تَنْتَقِلُ عَنْهَا إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَيْسَ فِي الْبَابِ مَا يَصْلُحُ لِلنَّقْلِ لَا سِيَّمَا بَعْدَ أَنْ شَدَّ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ عَضُدِهَا، وَهِيَ عَلَى فَرْضِ صَلَاحِيَّةِ حَدِيثِ الْفِطْرِ مِمَّا دَخَلَ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ يَكُونُ اكْتِحَالُ النَّبِيِّ مُخَصِّصًا لِلْكُحْلِ، وَكَذَلِكَ عَلَى فَرْضِ صَلَاحِيَّةِ حَدِيثِ الْبَابِ يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الْأَمْرِ بِاجْتِنَابِ الْكُحْلِ الْمُطَيِّبِ؛ لِأَنَّ الْمُرَوِّحَ

(1/585)


هُوَ الْمُطَيِّبُ فَلَا يَتَنَاوَلُ مَا لَا طِيبَ فِيهِ. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَلا يفطر الصَّائِم بالاكْتِحَالِ وَالْحُقْنَة وَمَا يقطر فِي إِحْلِيلِهِ وَمداواة المأمومة والجائِفَة، وهُوَ قَوْلُ أهْل العلم. بَابُ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا 2139- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا النَّسَائِيّ. 2140- وَفِي لَفْظٍ «إذَا أَكَلَ الصَّائِمُ نَاسِيًا، أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا، فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْهِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ. 2141- وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ» . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ مَرْزُوقٍ وَهُوَ ثِقَةٌ عَنْ الْأَنْصَارِيِّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الْجُمْهُورُ فَقَالُوا: مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا فَلَا يُفْسَدُ صَوْمُهُ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ. بَابُ التَّحَفُّظِ مِنْ الْغِيبَةِ وَاللَّغْوِ وَمَا يَقُولُ إذَا شُتِمَ 2142- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَصْخَبْ، فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ؛ وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2143- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْكَلَامُ الْفَاحِشُ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْجِمَاعِ وَعَلَى مُقَدِّمَاتِهِ، وَعَلَى ذِكْرِ ذَلِكَ مَعَ النِّسَاءِ أَوْ مُطْلَقًا.

(1/586)


قَالَ: وَاخْتَلَفَ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: «إنِّي صَائِمٌ» هَلْ يُخَاطِبُ بِهَا الَّذِي يَشْتُمُهُ وَيُقَاتِلُهُ أَوْ يَقُولُهَا فِي نَفْسِهِ، قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: كُلٌّ مِنْهُمَا حَسَنٌ، وَالْقَوْلُ بِاللِّسَانِ أَقْوَى. قَوْلُهُ: (فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ) . قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَلَا مَفْهُومَ لِذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ فَلَيْسَ لِلَّهِ إرَادَةٌ فِي صِيَامِهِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ تُنْقِصُ ثَوَابَ الصَّوْمِ. بَابُ الصَّائِمِ يَتَمَضْمَضُ أَوْ يَغْتَسِلُ مِنْ الْحَرِّ 2144- عَنْ عُمَرَ قَالَ: هَشَشْتُ يَوْمًا فَقَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: صَنَعْتُ الْيَوْمَ أَمْرًا عَظِيمًا، قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ وَأَنْتَ صَائِمٌ» ؟ قُلْتُ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَفِيمَ» ؟ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 2145- وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ الْحَرِّ وَهُوَ صَائِمٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (هَشَشْتُ) أَيْ نَشِطَتْ وَارْتَحْتُ، وَالْهَشَاشُ فِي الْأَصْلِ: الِارْتِيَاحُ وَالْخِفَّةُ وَالنَّشَاطُ. قَوْلُهُ: «أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ» . إلَى آخره. فِيهِ إشَارَةٌ إلَى فِقْهٍ بَدِيعٍ وَهُوَ أَنَّ الْمَضْمَضَةَ لَا تُنْقِصُ الصَّوْمَ وَهِيَ أَوَّلُ الشُّرْبِ وَمِفْتَاحُهُ، فَكَذَلِكَ الْقُبْلَةُ لا تُنْقِصُهُ وَهِيَ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ وَأَوَائِلِهِ، وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي التَّقْبِيلِ. قَوْلُهُ: (يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ) إلَى آخره. فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَكْسِرَ الْحَرَّ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَى بَعْضِ بَدَنِهِ أَوْ كُلِّهِ. بَابُ الرُّخْصَةِ فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ إلَّا لِمَنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ 2146- عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(1/587)


2147- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَلَكِنَّهُ كَانَ أَمْلَكَكُمْ لَإِرْبِهِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا النَّسَائِيّ. 2149- وَفِي لَفْظٍ: كَانَ يُقَبِّلُ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ صَائِمٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ: أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَيُقَبِّلُ الصَّائِمُ؟ فَقَالَ لَهُ: «سَلْ هَذِهِ» . لِأُمِّ سَلَمَةَ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ لَهُ: «أَمَا وَاَللَّهِ إنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِيهِ أَنَّ أَفْعَالَهُ حُجَّةٌ. 2150- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ، فَرَخَّصَ لَهُ، وَأَتَاهُ آخَرُ فَنَهَاهُ عَنْهَا، فَإِذَا الَّذِي رَخَّصَ لَهُ شَيْخٌ، وَإِذَا الَّذِي نَهَاهُ شَابٌّ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (كَانَ يُقَبِّلُهَا) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّقْبِيلُ لِلصَّائِمِ وَلَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ. وَقَدْ قَالَ بِكَرَاهَةِ التَّقْبِيلِ وَالْمُبَاشَرَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ قَوْمٌ. وَفَرَّقَ آخَرُونَ بَيْنَ الشَّابِّ وَالشَّيْخِ، فَأَبَاحُوهَا لِلشَّيْخِ دُونَ الشَّابِّ. قَوْلُهُ: (وَلَكِنَّهُ كَانَ أَمْلَكَكُمْ لَإِرْبِهِ) . قَالَ الشَّارِحُ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ: أَيْ حَاجَتِهِ، وَيُرْوَى بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ: أَيْ عُضْوِهِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَالْأَوَّلُ أَشْهُرُ. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: ولا يفطر بِمَذْيٍ بِسببِ قبلة أَوْ لَمْس أو تِكْرَار نَظَر، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَبَعْض أَصْحَابنا، وَأَمَّا إَذَا ذَاقَ طَعَامًا وَلَفَظَهُ، أَوْ وَضَعَ فِي فِيهِ عَسَلاً وَمَجَّهُ فَلا بَأَسَ بِهِ للحَاجَةِ كَالْمَضْمَضَةِ وَالاستِنْشَاقِ. بَابُ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا وَهُوَ صَائِمٌ 2151- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ تُدْرِكُنِي الصَّلاةَ وَأَنَا

(1/588)


جُنُبٌ فَأَصُومُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَأَنَا تُدْرِكُنِي الصَّلاةُ وَأَنَا جُنُبٌ فَأَصُومُ» . فَقَالَ: لَسْتَ مِثْلَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَقَالَ: «وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 2152- وَعَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يَصُومُ فِي رَمَضَانَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2153- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ لَا حُلُمٍ ثُمَّ لَا يُفْطِرُ وَلَا يَقْضِي. أَخْرَجَاهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ اسْتَدَلَّ بِهَا مَنْ قَالَ: إنَّ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَصَوْمُهُ صَحِيحٌ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ أَنْ تَكُونَ الْجَنَابَةُ عَنْ جِمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ اسْتَقَرَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ. بَابُ كَفَّارَةِ مَنْ أَفْسَدَ صَوْمَ رَمَضَانَ بِالْجِمَاعِ 2154- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُل إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «وَمَا أَهْلَكَكَ» ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ. قَالَ: «هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً» ؟ قَالَ: لا. قَالَ: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ» ؟ قَالَ: لا. قَالَ: «فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا» ؟ قَالَ: لا. قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ فَأَتَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، قَالَ: «تَصَدَّقَ بِهَذَا» . قَالَ: فَهَلْ عَلَى أَفْقَرَ مِنَّا؟ فَمَا بَيْنَ لابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجَ إلَيْهِ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَقَالَ: «اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 2155- وَفِي لَفْظِ ابْنِ مَاجَهْ قَالَ: «أَعْتِقْ رَقَبَةً» . قَالَ: لا أَجِدُهَا. قَالَ: «صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ» . قَالَ: لا أُطِيقُ. قَالَ: «أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا» . وَذَكَرَهُ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى التَّرْتِيبِ. 2156- وَلِابْنِ مَاجَهْ وَأَبِي دَاوُد فِي رِوَايَةٍ: «وَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ» .

(1/589)


2157- وَفِي لَفْظٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ فِيهِ: فَقَالَ: هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ، فَقَالَ: «مَا أَهْلَكَكَ» ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي. وَذَكَرَهُ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا كَانَتْ مُكْرَهَةً. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (هَلَكْتُ) اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَامِدًا؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ مَجَازٌ عَنْ عِصْيَانِ الْمُؤَدِّي إلَى ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ الْمُتَوَقَّعَ كَالْوَاقِعِ مَجَازًا، فَلَا يَكُونُ فِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى النَّاسِي وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. قَوْلُهُ: (فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ) اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ بِالْإِعْسَارِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهَا لا تُصْرَفُ فِي النَّفْسِ وَالْعِيَالِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُ - صلى الله عليه وسلم - اسْتِقْرَارَهَا فِي ذِمَّتِهِ إلَى حِينِ يَسَارِهِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَجَزَمَ بِهِ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا تَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ. انْتَهَى. قَالَ في الاخيارات: وَمَنْ أَكَلَ فِي شَهْرِ رَمَضَان مُعْتَقِدًا أّنَّهُ لَيْل فَبَانَ نَهَارًا فَلا قَضَاءَ عَلَيْهِ. وَكَذَا مَنْ جَامَعَ جَاهِلاً بِالوَقْتِ أَوْ نَاسِيًا وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدٍ. وَإِذَا أَكْرَهَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ عَلَى الْجِمَاعِ فِي رَمَضَان يَحْمِلُ عَنْهَا مَا يَجِبُ عَلَيْهَا، وَهَلْ تَجِبُ كَفَّارة الْجِمَاع فِي رَمَضَان لإفْسَادِ الصَّوْمِ الصَّحِيح أَوْ لِحُرْمَةِ الزَّمَانِ؟ فِيهِ قَوْلانِ، الصَّوَابُ الثَّاني. انْتَهَى. بَابُ كَرَاهِيَةِ الْوِصَالِ 2158- عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ الْوِصَالِ، فَقَالُوا: إنَّكَ تَفْعَلُهُ، فَقَالَ: «إنِّي لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ إنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» . 2159- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ» . فَقِيلَ إنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: «إنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي، فَاكْلُفُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ» . 2160- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: نَهَاهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ، فَقَالُوا: إنَّكَ تُوَاصِلُ. فَقَالَ: «إنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إنِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ. 2161- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لا

(1/590)


تُوَاصِلُوا فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرَ» . قَالُوا: إنَّك تُوَاصِلُ يَا ... رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إنِّي أَبِيتُ لِي مُطْعِمٌ يُطْعِمُنِي وَسَاقٍ يَسْقِينِي» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» . اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ فَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُؤْتَى بِطَعَامٍ وَشَرَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَرَامَةً لَهُ فِي لَيَالِي صِيَامِهِ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ أَكْلَهُ وَشُرْبَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ كَحَالَةِ النَّائِمِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ مَجَازٌ عَنْ لَازِمِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَهُوَ الْقُوَّةُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يُعْطِينِي قُوَّةَ الْآكِلِ وَالشَّارِبِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. قَوْلُهُ: (رَحْمَةً لَهُمْ) اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْوِصَالَ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إلَى تَحْرِيمِ الْوِصَالِ. وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْوِصَالَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ مَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ قَالَ: (نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْوِصَالِ وَلَيْسَ بِالْعَزِيمَةِ) . وَمِنْهَا إقْدَامُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْوِصَالِ بَعْدَ النَّهْيِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ. وَذَهَبَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إلَى جَوَازِ الْوِصَالِ إلَى السَّحَرِ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ آدَابِ الْإِفْطَارِ وَالسُّحُورِ 2162- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ وَأَدْبَرَ النَّهَارُ وَغَابَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» . 2163- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 2164- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إنَّ أَحَبَّ عِبَادِي إلَيَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْرًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. 2165- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبًا فَتَمَرَاتٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَمْرًا حَسَا حَسَوَاتٍ

(1/591)


مِنْ مَاءٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 2166- وَعَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى مَاءٍ فَإِنَّهُ طَهُورٌ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ. 2167- وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ زُهْرَةَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَفْطَرَ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ، وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 2168- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا أَخَّرُوا السُّحُورَ وَعَجَّلُوا الْفِطْرَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2169- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السُّحُورِ ... بَرَكَةً» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا أَبَا دَاوُد. 2170- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ فَصْلَ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَحَادِيثَ تَعْجِيلِ الإِفْطَارِ وَتَأْخِيرِ السُّحُورِ صِحَاحٌ مُتَوَاتِرَةٌ.

(1/592)


أَبْوَابُ مَا يُبِيحُ الْفِطْرَ وَأَحْكَامِ الْقَضَاءِ بَابُ الْفِطْرِ وَالصَّوْمِ فِي السَّفَرِ 2171- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ، فَقَالَ: «إنَّ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 2172- وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، حَتَّى إنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ. 2173- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «مَا هَذَا» ؟ فَقَالُوا: صَائِمٌ. فَقَالَ: «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ» . 2174- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ. 2175- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلَافٍ وَذَلِكَ عَلَى رَأْسَ ثَمَانِ سِنِينَ وَنِصْفٍ مِنْ مَقْدِمِهِ الْمَدِينَةَ، فَسَارَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى مَكَّةَ يَصُومُ وَيَصُومُونَ حَتَّى إذَا بَلَغَ الْكَدِيدَ، وَهُوَ مَاءٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وَقُدَيْدٍ، أَفْطَرَ وَأَفْطَرُوا، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْآخِرِ فَالْآخِرِ. مُتَّفَقٌ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إلَّا أَنَّ مُسْلِمًا لَهُ مَعْنَى حَدِيثِ

(1/593)


ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ عَشَرَةِ آلَافٍ وَلَا تَارِيخِ الْخُرُوجِ. 2176- وَعَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجِدُ مِنِّي قُوَّةً عَلَى الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ: «هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. وَهُوَ قَوِيُّ الدَّلَالَةِ عَلَى فَضِيلَةِ الْفِطْرِ. 2177- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ قَالَا: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيَصُومُ الصَّائِمُ وَيُفْطِرُ الْمُفْطِرُ فَلَا يَعِيبُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 2178- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى مَكَّةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ، قَالَ: فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ» . فَكَانَتْ رُخْصَةً، فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلًا آخَرَ فَقَالَ: «إنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا» . فَكَانَتْ عَزْمَةٌ فَأَفْطَرْنَا، ثُمَّ لَقَدْ رَأَيْتَنَا نَصُومُ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ ... رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي السَّفَرِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجِدُ مِنِّي قُوَّةً عَلَى الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ) . الْحَدِيثُ. وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةُ اسْتِوَاءِ الصَّوْمِ وَالْإِفْطَارِ فِي السَّفَرِ. قَوْلُهُ: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي شَهْرِ رَمَضَانَ) . الْحَدِيثُ. قَالَ الشَّارِحُ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الصَّوْمُ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصِّيَامَ فِي السَّفَرِ لِمَنْ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ لَيْسَ بِفَضِيلَةٍ. وَقَدْ اختلف السَّلَفُ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يُجْزِئُ عَنْ الْفَرْضِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ لَمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَشُقَّ بِهِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: إنَّ الْفِطْرَ أَفْضَلُ عَمَلًا بِالرُّخْصَةِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَفْضَلُهُمَا أَيْسَرُهُمَا فَمَنْ يَسْهُلْ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ

(1/594)


وَيَشُقَّ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَالصَّوْمُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَنْ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ أَفْطَرَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ 2179- عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ إلَى مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ وَصَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ، وَإِنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلْتُ، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَشَرِبَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ، فَأَفْطَرَ بَعْضُهُمْ وَصَامَ بَعْضُهُمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّ نَاسًا صَامُوا فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 2180- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى نَهْرٍ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَالنَّاسُ صِيَامٌ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ مُشَاةٌ وَنَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ، فَقَالَ: اشْرَبُوا أَيُّهَا النَّاسُ، قَالَ: فَأَبَوْا، قَالَ: إنِّي لَسْتِ مِثْلَكُمْ إنِّي أَيْسَرُكُمْ، إنِّي رَاكِبٌ، فَأَبَوْا، فَثَنَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَخِذَهُ فَنَزَلَ فَشَرِبَ وَشَرِبَ النَّاسُ، وَمَا كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَشْرَبَ.

(1/595)


2181- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الْفَتْحِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى مَرَّ. بِغَدِيرٍ فِي الطَّرِيقِ وَذَلِكَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، قَالَ: فَعَطِشَ النَّاسُ، فَجَعَلُوا يَمُدُّونَ أَعْنَاقَهُمْ وَتَتُوقُ أَنْفُسُهُمْ إلَيْهِ، قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَأَمْسَكَهُ عَلَى يَدِهِ حَتَّى رَآهُ النَّاسُ، ثُمَّ شَرِبَ فَشَرِبَ النَّاسُ. رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُفْطِرَ بَعْدَ أَنْ نَوَى الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ. وَقَالَ أيضًا: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فَضِيلَةَ الْفِطْرِ لَا تَخْتَصُّ بِمَنْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ أَوْ خَشِيَ الْعُجْبَ وَالرِّيَاءَ أَوْ ظَنَّ بِهِ الرَّغْبَةَ عَنْ الرُّخْصَةِ بَلْ يَلْتَحِقُ بِذَلِكَ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ لِيُتَابِعَهُ مَنْ وَقَعَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَيَكُونُ الْفِطْرُ فِي تِلْكَ الْحَالِ فِي حَقِّهِ أَفْضَلَ لِفَضِيلَةِ الْبَيَانِ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: «وَمَا كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَشْرَبَ» . بَابُ مَنْ سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ هَلْ يُفْطِرُ فِيهِ، وَمَتَى يُفْطِرُ؟ 2182- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي رَمَضَانَ إلَى حُنَيْنٌ وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فَصَائِمٌ وَمُفْطِرٌ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ أَوْ مَاءٍ، فَوَضَعَهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ أَوْ رَاحَتِهِ ثُمَّ نَظَرَ النَّاسُ فَقَالَ الْمُفْطِرُونَ لِلصُّوَّامِ: أَفْطِرُوا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 2183- وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: أَتَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ يُرِيدُ سَفَرًا وَقَدْ رُحِّلَتْ لَهُ رَاحِلَتُهُ وَلَبِسَ ثِيَابَ السَّفَرِ فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأَكَلَ، فَقُلْتُ لَهُ: سُنَّةٌ؟ فَقَالَ: سُنَّةٌ ثُمَّ رَكِبَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. 2184- وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ جَبْرٍ قَالَ: رَكِبْتُ مَعَ أَبِي بُصْرَةَ الْغِفَارِيِّ فِي سَفِينَةٍ مِنْ الْفُسْطَاطِ فِي رَمَضَانَ فَدَفَعَ، ثُمَّ قَرَّبَ غَدَاءَهُ ثُمَّ قَالَ: اقْتَرِبْ فَقُلْتُ: أَلَسْتَ بَيْنَ الْبُيُوتِ؟ فَقَالَ أَبُو بُصْرَةَ: أَرَغِبْتَ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.؟ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ: (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي رَمَضَانَ إلَى حُنَيْنٌ) . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ شَيْخُنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ عَبْدِ الْقَادِرِ: صَوَابُهُ خَيْبَرُ أَوْ مَكَّةُ لِأَنَّهُ قَصَدَهُمَا فِي هَذَا الشَّهْرِ، فَأَمَّا حُنَيْنٌ فَكَانَتْ بَعْدَ الْفَتْحِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً. انْتَهَى. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَا هُنَا لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ الْإِفْطَارُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّفَرِ لِقَوْلِهِ فِيهِ: (فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ) . قَوْلُهُ: (مِنْ الْفُسْطَاطِ) هُوَ اسْمُ عَلَمٍ لِمِصْرِ الْعَتِيقَةِ الَّتِي بَنَاهَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ. وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُفْطِرَ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَرَادَ السَّفَرَ مِنْهُ. انْتَهَى. قَالَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: لا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرَ حَتَّى يُخَلَّفَ الْبُيُوتَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ.

(1/596)


بَابُ جَوَازِ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ إذَا دَخَلَ بَلَدًا وَلَمْ يُجْمِعْ إقَامَةً 2185- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - غَزَا غَزْوَةَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ وَصَامَ، حَتَّى إذَا بَلَغَ الْكَدِيدَ الْمَاءُ الَّذِي بَيْنَ قُدَيْدٍ وَعُسْفَانَ، فَلَمْ يَزَلْ مُفْطِرًا حَتَّى انْسَلَخَ الشَّهْرُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَوَجْهُ الْحُجَّةِ مِنْهُ أَنَّ الْفَتْحَ كَانَ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ، هَكَذَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ مُتَّفَق عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا أَقَامَ بِبَلَدٍ مُتَرَدِّدًا جَازَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ مُدَّةَ تِلْكَ الإِقَامَةِ كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقْصِرَ، وَقَدْ عَرَّفْنَاك فِي بَابِ قَصْرِ الصَّلاةِ أَنَّ مَنْ حَطَّ رَحْلَهُ فِي بَلَدٍ وَأَقَامَ بِهِ يُتِمُّ صَلَاتَهُ لأَنَّ مَشَقَّةَ السَّفَرِ قَدْ زَالَتْ عَنْهُ وَلا يُقْصِرُ إلا إلى مِقْدَارِ الْمُدَّةِ الَّتِي قَصَرَ فِيهَا - صلى الله عليه وسلم - مَعَ إقَامَتِهِ. إِلى أَنْ قَالَ: وَهَكَذَا يُقَالُ فِي الْإِفْطَارِ: الْأَصْلُ فِي الْمُقِيمِ أَنْ لَا يُفْطِرَ لِزَوَالِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ عَنْهُ إلَّا لِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ لَهُ، وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مُقِيمًا بِبَلَدٍ وَفِي عَزْمِهِ السَّفَرُ يُفْطِرُ مِثْلُ الْمُدَّةِ الَّتِي أَفْطَرَهَا - صلى الله عليه وسلم - بِمَكَّةَ وَهِيَ عَشْرَةُ أَيَّامٍ أَوْ أَحَدَ عَشَرَ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ. بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمَرِيضِ وَالشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ وَالْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ 2186- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْكَعْبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ، وَعَنْ الْحُبْلَى وَالْمُرْضِعِ الصَّوْمَ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. 2187- وَفِي لَفْظِ بَعْضِهِمْ: «وَعَنْ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ» . 2188- وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} . كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ حَتَّى أُنْزِلَتْ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا أَحْمَدَ.

(1/597)


2189- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ بِنَحْوِ حَدِيثِ سَلَمَةَ وَفِيهِ: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . فَأَثْبَتَ اللَّهُ صِيَامَهُ عَلَى الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ، وَرَخَّصَ فِيهِ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَثَبَتَ الْإِطْعَامُ لِلْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ. مُخْتَصَرٌ لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد. 2190- وَعَنْ عَطَاءٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ هِيَ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ لا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 2191- وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: أُثْبِتَتْ لِلْحُبْلَى وَالْمُرْضِعِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ لَا صَوْمَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ يُصَلِّي قَصْرًا، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْحُبْلَى وَالْمُرْضِعِ الْإِفْطَارُ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ الْعِتْرَةُ وَالْفُقَهَاءُ إذَا خَافَتْ الْمُرْضِعَةُ عَلَى الرَّضِيعِ، وَالْحَامِلُ عَلَى الْجَنِينِ. قَوْلُهُ: سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} . رُوِيَ عَنْه أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ} : أَيْ يُكَلَّفُونَهُ وَلَا يُطِيقُونَهُ. قَالَ الشَّارِحُ: وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِآخِرِ الْكَلَامِ. انْتَهَى. قَالَ فِي المقنع: وَمَنْ عَجَزَ عَنْ الصَّوْمِ لِكِبَرٍ أو مَرضٍ لا يُرْجى بُرْؤُه أَفْطَرَ وَأَطْعَمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَالْحامل وَالْمُرْضِعُ إذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفسِهِمَا أَفْطَرَتَا وَقَضَتَا، وَإنْ خَافَتَا عَلَى وَلَدِيهِمَا أَفْطَرَتَا وقَضتَا وَأَطْعَمَتَا. بَابُ قَضَاءِ رَمَضَانَ مُتَتَابِعًا وَمُتَفَرِّقًا وَتَأْخِيرِهِ إلَى شَعْبَانَ 2192- عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قَضَاءُ رَمَضَانَ إنْ شَاءَ فَرَّقَ، وَإِنْ شَاءَ تَابَعَ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يُفَرَّقَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرٍ} .

(1/598)


2193- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: نَزَلَتْ {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . مُتَتَابِعَاتٍ، فَسَقَطَتْ مُتَتَابِعَاتٍ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: إسْنَادٌ صَحِيحٌ. 2194- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إلَّا فِي شَعْبَانَ وَذَلِكَ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 2195- وَيُرْوَى بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي رَجُلٍ مَرِضَ فِي رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ، ثُمَّ صَحَّ وَلَمْ يَصُمْ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ، فَقَالَ: «يَصُومُ الَّذِي أَدْرَكَهُ، ثُمَّ يَصُومُ الشَّهْرَ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ، وَيُطْعِمُ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا» . 2196- رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ قَوْلِهِ، وَقَالَ: إسْنَادٌ صَحِيحٌ مَوْقُوفٌ. 2197- وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَلْيُطْعَمْ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ» . وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إذَا مَرِضَ الرَّجُلُ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَصُمْ أُطْعِمَ عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَإِنْ نَذَرَ قَضَى عَنْهُ وَلِيُّهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: جَوَازِ التَّفْرِيقِ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. قَالَ: وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ قَضَاءِ رَمَضَانَ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ. قَوْلُهُ: (عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي رَجُلٍ مَرِضَ فِي رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ، ثُمَّ صَحَّ) . قَالَ الشَّارِحُ: اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: بِأَنَّهَا تَلْزَمُ الْفِدْيَةُ مَنْ لَمْ يَصُمْ مَا فَاتَ عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ حَتَّى حَالَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ آخَرُ وَهُمْ الْجُمْهُورُ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: إنْ تَرَكَ الْأَدَاءَ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَجَبَتْ وَإِلَّا فَلَا. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَلْيُطْعِمْ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا» . قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَإِنْ تَبَرَّعَ إِنْسَانٌ بِالصَّوْمِ عَمَّنْ يُطِيقُهُ لِكِبَرِهِ

(1/599)


وَنَحْوه أَوْ عَنْ مَيِّتٍ وَهُمَا مُعْسِرَانِ تَوَجَّهَ جَوَازُهُ لأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْمُمَاثَلَةِ مِنَ الْمَالِ. وَحَكَى الْقَاضِي فِي صَوْمِ النَّذْرِ فِي حَيَاةِ النَّاذِرِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ نَذْرٍ أَجْزَأَ عَنْهُ بِلا كَفَّارَة. انْتَهَى. بَابُ صَوْمُ النَّذْرِ عَنْ الْمَيِّتِ 2198- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ فَأَصُومُ عَنْهَا؟ فَقَالَ: «أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَكَانَ يُؤَدَّى ذَلِكَ عَنْهَا» ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: «فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ» . أَخْرَجَاهُ. 2199- وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ امْرَأَةً رَكِبَتْ الْبَحْرَ فَنَذَرَتْ إنْ اللَّهُ نَجَّاهَا أَنْ تَصُومَ شَهْرًا، فَأَنْجَاهَا اللَّهُ فَلَمْ تَصُمْ حَتَّى مَاتَتْ، فَجَاءَتْ قَرَابَةٌ لَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «صُومِي عَنْهَا» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 2200- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2201- وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ وَإِنَّهَا مَاتَتْ فَقَالَ: «وَجَبَ أَجْرُكِ وَرَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ» . قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: «صُومِي عَنْهَا» . قَالَتْ: إنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: «حُجِّي عَنْهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 2202- وَلِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ: صَوْمُ شَهْرَيْنِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ» . هَذِهِ الصِّيغَةُ عَامَّةٌ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ، وَقَوْلُهُ: «صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» . خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ تَقْدِيرُهُ فَلْيَصُمْ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَصُومُ الْوَلِيُّ عَنْ الْمَيِّتِ إذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ، أَيُّ صَوْمٍ كَانَ. وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ مُحَدِّثِي الشَّافِعِيَّةِ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَنَقَلَ

(1/600)


الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ عَلَّقَ الْقَوْلَ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ صَحَّ، وَبِهِ قَالَ الصَّادِقُ وَالنَّاصِرُ وَالْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْخِلَافِيَّاتِ: هَذِهِ السُّنَّةُ ثَابِتَةٌ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي صِحَّتِهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ صَوْمَ الْوَلِيِّ عَنْ الْمَيِّتِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ إلَى أَنَّهُ لَا يُصَامُ عَنْ الْمَيِّتِ مُطْلَقًا، وَبِهِ قَالَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْهَادِي وَالْقَاسِمُ. وَقَالَ اللَّيْثُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ: إنَّهُ لَا يُصَامُ عَنْهُ إلَّا النَّذْرُ.

(1/601)


أَبْوَابُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ بَابُ صَوْمُ سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ 2203- عَنْ أَيُّوبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ فَذَاكَ صِيَامُ الدَّهْرِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالنَّسَائِيُّ. 2204- وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ. 2205- وَعَنْ ثَوْبَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَسِتَّةَ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ كَانَ تَمَامَ السَّنَةِ، مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ سِتَّةَ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد وَغَيْرُهُمْ. بَابُ صَوْمِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَتَأْكِيدِ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ 2206- عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ: أَرْبَعٌ لَمْ يَكُنْ يَدَعُهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: صِيَامُ عَاشُورَاءَ، وَالْعَشْرِ، وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَالرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 2207- وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ

(1/602)


يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ مَاضِيَةً وَمُسْتَقْبَلَةً، وَصَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سَنَةً مَاضِيَةً» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ. 2208- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 2209- وَعَنْ أُمِّ الْفَضْلِ: أَنَّهُمْ شَكُّوا فِي صَوْمِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ عَرَفَةَ، فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ بِلَبَنٍ فَشَرِبَ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ بِعَرَفَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2210- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَعَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَصُومُ يَوْمَ عَرَفَةَ. وَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُد الَّتِي قَدَّمْنَا بِلَفْظِ «تِسْعِ ذِي الْحِجَّةِ» . وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ مُطْلَقًا وَظَاهِرُ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ يُكْرَهُ صَوْمُهُ مُطْلَقًا. وَظَاهِرُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَوْمُهُ بِعَرَفَاتٍ فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ مُسْتَحَبٌّ لِكُلِّ أَحَدٍ، مَكْرُوهٌ لِمَنْ كَانَ بِعَرَفَاتٍ حَاجًّا. بَابُ صَوْمِ الْمُحَرَّمِ وَتَأْكِيدِ عَاشُورَاءَ 2211- قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ أَيُّ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ... «شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ» . 2212- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: مَا عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَامَ يَوْمًا يَطْلُبُ فَضْلَهُ عَلَى الْأَيَّامِ إلَّا هَذَا الْيَوْمَ، وَلَا شَهْرًا إلَّا هَذَا الشَّهْرَ، يَعْنِي رَمَضَانَ. 2213- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُهُ؛ فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ؛ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ قَالَ: «مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ» .

(1/603)


2214- وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: أَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ، فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ. 2215- وَعَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ دَخَلَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَطْعَمُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ إنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ يُصَامُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ رَمَضَانُ، فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ تُرِكَ فَإِنْ كُنْتَ مُفْطِرًا فَاطْعَمْ. 2216- وَعَنْ ابْنِ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَامَهُ وَالْمُسْلِمُونَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ؛ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ اللَّهِ فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَصُومُهُ إلَّا أَنْ يُوَافِقَ صِيَامَهُ» . 2217- وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَتَتَّخِذُهُ عِيدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «صُومُوهُ أَنْتُمْ» . 2218- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: «مَا هَذَا» ؟ قَالُوا: يَوْمٌ صَالِحٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَبَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى، فَقَالَ: «أَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ» . 2219- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إنَّ هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ صِيَامُهُ وَأَنَا صَائِمٌ فَمَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ» . مُتَّفَقٌ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا، وَأَكْثَرُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَوْمَهُ وَجَبَ ثُمَّ نُسِخَ، وَيُقَالُ: لَمْ يَجِبْ بِحَالٍ بِدَلِيلِ خَبَرِ مُعَاوِيَةَ، وَإِنَّمَا نُسِخَ تَأْكِيدُ اسْتِحْبَابِهِ. 2220- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا صَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ: «فإذَا كَانَ عَامُ الْمُقْبِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ» . قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ. - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد.

(1/604)


2221- وَفِي لَفْظٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَئِنْ بَقِيتُ إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» . يَعْنِي يَوْمَ عَاشُورَاءَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 2222- وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَخَالِفُوا الْيَهُودَ، صُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا وَبَعْدَهُ يَوْمًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَوْلُهُ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَيُّ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ صِيَامِ التَّطَوُّعِ صَوْمُ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَيُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ عَاشُورَاءَ كَانَ وَاجِبًا، ثُمَّ تَرَكَ وُجُوبُهُ. وَتَأَكُّدُ اسْتِحْبَابِهِ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «صُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا وَبَعْدَهُ يَوْمًا» . قَالَ الشَّارِحُ: الْأَحْوَطَ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ التَّاسِعِ وَالْعَاشِرِ وَالْحَادِيَ عَشَرَ، فَيَكُونُ صَوْمُ عَاشُورَاءَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: الْأُولَى صَوْمُ الْعَاشِرِ وَحْدَهُ. وَالثَّانِيَةُ صَوْمُ التَّاسِعِ مَعَهُ. وَالثَّالِثَةُ صَوْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ مَعَهُمَا. بَابُ مَا جَاءَ فِي صَوْمِ شَعْبَانَ وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ 2223- عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنْ السَّنَةِ شَهْرًا تَامًّا إلَّا شَعْبَانَ يَصِلُ بِهِ رَمَضَانَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. 2224- وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ: كَانَ يَصُومُ شَهْرَيْ شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ. 2225- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ. 2226- وَفِي لَفْظٍ: مَا كَانَ يَصُومُ فِي شَهْرٍ، مَا كَانَ يَصُومُ فِي شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُهُ إلَّا قَلِيلًا، بَلْ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ. 2227- وَفِي لَفْظٍ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إلَّا شَهْرَ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ. مُتَّفَقٌ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ. 2228- وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ بَاهِلَةَ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: يَا

(1/605)


رَسُولَ اللَّهِ أَنَا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتُكَ عَامَ الْأَوَّلِ، فَقَالَ: «فَمَا لِي أَرَى جِسْمَكَ نَاحِلًا» ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَكَلْتُ طَعَامًا بِالنَّهَارِ، مَا أَكَلْتُهُ إلَّا بِاللَّيْلِ، قَالَ: مَنْ أَمَرَكَ أَنْ تُعَذِّبَ نَفْسَكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَقْوَى، قَالَ: «صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ وَيَوْمًا بَعْدَهُ» . قُلْت: إنِّي أَقْوَى، قَالَ: «صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ وَيَوْمَيْنِ بَعْدَهُ» . قُلْت: إنِّي أَقْوَى. قَالَ: «صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَهُ، وَصُمْ أَشْهُرَ الْحُرُمِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَهَذَا لَفْظُهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (شَهْرًا تَامًّا إلَّا شَعْبَانَ) . وَكَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ: (فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ) . وَقَوْلُهَا: (بَلْ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ) ظَاهِرُهُ يُخَالِفُ قَوْلَ عَائِشَةَ (كَانَ يَصُومُهُ إلَّا قَلِيلًا) . وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُلِّ وَالتَّمَامِ الْأَكْثَرُ. قَوْلُهُ: (وَصُمْ أَشْهُرَ الْحُرُمِ) . هِيَ شَهْرُ الْقِعْدَةِ وَالْحِجَّةِ وَمُحَرَّمٍ وَرَجَبٍ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّة صَوْمِهَا. وَلَكِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُسْتَكْمَلَ صَوْمُ شَهْرٍ مِنْهَا وَلَا صَوْمُ جَمِيعِهَا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا عِنْدَ أَبِي دَاوُد مِنْ الْحَدِيثِ بِلَفْظِ: «صُمْ مِنْ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ، صُمْ مِنْ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ، صُمْ مِنْ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ» . بَابُ الْحَثِّ عَلَى صَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ 2229- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَحَرَّى صِيَامَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا أَبَا دَاوُد. 2230- لَكِنَّهُ لَهُ مِنْ رِوَايَةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ. 2231- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ كُلَّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَلِابْنِ مَاجَهْ مَعْنَاهُ. 2232- وَلِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ. 2233- وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَقَالَ: «ذَلِكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَأُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد.

(1/606)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ، يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ لِأَنَّهُمَا يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِمَا الْأَعْمَالُ. بَابُ كَرَاهَةِ إفْرَادِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَيَوْمِ السَّبْتِ بِالصَّوْمِ 2234- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا: أَنَهَى ... رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2235- وَلِلْبُخَارِيِّ فِي رِوَايَةٍ: أَنْ يُفْرَدَ بِصَوْمٍ. 2236- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَصُومُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلَّا وَقَبْلَهُ يَوْمٌ، أَوْ بَعْدَهُ يَوْمٌ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا النَّسَائِيّ. 2237- وَلِمُسْلِمٍ: «وَلا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالي وَلا تَخْتَصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الأَيَّامِ إلا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ» . 2238- وَلِأَحْمَدَ: «يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمُ عِيدٍ فَلَا تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكُمْ يَوْمَ صِيَامِكُمْ إلَّا أَنْ تَصُومُوا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ» . 2239- وَعَنْ جَوَيْرِيَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَهِيَ صَائِمَةٌ فَقَالَ: «أَصُمْتِ أَمْسِ» ؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ: «تَصُومِينَ غَدًا» ؟ قَالَتْ لَا، قَالَ: «فَأَفْطِرِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّطَوُّعَ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ. 2240- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا تَصُومُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ» . 2241- وَعَنْ جُنَادَةَ الأَزْدِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ فِي سَبْعَةٍ مِنْ الأَزْدِ إنَاثًا مِنْهُمْ وَهُوَ يَتَغَدَّى، فَقَالَ: «هَلُمُّوا إلَى ... الْغَدَاءِ» . فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّا صِيَامٌ، فَقَالَ: «أَصُمْتُمْ أَمْسِ» ؟ قُلْنَا: لا، قَالَ: «أَفَتَصُومُونَ غَدًا» ؟ قُلْنَا لَا، قَالَ: «فَأَفْطِرُوا» . فَأَكَلْنَا مَعَهُ؛ فَلَمَّا خَرَجَ وَجَلَسَ

(1/607)


عَلَى الْمِنْبَرِ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَشَرِبَ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ يُرِيهِمْ أَنَّهُ لَا يَصُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. 2242- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ عَنْ أُخْتِهِ وَاسْمُهَا الصَّمَّاءُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إلَّا فِيمَا اُفْتُرِضَ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إلَّا عُودَ عِنَبٍ أَوْ لِحَاءَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ. 2243- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَلَّمَا كَانَ يُفْطِرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا أَبَا دَاوُد. وَيُحْمَلُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ مَعَ غَيْرِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَاسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى مَنْعِ إفْرَادِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصِّيَامِ. قَوْلُهُ: «لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إلَّا فِيمَا اُفْتُرِضَ عَلَيْكُمْ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ السَّكَنِ قَالَ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ: قَالَ مَالِكٌ: هَذَا الْحَدِيثُ كَذِبٌ وَقَدْ أُعِلَّ بِالِاضْطِرَابِ كَمَا قَالَ النَّسَائِيّ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَقَدْ ادَّعَى أَبُو دَاوُد أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَنْسُوخٌ. قَالَ فِي التَّلْخِيصِ وَلَا يَتَبَيَّنُ وَجْهُ النَّسْخِ فِيهِ. ثُمَّ قَالَ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مِنْ كَوْنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ثُمَّ فِي آخِرِ الْأَمْرِ قَالَ: خَالِفُوهُمْ وَالنَّهْيُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ السَّبْتِ يُوَافِقُ الْحَالَةَ الْأُولَى، وَصِيَامُهُ إيَّاهُ يُوَافِقُ الْحَالَةَ الثَّانِيَةَ، وَهَذِهِ صُورَةُ النَّسْخِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْ كُرَيْبٌ: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثُوهُ إلَى أُمِّ سَلَمَةَ يَسْأَلُهَا عَنْ الْأَيَّامِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَكْثَرَ لَهَا صِيَامًا فَقَالَتْ: يَوْمَ السَّبْتِ وَالْأَحَدِ. فَرَجَعْتُ إلَيْهِمْ فَكَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ فَقَامُوا بِأَجْمَعِهِمْ إلَيْهَا فَسَأَلُوهَا فَقَالَتْ: صَدَقَ. وَكَانَ يَقُولُ: «إنَّهُمَا يَوْمَا عِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَهُمْ» . - وَصَحَّحَ الْحَاكِمُ إسْنَادَهُ وَصَحَّحَهُ أَيْضًا ابْنُ خُزَيْمَةَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ مِنْ الشَّهْرِ السَّبْتَ

(1/608)


وَالْأَحَدَ وَالِاثْنَيْنِ وَمِنْ الشَّهْرِ الْآخَرِ الثُّلَاثَاءَ وَالْأَرْبِعَاءَ وَالْخَمِيسَ. وَسَيَأْتِي. وَقَدْ جَمَعَ صَاحِبُ الْبَدْرِ الْمُنِيرِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَقَالَ: النَّهْيُ مُتَوَجِّهٌ إلَى الْإِفْرَادِ وَالصَّوْمِ بِاعْتِبَارِ انْضِمَامِ مَا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ إلَيْهِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ إذْنِهِ - صلى الله عليه وسلم - لِمَنْ صَامَ الْجُمُعَةَ أَنْ يَصُومَ السَّبْتَ بَعْدَهَا وَالْجَمْعُ مَهْمَا أَمْكَنَ أَوْلَى مِنْ النَّسْخِ. وَالله أعلم. بَابُ صَوْمِ أَيَّامِ الْبِيضِ وَصَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَإِنْ كَانَتْ سِوَاهَا 2244- عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَبَا ذَرٍّ إذَا صُمْتَ مِنْ الشَّهْرِ ثَلَاثَةً فَصُمْ ثَلَاثَ عَشَرَةَ وَأَرْبَعَ عَشَرَةَ وَخَمْسَ عَشَرَةَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ. 2245- وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلَاثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 2246- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ مِنْ الشَّهْرِ السَّبْتَ وَالْأَحَدَ وَالِاثْنَيْنِ، وَمِنْ الشَّهْرِ الْآخَرِ الثُّلَاثَاءَ وَالْأَرْبِعَاءَ وَالْخَمِيسَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. 2247 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ صَامَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} . الْيَوْمُ بِعَشَرَةٍ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَصُمْ ثَلَاثَ عَشَرَةَ) إلَى آخره. فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ أَيَّامِ الْبِيضِ وَهِيَ الثَّلَاثَةُ الْمُعَيَّنَةُ فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ مُسْتَحَبٌّ، فَإِنْ اتَّفَقَتْ أَيَّامُ الْبِيضِ كَانَ أَحَبَّ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَفِي كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أنَّ اسْتِحْبَابَ صِيَامِ أَيَّامِ الْبِيضِ غَيْرُ اسْتِحْبَابِ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ. قَالَ الشَّارِحُ: فَالْحَاصِلُ

(1/609)


مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ اسْتِحْبَابُ صِيَامِ تِسْعَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ: ثَلَاثَةٌ مُطْلَقَةٌ، وَأَيَّامُ الْبِيضِ، وَالسَّبْتُ وَالْأَحَدُ وَالِاثْنَيْنِ فِي شَهْرٍ، وَالثُّلَاثَاءُ وَالْأَرْبِعَاءُ وَالْخَمِيسُ فِي شَهْرٍ. بَابُ صِيَامِ يَوْمٍ وَفِطْرُ يَوْمٍ وَكَرَاهَةُ صَوْمِ الدَّهْرِ 2248- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «صُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» . قُلْتُ: إنِّي أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَزَلْ يَرْفَعُنِي حَتَّى قَالَ: «صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الصِّيَامِ، وَهُوَ صَوْمُ أَخِي دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ» . 2249- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 2250- وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِمَنْ صَامَ الدَّهْرَ؟ قَالَ: «لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ» . أَوْ «لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ. 2251- وَعَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ هَكَذَا» وَقَبَضَ كَفَّهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَيُحْمَلُ هَذَا عَلَى مَنْ صَامَ الْأَيَّامَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ) . اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى كَرَاهِيَةِ صَوْمِ الدَّهْرِ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: يَحْرُمُ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِهِ. وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو وَحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ كَانَ يُدْخِلُ عَلَى نَفْسِهِ مَشَقَّةً أَوْ يُفَوِّتُ حَقًّا. وقال ابن ... التين: اُسْتُدِلَّ عَلَى الْكَرَاهَةِ مِنْ وُجُوهٍ: نَهْيُهُ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الزِّيَادَةِ، وَأَمْرُهُ بِأَنْ يَصُومَ وَيُفْطِرُ. وَقَوْلُهُ: «لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ» . وَدُعَاؤهُ عَلَى مَنْ صَامَ الأَبَد. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيُّ: قَوْلُهُ: (لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ) . إَنْ كَانَ مَعْنَاهُ الدُّعَاءُ فَيَا وَيْحَ مَنْ أَصَابَهُ دُعَاءَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الْخَبَرُ فَيَا وَيْحَ مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ لَمْ يَصُمْ.

(1/610)


بَابُ تَطَوُّعِ الْمُسَافِرِ وَالْغَازِي بِالصَّوْمِ 2252- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يُفْطِرُ أَيَّامَ الْبِيضِ فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 2253- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا أَبَا دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فِي إسْنَادِهِ يَعْقُوبُ ابْنُ ... عَبْدِ اللَّهِ الْقُمِّيُّ وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي الْمُغِيرَةِ الْقُمِّيُّ وَفِيهِمَا مَقَالٌ. وَفِيهِ دَلِيلُ اسْتِحْبَابِ صِيَامِ أَيَّامِ الْبِيضِ فِي السَّفَرِ، وَيَلْحَقُ بِهَا صَوْمُ سَائِرِ التَّطَوُّعَاتِ الْمُرَغَّبِ فِيهَا. وَالْحَدِيثُ الثَّانِي يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ الْمُجَاهِدِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ وَلَا يُفَوِّتُ بِهِ حَقًّا وَلَا يَخْتَلُّ قِتَالُهُ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ مُهِمَّاتِ غَزْوِهِ. بَابٌ فِي أَنَّ صَوْمَ التَّطَوُّعِ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ 2254- عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: آخَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ نَمْ؛ فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمْ الْآنَ فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «صَدَقَ سَلْمَانُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 2255- وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهَا فَدَعَا بِشَرَابٍ فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَهَا فَشَرِبَتْ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَا إنِّي كُنْتُ صَائِمَةً؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ، إنْ شَاءَ صَامَ، وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.

(1/611)


2256- وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَرِبَ شَرَابًا، فَنَاوَلَهَا لِتَشْرَبَ، فَقَالَتْ: إنِّي صَائِمَةٌ وَلَكِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَرُدَّ سُؤْرَكَ، فَقَالَ: «يَعْنِي إنْ كَانَ قَضَاءً مِنْ رَمَضَانَ فَاقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا، فَإِنْ شِئْتَ فَاقْضِي، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَقْضِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد بِمَعْنَاهُ. 2257- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: أُهْدِيَ لِحَفْصَةَ طَعَامٌ وَكُنَّا صَائِمَتَيْنِ فَأَفْطَرْنَا ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا أُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ وَاشْتَهَيْنَاهَا فَأَفْطَرْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا عَلَيْكُمَا صُومَا مَكَانَهُ يَوْمًا آخَرَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَهَذَا أَمْرُ نَدْبٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: «لَا عَلَيْكُمَا» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (صَدَقَ سَلْمَانُ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّة النُّصْحِ لِلْمُسْلِمِ وَتَنْبِيهُ مَنْ غَفَلَ، وَفَضْلُ قِيَامِ آخِرِ اللَّيْلِ، وَثُبُوتُ حَقِّ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ فِي حُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَجَوَازُ عَنْ الْمُسْتَحَبَّاتِ إذَا خُشِيَ أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى السَّآمَةِ وَالْمَلَلِ وَتَفْوِيتِ الْحُقُوقِ الْمَطْلُوبَةِ، وَكَرَاهَةِ الْجَهْلِ عَلَى النَّفْسِ فِي الْعِبَادَةِ، وَجَوَازِ الْفِطْرِ مِنْ صَوْمِ التَّطَوُّعِ، وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَمَنْ صَامَ تَطَوُّعًا أَنْ يُفْطِرَ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ فِي دَعْوَةٍ إلَى طَعَامِ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُتَطَوِّعِ الْقَضَاءُ لِذَلِكَ الْيَوْمِ. وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ الْجُمْهُورُ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَيْسَ فِي تَحْرِيمِ الْأَكْلِ فِي صَوْمِ النَّفْلِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ إلَّا الْأَدِلَّةَ الْعَامَّةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} . إلَّا أَنَّ الْخَاصَّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ كَحَدِيثِ سَلْمَانَ. بَابُ مَا جَاءَ فِي اسْتِقْبَالِ رَمَضَانَ بِالْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ 2258- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.

(1/612)


2259- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ قَبْلَ شَهْرِ رَمَضَانَ: الصِّيَامُ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا وَنَحْنُ مُتَقَدِّمُونَ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَتَقَدَّمْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَتَأَخَّرْ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَيُحْمَلُ هَذَا عَلَى التَّقَدُّمِ بِأَكْثَرَ مِنْ يَوْمَيْنِ. 2260- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِرَجُلٍ: «هَلْ صُمْتَ مِنْ سَرَرِ هَذَا الشَّهْرِ شَيْئًا» ؟ قَالَ: لَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صلى الله عليه وسلم - «فَإِذَا أَفْطَرْتَ رَمَضَانَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ مَكَانَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2261- وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمْ «مِنْ سَرَرِ شَعْبَانَ» . وَيُحْمَلُ هَذَا عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ كَانَتْ لَهُ عَادَةٌ بِصِيَامِ سَرَرِ الشَّهْرِ أَوْ قَدْ نَذَرَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدِيثُ مُعَاوِيَة فِي إِسْنَادِهِ الْقَاسِمُ بن عَبْدِ الرَّحْمِنِ مَوْلِى بِِنِي أُمَيَّة، وَفِيهِ مَقَالٌ، وَالْهَيْثَمُ بن حُمَيْد وَفِيهِ أَيْضًا مَقَالٌ. قَوْلُهُ: (لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ) إلَى آخِرِهِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَى الْحَدِيثِ: لَا تَسْتَقْبِلُوا رَمَضَانَ بِصِيَامٍ عَلَى نِيَّةِ الِاحْتِيَاطِ لِرَمَضَانَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَمَّا أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثُ الْعَمَلَ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ كَرِهُوا أَنْ يَتَعَجَّلَ الرَّجُلُ بِصِيَامٍ قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ بِمَعْنَى رَمَضَانَ. قَالَ الشَّارِحُ: وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ فِيمَنْ يَقْصِدُ ذَلِكَ. وَقَدْ قَطَعَ كَثِيرٌ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْمَنْعِ مِنْ أَوَّلِ السَّادِسِ عَشَرَ مِنْ شَعْبَانَ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «إذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُوا» . أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: يَجُوزُ الصَّوْمُ تَطَوُّعًا بَعْدَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَضَعَّفُوا الْحَدِيثَ الْوَارِدَ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: إنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُتَقَدِّمِ بِأَكْثَرَ مِنْ يَوْمَيْنِ فَغَيْرُ ظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُتَقَدِّمَ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ صَوْمِ النِّصْفِ الْآخَرِ مِنْ شَعْبَانَ. وَقَدْ جَمَعَ الطَّحَاوِيُّ بَيْنَ حَدِيثِ النَّهْيِ وَحَدِيثِ الْعَلَاءِ بِأَنَّ حَدِيثَ الْعَلَاءِ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يُضْعِفُهُ الصَّوْمُ، وَحَدِيثُ الْبَابِ مَخْصُوصٌ بِمَنْ يَحْتَاطَ

(1/613)


بِزَعْمِهِ لِرَمَضَانَ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ. بَابُ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ 2262- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ: يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2263- وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ «لَا صَوْمَ فِي يَوْمَيْنِ» . 2264- وَلِمُسْلِمٍ «لَا يَصِحُّ الصِّيَامُ فِي يَوْمَيْنِ» . 2265- وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَهُ وَأَوْسَ بْنَ الْحَدَثَانِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَنَادَيَا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا مُؤْمِنٌ، وَأَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 2266- وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أُنَادِيَ أَيَّامَ مِنًى إنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَلَا صَوْمَ فِيهَا، يَعْنِي أَيَّامَ التَّشْرِيقِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ 2267- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ صَوْمِ خَمْسَةِ أَيَّامٍ فِي السَّنَةِ: يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ، وَثَلَاثَةِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. 2268- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَابْنِ عُمَرَ قَالَا: لَمْ يُرَخِّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 2269- وَلَهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: الصِّيَامُ لِمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ إلَى يَوْمِ عَرَفَةَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا وَلَمْ يَصُمْ صَامَ أَيَّامَ مِنًى. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى تَحْرِيمِ صَوْم أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَحَدِيثُ أَنَسٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ. انْتَهَى. والله أعلم.

(1/614)


 كِتَابُ الِاعْتِكَافِ

2270- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. 2271- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 2272- وَلِمُسْلِمٍ: قَالَ نَافِعٌ: وَقَدْ أَرَانِي عَبْدُ اللَّهِ الْمَكَانَ الَّذِي كَانَ يَعْتَكِفُ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. 2273- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ عَامًا، فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 2274- وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ رِوَايَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. 2275- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ، وَأَنَّهُ أَمَرَ بِخِبَاءٍ فَضُرِبَ لَمَّا أَرَادَ الِاعْتِكَافَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَمَرَتْ زَيْنَبُ بِخِبَائِهَا فَضُرِبَ وَأَمَرَتْ غَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِخِبَائِهَا فَضُرِبَ؛ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْفَجْرَ نَظَرَ، فَإِذَا الْأَخْبِيَةُ، فَقَالَ: «آلْبِرَّ يُرِدْنَ» ؟ فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوِّضَ وَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَل مِنْ شَوَّالٍ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ.

(1/615)


2276- لَكِنْ لَهُ مِنْهُ: كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ. 2277- وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا اعْتَكَفَ طُرِحَ لَهُ فِرَاشُهُ أَوْ يُوضَعُ لَهُ سَرِيرُهُ وَرَاءَ أُسْطُوَانَةِ التَّوْبَةِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. 2278- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهِيَ حَائِضٌ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ وَفِي حُجْرَتِهَا يُنَاوِلُهَا رَأْسَهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ إذَا كَانَ مُعْتَكِفًا. 2279- وَعَنْهَا أَيْضًا قَالَتْ: إنْ كُنْتُ لَأَدْخُلُ الْبَيْتَ لِلْحَاجَةِ وَالْمَرِيضُ فِيهِ فَمَا أَسْأَلُ عَنْهُ إلَّا وَأَنَا مَارَّةٌ. 2280- وَعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُعْتَكِفًا، فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا، فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ لِأَنْقَلِبَ، فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي (1) ، وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ. 2281- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَمُرُّ بِالْمَرِيضِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَيَمُرُّ كَمَا هُوَ وَلَا يُعَرِّجُ يَسْأَلُ عَنْهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 2282- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ إلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ، وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 2283- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ قَالَ: «فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَزَادَ الْبُخَارِيُّ «فَاعْتَكَفَ لَيْلَةً» . 2284- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيْسَ _________ (1) لأنقلب: لأرجع إلى بيتي. ليقبلني: ليردني إلى البيت.

(1/616)


عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامٌ إلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: رَفَعَهُ أَبُو بَكْرٍ السُّوسِيُّ وَغَيْرُهُ لَا يَرْفَعُهُ. 2285- وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ» . أَوْ قَالَ: «فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ. 2286- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اعْتَكَفَ مَعَهُ بَعْضُ نِسَائِهِ وَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ تَرَى الدَّمَ، فَرُبَّمَا وَضَعَتْ الطَّشْتَ تَحْتَهَا مِنْ الدَّمِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 2287- وَفِي رِوَايَةٍ: اعْتَكَفَ مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ وَكَانَتْ تَرَى الدَّمَ وَالصُّفْرَةَ وَالطَّشْتُ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّة الِاعْتِكَافِ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ. قَوْلُهُ: (الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ مُدَاوَمَةِ الِاعْتِكَافِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لِتَخْصِيصِهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَلِكَ الْوَقْتَ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَى اعْتِكَافِهِ. قَوْلُهُ: (اعْتَكَفَ عِشْرِينَ) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ اعْتَادَ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ ثُمَّ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَعْتَكِفَهَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ قَضَاؤُهَا. قَوْلُهُ: (صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ) . اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الِاعْتِكَافِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ. قَوْلُهُ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ وَأَنَّهُ أَمَرَ بِخِبَاءٍ فَضُرِبَ) . الْحَدِيثُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ أَنَّ النَّذْرَ لَا يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَأَنَّ السُّنَنَ تُقْضَى، وَأَنَّ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَلْزَمَ مِنْ الْمَسْجِدِ مَكَانًا بِعَيْنِهِ، وَأَنَّ مَنْ الْتَزَمَ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ مُعَيَّنَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ أَوَّلَ لَيْلَةٍ لَهَا. قَوْلُهَا: إِنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهِيَ حَائِضٌ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ

(1/617)


فِي حُجْرَتِهَا يُنَاوِلُهَا رَأْسَهُ) إلخ. قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ التَّنْظِيفُ وَالطِّيبُ وَالْغُسْلُ وَالْحَلْقُ وَالتَّزْيِينُ إلْحَاقًا بِالتَّرْجِيلِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ فِيهِ إلَّا مَا يُكْرَهُ فِي الْمَسْجِدِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ بَعْضَ بَدَنِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَادِحًا فِي صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ. قَوْلُهُ: (إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ) . فَسَّرَهَا الزُّهْرِيُّ بِالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، وَقَدْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى اسْتِثْنَائِهِمَا، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِهِمَا مِنْ الْحَاجَاتِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَيَلْحَقُ بِالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ: الْقَيْءُ وَالْفَصْدُ وَالْحِجَامَةُ لِمَنْ احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ. قَوْلُهَا: (السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا) إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ: الْحَدِيثَانِ اُسْتُدِلَّ بِهِمَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مُعْتَكَفِهِ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَلَا لِمَا يُمَاثِلُهَا مِنْ الْقُرَبِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ: إنْ شَرَطَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ اعْتِكَافِهِ لَمْ يَبْطُلْ اعْتِكَافُهُ بِفِعْلِهِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. قَوْلُهُ: (وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ إلَّا بِصَوْمٍ، وَأَنَّهُ شَرْطٌ. قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ. قَالَ أَبُو دَاودُ: غَيْرُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن إِسْحَاقٍ لا يَقُولُ فِيهِ: قَالَتْ: السنة) . انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: (وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ شَرْطٌ لِلِاعْتِكَافِ. وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا. وَقَوْلُهُ: (أَنْ أَعْتَكِفُ لَيْلَة) . اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِكَافِ بِغَيْرِ صَوْمٍ. وَقَوْلُهُ: (لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ» . أَوْ قَالَ: «فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ» . قَالَ الشَّارِحُ: الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَلَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْمَرْفُوعَ مِنْهُ، وَاقْتَصَرَ عَلَى الْمُرَاجَعَةِ الَّتِي فِيهِ بَيْنَ حُذَيْفَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَلَفْظُهُ: «إنَّ حُذَيْفَةَ جَاءَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: أَلَا أَعْجَبَكَ مِنْ قَوْمٍ عُكُوفٌ بَيْنَ دَارِك وَدَارِ الْأَشْعَرِيِّ. يَعْنِي الْمَسْجِدَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَعَلَّهُمْ أَصَابُوا وَأَخْطَأْتُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْتَدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ يُخَالِفُهُ وَيَجُوزُ الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ، وَلَوْ كَانَ ثَمَّ

(1/618)


حَدِيثٌ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَا خَالَفَهُ، وَأَيْضًا الشَّكُّ الْوَاقِعُ فِي الْحَدِيثِ مِمَّا يُضْعِفُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. قَوْلُهَا: (أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اعْتَكَفَ مَعَهُ بَعْضُ نِسَائِهِ وَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ مُكْثِ الْمُسْتَحَاضَةِ فِي الْمَسْجِدِ وَصِحَّةِ اعْتِكَافِهَا وَصَلَاتِهَا وَجَوَازِ حَدَثِهَا فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ أَمْنِ التَّلْوِيثِ، وَيَلْحَقُ بِهَا دَائِمُ الْحَدَثِ وَمَنْ بِهِ جُرْحٌ يَسِيلُ. بَابُ الِاجْتِهَادِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَفَضْلِ قِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا يُدْعَى بِهِ فِيهَا وَأَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ؟ 2288- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ أَحْيَا اللَّيْلَ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2289- وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ: كَانَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهَا. 2290- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. 2291- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: «قُولِي اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 2292- وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَا فِيهِ: أَرَأَيْتَ إنْ وَافَقْت لَيْلَةَ الْقَدْرِ. 2293- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ» . أَوْ قَالَ: «تَحَرَّوْهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. 2294- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ عَلِيلٌ يَشُقُّ عَلَيَّ الْقِيَامُ، فَأْمُرْنِي بِلَيْلَةٍ لَعَلَّ اللَّهَ يُوَفِّقُنِي فِيهَا لِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ: «عَلَيْكَ بِالسَّابِعَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

(1/619)


2295- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ قَالَ: لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 2296- وَعَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: سَمِعْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ يَقُولُ وَقِيلَ لَهُ: إنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ قَامَ السَّنَةَ أَصَابَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَقَالَ أُبَيٌّ: وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ إنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ يَحْلِفُ مَا يَسْتَثْنِي وَوَاللَّهِ إنِّي لَأَعْلَمُ أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ، هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقِيَامِهَا، هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 2297- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ. فَأَخَذَ الْحَصِيرَ بِيَدِهِ فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ فَدَنَوْا مِنْهُ فَقَالَ: «إِنِّي اعْتَكَفُ الْعَشْرَ الْأَوَّلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ اعْتَكَفُ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لِي: إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ» . فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ، قَالَ: «وَإِنِّي أُرِيتُهَا لَيْلَةَ وِتْرٍ، وَإِنِّي أَسْجُدُ صَبِيحَتَهَا فِي طِينٍ وَمَاءٍ» . فَأَصْبَحَ مِنْ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَقَدْ قَامَ إِلَى الصُّبْحِ فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ فَأَبْصَرْتُ الطِّينَ وَالْمَاءَ فَخَرَجَ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَجَبِينُهُ وَرَوْثَةُ أَنْفِهِ فِيهِا الطِّينُ وَالْمَاءُ وَإِذَا هِيَ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَمْ يَذْكَرْ فِي الْبُخَارِيِّ اعْتِكَافِ الْعَشْرِ الأَوْلِ. 2298- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «رَأَيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا وَأَرَانِي أَسْجُدُ صَبِيحَتُهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ» . قَالَ: فَمُطِرْنَا لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَانْصَرَفَ وَإِنَّ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدٌ وَمُسْلِمٌ، وَزَادَ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ يَقُولُ: ثَلَاث وَعِشْرِينَ. 2299- وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «الْتَمِسُوهَا فِي تِسْعٍ بَقَيْنَ أَوْ سَبْعٍ بَقَيْنَ أَوْ خَمْسٍ بَقَيْنَ أَوْ بَقَيْنَ ثَلَاثِ أَوْ آخِر لَيْلَةٍ» . قَالَ:

(1/620)


وَكَانَ أَبُو بَكْرَةَ يُصَلِّي فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ صَلَاتِهِ فِي سَائِرِ السَّنَةِ فَإِنْ دَخَلَ الْعَشْرُ اجْتَهَدَ. رَوَاهُ أَحْمَدٌ وَالتّرْمِذِيُّ وَصَححهُ. 2300- عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - فِي حَدِيثٍ لَهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهَا كَانَتْ أُبِينَتْ لِي لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وإني خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِهَا فَجَاءَ رَجُلَانِ يَحْتَقَّانِ مَعَهُمَا الشَّيْطَانُ فَنُسِّيتُهَا فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، الْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ» . قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ إِنَّكُمْ أَعْلَمُ بِالْعَدَدِ مِنَّا؟ فَقَالَ: أَجَلْ نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْكُمْ. قَالَ: قُلْتُ: مَا التَّاسِعَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ؟ قَالَ: إِذَا مَضَتْ وَاحِدَةٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا اثْنَتَان وَعِشْرُونَ فَهِيَ التَّاسِعَةُ، فَإِذَا مَضَتْ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا السَّابِعَةُ، فَإِذَا مَضَى خَمْسٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا الْخَامِسَةُ. رَوَاهُ أَحْمَدٌ وَمُسْلِمٌ. 2301- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - أَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَة الْقَدْرِ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى» . رَوَاهُ أَحْمَدٌ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاودٍ. 2302- وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هِيَ فِي الْعَشْرِ، فِي سَبْعٍ يَمْضِينَ أَوْ فِي تِسْعٍ يَبْقَيْنَ» . يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 2303- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ» . أَخْرَجَاه. 2304- وَلِمُسْلِمٍ قَالَ: رَأَى رَجُلٌ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَرَى رُؤْيَاكُمْ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَاطْلُبُوهَا فِي الْوِتْرِ مِنْهَا» . 2305- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 2306- والْبُخَارِيُّ وَقَالَ: «فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ» .

(1/621)


قَوْلُهَا: (أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ أَحْيَا اللَّيْلَ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّة الْحِرْصِ عَلَى مُدَاوَمَةِ الْقِيَامِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَإِحْيَائِهَا بِالْعِبَادَةِ وَاعْتِزَالِ النِّسَاءِ، وَأَمر الْأَهْلِ بِالِاسْتِكْثَارِ مِنْ الطَّاعَةِ فِيهَا. قَوْلُهُ: (مَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَإِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ حَكَاهُ صَاحِبُ الْحِلْيَةِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ وَأَرْجَحُهَا أَنَّهَا فِي أَوْتَارِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَأَرْجَاهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: «الْتَمِسُوهَا فِي تِسْعٍ بَقَيْنَ أَوْ فِي سَبْعٍ بَقَيْنَ أَوْ خَمْسٍ بَقَيْنَ أَوْ بَقَيْنَ ثَلَاثِ بَقَيْنَ أَوْ آخِر لَيْلَةٍ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ في جامعه: وَرُوِيَ عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَنَّهَا لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَخَمْس وَعِشْرِينَ، وَسَبْع وَعِشْرِينَ، وَتِسْع وَعِشْرِينَ، وآخِر لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ. قَالَ الشافعي: كان هذا عندي والله أعلم أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يجيب على نحو ما يسأل عنه يقال له: نلتمسها فِي لَيْلَةَ كَذَا؟ فَيَقُولَ الْتَمِسُوها فِي لَيْلَةَ كَذَا. قَالَ الشافعي: وأقوى الروايات عندي فيها ليلة إحدى وعشرين. انْتَهَى. والله أعلم.

(1/622)


 كِتَابُ الْمَنَاسِكِ

بَابُ وُجُوبِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَثَوَابِهِمَا 2307- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا» . فَقَالَ رَجُلٌ: أَكَلَّ عَامٍ يَا ... رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ. 2308- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ» . فَقَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَقَالَ: أَفِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «لَوْ قُلْتَهَا لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهَا وَلَمْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْمَلُوا بِهَا، الْحَجُّ مَرَّةً فَمَنْ زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ بِمَعْنَاهُ. 2309- وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ، وَلَا الْعُمْرَةَ، وَلَا الظَّعْنَ، فَقَالَ: «حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 2310- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ عَلَى النِّسَاءِ مِنْ جِهَادٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ، عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

(1/623)


2311- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهُوَ حُجَّةٌ لِمَنْ فَضَّلَ نَفْلَ الْحَجِّ عَلَى نَفْلِ الصَّدَقَةِ. 2312- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ ... رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدٌ مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ وَتَعْتَمِرَ، وَتَغْتَسِلَ مِنْ الْجَنَابَةِ، وَتُتِمَّ الْوُضُوءَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ» . وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ، وَأَنَّهُ قَالَ: «هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: هَذَا إسْنَادٌ ثَابِتٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْجَوْزَقِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُخَرَّجِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ. 2313- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا أَبَا دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَوُجُوبُ الْحَجِّ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ الدِّينِيَّةِ. وَاختلف فِي الْعُمْرَةِ، فَقِيلَ وَاجِبَةٌ، وَقِيلَ: مُسْتَحَبَّةٌ. بَابُ وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ 2314- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «تَعَجَّلُوا إلَى الْحَجِّ، يَعْنِي الْفَرِيضَةَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2315- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ الْفَضْلِ أَوْ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ وَتَضِلُّ الرَّاحِلَةَ وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. وَسَيَأْتِي قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:

(1/624)


2316- «مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» . وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه -: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ رِجَالًا إلَى هَذِهِ الْأَمْصَارِ فَيَنْظُرُوا كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ جَدَّةٌ وَلَمْ يَحُجَّ فَيَضْرِبُوا عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ. رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِمَا ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهَا ظَاهِرٌ، وَإِلَى الْقَوْلِ بِالْفَوْرِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْمَعْضُوبِ إذَا أَمْكَنَهُ الِاسْتِنَابَةَ وَعَنْ الْمَيِّتِ إذَا كَانَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ 2117- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبِي أَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ، قَالَ: «فَحُجِّي عَنْهُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 2118- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ شَابَّةٌ مِنْ خَثْعَمَ فَقَالَتْ: إنَّ أَبِي كَبِيرٌ، وَقَدْ أَفْنَدَ وَأَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَدَاءَهَا، فَيُجْزِي عَنْهُ أَنْ أُؤَدِّيَهَا عَنْهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «نَعَمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 2319- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ خَثْعَمَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ رُكُوبَ الرَّحْلِ، وَالْحَجُّ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: «أَنْتَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ» ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ عَنْهُ أَكَانَ يُجْزِي ذَلِكَ عَنْهُ» ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَاحْجُجْ عَنْهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ بِمَعْنَاهُ. 2320- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: إنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ:

(1/625)


«نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكَنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اُقْضُوا اللَّهَ، فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ بِمَعْنَاهُ. 2321- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ بِنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِيهَا قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ الْوَارِثِ وَغَيْرِهِ حَيْثُ لَمْ يَسْتَفْصِلْهُ أَوَارِثٌ هُوَ أَمْ لَا، وَشَبَّهَهُ بِالدَّيْنِ. 2322- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ أَبِي مَاتَ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ أَبَاكَ تَرَكَ دَيْنًا عَلَيْهِ أَقَضَيْتَهُ عَنْهُ» ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَاحْجُجْ عَنْ أَبِيكَ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْحَجُّ مِنْ الْوَلَدِ عَنْ وَالِدِهِ إذَا كَانَ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الْحَجِّ، وَقَدْ ادَّعَى جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ خَاصٌّ بِالابنِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ جُمُودٌ. وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا عُوفِيَ الْمَعْضُوبُ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يُجْزِئْهُ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَأْيُوسًا عَنْهُ. قَوْلُهُ: «أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ» . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ حَجٌّ وَجَبَ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يُجَهِّزَ مَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ كَمَا أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ دُيُونِهِ. وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ دَيْنَ الْآدَمِيِّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، فَكَذَلِكَ مَا شُبِّهَ بِهِ فِي الْقَضَاءِ، وَيَلْحَقُ بِالْحَجِّ حَقٌّ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ زَكَاةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. بَابُ اعْتِبَارِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ 2323- عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} . قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. 2324- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» .

(1/626)


يَعْنِي قَوْلَهُ {مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَبِذَلِكَ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: إنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ هِيَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ. وَقَدْ حُكِيَ فِي الْبَحْرِ عَنْ الْأَكْثَرِ أَنَّ الزَّادَ شَرْطُ وُجُوبٍ، وَهُوَ أَنْ يَجِدَ مَا يَكْفِيهِ وَيَكْفِي مَنْ يَعُولُ حَتَّى يَرْجِعَ. وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ وَمَالِكٌ: إنَّ الِاسْتِطَاعَةَ: الصِّحَّةُ لَا غَيْرُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالنَّاصِرُ: إنَّ مَنْ قَدِرَ عَلَى الْمَشْيِ لَزِمَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَأْتُوكَ رِجَالًا} . وَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ هُوَ اعْتِبَارُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ رُكُوبِ الْبَحْرِ لِلْحَاجِّ إلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْهَلَاكُ 2325- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَرْكَبْ الْبَحْرَ إلَّا حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ تَحْتَ الْبَحْرِ نَارًا وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِمَا. 2326- وَعَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: وَغَزَوْنَا نَحْوَ فَارِسَ، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «مَنْ بَاتَ فَوْقَ بَيْتٍ لَيْسَ لَهُ إجَّارٌ فَوَقَعَ فَمَاتَ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ، وَمَنْ رَكِبَ الْبَحْرَ عِنْدَ ارْتِجَاجِهِ فَمَاتَ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: (لَيْسَ لَهُ إجَّارٌ) الْإِجَّارُ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا جِيمٌ مُشَدَّدَةٌ وَآخِرُهُ رَاءٌ مُهْمَلَةٌ: هُوَ مَا يَرُدُّ السَّاقِطَ مِنْ الْبِنَاءِ مِنْ حَائِطٍ عَلَى السَّطْحِ أَوْ نَحْوِهِ، وَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُد «لَيْسَ لَهُ حِجَارٌ» . وَرَوَاهُ الْخَطَّابِيِّ بِالْيَاءِ «حِجِّي» . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْمَبِيت عَلَى السُّطُوحِ الَّتِي لَيْسَ عَلَيْهَا حَائِطٍ وَعَلَى عَدَمِ جَوَازِ رُكُوبِ الْبَحْرِ فِي أَوْقَاتِ اضْطِرَابِهِ. قَالَ: وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ رُكُوبِ الْبَحْرِ لِكُلِّ أَحَدٍ إلَّا لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ وَالْغَازِي. وَيُعَارِضُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمُ فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يُنْكِرْ عَلَى الصَّيَّادِينَ لَمَّا قَالُوا لَهُ: «إنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا

(1/627)


الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَّجِرُونَ فِي الْبَحْرِ» . وَغَايَةُ مَا فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ رُكُوبُ الْبَحْرِ لِلصَّيْدِ وَالتِّجَارَةِ مِمَّا خَصَّصَ بِهِ عُمُومَ مَفْهُومِ حَدِيثِ الْبَابِ عَلَى فَرْضِ صَلَاحِيَّتِهِ لِلِاحْتِجَاجِ. بَابُ النَّهْيِ عَنْ سَفَرِ الْمَرْأَةِ لِلْحَجِّ وَغَيْرِهِ إلَّا بِمَحْرَمٍ 2327- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ يَخْطُبُ يَقُولُ: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَلَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً وَإِنِّي اكْتَتَبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَانْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ» . 2328- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةً إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 2329- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ تُسَافِرَ الْمَرْأَةُ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ أَوْ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2330- وَفِي لَفْظٍ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا يَكُونُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا إلَّا وَمَعَهَا أَبُوهَا أَوْ زَوْجُهَا أَوْ ابْنُهَا أَوْ أَخُوهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالنَّسَائِيُّ. 2331- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ عَلَيْهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2332- وَفِي رِوَايَةٍ: «مَسِيرَةَ يَوْمٍ» . 2333- وَفِي رِوَايَةٍ: «مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ» . 2334- وَفِي رِوَايَةٍ: «لا تُسَافِرْ امْرَأَةٌ مَسِيرَةَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ إلا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» . رَوَاهُنَّ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 2335- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد «بَرِيدًا» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ» إلَى آخره.

(1/628)


فِيهِ مَنْعُ الْخُلُوِّ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَهُوَ إجْمَاعٌ. قَوْلُهُ: (وَلَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ) قَالَ الشَّارِحُ: أَطْلَقَ السَّفَرَ هَا هُنَا وَقَيَّدَهُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَهُ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَقَدْ عَمِلَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْبَابِ بِالْمُطْلَقِ لِاخْتِلَافِ التَّقْدِيرَات. قَالَ النَّوَوِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ التَّحْدِيدِ ظَاهِرَهُ بَلْ كُلُّ مَا يُسَمَّى سَفَرًا، فَالْمَرْأَةُ مَنْهِيَّةٌ عَنْهُ إلَّا بِالْمَحْرَمِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَحْرَمِ فِيمَا دُونَ الْبَرِيدِ،، وَلَفْظُ: «لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ إلَّا مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ» . وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ: أَعْنِي الْأَخْذَ بِأَقَلَّ مَا وَرَدَ لِأَنَّ مَا فَوْقَهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالْأَوْلَى. إِلِى أَنْ قَالَ: وَإِلَى كَوْنِ الْمَحْرَمِ شَرْطًا فِي الْحَجِّ ذَهَبَ الْعِتْرَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَإِسْحَاقُ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَهُمْ هَلْ هُوَ شَرْطُ أَدَاءً أَوْ شَرْطُ وُجُوبٍ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَضَابِطُ الْمَحْرَمِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ لِحُرْمَتِهَا. قَالَ الشَّارِحُ: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الْمَرْأَةِ إلَّا إذَا كَانَ لَهَا مَحْرَمٌ. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَيَلْزَمُ الإِنْسَانُ طَاعَةَ وَالِدَيْهِ فِي غَيْرِ الْمَعْصِيَةِ وَإِنْ كَانَا فَاسِقَيْنِ وَهُوَ ظَاهِرُ إِطْلاقِ أَحْمَدٍ وَهَذَا فِيمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهُمَا وَلا ضَرَرَ فَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يَضُرُّهُ وَجَبَ وَإِلا فَلا وَإِنَّمَا لَمْ يُقَيِّدَهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ لِسُقُوطِ الْفَرَائِضَ بِالضَّرَرِ وَتَحْرُمُ فِي الْمَعْصِيَةِ وَلا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ فَحِينَئِذٍ لَيْسَ لِلأَبَوَيْنِ مَنْعُ وَلَدِهِمَا مِنَ الْحَجِّ الْوَاجِبِ لَكِنْ يَسْتَطِيبُ أَنْفُسَهُمَا فَإِنْ أَذِنَا وَإِلا حَجَّ وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُ زَوْجَتِهِ مِنَ الْحِجِّ الْوَاجِبِ مَعَ ذِي مَحْرمٍ وَعَلَيْهَا أَنْ تَحِجَّ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ يُوجِبُونَ لَهَا النَّفَقَة عَلَيْهِ مُدَّة الْحَجِّ وَالْحّجِّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَ أَكْثَر الْعُلَمَاءِ. انْتَهَى. بَابُ مَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ 2336- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ، قَالَ: «مَنْ شُبْرُمَةُ» ؟ قَالَ: أَخٌ لِي أَوْ قَرِيبٌ لِي، قَالَ: «حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ» ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: «حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ

(1/629)


شُبْرُمَةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 2337- وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ: «فَاجْعَلْ هَذِهِ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ اُحْجُجْ عَنْ شُبْرُمَةَ» . 2338- وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَفِيهِ قَالَ: «هَذِهِ عَنْكَ وَحُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُسْتَطِيعًا أَوْ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَسْتَفْصِلْ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي سَمِعَهُ يُلَبِّي عَنْ شُبْرُمَةَ وَهُوَ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ. بَابُ صِحَّةِ حَجِّ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ لَهُ عَلَيْهِمَا 2339- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَقِيَ رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ فَقَالَ: مَنْ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: الْمُسْلِمُونَ، فَقَالُوا مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: «رَسُولُ اللَّهِ» فَرَفَعَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا، فَقَالَتْ أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 2340- وَعَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: حجَّ بِي مَعَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 2341- وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَنَا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَلَبَّيْنَا عَنْ الصِّبْيَانِ وَرَمَيْنَا عَنْهُمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 2342- وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ فَمَاتَ أَجْزَأَتْ عَنْهُ، فَإِنْ أَدْرَكَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ مَمْلُوكٍ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ فَمَاتَ أَجْزَأَتْ عَنْهُ، فَإِنْ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ» . ذَكَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ هَكَذَا مُرْسَلًا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: اسْتَدَلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَصِحُّ حَجُّ الصَّبِيِّ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعَ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى عَلَى سُقُوطِ الْفَرْضِ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ إلَّا أَنَّهُ إذَا حَجَّ كَانَ لَهُ تَطَوُّعًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ إحْرَامُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَإِنَّمَا يُحَجُّ بِهِ

(1/630)


عَلَى جِهَةِ التَّدْرِيبِ. انْتَهَى. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٌ فِي الْفُرُوعِ: وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ: يَصِحُّ إِحْرَامُهُ وَلا يَلْزِمُ فَلا تَتَعَلَّقُ بِهِ كَفَّارَة وَيَرْتَفِضُ بِرَفْضِهِ وَيُجَنَّبُ الطِّيبُ اسْتِحْبَابًا. وَذَكَرَ ابْنُ هَبِيرةَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفَيَّةِ أَنَّ هَذَا مَعْنَى قَوْل أَبِي حَنِيفَة لا أَنَّهُ يُخْرِجْهُ مِنْ ثَوَابِ الْحَجِّ. وَهَذَا الْقَوْلُ مُتَّجِهٌ أَنَّهُ يَصِحُّ إِحْرَامُهُ وَلا يَلْزَمُهُ حُكْمِهِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ إِذَا أَتَمَّهُ صَحِيحًا لأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الإِلْتِزَام وَلَيْسَ عَلَى لُزُومِهِ دَلِيلٌ صَحِيحٌ. انْتَهَى.

(1/631)


أَبْوَابُ مَوَاقِيتِ الْإِحْرَامِ وَصِفَتِهِ وَأَحْكَامِهِ بَابُ الْمَوَاقِيتِ الْمَكَانِيَّةِ، وَجَوَازِ التَّقَدُّمِ عَلَيْهَا 2343- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ؛ قَالَ: فَهُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ لِمَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمَهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَكَذَلِكَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا. 2344- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّامِ مِنْ الْجُحْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ» . قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَذَكَرَ لِي وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «وَمَهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. زَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَقَاسَ النَّاسُ ذَاتَ عِرْقٍ بِقَرْنٍ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ أَتَوْا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّ لِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا وَإِنَّهُ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا، وَإِنَّا إِنْ أَرَدْنَا أَنْ نَأْتِيَ قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا، قَالَ: فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ، قَالَ: فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 2345- وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.

(1/632)


2346- وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا - رضي الله عنه - سُئِلَ عَنْ الْمَهَلِّ فَقَالَ: سَمِعْتُ أَحْسَبُهُ رُفِعَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَالطَّرِيقِ الْآخَرِ الْجُحْفَةُ؛ وَمَهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتُ عِرْقٍ؛ وَمَهَلُّ أَهْلِ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ؛ وَمَهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَرَفَعَاهُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ. 2347- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إلَّا الَّتِي اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ، عُمْرَتَهُ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ، وَمِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، وَمِنْ الْجِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٌ، وَعُمْرَتَهُ مَعَ حَجَّتِهِ. 2348- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمُحَصَّبَ فَدَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: «اُخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنْ الْحَرَمِ فَتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ لِتَطُفْ بِالْبَيْتِ فَإِنَّمَا أَنْتَظِركُمَا هَا هُنَا» . قَالَتْ: فَخَرَجْنَا فَأَهْلَلْتُ ثُمَّ طُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَجِئْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، فَقَالَ: «هَلْ فَرَغْتَ» ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَأَذَّنَ فِي أَصْحَابِهِ بِالرَّحِيلِ، فَخَرَجَ فَمَرَّ بِالْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمَدِينَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 2349- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ أَهَلَّ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِعُمْرَةٍ أَوْ بِحَجَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد بِنَحْوِهِ وَابْنُ مَاجَهْ وَذَكَرَ فِيهِ الْعُمْرَةَ دُونَ الْحَجَّةِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ) أَيْ عَلَى الْمَوَاقِيتِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْبِلَادِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِذَا أَرَادَ الشَّامِيُّ الْحَجَّ فَدَخَلَ الْمَدِينَةَ فَمِيقَاتُهُ ذُو الْحُلَيْفَةِ لِاجْتِيَازِهِ عَلَيْهَا وَلَا يُؤَخِّرُ حَتَّى يَأْتِيَ الْجُحْفَةَ الَّتِي هِيَ مِيقَاتُهُ الْأَصْلِيُّ، فَإِنْ أَخَّرَ أَسَاءَ وَلَزِمَهُ دَمٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. قَوْلُهُ: (فَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمَهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ) أَيْ فَمِيقَاتُهُ مِنْ مَحِلِّ أَهْلِهِ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ «فَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ» أَيْ مِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ الْإِحْرَامَ إذَا سَافَرَ مِنْ مَكَانِهِ إلَى مَكَّةَ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْ سَافَرَ غَيْرَ قَاصِدٍ

(1/633)


لِلنُّسُكِ فَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ ثُمَّ بَدَا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ النُّسُكُ فَإِنَّهُ يُحْرِمُ مِنْ حَيْثُ تَجَدَّدَ لَهُ الْقَصْدُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إلَى الْمِيقَاتِ. قال: والمراد بقوله: (يُهِلُّونَ مِنْهَا) أَيْ مِنْ مَكَّةَ وَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى الْخُرُوجِ إلَى الْمِيقَاتِ لِلْإِحْرَامِ مِنْهُ، وَهَذَا فِي الْحَجِّ، وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَيَجِبُ الْخُرُوجُ إلَى أَدْنَى الْحِلِّ كَمَا سَيَأْتِي. قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا جَعَلَ مَكَّةَ مِيقَاتًا لِلْعُمْرَةِ. وَاختلف فِي الْقَارِنِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْحَاجِّ فِي الْإِهْلَالِ مِنْ مَكَّةَ. قَوْلُهُ: (وَقَّتَ لأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ) . قَالَ فِي الْفَتْحِ: الْحَدِيثُ بِمَجْمُوعِ الطُّرُقِ يَقْوَى. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ وَرَدَ مَا يُعَارِضُ أَحَادِيثَ الْبَابِ، فَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ الْعَقِيقَ. وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ بِأَوْجُهٍ مِنْهَا أَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ مِيقَاتُ الْوُجُوبِ، وَالْعَقِيقَ مِيقَاتُ الِاسْتِحْبَابِ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ. وَمِنْهَا أَنَّ الْعَقِيقَ مِيقَاتٌ لِبَعْضِ الْعِرَاقِيِّينَ وَهُمْ أَهْلُ الْمَدَائِنِ، وَالْآخَرُ مِيقَاتٌ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَمِنْهَا أَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ كَانَتْ أَوَّلًا فِي مَوْضِعِ الْعَقِيقِ الْآنَ ثُمَّ حُوِّلَتْ وَقُرِّبَتْ إلَى مَكَّةَ، فَعَلَى هَذَا فَذَاتُ عِرْقٍ وَالْعَقِيقُ شَيْءٌ وَاحِدٌ. قَوْلُهُ: (فَانْظُرُوا حَذْوَهَا) أَيْ: اعْتَبِرُوا مَا يُقَابِلُ الْمِيقَاتَ مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي تَسْلُكُونَهَا مِنْ غَيْرِ مَيْلٍ فَاجْعَلُوهُ مِيقَاتًا. وَظَاهِرُهُ أَنَّ عُمَرَ حَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ بِاجْتِهَادٍ. وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالنَّصُّ بِتَوْقِيتِ ذَاتِ عِرْقٍ لَيْسَ فِي الْقُوَّةِ كَغَيْرِهِ فَإِنْ ثَبَتَ فَلَيْسَ بِبِدْعٍ وُقُوعُ اجْتِهَادِ عُمَرَ عَلَى وَفْقِهِ فَإِنَّهُ كَانَ مُوَفَّقًا لِلصَّوَابِ. قَوْلُهُ: (مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ الْإِحْرَامِ عَلَى الْمِيقَاتِ. بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِعُذْرٍ 2350- عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 2351 - وَعَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ

(1/634)


النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ؛ فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: «اُقْتُلُوهُ» . قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَئِذٍ مُحْرِمًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ) فِيهِ جَوَازُ لِبْسِ السَّوَادِ وَإِنْ كَانَ الْبَيَاضُ أَفْضَلَ مِنْهُ. قَالَ: وَقَدْ اختلف فِي جَوَازِ الْمُجَاوَزَةِ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِحْرَامٍ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مَنْ دَخَلَ لِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ أَوْ لِغَيْرِهِمَا، وَمَنْ فَعَلَ أَثِمَ وَلَزِمَهُ دَمٌ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَالنَّاصِرِ وَهُوَ الْأَخِيرُ مِنْ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَأَحَدِ قَوْلَيْ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِحْرَامُ إلَّا عَلَى مَنْ دَخَلَ لِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ لَا عَلَى مَنْ أَرَادَ مُجَرَّدَ الدُّخُولِ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي عَصْرِهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْتَلِفُونَ إلَى مَكَّةَ لِحَوَائِجِهِمْ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَمَرَ أَحَدًا مِنْهُمْ بِإِحْرَامٍ كَقِصَّةِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَلَاطٍ، وَكَذَلِكَ قِصَّةُ أَبِي قَتَادَةَ لَمَّا عَقَرَ حِمَارَ الْوَحْشِ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ وَهُوَ حَلَالٌ، وَقَدْ كَانَ أَرْسَلَهُ لِغَرَضٍ قَبْلَ الْحَجِّ فَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ لَا بِنِيَّةِ الْحَجِّ وَلَا الْعُمْرَةِ، فَقَرَّرَهُ - صلى الله عليه وسلم -. بَابُ مَا جَاءَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَكَرَاهَةِ الْإِحْرَامِ بِهِ قَبْلَهَا 2352- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: «مِنْ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُحْرَمَ بِالْحَجِّ إلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. 2353- وَلَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «أَشْهُرُ الْحَجِّ: شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. 2354، 2355، 2356- وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم. 2357- وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنَى: لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 2358- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَفَ يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي حَجَّ، فَقَالَ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا» ؟ فَقَالُوا: يَوْمُ النَّحْرِ، قَالَ: «هَذَا يَوْمُ

(1/635)


الْحَجِّ الْأَكْبَرِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ» إنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ تَمَامَ أَعْمَالِ الْحَجِّ يَكُونُ فِيهِ، أَوْ إشَارَةً بِالْأَكْبَرِ إلَى الْأَصْغَرِ، أَعْنِي الْعُمْرَةَ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِهَذِهِ الْآثَارِ عَلَى كَرَاهَةِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ. بَابُ جَوَازِ الْعُمْرَةِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ 2359- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «عُمْرَةُ رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ 2360- لَكِنَّهُ لَهُ مِنْ حَدِيثٍ أُمِّ مَعْقِلٍ. 2361- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اعْتَمَرَ أَرْبَعًا إحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 2362- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اعْتَمَرَ عُمْرَتَيْنِ: عُمْرَةً فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً فِي شَوَّالٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 2363- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: فِي كُلِّ شَهْرٍ عُمْرَةٌ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ... رحمه الله. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (تَعْدِلُ حَجَّةً) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً فِي الثَّوَابِ. قَالَ: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهَا مِمَّا تَقَدَّمَ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّة الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. بَابُ مَا يَصْنَعُ مَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ مِنْ الْغُسْلِ وَالتَّطَيُّبِ وَنَزْعِ الْمَخِيطِ وَغَيْرِهِ. 2364- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا رَفَعَ الْحَدِيثَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ النُّفَسَاءَ وَالْحَائِضَ تَغْتَسِلُ وَتُحْرِمُ وَتَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفَ بِالْبَيْتِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ.

(1/636)


2365- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ إحْرَامِهِ بِأَطْيَبِ مَا أَجِدُ. 2366- وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ تَطَيَّبَ بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُ ثُمَّ أَرَى وَبِيصَ الدُّهْنِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَخْرَجَاهُمَا. 2367- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي حَدِيثٍ لَهُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «وَلْيُحْرِمْ أَحَدُكُمْ فِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2368- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَيْدَاؤُكُمْ هَذِهِ الَّتِي تَكْذِبُونَ عَلَى ... رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ. يَعْنِي مَسْجِدَ ذِي الْحُلَيْفَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2369- وَفِي لَفْظٍ: مَا أَهَلَّ إلَّا مِنْ عِنْدِ الشَّجَرَةِ حِينَ قَامَ بِهِ بَعِيرُهُ. أَخْرَجَاهُ. 2370- وَلِلْبُخَارِيِّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ إلَى مَكَّةَ ادَّهَنَ بِدُهْنٍ لَيْسَ لَهُ رَائِحَةُ طِيبٍ، ثُمَّ يَأْتِي مَسْجِدَ ذِي الْحُلَيْفَةِ فَيُصَلِّي، ثُمَّ يَرْكَبُ فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً أَحْرَمَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُ. 2371- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَلَمَّا عَلَا عَلَى جَبَلِ الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 2372- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ إهْلَالَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَالَ: رَوَاهُ أَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. 2373- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: عَجَبًا لِاخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي إهْلَالِهِ فَقَالَ: إنِّي لَأَعْلَمُ النَّاسِ بِذَلِكَ، إنَّمَا كَانَتْ مِنْهُ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ فَمِنْ هُنَالِكَ اخْتَلَفُوا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَاجًّا، فَلَمَّا صَلَّى فِي مَسْجِدِهِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْهِ أَوْجَبَ فِي

(1/637)


مَجْلِسِهِ، فَأَهَلَّ بِالْحَجِّ حِينَ فَرَغَ مِنْ رَكْعَتَيْهِ، فَسَمِعَ ذَلِك مِنْهُ أَقْوَامٌ فَحَفِظُوا عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ إنَّمَا كَانُوا يَأْتُونَ أَرْسَالًا فَسَمِعُوهُ حِينَ اسْتَقَلَّتْ بِهِ نَاقَتُهُ يُهِلُّ فَقَالُوا: إنَّمَا أَهَلَّ حِينَ اسْتَقَلَّتْ بِهِ نَاقَتُهُ، ثُمَّ مَضَى؛ فَلَمَّا عَلَا عَلَى شَرَفِ الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ فَأَدْرَكَ ذَاكَ أَقْوَامٌ فَقَالُوا: إنَّمَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ عَلا عَلَى شَرَفِ الْبَيْدَاءِ وَاَيْمُ اللَّهِ لَقَدْ أَوْجَبَ فِي مُصَلَّاهُ وَأَهَلَّ حِينَ اسْتَقَلَّتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ وَأَهَلَّ حِينَ عَلَا شَرَفَ الْبَيْدَاءِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 2374- وَلِبَقِيَّةِ الْخَمْسَةِ مِنْهُ مُخْتَصَرًا: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَهَلَّ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ. قَوْلُهَا: (كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ إحْرَامِهِ) إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّطَيُّبِ عِنْدَ إرَادَةِ الْإِحْرَامِ وَلَوْ بَقِيَتْ رَائِحَتُهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَضُرُّ بَقَاءُ رَائِحَتِهِ وَلَوْنِهِ، وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ ابْتِدَاؤُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ وَمَالِكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَالزُّهْرِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ الْهَادِي وَالْقَاسِمُ وَالنَّاصِرُ وَالْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ وَأَبُو طَالِبٍ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّطَيُّبُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ؟ وَهَلْ تَلْزَمُ الْفِدْيَةُ أَوْ لَا؟ إِلِى أَنْ قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْ الطِّيبِ عَلَى الْمُحْرِمِ هُوَ مَا تَطَيَّبَ بِهِ ابْتِدَاءً بَعْدَ إحْرَامِهِ لَا مَا فَعَلَهُ عِنْدَ إرَادَةِ الْإِحْرَامِ وَبَقِيَ أَثَرُهُ لَوْنَا وَرِيحَا. قَوْلُهُ: (وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ) . اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ خِلَافَا لِلْمَشْهُورِ عَنْ أَحْمَد فَإِنَّهُ أَجَازَ لُبْسَ الْخُفَّيْنِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْآتِي فِي بَابِ مَا يَتَجَنَّبُهُ الْمُحْرِمُ مِنْ اللِّبَاسِ بِلَفْظِ: «وَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ» وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ لَازِمٌ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَائِلِينَ بِهِ. قَوْلُهُ: (ادَّهَنَ بِدُهْنٍ لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ) فِيهِ جَوَازُ الِادِّهَانُ بِالْأَدْهَانِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَأْكُلَ الزَّيْتَ وَالشَّحْمَ والشّيرجَ وَأَنْ يَسْتَعْمِلَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ بَدَنِهِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ.

(1/638)


بَابُ الِاشْتِرَاطِ فِي الْإِحْرَامِ 2375- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةٌ، وَإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي أُهِلُّ؟ فَقَالَ: ... «أَهِلِّي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي» . قَالَ: فَأَدْرَكَتْ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ. 2376- وَلِلنَّسَائِيِّ فِي رِوَايَةٍ: قَالَ: «فَإِنَّ لَكِ عَلَى رَبِّكِ مَا اسْتَثْنَيْتِ» . 2377- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ لَهَا: «لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الْحَجَّ» ؟ قَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا أَجِدُنِي إلَّا وَجِعَةً، فَقَالَ لَهَا: «حُجِّي وَاشْتَرِطِي وَقُولِي: اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي» . وَكَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2378- وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَحْرِمِي وَقُولِي: إنَّ مَحِلِّي حَيْثُ تَحْبِسُنِي، فَإِنْ حُبِسْتِ أَوْ مَرِضْتِ فَقَدْ حَلَلْتِ مِنْ ذَلِكَ بِشَرْطِكِ عَلَى رَبِّكِ عَزَّ وَجَلَّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَطَ هَذَا الِاشْتِرَاطَ ثُمَّ عَرَضَ لَهُ مَا يَحْبِسُهُ عَنْ الْحَجِّ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّحَلُّلُ مَعَ عَدَمِ الِاشْتِرَاطِ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعُمَرُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَهُوَ الْمُصَحَّحُ لِلشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَبَعْضُ التَّابِعِينَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْهَادِي: إنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاشْتِرَاطُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَوْ بَلَغَ ابْنَ عُمَرَ حَدِيثُ ضُبَاعَةَ لَقَالَ بِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ الِاشْتِرَاطَ كَمَا لَمْ يُنْكِرْهُ أَبُوهُ. انْتَهَى. وَعَنْ عِكْرِمَة عَنِ الْحَجَّاجِ بن عَمْرُو الأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كُسِرَ أَوْ عُرِجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجّ مِنْ قَابِلٍ» . قَالَ عَكْرِمَةُ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسِ وَأَبَا هُرَيْرَة فَقَالا: صَدَقَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَحَسَّنَهُ التّرمذِيّ. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَالْمُحْصِرُ بِمَرَضٍ أَوْ ذَهَاب نَفَقَةٍ كَالْمُحْصِرِ بِعَدُوٍّ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدٍ وَمِثْلِهِ حَائِض تَعَذَّرَ مُقَامَهَا وَحَرُمَ طَوَافُهَا أَوْ

(1/639)


رَجَعَتْ وَلَمْ تَطُفْ لِجَهْلِهَا بِوُجُوبِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ أَوْ لِعَجَزِهَا عَنْهُ أَوْ لِذَهَابِ الرُّفْقَةِ وَالْمُحْصِرُ يَلْزَمُهُ دَمّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَلا يَلْزِمُهُ قَضَاءَ حَجِّهِ إِنْ كَانَ تَطَوُّعًا، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. انْتَهَى. وَاللهُ أَعْلَمُ. بَابُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ التَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ وَبَيَانِ أَفْضَلِهَا 2379- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ» . قَالَتْ: وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْحَجِّ وَأَهَلَّ بِهِ نَاسٌ مَعَهُ وَأَهَلَّ مَعَهُ نَاسٌ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ، وَأَهَلَّ نَاسٌ بِعُمْرَةٍ، وَكُنْتُ فِيمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2380- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: نَزَلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَفَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَنْزِلْ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهُ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2381- وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ: وَنَزَلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ - يَعْنِي مُتْعَةَ الْحَجِّ - وَأَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ لَمْ تَنْزِلْ آيَةٌ تَنْسَخْ آيَةَ مُتْعَةِ الْحَجِّ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا حَتَّى مَاتَ. 2382- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ: أَنَّ عَلِيًّا - رضي الله عنه - كَانَ يَأْمُرُ بِالْمُتْعَةِ ... وَعُثْمَانُ - رضي الله عنه - يَنْهَى عَنْهَا، فَقَالَ عُثْمَانُ كَلِمَةً، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّا تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ عُثْمَانُ: أَجَلْ، وَلَكِنَّا كُنَّا خَائِفِينَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 2383- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَهَلَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِعُمْرَةٍ وَأَهَلَّ أَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ فَلَمْ يَحِلَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَلا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَحَلَّ بَقِيَّتُهُمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 2384- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ كَذَلِكَ، وَأَوَّلُ مَنْ نَهَى عَنْهَا مُعَاوِيَةُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.

(1/640)


2385- وَعَنْ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبي - صلى الله عليه وسلم - مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تُحِلَّ مِنْ عُمْرَتِكَ قَالَ: «إِنِّي قَلَّدْتُ هَدْيِي وَلَبَّدْتُ رَأْسِي فَلا أُحِلَّ حَتَّى أُحِلَّ مِنَ الْحَجِّ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةَ إِلا التِّرْمِذِي. 2386- وَعَنْ غَنِيم بن قَيْس الْمَازِنِي قَالَ: سَأَلْتُ سَعْد بن أَبِي وَقَّاص عَنْ الْمُتْعَة فِي الْحج. فَقَالَ: فَعَلْنَاهَا وَهَذَا يَوْمَئِذٍ كَافِرٍ بِالْعُرُوش - يَعْنِي بُيُوتِ مَكَّةْ - يَعْنِي مُعَاوِيَة. رَوَاهُ أَحْمَد وَمُسْلِمْ. 2387- وَعَن الزُّهَرِي عَنْ سَالِم عَنْ أَبِيهِ قَالَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حِجِّةِ الْوَدَاع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ وَأهدى فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْي مِنْ ذِي الْحَلِيفَةَ وَبَدَأَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحِجِّ وَتَمَتَّعَ النَّاسَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أهدى فَسَاقَ الْهَدْي وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أهدى فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ مِنْ شِيْءٍ حرم مِنْهُ حَتَّى يَقْضِي حِجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أُهْدِيَ فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةَ، وَلْيُقْصِرْ، وَلْيُحِلّ، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحِجِّ، وَليْهَدْ ِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ» . وَطَافَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ ثُمَّ خَبَّ ثَلاثَةَ أَشْوَاط مِنَ السَّبْعِ وَمَشى أَرْبَعَةَ أَطْوَاف ثُمَّ رَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافُهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ وَانْصَرَفَ فَأَتَى الصَّفَا، فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَاف، ثُمَّ لَمْ يُحِلل مِنْ شَيْءٍ حرم مِنْهُ حَتَّى قَضَى حِجَّهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حرم مِنْهُ، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَهْلِ فساق الْهَدْي. 2388- وَعَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَةَ مِثْلُ حَدِيثَ سَالِم عَنْ أَبِيهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2389- وَعَنْ الْقَاسِمْ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَفْرَدَ الْحِجَّ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةْ إِلا الْبُخَارِي. 2390- وَعَنْ نَافِع عَنْ ابن عُمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَهْلَلْنَا مَعَ ... رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْحِجِّ مُفْرِدًا. رَوَاهُ أَحْمَدَ وَمُسْلِمْ.

(1/641)


2391- وَلِمُسْلِمْ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا. 2392- وَعَنْ بَكْر الْمَزَنِيّ عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُلَبِّي بِالْحِجِّ وَالْعُمْرَةَ جَمِيعًا يَقُولُ: «لَبَيَّكَ عُمْرَةً وَحِجًّا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2393- وَعَنْ أَنَسٍ - أَيْضًا - قَالَ: خَرَجْنَا نَصْرُخَ بِالْحَجِّ فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَجْعَلَهَا عُمْرَةً وَقَالَ: «لَوْ اسْتَقْبَلْتَ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَبْدَرْتُ لَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً وَلَكِنْ سقت الهدي وَقرنت بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةَ» . 2394- وَعَنْ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ بِوَادِي الْعَقِيقِ - يَقُولُ: «أَتَانِي اللَّيْلَةُ آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكْ وَقُلْ عُمْرَةً فِي حِجَّهْ» . روَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِي وابنُ مَاجَةْ وَأَبُو دَاوُد. وَفِي رِوَايَة لِلْبُخَارِي: وَقُلْ عُمْرَةً وَحِجَّة. 2395- وَعَنْ مَرَوَان بن الْحَكَم قَالَ: شَهِدْتُ عُثْمَان وَعَلِيًّا، وَعُثْمَان يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَة وَأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَلِيُّ أَهَلَّ بِهِمَا: لَبَيَّكَ بِعُمْرَةٍ وَحِجَّة. وَقَالَ: مَا كُنْتُ لأدَعَ سُنَّةَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لِقَوْلِ أَحَدْ. رَوَاهُ الْبُخَارِي وَالنِّسَائِي. 2396- وَعَنْ الصَّبِي بن معبد قَالَ كُنْتُ رَجُلاً نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمْتُ فَأَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةْ. قَالَ: فَسَمِعَنِي زَيْدُ بن صَوْحَان وَسَلْمَان بن رَبِيعَةْ وَأَنَا أُهِلُّ بِهِمَا فَقَالا: لهَذَا أَضَلُّ مِنْ بَعِير أَهْلِهِ فَكَأَنَّمَا حَمَل عَلَيَّ بِكَلِمَتِهِمَا جَبَلٌ. فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بن الْخَطَّاب فَأَخْبَرْتُهُ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمَا فَلامَهُمَا وَأَقْبَلَ عَلَيَّ ... فَقَالَ: لَقَدْ هُدِيتَ لِسُنَّةَ نَبِيِّكَ مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَد وابن مَاجَةْ وَالنِّسَائِي. 2397- وَعَنْ سُرَاقَةْ بن مَالِك قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «دَخَلْتُ الْعُمْرَة فِي الْحِج إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة» . قَالَ: وَقَرِنَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حِجَّةِ الْوَدَاع. رَوَاهُ أَحْمَدْ.

(1/642)


2398- وَعَنْ الْبَرَّاء بِن عَازَب قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عَلي مِنَ الْيَمَنِ عَلَى ... رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: وَجَدْتُ فَاطِمَةَ قَدْ لَبَسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا وَقَدْ نَضَحَتْ الْبَيْتَ بِنضُوح فَقَالَتْ: مَا لَكَ؟ إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ فَحَلُّوا. قَالَ: قُلْتْ لَهَا: إِنِّي أَهْلَلْتُ بِإِهْلالِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لِي: «كَيْفَ صَنَعْتُ» ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَهْلَلْتُ بِإِهْلالِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «فَإِنِّي قَدْ سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ» . قَالَ: فَقَالَ لِي: «انْحَرْ لِي مِن الْبدن سَبْعًا وَسِتِّينَ أَوْ سِتًّا وَسِتِّينَ وانْسُكْ لِنَفْسِكَ ثَلاثًا أَوْ أَرْبَعًا وَثَلاثِينَ وَأَمْسِكَ لِي مِنْ كُلِّ بُدْنَةْ مِنَّهَا بِضْعَةْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَقَالَ مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ» إلَى آخِرِهِ فِيهِ الْإِذْنُ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - بِالْحَجِّ إفْرَادًا وَقِرَانًا وَتَمَتُّعًا. وَالْإِفْرَادُ: هُوَ الْإِهْلَالُ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ وَالِاعْتِمَارُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ لِمَنْ شَاءَ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ. وَالْقِرَانُ: هُوَ الْإِهْلَالُ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا، وَهُوَ أَيْضًا مُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِهِ أَوْ الْإِهْلَالِ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَيْهَا الْحَجُّ أَوْ عَكْسُهُ وَهَذَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَالتَّمَتُّعُ هُوَ الِاعْتِمَارُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ التَّحَلُّلُ مِنْ تِلْكَ الْعُمْرَةِ وَالْإِهْلَالُ بِالْحَجِّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ وَيُطْلَقُ التَّمَتُّعُ فِي عُرْفِ السَّلَفِ عَلَى الْقِرَانِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَمِنْ التَّمَتُّعِ أَيْضًا فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ انْتَهَى. وَقَدْ حَكَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ، وَتَأَوَّلَ مَا وَرَدَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ التَّمَتُّعِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ اختلف فِي حَجِّهِ - صلى الله عليه وسلم - هَلْ كَانَ قُرَانَا أَوْ تَمَتُّعًا أَوْ إفْرَادًا، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ قَالَ: قَالَ عِيَاضٌ: وَأَمَّا إحْرَامُهُ فَقَدْ تَظَافَرَتْ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ بِأَنَّهُ كَانَ مُفْرَدًا. وَأَمَّا رِوَايَاتُ مَنْ رَوَى التَّمَتُّعَ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِقَوْلِهِ: «وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ» فَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَتَحَلَّلْ. وَأَمَّا رِوَايَةُ مَنْ رَوَى الْقِرَانَ فَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ آخِرِ أَحْوَالِهِ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ لَمَّا جَاءَ إلَى الْوَادِي، وَقِيلَ: (قُلْ عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ) . قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا الْجَمْعُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ. قَوْلُهُ: «أَوْ سِتًّا وَسِتِّينَ» وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِم: (فَنَحَرَ ثَلاثًا وَسِتِّين بِيَدِهِ ثُمَّ أعَطى عَلِيًّا فَنَحرَ مَا غَبَر) قَالَ النَّوَوِي: وَهُوَ الصَّوَابُ لا مَا وَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي دَاوُد.

(1/643)


بَابُ إدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ 2399- عَنْ نَافِعٍ قَالَ: أَرَادَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا الْحَجَّ عَامَ حَجَّةِ الْحَرُورِيَّةِ فِي عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّ النَّاسَ كَائِنٌ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ فَنَخَافُ أَنْ يَصُدُّوكَ فَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . إذَنْ أَصْنَعُ كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ عُمْرَةً، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إذَا كَانَ بِظَاهِرِ الْبَيْدَاءِ قَالَ: مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إلَّا وَاحِدٌ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ جَمَعْتُ حَجَّةً مَعَ عُمْرَتِي، وَأَهْدَى هَدْيًا مُقَلَّدًا اشْتَرَاهُ بِقُدَيْدٍ، وَانْطَلَقَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَوْمِ النَّحْرِ فَحَلَقَ وَنَحَرَ، وَرَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا صَنَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2400- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: أَقْبَلْنَا مُهِلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحَجٍّ مُفْرَدٍ، وَأَقْبَلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا بِعُمْرَةٍ حَتَّى إذَا كُنَّا بِسَرِفٍ عَرَكَتْ حَتَّى إذَا قَدِمْنَا مَكَّةَ طُفْنَا بِالْكَعْبَةِ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَحِلَّ مِنَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، قَالَ: فَقُلْنَا: حِلُّ مَاذَا؟ قَالَ: «الْحِلُّ كُلُّهُ» . فَوَاقَعْنَا النِّسَاءَ، وَتَطَيَّبْنَا بِالطِّيبِ، وَلَبِسْنَا ثِيَابَنَا، وَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إلَّا أَرْبَعُ لَيَالٍ، ثُمَّ أَهْلَلْنَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فَوَجَدَهَا تَبْكِي، فَقَالَ: «مَا شَأْنُكِ» ؟ قَالَتْ: شَأْنِي أَنِّي قَدْ حِضْتُ، وَقَدْ حَلَّ النَّاسُ وَلَمْ أَحْلِلْ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَالنَّاسُ يَذْهَبُونَ إلَى الْحَجِّ الْآنَ، فَقَالَ: «إنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ فَاغْتَسِلِي، ثُمَّ أَهِلِّي بِالْحَجِّ» . فَفَعَلَتْ وَوَقَفَتْ الْمَوَاقِفَ حَتَّى إذَا طَهُرَتْ طَافَتْ بِالْكَعْبَةِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ قَالَ: «لَقَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجَّتِكِ وَعُمْرَتِكِ جَمِيعًا» . فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي أَنِّي لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ حِينَ حَجَجْتُ، قَالَ: «فَاذْهَبْ بِهَا يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَأَعْمِرْهَا مِنْ التَّنْعِيمِ، وَذَلِكَ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا مَا بَوَّبَ لَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ جَوَازِ إِدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْإِدْخَالُ قَبْل الشُّرُوعِ

(1/644)


فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ، وَقِيلَ: إنْ كَانَ قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ صَحَّ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقِيلَ: وَلَوْ بَعْدَ تَمَامِ الطَّوَافِ وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ. وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ أَبَا ثَوْرٍ شَذَّ فَمَنَعَ إدْخَالَ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ قِيَاسًا عَلَى مَنْعِ إدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ. انْتَهَى. قال في المقنع: وَالْقِرَانُ أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا جَمِيعًا أَوْ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ ثًمَّ يًدْخِلُ عَلَيْهَا الْحَجَّ وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ لَمْ يَصِح إِحْرَامِهِ بِهَا. قَالَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: إِذَا أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمُرَةِ قَبْلَ طَوَافِهَا مِنْ غَيْرِ خَوْفِ الْفَوَات جَازَ وَكَانَ قِرَانًا بِغَيْرِ خِلافٍ، فَأَمَّا إِدْخَالُ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ فَلا يَجُوزُ وَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَصِحْ وَلَمْ يَصِرْ قَارِنًا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْن الْمُنْذِرِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةُ: يَصِحُّ وَيَصِيرُ قَارِنًا لأَنَّهُ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ فَجَازَ إِدْخَالِهِ عَلَى الآخِرِ كَالآخِرِ. انْتَهَى. قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَالَّذِي تَجْتَمِعُ بِهِ الرِّوَايَات أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ قَارِنًا بِمَعْنَى أَنَّه أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ بَعْدَ أَنْ أَهَلَّ بِهِ مُفْرَدًا لا أَنَّهُ أَوَّلَ مَا أَهَلَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ عُمَر مَرْفُوعًا: «وَقُلْ عُمْرَةً فِي حِجَّةٍ» . انتهى. قَالَ ابْنُ الْقَيِّم: وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَبَّى بِالْحِجِّ وَحْدَهُ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ وَظَنَّ أَنَّهُ بِذَلِكَ تَجْتَمِعُ الأَحَادِيثُ فَعُذْرُهُ أَنَّه رَأَى أَحَادِيثَ إِفْرَاده بِالْحَجِّ صَحِيحَة فَحَمَلَهَا عَلَى ابْتِدَاءِ إِحْرَامِهِ ثُمَّ إِنَّهُ أَتَاهُ آتٍ مِنْ رَبِّهِ فَقَالَ: «قُلْ عُمْرَة فِي حَجَّةٍ» . فَأَدْخَلَ الْعُمْرَةَ حِينَئِذٍ عَلَى الْحَجِّ فَصَارَ قَارِنًا، وَلِهَذَا قَالَ لِلْبَرِاءِ بْن عَازِب: «إِنِّي سُقْتُ الْهَدِيَ وَقَرِنْتُ» . فَكَانَ مُفْرِدًا فِي ابْتِدَاءِ إِحْرَامِهِ قَارِنًا فِي أَثْنَائِهِ وَأَيْضًا فَإِنّ أَحَدًا لَمْ يَقُلْ إِنَّهُ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ وَلا لَبَّى بِالْعُمْرَةِ وَلا أَفْرَدَ الْعُمْرَةِ وَلا قَالَ: خَرَجْنَا لا نَنْوِي إِلا الْعُمْرَة. وَقَالُوا: أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَلَبَّى بِالْحَجِّ وَأَفْرَدَ بِالْحَجِّ وَخَرَجْنَا لا نَنْوِي إِلا الْحَجَّ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الإِحْرَامَ وَقَعَ أَوَّلاً بِالْحَجِّ ثُمَّ جَاءَهُ الْوَحْيُ مِنْ رَبِّهِ تَعَالَى بِالْقِرَانِ فَلَبَّى بِهِمَا فَسَمِعَهُ أَنَسٌ يُلَبِّي بِهِمَا وَصَدَقَ وَسَمِعَتْهُ عَائِشَةُ وَابْنُ عُمَر وَجَابِرُ يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَحْدَهُ أَوَّلاً وَصَدَقُوا. قَالُوا: وَبِهَذَا تَتَّفِقُ الأَحَادِيثُ وَيَزُولُ عَنْهَا الاضْطِرَاب. وَأَرْبَابُ هَذِهِ الْمَقَالَةُ لا يُجِيزُونَ إِدْخَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ وَيَرَوْنَهُ لَغْوًا. وَيَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - دُونَ غَيْرِهِ. إِلَى أَنْ قَالَ: وَلا رَيْبَ أَنَّ فِي هَذَا الْقَولِ مِنْ مُخَالَفَةِ الأَحَادِيثِ

(1/645)


وَدَعْوَى التَّخْصِيصِ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِإِحْرَامٍ لا يَصِحُّ فِي حَقِّ الأُمَّةِ مَا يَرُدَّهُ وَيُبْطِلُهُ. وَمِمَّا يَرُدُّهُ أَنَّ أَنَسًا قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ بِالْبَيْدَاءِ ثُمَّ رَكِبَ وَصَعَدَ جَبَلَ الْبَيْدَاءِ وَأَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ حِينَ صَلَّى الظُّهرَ. وَفِي حَدِيثِ عُمَر أَنَّ الذي جَاءَ مِنْ رَبِّهِ قَالَ لَهُ: (صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ) . فَكَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَالَّذِي رَوَىَ عُمَرُ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّهُ فَعَلَهُ سَوَاءَ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِوَادِي الْحَلِيفَةِ ثُمَّ قَالَ: لَبَّيْكَ حِجًّا وَعُمْرَةً. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جِوَازِ إِدْخَالِ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدٍ أَشْهَرْهُمَا أَنَّهُ لا يَصِحُّ وَالَّذِينَ قَالُوا بِالصِّحَّةِ كَأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابُهُ بَنَوْهُ عَلَى أُصُولِهِمْ وَأَنَّ الْقَارِنُ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ فَإِذَا أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ فَقَدْ الْتَزَمَ زِيَادَة عَمَل الإِحْرَام بِالْحَجِّ وَحْدَهُ. وَمَنْ قَالَ: يَكْفِيهِ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ. قَالَ: لَمْ يَسْتَفِدْ بِهَذَا الإِدْخَال إِلا سُقُوط أَحَد السَّفَرَيْنِ وَلَمْ يَلْتَزِمْ بِهِ زِيَادَة عَمَل بَلْ نُقْصَانُهُ فَلا يَجُوزُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. انْتَهَى. قَوْلُهُ: (أَقْبَلْنَا مُهِلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحَجٍّ مُفْرَدٍ) . اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إنَّ حَجَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ مُفْرَدًا وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ غَايَةَ مَا فِيهِ أَنَّهُمْ أَفْرَدُوا الْحَجَّ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَفْرَدَ الْحَجَّ، وَلَوْ سَلِمَ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مُؤَوَّلٌ بِمَا سَلَفَ. قَوْلُهُ: (حِلُّ مَاذَا) . بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَحَذْفِ التَّنْوِينِ لِلْإِضَافَةِ، وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ: أَيْ الْحِلُّ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ذَا، وَهَذَا السُّؤَالُ مِنْ جِهَةِ مَنْ جَوَّزَ أَنَّهُ حِلٌّ مِنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ بَعْضٍ. قَوْلُهُ: (الْحِلُّ كُلُّهُ) أَيْ: الْحِلُّ الَّذِي لَا يَبْقَى مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ مَمْنُوعَاتِ الْإِحْرَامِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْمَأْمُورِ بِهِ. قَوْلُهُ: (مِنْ حَجَّتِكِ وَعُمْرَتِكِ) . هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ عُمْرَتَهَا لَمْ تَبْطُلْ وَلَمْ تَخْرُجْ مِنْهَا، وَأَنَّ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: «اُرْفُضِي عُمْرَتَكِ» مُتَأَوَّلٌ. بَابُ مَنْ أَحْرَمَ مُطْلَقًا أَوْ قَالَ: أَحْرَمْتُ بِمَا أَحْرَمَ بِهِ فُلَانٌ 2401- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ عَلِيٌّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «بِمَ

(1/646)


أَهْلَلْتَ يَا عَلِيُّ» ؟ قَالَ: أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ، قَالَ: «لَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2402- وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَقَالَ: فَقَالَ لِعَلِيٍّ: «بِمَ أَهْلَلْتَ» ؟ قَالَ: قُلْتُ: «اللَّهُمَّ إنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -» . 2403- وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُنِيخٌ بِالْبَطْحَاءِ فَقَالَ: «بِمَ أَهْلَلْتَ» ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «سُقْتَ مِنْ هَدْيٍ» ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: «فَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حِلَّ» . فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَطَتْنِي وَغَسَلَتْ رَأْسِي. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2404- وَفِي لَفْظٍ قَالَ: «كَيْفَ قُلْتَ حِينَ أَحْرَمْتَ» ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَبَّيْكَ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَذَكَرَهُ أَخْرَجَاهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي) فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «امْرَأَةً مِنْ قَيْسٍ» وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ أَنَّهَا مِنْ قَيْسِ عَيْلَانَ وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَشْعَرِيِّ نِسْبَةٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: «مِنْ نِسَاءِ بَنِي قَيْسٍ» . قَالَ الْحَافِظُ: فَظَهَرَ لِي مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَيْسٍ أَبُوهُ قَيْسُ بْنُ سُلَيْمٍ وَالِدُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَأَنَّ الْمَرْأَةَ زَوْجُ بَعْضِ إخْوَتِهِ. وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى جَوَازِ الْإِحْرَامِ كَإِحْرَامِ شَخْصٍ يَعْرِفُهُ مَنْ أَرَادَ ذَلِكَ، وَأَمَّا مُطْلَقُ الْإِحْرَامِ عَلَى الْإِبْهَامِ فَهُوَ جَائِزٌ ثُمَّ يَصْرِفُهُ الْمُحْرِمُ إلَى مَا شَاءَ لِكَوْنِهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. بَابُ التَّلْبِيَةِ وَصِفَتِهَا وَأَحْكَامِهَا. 2405- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ أَهَلَّ فَقَالَ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ، وَالْمُلْكَ لَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ» . وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَزِيدُ مَعَ هَذَا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ، وَالرَّغْبَاءُ إلَيْك وَالْعَمَلُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(1/647)


2406- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ التَّلْبِيَةَ مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: وَالنَّاسُ يَزِيدُونَ ذَا الْمَعَارِجِ وَنَحْوَهُ مِنْ الْكَلَامِ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْمَعُ فَلَا يَقُولُ لَهُمْ شَيْئًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَمُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ. 2407- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي تَلْبِيَتِهِ لَبَّيْكَ إلَهَ الْحَقِّ لَبَّيْكَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ. 2408- وَعَنْ السَّائِبِ بْنِ خَلَّادٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْإِهْلَالِ وَالتَّلْبِيَةِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 2409- وَفِي رِوَايَةٍ: إنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «كُنْ عَجَّاجًا ثَجَّاجًا» . وَالْعَجُّ: التَّلْبِيَةُ، وَالثَّجُّ: نَحْرُ الْبُدْنِ رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2410- وَعَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ، وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنْ النَّارِ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ. 2411- وَعَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: كَانَ يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ إذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. 2412- وَعَنْ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مِنْ جَمْعٍ إلَى مِنَى، فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 2413- وَعَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: يَرْفَعُ الْحَدِيثَ: إنَّهُ كَانَ يُمْسِكُ عَنْ التَّلْبِيَةِ فِي الْعُمْرَةِ إذَا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 2414- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يُلَبِّي الْمُعْتَمِرُ حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بن عُمَر) إلَى آخِرِهِ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا عَلَى ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا:

(1/648)


لَا بَأْسَ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا مِنْ الذِّكْرِ لِلَّهِ تَعَالَى مَا أَحَبَّ. وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ فَقَالُوا: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ عَلَى مَا عَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ، وَبِجَوَازِ الزِّيَادَةِ قَالَ الْجُمْهُورُ. قَوْلُهُ: (أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْإِهْلَالِ وَالتَّلْبِيَةِ) . قَالَ الشَّارِحُ: اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الصَّوْتِ لِلرَّجُلِ بِالتَّلْبِيَةِ بِحَيْثُ لَا يَضُرُّ نَفْسَهُ. قَوْلُهُ: (حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّلْبِيَةَ تَسْتَمِرُّ إلَى رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ الْفَضْلِ قَالَ: أَفَضْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ عَرَفَاتٍ فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ مَعَ آخِرِ حَصَاةٍ. قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. قَوْلُهُ: (كَانَ يُمْسِكُ عَنْ التَّلْبِيَةِ فِي الْعُمْرَةِ إذَا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ) . قَالَ الشَّارِحُ: قَوْلُهُ: (حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ) . ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُلَبِّي فِي حَالِ دُخُولِهِ الْمَسْجِدَ وَبَعْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ وَفِي حَالِ مَشْيِهِ حَتَّى يَشْرَعَ فِي الِاسْتِلَامِ وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ الْأَوْقَاتُ الَّتِي فِيهَا دُعَاءٌ مُخَصَّصٌ. وَقَدْ ذَهَبَ إلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ مِنْ تَرْكِ التَّلْبِيَةِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الِاسْتِلَامِ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: يُلَبِّي وَلَكِنَّهُ يَخْفِضُ صَوْتَهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَحْمَدَ. انْتَهَى. قَالَ فِي الْمُقْنِعِ: وَمَنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا قَطَعَ التَّلْبِيَةَ إِذَا وَصَلَ الْبَيْتَ. بَابُ مَا جَاءَ فِي فَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ 2415- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ أَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ وَنَجْعَلَهَا عُمْرَةً، فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَيْنَا وَضَاقَتْ بِهِ صُدُورُنَا، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَحِلُّوا فَلَوْلَا الْهَدْيُ مَعِي فَعَلْتُ كَمَا فَعَلْتُمْ، قَالَ: فَأَحْلَلْنَا حَتَّى وَطِئْنَا النِّسَاءَ وَفَعَلْنَا كَمَا يَفْعَلُ الْحَلَالُ حَتَّى إذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ وَجَعَلْنَا مَكَّةَ بِظَهْرٍ أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2416- وَفِي رِوَايَةٍ: أَهْلَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْحَجِّ خَالِصًا لَا يُخَالِطُهُ

(1/649)


شَيْءٌ، فَقَدِمْنَا مَكَّةَ لِأَرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَطُفْنَا وَسَعَيْنَا، ثُمَّ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَحِلَّ وَقَالَ: «لَوْلَا هَدْيٌ لَحَلَلْتُ» . ثُمَّ قَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مُتْعَتَنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «بَلْ هِيَ لِلْأَبَدِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 2417- وَلِمُسْلِمٍ مَعْنَاهُ. 2418- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ نَصْرُخُ بِالْحَجِّ صُرَاخًا؛ فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ أَمَرَنَا أَنْ نَجْعَلَهَا عُمْرَةً إلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ؛ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ وَرُحْنَا إلَى مِنَى أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 2419- وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مُحْرِمِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُقِمْ عَلَى إحْرَامِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحْلِلْ، فَلَمْ يَكُنْ مَعِي هَدْيٌ فَحَلَلْتُ، وَكَانَ مَعَ الزُّبَيْرِ هَدْيٌ فَلَمْ يَحْلِلْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ. 2420- وَلِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ: قَدِمْنَا مَعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ. 2421- وَعَنْ الأَسْوَدْ عَنْ عَائِشَةَ قَالَت: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وَلا نَرَى إِلا أَنَّهُ الْحِجَّ فَلَمَّا قَدِمْنَا تَطَوَّفْنَا بِالْبَيْتِ وَأَمَرَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ أَنْ يَحِلَّ فَحَلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ وَنِسَاؤُهُ لَمْ يَسِقْنَ فَأَحْلَلْنَ. قَالَتْ عَائِشَةَ: فَحِضتُ فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَذَكَرَتْ قِصَّتُهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2422- عَنْ ابن عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهَر الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرَ الْفُجُورَ فِي الأَرْضِ وَيَجْعَلُونَ الْمحرم صَفَرْ وَيَقُوولُونَ: إِذَا بَرَأَ الدبر وَعَفَا الأَثْرَ وَانْسَلَخَ صَفَرْ حلت الْعُمْرَةَ لِمَنْ اعْتَمَرَ فَقَدِمَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةَ مُهلِّينَ بِالْحَجِّ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةَ فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: «الْحِلُّ كُلَّهْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2423- وَعَنْهُ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هَذِهِ عُمْرَة اسْتَمْتَعْنَا بِهَا فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ هَدْي فَلْيُحْلِل الْحِلَّ كُلَّه فَإِنَّ الْعُمْرَةْ قَدْ

(1/650)


دَخَلَتْ فِي الْحِجَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةْ» . رَوَأهُ أَحْمَد وَمُسْلِمْ وَأَبُو دَاوُد والنِّسَائِي. 2424- وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَة الْحِجِّ فَقَال: أَهَلَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ وَأَزْوَاجُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فِي حِجَّةِ الْوَدَاع وأَهْلَلْنَا فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اجْعَلُوا إِهْلالَكُمْ بِالْحِجِّ عُمْرَةْ إِلا مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ» . فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةْ وأَتَيْنَا النِّسَاءَ وَلَبِسْنَا الثِّيَاب، وَقَالَ: «مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيَ مَحِلَّهُ» . ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةَ أَنْ نُهِلَّ بِالْحَجِّ وَإِذَا فَرَغْنَا مِنَ الْمَنَاسِكَ جِئْنَا فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةَ فَقَدْ تَمَّ حِجَّنَا وَعَلَيْنَا الْهَدْيَ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} إِلَى أَمْصَارِكُمْ. رَوَاهُ الْبُخَارِي. 2425- وَعَنْ أَنَس أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَاتَ بِذِي الْحَلِيفَة حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ أَهَلَّ بِحِجٍّ وَعُمْرَةْ وَأَهَلَّ النَّاس بِهِمَا. فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَر النَّاسُ فَحَلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمَ التَّرْوِِيَةِ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ قَالَ: وَنَحَرَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَبْع بدنات بِيَدِه قِيَامًا وَذَبَحَ بِالْمَدِينَة كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ. رَوَاهُ أَحْمَد وَالْبُخَارِي وأَبُو دَاوُد. 2426- وَعَنْ ابن عُمَر قَالَ: مَنْ قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ وَأَصْحَابَهُ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةَ إِلا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيَ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَيَرُوحُ أَحَدُنَا إِلَى مِنَى وَذكره يَقْطُرُ مَنِيًّا؟ قَالَ: «نَعَمْ» . وَسَطَعَتْ الْمَجَامِر. رَوَاهُ أَحْمَد. 2427- وَعَنْ الرَّبِيع بن سُبْرَةْ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى إِذَا كَانَ بَعَسْفَان قَالَ لَهُ سُرَاقَةَ بن مَالِك الْمدلجي: يَا رَسُولَ اللهِ اقْضِ لَنَا قَضَاءَ قَوْمٍ كَأَنَّمَا وُلِدُوا الْيَوْمَ. فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَدْخَلَ عَلَيْكُمْ فِي حِجِّكُمْ عُمْرَةً فَإِذَا قَدمْتُمْ فَمَنْ تَطَوَّفَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ فَقَدَّ حَلَّ إِلا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاودُ. 2428- وَعَنْ الْبَرَاء بن عَازِب قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابه قَالَ: فَأَحْرَمَنَا بِالْحَجِّ فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ: «اجْعَلُوا حِجَّكُمْ عُمْرَة» . قَالَ: فَقَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ أَحْرَمْنَا بِالْحَجِّ كَيْفَ نَجْعَلُهَا عُمْرَةْ؟ قَالَ:

(1/651)


«انْظُرُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا» . فَرَدُّوا عَلَيْهِ الْقَوْلَ فَغَضَبَ ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَهُوَ غَضْبَان فَرَأَتْ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَتْ: مَنْ أَغْضَبَكَ أَغْضَبَهُ اللهِ؟ فَقَالَ: «وَمَا لِي لا أَغْضَبُ وَأَنَا آمُرُ بِالأَمْرِ فَلا أُتْبَع» ؟ . رَوَاهُ أَحْمَدَ وَابْنُ مَاجَةْ. 2429- وَعَنْ رَبِيعَةْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَن عَن الْحَارِثْ بن بِلال عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ فسخ الْحِجِّ لَنَا خَاصَة أَمْ لِلنَّاسِ عَامة؟ قَالَ: «بَلْ لَنَا خَاصَة» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا التِّرْمِذِي وَهُوَ بِلالُ بن الْحَارِثْ الْمَزَنِي. 2430- وَعَنْ سَلِيم بن الأَسْوَدْ أَنَّ أَبَا ذَر كَانَ يَقُولُ فِيمَنْ حَجَّ ثُمَّ فَسَخَهَا بِعُمْرَةْ: لَمْ يَكُنْ إِلا لِلرَّكْبِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 2431- وَلِمُسْلِمْ وَالنِّسَائِي وَابنُ مَاجَةْ عَنْ إِبْرَاهِيمْ التَّيْمِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرْ قَالَ: كَانَتْ الْمُتْعَةْ فِي الْحَجِّ لأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَاصة. قَالَ أَحْمَدُ بن حَنْبَل: حَدِيثُ بِلال بن الْحَارِث عِنْدِي لَيْسَ يَثْبُتْ وَلا أَقُولُ بِهِ وَلا يُعْرَفُ هَذَا الرَّجُل - يَعْنِي الْحَارِثْ بن بِلال - وَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ عُرِفَ الْحَارِثُ بن بِلال إِلا أَنَّ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يَرَوْنَ مَا يَرْوُونَ مِنْ الْفسخ أَيْنَ يَقَعْ الْحَارِثْ بن بِلال مِنْهُمْ؟ . وَقَالَ فِي رِوَاية أَبِي دَاوُد: وَلَيْسَ يَصِحُّ حَدِيث فِي أَنَّ الْفَسْخَ كَانَ لَهُمْ خَاصَة. وَهَذَا أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِي يَفْتِي بِهِ فِي خِلافَةِ أَبِي بَكْر وَشَطْرًا مِنْ خِلافَةِ عُمَر. قُلْتُ: وَيَشْهَدُ لِمَا قَالَهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِر: «بَلْ هِيَ لِلأَبَدْ» وَحَدِيثُ أَبِي ذَرْ مَوْقُوفٌ. وَقَدْ خَالَفَهُ أَبُو مُوسَى وَابْنُ عَبَّاسِ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (أَرَأَيْتَ مُتْعَتَنَا هَذِهِ) أَيْ: أَخْبِرْنِي عَنْ فَسْخِنَا الْحَجَّ إلَى عُمْرَتِنَا هَذِهِ الَّتِي تَمَتَّعْنَا فِيهَا بِالْجِمَاعِ وَالطِّيبِ وَاللُّبْسِ. قَوْلَهُ: «لِعَامِنَا هَذَا» أَيْ: مَخْصُوصَةً بِهِ لَا تَجُوزُ فِي غَيْرِهِ أَمْ لِلْأَبَدِ: أَيْ جَمِيعِ الْأَعْصَارِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَجُوزُ فَسْخُ الْحَجِّ

(1/652)


إلَى الْعُمْرَةِ لِكُلِّ أَحَدٍ. وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ. قَالَ النَّوَوِيُّ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: إنَّ فَسْخَ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالصَّحَابَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لَا يَجُوزُ بَعْدَهَا، قَالُوا: وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِهِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لَيُخَالِفُوا مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ تَحْرِيمِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَحَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالٍ عَنْ أَبِيهِ وَسَيَأْتِيَانِ وَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنْهُمَا. قَالُوا: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «لِلْأَبَدِ» جَوَازُ الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ الْقِرَانِ فَهُمَا جَائِزَانِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ عَارَضَ الْمُجَوِّزُونَ لِلْفَسْخِ مَا احْتَجَّ بِهِ الْمَانِعُونَ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ عَنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ. قَالَ فِي الْهَدْيِ: وَرَوَى ذَلِكَ عَنْ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ طَوَائِفُ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، حَتَّى صَارَ مَنْقُولًا عَنْهُمْ نَقْلًا يَرْفَعُ الشَّكَّ وَيُوجِبُ الْيَقِينَ وَلَا يُمَكِّنُ أَحَدًا أَنْ يُنْكِرَهُ أَوْ يَقُولَ لَمْ يَقَعْ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَذْهَبُ حَبْرِ الْأُمَّةِ وَبَحْرِهَا ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَمَذْهَبُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَمَذْهَبُ إمَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ مَعَهُ وَمَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ قَاضِي الْبَصْرَةِ وَمَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ قَاضِيَةٌ بِالنََّسْخِ، وَقَوْلُ أَبِي ذَرٍّ لَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ. قَوْلُهُ: (وَذَبَحَ كَبْشَيْنِ) فِيهِ مَشْرُوعِيَّةِ الأُضْحِيَةِ وَقَدْ أَطالَ ابن الْقَيِّمِ الْكَلام عَلَى الْفَسْخْ وَرَجَّحَ وُجُوبُهُ وَبَيَّنَ بُطْلانُ مَا احْتَجَّ بِهِ الْمَانِعُونَ مِنْهُ. قَالَ الشَّارِحُ: وَإِذَا كَانَ الْمَوْقِعُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمُضِيق هُوَ إِفْرَادُ الْحَجِّ فَالْحَازِمُ الْمُتَحَرِّي ِلِدينِهِ الْوَاقِفُ عِنْدَ مُشْتَبِهَات الشَّرِيعَةُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْعَلَ حِجَّهُ من الابْتِدَاء تَمَتُّعًا أَوْ قَرَانًا فِرَارًًا مِمَّا هُو مَظَنَّةُ الْبَأْسِ إِلَى مَا لا بَأْسَ بِهِ فَإِنْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ فَالسُّنَّةُ أَحَقُّ بِالاتِّبَاع وَإِذَا جَاءَ نَهْرُ اللهِ بَطَلَ نَهْرُ معقل. انْتَهَى. وَاخْتَارَ شَيْخُ الإِسْلامِ ابن تَيْمِيَةْ وُجُوبْ الْفَسْخْ عَلَى الصَّحَابَةْ لا مُجَرَّدَ الْجَوَاز وَالاسْتِحْبَابَ فَهُوَ لِلأُمَّةَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَاللهُ أَعْلَمْ.

(1/653)


أَبْوَابْ مَا يَجْتَنِبْهُ الْمُحْرِمْ وَمَا يُبَاحُ لَهُ بَابُ مَا يَجْتَنِبُهُ مِنْ اللِّبَاسِ 2432- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ؟ قَالَ: «لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْقَمِيصَ، وَلَا الْعِمَامَةَ، وَلَا الْبُرْنُسَ، وَلَا السَّرَاوِيلَ وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ، وَلَا زَعْفَرَانٌ، وَلَا الْخُفَّيْنِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 2433- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ وَذَكَرَ مَعْنَاهُ. 2434- وَفِي رِوَايَةٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّ رَجُلًا نَادَى فِي الْمَسْجِدِ مَاذَا يَتْرُكُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ. 2435- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ، وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 2436- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى النِّسَاءَ فِي الْإِحْرَامِ عَنْ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ، وَمَا مَسَّ الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ مِنْ الثِّيَابِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَزَادَ: 2437- «وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحَبَّتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ مُعَصْفَرًا، أَوْ خَزًّا، أَوْ حُلِيًّا، أَوْ سَرَاوِيلَ، أَوْ قَمِيصًا» .

(1/654)


2438- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 2439- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ: «مَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2440- وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، أَنَّ أَبَا الشَّعْثَاءِ أَخْبَرَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَخْطُبُ يَقُولُ: «مَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا وَوَجَدَ سَرَاوِيلَ فَلْيَلْبَسْهَا وَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ وَوَجَدَ خُفَّيْنِ فَلْيَلْبَسْهُمَا» . قُلْتُ: وَلَمْ يَقُلْ: لِيَقْطَعْهُمَا؟ قَالَ: لَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَهَذَا بِظَاهِرِهِ نَاسِخٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِقَطْعِ الْخُفَّيْنِ لِأَنَّهُ قَالَ بِعَرَفَاتٍ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ كَمَا سَبَقَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالدَّارَقُطْنِيّ. 2441- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُحْرِمَاتٌ، فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا سَدَلَتْ إحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَاهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 2442- وَعَنْ سَالِمٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ يَعْنِي: ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقْطَعُ الْخُفَّيْنِ لِلْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ، ثُمَّ حَدَّثْتُهُ حَدِيثَ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْهَا أَنَّ ... رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ قَدْ رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ فِي الْخُفَّيْنِ فَتَرَكَ ذَلِكَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ؟ قَالَ: لَا يَلْبَسُ) إلَى آخِرِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا الْجَوَابُ مِنْ بَدِيعِ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُلْبَسُ مُنْحَصِرٌ فَحَصَلَ التَّصْرِيحُ بِهِ، وَأَمَّا الْمَلْبُوسُ الْجَائِزُ فَغَيْرُ مُنْحَصِرٍ. فَقَالَ: لَا يَلْبَسُ كَذَا أَيْ وَيَلْبَسُ مَا سِوَاهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ لُبْسَ جَمِيعِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا تَشْتَرِكُ مَعَ الرَّجُلِ فِي مَنْعِ الثَّوْبِ الَّذِي مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، أَوْ الْوَرْسُ. قَالَ عِيَاضٌ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ وَقَدْ نَبَّهَ بِالْقَمِيصِ عَلَى كُلِّ مَخِيطٍ وَبِالْعَمَائِمِ وَالْبَرَانِسِ عَلَى كُلِّ مَا يُغَطِي الرَّأْسَ بِهِ مَخِيطًا أَوْ غَيْرِهِ. وَبِالْخِفَافِ عَلَى كُلِّ ما يَستُرُ الرِّجْلَ.

(1/655)


قَوْلُهُ: (وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ وَلَا زَعْفَرَانٌ) . قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَيْسَ الْوَرْسُ مِنْ الطِّيبِ وَلَكِنَّهُ نَبَّهَ بِهِ عَلَى اجْتِنَابِ الطِّيبِ وَمَا يُشْبِهُهُ فِي مُلَايَمَةِ الشَّمِّ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ تَحْرِيمُ أَنْوَاعِ الطِّيبِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِيمَا يُقْصَدُ بِهِ التَّطَيُّبُ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: مَسَّهُ، تَحْرِيمُ مَا صُبِغَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ وَلَكِنَّهُ لَا بُدَّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلْمَصْبُوغِ رَائِحَةٌ فَإِنْ ذَهَبَتْ جَازَ لُبْسُهُ خِلَافًا لِمَالِكٍ. قَوْلُهُ: «إِلا أَنْ لا يَجِدَ النَّعْلَيْنِ» . فِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ زِيَادَةٌ حَسَنَةٌ بِهَا يَرْتَبِطُ ذِكْر النَّعْلَيْنِ بِمَا قَبْلهمَا وَهِيَ: «وليحرم أَحَدكمْ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبِسْ الْخُفَّيْنِ» . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وَاجِدَ النَّعْلَيْنِ لا يَلْبِس الْخُفَّيْنِ الْمَقْطُوعَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُور. قَوْلُهُ: (فَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ) . هُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ عِنْدَ مِفْصَلِ السَّاقِ وَالْقَدَمِ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَى مَنْ لَبِسَهُمَا إذَا لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ شَرْطٌ لِجَوَازِ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ خِلَافًا لِلْمَشْهُورِ عَنْ أَحْمَدَ فَإِنَّهُ أَجَازَ لُبْسَهُمَا مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ لإِطْلَاقِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَجَابَ عَنْهُ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَاجِبٌ وَهُوَ مِنْ الْقَائِلِينَ بِهِ. وَقَدْ أَجَابَ الْحَنَابِلَةُ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا دَعْوَى النَّسْخِ كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ. وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ عَنْ هَذَا فَقَالَ: كِلَاهُمَا صَادِقٌ حَافِظٌ، وَزِيَادَةُ ابْنِ عُمَرَ لَا تُخَالِفُ ابْنَ عَبَّاسٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ عَزَبَتْ عَنْهُ أَوْ شَكَّ فِيهَا أَوْ قَالَهَا فَلَمْ يَنْقُلْهَا عَنْهُ بَعْضُ رُوَاتِهِ. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِقِيَاسِ الْخُفِّ عَلَى السَّرَاوِيلِ فِي تَرْكِ الْقَطْعِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ مُصَادِمٌ لِلنَّصِّ فَهُوَ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِ عَطَاءٍ: إنَّ الْقَطْعَ فَسَادٌ، وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْفَسَادَ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا نَهَى عَنْهُ الشَّارِعُ لَا فِيمَا أَذِنَ فِيهِ بَلْ أَوْجَبَهُ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ مُطْلَقٍ وَمُقَيَّدٍ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَالْجَمْعُ مَا أَمْكَنَ هُوَ الْوَاجِبُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: الْأَوْلَى قَطْعُهُمَا عَمَلًا بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَخُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ. بَابُ مَا يَصْنَعُ مَنْ أَحْرَمَ فِي قَمِيصٍ 2443- عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَهُ رَجُلٌ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ؟

(1/656)


فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ بَعْدَ مَا تَضَمَّخَ بِطِيبٍ؟ فَنَظَرَ إلَيْهِ سَاعَةً فَجَاءَهُ الْوَحْيُ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ: «أَيْنَ الَّذِي سَأَلَنِي عَنْ الْعُمْرَةِ آنِفًا» . فَالْتُمِسَ الرَّجُلُ فَجِيءَ بِهِ، فَقَالَ: «أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا ثُمَّ اصْنَعْ فِي الْعُمْرَةِ كُلَّ مَا تَصْنَعُ فِي ... حَجِّكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2444- وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمْ: وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِالْخَلُوقِ. 2445- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد: فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اخْلَعْ جُبَّتَكَ فَخَلَعَهَا مِنْ رَأْسِهِ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «ثُمَّ اصْنَعْ فِي الْعُمْرَةِ كُلَّ مَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ» . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَعْمَالَ الْحَجِّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: كَأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَخْلَعُونَ الثِّيَابَ وَيَجْتَنِبُونَ الطِّيبَ فِي الْإِحْرَامِ إذَا حَجُّوا وَكَانُوا يَتَسَاهَلُونَ فِي ذَلِكَ فِي الْعُمْرَةِ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ مَجْرَاهُمَا وَاحِدٌ. وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ الْبَابِ عَلَى مَنْعِ اسْتِدَامَةِ الطِّيبِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لِلْأَمْرِ بِغَسْلِ أَثَرِهِ مِنْ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْهُ بِأَنَّ قِصَّةَ يَعْلَى كَانَتْ بِالْجِعْرَانَةِ وَهِيَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ بِلَا خِلَافٍ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا طَيَّبَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهَا عِنْدَ إحْرَامِهِمَا وَكَانَ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهِيَ سَنَةَ عَشْرٍ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْأَمْرِ الْآخِرِ فَالْآخِرِ وَبِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِغَسْلِهِ فِي قِصَّةِ يَعْلَى إنَّمَا هُوَ الْخَلُوقُ لَا مُطْلَقُ الطِّيبِ فَلَعَلَّ عِلَّةَ الْأَمْرِ فِيهِ مَا خَالَطَهُ مِنْ الزَّعْفَرَانِ. وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ تَزَعْفُرِ الرَّجُلِ مُطْلَقًا مُحْرِمًا وَغَيْرَ مُحْرِمٍ. وَاسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ أَصَابَ طِيبًا فِي إحْرَامِهِ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا ثُمَّ عَلِمَ فَبَادَرَ إلَى إزَالَتِهِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَظَاهِرُهُ أَنَّ اللُّبْسَ جَهْلًا لَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ وَقَدْ احْتَجَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ اسْتِدَامَةِ الطِّيبِ وَإِنَّمَا وَجْهُهُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِغَسْلِهِ لِكَرَاهَةِ التَّزَعْفُرِ لِلرَّجُلِ لَا لِكَوْنِهِ مُحْرِمًا مُتَطَيِّبًا.

(1/657)


بَاب تَظَلُّلِ الْمُحْرِمِ مِنْ الْحَرِّ أَوْ غَيْرِهِ وَالنَّهْيِ عَنْ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ 2446- عَنْ أُمِّ الْحُصَيْنِ قَالَتْ: حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَجَّةَ الْوَدَاعِ فَرَأَيْتُ أُسَامَةَ وَبِلَالًا وَأَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ يَسْتُرُهُ مِنْ الْحَرِّ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ. 2447- وَفِي رِوَايَةٍ: حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَجَّةَ الْوَدَاعِ فَرَأَيْتُهُ حِينَ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَانْصَرَفَ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَمَعَهُ بِلَالٌ وَأُسَامَةُ أَحَدُهُمَا يَقُودُ بِهِ رَاحِلَتَهُ وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يُظِلُّهُ مِنْ الشَّمْسِ. رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 2448- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا أَوْقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (يَسْتُرُهُ مِنْ الْحَرِّ) . وَكَذَا ... قَوْلُهُ: (يُظِلُّهُ مِنْ الشَّمْسِ) . فِيهِ جَوَازُ تَظْلِيلِ الْمُحْرِمِ عَلَى رَأْسِهِ بِثَوْبٍ وَغَيْرِهِ مِنْ مَحْمِلٍ وَغَيْرِهِ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. قَوْلُهُ: (اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ) . قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ وَسَاقَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ تَغْطِيَةُ رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِقَوْلِهِ: «فَإِنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ: ... الْإِحْرَامُ. بَابُ الْمُحْرِمِ يَتَقَلَّدُ بِالسَّيْفِ لِلْحَاجَةِ. 2449- عَنْ الْبَرَاءِ بن عَازِب قَالَ: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ حَتَّى قَاضَاهُمْ لَا يُدْخِلُ مَكَّةَ سِلَاحًا إلَّا فِي الْقِرَابِ. 2450- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ

(1/658)


مُعْتَمِرًا، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ هَدْيَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَقَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يَعْتَمِرَ الْعَامَ الْمُقْبِلَ وَلَا يَحْمِلَ سِلَاحًا عَلَيْهِمْ إلَّا سُيُوفًا، وَلَا يُقِيمَ إلَّا مَا أَحَبُّوا فَاعْتَمَرَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَدَخَلَهَا كَمَا كَانَ صَالَحَهُمْ فَلَمَّا أَنْ أَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَمَرُوهُ أَنْ يَخْرُجَ فَخَرَجَ. رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُحْصَرِ نَحْرَ هَدْيِهِ حَيْثُ أُحْصِرَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (إلَّا فِي الْقِرَابِ) . بِكَسْرِ الْقَافِ وَهُوَ وِعَاءُ يَجْعَلُ فِيهِ رَاكِبُ الْبَعِيرِ سَيْفَهُ مُغْمَدًا، وَيَطْرَحُ فِيهِ الرَّاكِبُ سَوْطَهُ وَأَدَاتَهُ وَيُعَلِّقُهُ فِي الرَّحْلِ. وَفِي الْحَدِيثَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ حَمْلِ السِّلَاحِ بِمَكَّةَ لِلْعُذْرِ وَالضَّرُورَةِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فِي الْقِرَابِ كَمَا فَعَلَهُ - صلى الله عليه وسلم - فَيُخَصَّصُ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ عُمُومُ حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ: قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَحِلُّ لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلَاحَ» . فَيَكُونُ هَذَا النَّهْيُ فِيمَا عَدَا مَنْ حَمَلَهُ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجَمَاهِيرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. بَابُ مَنْعِ الْمُحْرِمِ مِنْ ابْتِدَاءِ الطِّيبِ دُونَ اسْتِدَامَتِهِ 2451- فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «وَلا ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ وَلَا زَعْفَرَانٌ» . 2452- وَقَالَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي مَاتَ: «لا تُحَنِّطُوهُ» . 2453- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ أَيَّامٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ 2454- وَلِمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبِي دَاوُد: كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى وَبِيصِ الْمِسْكِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُحْرِمٌ. 2455- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلَى مَكَّةَ فَنُضَمِّدُ جِبَاهَنَا بِالسُّكِّ الْمُطَيَّبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، فَإِذَا عَرِقَتْ إحْدَانَا سَالَ عَلَى وَجْهِهَا فَيَرَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا يَنْهَانَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 2456- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -

(1/659)


ادَّهَنَ بِزَيْتٍ غَيْرِ مُقَتَّتٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ فَرْقَدٍ السِّنْجِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَدْ تَكَلَّمَ يَحْيَى ابْنُ سَعِيدٍ فِي فَرْقَدٍ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ النَّاسُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (بِالسُّكِّ) . بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الطِّيبِ مَعْرُوفٌ. قَوْلُهُ: (غَيْرِ مُقَتَّتٍ) . قَالَ فِي الْقَامُوسِ: زَيْتٌ مُقَتَّتٌ طُبِخَ فِيهِ الرَّيَاحِينُ أَوْ خُلِطَ بِأَدْهَانٍ طَيِّبَةٍ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِادِّهَانِ بِالزَّيْتِ الَّذِي لَمْ يُخْلَطْ بِشَيْءٍ مِنْ الطِّيبِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إنَّهُ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَأْكُلَ الزَّيْتَ وَالشَّحْمَ وَالسَّمْنَ وَالشَّيْرَجَ، وَأَنْ يَسْتَعْمِلَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ بَدَنِهِ سِوَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ. انْتَهَى. قَالَ في المقنع: وَالِادِّهَان بدهنٍ غَيْر مطيب فِي رَأْسِهِ روايتان. بَابُ النَّهْيِ عَنْ أَخْذِ الشَّعْرِ إلَّا لِعُذْرٍ وَبَيَانُ فِدْيَتِهِ 2457- عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: كَانَ بِي أَذًى مِنْ رَأْسِي فَحُمِلْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ: «مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ الْجَهْدَ قَدْ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى، أَتَجِدُ شَاةً» ؟ قُلْت: لَا، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} . قَالَ: «هُوَ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ إطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ نِصْفَ صَاعٍ طَعَامًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2458- وَفِي رِوَايَةٍ: أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَالَ: «كَأَنَّ هَوَامَّ رَأْسِك تُؤْذِيكَ» ؟ فَقُلْت: أَجَلْ، قَالَ: «فَاحْلِقْهُ وَاذْبَحْ شَاةً، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ تَصَدَّقْ بِثَلَاثَةِ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 2459- وَلِأَبِي دَاوُد فِي رِوَايَةٍ: فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لِي: «احْلِقْ رَأْسَكَ وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ فَرَقًا مِنْ زَبِيبٍ أَوْ اُنْسُكْ شَاةً فَحَلَقْتُ رَأْسِي ثُمَّ نَسَكْتُ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ فِي الْفَتْحِ: الْمَحْفُوظُ عَنْ شُعْبَةَ أَنَّهُ

(1/660)


قَالَ فِي الْحَدِيثِ: نِصْفَ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ. وَالِاخْتِلَافُ عَلَيْهِ فِي كَوْنِهِ تَمْرًا أَوْ حِنْطَةً لَعَلَّهُ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ. وَأَمَّا الزَّبِيبُ فَلَمْ أَرَهُ إلَّا فِي رِوَايَةِ الْحَكَمِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَفِي إسْنَادِهَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَهُوَ حُجَّةٌ فِي الْمَغَازِي لَا فِي الْأَحْكَامِ إذَا خَالَفَ. وَالْمَحْفُوظُ رِوَايَةُ التَّمْرِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: (بَابُ الإِطْعَامِ فِي الْفِدْيَةِ نِصْفُ صَاعٍ) وَذَكَرَ الْحَدِيث. قَالَ الْحَافِظُ: أَيْ لِكُلِّ مِسْكِينَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ فَرَّقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْقَمْحِ وَغَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالْكُوفِيُّونَ: نِصْفُ صَاعٍ مِنْ قَمْحٍ وَصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَغَيْرِهِ. وَعَنْ أَحْمَدٍ رِوَايَةٌ تُضَاهِي قَوْلُهُمْ. قَالَ عِيَاضُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ. بَابُ مَا جَاءَ فِي الْحِجَامَةِ وَغَسْلِ الرَّأْسِ لِلْمُحْرِمِ 2460- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُحْرِمٌ بِلَحْيِ جَمَلٍ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2461- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2462- وَلِلْبُخَارِيِّ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي رَأْسِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ بِمَاءٍ يُقَالُ لَهُ لَحْيُ الْجَمَلِ. 2463- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٌ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ اخْتَلَفَا بِالْأَبْوَاءِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ، وَقَالَ الْمِسْوَرُ: لَا يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ قَالَ: فَأَرْسَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ، وَهُوَ يَسْتُرُ بِثَوْبٍ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ ... فَقُلْتُ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٌ أَرْسَلَنِي إلَيْكَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْأَلُكَ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَغْتَسِلُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، قَالَ: فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ، ثُمَّ قَالَ لِإِنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ: اُصْبُبْ، فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ فَقَالَ هَكَذَا رَأَيْتُهُ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ.

(1/661)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاغْتِسَالِ لِلْمُحْرِمِ. وَقَالَ الْبُخَاري: (بَابَ الْحِجَامَة لِلْمُحْرِمْ وَكَوَى ابن عُمر ابْنُهُ وَهُوَ مُحْرِمْ وَيَتَدَوَاى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيب) ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيث ابن عُمَر (احْتَجَمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُحْرِم) وَحَدشيثُ ابن بحينة (احْتَجَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُحْرِم بلحى جَمَل فِي أَوْسَط رَأْسِهِ) قَالَ الْحَافِظُ: قَوْلُهُ: (بَابَ الْحِجَامَةَ لِلْمُحْرِمْ) أَيْ هَلْ يَمْنَع مِنْهَا أَوْ تُبَاحَ لَهُ مُطْلَقًا أَوْ لِلضَّرُورَةْ. قَوْلُهُ: (وَكَوَى ابن عُمر ابْنُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ) وَصَلَ ذَلِكَ سَعِيدُ بن مَنْصوُر مِنْ طَرِيق مُجَاهِدْ قَالَ: أَصَابَ وَاقِد بن عَبْد الله بن عُمَر بِرِسَام فِي الطَّرِيق وَهُوَ مُتَوَجِّهْ إِلَى مَكَّةَ فَكَوَاه ابْنُ عُمَرَ فَأَبَانَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِلضَّرُورَةِ وَرَوَى الطَّبَرِي مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ قَالَ: إِنْ أَصَابَ الْمُحْرِمِ شَجَّهَة فَلا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ مَا حَوْلَهَا مِنَ الشَّعْرِ ثُمَّ يُدَاوِيهَا بِمَا لَيْسِ فِيهِ طِيب. قَالَ النَّوَوِيُّ: إذَا أَرَادَ الْمُحْرِمُ الْحِجَامَةَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَإِنْ تَضَمَّنَتْ قَطْعَ شَعْرٍ فَهِيَ حَرَامٌ لِقَطْعِ الشَّعْرِ، وَإِنْ لَمْ تَتَضَمَّنْهُ جَازَتْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَكَرِهَهَا مَالِكٌ. وَعَنْ الْحَسَنِ فِيهَا الْفِدْيَةُ وَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ شَعْرًا فَإِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ جَازَ قَطْعُ الشَّعْرِ وَتَجِبُ الْفِدْيَةُ، وَخَصَّ أَهْلُ الظَّاهِرِ الْفِدْيَةَ بِشَعْرِ الرَّأْسِ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: إذَا أَمْكَنَ مَسْكُ الْمَحَاجِمِ بِغَيْرِ حَلْقٍ لَمْ يَجُزْ الْحَلْقُ. وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ الْفَصْدِ وَرَبْطِ الْجُرْحِ وَالدُّمَّلِ وَقَطْعِ الْعِرْقِ وَقَلْعِ الضِّرْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّدَاوِي إذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ارْتِكَابُ مَا نُهِيَ الْمُحْرِمُ عَنْهُ مِنْ تَنَاوُلِ الطِّيبِ وَقَطْعِ الشَّعْرِ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ فِي ذَلِكَ. والله أعلم. انْتَهَى. قَالَ الْمُوَفِّقُ فِي الْمُغْنِي: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِ شَعْرِهِ إِلا مِنْ عُذْرٍ وَالأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} . بَابُ مَا جَاءَ فِي نِكَاحِ الْمُحْرِمِ وَحُكْمِ وَطْئِهِ 2464- عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكَحُ، وَلَا يَخْطُبُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَلَيْسَ لِلتِّرْمِذِيِّ فِيهِ: وَلَا يَخْطُبُ. 2465- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ امْرَأَةٍ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ وَهُوَ

(1/662)


خَارِجٌ مِنْ مَكَّةَ فَأَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ أَوْ يَحُجَّ، فَقَالَ: لَا تَتَزَوَّجْهَا وَأَنْتَ مُحْرِمٌ، نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2466- وَعَنْ أَبِي غَطَفَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا يَعْنِي: رَجُلًا تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ وَالدَّارَقُطْنِيّ. 2467- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 2468- وَلِلْبُخَارِيِّ: تَزَوَّجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ وَمَاتَتْ بِسَرِفٍ. 2469- وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَهَا حَلَالًا وَبَنَى بِهَا حَلَالًا وَمَاتَتْ بِسَرِفٍ فَدَفَنَّاهَا فِي الظُّلَّةِ الَّتِي بَنَى بِهَا فِيهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. 2470- وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ وَلَفْظُهُمَا: تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ، قَالَ: وَكَانَتْ خَالَتِي وَخَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ. 2471- وَأَبُو دَاوُد وَلَفْظُهُ قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي وَنَحْنُ حَلَالَانِ بِسَرِفٍ. 2472- وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ حَلَالًا وَبَنَى بِهَا حَلَالًا وَكُنْتُ الرَّسُولَ بَيْنَهُمَا} . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَرِوَايَةُ صَاحِبِ الْقِصَّةِ وَالسَّفِيرِ فِيهَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرُ وَأَعْرَفُ بِهَا. وَرَوَى أَبُو دَاوُد أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ قَالَ: وَهِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. 2473- وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمْ سُئِلُوا عَنْ رَجُلٍ أَصَابَ أَهْلَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ، فَقَالُوا: يَنْفُذَانِ لِوَجْهِهِمَا حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا، ثُمَّ عَلَيْهِمَا حَجٌّ قَابِلٌ وَالْهَدْيُ، قَالَ عَلِيٌّ: فَإِذَا أَهَلا بِالْحَجِّ مِنْ عَامٍ قَابِلٍ تَفَرَّقَا حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا. 2474- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ وَقَعَ بِأَهْلِهِ وَهُوَ بِمِنًى قَبْلَ

(1/663)


أَنْ يُفِيضَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْحَرَ بَدَنَةً، وَالْجَمِيعُ لِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَقُّ أنه يحرم أن يزوج المحرم أز يزوج غيره كما ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ. قَوْلُهُ: (حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا) . اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ إنَّهُ يَجِبُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِ الْحَجِّ وَهُمْ الْأَكْثَرُ. قَوْلُهُ: (ثُمَّ عَلَيْهِمَا حَجٌّ قَابِلٌ) اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: يَجِبُ قَضَاءُ الْحَجِّ الَّذِي فَسَدَ وَهُمْ الْجُمْهُورُ. قَوْلُهُ: (وَالْهَدْيُ) تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ إنَّ كَفَّارَةَ الْوَطْءِ شَاةٌ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهَا تَجِبُ بَدَنَةٌ عَلَى الزَّوْجِ وَبَدَنَةٌ عَلَى الزَّوْجَةِ وَتَجِبُ بَدَنَةُ الزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: عَلَيْهِمَا هَدْيٌ وَاحِدٌ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ وَالْأَثَرِ. قَوْلُهُ: (تَفَرَّقَا حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّة التَّفَرُّقِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لَا؟ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ وَلَا يُنْدَبُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَاللهُ أَعْلَمُ. بَابُ تَحْرِيمِ قَتْلِ الصَّيْدِ وَضَمَانِهِ بِنَظِيرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَجَزَاءُ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} . الْآيَةَ. 2475- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الضَّبُعِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ كَبْشًا وَجَعَلَهُ مِنْ الصَّيْدِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 2476- وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إنِّي أَجْرَيْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي فَرَسَيْنِ نَسْتَبِقُ إلَى ثَغْرَةِ ثَنِيَّةٍ فَأَصَبْنَا ظَبْيًا وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ فَمَاذَا تَرَى؟ فَقَالَ عُمَرُ لِرَجُلٍ بِجَنْبِهِ: تَعَالَ حَتَّى نَحْكُمَ أَنَا وَأَنْتَ، قَالَ: فَحَكَمَا عَلَيْهِ بِعَنْزٍ فَوَلَّى الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْكُمَ فِي ظَبْيٍ حَتَّى دَعَا رَجُلًا فَحَكَمَ مَعَهُ فَسَمِعَ

(1/664)


عُمَرُ قَوْلَ الرَّجُلِ فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ: هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي حَكَمَ مَعِي؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ لَوْ أَخْبَرْتَنِي أَنَّكَ تَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ لَأَوْجَعْتُكَ ضَرْبًا، ثُمَّ قَالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} . وَهَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ. 2477- وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ عُمَرَ قَضَى فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ، وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزٍ وَفِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقٍ، وَفِي الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ. 2478- وَعَنْ الْأَجْلَحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - عَنْ ... النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «فِي الضَّبُعِ إذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ كَبْشٌ، وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ، وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ» . قَالَ: وَالْجَفْرَةُ: الَّتِي قَدْ أَرْتَعَتْ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: الْأَجْلَحُ ثِقَةٌ وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: صَدُوقٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَصْلٌ أَصِيلٌ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى مَنْ قَتَلَ صَيْدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ وَيَكُونُ الْجَزَاءُ مُمَاثِلًا لِلْمَقْتُولِ وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى حُكْمِ عَدْلَيْنِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَقِيلَ: إنَّهُ لَا يُرْجَعُ إلَى حُكْمِ الْعَدْلَيْنِ إلَّا فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ، وَأَمَّا فِيمَا لَهُ مِثْلٌ فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَى مَا حَكَمَ بِهِ السَّلَفُ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّبُعَ صَيْدٌ وَأَنَّ فِيهِ كَبْشًا. قَوْلُهُ: (جَفْرَةٌ) . هِيَ الْأُنْثَى مِنْ وَلَدِ الضَّأْنِ الَّتِي بَلَغَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَفَصَلَتْ عَنْ أُمِّهَا. انْتَهَى. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْجَفْرَ مِنْ أَوْلادِ الشَّاةِ مَا عَظُمَ وَاسْتَكْرَشَ أَوْ بَلَغَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: جَفَرَ فِي حَدِيثِ حليمة ظِئْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ: كَانَ يَشُبُّ فِي الْيَوْمِ شَبَابَ الصَّبِيُّ فِي الشَّهْرِ، فَبَلَغَ سِتًا وَهُوَ جَفْرٌ، اسْتَجْفَرَ الصَّبِيُّ إِذَا قَوِيَ عَلَى الأَكْلِ، وَأَصْلُهُ فِي أَوْلادِ الْمَعَزِ إِذَا بَلَغَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَفُصِلَ عَنْ أُمِّهِ وَأَخَذَ فِي الرِّعْيِ، قِيلَ هُوَ جَفْرٌ وَالْأُنْثَى جَفْرَةٌ. انْتَهَى.

(1/665)


بَابُ مَنْعِ الْمُحْرِمِ مِنْ أَكْلِ لَحْمِ الصَّيْدِ إلَّا إذَا لَمْ يُصَدْ لِأَجْلِهِ وَلَا أَعَانَ عَلَيْهِ 2479- عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ أَنَّهُ أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: «إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلَّا أَنَّا حُرُمٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2480- وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ: لَحْمَ حِمَارِ وَحْشٍ. 2481- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَسْتَذْكِرُهُ: كَيْفَ أَخْبَرْتَنِي عَنْ لَحْمِ صَيْدٍ أُهْدِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ حَرَامٌ؟ فَقَالَ: أُهْدِيَ لَهُ عُضْوٌ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ فَرَدَّهُ وَقَالَ: «إنَّا لَا نَأْكُلُهُ إنَّا حُرُمٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 2482- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بِبَيْضِ النَّعَامِ فَقَالَ: «إنَّا قَوْمٌ حُرُمٌ أَطْعِمُوهُ أَهْلَ الْحِلِّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ 2483- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي طَلْحَةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ طَلْحَةَ وَنَحْنُ حُرُمٌ فَأُهْدِيَ لَنَا طَيْرٌ وَطَلْحَةُ رَاقِدٌ، فَمِنَّا مَنْ أَكَلَ، وَمِنَّا مَنْ تَوَرَّعَ فَلَمْ يَأْكُلْ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ طَلْحَةُ وَفَّقَ مَنْ أَكَلَهُ، وَقَالَ: أَكَلْنَاهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 2484- وَعَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَلَمَةَ الضَّمْرِيِّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَهْزٍ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدُ مَكَّةَ حَتَّى إذَا كَانُوا فِي بَعْضِ وَادِي الرَّوْحَاءِ وَجَدَ النَّاسُ حِمَارَ وَحْشٍ عَقِيرًا فَذَكَرُوهُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَقِرُّوهُ حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُهُ، فَأَتَى الْبَهْزِيُّ وَكَانَ صَاحِبَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَأْنَكُمْ بِهَذَا الْحِمَارَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبَا بَكْرٍ فَقَسَّمَهُ فِي الرِّفَاقِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ، قَالَ: ثُمَّ مَرَرْنَا حَتَّى إذَا كُنَّا بِالْأُثَايَةِ إذَا نَحْنُ بِظَبْيٍ حَاقِفٍ فِي ظِلٍّ فِيهِ سَهْمٌ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ حَتَّى يُخْبِرَ النَّاسَ عَنْهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَمَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ. 2485- وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا جَالِسًا مَعَ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ

(1/666)


النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَنْزِلٍ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَامَنَا وَالْقَوْمُ مُحْرِمُونَ وَأَنَا غَيْرُ مُحْرِمٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَأَبْصَرُوا حِمَارًا وَحْشِيًّا وَأَنَا مَشْغُولٌ أَخْصِفُ نَعْلِي فَلَمْ يُؤْذِنُونِي، وَأَحَبُّوا لَوْ أَنِّي أَبْصَرْتُهُ، فَالْتَفَتُّ فَأَبْصَرْتُهُ فَقُمْتُ إلَى الْفَرَسِ فَأَسْرَجْتُهُ ثُمَّ رَكِبْتُ وَنَسِيتُ السَّوْطَ وَالرُّمْحَ فَقُلْتُ لَهُمْ: نَاوِلُونِي السَّوْطَ وَالرُّمْحَ. فقَالُوا: وَاَللَّهِ لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ، فَغَضِبْتُ فَنَزَلْتُ فَأَخَذْتُهُمَا، ثُمَّ رَكِبْتُ فَشَدَدْتُ عَلَى الْحِمَارِ فَعَقَرْتُهُ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ وَقَدْ مَاتَ، فَوَقَعُوا فِيهِ يَأْكُلُونَهُ، ثُمَّ إنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَكْلِهِمْ إيَّاهُ وَهُمْ حُرُمٌ، فَرُحْنَا وَخَبَّأْتُ الْعَضُدَ مَعِي، فَأَدْرَكْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ» ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَنَاوَلْتُهُ الْعَضُدَ فَأَكَلَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ. 2486- وَلَهُمْ فِي رِوَايَةٍ: «هُوَ حَلَالٌ فَكُلُوهُ» . 2487- وَلِمُسْلِمٍ: «هَلْ أَشَارَ إلَيْهِ إنْسَانٌ منكم أَوْ أَمَرَهُ بِشَيْءٍ» ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: «فَكُلُوهُ» . 2488- وَلِلْبُخَارِيِّ: قَالَ: «مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا» ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: «فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا» . 2489- وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَأَحْرَمَ أَصْحَابِي وَلَمْ أُحْرِمْ، فَرَأَيْتُ حِمَارًا فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ فَاصْطَدْتُهُ، فَذَكَرْتُ شَأْنَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَذَكَرْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَحْرَمْتُ وَأَنِّي إنَّمَا اصْطَدْتُهُ لَكَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ حِينَ أَخْبَرْتُهُ أَنِّي اصْطَدْتُهُ لَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ: قَوْلُهُ: إنِّي اصْطَدْتُهُ لَكَ وَأَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ، لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرَ مَعْمَرٍ. 2490- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا أَحْسَنُ حَدِيثٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَقْيَسُ.

(1/667)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «إلَّا أَنَّا حُرُمٌ» . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «إنَّا لَا نَأْكُلُهُ، إنَّا حُرُمٌ» . وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِ الْأَكْلِ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ مُطْلَقًا. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَطَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ إنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُ لَحْمِ الصَّيْدِ مُطْلَقًا. وَالْحَقُّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلِفَةِ فَقَالُوا: أَحَادِيثُ الْقَبُولِ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا يَصِيدُهُ الْحَلَالُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ يُهْدِي مِنْهُ لِلْحُرُمِ وَأَحَادِيثُ الرَّدِّ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا صَادَهُ الْحَلَالُ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْجَمْعَ حَدِيثُ جَابِرٍ. قَوْلُهُ: (حَتَّى إذَا كُنَّا بِالْأُثَايَةِ إذَا نَحْنُ بِظَبْيٍ حَاقِفٍ فِي ظِلٍّ فِيهِ سَهْمٌ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ حَتَّى يُخْبِرَ النَّاسَ عَنْهُ) . قَالَ الشَّارِحُ: إنَّمَا لَمْ يَأْذَنْ لِمَنْ مَعَهُ بِأَكْلِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ حَيٌّ وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ ذَبْحُ الصَّيْدِ الْحَيِّ. الثَّانِي: أَنَّ صَاحِبَهُ الَّذِي رَمَاهُ قَدْ صَارَ أَحَقَّ بِهِ فَلَا يَجُوزُ أَكْلُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ وَلِهَذَا قَالَ - صلى الله عليه وسلم - فِي حِمَارِ الْبَهْزِيِّ: «أَقِرُّوهُ حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُهُ» . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ لِلرَّئِيسِ إذَا رَأَى صَيْدًا لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِ نَفْسِهِ بِالْهَرَبِ إمَّا لِضَعْفٍ فِيهِ أَوْ لِجِنَايَةٍ أَصَابَتْهُ أَنْ يَأْمُرَ مَنْ يَحْفَظُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ. بَابُ صَيْدِ الْحَرَمِ وَشَجَرِهِ 2491- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَامٌ لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ إلَّا لِمُعَرِّفٍ فَقَالَ الْعَبَّاسُ إلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ لِلْقُيُونِ وَالْبُيُوتِ، فَقَالَ: إلَّا الْإِذْخِرَ. 2492- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ قَالَ: «لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدٍ» . فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّا نَجْعَلُهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إلَّا الْإِذْخِرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَفِي لَفْظٍ لَهُمْ: لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، بَدَلَ قَوْلِهِ: لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا. وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّ غُلَامًا مِنْ قُرَيْشٍ قَتَلَ حَمَامَةً مِنْ حَمَامِ مَكَّةَ، فَأَمَرَ ابْنُ

(1/668)


عَبَّاسٍ أَنْ يُفْدِيَ عَنْهُ بِشَاةٍ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. قَوْلُهُ: (لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أي لا يُقْطَعُ. وَفِي روايةِ للبخاري: (لَا يُعْضَدُ شَجَرة) . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: خَصَّ الْفُقَهَاءُ الشَّجَرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بِمَا يُنْبِتُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ صَنِيعِ آدَمِيٍّ، فَأَمَّا مَا يَنْبُتُ بِمُعَالَجَةِ آدَمِيٍّ فَاخْتُلِفَ فِيهِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْجَوَازِ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَزَاءِ مَا قُطِعَ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَقَالَ مَالِكٌ: لَا جَزَاءَ فِيهِ بَلْ يَأْثَمُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَسْتَغْفِرُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُؤْخَذُ بِقِيمَتِهِ هَدْيٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي الْعَظِيمَةِ بَقَرَةٌ وَفِيمَا دُونَهَا شَاةٌ. قَوْلُهُ: (وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ) الْخَلَا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مَقْصُورٌ وَهُوَ الرَّطْبُ مِنْ النَّبَاتِ وَاخْتِلَاؤُهُ: قَطْعُهُ وَاحْتِشَاشُهُ. بَابُ مَا يُقْتَلُ مِنْ الدَّوَابِّ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ 2493- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقَتْلِ خَمْسِ فَوَاسِقَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ وَالْعَقْرَبِ، وَالْفَأْرَةِ، وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2494- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ: الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ. 2495- وَفِي لَفْظٍ: خَمْسٌ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ: الْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْغُرَابُ، وَالْحُدَيَّا، وَالْكَلْبُ، الْعَقُورُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 2496- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ مُحْرِمًا بِقَتْلِ حَيَّةٍ بِمِنًى. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 2497- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسُئِلَ: مَا يَقْتُلُ الرَّجُلُ مِنْ الدَّوَابِّ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ فَقَالَ: حَدَّثَتْنِي إحْدَى نِسْوَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكَلْبِ

(1/669)


الْعَقُورِ، وَالْفَأْرَةِ، وَالْعَقْرَبِ، وَالْحِدَأَةِ، وَالْغُرَابِ، وَالْحَيَّةِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 2498- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «خَمْسٌ كُلُّهُنَّ فَاسِقَةٌ يَقْتُلُهُنَّ الْمُحْرِمُ وَيُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ: الْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْحَيَّةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْغُرَابُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (خَمْسُ) ذِكْرُ الْخَمْسِ يُفِيدُ بِمَفْهُومِهِ نَفْيَ هَذَا الْحُكْمِ عَنْ غَيْرِهَا، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَعَلَى تَقْدِيرِ اعْتِبَارِهِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ - صلى الله عليه وسلم - أَوَّلًا ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ غَيْرَ الْخَمْسِ تَشْتَرِكُ مَعَهَا فِي ذَلِكَ. فَقَدْ وَرَدَ زِيَادَةُ الْحَيَّةِ وَالسَّبُعَ الْعَادِيَ وَالذِّئْبَ وَالنَّمِرَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ تَفْضِيلِ مَكَّةَ عَلَى سَائِرِ الْبِلَادِ 2499- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ ابْنِ الْحَمْرَاءِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْحَزْوَرَةِ فِي سُوقِ مَكَّةَ: «وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 2500- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِمَكَّةَ: «مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبُّكِ إلَيَّ، وَلَوْلا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ خَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَحَبُّهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبِذَلِكَ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: إنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ الْمَدِينَةِ. بَابُ حَرَمِ الْمَدِينَةِ وَتَحْرِيمِ صَيْدِهِ وَشَجَرِهِ 2501- عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إلَى ثَوْرٍ» . مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ. 2502- وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَدِينَةِ: «لَا يُخْتَلَى

(1/670)


خَلَاهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إلَّا لِمَنْ أَشَادَ بِهَا، وَلَا يَصْلُحُ لِرَجُلٍ أَنْ يَحْمِلَ فِيهَا السِّلَاحَ لِقِتَالٍ وَلَا يَصْلُحُ أَنْ تُقْطَعَ فِيهَا شَجَرَةٌ إلَّا أَنْ يَعْلِفَ رَجُلٌ بَعِيرَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 2503- وَعَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2504- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ وَجَعَلَ اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا حَوْلَ الْمَدِينَةِ حِمًى. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2505- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْمَدِينَةِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحَرِّمُ شَجَرَهَا أَنْ يُخْبَطَ أَوْ يُعْضَدَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2506- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا مِثْلَ مَا حَرَّمَ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2507- وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ كَذَا إلَى كَذَا لَا يُقْطَعُ شَجَرُهَا وَلَا يُحْدَثُ فِيهَا حَدَثٌ، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» . 2508- وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسًا أَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ هِيَ حَرَامٌ وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. 2509- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ حَرَامٌ مَا بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا أَنْ لَا يُهْرَاقَ فِيهَا دَمٌ وَلَا يُحْمَلَ فِيهَا سِلَاحٌ وَلَا يُخْبَطَ فِيهَا شَجَرٌ إلَّا لِعَلْفٍ» . 2510- وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا لَا يُقْطَعُ عِضَاهُهَا وَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ.

(1/671)


2511- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي الْمَدِينَةِ: «حَرَامٌ مَا بَيْنَ حَرَّتَيْهَا وَحِمَاهَا كُلِّهَا لَا يُقْطَعُ شَجَرُهُ إلَّا أَنْ يُعْلَفَ مِنْهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2512- وَعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ أَنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهَا أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا» . 2513- وَعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ سَعْدًا رَكِبَ إلَى قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا أَوْ يَخْبِطُهُ فَسَلَبَهُ فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ جَاءَهُ أَهْلُ الْعَبْدِ فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى غُلَامِهِمْ أَوْ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ مِنْ غُلَامِهِمْ، فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ. رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 2514- وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَيْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَخَذَ رَجُلًا يَصِيدُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ الَّذِي حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَلَبَهُ ثِيَابَهُ فَجَاءَ مَوَالِيهِ فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَرَّمَ هَذَا الْحَرَمَ وَقَالَ: مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَصِيدُ فِيهِ شَيْئًا فَلَكُمْ سَلَبُهُ» . فَلَا أَرُدُّ عَلَيْكُمْ طُعْمَةً أَطْعَمَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَكِنْ إنْ شِئْتُمْ أُعْطِيكُمْ ثَمَنَهُ أَعْطَيْتُكُمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2515- وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ فِيهِ: مَنْ أَخَذَ أَحَدًا يَصِيدُ فِيهِ فَلْيَسْلُبْهُ ثِيَابَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُقْطَعَ فِيهَا شَجَرَةٌ) ... اسْتَدَلَّ بِهَذَا - وَبِمَا فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ مِنْ تَحْرِيمِ شَجَرِهَا ... وَخَبْطِهِ وَعَضُدِهِ وَتَحْرِيمِ صَيْدِهَا وَتَنْفِيرِهِ - الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ لِلْمَدِينَةِ حَرَمًا كَحَرَمِ مَكَّةَ يَحْرُمُ صَيْدُهُ وَشَجَرُهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ: فَإِنْ قَتَلَ صَيْدًا أَوْ قَطَعَ شَجَرًا فَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلنُّسُكِ فَأَشْبَهَ الْحِمَى. قَوْلُهُ: «إلَّا أَنْ يَعْلِفَ رَجُلٌ بَعِيرَهُ» . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْأَشْجَارِ لِلْعَلْفِ لَا لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَبِقِصَّةِ سَعْدٍ هَذِهِ احْتَجَّ مَنْ قَالَ: إنَّ مَنْ صَادَ مِنْ حَرَمِ الْمَدِينَةِ أَوْ قَطَعَ مِنْ شَجَرِهَا أُخِذَ سَلَبُهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي صَيْدِ وَجٍّ 2516- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَيْبَانُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ

(1/672)


عَنْ الزُّبَيْرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ صَيْدَ وَجٍّ وَعِضَاهَهُ حَرَمٌ مُحَرَّمٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَلَفْظُهُ: 2517- إنَّ صَيْدَ وَجٍّ حَرَامٌ قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَلَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (ابْنُ شَيْبَانُ) هَكَذَا فِي النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَالصَّوَابُ ابْنُ إنْسَانٍ كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَتَارِيخِ الْبُخَارِيِّ. قَوْلُهُ: (وَجٍّ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ: هُوَ أَرْضٌ بِالطَّائِفِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَقَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ وَادٍ بِالطَّائِفِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ صَيْدِ وَجٍّ وَشَجَرِهِ. وَقَدْ ذَهَبَ إلَى كَرَاهَتِهِ الشَّافِعِيُّ وَالْإِمَامُ يَحْيَى.

(1/673)


أَبْوَابُ دُخُولِ مَكَّةَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بَابُ مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ إلَيْهَا 2518- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا دَخَلَ مَكَّةَ دَخَلَ مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي بِالْبَطْحَاءِ، وَإِذَا خَرَجَ خَرَجَ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ. 2519- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا جَاءَ مَكَّةَ دَخَلَ مِنْ أَعْلَاهَا وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا. 2520- وَفِي رِوَايَةٍ: دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءَ الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا وَرَوَى الثَّانِيَ أَبُو دَاوُد، وَزَادَ: وَدَخَلَ فِي الْعُمْرَةِ مِنْ كُدًى. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا) هِيَ الَّتِي يُنْزَلُ مِنْهَا إلَى بَابِ الْمُعَلَّى مَقْبَرَةِ أَهْلِ مَكَّةَ وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْحَجُونُ. قَوْلُهُ: (وَدَخَلَ فِي الْعُمْرَةِ مِنْ كُدًى) وَهِيَ الثَّنِيَّةُ السُّفْلَى عِنْدَ بَابِ الشَّبِيكَةِ بِقُرْبِ شِعْبِ الشَّامِيِّينَ مِنْ نَاحِيَةِ قُعَيْقِعَانَ. بَابُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ إذَا رَأَى الْبَيْتَ وَمَا يُقَالُ عِنْدَ ذَلِكَ 2521- عَنْ جَابِرٍ وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَرَى الْبَيْتَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فَقَالَ: قَدْ حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ ... وَالتِّرْمِذِيُّ.

(1/674)


2522- وَعَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: حَدَّثْتُ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «تُرْفَعُ الْأَيْدِي فِي الصَّلَاةِ، وَإِذَا رَأَى الْبَيْتَ، وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَعَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وَبِجَمْعٍ، وَعِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ، وَعَلَى الْمَيِّتِ» . 2523- وَعَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا رَأَى الْبَيْتَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً، وَزِدْ مِنْ شَرَفِهِ وَكَرَمِهِ مِمَّنْ حَجَّهُ وَاعْتَمَرَهُ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَبِرًّا» . رَوَاهُمَا الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعَدَ ذِكْرِ أَحَادِيِثِ الْبَابِ: وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّة رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ وَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَأَمَّا الدُّعَاءُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ فَقَدْ رُوِيَتْ فِيهِ أَخْبَارٌ وَآثَارٌ مِنْهَا مَا فِي الْبَابِ، وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُغْلِسِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ إذَا نَظَرَ إلَى الْبَيْتِ قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ. بَابُ طَوَافِ الْقُدُومِ وَالرَّمَلِ وَالِاضْطِبَاعِ فِيهِ 2524- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا طَافَ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ خَبَّ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا، وَكَانَ يَسْعَى بِبَطْنِ الْمَسِيلِ إذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. 2525- وَفِي رِوَايَةٍ: رَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْحِجْرِ إلَى الْحِجْرِ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا. 2526- وَفِي رِوَايَةٍ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا طَافَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَوَّلَ مَا يَقْدُمُ فَإِنَّهُ يَسْعَى ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ بِالْبَيْتِ وَيَمْشِي أَرْبَعَةً. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ. 2527- وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - طَافَ مُضْطَبِعًا وَعَلَيْهِ بُرْدٌ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

(1/675)


2528- وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ: بِبُرْدٍ لَهُ أَخْضَرَ، وَأَحْمَدُ وَلَفْظُهُ: 2529- لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ طَافَ بِالْبَيْتِ وَهُوَ مُضْطَبِعٌ بِبُرْدٍ لَهُ حَضْرَمِيٍّ. 2530- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابَهُ اعْتَمَرُوا مِنْ جِعْرَانَةَ فَرَمَلُوا بِالْبَيْتِ وَجَعَلُوا أَرْدِيَتَهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ، ثُمَّ قَذَفُوهَا عَلَى عَوَاتِقِهِمْ الْيُسْرَى. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 2531- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2532- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّتِهِ وَفِي عُمَرِهِ كُلِّهَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَالْخُلَفَاءُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2533- وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: فِيمَا الرَّمَلَانُ الْآنَ وَالْكَشْفُ عَنْ الْمَنَاكِبِ وَقَدْ أَطَأ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَنَفَى الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ وَمَعَ ذَلِكَ لَا نَدَعُ شَيْئًا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 2534- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَرْمُلْ فِي السَّبْعِ الَّذِي أَفَاضَ فِيهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (الطَّوَافَ الْأَوَّلَ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّمَلَ إنَّمَا يُشْرَعُ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ؛ لِأَنَّهُ الطَّوَافُ الْأَوَّلُ. قَوْلُهُ: (خَبَّ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا) الْخَبَبُ هُوَ إسْرَاعُ الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَا وَهُوَ كَالرَّمَلِ. قَوْلُهُ: (مِنْ الْحِجْرِ إلَى الْحِجْرِ) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَرْمُلُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْوَاطٍ كَامِلَةٍ، قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَلَا يُشْرَعُ تَدَارُكُ الرَّمَلِ فَلَوْ تَرَكَهُ فِي الثَّلَاثَةِ لَمْ يَقْضِهِ فِي الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّ هَيْئَتَهَا السَّكِينَةُ، وَيَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ فَلَا رَمَلَ عَلَى النِّسَاءِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ اختلف فِي وُجُوبِ طَوَافِ الْقُدُومِ. قَالَ: وَالْحَقُّ الْوُجُوبُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ - صلى الله عليه وسلم - مُبَيِّنٌ لِمُجْمَلٍ وَاجِبٍ هُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ

(1/676)


حِجُّ الْبَيْتِ} . وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . وَقَوْلُهُ: «حُجُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أَحُجُّ» . وَهَذَا الدَّلِيلُ يَسْتَلْزِمُ وُجُوبَ كُلِّ فِعْلٍ فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجِّهِ إلَّا مَا خَصَّهُ دَلِيلٌ فَمَنْ ادَّعَى عَدَمَ وُجُوبِ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ فِي الْحَجِّ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ على ذَلِكَ. قَوْلُهُ: (مُضْطَبِعًا) . الِاضْطِبَاعُ: أَنْ يُدْخِلَ رِدَاءَهُ تَحْتَ إبِطِهِ الْأَيْمَنِ وَيَرُدَّ طَرَفَهُ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ وَيَكُونَ مَنْكِبُهُ الْأَيْمَنُ مَكْشُوفًا. وَالْحِكْمَةُ فِي فِعْلِهِ أَنَّهُ يُعِينُ عَلَى إسْرَاعِ الْمَشْيِ وَقَدْ ذَهَبَ إلَى اسْتِحْبَابِهِ الْجُمْهُورُ. قَوْلُهُ: (وَفِي عُمَرِهِ كُلِّهَا) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّة الرَّمَلِ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ. قَوْلُهُ: (أَطَأ) أَصْلُهُ وَطَى فَأُبْدِلَتْ الْوَاوُ هَمْزَةً كَمَا فِي وَقَّتَ وَأَقَّتَ، وَمَعْنَاهُ مَهَّدَ وَثَبَّتَ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ عُمَرَ كَانَ قَدْ هَمَّ بِتَرْكِ الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ؛ لِأَنَّهُ عُرِفَ سَبَبُهُ وَقَدْ انْقَضَى فَهَمَّ أَنْ يَتْرُكَهُ لِفَقْدِ سَبَبِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حِكْمَةٌ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهَا فَرَأَى أَنَّ الِاتِّبَاعَ أَوْلَى. وَيُؤَيِّدُ مَشْرُوعِيَّة الرَّمَلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ رَمَلُوا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. بَابُ مَا جَاءَ فِي اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَتَقْبِيلِهِ، وَمَا يُقَالُ حِينَئِذٍ 2535- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَأْتِي هَذَا الْحَجَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ، وَيَشْهَدُ لِمَنْ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ. 2536- وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُقَبِّلُ الْحَجَرَ وَيَقُولُ: إنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 2537- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسُئِلَ عَنْ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ فَقَالَ: رَأَيْتُ ... رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُهُ ثُمَّ يُقَبِّلُهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

(1/677)


2538- وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ بِيَدِهِ ثُمَّ قَبَّلَ يَدَهُ وَقَالَ: مَا تَرَكْتُهُ مُنْذُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2539- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طَافَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2540- وَفِي لَفْظٍ: طَافَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى بَعِيرٍ كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ وَكَبَّرَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 2541- وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ وَيُقَبِّلُ الْمِحْجَنَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 2542- وَعَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ: «يَا عُمَرُ إنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ لَا تُزَاحِمْ عَلَى الْحَجَرِ فَتُؤْذِيَ الضَّعِيفَ إنْ وَجَدْتَ خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ وَإِلَّا فَاسْتَقْبِلْهُ وَهَلِّلْ وَكَبِّرْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ) . قَالَ الطَّبَرِيُّ: إنَّمَا قَالَ عُمَرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَخَشِيَ أَنْ يَظُنَّ الْجُهَّالُ أَنَّ اسْتِلَامَ الْحَجَرِ مِنْ بَابِ تَعْظِيمِ الْأَحْجَارِ كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَرَادَ أَنْ يُعْلِمَ النَّاسَ أَنَّ اسْتِلَامَهُ اتِّبَاعٌ لِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا؛ لِأَنَّ الْحَجَرَ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ بِذَاتِهِ كَمَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَعْبُدُ الْأَوْثَانَ. قَوْلُهُ: (وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -) إلَى آخِرِهِ. فِيهِ اسْتِحْبَابُ تَقْبِيلِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. قَوْلُهُ: قَالَ لَهُ: «يَا عُمَرَ إنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ» . إلَى آخِرِهِ. فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلُ قُوَّةٍ أَنْ يُضَايِقَ النَّاسَ إذَا اجْتَمَعُوا عَلَى الْحَجَرِ لِمَا يَتَسَبَّبُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ أَذِيَّةِ الضُّعَفَاءِ وَالْإِضْرَارِ بِهِمْ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَلِمُهُ خَالِيًا إنْ تَمَكَّنَ وَإِلَّا اكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ مُسْتَقْبِلًا لَهُ.

(1/678)


بَابُ اسْتِلَامِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ مَعَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ دُونَ الْآخَرَيْنِ 2543- عَنْ ابْنِ عُمَرَ ر أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ مَسْحَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَالرُّكْنِ الْأَسْوَدِ يَحُطُّ الْخَطَايَا حَطًّا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 2544- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمْ أَرَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَمَسُّ مِنْ الْأَرْكَانِ إلَّا الْيَمَانِيَيْنِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ. 2545- لَكِنْ لَهُ مَعْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ. 2546- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ لَا يَدَعُ أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ وَالرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ فِي كُلِّ طَوَافِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 2547- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَيَضَعُ خَدَّهُ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. 2548- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ قَبَّلَهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُ كَانَ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَيَضَعُ خَدَّهُ عَلَيْهِ. رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى. وَفِي إسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ بْنِ هُرْمُزَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَوْلُهُ: (لَمْ أَرَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَمَسُّ مِنْ الْأَرْكَانِ إلَّا الْيَمَانِيَيْنِ) قَالَ الشَّارِحُ: وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى اسْتِلَامِ الْيَمَانِيَيْنِ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ إنَّهُمَا عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ دُونَ الشَّامِيَّيْنِ وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بَعْدَ عِمَارَتِهِ لِلْكَعْبَةِ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا كَمَا رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ الْأَزْرَقِيُّ فِي كِتَابِ مَكَّةَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلرُّكْنِ الْأَوَّلِ مِنْ الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ فَضِيلَتَانِ كَوْنُهُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَكَوْنُهُ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ، وَلِلثَّانِي الثَّانِيَةُ فَقَطْ، وَلَيْسَ لِلْآخَرَيْنِ أَعْنِي الشَّامِيَّيْنِ شَيْءٌ مِنْهُمَا فَلِذَلِكَ يُقَبَّلُ الْأَوَّلُ وَيُسْتَلَمُ الثَّانِي فَقَطْ وَلَا يُقَبَّلُ الْآخَرَانِ وَلَا يُسْتَلَمَانِ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ.

(1/679)


بَابُ الطَّائِفِ يَجْعَلُ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ وَيَخْرُجُ فِي طَوَافِهِ عَنْ الْحَجَرِ 2549- عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَتَى الْحَجَرَ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ مَشَى عَلَى يَمِينِهِ فَرَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 2550- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْحَجَرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . قُلْتُ: فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ؟ قَالَ: «إنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ» . قَالَتْ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: «فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْحَجَرَ فِي الْبَيْتِ، وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالْأَرْضِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2551- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَدْخُلَ الْبَيْتَ أُصَلِّيَ فِيهِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِي فَأَدْخَلَنِي الْحِجْرَ فَقَالَ لِي: صَلِّي فِي الْحِجْرِ إذَا أَرَدْتَ دُخُولَ الْبَيْتِ فَإِنَّمَا هُوَ قِطْعَةٌ مِنْ الْبَيْتِ وَلَكِنَّ قَوْمَكِ اسْتَقْصَرُوا حِينَ بَنَوْا الْكَعْبَةَ فَأَخْرَجُوهُ مِنْ الْبَيْتِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِيهِ إثْبَاتُ التَّنَفُّلِ فِي الْكَعْبَةِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (أَتَى الْحَجَرَ فَاسْتَلَمَهُ) إلَى آخِرِهِ، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الطَّوَافِ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ بَعْدَ اسْتِلَامِهِ. قَوْلُهُ: (ثُمَّ مَشَى عَلَى يَمِينِهِ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّة مَشْيِ الطَّائِفِ بَعْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ عَلَى يَمِينِهِ جَاعِلًا الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ وَقَدْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الطَّوَافِ الْأَكْثَرُ، قَالُوا: فَلَوْ عَكَسَ لَمْ يُجْزِهِ. قَالَ فِي الْبَحْرِ: وَلَا خِلَافَ إلَّا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُد الْأَصْفَهَانِيِّ وَأُنْكِرَ عَلَيْهِ وَهَمُّوا بِقَتْلِهِ. قَوْلُهُ: (أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ) هَذَا ظَاهِرٌ بِأَنَّ الْحِجْرَ كُلَّهُ مِنْ الْبَيْتِ، وَلَكِنَّ مُقَيَّدٌ بِرِوَايَاتٍ صَحِيحَةٍ مِنْهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكِ أَنْ يَبْنُوهُ بَعْدِي فَهَلُمِّي لِأُرِيَكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ فَأَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ.

(1/680)


قَوْلُهُ: (قَصَّرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ) . بِتَشْدِيدِ الصَّادِ أَيْ: النَّفَقَةُ الطَّيِّبَةُ الَّتِي أَخْرَجُوهَا لِذَلِكَ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْأَزْرَقِيُّ وَغَيْرُهُ، وَتَوْضِيحُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ عَنْ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِقُرَيْشٍ: لَا تُدْخِلُوا فِيهِ مِنْ كَسْبِكُمْ إلَّا طَيِّبًا وَلَا تُدْخِلُوا فِيهِ مَهْرَ بَغِيٍّ وَلَا بَيْعَ رِبًا وَلَا مَظْلَمَةٌ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ. قَوْلُهُ: (فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ) . وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ: «فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ لَنَظَرْتُ أَنْ أُدْخِلَ الْحِجْرَ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَالِمِ تَرْكُ التَّعْرِيفِ بِبَعْضِ أُمُورِ الشَّرِيعَةِ إذَا خَشِيَ نُفْرَةَ قُلُوبِ الْعَامَّةِ عَنْ ذَلِكَ. بَابُ الطَّهَارَةِ وَالسُّتْرَةِ لِلطَّوَافِ 2552- فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ» . 2553- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا إنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَدِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 2554- وَعَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْحَائِضُ تَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، إلَّا الطَّوَافَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ السَّعْيِ مَعَ الْحَدَثِ. 2555- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا نَذْكُرُ إلَّا الْحَجَّ حَتَّى جِئْنَا سَرِفَ فَطَمِثْتُ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا أَبْكِي، فَقَالَ : «مَا لَكِ لَعَلَّكِ نَفِسْتِ» ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: «هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطَهَّرِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2556- وَلِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَغْتَسِلِي. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (لَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فِي حَالِ الطَّوَافِ وَقَدْ اختلف هَلْ السَّتْرُ شَرْطٌ

(1/681)


لِصِحَّةِ الطَّوَافِ أَوْ لَا؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ شَرْطٌ. قَوْلُهُ: (تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ) لَمَّا كَانَ هَذَا الْفِعْلُ بَيَانًا لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . صَلُحَ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى الْوُجُوبِ، وَالْخِلَافُ فِي كَوْنِ الطَّهَارَةِ شَرْطًا أَوْ غَيْرَ شَرْطٍ كَالْخِلَافِ فِي السَّتْرِ. قَوْلُهُ: تَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا أَيْ: تَفْعَلُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَائِضَ تَسْعَى، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: «افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ» إلَى آخِرِهِ. وَلَكِنَّهُ قَدْ زَادَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ: «إلَّا الطَّوَافَ «مَا لَفْظُهُ: «وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» . وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَلَا شَرْطَ فِي السَّعْيِ وَلَمْ يَحْكِ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ إلَّا عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَقَدْ حَكَى ابْنُ تَيْمِيَّةَ رِوَايَةً عِنْدَهُمْ مِثْلَهُ. قَوْلُهُ: «حَتَّى تَطَهَّرِي «بِفَتْحِ التَّاءِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْهَاءِ أَيْضًا، وَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِي نَهْيِ الْحَائِضِ عَنْ الطَّوَافِ حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُهَا، وَتَغْتَسِلَ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ الْمُرَادِفَ لِلْبُطْلَانِ فَيَكُونُ طَوَافُ الْحَائِضِ بَاطِلًا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. بَابُ ذِكْرِ اللَّهِ فِي الطَّوَافِ 2557- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ بَيْنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِي وَالْحِجْرِ: « {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ: بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ. 2558- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «وُكِّلَ بِهِ - يَعْنِي الرُّكْنَ الْيَمَانِيَ سَبْعُونَ مَلَكًا، فَمَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ قَالُوا: آمِينْ» . 2559- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، مُحِيَتْ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَكُتِبَ لَهُ عَشْرُ

(1/682)


حَسَنَاتٍ، وَرُفِعَ بِهَا عَشْرُ دَرَجَاتٍ» . رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ. 2560- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَلَفْظُهُ: 2561- إنَّمَا جُعِلَ رَمْيُ الْجِمَارِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ قَدْ ذَكَرَهُ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ وَحَدِيثُهُ الثَّانِي سَاقَهُ ابْنُ مَاجَهْ هُوَ وَحَدِيثُهُ الْأَوَّلُ الْمَذْكُورُ هُنَا بِإِسْنَادٍ وَاحِدٍ وَفِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، وَهِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي التَّلْخِيصِ أَيْضًا وَقَالَ: إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد. وَذَكَرَ الْمُنْذِرِيُّ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ قَالَ: إنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَفِي الْبَابِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ: اللَّهُمَّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي وَبَارِكْ لِي فِيهِ وَاخْلُفْ عَلَيَّ كُلَّ غَائِبَةٍ لِي بِخَيْرٍ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ غَيْرَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الشَّكِّ وَالشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ وَالشِّقَاقِ وَسُوءِ الْأَخْلَاقِ» . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ حَدِيثٌ آخَرُ عِنْدَ ابْنِ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ نَاجِيَةَ بِسَنَدٍ لَهُ ضَعِيفٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ فِي ابْتِدَاءِ طَوَافِهِ: ... «بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ إيمَانًا بِكَ وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ» . قَالَ الْحَافِظُ: لَمْ أَجِدْهُ هَكَذَا وَقَدْ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَقَدْ بَيَّضَ لَهُ الْمُنْذِرِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَقُولُ إذَا اسْتَلَمْنَا قَالَ: «قُولُوا: بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ إيمَانًا بِاَللَّهِ وَتَصْدِيقًا لِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ» . قَالَ فِي التَّلْخِيصِ: وَهُوَ فِي الْأُمِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ وَفِي الْبَابِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ حَدِيثِهِ: كَانَ إذَا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ وَرَوَى الْعُقَيْلِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِهِ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَلِمَ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إيمَانًا بِكَ وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ ثُمَّ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ يَسْتَلِمَهُ. قَالَ: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّة الدُّعَاءِ بِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ فِي الطَّوَافِ. بَابُ الطَّوَافِ رَاكِبًا لِعُذْرٍ 2562- عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَدِمَتْ وَهِيَ مَرِيضَةٌ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ. 2563- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: طَافَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِمِحْجَنِهِ لَأَنْ يَرَاهُ النَّاسُ وَلِيُشْرِفَ وَيَسْأَلُوهُ فَإِنَّ النَّاسَ غَشَّوْهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 2564- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: طَافَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرِهِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ النَّاسَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 2565- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ مَكَّةَ وَهُوَ يَشْتَكِي فَطَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَنَاخَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 2566- وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَخْبِرْنِي عَنْ الطَّوَافِ

(1/683)


بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ رَاكِبًا أَسُنَّةٌ هُوَ؟ فَإِنَّ قَوْمَكَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ سُنَّةٌ؟ قَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا، قُلْتُ: وَمَا قَوْلُكَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا؟ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَثُرَ عَلَيْهِ النَّاسُ يَقُولُونَ هَذَا مُحَمَّدٌ، هَذَا مُحَمَّدٌ حَتَّى خَرَجَ الْعَوَاتِقُ مِنْ الْبُيُوتِ، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يُضْرَبُ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَمَّا كَثُرُوا عَلَيْهِ رَكِبَ، وَالْمَشْيُ وَالسَّعْيُ أَفْضَلُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ فِي الْفَتْحِ: لَا دَلِيلَ فِي طَوَافِهِ - صلى الله عليه وسلم - رَاكِبًا عَلَى جَوَازِ الطَّوَافِ رَاكِبًا بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَكَلَامُ الْفُقَهَاءِ يَقْتَضِي الْجَوَازَ إلَّا أَنَّ الْمَشْيَ أَوْلَى، قَالَ: وَاَلَّذِي يَتَرَجَّحُ الْمَنْعُ لِأَنَّ طَوَافَهُ - صلى الله عليه وسلم - وَكَذَا أُمُّ سَلَمَةَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُحَوَّطَ الْمَسْجِدُ. قَوْلُهُ: (لَأَنْ يَرَاهُ النَّاسُ) إلَى آخِرِهِ. فِيهِ بَيَانُ الْعِلَّةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا طَافَ - صلى الله عليه وسلم - رَاكِبًا. قَوْلُهُ: (صَدَقُوا وَكَذَبُوا) إلَى آخِرِهِ. لَفْظُ أَبِي دَاوُد: قَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا. قُلْتُ: مَا صَدَقُوا وَكَذَبُوا؟ قَالَ: صَدَقُوا قَدْ طَافَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى بَعِيرٍ، وَكَذَبُوا لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِلرَّاكِبِ لِعُذْرٍ. قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ: يَعْنِي: نَفْيَ كَوْنِ الطَّوَافِ بِصِفَةِ الرُّكُوبِ سُنَّةً، بَلْ الطَّوَافُ مِنْ الْمَاشِي أَفْضَلُ. بَابُ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِمَا وَاسْتِلَامِ الرُّكْنِ بَعْدَهُمَا 2567، 2568- رَوَاهُمَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَقَدْ سَبَقَ 2569- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا انْتَهَى إلَى مَقَامِ إبْرَاهِيمَ قَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلَّى} . فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقَرَأَ: فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، و {وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثُمَّ عَادَ إلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الصَّفَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَهَذَا لَفْظُهُ. 2570- وَقِيلَ لِلزُّهْرِيِّ: إنَّ عَطَاءَ يَقُولُ: تُجْزِئُ الْمَكْتُوبَةُ مِنْ رَكْعَتَيْ

(1/684)


الطَّوَافِ، فَقَالَ: السُّنَّةُ أَفْضَلُ لَمْ يَطُفْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أُسْبُوعًا إلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. قَوْلُهُ: (قَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلَّى} . فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَالْأَمْرُ دَالٌّ عَلَى الْوُجُوبِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: لَكِنْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ إلَى جَمِيعِ جِهَاتِ الْكَعْبَةِ فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ التَّخْصِيصِ. بَابُ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ 2571- عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي تِجْرَاةَ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالنَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ وَرَاءَهُمْ وَهُوَ يَسْعَى حَتَّى أَرَى رُكْبَتَيْهِ مِنْ شِدَّةِ السَّعْيِ تَدُورُ بِهِ إزَارُهُ وَهُوَ يَقُولُ: «اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ» . 2572- وَعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ أَنَّ امْرَأَةً أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَقُولُ: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيُ فَاسْعَوْا» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. 2573- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَتَى الصَّفَا فَعَلَا عَلَيْهِ حَتَّى نَظَرَ إلَى الْبَيْتِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيَدْعُو مَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 2574- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - طَافَ وَسَعَى، رَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ قَرَأَ: {وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} . فَصَلَّى سَجْدَتَيْنِ، وَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: « {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ، فَابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 2575- وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا دَنَا مِنْ الصَّفَا قَرَأَ: {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} . أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقَى عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ، وَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعَدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ فَقَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ نَزَلَ إلَى الْمَرْوَةِ حَتَّى

(1/685)


انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي حَتَّى إذَا صَعِدْنَا مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ بِمَعْنَاهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (تَدُورُ بِهِ إزَارُهُ) . فِي لَفْظٍ آخَرَ: (وَإِنَّ مِئْزَرَهُ لَيَدُورُ مِنْ شِدَّةِ السَّعْيِ) . وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بِهِ، يَرْجِعُ إلَى الرُّكْبَتَيْنِ أَيْ: تَدُورُ إزَارُهُ بِرُكْبَتَيْهِ. قَوْلُهُ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ» . اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِأَنَّ السَّعْيَ فَرْضٌ وَهُمْ الْجُمْهُورُ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ وَاجِبٌ يُجْبَرُ بِالدَّمِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: الْعُمْدَةُ فِي الْوُجُوبِ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . وَحَكَاهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ الْعِتْرَةِ وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ فِي النَّاسِي خِلَافَ الْعَامِدِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءُ وَعَنْهُ أَنَّهُ سُنَّةٌ لَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ وَبِهِ قَالَ أَنَسٌ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَاختلف عَنْ أَحْمَدَ كَهَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ وَقَدْ أَغْرَبَ الطَّحَاوِيُّ فَقَالَ: قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَجَّ وَلَمْ يَطُفْ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنَّ حَجَّهُ قَدْ تَمَّ وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَاَلَّذِي حَكَاهُ صَاحِبُ الْفَتْحِ وَغَيْرُهُ عَنْ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ رُكْنٌ لَا يُجْبَرُ بِالدَّمِ وَلَا يَتِمُّ الْحَجُّ بِدُونِهِ وَأَغْرَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَحَكَى أَنَّ السَّعْيَ رُكْنٌ فِي الْعُمْرَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْحَجِّ وَأَغْرَبَ أَيْضًا الْمَهْدِيُّ فِي الْبَحْرِ فَحَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى الْوُجُوبِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إنْ ثَبَتَ يَعْنِي: حَدِيثَ حَبِيبَةَ فَهُوَ حُجَّةٌ فِي الْوُجُوبِ. قُلْت: وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْوُجُوبِ حَدِيثُ مُسْلِمٍ: «مَا ... أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ امْرِئٍ وَلَا عُمْرَتَهُ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» . قَوْلُهُ: (فَعَلَا عَلَيْهِ) . اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِأَنَّ صُعُودَ الصَّفَا وَاجِبٌ وَهُوَ أَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فَقَالُوا: هُوَ سُنَّةٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِعْلَهُ - صلى الله عليه وسلم - بَيَانٌ لِمُجْمَلٍ وَاجِبٍ قَوْلُهُ: (فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيَدْعُو مَا شَاءَ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْحَمْدِ وَالدُّعَاءِ عَلَى الصَّفَا قَوْلُهُ: ... (طَافَ وَسَعَى رَمَلَ ثَلَاثًا) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْمُلَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْوَاطٍ وَيَمْشِيَ فِي الْبَاقِي قَوْلُهُ: وَاتَّخِذُوا الْآيَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الرِّوَايَاتِ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَهِيَ إحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ. قَوْلُهُ: {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} . قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الشَّعَائِرُ أَعْمَالُ الْحَجِّ وَكُلُّ مَا جُعِلَ عَلَمًا لِطَاعَةِ اللَّهِ. قَوْلُهُ: «فَابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» . بِصِيغَةِ الْأَمْرِ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَلَهُ طُرُقٌ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيّ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ أَبْدَأُ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَمَالِكٌ وَابْنُ الْجَارُودِ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا نَبْدَأُ بِالنُّونِ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْقُشَيْرِيِّ: مَخْرَجُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ وَقَدْ اجْتَمَعَ مَالِكٌ وَسُفْيَانُ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَلَى رِوَايَةِ نَبْدَأُ بِالنُّونِ الَّتِي لِلْجَمْعِ قَالَ الْحَافِظُ: وَهُمْ أَحْفَظُ مِنْ الْبَاقِينَ وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ الْبُدَاءَةَ بِالصَّفَا وَالْخَتْمَ بِالْمَرْوَةِ شَرْطٌ. وَقَالَ عَطَاءُ: يُجْزِئُ الْجَاهِلَ الْعَكْسُ وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إلَى أَنَّ مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ شَوْطٌ وَمِنْهَا إلَيْهِ شَوْطٌ آخَرُ وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ وَابْنُ خَيْرَانَ وَابْنُ جَرِيرٍ: بَلْ مِنْ الصَّفَا إلَى الصَّفَا شَوْطٌ وَيَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ مَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - فَرَغَ مِنْ آخِرِ سَعْيِهِ بِالْمَرْوَةِ. قَوْلُهُ: لَمَّا دَنَا مِنْ الصَّفَا قَرَأَ إلَى آخِرِهِ، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا تُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ الدُّنُوِّ مِنْ الصَّفَا وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ صُعُودُ الصَّفَا وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَالتَّوْحِيدُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ وَتَكْرِيرُ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ بَيْنَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يُكَرِّرُ الذِّكْرَ ثَلَاثًا وَالدُّعَاءَ مَرَّتَيْنِ فَقَطْ قَالَ النَّوَوِيُّ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: ( وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ) مَعْنَاهُ هَزَمَهُمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَلَا سَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِمْ وَالْمُرَادُ بِالْأَحْزَابِ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَكَانَ الْخَنْدَقُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنْ الْهِجْرَةِ. وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ قَوْلُهُ: (حَتَّى انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي) . قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي الْمُوَطَّأِ حَتَّى انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ. قَالَ الشَّارِحُ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ السَّعْيِ فِي بَطْنِ الْوَادِي حَتَّى يَصْعَدَ ثُمَّ يَمْشِيَ بَاقِيَ الْمَسَافَةِ إلَى الْمَرْوَةِ عَلَى عَادَةِ مَشْيِهِ، وَهَذَا السَّعْيُ مُسْتَحَبٌّ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْ الْمَرَّاتِ السَّبْعِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَالْمَشْيُ مُسْتَحَبٌّ فِيمَا قَبْلَ الْوَادِي وَبَعْدَهُ. قَوْلُهُ: (فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ عَلَيْهَا مَا يُسْتَحَبُّ عَلَى الصَّفَا مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالصُّعُودِ. بَابُ النَّهْيِ عَنْ التَّحَلُّلِ بَعْدَ السَّعْيِ إلَّا لِلمُتَمَتُّعِ إذَا لَمْ يَسُقْ هَدْيًا وَبَيَانِ مَتَى يَتَوَجَّهُ الْمُتَمَتِّعُ إلَى مِنًى، وَمَتَى يُحْرِمُ بِالْحَجِّ 2576- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ

(1/686)


بِالْحَجِّ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْحَجِّ، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ فَأَحَلُّوا حِينَ طَافُوا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، أَوْ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَمْ يُحِلُّوا إلَى يَوْمِ النَّحْرِ. 2577- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، فَقَالَ لَهُمْ: «أَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِكُمْ بِطَوَافِ الْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَصِّرُوا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَلَالًا حَتَّى إذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ وَاجْعَلُوا الَّتِي قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً» . فَقَالُوا: كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً وَقَدْ سَمَّيْنَا الْحَجَّ، فَقَالَ: «افْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ مِنِّي حَرَامٌ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ» . فَفَعَلُوا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. هُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْفَسْخِ وَعَلَى وُجُوبِ السَّعْيِ وَأَخْذِ الشَّعْرِ لِلتَّحَلُّلِ فِي الْعُمْرَةِ. 2578- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا أَحْلَلْنَا أَنْ نُحْرِمَ إذَا تَوَجَّهْنَا إلَى مِنًى فَأَهْلَلْنَا مِنْ الْأَبْطَحِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 2579- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَصَّرْتُ مِنْ رَأْسِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِشْقَصٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2580- وَلَفْظُ أَحْمَدَ: أَخَذْتُ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ بِمِشْقَصٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ. 2581- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ إذَا اسْتَطَاعَ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ بِمِنًى مِنْ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2582- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَالْفَجْرَ يَوْمَ عَرَفَةَ بِمِنًى. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 2583- وَلِأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ: قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِنًى خَمْسَ صَلَوَاتٍ.

(1/687)


2584- وَعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ عَقِلْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؟ قَالَ: بِمِنًى قُلْتُ: فَأَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ؟ قَالَ: بِالْأَبْطَحِ، ثُمَّ قَالَ: افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2585- وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إلَى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا تَشُكُّ قُرَيْشٌ أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ، وَقَالَ: «إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» . مُخْتَصَرٌ مِنْ مُسْلِمٍ. قَوْلُهُ: (فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ فَأَحَلُّوا حِينَ طَافُوا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمُعْتَمِرَ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ وَيَسْعَى. قَوْلُهُ: (وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، فَقَالَ لَهُمْ: أَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِكُمْ) . قَالَ الشَّارِحُ: أَيْ: اجْعَلُوا حَجَّكُمْ عُمْرَةً وَتَحَلَّلُوا مِنْهَا بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ. قَوْلُهُ: (قَصَّرْتُ مِنْ رَأْسِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِشْقَصٍ) أَيْ: قَالَ الشَّارِحُ: وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ أَوْ الْجِعْرَانَةِ. قَوْلُهُ: (صَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى) إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُصَلِّيَ الْحَاجُّ الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمِنًى. وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: أَنْ يَبِيتَ بِمِنًى هَذِهِ اللَّيْلَةَ وَهِيَ لَيْلَةُ التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ وَهَذَا الْمَبِيتُ سُنَّةٌ لَيْسَ بِرُكْنٍ وَلَا وَاجِبٍ فَلَوْ تَرَكَهُ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ.

(1/688)


بَابِ الْمَسِيرِ مِنْ مِنًى إلَى عَرَفَةَ وَالْوُقُوفِ بِهَا وَأَحْكَامِهِ 2586- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا وَنَحْنُ غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إلَى عَرَفَاتٍ عَنْ التَّلْبِيَةِ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: كَانَ يُلَبِّي الْمُلَبِّي فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ الْمُكَبِّرُ فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2587- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: غَدَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مِنًى حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ عَرَفَةَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَنَزَلَ بِنَمِرَةَ وَهِيَ مَنْزِلُ الْإِمَامِ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِ بِعَرَفَةَ حَتَّى إذَا كَانَ عِنْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ رَاحَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُهَجِّرًا فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ ثُمَّ رَاحَ فَوَقَفَ عَلَى الْمَوْقِفِ مِنْ عَرَفَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 2586 مكرر- وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسِ بْنِ أَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ لَامٍ الطَّائِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمُزْدَلِفَةِ حِينَ خَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي جِئْتُ مِنْ جَبَلَيْ طَيِّئٍ أَكْلَلْتُ رَاحِلَتِي وَأَتْعَبْتُ نَفْسِي، وَاَللَّهِ مَا تَرَكْتُ مِنْ حَبْلٍ إلَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ وَقَدْ وَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعَرَفَةَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَهُوَ حُجَّةٌ فِي أَنَّ نَهَارَ عَرَفَةَ كُلَّهُ وَقْتٌ لِلْوُقُوفِ. 2587 مكرر- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ أَتَوْا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ فَسَأَلُوهُ فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: الْحَجُّ عَرَفَةَ، مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ. أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ؛ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ، وَأَرْدَفَ رَجُلًا يُنَادِي بِهِنَّ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. 2588- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «نَحَرْتُ هَا هُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ، وَوَقَفْتُ هَا هُنَا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَوَقَفْتُ هَاهُنَا، وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد.

(1/689)


2589- وَلِابْنِ مَاجَهْ وَأَحْمَدَ أَيْضًا نَحْوُهُ، وَفِيهِ: وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ. 2590- وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَفَاتٍ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ يَدْعُو، فَمَالَتْ بِهِ نَاقَتُهُ فَسَقَطَ خِطَامُهَا، فَتَنَاوَلَ الْخِطَامَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَهُ الْأُخْرَى. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 2591- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ عَرَفَةَ: «لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2592- وَالتِّرْمِذِيُّ، وَلَفْظُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءِ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . 2593- وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ جَاءَ إلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ وَأَنَا مَعَهُ، فَقَالَ: الرَّوَاحَ إنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ، فَقَالَ: هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ سَالِمٌ: فَقُلْتُ لِلْحَجَّاجِ: إنْ كُنْتَ تُرِيدُ تُصِيبُ السُّنَّةَ فَاقْصُرْ الْخُطْبَةَ وَعَجِّلْ الصَّلَاةَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: صَدَقَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. 2594- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: رَاحَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلَى الْمَوْقِفِ بِعَرَفَةَ فَخَطَبَ النَّاسَ الْخُطْبَةَ الْأُولَى، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ، ثُمَّ أَخَذَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ، فَفَرَغَ مِنْ الْخُطْبَةِ وَبِلَالٌ مِنْ الْأَذَانِ، ثُمَّ أَقَامَ بِلَالٌ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. قَوْلُهُ: (غَدَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مِنًى حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ عَرَفَةَ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ تَوَجَّهَ مِنْ مِنَى حِينَ صَلَّى الصُّبْحُ بِهَا وَلَكِنْ تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ جَابِر الْمَذْكُور فِي الْبَاب الَّذِي قَبْلَ هَذَا أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَقَالَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ لا يَخْرُجُوا مِنْ مِنَى حَتَّى تَطْلَعُ الشَّمْسُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(1/690)


قَوْلُهُ: (فَنَزَلَ بِنَمِرَةَ وَهِيَ مَنْزِلُ الْإِمَامِ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِ بِعَرَفَةَ) قَالَ ابن الْحَاج الْمَالِكِي: وَهَذَا الْمَوْضِعْ يُقَالُ لَهُ: (الأَرَاك) . قَالَ الْمَاوِرْدِي: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْزِلْ بِنَمْرَةْ حَيْثُ نَزَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ السَّاقِطَةُ بِأَصْلِ الْجَبَلْ عَلَى يَمِين الذَّاهِبْ إِلَى عَرَفَات. قَوْلُهُ: (حَتَّى إذَا كَانَ عِنْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ رَاحَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُهَجِّرًا فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ) . قَالَ ابن الْمُنْذِرْ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الإِمَامَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ وَكَذَلِكَ مَنْ صَلَّى مَعَ الإِمَام. وَذَكَرَ أَصْحَاب الشَّافِعِي أَنَّهُ لا يَجُوزُ الْجَمْعُ إِلا لِمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَطَنِهِ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا إِلْحَاقًا لَهُ بِالْقَصْرِ. قَالَ: وَلَيْسَ بِصَحِيح فَإِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَمَعَ فَجَمَعَ مَعَهُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ الْمَكِّيِّين وَغَيْرِهِمْ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِتَرْكِ الْجَمْعِ كَمَا أَمَرَهُمْ بِتَرْكِ الْقَصْرِ فَقَالَ: «أَتِمُّوا فَإِنَّا سفر» . وَلَوْ حُرِّمَ الْجَمْعُ لَبَيَّنَهُ لَهُمْ إِذَا لا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ قَالَ: وَلَمْ يُبَلِّغُنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ خِلافٌ فِي الْجَمْعِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلَفَة بَلْ وَافَقَ عَلَيْهِ مَنْ لا يَرَى الْجَمْعَ فِي غَيْرِهِ. انْتَهَى. قَالَ ابن رُشْد فِي بِدَايَةِ الْمُجتهد: وَاخْتَلَفُوا إِذَا كَانَ الإِمَامُ مَكِّيًّا هَلْ يُقْصِرْ بِمَنَى الصَّلاةَ يَوْمَ التَّرْوِيَة وَبِعَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةْ وَبِالْمُزْدَلِفَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ إِنْ كَانَ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْمَوَاضِعْ. انْتَهَى. قَالَ ابنُ الْقَيِّمِ فِي الْهدي: وَهُوَ - صلى الله عليه وسلم - نَزَلَ بِنِمْرَة وَخَطَبَ بِعَرَفَة وَوَقَفَ بِعَرَفَة وَخَطَبَ خُطْبَةً وَاحِدَةً وَلَمْ تَكُنْ خُطْبَتَيْنِ جَلَسَ بَيْنَهُمَا فَلَمَّا أَتَمَّهَا أَمَرَ بِلالاً فَأَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ الصَّلاةَ فَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ أَسَرَّ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ رَكَعَتَيْنِ أَيْضًا وَمَعَهُ أَهْلُ مَكَّةَ وَصَلُّوا بِصَلاتِهِ قَصْرًا وَجَمْعًا بِلا رَيْب وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالإِتْمَامِ وَلا بِتَرْكِ الْجَمْعِ. وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ قَالَ لَهُمْ: «أَتِمُّوا صَلاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سفر» . فَقَدْ غَلَطَ فِيهِ غَلَطًا بَيِّنًا وَوَهَمَ وَهْمًا قَبِيحًا وَإِنَّمَا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي غَزَاة الْفَتْحِ بِجَوْفِ مَكَّةَ حَيْثُ كَانُوا فِي دِيَارِهِمْ مُقِيمِين. انْتَهَى. قَالَ الشَّارِحُ: قَوْلُهُ: (ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَ بَعْدَ الصَّلاة. قَوْلُهُ: «لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» تَمَسَّكَ بِهَذَا أَحْمَد بن حَنْبَل فَقَالَ: وَقْتُ الْوُقُوفِ لا يَخْتَصُّ بِمَا بَعْدَ الزَّوَالِ بَلْ وَقْتُهُ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ

(1/691)


عَرَفَة وَطُلُوعِهِ يَوْمَ الْعِيد لأنَّ لَفْظِ اللَّيْل والنَّهَار مُطْلَقَان. وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ الْحَدِيث بِأَنَّ الْمُرَاد بِالنَّهَار مَا بَعْدَ الزَّوَالِ بِدَلِيل أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - والْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِين بَعْدَهُ لَمْ يَقِفُوا إِلا بَعْدَ الزَّوَال وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ وَقَفَ قَبْلَهُ فَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا هَذَا الْفِعْلَ مُقَيَّدًا لِذَلِكَ الْمطلق وَلا يُخْفَى مَا فِيهِ. قَوْلُهُ: «وَقَضَى تَفَثَهُ» قِيلَ الْمُرَاد بِهِ أَنَّهُ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ مِن الْمَنَاسِكَ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ التفَثَ مَا يَصْنَعَهُ الْمُحْرِمْ عِنْدَ حِلِّهِ مِنْ تَقْصِيرِ شَعْرٍ أَوْ حَلْقِهِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ وَنَتْفِ الإِبِطِ وَغَيْرِهِ مِنْ خِصَالِ الْفِطْرَةِ وَيُدْخِلُ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ نَحْرِ الْبُدُنِ وَقَضَاءِ جَمِيعِ الْمَنَاسِكْ لأَنَّهُ لا يَقْضِي التفَثَ إِلا بَعْدَ ذَلِكَ وَأَصْلُ التفَثَ: الْوَسَخَ وَالْقَذَرَ. قَوْلُهُ: «الْحَجُّ عَرَفَةَ» أَي الْحَجُّ الصَّحِيحُ حِجُّ مَنْ أَدْرَكَ يَوْمَ عَرَفَةَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِي: وَالْعَمَلُ عَلَى حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَن بن يعمر عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَغَيْرِهِمْ أَنَّ مَنْ لَمْ يَقَفْ بِعَرَفَاتٍ قَبْلَ الْفَجْرِ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ وَلا يُجْزِئْ عَنْهُ إِنْ جَاءَ بَعْدُ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَيَجْعَلُهَا عُمْرَةً وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِل وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِي وَأَحْمَدْ وَغَيْرُهُمَا. قَوْلُهُ: «مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ» أَيْ لَيْلَةَ الْمَبِيتِ بِمُزْدَلَفَةْ. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَكْفِي الْوُقُوف فِي جُزْءٍ مِنْ أَرْضِ عَرَفَةَ وَلَوْ فِي لَحْظَةٍ لَطِيفَةٍ فِي هَذَا الْوَقْتُ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُور. قَوْلُهُ: «أَيَّامُ مِنَى» مَرْفُوعُ عَلَى الابتداء وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: «ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ» وَهِيَ الأَيَّامِ الْمَعْدُودَات وَأَيَّامُ التَّشْرِيق وَأَيَّامُ رَمْيِ الْجِمَار وَهِيَ الثَّلاثَةُ الَّتِي بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ وَلَيْسَ يَوْمُ النَّحْرِ مِنْهَا لإِجْمَاعِ النَّاسِ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ النَّفر يَوْم ثَانِي النَّحْرُ. قَوْلُهُ: «نَحَرْتُ هَا هُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ» يَعْنِي كُلَّ بُقْعَةٍ مِنْهَا يَصِحُّ النَّحْرُ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لََكِنَّ الأَفْضَلُ النَّحْرَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي نَحَرَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْحَرُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الأُولَى الَّتِي تَلِي مَسْجِد مِنَى كَذَا قَال ابن التِّين وَحَدَّ مِنَى مِنْ وَادِي محسر إِلَى الْعَقَبَةِ.

(1/692)


قَوْلُهُ: «وَوَقَفْتُ هَا هُنَا» يَعْنِي عِنْدَ الصَّخَرَات وَعَرَفَةْ كُلُّهَا مَوْقف يَصِحُّ الْوُقُوفُ فِيهَا وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ فِي أَيِّ جُزْءٍ كَانَ مِنْ عَرَفَاتٍ صَحَّ وُقُوفُه وَلَهَا أَرْبَعَةُ حُدُود: حَدُّ إِلَى جَادَةِ طَرِيقِ الْمَشْرِقْ. والثَّانِي: إِلَى حَافَاتِ الْجَبَلِ الَّذِي وَرَاء أَرْضِهَا. وَالثَّالِثُ: إِلَى الْبَسَاتِين الَّتِي تَلِي قَريتهَا عَلَى يَسَارِ مُسْتَقْبِلْ الْكَعْبَةِ. وَالرَّابِعُ: وَادِي عُرْنَة وَلَيْسَتْ هِيَ وَلا نمرة مِنْ عَرَفَاتٍ وَلا مِنْ الْحرم. قَوْلُهُ: (فَرَفَعَ يَدَيْهِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَرَفَة مِن الْمَوَاطِنْ الَّتِي يُشْرَعُ فِيهَا رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الدُّعَاء. بَاب الدَّفْعُ إِلَى الْمُزْدَلَفَةُ ثُمَّ مِنْهَا إِلَى مِنَى وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ 2595- عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2596- وَعَنْ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَكَانَ رَدِيفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي عَشِيَّةِ عَرَفَةَ وَغَدَاةِ جَمْعٍ لِلنَّاسِ حِينَ دَفَعُوا: «عَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ» . وَهُوَ كَافٌّ نَاقَتَهُ حَتَّى دَخَلَ مُحَسِّرًا وَهُوَ مِنْ مِنًى وَقَالَ: «عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ الَّذِي يُرْمَى بِهِ الْجَمْرَةُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 2597- وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَا حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَا اللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلًا، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى، حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا حَصَى الْخَذْفِ، رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى الْمَنْحَرِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

(1/693)


2598- وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ، فَخَالَفَهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَفَاضَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا. 2599- لَكِنْ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيرُ. 2600- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَتْ سَوْدَةُ امْرَأَةً ضَخْمَةً ثَبِطَةً، فَاسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تُفِيضَ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ، فَأَذِنَ لَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2601- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَا مِمَّنْ قَدَّمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةِ. 2602- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَذِنَ لِضَعَفَةِ النَّاسِ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2603- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْضَعَ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْمُوا بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (الْعَنَقُ) . بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَهُوَ السَّيْرُ الَّذِي بَيْنَ الْإِبْطَاءِ وَالْإِسْرَاعِ. قَوْلُهُ: (فَجْوَةً) . الْمَكَانُ الْمُتَّسَعُ. قَوْلُهُ: (نَصَّ) . أَيْ: أَسْرَعَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَيْفِيَّةُ السَّيْرِ فِي الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَةَ إلَى مُزْدَلِفَةَ لِأَجْلِ الِاسْتِعْجَالِ لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ لَا تُصَلَّى إلَّا مَعَ الْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ مِنْ الْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ عِنْدَ الزَّحْمَةِ، وَمِنْ الْإِسْرَاعِ عِنْدَ عَدَمِ الزِّحَامِ. قَوْلُهُ: (وَهُوَ كَافٌّ نَاقَتَهُ) إلَى آخِرِهِ. هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ الزِّحَامِ دُونَ غَيْرِهِ. قَوْلُهُ: (فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ) إلَى آخِرِهِ. فِيهِ اسْتِحْبَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْوُقُوفِ بِهِ إلَى الْإِسْفَارِ وَالدَّفْعِ مِنْهُ

(1/694)


قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ إلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَقِفْ بِالْمَشْعَرِ قَدْ ضَيَّعَ نُسُكًا وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ. قَوْلُهُ: (حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا) أَيْ إسْفَارًا بَلِيغًا. قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ بَلَغَ وَادِيَ مُحَسِّرٍ إنْ كَانَ رَاكِبًا أَنْ يُحَرِّكَ دَابَّتَهُ وَإِنْ كَانَ مَاشِيًا أَسْرَعَ فِي مَشْيِهِ. وَإِنَّمَا شُرِعَ الْإِسْرَاعُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَقِفُونَ فِيهِ وَيَذْكُرُونَ مَفَاخِرَ آبَائِهِمْ فَاسْتَحَبَّ الشَّارِعُ مُخَالَفَتَهُمْ. قَوْلُهُ: (ثَبِيرُ) وَهُوَ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ بِمَكَّةَ وَهُوَ أَعْظَمُ جِبَالِهَا. وَالْحَدِيثُ فِيهِ مَشْرُوعِيَّة الدَّفْعِ مِنْ الْمَوْقِفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عِنْدَ الْإِسْفَارِ. قَوْلُهُ: (ثَبِطَةً) . أَيْ: بَطِيئَةُ الْحَرَكَةِ لِعِظَمِ جِسْمِهَا. قَوْلُهُ: (فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ) . الضَّعَفَةُ هُمْ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالْخَدَمُ. وَفِي الأَحَادِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْإِفَاضَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَفِي بَقِيَّةِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ لِمَنْ كَانَ مِنْ الضَّعَفَةِ. بَابُ رَمْي جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَحْكَامِهِ 2604- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: رَمَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى وَأَمَّا بَعْدُ فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ. أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ. 2605- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْمِي الْجَمْرَةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَقُولُ: لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتَيْ هَذِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 2606- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ انْتَهَى إلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى، فَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ وَرَمَى بِسَبْعٍ وَقَالَ: هَكَذَا رَمَى الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2607- وَلِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ: جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ. 2608- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: أَنَّهُ انْتَهَى إلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَرَمَاهَا مِنْ بَطْنِ

(1/695)


الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ وَهُوَ رَاكِبٌ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا وَذَنْبًا مَغْفُورًا» . ثُمَّ قَالَ: «هَا هُنَا كَانَ يَقُومُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» . 2609- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُغَيْلِمَةَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى حُمُرَاتٍ لَنَا مِنْ جَمْعٍ، فَجَعَلَ يَلْطَحُ أَفْخَاذَنَا وَيَقُولُ: «أُبَيْنِيَّ لَا تَرْمُوا حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُهُ: 2610- قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ وَقَالَ: لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ. 2611- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَرْسَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِأُمِّ سَلَمَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ، فَرَمَتْ الْجَمْرَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ، ثُمَّ مَضَتْ فَأَفَاضَتْ، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ الَّذِي يَكُونُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْنِي: عِنْدَهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 2612- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ عِنْدَ الْمُزْدَلِفَةِ، فَقَامَتْ تُصَلِّي فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: لَا، فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ قُلْتُ: لَا، فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَارْتَحِلُوا فَارْتَحَلْنَا وَمَضَيْنَا حَتَّى رَمَتْ الْجَمْرَةَ، ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتْ الصُّبْحَ فِي مَنْزِلِهَا، فَقُلْتُ لَهَا: يَا هَنْتَاهُ مَا أُرَانَا إلَّا قَدْ غَلَّسْنَا، قَالَتْ: يَا بُنَيَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَذِنَ لِلظُّعُنِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2613- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ بِهِ مَعَ أَهْلِهِ إلَى مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ فَرَمَوْا الْجَمْرَةَ مَعَ الْفَجْرِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ (الْجَمْرَةَ) . يَعْنِي: جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ. قَوْلُهُ: (يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى) . لَا خِلَافَ أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ هُوَ الْأَحْسَنُ لِرَمْيِهَا. وَاختلف فِيمَنْ رَمَاهَا قَبْلَ الْفَجْرِ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءُ وَطَاوُسٌ وَالشَّعْبِيُّ وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالْجُمْهُورُ: إنَّهُ لَا يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَمَنْ رَمَى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَبَعْدَ

(1/696)


طُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ، وَإِنْ رَمَاهَا قَبْلَ الْفَجْرِ أَعَادَ. وَاحْتَجَّ الْمُجَوِّزُونَ لِلرَّمْيِ قَبْلَ الْفَجْرِ بِحَدِيثِ أَسْمَاءَ الْآتِي وَلَكِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالنِّسَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: السُّنَّةُ أَنْ لَا يَرْمِيَ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا يَجُوزُ الرَّمْيُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّ فَاعِلَهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ، وَمَنْ رَمَاهَا حِينَئِذٍ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ إذْ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ: لَا يُجْزِئُهُ. وَالْأَدِلَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ مِنْ بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِمَنْ كَانَ لَا رُخْصَةَ لَهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ رُخْصَةٌ كَالنِّسَاءِ وَغَيْرِهِنَّ مِنْ الضَّعَفَةِ جَازَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ النَّحْرِ إجْمَاعًا. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: (لِتَأْخُذُوا) . بِكَسْرِ اللَّامِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هِيَ لَامُ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ خُذُوا مَنَاسِكَكُمْ قَالَ: وَهَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ مُسْلِمٍ وَتَقْدِيرُ الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي أُثَبِّتُ بِهَا فِي حَجَّتِي مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْهَيْئَاتِ هِيَ أُمُورُ الْحَجِّ وَصِفَتِهِ وَالْمَعْنَى: اقْبَلُوهَا وَاحْفَظُوهَا وَاعْمَلُوا بِهَا وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ. قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الصَّلَاةِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي} . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ الْوُجُوبُ إلَّا مَا خَرَجَ بِدَلِيلٍ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ. بَابُ النَّحْرِ وَالْحِلَاقِ وَالتَّقْصِيرِ وَمَا يُبَاحُ عِنْدَهُمَا 2614- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَى مِنًى فَأَتَى الْجَمْرَةَ فَرَمَاهَا ثُمَّ أَتَى مَنْزِلَهُ بِمِنًى وَنَحَرَ، ثُمَّ قَالَ لِلْحَلَّاقِ: «خُذْ» . وَأَشَارَ إلَى جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ الْأَيْسَرِ ثُمَّ جَعَلَ يُعْطِيهِ النَّاسَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 2615- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِلْمُقَصِّرِينَ. قَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِلْمُقَصِّرِينَ. قَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِلْمُقَصِّرِينَ. قَالَ: «وَلِلْمُقَصِّرِينَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2616- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَبَّدَ رَأْسَهُ

(1/697)


وَأَهْدَى فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَمَرَ نِسَاءَهُ أَنْ يَحْلِلْنَ، قُلْنَ: مَا لَكَ أَنْتَ لَمْ تَحِلَّ؟ قَالَ: «إنِّي قَلَّدْتُ هَدْيِي وَلَبَّدْتُ رَأْسِي فَلَا أَحُلُّ حَتَّى أَحِلَّ مِنْ حَجَّتِي، وَأَحْلِقَ رَأْسِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْحَلْقِ. 2617- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ الْحَلْقُ إنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ. 2618- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا رَمَيْتُمْ الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ» . فَقَالَ رَجُلٌ: وَالطِّيبُ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا أَنَا فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُضَمِّخُ رَأْسَهُ بِالْمِسْكِ أَفَطِيبٌ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2619- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَيَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2620- وَلِلنَّسَائِيِّ: طُيِّبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِحَرَمِهِ حِينَ أَحْرَمَ وَلِحِلِّهِ بَعْدَمَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَلِلْمُقَصِّرِينَ) . هُوَ عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ قُلْ: وَلِلْمُقَصِّرِينَ وَيُسَمَّى عَطْفَ التَّلْقِينِ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ أَفَضْلُ مِنْ التَّقْصِيرِ لِتَكْرِيرِهِ - صلى الله عليه وسلم - الدُّعَاءَ لِلْمُحَلِّقِينَ وَظَاهِرُ صِيغَةِ الْمُحَلِّقِينَ أَنَّهُ يُشْرَعُ حَلْقُ جَمِيعِ الرَّأْسِ. وَقَدْ اختلف أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْحَلْقِ هَلْ هُوَ نُسُكٌ أَوْ تَحْلِيلٌ مَحْظُورٌ فَذَهَبَ إلَى الْأَوَّلِ الْجُمْهُورُ. وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْحَلْقُ عَلَى مَنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يَتَعَيَّنُ بَلْ إنْ شَاءَ قَصَّرَ. بَابُ الْإِفَاضَةِ مِنْ مِنًى لِلطَّوَافِ يَوْمِ النَّحْرِ 2621- عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ رَجَعَ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(1/698)


2622- وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - انْصَرَفَ إلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ، ثُمَّ رَكِبَ فَأَفَاضَ إلَى الْبَيْتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ. مُخْتَصَرٌ مِنْ مُسْلِمٍ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (أَفَاضَ) أَيْ طَافَ بِالْبَيْتِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِعْلُ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ يَوْمَ النَّحْرِ أَوَّلَ النَّهَارِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَذَا الطَّوَافَ وَهُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ لَا يَصِحُّ الْحَجُّ إلَّا بِهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِعْلَهُ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الرَّمْيِ وَالنَّحْرِ وَالْحَلْقِ فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْهُ وَفَعَلَهُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَجْزَأَ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنْ أَخَّرَهُ إلَى بَعْدِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَأَتَى بِهِ بَعْدَهَا أَجْزَأَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. قَوْلُهُ: (فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى) . وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: (فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ) ظَاهِرُ هَذَا التَّنَافِي. وَقَدْ جَمَعَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أَفَاضَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَطَافَ وَصَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مِنًى وَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ مَرَّةً أُخْرَى إمَامًا بِأَصْحَابِهِ كَمَا صَلَّى بِهِمْ فِي بَطْنِ نَخْلٍ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِطَائِفَةٍ وَمَرَّةً بِأُخْرَى. فَرَوَى ابْنُ عُمَرَ صَلَاتَهُ بِمِنًى وَجَابِرٌ صَلَاتَهُ بِمَكَّةَ وَهُمَا صَادِقَانِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ نَحْوَهُ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يُقَالَ: إنَّهُ صَلَّى بِمَكَّةَ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مِنًى فَوَجَدَ أَصْحَابَهُ يُصَلُّونَ الظُّهْرَ فَدَخَلَ مَعَهُمْ مُتَنَفِّلًا لِأَمْرِهِ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ لِمَنْ وَجَدَ جَمَاعَةً يُصَلُّونَ وَقَدْ صَلَّى. بَابُ مَا جَاءَ فِي تَقْدِيمِ النَّحْرِ وَالْحَلْقِ وَالرَّمْيِ وَالْإِفَاضَةِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ 2623- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَتَاهُ رَجُلٌ يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ وَاقِفٌ عِنْدَ الْجَمْرَةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ: «ارْمِ وَلَا حَرَجَ» . وَأَتَاهُ آخَرُ، فَقَالَ: إنِّي ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ: «ارْمِ وَلَا حَرَجَ» . وَأَتَاه آخَرُ فَقَالَ: إنِّي أَفَضْتُ إلَى الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ فَقَالَ: «ارْمِ وَلَا حَرَجَ» . 2624- وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَامَ

(1/699)


إلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ كَذَا قَبْلَ كَذَا ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ: كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ كَذَا قَبْلَ كَذَا حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ، نَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «افْعَلْ وَلَا حَرَجَ» . لَهُنَّ كُلِّهِنَّ فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ إلَّا قَالَ: «افْعَلْ وَلَا حَرَجَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 2625- وَلِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ: فَمَا سَمِعْتُهُ يُسْأَلُ يَوْمَئِذٍ عَنْ أَمْرٍ مِمَّا ... يَنْسَى الْمَرْءُ أَوْ يَجْهَلُ مِنْ تَقْدِيمِ بَعْضِ الْأُمُورِ قَبْلَ بَعْضٍ وَأَشْبَاهِهَا، إلَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «افْعَلُوا وَلَا حَرَجَ» . 2626- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ؟ قَالَ: «انْحَرْ وَلَا حَرَجَ» . ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إنِّي أَفَضْتُ قَبْلَ أَنْ أَحْلِقَ قَالَ: «احْلِقْ أَوْ قَصِّرْ وَلَا حَرَجَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2627- وَفِي لَفْظٍ: قَالَ: إنِّي أَفَضْتُ قَبْلَ أَنْ أَحْلِقَ قَالَ: «احْلِقْ أَوْ قَصِّرْ وَلَا حَرَجَ» . قَالَ: وَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إنِّي ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ: «ارْمِ وَلَا حَرَجَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 2628- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قِيلَ لَهُ فِي الذَّبْحِ وَالْحَلْقِ وَالرَّمْيِ وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ: فَقَالَ: «لَا حَرَجَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2629- وَفِي رِوَايَةٍ: سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ قَالَ: «اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ» . وَقَالَ: رَمَيْتُ بَعْدَمَا أَمْسَيْتُ؟ فَقَالَ: «افْعَلْ وَلَا حَرَجَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ. 2630- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: زُرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ: «لَا حَرَجَ» . قَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ قَالَ: «لَا حَرَجَ» . قَالَ: ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ: «لا حَرَجَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ بَعْضِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا عَلَى بَعْضٍ وَهِيَ الرَّمْيُ وَالْحَلْقُ وَالتَّقْصِيرُ وَالنَّحْرُ وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَهُوَ إجْمَاعٌ كَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي قَالَ فِي

(1/700)


الْفَتْحِ: إلَّا أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدَّمِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا مُتَرَتِّبَةٌ أَوَّلَهَا: رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ نَحْرُ الْهَدْيِ أَوْ ذَبْحُهُ، ثُمَّ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ ثُمَّ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ. إلى أن قَالَ الشَّارِحُ: وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ إلَى الْجَوَازِ وَعَدَمِ وُجُوبِ الدَّمِ قَالُوا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ - صلى الله عليه وسلم - (وَلَا حَرَجَ) يَقْتَضِي رَفْعَ الْإِثْمِ وَالْفِدْيَةِ مَعًا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الْحَرَجِ نَفْيُ الضِّيقِ، وَإِيجَابُ أَحَدِهِمَا فِيهِ ضِيقٌ. وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الدَّمُ وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ - صلى الله عليه وسلم -. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى تَخْصِيصِ الرُّخْصَةِ بِالنَّاسِي وَالْجَاهِلِ دُونَ الْعَامِدِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَمَا سَمِعْتُهُ يَوْمَئِذٍ يُسْأَلُ عَنْ أَمْرٍ يُنْسَى أَوْ يُجْهَلُ. وَبِقَوْلِهِ: لَمْ أَشْعُرْ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ اسْتِحْبَابِ الْخُطْبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ 2631- عَنْ الْهِرْمَاسِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ عَلَى نَاقَتِهِ الْعَضْبَاءِ يَوْمَ الْأَضْحَى بِمِنًى. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 2632- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: سَمِعْتُ خُطْبَةَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 2633- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاذٍ التَّيْمِيِّ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ بِمِنًى فَفُتِحَتْ أَسْمَاعُنَا حَتَّى كُنَّا نَسْمَعُ مَا يَقُولُ وَنَحْنُ فِي مَنَازِلِنَا، فَطَفِقَ يُعَلِّمُهُمْ مَنَاسِكَهُمْ حَتَّى بَلَغَ الْجِمَارَ، فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: بِحَصَى الْخَذْفِ ثُمَّ أَمَرَ الْمُهَاجِرِينَ فَنَزَلُوا فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ، وَأَمَرَ الْأَنْصَارَ فَنَزَلُوا مِنْ وَرَاءِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ نَزَلَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِمَعْنَاهُ. 2634- وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ: «أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا» ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ فَقَالَ: «أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ» ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «أَيُّ شَهْرٍ هَذَا» ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ» ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا» ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،

(1/701)


فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَتْ الْبَلْدَةُ» ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا إلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ» ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (يَوْمَ الْأَضْحَى بِمِنًى) . . وَهَذِهِ هِيَ الْخُطُبَةُ الثَّالِثَةُ بَعْدَ صَلاةِ الظُّهْرِ فَعَلَهَا لِيُعْلِمَ النَّاسَ بِهَا الْمَبِيت وَالرَّمْي فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَغَيْرَ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: (فَفُتِحَتْ) بِفَتْحِ الْفَاءِ الْأُولَى وَكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ بَعْدَهَا أَيْ: اتَّسَعَ سَمْعُ أَسْمَاعِنَا وَقَوِيَ مِنْ قَوْلِهِمْ قَارُورَةٌ فُتُحٌ بِضَمِّ الْفَاءِ وَالتَّاءِ أَيْ: وَاسِعَةُ الرَّأْسِ قَالَ الْكِسَائِيُّ: لَيْسَ لَهَا صِمَامٌ وَلَا غِلَافٌ. قَوْلُهُ: (فَطَفِقَ يُعَلِّمُهُمْ مَنَاسِكَهُمْ حَتَّى بَلَغَ الْجِمَارَ، فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: بِحَصَى الْخَذْفِ) قَالَ الشَّارِحُ: قَوْلُهُ: (حَتَّى بَلَغَ الْجِمَارَ) يَعْنِي: الْمَكَانَ الَّذِي تُرْمَى فِيهِ الْجِمَارُ. قَوْلُهُ: (فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَتَيْنِ) زَادَ فِي نُسْخَةٍ لِأَبِي دَاوُد فِي أُذُنَيْهِ وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَجْمَعَ لِصَوْتِهِ فِي إسْمَاعِ خُطْبَتِهِ وَعَلَى هَذَا فَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَتَقْدِيرُهُ فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ حَتَّى بَلَغَ الْجِمَارَ قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ الْقَوْلَ النَّفْسِيَّ. قَوْلُهُ: (بِحَصَى الْخَذْفِ) قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: حَصَى الْخَذْفِ صِغَارٌ مِثْلُ النَّوَى يُرْمَى بِهَا بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ. بَابُ اكْتِفَاءِ الْقَارِنِ لِنُسُكَيْهِ بِطَوَافٍ وَاحِدٍ وَسَعْيٍ وَاحِدٍ 2635- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَرَنَ بَيْنَ حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ أَجْزَأَهُ لَهُمَا طَوَافٌ وَاحِدٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ 2636- وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَجْزَأَهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ مِنْهُمَا حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

(1/702)


وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ السَّعْيِ وَوُقُوفِ التَّحَلُّلِ عَلَيْهِ. 2637- وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا» . فَقَدِمْتُ وَأَنَا حَائِضٌ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إلَيْهِ. فَقَالَ: «اُنْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي، وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ، وَدَعِي الْعُمْرَةَ» . قَالَتْ: فَفَعَلْتُ، فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ أَرْسَلَنِي مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ إلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرْتُ، فَقَالَ: «هَذِهِ مَكَانُ عُمْرَتِكِ» . قَالَتْ: فَطَافَ الَّذِينَ كَانُوا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلُّوا، ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجِّهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2638- وَعَنْ طَاوُسٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَهَلَّتْ بِالْعُمْرَةِ فَقَدِمَتْ وَلَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ حِينَ حَاضَتْ فَنَسَكْتُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا وَقَدْ أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ النَّفْرِ: «يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ» . فَأَبَتْ، فَبَعَثَ بِهَا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 2639- وَعَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا حَاضَتْ بِسَرِفٍ، فَتَطَهَّرَتْ بِعَرَفَةَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يُجْزِي عَنْكِ طَوَافُكِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى وُجُوبِ السَّعْيِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَبِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ تَمَسَّكَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَكْفِي الْقَارِنُ لِحَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ وَهُوَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُد. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ الْقَارِنَ طَوَافَانِ وَسَعْيَانِ. وَأَجَابُوا عَنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ بِأَجْوِبَةٍ مُتَعَسِّفَةٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إنْ ثَبَتَتْ الرِّوَايَةُ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - طَافَ طَوَافَيْنِ فَيُحْمَلُ عَلَى طَوَافِ الْقُدُومِ وَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ. وَأَمَّا السَّعْيُ مَرَّتَيْنِ فَلَمْ يَثْبُتْ. قَالَ الشَّارِحُ: وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَحْتَجُّ بِهِ

(1/703)


عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي لَهُمَا طَوَافٌ وَاحِدٌ حَدِيثُ: «دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَهُوَ صَحِيحٌ، وَالسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ الْمَبِيتِ بِمِنًى لَيَالٍ مِنًى وَرَمْيِ الْجِمَارِ فِي أَيَّامِهَا 2640- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ آخِرِ يَوْمٍ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مِنًى فَمَكَثَ بِهَا لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَرْمِي الْجَمْرَةَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ كُلَّ جَمْرَةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَيَقِفُ عِنْدَ الْأُولَى، وَعِنْدَ الثَّانِيَةِ فَيُطِيلُ الْقِيَامَ وَيَتَضَرَّعُ وَيَرْمِي الثَّالِثَةَ لَا يَقِفُ عِنْدَهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 2641- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: اسْتَأْذَنَ الْعَبَّاسُ ... رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ فَأَذِنَ لَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2642- وَلَهُمْ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. 2643- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: رَمَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْجِمَارَ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ. 2644- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا نَتَحَيَّنُ فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ رَمَيْنَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 2645- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا رَمَى الْجِمَارَ مَشَى إلَيْهَا ذَاهِبًا وَرَاجِعًا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 2646- وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ رَاكِبًا وَسَائِرَ ذَلِكَ مَاشِيًا وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2647- وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيُسْهِلُ فَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ طَوِيلًا وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الْوُسْطَى، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ

(1/704)


فَيُسْهِلُ فَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ يَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَقُومُ طَوِيلًا، ثُمَّ يَرْمِي الْجَمْرَةَ ذَاتَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي: وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 2648- وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ لِرُعَاءِ الْإِبِلِ فِي الْبَيْتُوتَةِ عَنْ مِنًى يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْمُونَ الْغَدَاةَ وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ لِيَوْمَيْنِ، ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 2649- وَفِي رِوَايَةٍ: رَخَّصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا يَوْمًا وَيَدَعُوا يَوْمًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 2650- وَعَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: رَجَعْنَا فِي الْحَجَّةِ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَبَعْضُنَا يَقُولُ: رَمَيْتُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَبَعْضُنَا يَقُولُ: رَمَيْتُ بِسِتِّ حَصَيَاتٍ، وَلَمْ يَعِبْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَمَكَثَ بِهَا لَيَالِي أَيَّامَ التَّشْرِيقِ) . هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمَبِيتَ بِمِنًى وَاجِبٌ وَأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ. وَقَدْ اختلف فِي وُجُوبِ الدَّمِ لِتَرْكِهِ. قَوْلُهُ: (فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ رَمَيْنَا) . هَذِهِ الرِّوَايَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ رَمْيُ الْجِمَارُ فِي غَيْرِ يَوْمِ الْأَضْحَى قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ بَلْ وَقْتُهُ بَعْدَ زَوَالِهَا. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَرَخَّصَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الرَّمْيِ يَوْمَ النَّفْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ. قَوْلُهُ: (رَخَّصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا يَوْمًا وَيَدَعُوا يَوْمًا) . قَالَ الشَّارِحُ: أَيْ: يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَرْمُوا الْيَوْمَ الْأَوَّلَ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَيَذْهَبُوا إلَى إبِلهمْ فَيَبِيتُوا عِنْدَهَا وَيَدَعُوا يَوْمَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ ثُمَّ يَأْتُوا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَيَرْمُوا مَا فَاتَهُمْ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مَعَ رَمْي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَفِيهِ تَفْسِيرٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَرْمُونَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَيَدَعُونَ رَمْيَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيَذْهَبُونَ ثُمَّ يَأْتُونَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ التَّشْرِيقِ فَيَرْمُونَ مَا فَاتَهُمْ ثُمَّ يَرْمُونَ عَنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَمَا تَقَدَّمَ وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ، فَيَجُوزُ لَهُمْ تَرْكُ الْمَبِيتِ لِلْعُذْرِ.

(1/705)


بَابُ الْخُطْبَةِ أَوْسَطُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ 2651- عَنْ سَرَّاءَ بِنْتِ نَبْهَانَ قَالَتْ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الرُّءُوسِ، فَقَالَ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا» ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «أَلَيْسَ أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ: وَكَذَلِكَ قَالَ عَمُّ أَبِي حُرَّةَ الرَّقَاشِيُّ: أنَّهُ خَطَبَ أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. 2652- وَعَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي بَكْرٍ قَالَا: رَأَيْنَا رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ بَيْنَ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَنَحْنُ عِنْدَ رَاحِلَتِهِ وَهِيَ خُطْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّتِي خَطَبَ بِمِنًى. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 2653- وَعَنْ أَبِي نَضِرَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إنَّ رَبّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إلَّا بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ» ؟ قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (يَوْمَ الرُّؤُوسِ) هُوَ الْيَوْمُ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ فِيهِ رُؤُوسَ الْأَضَاحِيِّ. قَالَ: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّة الْخُطْبَةِ فِي أَوَاسِطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. بَابُ نُزُولِ الْمُحَصَّبِ إذَا نَفَرَ مِنْ مِنًى 2654- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 2655- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْبَطْحَاءِ، ثُمَّ هَجَعَ هَجْعَةً، ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ. 2656- وَعَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنَ عُمَرَ كَانُوا يَنْزِلُونَ الْأَبْطَحَ.

(1/706)


2657- قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُ ذَلِكَ وَقَالَتْ: إنَّمَا نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَنْزِلًا أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 2658- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: نُزُولُ الْأَبْطَحِ لَيْسَ بِسُنَّةٍ إنَّمَا نَزَلَهُ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ إذَا خَرَجَ. 2559- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: التَّحْصِيبُ لَيْسَ بِشَيْءٍ إنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (لَيْسَ التَّحْصِيبُ بِشَيْءٍ) . أَيْ: مِنْ الْمَنَاسِكِ الَّتِي يَلْزَمُ فِعْلُهَا. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْخِلَافُ فِي اسْتِحْبَابِ نُزُولِ الْمُحَصَّبِ مَعَ الِاتِّفَاقِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَنَاسِكِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّحْصِيبِ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «نَحْنُ نَازِلُونَ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ قَاسَمَتْ قُرَيْشًا عَلَى الْكُفْرِ» . يَعْنِي: الْمُحَصَّبَ وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي كِنَانَةَ حَالَفَتْ قُرَيْشًا عَلَى بَنِي هَاشِمٍ أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يُؤْوُهُمْ وَلَا يُبَايِعُوهُمْ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَالْخَيْفُ الْوَادِي. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَنْفِرَ مِنْ مِنًى: «نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا» . فَذَكَرَ نَحْوَهُ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ نَفَى أَنَّهُ سُنَّةٌ كَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَنَاسِكِ فَلَا يَلْزَمُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ وَمَنْ أَثْبَتَهُ كَابْنِ عُمَرَ أَرَادَ دُخُولَهُ فِي عُمُومِ التَّأَسِّي بِأَفْعَالِهِ - صلى الله عليه وسلم - لا الْإِلْزَامِ بِذَلِكَ. بَابُ مَا جَاءَ فِي دُخُولِ الْكَعْبَةِ وَالتَّبَرُّكِ بِهَا 2660- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ عِنْدِي وَهُوَ قَرِيرُ الْعَيْنِ طَيِّبُ النَّفْسِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيَّ وَهُوَ حَزِينٌ، فَقُلْتُ لَهُ:؟ فَقَالَ: «إنِّي دَخَلْتُ الْكَعْبَةَ وَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ فَعَلْتُ، إنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ أَتْعَبْتُ أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 2661- وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْبَيْتَ

(1/707)


فَجَلَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ، ثُمَّ قَامَ إلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْبَيْتِ، فَوَضَعَ صَدْرَهُ عَلَيْهِ وَخَدَّهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ هَلَّلَ وَكَبَّرَ وَدَعَا، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْأَرْكَانِ كُلِّهَا، ثُمَّ خَرَجَ فَأَقْبَلَ عَلَى الْقِبْلَةِ - وَهُوَ عَلَى الْبَابِ - فَقَالَ: «هَذِهِ الْقِبْلَةُ، هَذِهِ الْقِبْلَةُ» . مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 2662- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَفْوَانَ قَالَ: لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ انْطَلَقْتُ فَوَافَقْتُهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ الْكَعْبَةِ وَأَصْحَابُهُ قَدْ اسْتَلَمُوا الْبَيْتَ مِنْ الْبَابِ إلَى الْحَطِيمِ، وَقَدْ وَضَعُوا خُدُودَهُمْ عَلَى الْبَيْتِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَسْطَهُمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 2663- وَعَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى: دَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْبَيْتَ فِي عُمْرَتِهِ؟ قَالَ: لَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ فَعَلْتُ) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ الْكَعْبَةَ فِي غَيْرِ عَامِ الْفَتْحِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دُخُولَ الْكَعْبَةِ لَيْسَ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. قَوْلُهُ: (وَخَدَّهُ وَيَدَيْهِ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ وَضْعِ الْخَدِّ وَالصَّدْرِ عَلَى الْبَيْتِ وَهُوَ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ، وَيُقَالُ لَهُ: الْمُلْتَزَمُ. قَوْلُهُ: (ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْأَرْكَانِ كُلِّهَا) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّة وَضْعِ الصَّدْرِ وَالْخَدِّ عَلَى جَمِيعِ الْأَرْكَانِ مَعَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالدُّعَاءِ. قَوْلُهُ: (مِنْ الْبَابِ إلَى الْحَطِيمِ) . هَذَا تَفْسِيرٌ لِلْمَكَانِ الَّذِي اسْتَلَمُوهُ مِنْ الْبَيْتِ وَالْحَطِيمُ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ كَمَا ذَكَرَهُ مُحِبُّ الدِّينِ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ: الْحَطِيمُ مَا بَيْنَ الْبَابِ إلَى الْمَقَامِ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: هُوَ مَا بَيْنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَى الْبَابِ إلَى الْمَقَامِ. وَسُمِّيَ حَطِيمًا؛ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُحَطِّمُونَ هُنَالِكَ بِالْأَيْمَانِ وَيُسْتَجَابُ فِيهِ الدُّعَاءُ لِلْمَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ وَقَلَّ مَنْ حَلَفَ هُنَاكَ كَاذِبًا إلَّا عُجِّلَتْ لَهُ الْعُقُوبَةُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(1/708)


بَابُ مَا جَاءَ فِي مَاءِ زَمْزَمَ 2664- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ ... لَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 2665- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْمِلُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَتُخْبِرُ أَنَّ ... رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَحْمِلُهُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. 2666- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَ إلَى السِّقَايَةِ فَاسْتَسْقَى، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا فَضْلُ اذْهَبْ إلَى أُمِّكَ فَائتِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشَرَابٍ مِنْ عِنْدِهَا فَقَالَ: «اسْقِنِي» . فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أَيْدِيَهُمْ فِيهِ. قَالَ: «اسْقِنِي» . فَشَرِبَ ثُمَّ أَتَى زَمْزَمَ وَهُمْ يَسْتَقُونَ وَيَعْمَلُونَ فِيهَا فَقَالَ: «اعْمَلُوا فَإِنَّكُمْ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ» . ثُمَّ قَالَ: «لَوْلَا أَنْ تُغْلَبُوا لَنَزَلْتُ حَتَّى أَضَعَ الْحَبْلَ» يَعْنِي عَلَى عَاتِقِهِ -وَأَشَارَ إلَى عَاتِقِهِ -. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 2667- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ آيَةَ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ لَا يَتَضَلَّعُونَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. 2668- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ، إنْ شَرِبْتَهُ تَسْتَشْفِي بِهِ شَفَاكَ اللَّهُ، وَإِنْ شَرِبْتَهُ يُشْبِعُكَ أَشْبَعَكَ اللَّهُ بِهِ، وَإِنْ شَرِبَتْهُ لِقَطْعِ ظَمَئِكَ قَطَعَهُ اللَّهُ وَهِيَ هَزْمَةُ جِبْرِيلَ وَسُقْيَا إسْمَاعِيلَ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأَوَّلُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ جِئْتَ قَالَ: شَرِبْتُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَشَرِبْتَ مِنْهَا كَمَا يَنْبَغِي قَالَ: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ. قَالَ: إذَا شَرِبْتَ مِنْهَا فَاسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ وَتَنَفَّسَ ثَلَاثًا وَتَضَلَّعْ مِنْهَا فَإِذَا فَرَغْتَ فَاحْمَدْ اللَّهِ. ... فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «آيَةُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ لَا يَتَضَلَّعُونَ مِنْ زَمْزَمَ» . وَحَدِيثُهُ الثَّانِي أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْحَاكِمُ وَزَادَ الدَّارَقُطْنِيّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَإِنْ شَرِبْتَهُ مُسْتَعِيذًا أَعَاذَكَ اللَّهُ قَالَ: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إذَا شَرِبَ مَاءَ زَمْزَمَ قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا وَرِزْقًا وَاسِعًا وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ.

(1/709)


قَوْلُهُ: (هَزْمَةُ) بِالزَّايِ أَيْ: حُفْرَةُ جِبْرِيلَ لِأَنَّهُ ضَرَبَهَا بِرِجْلِهِ فَنَبَعَ الْمَاءُ. بَابُ طَوَافِ الْوَدَاعِ 2669- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَنْصَرِفُونَ فِي كُلِّ وَجْهٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَنْفِرُ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 2670- وَفِي رِوَايَةٍ: أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ إلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2671- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَصْدُرَ قَبْلَ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ إذَا كَانَتْ قَدْ طَافَتْ فِي الْإِفَاضَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2672- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: حَاضَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بَعْدَمَا أَفَاضَتْ قَالَتْ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «أَحَابِسَتُنَا هِيَ» ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ وَطَافَتْ بِالْبَيْتِ ثُمَّ حَاضَتْ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ، قَالَ: «فَلْتَنْفِرْ إذًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (لَا يَنْفِرُ أَحَدٌ) إلَى آخِرِهِ. فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ طَوَافِ الْوَدَاعِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَيَلْزَمُ بِتَرْكِهِ دَمٌ. بَابُ مَا يَقُولُ إذَا قَدِمَ مِنْ حَجٍّ أَوْ غَيْرِهِ 2673- عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنْ الْأَرْضِ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: «لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (آيِبُونَ) أَيْ: رَاجِعُونَ. وَالْحَدِيثُ فِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ كُلِّ شَرَفٍ مِنْ الْأَرْضِ يَعْلُوهُ

(1/710)


الرَّاجِعُ إلَى وَطَنِهِ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ غَزْوٍ. بَابُ الْفَوَاتِ وَالْإِحْصَارِ 2674- عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ حِجَّةٌ أُخْرَى» . قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَا: صَدَقَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. 2675- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ: «مَنْ عَرَجَ أَوْ كُسِرَ أَوْ مَرِضَ» . فَذَكَرَ مَعْنَاهُ. 2676- وَفِي رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ: «مَنْ حُبِسَ بِكَسْرٍ أَوْ مَرَضٍ» . 2677- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةُ ... رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنْ الْحَجِّ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يَحِلُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلًا فَيُهْدِيَ أَوْ يَصُومَ إنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - أَنَّهُ أَمَرَ أَبَا أَيُّوبَ - صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهَبَّارَ بْنَ الْأَسْوَدِ حِينَ فَاتَهُمَا الْحَجُّ فَأَتَيَا يَوْمَ النَّحْرِ أَنْ يَحِلَّا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ يَرْجِعَا حَلَالًا ثُمَّ يَحُجَّا عَامًا قَابِلًا وَيُهْدِيَا فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ. وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ ابْنَ حُزَابَةَ الْمَخْزُومِيَّ صُرِعَ بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ فَسَأَلَ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، فَوَجَدَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَمَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ فَذَكَرَ لَهُمْ الَّذِي عَرَضَ لَهُ وَكُلُّهُمْ أَمَرَهُ أَنْ يَتَدَاوَى بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَيَفْتَدِيَ، فَإِذَا صَحَّ اعْتَمَرَ فَحَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ قَابِلًا وَيُهْدِيَ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ حُبِسَ دُونَ الْبَيْتِ بِمَرَضٍ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ لِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأ.

(1/711)


وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (لَا حَصْرَ إلَّا حَصْرُ الْعَدُوِّ) . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (مَنْ كُسِرَ) . بِضَمِّ الْكَافِ وَكَسْرِ السِّينِ. قَوْلُهُ: (أَوْ عَرَجَ) . بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ: أَيْ: أَصَابَهُ شَيْءٌ فِي رِجْلِهِ وَلَيْسَ بِخِلْقَةٍ، فَإِذَا كَانَ خِلْقَةً قِيلَ: عَرِجَ بِكَسْرِ الرَّاءِ. قَوْلُهُ: (فَقَدْ حَلَّ) . تَمَسَّكَ بِظَاهِرِ هَذَا أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد فَقَالَا: إنَّهُ يَحِلُّ فِي مَكَانِهِ بِنَفْسِ الْكَسْرِ وَالْعَرَجِ. وَأَجْمَعَ بَقِيَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرَجَ، وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فِيمَا بِهِ يَحِلُّ وَعَلَى مَنْ يُحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثُ، فَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى مَا إذَا شُرِطَ التَّحَلُّلُ بِهِ، فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ صَارَ حَلَالًا وَلَا يَلْزَمُ الدَّمُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: يَحِلُّ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ لَا يَحِلُّهُ غَيْرُهُ، وَمَنْ خَالَفَهُ مِنْ الْكُوفِيِّينَ يَقُولُ: يَحِلُّ بِالنِّيَّةِ وَالذَّبْحِ وَالْحَلْقِ. قَوْلُهُ: (أَوْ مَرِضَ) الْإِحْصَارُ لَا يَخْتَصُّ بِالْأَعْذَارِ الْمَذْكُورَةِ بَلْ كُلُّ عُذْرٍ حُكْمُهُ حُكْمُهَا كَإِعْوَازِ النَّفَقَةِ وَالضَّلَالِ فِي الطَّرِيقِ وَبَقَاءِ السَّفِينَةِ فِي الْبَحْرِ. وَبِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ: قَالَ النَّخَعِيّ وَالْكُوفِيُّونَ: الْحَصْرُ بِالْكَسْرِ وَالْمَرَضُ وَالْخَوْفُ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: لَا حَصْرَ إلَّا بِالْعَدُوِّ، وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ. وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلًا أَنَّهُ لَا حَصْرَ بَعْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْإِحْصَارِ، فَالْمَشْهُورُ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْإِحْصَارَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْمَرَضِ، وَأَمَّا بِالْعَدُوِّ فَهُوَ الْحَصْرُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ أُحْصِرَ وَحُصِرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَوْلُهُ: (حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلًا) . اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ مِنْ الْقَابِلِ عَلَى مَنْ أُحْصِرَ. قَوْلُهُ: (فَيُهْدِي) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْهَدْيِ عَلَى الْمُحْصَرِ وَلَكِنَّ الْإِحْصَارَ الَّذِي وَقَعَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّمَا وَقَعَ فِي الْعُمْرَةِ فَقَاسَ الْعُلَمَاءُ الْحَجَّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ الْإِلْحَاقِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، وَإِلَى وُجُوبِ الْهَدْيِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ.

(1/712)


وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أَحُصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} . وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ فَقَالَ: إنَّهُ لَا يَجِبُ الْهَدْيُ عَلَى الْمُحْصَرِ، وَعَوَّلَ عَلَى قِيَاسِ الْإِحْصَارِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ الصَّوْمِ لِلْعُذْرِ، وَالتَّمَسُّكُ بِمِثْلِ هَذَا الْقِيَاسِ فِي مُقَابِلِ مَا يُخَالِفُهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الْغَرَائِبِ الَّتِي يُتَعَجَّبُ مِنْ وُقُوعِ مِثْلِهَا مِنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِالْآثَارِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ عَلَى وُجُوبِ الْهَدْيِ، وَأَنَّ الْإِحْصَارَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ عَنْ ذَلِكَ، وَعَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ وَسَيَأْتِي. بَابُ تَحَلُّلِ الْمُحْصَرِ عَنْ الْعُمْرَةِ بِالنَّحْرِ ثُمَّ الْحَلْقِ حَيْثُ أُحْصِرَ مَنْ حِلٍّ أَوْ حَرَمٍ وَأَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ 2678- عَنْ الْمِسْوَرِ وَمَرْوَانَ - فِي حَدِيثِ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَالصُّلْحِ - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 2679- وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ الْمِسْوَرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ. 2680- وَعَنْ الْمِسْوَرِ وَمَرْوَانَ قَالَا: قَلَّدَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، وَأَحْرَمَ مِنْهَا بِالْعُمْرَةِ، وَحَلَقَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي عُمْرَتِهِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ، وَنَحَرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إنَّمَا الْبَدَلُ عَلَى مَنْ نَقَضَ حَجَّهُ بِالتَّلَذُّذِ، فَأَمَّا مَنْ حَبَسَهُ عَدُوٌّ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحِلُّ وَلَا يَرْجِعُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَهُوَ مُحْصَرٌ نَحَرَهُ إنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ، وَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: يَنْحَرُ هَدْيَهُ وَيَحْلِقُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ نَحَرُوا وَحَلَقُوا وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ الطَّوَافِ وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْهَدْيُ إلَى الْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرُوا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَقْضُوا شَيْئًا، وَلَا يَعُودُوا لَهُ، وَالْحُدَيْبِيَةُ

(1/713)


خَارِجُ الْحَرَمِ كُلُّ هَذَا كَلَامُ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (إنَّمَا الْبَدَلُ) إلَى آخِرِهِ. أَيْ: الْقَضَاءُ لِمَا أُحْصِرَ فِيهِ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَاحْتَجَّ الْمُوجِبُونَ لِلْقَضَاءِ بِحَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو السَّالِفِ وَهُوَ نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَقَالَ الَّذِينَ لَمْ يُوجِبُوا الْقَضَاءَ: لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَحَدًا مِمَّنْ أُحْصِرَ مَعَهُ فِي الْحُدَيْبِيَةِ بِأَنْ يَقْضِيَ وَلَوْ لَزِمَهُمْ الْقَضَاءُ لَأَمَرَهُمْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّمَا سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ وَالْقَضِيَّةِ لِلْمُقَاضَاةِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ ... النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، لَا عَلَى أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ قَضَاءَ تِلْكَ الْعُمْرَةِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَالْمُحْصِرُ بِمَرَضٍ أَوْ ذَهَاب نفقةٍ، كَالْمُحْصِرِ بِعَدُوٍّ، هُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدٍ، وَمثْلهِ حَائِض تعذر مقامها وَحَرُمَ طَوَافهَا وَرَجَعَتْ وَلَمْ تَطُفْ لِجَهْلِهَا بِوُجُوبِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ أَوْ لِعَجْزِهَا عَنْهُ أَوْ لِذَهَابِ الرَّفْقَةِ وَالْمُحْصِر يَلْزَمْهُ دَمّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَلا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ حجة إِنْ كَانَ تَطَوُّعًا وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. انْتَهَى. والله أعلم.

(1/714)


أَبْوَابُ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا بَابٌ فِي إشْعَارِ الْبُدْنِ وَتَقْلِيدِ الْهَدْيِ كُلِّهِ 2681- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ دَعَا نَاقَتَهُ فَأَشْعَرَهَا فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ وَسَلَتَ الدَّمَ عَنْهَا وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 2682- وَعَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ قَالَا: خَرَجَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْمَدِينَةِ فِي بِضْعِ عَشَرَةَ مِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى إذَا كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ قَلَّدَ ... النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 2683- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: فَتَلْتَ قَلَائِدَ بُدْنِ ... رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ أَشْعَرَهَا وَقَلَّدَهَا ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إلَى الْبَيْتِ فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ لَهُ حِلًّا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2684- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَهْدَى مَرَّةً إلَى الْبَيْتِ غَنَمًا فَقَلَّدَهَا. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَأَشْعَرَهَا) الْإِشْعَارُ أَنْ يُقْشَطَ جِلْدُ الْبَدَنَةِ حَتَّى يَسِيلَ دَمٌ ثُمَّ يَسْلِتَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَامَةً عَلَى كَوْنِهَا هَدْيًا، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ. وَقَدْ ذَهَبَ إلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ الْجُمْهُورُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ.

(1/715)


قَوْلُهُ: (وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّة تَقْلِيدِ الْهَدْيِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي تَقْلِيدِ الْهَدْيِ النَّعْلَ أَنَّ فِيهِ إشَارَةً إلَى السَّفَرِ وَالْجَدِّ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْعَرَبَ تَعُدُّ النَّعْلَ مَرْكُوبَةً لِكَوْنِهَا تَقِي صَاحِبَهَا وَتَحْمِلُ عَنْهُ وَعَرَ الطَّرِيقِ، فَكَأَنَّ الَّذِي أَهْدَى خَرَجَ عَنْ ... مَرْكُوبِهِ لِلَّهِ تَعَالَى حَيَوَانًا وَغَيْرَهُ كَمَا خَرَجَ حِينَ أَحْرَمَ عَنْ مَلْبُوسِهِ وَمِنْ ثَمَّ اُسْتُحِبَّ تَقْلِيدُ نَعْلَيْنِ لَا وَاحِدَةٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا تَتَعَيَّنُ النَّعْلُ بَلْ كُلُّ مَا قَامَ مَقَامَهَا أَجْزَأَ. بَابُ النَّهْي عَنْ إبْدَالِ الْهَدْيِ الْمُعَيَّنِ 2685- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَهْدَى عُمَرُ نَجِيبًا فَأُعْطِيَ بِهَا ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَهْدَيْت نَجِيبًا فَأُعْطِيت بِهَا ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ فَأَبِيعُهَا وَأَشْتَرِي بِثَمَنِهَا بُدْنًا، قَالَ: «لَا انْحَرْهَا إيَّاهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْهَدْيِ لِإِبْدَالِ مِثْلِهِ أَوْ أَفَضْلَ. بَابُ أَنَّ الْبَدَنَةَ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ عَنْ سَبْعِ شِيَاهٍ وَبِالْعَكْسِ 2686- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ عَلَيَّ بَدَنَةً وَأَنَا مُوسِرٌ وَلَا أَجِدُهَا فَأَشْتَرِيهَا، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبْتَاعَ سَبْعَ شِيَاهٍ فَيَذْبَحَهُنَّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 2687- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2688- وَفِي لَفْظٍ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اشْتَرِكُوا فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ كُلُّ سَبْعَةٍ فِي بَدَنَةٍ» . رَوَاهُ الْبَرْقَانِيُّ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ. 2689- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: اشْتَرَكْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ، فَقَالَ رَجُلٌ لِجَابِرٍ: أَيَشْتَرِكُ فِي الْبَقَرِ مَا يَشْتَرِكُ فِي الْجَزُورِ؟ فَقَالَ: مَا هِيَ إلَّا مِنْ الْبُدْنِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

(1/716)


2690- وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: شَرَّكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حِجَّتِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبَقَرَةِ عَنْ سَبْعَةٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2691- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ فَحَضَرَ الْأَضْحَى فَذَبَحْنَا الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَعِيرَ عَنْ عَشَرَةٍ. رَوَاهُ الْخَمْسَةِ إلَّا أَبَا دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (سَبْعَ شِيَاهٍ) وَكَذَا قَوْلُهُ: (كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ) . اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: عَدْلُ الْبَدَنَةِ سَبْعُ شِيَاهٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. قَالَ: وَظَاهِرُ أَحَادِيثِ الْبَابِ جَوَازُ الِاشْتِرَاكِ فِي الْهَدْيِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِكُونَ مُفْتَرِضِينَ أَوْ مُتَطَوِّعِينَ أَوْ بَعْضُهُمْ مُفْتَرِضًا وَبَعْضُهُمْ مُتَنَفِّلًا أَوْ مُرِيدًا لِلَّحْمِ. قَوْلُهُ: (وَالْبَعِيرَ عَنْ عَشَرَةٍ) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَدَنَةَ تُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ عَنْ عَشَرَةٍ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ. بَابُ رُكُوبِ الْهَدْيِ 2692- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا يَسُوقُ الْبَدَنَةَ فَقَالَ: ... «ارْكَبْهَا» . فَقَالَ: إنَّهَا بَدَنَةٌ. قَالَ: «ارْكَبْهَا» . قَالَ: إنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ: «ارْكَبْهَا» . ثَلَاثًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2693- وَلَهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُهُ. 2694- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً قَدْ أَجْهَدَهُ الْمَشْيُ، فَقَالَ: «ارْكَبْهَا» . قَالَ: إنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ: «ارْكَبْهَا وَإِنْ كَانَتْ بَدَنَةً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 2695- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رُكُوبِ الْهَدْيِ فَقَالَ: سَمِعْت ... رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ إذَا أُلْجِئْت إلَيْهَا، حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.

(1/717)


2696- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - أَنَّهُ سُئِلَ يَرْكَبُ الرَّجُلُ هَدْيَهُ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ قَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَمُرُّ بِالرِّجَالِ يَمْشُونَ فَيَأْمُرُهُمْ بِرُكُوبِ هَدْيِهِ، قَالَ: لَا تَتَّبِعُونَ شَيْئًا أَفْضَلَ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّكُمْ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ رُكُوبِ الْهَدْيِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مَا كَانَ مِنْهُ وَاجِبًا أَوْ تَطَوُّعًا لِتَرْكِهِ - صلى الله عليه وسلم - لِلِاسْتِفْصَالِ. وَاخْتَلَفَ مَنْ أَجَازَ الرُّكُوبَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ؟ فَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَأَجَازَهُ الْجُمْهُورُ. وَنَقَلَ عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤَجِّرُهَا. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ الْهَدْيِ يَعْطَبُ قَبْلَ الْمَحَلِّ 2697- عَنْ أَبِي قَبِيصَةَ - ذُؤَيْبِ بْنِ حَلْحَلَةَ - قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَبْعَثُ مَعَهُ بِالْبُدْنِ ثُمَّ يَقُولُ: «إنْ عَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ فَخَشِيتَ عَلَيْهَا مَوْتًا فَانْحَرْهَا ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَتَهَا، وَلَا تَطْعَمْهَا أَنْتَ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ. 2698- وَعَنْ نَاجِيَةَ الْخُزَاعِيِّ - وَكَانَ صَاحِبَ بُدْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: قُلْت: كَيْفَ أَصْنَعُ بِمَا عَطِبَ مِنْ الْبُدْنِ؟ قَالَ: «انْحَرْهُ وَاغْمِسْ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ وَاضْرِبْ صَفْحَتَهُ وَخَلِّ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهُ فَلْيَأْكُلُوهُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ. 2699- وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ صَاحِبَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَصْنَعُ بِمَا عَطِبَ مِنْ الْهَدْيِ؟ فَقَالَ: «كُلُّ بَدَنَةٍ عَطِبَتْ مِنْ الْهَدْيِ فَانْحَرْهَا ثُمَّ أَلْقِ قَلَائِدَهَا فِي دَمِهَا ثُمَّ خَلِّ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهَا يَأْكُلُوهَا» . رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ عَنْهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدِيثُ نَاجِيَةَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: صَحِيحٌ. قَالَ: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَدْيِ التَّطَوُّعِ إذَا عَطِبَ لَا يَأْكُلُ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِهِ وَيُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ يَأْكُلُونَهُ وَقَدْ أَجْزَأَ عَنْهُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَقَالُوا: إنْ أَكَلَ مِنْهُ شَيْئًا غُرِّمَ بِقَدْرِ مَا أَكَلَ مِنْهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي الْمُرَادِ بِالرُّفْقَةِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ الَّذِينَ

(1/718)


يُخَالِطُونَ الْمُهْدِي فِي الْأَكْلِ وَغَيْرِهِ دُونَ بَاقِي الْقَافِلَةِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّفْقَةِ جَمِيعُ الْقَافِلَةِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الَّذِي مُنِعَتْ بِهِ الرُّفْقَةُ هُوَ خَوْفُ تَعْطِيبِهِمْ إيَّاهُ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ الْقَافِلَةِ. بَابُ الْأَكْلِ مِنْ دَمِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَالتَّطَوُّعِ 2700- فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي صِفَة حَجَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَطُبِخَتْ فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 2701- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَجَّ ثَلَاثَ حِجَجٍ حِجَّتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ وَحِجَّةً بَعْدَمَا هَاجَرَ وَمَعَهَا عُمْرَةٌ، فَسَاقَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ بَدَنَةً، وَجَاءَ عَلِيٌّ مِنْ الْيَمَنِ بِبَقِيَّتِهَا فِيهَا جَمَلٌ لِأَبِي لَهَبٍ فِي أَنْفِهِ بُرَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ فَنَحَرَهَا، وَأَمَرَ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَطُبِخَتْ وَشَرِبَ مِنْ مَرَقِهَا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ فِيه ِ: جَمَلٌ لِأَبِي جَهْلٍ. 2702- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِخَمْسٍ بَقَيْنَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ وَلَا نُرَى إلَّا الْحَجَّ فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ - إذَا طَافَ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ - أَنْ يَحِلَّ، قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْت: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَزْوَاجِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْأَكْلِ مِنْ دَمِ الْقِرَانِ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ قَارِنَةً. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ (بُرَّةٌ) بِضَمِّ الْبَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مُخَفَّفَةً وَهِيَ حَلَقَةٌ تُجْعَلُ فِي أَنْفِ الْبَعِيرِ. قَوْلُهُ: (بِلَحْمِ بَقَرٍ) قَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْأَكْلُ لِلْمُهْدِي مِنْ الْهَدْيِ الَّذِي يَسُوقُهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَكْلَ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ وَأُضْحِيَّتِهِ سُنَّةٌ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْ

(1/719)


الْهَدْيِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مَا كَانَ مِنْهُ تَطَوُّعًا وَمَا كَانَ فَرْضًا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا} . وَلَمْ يُفَصِّلْ وَالتَّمَسُّكُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الزَّكَاةِ فِي عَدَمِ جَوَازِ الْأَكْلِ مِنْ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ لَا يَنْتَهِضُ لِتَخْصِيصِ هَذَا الْعُمُومِ؛ لِأَنَّ شَرْعَ الزَّكَاةِ لِمُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ فَصَرْفُهَا إلَى الْمَالِكِ إخْرَاجٌ لَهَا عَنْ مَوْضُوعِهَا، وَلَيْسَ شَرْعُ الدِّمَاءِ كَذَلِكَ،؛ لِأَنَّهَا إمَّا لِجَبْرِ نَقْصٍ أَوْ لِمُجَرَّدِ التَّبَرُّعِ فَلَا قِيَاسَ مَعَ الْفَارِقِ فَلَا تَخْصِيصَ. بَابُ أَنَّ مَنْ بَعَثَ بِهَدْيٍ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِذَلِكَ 2703- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُهْدِي مِنْ الْمَدِينَةِ فَأَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِهِ ثُمَّ لَا يَجْتَنِبُ شَيْئًا مِمَّا يَجْتَنِبُ الْمُحْرِمُ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 2704- وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كَتَبَ إلَى عَائِشَةَ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ أَهْدَى هَدْيًا حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا فَتَلْت قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِي ثُمَّ قَلَّدَهَا بِيَدِهِ ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي، فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ. أَخْرَجَاهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (إنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ) وَقَعَ التَّحْدِيثُ بِهَذَا فِي زَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَأَمَّا بَعْدَهُمْ فَمَا كَانَ يُقَالُ لَهُ إلَّا زِيَادُ بْنُ أَبِيهِ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِ نِسْبَتِهِ إلَى أَبِي سُفْيَانَ وَمَا وَقَعَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي زَمَانِ بَنِي أُمَيَّةَ فَإِنَّمَا هُوَ تَقِيَّةٌ، وَذَكَرَ أَهْلُ الْأُمَّهَاتِ نِسْبَتَهُ إلَى أَبِي سُفْيَانَ فِي كُتُبِهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ لَمْ يُؤَلِّفُوهَا إلَّا بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِ بَنِي أُمَيَّةَ مُحَافَظَةً مِنْهُمْ عَلَى الْأَلْفَاظِ الَّتِي وَقَعَتْ مِنْ الرُّوَاةِ. وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثَيْنِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَى مَنْ بَعَثَ بِهَدْيٍ شَيْءٌ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَحِلُّ لَهُ. وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. بَابُ الْحَثِّ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ 2705- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عَمَلًا أَحَبَّ إلَى اللَّهِ مِنْ هِرَاقَةِ دَمٍ وَإِنَّهُ لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ

(1/720)


بِقُرُونِهَا وَأَظْلَافِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. 2706- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: قُلْت: - أَوْ قَالُوا - يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الْأَضَاحِيُّ؟ قَالَ: «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ» . قَالُوا: مَا لَنَا مِنْهَا؟ قَالَ: بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ، قَالُوا: فَالصُّوفُ؟ قَالَ: «بِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنْ الصُّوفِ حَسَنَةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 2707- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 2708- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أُنْفِقَتْ الْوَرِقُ فِي شَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ نَحِيرَةٍ فِي يَوْمِ عِيدٍ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» . هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الضَّحِيَّةِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّة الضَّحِيَّةِ وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهَا أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَنْ كَانَ ذَا سَعَةٍ تَرْكُهَا. بَابُ مَا اُحْتُجَّ بِهِ فِي عَدَمِ وُجُوبِهَا بِتَضْحِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أُمَّتِهِ 2709- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِيدَ الْأَضْحَى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أُتِيَ بِكَبْشٍ فَذَبَحَهُ، فَقَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ هَذَا عَنِّي وَعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 2710- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا ضَحَّى اشْتَرَى كَبْشَيْنِ سَمِينَيْنِ أَقَرْنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَإِذَا صَلَّى وَخَطَبَ النَّاسَ أُتِيَ بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ قَائِمٌ فِي مُصَلَّاهُ فَذَبَحَهُ بِنَفْسِهِ بِالْمُدْيَةِ ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ أُمَّتِي جَمِيعًا مَنْ شَهِدَ لَك بِالتَّوْحِيدِ وَشَهِدَ لِي بِالْبَلَاغِ» . ثُمَّ يُؤْتَى بِالْآخَرِ فَيَذْبَحُهُ بِنَفْسِهِ فَيَقُولُ: «هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ» . فَيُطْعِمُهُمَا جَمِيعًا الْمَسَاكِينَ وَيَأْكُلُ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْهُمَا فَمَكَثْنَا سِنِينَ لَيْسَ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ

(1/721)


يُضَحِّي قَدْ كَفَاهُ اللَّهُ الْمُؤْنَةَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالْغُرْمَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْهُ وَعَنْ أَتْبَاعِهِ وَأَهْلِهِ وَيُشْرِكَهُمْ مَعَهُ فِي الثَّوَابِ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. وَقَدْ تَمَسَّكَ بِحَدِيثَيْ الْبَابِ وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُمَا مَنْ قَالَ: إنَّ الْأُضْحِيَّةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ بَلْ سُنَّةٌ. وَهُمْ الْجُمْهُورُ. بَابُ مَا يَجْتَنِبُهُ فِي الْعَشْرِ مَنْ أَرَادَ التَّضْحِيَةَ 2711- عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ - وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ - فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ. 2712- وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد وَهُوَ لِمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا: «مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يَذْبَحُهُ، فَإِذَا أَهَلَّ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ حَتَّى يُضَحِّيَ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّة تَرْكِ أَخْذِ الشَّعْرِ وَالْأَظْفَارِ بَعْدَ دُخُولِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ أَنْ يَبْقَى كَامِلَ الْأَجْزَاءِ لِلْعِتْقِ مِنْ النَّارِ. بَابُ السِّنِّ الَّذِي يُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَمَا لَا يُجْزِئُ 2713- عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَذْبَحُوا إلَّا مُسِنَّةً إلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنْ الضَّأْنِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ. 2714- وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: ضَحَّى خَالٌ لِي يُقَالُ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «شَاتُك شَاةُ لَحْمٍ» . فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عِنْدِي دَاجِنًا جَذَعَةً مِنْ الْمَعْزِ. قَالَ: «اذْبَحْهَا وَلَا تَصْلُحُ لِغَيْرِك» . ثُمَّ قَالَ: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا يَذْبَحُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(1/722)


2715- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «نِعْمَ - أَوْ نِعْمَتْ - الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. 2716- وَعَنْ أُمِّ بِلَالٍ بِنْتِ هِلَالٍ عَنْ أَبِيهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ... «يَجُوزُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ أُضْحِيَّةً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 2717- وَعَنْ مُجَاشِعِ بْنِ سُلَيْمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ: «إنَّ الْجَذَعَ يُوفِي مِمَّا تُوفِي مِنْهُ الثَّنِيَّةُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. 2718- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: ضَحَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 2719- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَصْحَابِهِ ضَحَايَا فَصَارَتْ لِعُقْبَةَ جَذَعَةٌ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَنِي جَذَعٌ. فَقَالَ: «ضَحِّ بِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2720- وَفِي رِوَايَةٍ لِلْجَمَاعَةِ إلَّا أَبَا دَاوُد: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ ضَحَايَا، فَبَقِيَ عَتُودٌ فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «ضَحِّ بِهِ أَنْتَ» . قُلْت: وَالْعَتُودُ مِنْ وَلَدِ الْمَعْزِ مَا رَعَى وَقَوِيَ وَأَتَى عَلَيْهِ حَوْلٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (إلَّا مُسِنَّةً) قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْمُسِنَّةُ هِيَ الثَّنِيَّةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَمَا فَوْقَهَا. وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَذَعُ وَلَا يُجْزِئُ إلَّا إذَا عَسُرَ عَلَى الْمُضَحِّي وُجُودُ الْمُسِنَّةِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالزُّهْرِيُّ: إنَّهُ لَا يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ مُطْلَقًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً أَنَّهُ يُجْزِئُ سَوَاءٌ وَجَدَ غَيْرَهُ أَمْ لَا وَحَمَلُوا هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالْأَفْضَلِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِالْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ. بَابُ مَا لَا يُضَحَّى بِهِ لِعَيْبِهِ وَمَا يُكْرَهُ وَيُسْتَحَبُّ 2721- عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُضَحَّى

(1/723)


بِأَعْضَبِ الْقَرْنِ وَالْأُذُنِ. قَالَ قَتَادَةُ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ: الْعَضْبُ النِّصْفُ فَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ لَكِنْ ابْنُ مَاجَهْ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ قَتَادَةَ إلَى آخِرِهِ. 2722- وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيِّ: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ضَلْعُهَا، وَالْكَسِيرُ الَّتِي لَا تُنْقِي» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 2723- وَرَوَى يَزِيدُ ذُو مِصْرَ قَالَ: أَتَيْت عُتْبَةُ بْنَ عَبْدٍ السُّلَمِيُّ، فَقُلْت: يَا أَبَا الْوَلِيدِ إنِّي خَرَجْت أَلْتَمِسُ الضَّحَايَا، فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا يُعْجِبُنِي غَيْرَ ثَرْمَاءَ فَمَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَلَا جِئْتنِي أُضَحِّي بِهَا، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ تَجُوزُ عَنْكَ وَلَا تَجُوزُ عَنِّي؟ فَقَالَ: نَعَمْ إنَّكَ تَشُكُّ وَلَا أَشُكُّ إنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْمُصَفَّرَةِ وَالْمُسْتَأْصَلَةِ وَالْبَخْقَاءِ وَالْمُشَيَّعَةِ وَالْكَسْرَاءِ، فَالْمُصَفَّرَةُ الَّتِي تُسْتَأْصَلُ أُذُنُهَا حَتَّى يَبْدُوَ صِمَاخُهَا، وَالْمُسْتَأْصَلَةُ الَّتِي ذَهَبَ قَرْنُهَا مِنْ أَصْلِهِ، وَالْبَخْقَاءُ الَّتِي تُبْخَقُ عَيْنُهَا، وَالْمُشَيَّعَةُ الَّتِي لَا تَتْبَعُ الْغَنَمَ عَجْفًا وَضَعْفًا وَالْكَسْرَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ. وَيَزِيدُ ذُو مِصْرَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَبِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ السَّاكِنَةِ. 2724- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: اشْتَرَيْت كَبْشًا أُضَحِّي بِهِ فَعَدَا الذِّئْبُ فَأَخَذَ الْأَلْيَةَ قَالَ: فَسَأَلْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «ضَحِّ بِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَيْبَ الْحَادِثَ بَعْدَ التَّعْيِينِ لَا يَضُرُّ. 2725- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ وَأَنْ لَا نُضَحِّيَ بِمُقَابَلَةٍ وَلَا مُدَابَرَةٍ وَلَا شَرْقَاءَ وَلَا خَرْقَاءَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 2726- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ قَالَ: كُنَّا نُسَمِّنُ الْأُضْحِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمِّنُونَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. 2727- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «دَمُ عَفْرَاءَ، أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ دَمِ سَوْدَاوَيْنِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

(1/724)


وَالْعَفْرَاءُ الَّتِي بَيَاضُهَا لَيْسَ بِنَاصِعٍ. 2728- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِكَبْشٍ أَقْرَنَ فَحِيلٍ يَأْكُلُ فِي سَوَادٍ وَيَمْشِي فِي سَوَادٍ وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُضَحَّى بِأَعْضَبِ الْقَرْنِ) إلَى آخِرِهِ. فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ التَّضْحِيَةُ بِأَعْضَبِ الْقَرْنِ وَالْأُذُنِ وَهُوَ مَا ذَهَبَ نِصْفُ قَرْنِهِ أَوْ أُذُنِهِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهَا تُجْزِئُ التَّضْحِيَةُ بِمَكْسُورِ الْقَرْنِ مُطْلَقًا، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ إذَا كَانَ يَدْمِي وَجَعَلَهُ عَيْبًا. قَوْلُهُ: (أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ) إلَى آخِرِهِ. فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُتَبَيِّنَةَ الْعَوَرِ وَالْعَرَجِ وَالْمَرَضِ لَا يَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِهَا إلَّا مَا كَانَ ذَلِكَ يَسِيرًا غَيْرَ بَيِّنٍ، وَكَذَلِكَ الْكَسِيرُ الَّتِي لَا تُنْقِي أَيْ: الَّتِي لَا نِقْيَ وَهُوَ الْمُخُّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْعُيُوبَ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ وَهِيَ الْمَرَضُ وَالْعَجَفُ وَالْعَوَرُ وَالْعَرَجُ الْبَيِّنَاتُ لَا تُجْزِئُ التَّضْحِيَةُ بِهَا، وَكَذَا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا أَوْ أَقْبَحَ مِنْهَا كَالْعَمَى وَقَطْعِ الرِّجْلِ وَشِبْهِهِ. قَوْلُهُ: (وَالْمُشَيَّعَةُ) . قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْمُشَيَّعَةِ. فِي الْأَضَاحِيِّ بِالْفَتْحِ أَيْ: الَّتِي تَحْتَاجُ إلَى مَنْ يُشَيِّعُهَا أَيْ يَتْبَعُهَا الْغَنَمُ لِضَعْفِهَا، وَبِالْكَسْرِ وَهِيَ الَّتِي تُشَيِّعُ الْغَنَمَ أَيْ: تَتْبَعُهَا لِعَجْفِهَا. قَوْلُهُ: (بِمُقَابَلَةٍ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: هِيَ شَاةٌ قُطِعَتْ أُذُنُهَا مِنْ قُدَّامٍ وَتُرِكَتْ مُعَلَّقَةً. قَوْلُهُ: (وَلَا مُدَابَرَةٌ) هِيَ الَّتِي قُطِعَتْ أُذُنُهَا مِنْ جَانِبٍ. قَوْلُهُ: (وَلَا شَرْقَاءَ) هِيَ مَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ طُولًا. وَقَوْلُهُ: (وَلَا خَرْقَاءَ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ الْخَرْقَاءُ الَّتِي فِي أُذُنِهَا خَرْقٌ مُسْتَدِيرٌ. قَوْلُهُ: (فَحِيلٍ) فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ضَحَّى بِالْفَحِيلِ كَمَا ضَحَّى بِالْخَصِيِّ.

(1/725)


بَابُ التَّضْحِيَةِ بِالْخَصِيِّ 2729- عَنْ أَبِي رَافِعٍ - رضي الله عنه - قَالَ: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ خَصِيَّيْنِ. 2730- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِكَبْشَيْنِ سَمِينَيْنِ عَظِيمَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقَرْنَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ. رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. 2731- وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ - بن عَبْدِ الرَّحْمَن - عَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ اشْتَرَى كَبْشَيْنِ عَظِيمَيْنِ سَمِينَيْنِ أَقَرْنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ فَذَبَحَ أَحَدَهُمَا عَنْ أُمَّتِهِ لِمَنْ شَهِدَ بِالتَّوْحِيدِ، وَشَهِدَ لَهُ بِالْبَلَاغِ، وَذَبَحَ الْآخَرَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَاسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّضْحِيَةِ بِالْأَقْرَنِ الْأَمْلَحِ. وَهُوَ اتِّفَاقَ. وَعَلَى اسْتِحْبَابِ التَّضْحِيَةِ بِالْمَوْجُوءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مُقْتَضَى لِلِاسْتِحْبَابِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - التَّضْحِيَةُ بِالْفَحِيلِ فَيَكُونُ الْكُلُّ سَوَاءً. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ الِاجْتِزَاءِ بِالشَّاةِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ الْوَاحِدِ 2732- عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَأَلْت أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ: كَيْفَ كَانَتْ الضَّحَايَا فِيكُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يُضَحِّي بِالشَّاةِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ حَتَّى تَبَاهَى النَّاسُ فَصَارَ كَمَا تَرَى. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَعَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي سَرِيحَةَ قَالَ: حَمَلَنِي أَهْلِي عَلَى الْجَفَاءِ بَعْدَمَا عَلِمْت مِنْ السُّنَّةِ كَانَ أَهْلُ الْبَيْتِ يُضَحُّونَ بِالشَّاةِ وَالشَّاتَيْنِ وَالْآنَ يُبَخِّلُنَا جِيرَانُنَا. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّاةَ تُجْزِئُ عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَقِيلَ: تُجْزِئُ عَنْ وَاحِدٍ فَقَطْ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا تُجْزِئُ عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَإِنْ كَانُوا مِائَةَ نَفْسٍ أَوْ أَكْثَرَ كَمَا قَضَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(1/726)


بَابُ الذَّبْحِ بِالْمُصَلَّى وَالتَّسْمِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ عَلَى الذَّبْحِ وَالْمُبَاشَرَةِ لَهُ 2733- عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَذْبَحُ وَيَنْحَرُ بِالْمُصَلَّى. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو دَاوُد. 2734- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ يَطَأُ فِي سَوَادٍ وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ فَأُتِيَ بِهِ لِيُضَحِّيَ بِهِ فَقَالَ لَهَا: «يَا عَائِشَةُ هَلُمِّي ... الْمُدْيَةَ» . ثُمَّ قَالَ: «اشْحَذِيهَا عَلَى حَجَرٍ» . فَفَعَلَتْ ثُمَّ أَخَذَهَا وَأَخَذَ الْكَبْشَ فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ ثُمَّ قَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ» . ثُمَّ ضَحَّى. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 2735- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقَرْنَيْنِ فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَيْهِ عَلَى صِفَاحِهِمَا يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 2736- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ عِيدٍ بِكَبْشَيْنِ فَقَالَ حِينَ وَجَّهَهُمَا: «وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (كَانَ يَذْبَحُ وَيَنْحَرُ بِالْمُصَلَّى) فِيهِ اسْتِحْبَابُ أَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ وَالنَّحْرُ بِالْمُصَلَّى وَهُوَ الْجَبَّانَةُ وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بِمَرْأَى مِنْ الْفُقَرَاءِ فَيُصِيبُونَ مِنْ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ. قَوْلُهُ: (فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ تَوَلِّي الْإِنْسَانِ ذَبْحَ أُضْحِيَّتِهِ بِنَفْسِهِ فَإِنْ اسْتَنَابَ قَالَ النَّوَوِيُّ: جَازَ بِلَا خِلَافٍ. قَوْلُهُ: (وَيُكَبِّرُ) فِيهِ اسْتِحْبَابِ التَّكْبِيرِ مَعَ التَّسْمِيَةِ فَيَقُولُ، بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. قَالَ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَةِ. عِنْدَ تَوْجِيهِ الذَّبِيحَةِ لِلذَّبْحِ.

(1/727)


بَابُ نَحْرِ الْإِبِلِ قَائِمَةً مَعْقُولَةً يَدُهَا الْيُسْرَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} . قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَوَافَّ: قِيَامًا. 2737- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ يَنْحَرُهَا، فَقَالَ: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2738- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يَنْحَرُونَ الْبَدَنَةَ مَعْقُولَةَ الْيُسْرَى قَائِمَةً عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ قَوَائِمِهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَهُوَ مُرْسَلٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: (مُقَيَّدَةً) أَيْ: مَعْقُولَةَ. بَابُ بَيَانِ وَقْتِ الذَّبْحِ 2739- عَنْ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ أَضْحَى قَالَ: فَانْصَرَفَ فَإِذَا هُوَ بِاللَّحْمِ وَذَبَائِحُ الْأَضْحَى تُعْرَفُ فَعَرَفَ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهَا ذُبِحَتْ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَقَالَ: «مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ حَتَّى صَلَّيْنَا فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2740- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ النَّحْرِ بِالْمَدِينَةِ فَتَقَدَّمَ رِجَالٌ فَنَحَرُوا وَظَنُّوا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ نَحَرَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ كَانَ نَحَرَ قَبْلَهُ أَنْ يُعِيدَ بِنَحْرٍ آخَرَ وَلَا يَنْحَرُوا حَتَّى يَنْحَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 2741- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَوْمَ النَّحْرِ مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2742- وَلِلْبُخَارِيِّ: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا يَذْبَحُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ» . 2743- وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -

(1/728)


قَالَ: «كُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2744- وَهُوَ لِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَعَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ جُبَيْرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَحْوُهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ نُصَلِّيَ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْأُضْحِيَّةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْإِمَامِ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: (فَنَحَرُوا وَظَنُّوا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ نَحَرَ) . أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِنَحْرِ الْإِمَامِ. وَقَدْ ذَهَبَ إلَى هَذَا مَالِكٌ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ ذَبْحُهَا قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَخُطْبَتِهِ وَذَبْحِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَجُوزُ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَيَجُوزُ بَعْدَهَا قَبْلَ ذَبْحِ الْإِمَامِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا لَا تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ إمَامٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ لِكُلِّ مُضَحٍّ بِصَلَاتِهِ. وَقَالَ رَبِيعَةُ فِيمَنْ لَا إمَامَ لَهُ: إنْ ذَبَحَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لَا تُجْزِئُهُ وَبَعْدَ طُلُوعِهَا تُجْزِئُهُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ هُوَ الْمُوَافِقُ لِأَحَادِيثِ الْبَابِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: «كُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ كُلَّهَا أَيَّامُ ذَبْحٍ، وَهِيَ يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ: إنَّ وَقْتَ الذَّبْحِ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إنَّ وَقْتَهُ يَوْمُ النَّحْرِ فَقَطْ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ لِأَهْلِ الْقُرَى. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إنَّ وَقْتَهُ يَوْمُ النَّحْرِ خَاصَّةً. وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ وَقْتَهُ فِي جَمِيعِ ذِي الْحِجَّةِ، فَهَذِهِ خَمْسَةُ مَذَاهِبَ أَرْجَحُهَا الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ لِلْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ. بَابُ الْأَكْلِ وَالْإِطْعَامِ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ وَجَوَازُ ادِّخَارِ لَحْمِهَا وَنَسْخِ النَّهْيِ عَنْهُ 2745- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَفَّ أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حَضْرَةَ الْأَضْحَى زَمَانَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «ادَّخِرُوا ثَلَاثًا ثُمَّ تَصَدَّقُوا بِمَا بَقِيَ» . فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّ النَّاسَ يَتَّخِذُونَ الْأَسْقِيَةَ مِنْ ضَحَايَاهُمْ، وَيُجْمِلُونَ فِيهَا الْوَدَكَ، فَقَالَ: «وَمَا ذَاكَ» ؟ قَالُوا: نَهَيْت أَنْ تُؤْكَلَ

(1/729)


لُحُومُ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَقَالَ: «إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ فَكُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2746- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا لَا نَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنَا فَوْقَ ثَلَاثِ مِنًى فَرَخَّصَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «كُلُوا وَتَزَوَّدُوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2747- وَفِي لَفْظٍ: كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى الْمَدِينَةِ أَخْرَجَاهُ. 2748- وَفِي لَفْظٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: «كُلُوا وَتَزَوَّدُوا وَادَّخِرُوا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 2749- وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ فَلَا يُصْبِحَنَّ - بَعْدَ ثَالِثَةٍ - وَفِي بَيْتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ» . فَلَمَّا كَانَ ... فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا فِي الْعَامِ الْمَاضِي؟ قَالَ: «كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَامَ كَانَ بِالنَّاسِ جَهْدٌ فَأَرَدْت أَنْ تُعِينُوا فِيهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2750- وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُضْحِيَّتَهُ ثُمَّ قَالَ: «يَا ثَوْبَانُ أَصْلِحْ لِي لَحْمَ هَذِهِ» . فَلَمْ أَزَلْ أُطْعِمُهُ مِنْهُ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 2751- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَا تَأْكُلُوا لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» . فَشَكَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ لَهُمْ عِيَالًا وَحَشَمًا وَخَدَمًا فَقَالَ: «كُلُوا وَاحْبِسُوا وَادَّخِرُوا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 2752- وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثَةٍ لِيَتَّسِعَ ذَوُو الطَّوْلِ عَلَى مَنْ لَا طَوْلَ لَهُ فَكُلُوا مَا بَدَا لَكُمْ وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَوْلُهُ: (إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ فَكُلُوا) إلَى آخِرِهِ. ... قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا وَمَا بَعْدَهُ تَصْرِيحٌ بِالنَّسْخِ لِتَحْرِيمِ أَكْلِ لُحُومِ

(1/730)


الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ الثَّلَاثِ وَادِّخَارِهَا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجَمَاهِيرُ. قَوْلُهُ: (أَصْلِحْ لِي لَحْمَ هَذِهِ) إلَى آخِرِهِ. فِيهِ تَصْرِيحٌ بِجَوَازِ ادِّخَارِ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ فَوْقَ ثَلَاثٍ وَجَوَازِ التَّزَوُّدِ مِنْهُ، وَأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ مَشْرُوعَةٌ لِلْمُسَافِرِ كَمَا تُشْرَعُ لِلْمُقِيمِ. وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. قَوْلُهُ: (حَشَمًا) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْحَشَمُ هُمْ اللَّائِذُونَ بِالْإِنْسَانِ يَخْدُمُونَهُ وَيَقُومُونَ بِأُمُورِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَكَأَنَّ الْحَشَمَ أَعَمُّ مِنْ الْخَدَمِ فَلِهَذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ. قَوْلُهُ: (فَكُلُوا مَا بَدَا لَكُمْ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَقْدِيرِ الْأَكْلِ بِمِقْدَارٍ، وَأَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ مَا شَاءَ وَإِنْ كَثُرَ مَا لَمْ يَسْتَغْرِقْ، بِقَرِينَةِ. قَوْلِهِ (وَأَطْعِمُوا) . انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَآخِر وَقْت ذَبْحِ الأَضَاحِي آخِر أَيْام التَّشْرِيقِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِي وَأَحَد الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدٍ وَلَمْ يُنْسَخْ تَحْرِيم الادِّخَار عَام مجاعة لأَنَّهُ سَبَبُ التَّحْرِيمِ، وَقَالَهُ طَائِفَة مِنَ الْعُلَمَاءِ. انْتَهَى. والله أعلم. بَابُ الصَّدَقَةِ بِالْجُلُودِ وَالْجِلَالِ وَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِهَا 2753- عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلُحُومِهَا وَجُلُودِهَا وَأَجِلَّتِهَا وَأَنْ لَا أُعْطِيَ الْجَازِرَ مِنْهَا شَيْئًا، وَقَالَ: «نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2754- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ فَقَالَ: «إنِّي كُنْت أَمَرْتُكُمْ أَنْ لَا تَأْكُلُوا لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِيَسَعَكُمْ وَإِنِّي أُحِلُّهُ لَكُمْ فَكُلُوا مَا شِئْتُمْ وَلَا تَبِيعُوا لُحُومَ الْهَدْيِ وَالْأَضَاحِيِّ وَكُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَاسْتَمْتِعُوا بِجُلُودِهَا. وَلَا تَبِيعُوهَا وَإِنْ أَطْعَمْتُمْ مِنْ لُحُومِهَا شَيْئًا فَكُلُوا أَنَّى شِئْتُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَأَنْ لَا أُعْطِيَ الْجَازِرَ مِنْهَا شَيْئًا) .

(1/731)


فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْطِي الْجَازِرَ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْمُرَادَ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُعْطِي لِأَجْلِ الْجِزَارَةِ لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جُلُودَ الْهَدْيِ وَجِلَالِهَا لَا تُبَاعُ لِعَطْفِهِمَا عَلَى اللَّحْمِ وَإِعْطَائِهِمَا حُكْمَهُ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لَحْمَهَا لَا يُبَاعُ فَكَذَا الْجُلُودُ وَالْجِلَالُ. قَوْلُهُ: (وَاسْتَمْتِعُوا بِجُلُودِهَا وَلَا تَبِيعُوهَا) فِيهِ الْإِذْنُ بِالِانْتِفَاعِ بِهَا بِغَيْرِ الْبَيْعِ. بَابُ مَنْ أَذِنَ فِي انْتِهَابِ أُضْحِيَّتِهِ 2755- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ وَقُرِّبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَمْسُ بَدَنَاتٍ - أَوْ سِتٌّ - يَنْحَرُهُنَّ فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إلَيْهِ أَيَّتُهُنَّ يَبْدَأُ بِهَا فَلَمَّا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا قَالَ كَلِمَةً خَفِيَّةً لَمْ أَفْهَمْهَا فَسَأَلْت بَعْضَ مَنْ يَلِينِي مَا قَالَ؟ قَالُوا: قَالَ: مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ مَنْ رَخَّصَ فِي نُثَارِ الْعَرُوسِ وَنَحْوِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (يَوْمَ الْقَرِّ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَلِي يَوْمَ النَّحْرِ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَقِرُّونَ فِيهِ بِمِنًى.

(1/732)


 كِتَابُ الْعَقِيقَةِ وَسُنَّةُ الْوِلَادَةِ

2756- عَنْ سَلْمَانِ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَةٌ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا. 2757- وَعَنْ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ وَيُسَمَّى فِيهِ وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 2758- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافَأَتَانِ وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 2759- وَفِي لَفْظٍ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَعُقَّ عَنْ الْجَارِيَةِ شَاةً وَعَنْ الْغُلَامِ شَاتَيْنِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. 2760- وَعَنْ أُمِّ كُرْزٍ الْكَعْبِيَّةِ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْعَقِيقَةِ فَقَالَ: «نَعَمْ عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ وَعَنْ الْأُنْثَى وَاحِدَةٌ لَا يَضُرُّكُمْ ذُكْرَانًا كُنَّ أَوْ إنَاثًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 2761- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سُئِلَ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْعَقِيقَةِ، فَقَالَ: «لَا أُحِبُّ الْعُقُوقَ» . وَكَأَنَّهُ كَرِهَ الِاسْمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا نَسْأَلُكَ عَنْ أَحَدِنَا يُولَدُ لَهُ، قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَنْسُكَ عَنْ وَلَدِهِ فَلْيَفْعَلْ عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافَأَتَانِ وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.

(1/733)


2762- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِتَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ يَوْمَ سَابِعِهِ وَوَضْعِ الْأَذَى عَنْهُ وَالْعَقِّ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. 2763- وَعَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إذَا وُلِدَ لِأَحَدِنَا غُلَامٌ ذَبَحَ شَاةً وَلَطَخَ رَأْسَهُ بِدَمِهَا، فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ كُنَّا نَذْبَحُ شَاةً وَنَحْلِقُ رَأْسَهُ وَنُلَطِّخُهُ بِزَعْفَرَانٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 2764- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَقَّ عَنْ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ كَبْشًا كَبْشًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ: بِكَبْشَيْنِ كَبْشَيْنِ. 2765- وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ لَمَا وُلِدَ أَرَادَتْ أُمُّهُ فَاطِمَةُ أَنْ تَعُقَّ عَنْهُ بِكَبْشَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَعُقِّي عَنْهُ وَلَكِنْ احْلِقِي شَعْرَ رَأْسِهِ فَتَصَدَّقِي بِوَزْنِهِ مِنْ الْوَرِقِ» . ثُمَّ وُلِدَ حُسَيْنٌ فَصَنَعَتْ مِثْلَ ذَلِكَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2766- وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَذَّنَ فِي أُذُنِ الْحُسَيْنِ حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ بِالصَّلَاةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَكَذَلِكَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَقَالَا: الْحَسَنُ. 2767- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ وَلَدَتْ غُلَامًا، قَالَ: فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: احْفَظْهُ حَتَّى تَأْتِي بِهِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَاهُ بِهِ وَأَرْسَلَتْ مَعَهُ بِتَمَرَاتٍ، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَمَضَغَهَا، ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْ فِيهِ فَجَعَلَهَا فِي فِي الصَّبِيِّ وَحَنَّكَهُ بِهِ وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ. 2768- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أُتِيَ بِالْمُنْذِرِ بْنِ أَبِي أَسِيد إلَى ... النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ وُلِدَ - فَوَضَعَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَأَبُو أَسِيد جَالِسٌ فَلَهِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِشَيْءٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَمَرَ أَبُو أَسِيد بِابْنِهِ فَاحْتُمِلَ مِنْ فَخِذِهِ فَاسْتَفَاقَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «أَيْنَ الصَّبِيُّ» ؟ فَقَالَ أَبُو أَسِيد: قَلَبْنَاهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «مَا اسْمُهُ» ؟ قَالَ: فُلَانٌ قَالَ: «وَلَكِنْ اُسْمُهُ الْمُنْذِرُ» . فَسَمَّاهُ يَوْمَئِذٍ الْمُنْذِرَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَةٌ) الْعَقِيقَةُ الذَّبِيحَةُ

(1/734)


الَّتِي تُذْبَحُ لِلْمَوْلُودِ. وَالْعَقُّ فِي الْأَصْلِ: الشِّقّ وَالْقَطْعُ وَسَبَبُ تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ أَنَّهُ يُشَقُّ حَلْقُهَا بِالذَّبْحِ. وَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ الْعَقِيقَةِ عَلَى شَعْرِ الْمَوْلُودِ. وَجَعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيّ الْأَصْلَ، وَالشَّاةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْهُ. انْتَهَى. قُلْتُ: وَكَانَ بَعْضُ الأَعْرَابِ يُسَمِّي جزة الصَّغِيرِ مِنْ وَلَدِ الضَّأْن عقة، وَقَدْ سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْهُمْ. قَوْلُهُ: (فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا) . تَمَسَّكَ بِهَذَا وَبِبَقِيَّةِ الْأَحَادِيثِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَهُمْ الظَّاهِرِيَّةُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ، واحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْ وَلَدِهِ فَلْيَفْعَلْ» . قَوْلُهُ: (وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى) . الْمُرَادُ احْلِقُوا عَنْهُ شَعْرَ رَأْسِهِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: الْأَوْلَى حَمْلُ الْأَذَى عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ حَلْقِ الرَّأْسِ. قَوْلُهُ: (كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ) . قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَمَعْنَى قَوْلُهُ: (رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ) : أَنَّ الْعَقِيقَةَ لَازِمَةٌ لَا بُدَّ مِنْهَا. فَشَبَّهَ فِي لُزُومِهَا لَهُ وَعَدَم انْفِكَاكَها منها بِالرَّهْنِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ. قَوْلُهُ: (يُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ) . بِضَمِّ الْيَاءِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْعَقِيقَةِ سَابِعُ الْوِلَادَةِ، وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ تُذْبَحَ الْعَقِيقَةُ فِي السَّابِعِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَفِي الرَّابِعَ عَشَرَ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَيَوْمِ أَحَدِ وَعِشْرِينَ. وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ يَدْخُلُ وَقْتُهَا بِالْوِلَادَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُؤَخَّرُ عَنْ السَّابِعِ اخْتِيَارًا فَإِنْ تَأَخَّرَتْ إلَى الْبُلُوغِ سَقَطَتْ عَمَّنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَعُقَّ عَنْهُ لَكِنْ إنْ أَرَادَ هُوَ أَنْ يَعُقَّ عَنْ نَفْسِهِ فَعَلَ. قَوْلُهُ: (عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافَأَتَانِ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: بِكَسْرِ الْفَاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ هَكَذَا صَوَابُهُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْمُحَدِّثُونَ يَقُولُونَهُ بِفَتْحِ الْفَاءِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: أَيْ: مُسْتَوِيَتَانِ أَوْ مُتَقَارِبَتَانِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَفِي هَذه الأَحاديثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي الْعَقِيقَةِ شَاتَانِ عَنْ الذَّكَرِ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّهَا شَاةٌ عَنْ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَيُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ أَحَادِيثَ الشَّاتَيْنِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الزِّيَادَةِ فَهِيَ أَوْلَى. وَقِيلَ: إنَّ فِي اقْتِصَارِهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى شَاةٍ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الشَّاتَيْنِ مُسْتَحَبَّةٌ فَقَطْ وَلَيْسَتْ بِمُتَعَيَّنَةٍ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: (أَذَّنَ فِي أُذُنِ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ) إلَى آخِرِهِ. فِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّأْذِينِ فِي أُذُنِ

(1/735)


الصَّبِيِّ عِنْدَ وِلَادَتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ السُّنِّيِّ مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: «مَنْ وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ فَأَذَّنَ فِي أُذُنِهِ الْيُمْنَى وَأَقَامَ فِي الْيُسْرَى لَمْ تَضُرَّهُ أُمُّ الصِّبْيَانِ» . وَأُمُّ الصِّبْيَانِ هِيَ التَّابِعَةُ مِنْ الْجِنِّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَحْنِيكِ الْمَوْلُودِ عِنْدَ وِلَادَتِهِ بِتَمْرٍ فَإِنْ تَعَذَّرَ فَمَا فِي مَعْنَاهُ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ مِنْ الْحُلْوِ. قَالَ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ الصَّالِحِينَ وَمِمَّنْ يُتَبَرَّكُ بِهِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً. بَابُ مَا جَاءَ فِي الْفَرَعِ وَالْعَتِيرَةِ وَنَسَخَهُمَا 2769- عَنْ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ: كُنَّا وُقُوفًا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَفَاتٍ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُضْحِيَّةٌ وَعَتِيرَةٌ هَلْ تَدْرُونَ مَا الْعَتِيرَةُ؟ هِيَ الَّتِي تُسَمُّونَهَا الرَّجَبِيَّةُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. 2770- وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ كُنَّا نَذْبَحُ فِي رَجَبٍ ذَبَائِحَ فَنَأْكُلُ مِنْهَا وَنُطْعِمُ مَنْ جَاءَنَا فَقَالَ لَهُ: «لَا بَأْسَ بِذَلِكَ» . 2771- وَعَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْفَرَائِعُ وَالْعَتَائِرُ؟ فَقَالَ: «مَنْ شَاءَ فَرَّعَ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يُفَرِّعْ وَمَنْ شَاءَ عَتَرَ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَعْتِرْ فِي الْغَنَمِ أُضْحِيَّةٌ» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 2772- وَعَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا نَعْتِرُ عَتِيرَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي رَجَبٍ فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ: «اذْبَحُوا لِلَّهِ فِي أَيِّ شَهْرٍ كَانَ وَبَرُّوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَطْعِمُوا» . قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا نَفْرَعُ فَرَعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فِي كُلِّ سَائِمَةٍ مِنْ الْغَنَمِ فَرَعٌ تَغْذُوهُ غَنَمُكَ حَتَّى إذَا اسْتَحْمَلَ ذَبَحْته فَتَصَدَّقْت بِلَحْمِهِ عَلَى ابْنِ السَّبِيلِ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ خَيْرٌ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ. 2773- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا فَرَعَ وَلَا ... عَتِيرَةَ» . وَالْفَرَعُ أَوَّلُ النِّتَاجِ كَانَ يُنْتَجُ لَهُمْ فَيَذْبَحُونَهُ وَالْعَتِيرَةُ فِي رَجَبٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(1/736)


2774- وَفِي لَفْظٍ: «لَا عَتِيرَةَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا فَرَعَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2775- وَفِي لَفْظٍ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْفَرَعِ وَالْعَتِيرَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 2776- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ (الْفَرَائِعُ) جَمْعُ فَرَعٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ ثُمَّ عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ، وَيُقَالُ: فِيهِ الْفَرَعَةُ بِالْهَاءِ: هُوَ أَوَّلُ نِتَاجِ الْبَهِيمَةِ كَانُوا يَذْبَحُونَهُ وَلَا يَمْلِكُونَهُ رَجَاءَ الْبَرَكَةِ فِي الْأُمِّ وَكَثْرَةِ نَسْلِهَا، هَكَذَا فَسَّرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ. وَقِيلَ: هُوَ أَوَّلُ النِّتَاجِ لِلْإِبِلِ، وَهَكَذَا جَاءَ تَفْسِيرُهُ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ، وَقَالُوا: كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِآلِهَتِهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ أَوَّلُ النِّتَاجِ لِمَنْ بَلَغَتْ إبِلُهُ مِائَةً يَذْبَحُونَهُ. قَالَ: وَالْعَتِيرَةُ ذَبِيحَةُ كَانُوا يَذْبَحُونَهَا فِي الْعَشْرِ الأَولِ مِنْ رَجَب وَيُسَمُّونَهَا الرَّجبية. قال النووي: اتفق العلماء على تفسير العتيرة بهذا. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، فَقِيلَ: يُجْمَعُ بَيْنَهَا بِحَمْلِ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَة أَوَّل البَاب عَلَى النَّدْبِ، وَالْمَذْكُورَة في آخره عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ. ذَكَرَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا. فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ» . أَيْ: لَا فَرَعَ وَاجِبٌ وَلَا عَتِيرَةَ وَاجِبَةٌ. وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ إلَى النسخ. وَادَّعَى الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ جَمَاهِيرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ. إِلِى أَنْ قَالَ: فَأَعْدَلُ الْأَقْوَالِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِمَا سَلَفَ. وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ النَّهْيِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى النَّهْيِ الْحَقِيقِيِّ وَإِنْ كَانَ هُوَ التَّحْرِيمَ لَكِنْ إذَا وُجِدَتْ قَرِينَةٌ أَخْرَجَتْهُ عَنْ ذَلِكَ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ النَّهْيُ مُوَجَّهًا إلَى مَا كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِأَصْنَامِهِمْ فَيَكُونُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَيَكُونُ غَيْرَ مُتَنَاوِلٍ لِمَا ذُبِحَ مِنْ الْفَرَعِ وَالْعَتِيرَةِ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ وَجْهُ قُرْبَةٍ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ الْمَذْكُورِ نَفْيُ مُسَاوَاتِهِمَا لِلْأُضْحِيَّةِ فِي الثَّوَابِ أَوْ تَأَكُّدِ الِاسْتِحْبَابِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «اذْبَحُوا لِلَّهِ فِي أَيِّ شَهْرٍ كَانَ» . عَلَى مَشْرُوعِيَّة الذَّبْحِ فِي كُلِّ شَهْرٍ إنْ أَمْكَنَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. والله أعلم.

(1/737)


بسم الله الرحمن الرحيم

 كِتَابُ الْبُيُوعِ

أَبْوَابُ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا لا يَجُوزُ بَابُ مَا جَاءَ فِي بَيْعِ النَّجَاسَةِ وَآلَةِ الْمَعْصِيَةِ وَمَا نَفَعَ فِيهِ 2777- عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالأَصْنَامِ» . فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: «لا هُوَ حَرَامٌ» . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ: «قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 2778- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ، فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا، وَإِنَّ اللَّهَ إذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. وَهُوَ حُجَّةٌ فِي تَحْرِيمِ بَيْعِ الدُّهْنِ النَّجِسِ. 2779- وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى حَجَّامًا، فَأَمَرَ فَكُسِرَتْ مَحَاجِمُهُ، وَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَرَّمَ ثَمَنَ الدَّمِ، وَثَمَنَ الْكَلْبِ، وَكَسْبَ الْبَغِيِّ، وَلَعَنَ الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَآكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَلَعَنَ الْمُصَوِّرِينَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2780- وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.

(2/5)


2781- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَقَالَ: «إنْ جَاءَ يَطْلُبُ ثَمَنَ الْكَلْبِ فَامْلأْ كَفَّهُ تُرَابًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 2782- وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: والعلة في تحريم بيع الخنزير وبيع الميتة هي النجاسة، عند جمهور العلماء، فيتعدى ذلك إلى كل نجاسة، والعلة في تحريم بيع الأصنام عدم المنفعة المباحة، فإن كان ينتفع بها بعد الكسر جاز بيعها عند البعض ومنعه الأكثر. قَوْلُهُ: (أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ) إلى آخره، أي: فهل بيعها لما ذكر من المنافع جائز فإنها مقضة لصحة البيع، كذا في الفتح. قَوْلُهُ: «لا هُوَ حَرَامٌ» الأكثر على أن الضمير راجع إلى البيع، ويؤيد ذلك قوله في آخر الحديث: «فباعوها» وحديث ابن عباس فيه دليل على إبطال الحيل والوسائل إلى المحرم، وأن كل ما حرم الله على العباد فبيعه حرام لتحريم ثمنه فلا يخرج من هذه الكلية إلا ما خصه دليل. انتهى. قَوْلُهُ: (حَرَّمَ ثَمَنَ الدَّمِ) اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهِ فَقِيلَ: أُجْرَةُ الْحِجَامَةِ فَيَكُونُ دَلِيلًا لِمَنْ قَالَ: بِأَنَّهَا غَيْرُ حَلالٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الإِجَارَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ ثَمَنُ الدَّمِ نَفْسِهِ، فَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِهِ، وَهُوَ حَرَامٌ إجْمَاعًا كَمَا فِي الْفَتْحِ. قَوْلُهُ: (وَثَمَنَ الْكَلْبِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الْكَلْبِ، وَظَاهِرُهُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُعَلَّمِ وَغَيْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ أَوْ مِمَّا لا يَجُوزُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ وَقَالَ عَطَاءُ وَالنَّخَعِيِّ: يَجُوزُ بَيْعُ كَلْبِ الصَّيْدِ دُونَ غَيْرِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ إلا كَلْبَ صَيْدٍ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَرِجَالُ إسْنَادِهِ

(2/6)


ثِقَاتٌ، إلا أَنَّهُ طُعِنَ فِي صِحَّتِهِ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَكِنْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْمُهَزِّمِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَيَنْبَغِي حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَيَكُونُ الْمُحَرَّمُ بَيْعَ مَا عَدَا كَلْبَ الصَّيْدِ إنْ صَلُحَ هَذَا الْمُقَيَّدُ لِلاحْتِجَاجِ بِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ تَجِبُ الْقِيمَةُ عَلَى مُتْلِفِهِ فَمَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِ بَيْعِهِ قَالَ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ، وَمَنْ قَالَ: بِجَوَازِهِ قَالَ بِالْوُجُوبِ، وَمَنْ فَصَّلَ فِي الْبَيْعِ فَصَّلَ فِي لُزُومِ الْقِيمَةِ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَتَجِبُ الْقِيمَةُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ بَيْعَهُ مَكْرُوهٌ فَقَطْ. قَوْلُهُ: (وَكَسْبَ الْبَغِيِّ) فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ (وَمَهْرَ الْبَغِيِّ) وَالْمُرَادُ مَا تَأْخُذُهُ الزَّانِيَةُ عَلَى الزِّنَا وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ. قَوْلُهُ: (وَلَعَنَ الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ) سَيَأْتِي الْكَلامُ عَلَى هَذَا فِي بَابِ: مَا يُكْرَهُ مِنْ تَزَيُّنِ النِّسَاءِ مِنْ كِتَابِ الْوَلِيمَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. قَوْلُهُ: (وَلَعَنَ الْمُصَوِّرِينَ) فِيهِ أَنَّ التَّصْوِيرَ أَشَدُّ الْمُحَرَّمَاتِ. قَوْلُهُ: (وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ) الْحُلْوَانُ مَصْدَرُ حَلَوْتَهُ: إذَا أَعْطَيْته. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَأَصْلُهُ مِنْ الْحَلاوَةِ شُبِّهَ بِالشَّيْءِ الْحُلْوِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُؤْخَذُ سَهْلًا بِلا كُلْفَةٍ وَلا مَشَقَّةٍ. وَالْحُلْوَانُ أَيْضًا: الرِّشْوَةُ. وَالْحُلْوَانُ أَيْضًا: مَا يَأْخُذُهُ الرَّجُلُ مِنْ مَهْرِ ابْنَتِهِ لِنَفْسِهِ. وَالْكَاهِنُ، قَالَ الْخَطَّابِيِّ: هُوَ الَّذِي يَدَّعِي مُطَالَعَةَ عِلْمِ الْغَيْبِ وَيُخْبِرُ النَّاسَ عَنْ الْكَوَائِنِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: حُلْوَانُ الْكَاهِنِ حَرَامٌ بِالإِجْمَاعِ لِمَا فِيهِ مِنْ أَخْذِ الْعِوَضِ عَلَى أَمْرٍ بَاطِلٍ، وَفِي مَعْنَاهُ التَّنْجِيمُ وَالضَّرْبُ بِالْحَصَى وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَاطَاهُ الْعَرَّافُونَ مِنْ اسْتِطْلاعِ الْغَيْبِ. قَوْلُهُ: (وَالسِّنَّوْرِ) بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، بوَهُوَ الْهِرُّ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الْهِرِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَمُجَاهِدٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، طَاوُسٍ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى جَوَازِ بَيْعِهِ. وَقِيلَ: إنَّهُ يُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، وَأَنَّ بَيْعَهُ لَيْسَ مِنْ مَكَارِمِ الأَخْلاقِ وَالْمُرُوءَاتِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/7)


بَابُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ 2783- عَنْ إيَاسِ بْنِ عَبْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا ابْنَ مَاجَةْ. 2784- وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلُهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلانِ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ وَهُوَ الْفَاضِلُ عَنْ كِفَايَةِ صَاحِبِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ الْمَاءِ الْكَائِنِ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ أَوْ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ لِلشُّرْبِ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ لِحَاجَةِ الْمَاشِيَةِ أَوْ الزَّرْعِ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي فَلاةٍ أَوْ فِي غَيْرِهَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ حَاكِيًا عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إنَّهُ يَجِبُ بَذْلُ الْمَاءِ فِي الْفَلاةِ بِشُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لا يَكُونَ مَاءٌ آخَرُ يَسْتَغْنِي بِهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْبَذْلُ لِحَاجَةِ الْمَاشِيَةِ لا لِسَقْيِ الزَّرْعِ. الثَّالِثُ: أَنْ لا يَكُونَ مَالِكُهُ مُحْتَاجًا إلَيْهِ. وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلالَةِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الْمَاءِ عَلَى الْعُمُومِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ ... عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: «لا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ فَضْلُ الْكَلَأِ» وَأَحَادِيثُ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلاثٍ: فِي الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ» وَقَدْ خُصِّصَ مِنْ عُمُومِ الْمَنْعِ مَا كَانَ محرزًا فِي الآنِيَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ قِيَاسًا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْحَطَبِ إذَا أَحْرَزَهُ الْحَاطِبُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ النَّهْيِ عَنْ ثَمَنِ عَسْبِ الْفَحْلِ 2785- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ثَمَنِ عَسْبِ الْفَحْلِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 2786- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ ضِرَابِ الْفَحْلِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 2787- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلاً مِنْ كِلابٍ سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عَسْبِ

(2/8)


الْفَحْلِ فَنَهَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نُطْرِقُ الْفَحْلَ فَنُكْرَمُ فَرَخَّصَ لَهُ فِي الْكَرَامَةِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَيْعَ مَاءِ الْفَحْلِ وَإِجَارَتُهُ حَرَامٌ؛ لأَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ وَلا مَعْلُومٍ وَلا مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. قَوْلُهُ: (فَرَخَّصَ لَهُ فِي الْكَرَامَةِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعِيرَ إذَا أَهْدَى إلَيْهِ الْمُسْتَعِيرُ هَدِيَّةً بِغَيْرِ شَرْطٍ حَلَّتْ لَهُ. أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ أَطْرَقَ فَرَسًا فَأَعْقَبَ كَانَ لَهُ كَأَجْرِ سَبْعِينَ فَرَسًا» . بَابُ النَّهْيِ عَنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ 2788- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ. 2789- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تَشْتَرُوا السَّمَكَ فِي الْمَاءِ فَإِنَّهُ غَرَرٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2790- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَهَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ. 2791- وَفِي رِوَايَةٍ نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَحَبَلُ الْحَبَلَةِ أَنْ تَنْتِجَ النَّاقَةُ مَا فِي بَطْنِهَا، ثُمَّ تَحْمِلُ الَّتِي نَتَجَتْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 2792- وَفِي لَفْظٍ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَبَايَعُونَ لُحُومَ الْجَزُورِ إلَى حَبَلِ الْحَبَلَةِ، وَحَبَلُ الْحَبَلَةِ أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ مَا فِي بَطْنِهَا، ثُمَّ تَحْمِلُ الَّتِي نُتِجَتْ، فَنَهَاهُمْ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2793- وَفِي لَفْظٍ: كَانُوا يَتَبَايَعُونَ الْجَزُورَ إلَى حَبَلِ الْحَبَلَةِ فَنَهَاهُمْ - صلى الله عليه وسلم - عَنْهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 2794- وَعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ

(2/9)


شِرَاءِ مَا فِي بُطُونِ الأَنْعَامِ حَتَّى تَضَعَ، وَعَنْ بَيْعِ مَا فِي ضُرُوعِهَا إلا بِكَيْلٍ، وَعَنْ شِرَاءِ الْعَبْدِ وَهُوَ آبِقٌ، وَعَنْ شِرَاءِ الْمَغَانِمِ حَتَّى تُقْسَمَ، وَعَنْ شِرَاءِ الصَّدَقَاتِ حَتَّى تُقْبَضَ، وَعَنْ ضَرْبَةِ الْغَائِصِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. 2795- وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْهُ: شِرَاءُ الْمَغَانِمِ وَقَالَ: غَرِيبٌ. 2796- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ الْمَغَانِمِ حَتَّى تُقْسَمَ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 2797- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلُهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 2798- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُبَاعَ ثَمَرٌ حَتَّى يُطْعَمَ أَوْ صُوفٌ عَلَى ظَهْرٍ أَوْ لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ أَوْ سَمْنٌ فِي لَبَنٍ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. 2799- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْمُلامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ فِي الْبَيْعِ وَالْمُلامَسَةُ لَمْسُ الرَّجُلِ ثَوْبَ الآخَرِ بِيَدِهِ بِاللَّيْلِ أَوْ بِالنَّهَارِ وَلا يُقَلِّبُهُ وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ بِثَوْبِهِ وَيَنْبِذَ الآخَرُ بِثَوْبِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْعَهُمَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلا تَرَاضٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2800- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُخَاضَرَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَالْمُلامَسَةِ وَالْمُزَابَنَةِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ) اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِهِ فَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ مِنْ هَذِهِ الأَثْوَابِ مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْحَصَاةُ وَيَرْمِي الْحَصَاةَ، أَوْ مِنْ هَذِهِ الأَرْضِ مَا انْتَهَتْ إلَيْهِ فِي الرَّمْيِ وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْخِيَارَ إلَى أَنْ يَرْمِيَ الْحَصَاةَ. وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَ الرَّمْيِ بَيْعًا. وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَعْنِي: إذَا قَذَفَ الْحَصَاةَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ. قَوْلُهُ: (وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي أَحَادِيثَ،

(2/10)


وَمِنْ جُمْلَةِ بَيْعِ الْغَرَرِ بَيْعُ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ بَيْعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمَعْدُومُ وَالْمَجْهُولُ وَالآبِقُ وَكُلُّ مَا دَخُلُ فِيهِ الْغَرَرُ بوجهِ مِنْ الْوُجُوهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ يَدْخُلُ تَحْتَهُ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَيُسْتَثْنَى مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَدْخُلُ فِي الْمَبِيعِ تَبَعًا بِحَيْثُ لَوْ أَفْرَدَهُ لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ. وَالثَّانِي: مَا يُتَسَامَحُ بِمِثْلِهِ، إمَّا لِحَقَارَتِهِ أَوْ لِلْمَشَقَّةِ فِي تَمْيِيزِهِ أَوْ تَعْيِينِهِ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ هَذَيْنِ الأَمْرَيْنِ بَيْعُ أَسَاسِ الْبِنَاءِ وَاللَّبَنِ فِي ضَرْعِ الدَّابَّةِ وَالْحَمْلِ فِي بَطْنِهَا وَالْقُطْنِ الْمَحْشُوِّ فِي الْجُبَّةِ. قَوْلُهُ: (حَبَلِ الْحَبَلَةِ) الْحَبَلُ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْبَاءِ، وَهُوَ مَصْدَرُ حَبِلَتْ. تَحْبَلُ، وَالْحَبَلَةُ بِفَتْحِهَا أَيْضًا جَمْعُ حَابِلٍ، وَالأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ تَقْضِي بِبُطْلانِ الْبَيْعِ؛ لأَنَّ النَّهْيَ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الأُصُولِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِمَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ لَحْمَ الْجَزُورِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إلَى أَنْ يَلِدَ وَلَدُ النَّاقَةِ. وَقِيلَ: إلَى أَنْ يَحْمِلَ وَلَدُ النَّاقَةِ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ حَبِيبٍ الْمَالِكِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ وَأَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ بَيْعُ وَلَدِ النَّاقَةِ الْحَامِلِ فِي الْحَالِ، فَتَكُونُ عِلَّةُ النَّهْيِ عَلَى الْقَوْلِ الأَوَّلِ جَهَالَةَ الأَجَلِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: بَيْعَ الْغَرَرِ لِكَوْنِهِ مَعْدُومًا وَمَجْهُولًا وَغَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ. قَوْلُهُ: (أَنْ تُنْتَجَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ وَفَتْحِ ثَالِثِهِ، وَالْفَاعِلُ النَّاقَةُ، قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَهَذَا الْفِعْلُ وَقَعَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ عَلَى صِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُسْنَدِ إلَى الْمَفْعُولِ. قَوْلُهُ: (عَنْ شِرَاءِ مَا فِي بُطُونِ الأَنْعَامِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَصِحُّ شِرَاءُ الْحَمْلِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَالْعِلَّةُ الْغَرَرُ وَعَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ. قَوْلُهُ: (وَعَنْ بَيْعِ مَا فِي ضُرُوعِهَا) هُوَ أَيْضًا عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ بَيْعِهِ. قَبْلَ انْفِصَالِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْضَرَرِ وَالْجَهَالَةِ، إلا أَنْ يَبِيعَهُ مِنْهُ كَيْلًا، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ:

(2/11)


بِعْت مِنْكَ صَاعًا مِنْ حَلِيبِ بَقَرَتِي، فَإِنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ لارْتِفَاعِ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ. قَوْلُهُ: (وَعَنْ شِرَاءِ الْعَبْدِ الآبِقِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَعِلَّةُ النَّهْيِ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ. قَوْلُهُ: (وَعَنْ شِرَاءِ الصَّدَقَاتِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ للْمُصَّدِّقُ عَلَيْهِ بَيْعُ الصَّدَقَةِ قَبْلَ قَبْضِهَا؛ لأَنَّهُ لا يَمْلِكُهَا إلا بِهِ، وَقَدْ خُصِّصَ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ، فَقِيلَ: يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الصَّدَقَاتِ قَبْلَ قَبْضِهَا، وَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ إلا بِدَلِيلٍ يَخُصُّ هَذَا الْعُمُومَ، وَجَعْلُ التَّخْلِيَةِ إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ، عَلَى تَسْلِيمِ قِيَامِهَا مَقَامَ الْقَبْضِ فَلا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. قَوْلُهُ: (وَعَنْ ضَرْبَةِ الْغَائِصِ) الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَقُولُ مَنْ يَعْتَادُ الْغَوْصَ فِي الْبَحْرِ لِغَيْرِهِ: مَا أَخْرَجْتُهُ فِي هَذِهِ الْغَوْصَةِ فَهُوَ لَكَ بِكَذَا مِنْ الثَّمَنِ، فَإِنَّ هَذَا لا يَصِحُّ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ. قَوْلُهُ: (نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُبَاعَ ثَمَرٌ حَتَّى يُطْعَمَ) سَيَأْتِي الْكَلامُ عَلَى هَذَا فِي بَابِ النَّهْيِ عَنْ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاحِهِ. إن شاء الله تعالى. قَوْلُهُ: (أَوْ صُوفٌ عَلَى ظَهْرٍ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ بَيْعِ الصُّوفِ مَا دَامَ عَلَى ظَهْرِ الْحَيَوَانِ، وَالْعِلَّةُ الْجَهَالَةُ وَالتَّأْدِيَةُ إلَى الشِّجَارِ فِي مَوْضِعِ الْقَطْعِ. قَوْلُهُ: (أَوْ سَمْنٌ فِي لَبَنٍ) يَعْنِي: لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ. قَوْلُهُ: (عَنْ الْمُلامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ) هُمَا مُفَسَّرَانِ بِمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ، قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَلأَبِي عَوَانَةَ عَنْ يُونُسَ: أَنْ يَتَبَايَعَ الْقَوْمُ السِّلَعَ لا يَنْظُرُونَ إلَيْهَا وَلا يُخْبِرُونَ عَنْهَا، أَوْ يَتَنَابَذُ الْقَوْمُ السِّلَعَ كَذَلِكَ، فَهَذَا مِنْ أَبْوَابِ الْقِمَارِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْعِلَّةُ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُلامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ وَإِبْطَالُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ يَأْتِي الْكَلامُ عَلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُحَاقَلَةِ

(2/12)


وَالْمُزَابَنَةِ فِي بَابِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاحِهِ. وَأَمَّا الْمُخَاضَرَةُ فَهِيَ بَيْعُ الثَّمَرَةِ خَضْرَاءَ قَبْلَ بدو صَلاحِهَا وَسَيَأْتِي الْخِلافُ فِي ذَلِكَ. إن شاء الله تعالى. بَابُ النَّهْيِ عَنْ الاسْتِثْنَاءِ فِي الْبَيْعِ إلا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا 2801- عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالثُّنْيَا إلا أَنْ تُعْلَمَ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالثُّنْيَا - بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ النُّونِ - الْمُرَادُ بِهَا الاسْتِثْنَاءُ فِي الْبَيْعِ نَحْوَ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ شَيْئًا وَيَسْتَثْنِيَ بَعْضَهُ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ مَعْلُومًا نَحْوَ أَنْ يَسْتَثْنِيَ وَاحِدَةً مِنْ الأَشْجَارِ أَوْ مَنْزِلًا مِنْ الْمَنَازِلِ أَوْ مَوْضِعًا مَعْلُومًا مِنْ الأَرْضِ صَحَّ بِالاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا نَحْوَ أَنْ يَسْتَثْنِيَ شَيْئًا غَيْرَ مَعْلُومٍ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مَجْهُولَ الْعَيْنِ إذَا ضَرَبَ لاخْتِيَارِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً؛ لأَنَّهُ بِذَلِكَ صَارَ كَالْمَعْلُومِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لا يَصِحُّ لِمَا فِي الْجَهَالَةِ حَالَ الْبَيْعِ مِنْ الْغَرَرِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَالْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ اسْتِثْنَاءِ الْمَجْهُولِ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ الْغَرَرِ مَعَ الْجَهَالَةِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ 2802- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 2803- وَفِي لَفْظٍ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 2804- وَعَنْ سِمَاكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ. قَالَ سِمَاكٌ: هُوَ الرَّجُلُ يَبِيعُ الْبَيْعَ فَيَقُولُ: هُوَ بِنَسًا بِكَذَا وَهُوَ بِنَقْدٍ بِكَذَا وَكَذَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

(2/13)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ» فَسَّرَهُ سِمَاكٌ بِمَا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ أَحْمَدَ عَنْهُ، وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: بِأَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ بِأَلْفٍ نَقْدًا أَوْ أَلْفَيْنِ إلَى سَنَةٍ، فَخُذْ أَيَّهُمَا شِئْت أَنْتَ وَشِئْت أَنَا. وَنَقَلَ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْ الْقَاضِي أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ عَلَى أَنَّهُ قَبِلَ عَلَى الإِبْهَامِ. أَمَّا لَوْ قَالَ: قَبِلْت بِأَلْفٍ نَقْدًا وَبِأَلْفَيْنِ بِالنَّسِيئَةِ صَحَّ ذَلِكَ. وَقَدْ فَسَّرَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ بِتَفْسِيرٍ آخَرَ فَقَالَ: هُوَ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ ذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي دَارَك بِكَذَا: أَيْ: إذَا وَجَبَ لَكَ عِنْدِي وَجَبَ لِي عِنْدَكَ، وَهَذَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لِلرِّوَايَةِ الأُخْرَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ لا لِلأُولَى فَإِنَّ قَوْلَهُ: «فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَاعَ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ بَيْعَتَيْنِ، بَيْعَةً بِأَقَلَّ وَبَيْعَةً بِأَكْثَرَ. وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ: هُوَ أَنْ يُسَلِّفَهُ دِينَارًا فِي قَفِيزِ حِنْطَةٍ إلَى شَهْرٍ فَلَمَّا حَلَّ الأَجَلُ وَطَالَبَهُ بِالْحِنْطَةِ قَالَ: بِعْنِي الْقَفِيزَ الَّذِي لَك عَلَيَّ، إلَى شَهْرَيْنِ بِقَفِيزَيْنِ، فَصَارَ ذَلِكَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ؛ لأَنَّ الْبَيْعَ الثَّانِيَ قَدْ دَخَلَ عَلَى الأَوَّلِ فَيُرَدُّ إلَيْهِ أَوْكَسُهُمَا وَهُوَ الأَوَّلُ كَذَا فِي شَرْحِ السُّنَنِ لابْنِ رِسْلانَ. قَوْلُهُ: «فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا» أَيْ: أَنْقَصُهُمَا. أَوْ الرِّبَا، يَعْنِي: أَوْ يَكُونُ قَدْ دَخَلَ هُوَ وَصَاحِبُهُ فِي الرِّبَا الْمُحَرَّمِ إذَا لَمْ يَأْخُذْ الأَوْكَسَ بَلْ أَخَذَ الأَكْثَرَ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ رِسْلانَ. وَأَمَّا التَّفْسِيرُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَحْمَدُ عَنْ سِمَاكٍ وَذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فَفِيهِ مُتَمَسَّكٌ لِمَنْ قَالَ: يَحْرُمُ بَيْعُ الشَّيْءِ بِأَكْثَرَ مِنْ سِعْرِ يَوْمِهِ لأَجْلِ النَّسَاءِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إنَّهُ يَجُوزُ لِعُمُومِ الأَدِلَّةِ الْقَاضِيَةِ بِجَوَازِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ؛ إلى أن قَالَ: وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ عَدَمُ اسْتِقْرَارِ الثَّمَنِ فِي صُورَةِ بَيْعِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ بِثَمَنَيْنِ وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ الْمُسْتَقْبَلِ فِي صُورَةِ بَيْعِ هَذَا عَلَى أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ ذَاكَ، وَلُزُومُ الرِّبَا فِي صُورَةِ الْقَفِيزِ الْحِنْطَةِ. بَابُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْعُرْبُونِ 2805- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ الْعُرْبَانِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَهُوَ لِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأ.

(2/14)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ مُنْقَطِعٌ؛ لأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَلَمْ يُدْرِكْهُ إلى أن قَالَ: وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مَوْصُولًا مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ مَالِكٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْعُرْبَانِ فِي الْبَيْعِ فَأَحَلَّهُ. وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَفِي إسْنَادِهِ إبْرَاهِيمُ ابْنُ أَبِي يَحْيَى وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَحَدِيثُ الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْبَيْعِ مَعَ الْعُرْبَانِ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَحْمَدُ فَأَجَازَهُ وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ، وَالْعِلَّةُ فِي النَّهْيِ عَنْهُ اشْتِمَالُهُ عَلَى شَرْطَيْنِ فَاسِدَيْنِ: أَحَدُهُمَا: شَرْطُ كَوْنِ مَا دَفَعَهُ إلَيْهِ يَكُونُ مَجَّانًا إنْ اخْتَارَ تَرْكَ السِّلْعَةِ، وَالثَّانِي: شَرْطُ الرَّدِّ عَلَى الْبَائِعِ إذَا لَمْ يَقَعْ مِنْهُ الرِّضَا بِالْبَيْعِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ في المقنع: إذَا قَالَ الْمُرْتَهِنُ إن جئتك بِحَقِّكَ فِي مَحَلِّهِ وَإِلا فَالرَّهْنُ لِكَ فَلا يَصْلُحُ الْبَيْعَ إلا بَيْعِ العُرُبُونٌ وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا وَيُعْطِيَ الْبَائِعِ دِرْهَمًا ويقول إن أخذته وَإلا فالدرهم لِكَ. فَقَالَ أحمد رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ: يَصِحُّ لأَنَّ عُمَر رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَعَلَهُ، وَعِنْدَ أَبِي الْخَطاب: لا يَصِحُّ. انْتَهَى. قَالَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: وَإِنَّمَا صَارَ أَحْمَدٌ فِيهِ إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ نَافِع بن الْحَارِثِ أَنَّهُ اشْتَرَى لِعُمَرِ دَارَ السِّجْنِ مِنْ صَفْوَان بن أمية فَإِنْ رَضِيَ عُمَر وَإِلا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا. قَالَ الأَثْرَمُ: قُلْتُ لأَحْمَدٍ: تَذْهَبُ إِلَيْهِ؟ قَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَقُولُ؟ هَذَا عُمَر - رضي الله عنه - وضَعَّفَ الْحَدِيث الْمَرْوِيّ، رَوَى هَذِهِ الْقِصْة الأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ. انْتَهَى. بَابُ تَحْرِيمِ بَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا وَكُلِّ بَيْعٍ أَعَانَ عَلَى مَعْصِيَةٍ 2806- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً: عَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَشَارِبَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَآكِلَ ثَمَنِهَا، وَالْمُشْتَرِيَ لَهَا، وَالْمُشْتَرَاةَ لَهُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. 2807- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لُعِنَتْ الْخَمْرَةُ عَلَى عَشَرَةِ وُجُوهٍ، لُعِنَتْ الْخَمْرَةُ بِعَيْنِهَا، وَشَارِبِهَا، وَسَاقِيهَا، وَبَائِعِهَا، وَمُبْتَاعِهَا، وَعَاصِرِهَا، وَمُعْتَصِرِهَا،

(2/15)


وَحَامِلِهَا، وَالْمَحْمُولَةِ إلَيْهِ، وَآكِلِ ثَمَنِهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ وَأَبُو دَاوُد بِنَحْوِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ (وَآكِلَ ثَمَنِهَا) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ وَأَبُو دَاوُد بِنَحْوِهِ. لَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ (وَآكِلَ ثَمَنِهَا) ، وَلَمْ يَقُلْ: عَشَرَةً. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِحَدِيثَيْ الْبَابِ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، وَتَحْرِيمِ كُلِّ بَيْعٍ أَعَانَ عَلَى مَعْصِيَةٍ قِيَاسًا عَلَى ذَلِكَ، قَالَ: وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى مُرَادِ الْمُصَنِّفِ حَدِيثُ بُرَيْدَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ بِلَفْظِ: مَنْ حَبَسَ الْعِنَبَ أَيَّامَ الْقِطَافِ حَتَّى يَبِيعَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا فَقَدْ تَقَحَّمَ النَّارَ عَلَى بَصِيرَةٍ. قَالَ: وَيُؤَيِّدُ الْمَنْعَ مِنْ الْبَيْعِ مَعَ ظَنِّ اسْتِعْمَالِ الْمَبِيعِ فِي مَعْصِيَةِ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تَبِيعُوا الْقَيْنَاتِ الْمُغَنِّيَاتِ وَلا تَشْتَرُوهُنَّ، وَلا خَيْرَ فِي تِجَارَةٍ فِيهِنَّ، وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ» . انْتَهَى ملخصًا. بَابُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ مَا لا يَمْلِكُهُ لِيَمْضِيَ فَيَشْتَرِيَهُ وَيُسَلِّمَهُ 2808- عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ يَأْتِينِي الرَّجُلُ فَيَسْأَلُنِي عَنْ الْبَيْعِ لَيْسَ عِنْدِي مَا أَبِيعُهُ مِنْهُ، ثُمَّ أَبْتَاعُهُ مِنْ السُّوقِ فَقَالَ: «لا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» أَيْ: مَا لَيْسَ فِي مِلْكِكَ وَقُدْرَتِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ الَّذِي لا يُقْدَرُ عَلَى انْتِزَاعِهِ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ، وَعَلَى الآبِقِ الَّذِي لا يُعْرَفُ مَكَانُهُ، وَالطَّيْرِ الْمُنْفَلِتِ الَّذِي لا يُعْتَادُ رُجُوعُهُ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَعْنَى " عِنْدَ " لُغَةً. قَالَ الرَّضِيُّ: إنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْحَاضِرِ الْقَرِيبِ وَمَا هُوَ فِي حَوْزَتِكَ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا قَالَ الشَّارِحُ: فَيَخْرُجُ عَنْ هَذَا مَا كَانَ غَائِبًا خَارِجًا عَنْ الْمِلْكِ أَوْ دَاخِلًا فِيهِ خَارِجًا عَنْ الْحَوْزَةِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُقَالُ مَا كَانَ حَاضِرًا وَإِنْ كَانَ خَارِجًا عَنْ الْمِلْكِ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - لا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ أَيْ: مَا

(2/16)


لَيْسَ حَاضِرًا عِنْدَكَ وَلا غَائِبًا فِي مِلْكِكَ وَتَحْتَ حَوْزَتِكَ. قَالَ الْبَغَوِيّ: النَّهْيُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ بُيُوعِ الأَعْيَانِ الَّتِي لا يَمْلِكُهَا. أَمَّا بَيْعُ مَوْصُوفٍ فِي ذِمَّتِهِ فَيَجُوزُ فِيهِ السَّلَمُ بِشُرُوطِهِ، فَلَوْ بَاعَ شَيْئًا مَوْصُوفًا فِي ذِمَّتِهِ تَامَّ الْوُجُودِ عِنْدَ الْمَحَلِّ الْمَشْرُوطِ فِي الْبَيْعِ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَبِيعُ مَوْجُودًا فِي مِلْكِهِ حَالَةَ الْعَقْدِ كالسَّلَمُ. قَالَ: وَفِي بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ فِي الْفَسَادِ بَيْعُ الطَّيْرِ الْمُنْفَلِتِ الَّذِي لا يُعْتَادُ رُجُوعُهُ إلَى مَحَلِّهِ، فَإِنْ اعْتَادَ الطَّائِرُ أَنْ يَعُودَ لَيْلًا لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا عِنْدَ الأَكْثَرِ إلا النَّحْلُ فَإِنَّ الأَصَحَّ فِيهِ الصِّحَّةُ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي زِيَادَاتِ الرَّوْضَةِ، وَظَاهِرُ النَّهْيِ تَحْرِيمُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِ الإِنْسَانِ وَلا دَاخِلًا تَحْتَ مَقْدِرَتِهِ، وَقَدْ اُسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ السَّلَمُ فَتَكُونُ أَدِلَّةُ جَوَازِهِ مُخَصِّصَةً لِهَذَا الْعُمُومِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي إذْ هُوَ كَالْحَاضِرِ الْمَقْبُوضِ. بَابُ مَنْ بَاعَ سِلْعَةً مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ مِنْ آخَرَ 2809- عَنْ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ فَهِيَ لِلأَوَّلِ مِنْهُمَا، وَأَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ بَيْعًا مِنْ رَجُلَيْنِ فَهُوَ لِلأَوَّلِ مِنْهُمَا» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا أَنَّ ابْنَ مَاجَةْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ فَصْلَ النِّكَاحِ. وَهُوَ يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى فَسَادِ بَيْعِ الْبَائِعِ الْمَبِيعَ وَإِنْ كَانَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَهِيَ لِلأَوَّلِ مِنْهُمَا) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا عَقَدَ لَهَا وَلِيَّانِ لِزَوْجَيْنِ كَانَتْ لِمَنْ عَقَدَ لَهُ أَوَّلُ الْوَلِيَّيْنِ مِنْ الزَّوْجَيْنِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي أَمْ لا. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ وَطَاوُسٌ وَالزُّهْرِيُّ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، فَقَالُوا: إنَّهَا تَكُونُ لِلثَّانِي إذَا كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا؛ لأَنَّ الدُّخُولَ أَقْوَى. قَوْلُهُ: «وَأَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ» إلَى آخره فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ آخَرَ لَمْ يَكُنْ لِلْبَيْعِ الآخَرِ حُكْمٌ، بَلْ هُوَ بَاطِلٌ؛ لأَنَّهُ بَاعَ غَيْرَ مَا يَمْلِكُ، إذْ قَدْ صَارَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي الأَوَّلِ وَلا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ الثَّانِي

(2/17)


وَقَعَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، أَوْ بَعْدَ انْقِرَاضِهَا؛ لأَنَّ الْمَبِيعَ قَدْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ. بَابُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَجَوَازِهِ بِالْعَيْنِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ 2810- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. 2811- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْت: إنِّي أَبِيعُ الإِبِلَ بِالْبَقِيعِ فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ فَقَالَ: «لا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَ بِسِعْرِ يَوْمِهَا مَا لَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ 2812- وَفِي لَفْظِ بَعْضِهِمْ: أَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ مَكَانَهَا الْوَرِقَ، وَأَبِيعُ بِالْوَرِقِ وَآخُذُ مَكَانَهَا الدَّنَانِيرَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَإِنْ كَانَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ وَعَلَى أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لا يَدْخُلُ الصَّرْفَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ (الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ) هُوَ مَهْمُوزٌ. قَالَ الْحَاكِمُ: عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ حَسَّانَ هُوَ بَيْعُ النَّسِيئَةِ بِالنَّسِيئَةِ، كَذَا نَقَلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْغَرِيبِ، وَكَذَا نَقَلَهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: هُوَ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَهُوَ إجْمَاعٌ كَمَا حَكَاهُ أَحْمَدُ، وَكَذَا لا يَجُوزُ بَيْعُ كُلِّ مَعْدُومٍ بِمَعْدُومٍ. قَوْلُهُ (بِالْبَقِيعِ) قَالَ الْحَافِظُ: بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ كَمَا وَقَعَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَمْ يَكُنْ إذْ ذَاكَ قَدْ كَثُرَتْ فِيهِ الْقُبُورُ، قَوْلُهُ: «لا بَأْسَ» إلَى آخْره، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الاسْتِبْدَالِ عَنْ الثَّمَنِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ بِغَيْرِهِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُمَا غَيْرُ حَاضِرَيْنِ جَمِيعًا، بَلْ الْحَاضِرُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ غَيْرُ اللازِمِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ كَالْحَاضِرِ.

(2/18)


قَوْلُهُ: «مَا لَمْ تَفْتَرِقَا، وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَوَازَ الاسْتِبْدَالِ مُقَيَّدٌ بِالتَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ؛ لأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مَالانِ رِبَوِيَّانِ، فَلا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالآخَرِ إلا بِشَرْطِ وُقُوعِ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ. بَابُ نَهْيِ الْمُشْتَرِي عَنْ بَيْعِ مَا اشْتَرَاهُ قَبْلَ قَبْضِهِ 2813- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا ابْتَعْتَ طَعَامًا فَلا تَبِعْهُ حَتَّى تَسْتَوْفِيَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 2814- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُشْتَرَى الطَّعَامُ ثُمَّ يُبَاعَ حَتَّى يُسْتَوْفَى. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 2815- وَلِمُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ اشْتَرَى طَعَامًا فَلا يَبِيعُهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ» . 2816- وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَشْتَرِي بُيُوعًا فَمَا يَحِلُّ لِي مِنْهَا وَمَا يَحْرُمُ عَلَيَّ؟ قَالَ: «إذَا اشْتَرَيْتَ شَيْئًا فَلا تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2817- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعُ حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَّارُ إلَى رِحَالِهِمْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ. 2818- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانُوا يَتَبَايَعُونَ الطَّعَامَ جُزَافًا بِأَعْلَى السُّوقِ فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبِيعُوهُ حَتَّى يَنْقُلُوهُ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ وَابْنَ مَاجَةْ. 2819- وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ: حَتَّى يُحَوِّلُوهُ. 2820- وَلِلْجَمَاعَةِ إلا التِّرْمِذِيَّ: مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ. 2821- وَلأَحْمَدَ: مَنْ اشْتَرَى طَعَامًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ فَلا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ.

(2/19)


2822- وَلأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ: نَهَى أَنْ يَبِيعَ أَحَدٌ طَعَامًا اشْتَرَاهُ بِكَيْلٍ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ. 2823- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ» . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلا أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ إلا مِثْلَهُ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. 2824- وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلا يَبِعْهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَوْلُهُ: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -) إلى آَخْره: فِيه دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ لِمَنْ اشْتَرَى طَعَامًا أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْجُزَافِ وَغَيْرِهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. قَوْلُهُ: (حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَّارُ إلَى رِحَالِهِمْ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَكْفِي مُجَرَّدُ الْقَبْضِ بَلْ لا بُدَّ مِنْ تَحْوِيلِهِ إلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي يَسْكُنُ فِيهِ الْمُشْتَرِي أَوْ يَضَعُ فِيهِ بِضَاعَتَهُ، وَكَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الأُخْرَى: حَتَّى يُحَوِّلُوهُ. قَوْلُهُ: (وَلا أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ إلا مِثْلَهُ) اسْتَعْمَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْقِيَاسَ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّصُّ الْمُقْتَضِي لِكَوْنِ سَائِرِ الأَشْيَاءِ كَالطَّعَامِ. قَوْلُهُ: «حَتَّى يَكْتَالَهُ» قِيلَ: الْمُرَادُ بِالاكْتِيَالِ الْقَبْضُ وَالاسْتِيفَاءُ كَمَا فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ الأَغْلَبُ فِي الطَّعَامِ ذَلِكَ صَرَّحَ بِلَفْظِ الْكَيْلِ وَهُوَ خِلافُ الظَّاهِرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مُكَايَلَةً أَوْ مُوَازَنَةً فَلا يَكُونُ قَبْضُهُ إلا بِالْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ فَإِنْ قَبَضَهُ جِزَافًا كَانَ فَاسِدًا، وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ. بَابُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ 2825- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ صَاعُ الْبَائِعِ، وَصَاعُ الْمُشْتَرِي. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَالدَّارَقُطْنِيّ. 2826- وَعَنْ عُثْمَانَ قَالَ: كُنْتُ أَبْتَاعُ التَّمْرَ مِنْ بَطْنٍ مِنْ الْيَهُودِ يُقَالُ

(2/20)


لَهُمْ: بَنُو قَيْنُقَاعَ وَأَبِيعُهُ بِرِبْحٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «يَا عُثْمَانُ إذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ وَإِذَا بِعْتَ فَكِلْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2827- وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْهُ بِغَيْرِ إسْنَادِ كَلامِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مُكَايَلَةً وَقَبَضَهُ ثُمَّ بَاعَهُ إلَى غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ تَسْلِيمُهُ بِالْكَيْلِ الأَوَّلِ حَتَّى يَكِيلَهُ عَلَى مَنْ اشْتَرَاهُ ثَانِيًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. انتهى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَيَمْلِكُ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِالْعَقْدِ وَيَصِحُّ عِتْقَهُ قَبْل الْقَبْضِ إِجْمَاعًا فِيهِمَا، وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَبِعْهُ قَبْلَ قَبْضِهِ سَوَاءٌ الْمَكِيل وَالْمَوْزُون وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ رِوَايةً عَنْ أَحْمَدٍ اخْتَارَهَا ابْنُ عَقِيلٍ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَسَوَاءٌ كَان الْمَبِيعُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي أَوْ لا، وَعَلَى ذَلِكَ تَدُلُّ أُصُول أَحْمَدٍ كَتَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فِي الثَّمَرَةِ قَبْلَ جِذِّهَا فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَهِي مَضْمُونَةٌ عَلَى الْبَائِعِ وَكَصِحَّةِ تَصَرُّفُ الْمُسْتَأْجِر فِي الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ بِالإِجَارَةِ وَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُؤَجِّرِ، وَيُمْتَنَعُ التَّصَرُّف فِي صِبْرَةِ الطَّعَامِ الْمُشْتَرَاة جُزَافًا عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهِيَ اخْتِيَارِ الْخرقيّ مَعَ أَنَّهَا مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الأَكْثَرِينَ، وَعِلَّةُ النَّهْي عَنْ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَيْسَتْ تَوَالِي الضَّمَانين بَلْ عَجْز الْمُشْتَرِي عَنْ تَسْلِيمِهِ لأَنَّ الْبَائِعَ قَدْ يُسْلِمَهُ وَقَدْ لا يُسْلِمَهُ إِذَا رَأَى الْمُشْتَرِي قَدْ رَبِحَ فَيَسْعَى فِي رَدِّ الْبَيْعِ إِمَّا بِجِحْدٍ أَوْ بِاحْتِيالٍ في الْفَسْخِ، وَعَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ تَجُوزُ التَّوْلِيَةِ فِي الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ وَهُوَ مُخْرَجٌ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ الدِّين، وَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِغَيْرِ الْبَيْعِ وَيَجُوزُ بَيْعَهُ لِبَائِعِهِ وَالشِّرْكَةُ فِيهِ، وَكُلُّ مَا مُلِكَ بِعَقْدٍ سُوَى الْبَيْع فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ لِعَدَمِ قَصْدِ الرِّبْحِ، وَإِذَا تَعَيَّنَ مِلْك إِنْسَانٍ فِي مَوْرُوثٍ أَوْ وَصِيّة أَوْ غَنِيمَة لَمْ يعتَبَرْ لِصِحَّةِ تَصَرُّفُهُ قَبْضَهُ بِلا خِلافٍ، وَيَنْتَقِلُ الضَّمَانُ إِلَى الْمُشْتَرِي بِتَمَكُّنِهِ مِنَ الْقَبْضِ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدٍ الْفَرْقُ بَيْنَ تَمَكُّنْ قَبْضَهُ وَغَيْرِهِ لَيْسَ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَقْبُوضِ وَغَيْرِهِ، انْتَهَى.

(2/21)


بَابُ مَا جَاءَ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ ذَوِي الْمَحَارِمِ 2828- عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. 2829- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَبِيعَ غُلامَيْنِ أَخَوَيْنِ فَبِعْتُهُمَا وَفَرَّقْتُ بَيْنَهُمَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: أَدْرِكْهُمَا فَارْتَجِعْهُمَا وَلا تَبِعْهُمَا إلا جَمِيعًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2830- وَفِي رِوَايَةٍ: وَهَبَ لِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - غُلامَيْنِ أَخَوَيْنِ فَبِعْتُ أَحَدَهُمَا فَقَالَ لِي يَا عَلِيُّ مَا فَعَلَ غُلامُكَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: رُدَّهُ، رُدَّهُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. 2831- وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ وَبَيْنَ الأَخِ وَأَخِيهِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَالدَّارَقُطْنِيّ. 2832- وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ جَارِيَةٍ وَوَلَدِهَا فَنَهَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ وَرَدَّ الْبَيْعَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ. 2833- وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ أَبِي بَكْرٍ أَمَّرَهُ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَغَزَوْنَا فَزَارَةَ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ الْمَاءِ أَمَرَنَا أَبُو بَكْرٍ فَعَرَّسْنَا، فَلَمَّا صَلَّيْنَا الصُّبْحَ أَمَرَنَا أَبُو بَكْرٍ فَشَنَنَّا الْغَارَةَ فَقَتَلْنَا عَلَى الْمَاءِ مَنْ قَتَلْنَا، قَالَ: ثُمَّ نَظَرْتُ إلَى عُنُقٍ مِنْ النَّاسِ فِيهِ الذُّرِّيَّةُ وَالنِّسَاءُ، نَحْوَ الْجَبَلِ، وَأَنَا أَعْدُو فِي إثْرِهِمْ، فَخَشِيتُ أَنْ يَسْبِقُونِي إلَى الْجَبَلِ، فَرَمَيْتُ بِسَهْمٍ فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْجَبَلِ، قَالَ: فَجِئْتُ بِهِمْ أَسُوقُهُمْ إلَى أَبِي بَكْرٍ وَفِيهِمْ امْرَأَةٌ مِنْ فَزَارَةَ عَلَيْهَا قَشْعٌ مِنْ أَدَمٍ وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا مِنْ أَحْسَنِ الْعَرَبِ وَأَجْمَلِهِ فَنَفَلَنِي أَبُو بَكْرٍ ابْنَتَهَا، فَلَمْ أَكْشِفْ لَهَا ثَوْبًا حَتَّى قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ ثُمَّ بِتُّ فَلَمْ أَكْشِفْ لَهَا ثَوْبًا فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي السُّوقِ، فَقَالَ: «يَا سَلَمَةُ هَبْ لِي الْمَرْأَةَ» ؟ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ أَعْجَبَتْنِي وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا، فَسَكَتَ وَتَرَكَنِي حَتَّى إذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ لَقِيَنِي فِي

(2/22)


السُّوقِ، فَقَالَ: «يَا سَلَمَةُ هَبْ لِي الْمَرْأَةَ لِلَّهِ أَبُوكَ» . فَقُلْتُ: هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَبَعَثَ بِهَا إلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَفِي أَيْدِيهِمْ أُسَارَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَفَدَاهُمْ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَالْوَلَدِ، وَبَيْنَ الأَخَوَيْنِ. وَاُخْتُلِفَ فِي انْعِقَادِ الْبَيْعِ، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهُ لا يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الأَبِ وَالابْنِ وَلا يَخْفَى أَنَّ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى يَشْمَلُ الأَبَ وَظَاهِرُ الأَحَادِيثِ أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ سَوَاءٌ كَانَ بِالْبَيْعِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِمَّا فِيهِ مَشَقَّةٌ تُسَاوِي مَشَقَّةَ التَّفْرِيقِ بِالْبَيْعِ إلا التَّفْرِيقَ الَّذِي لا اخْتِيَارَ فِيهِ لِلْمُفَرِّقِ كَالْقِسْمَةِ، وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذَا بحَدِيثِ سَلَمَةَ عَلَى جَوَازِ التَّفْرِيقِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، لأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْبِنْتَ قَدْ كَانَتْ بَلَغَتْ قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ حُجَّةٌ فِي جَوَازِ التَّفْرِيقِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَجَوَازِ تَقْدِيمِ الْقَبُولِ بِصِيغَةِ الطَّلَبِ عَلَى الإِيجَابِ فِي الْهِبَةِ وَنَحْوِهَا وَفِيهِ أَنَّ مَا مَلَكَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الرَّقِيقِ يَجُوزُ رَدُّهُ إلَى الْكُفَّارِ فِي الْفِدَاءِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ حَكَى فِي الْغَيْثِ الإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ التَّفْرِيقِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ النَّهْيِ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ 2834- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. 2835- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ، دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ. 2836- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: نُهِينَا أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(2/23)


2837- وَلأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَإِنْ كَانَ أَبَاهُ أَوْ أَخَاهُ. 2838- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ وَلا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ» . فَقِيلَ لابْنِ عَبَّاسٍ: مَا قَوْلُهُ: لا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ؟ قَالَ: لا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «حَاضِرٌ لِبَادٍ» الْحَاضِرُ: سَاكِنُ الْحَضَرِ، وَالْبَادِي: سَاكِنُ الْبَادِيَةِ. قَوْلُهُ: «دَعُوا النَّاسَ» إلى آَخْره، فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا اسْتَنْصَحَ الرَّجُلُ فَلْيُنْصَحْ لَهُ» . وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَبِيعَ لِلْبَادِي مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَادِي قَرِيبًا أَوْ أَجْنَبِيًّا، وَسَوَاءٌ أكَانَ فِي زَمَنِ الْغَلاءِ أَمْ لا، وَسَوَاءٌ أكَانَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَهْلُ الْبَلَدِ أَمْ لا، وَسَوَاءٌ أبَاعَهُ لَهُ عَلَى التَّدْرِيجِ أَمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: إنَّهُ يَخْتَصُّ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ بِزَمَنِ الْغَلاءِ وَبِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَهْلُ الْمَصْرِ. وَقَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إنَّ الْمَمْنُوعَ إنَّمَا هُوَ أَنْ يَجِيءَ الْبَلَدَ بِسِلْعَةٍ يُرِيدُ بَيْعَهَا بِسِعْرِ الْوَقْتِ فِي الْحَالِ، فَيَأْتِيَهُ الْحَاضِرُ فَيَقُولَ: ضَعْهُ عِنْدِي لأَبِيعَهُ لَكَ عَلَى التَّدْرِيجِ بِأَغْلَى مِنْ هَذَا السِّعْرِ قَالَ فِي الْفَتْحِ: فَجَعَلُوا الْحُكْمَ مَنُوطًا بِالْبَادِي وَمَنْ شَارَكَهُ فِي مَعْنَاهُ، وَجَعَلَتْ الْمَالِكِيَّةُ الْبَدَاوَةَ قَيْدًا، انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَاللهُ أَعْلَمُ. بَابُ النَّهْيِ عَنْ النَّجْشِ 2839- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَأَنْ يَتَنَاجَشُوا. 2840- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ النَّجْشِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.

(2/24)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (النَّجْشِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْجِيمِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَهُوَ فِي اللُّغَةِ تَنْفِيرُ الصَّيْدِ وَاسْتِثَارَتُهُ مِنْ مَكَان لِيُصَادَ، وَفِي الشَّرْعِ: الزِّيَادَةُ فِي السِّلْعَةِ، وَيَقَعُ ذَلِكَ بِمُوَاطَأَةِ الْبَائِعِ فَيَشْتَرِكَانِ فِي الإِثْمِ، وَيَقَعُ ذَلِكَ بِغَيْرِ عِلْمِ الْبَائِعِ فَيَخْتَصُّ بِذَلِكَ النَّاجِشُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: النَّجْشُ: أَنْ تُحْضَرَ السِّلْعَةُ تُبَاعُ فَيُعْطِي بِهَا الشَّيْءَ وَهُوَ لا يُرِيدُ شِرَاءَهَا لِيَقْتَدِيَ بِهِ السُّوَّامُ فَيُعْطُونَ بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا كَانُوا يُعْطُونَ لَوْ لَمْ يَسْمَعُوا سَوْمَهُ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ النَّاجِشَ عَاصٍ بِفِعْلِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْبَيْعِ إذَا وَقَعَ عَلَى ذَلِكَ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَسَادَ ذَلِكَ الْبَيْعِ إذَا وَقَعَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إذَا كَانَ بِمُوَاطَأَةِ الْبَائِعِ أَوْ صَنْعَتِهِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ثُبُوتُ الْخِيَارِ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ قِيَاسًا عَلَى الْمُصَرَّاةِ. بَابُ النَّهْيِ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ 2841- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ تَلَقِّي الْبُيُوعِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2842- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُتَلَقَّى الْجَلَبُ فَإِنْ تَلَقَّاهُ إنْسَانٌ فَابْتَاعَهُ فَصَاحِبُ السِّلْعَةِ فِيهَا بِالْخِيَارِ إذَا وَرَدَ السُّوقَ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ تَلَقِّي الْبُيُوعِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّلَقِّيَ مُحَرَّمٌ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي هَذَا النَّهْيِ هَلْ يَقْتَضِي الْفَسَادَ أَمْ لا؟ فَقِيلَ: يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَقِيلَ: لا، وَهُوَ الظَّاهِرُ؛ لأَنَّ النَّهْيَ هَاهُنَا لأَمْرٍ خَارِجٍ وَهُوَ لا يَقْتَضِيهِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الأُصُولِ. قَوْلُهُ: (بِالْخِيَارِ) اخْتَلَفُوا هَلْ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ مُطْلَقًا، أَوْ بِشَرْطِ أَنْ يَقَعَ لَهُ فِي الْبَيْعِ عَيْنٌ؟ ذَهَبَتْ الْحَنَابِلَةُ إلَى الأَوَّلِ وَهُوَ الأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ

(2/25)


الظَّاهِرُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ النَّهْيَ لأَجْلِ مَنفْعَةِ الْبَائِعِ وَإِزَالَةِ الضَّرَرِ عَنْهُ، وَصِيَانَتِهِ مِمَّنْ يَخْدَعُهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَحَمَلَهُ مَالِكٌ عَلَى نَفْعِ أَهْلِ السُّوقِ، قَالَ الشَّارِحُ: وَلا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُقَالَ: الْعِلَّةُ فِي النَّهْيِ مُرَاعَاةُ نَفْعِ الْبَائِعِ وَنَفْعِ أَهْلِ السُّوقِ. بَابُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَسَوْمِهِ إلا فِي الْمُزَايَدَةِ 2843- عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إلا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2844- وَلِلنَّسَائِيِّ: «لا يَبِيعُ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ حَتَّى يَبْتَاعَ أَوْ يَذَرَ» وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْبَيْعِ الشِّرَاءَ. 2845- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَلا يَسُومُ عَلَى سَوْمِهِ» . 2846- وَفِي لَفْظٍ: «لا يَبِعْ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2847- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَاعَ قَدَحًا وَحِلْسًا فِيمَنْ يَزِيدُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لا يَبِيعُ» الأَكْثَرُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ عَلَى أَنَّ (لا) نَافِيَةٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ نَاهِيَةً وَأُشْبِعَتْ الْكَسْرَةُ كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: {إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} وَهَكَذَا ثَبَتَتْ الْيَاءُ فِي بَقِيَّةِ أَلْفَاظِ الْبَابِ. قَوْلُهُ: «وَلا يَسُومُ» صُورَتُهُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا لِيَشْتَرِيَهُ فَيَقُولَ الْمَالِكُ: رُدَّهُ لأَبِيعَكَ خَيْرًا مِنْهُ بِثَمَنِهِ، أَوْ مِثْلَهُ بِأَرْخَصَ، أَوْ يَقُولَ لِلْمَالِكِ: اسْتَرِدَّهُ لأَشْتَرِيَهُ مِنْكَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الثَّمَنِ وَرُكُونِ أَحَدِهِمَا إلَى الآخَرِ، وَأَمَّا صُورَةُ الْبَيْعِ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى الشِّرَاءِ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ

(2/26)


اشْتَرَى سِلْعَةً فِي زَمَنِ الْخِيَارِ: افْسَخْ لأَبِيعَكَ بِأَنْقَصَ، أَوْ يَقُولَ لِلْبَائِعِ: افْسَخْ لأَشْتَرِيَ مِنْكَ بِأَزْيَدَ. وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ الْمَذْكُورِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى صِحَّتِهِ مَعَ الإِثْمِ وَذَهَبَتْ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى فَسَادِهِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمْ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ حَزْمٍ. قَوْلُهُ: (فِيمَنْ يَزِيدُ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي فَعَلَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَحَكَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَطَاءَ أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ لا يَرَوْنَ بَأْسًا فِي بَيْعِ الْمَغَانِمِ فِيمَنْ يَزِيدُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ عَقِبَ حَدِيثِ أَنَسٍ: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ لَمْ يَرَوْا بَأْسًا بِبَيْعِ مَنْ يَزِيدُ فِي الْغَنَائِمِ وَالْمَوَارِيثِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لا مَعْنَى لاخْتِصَاصِ الْجَوَازِ بِالْغَنِيمَةِ وَالْمِيرَاثِ فَإِنَّ الْبَابَ وَاحِدٌ وَالْمَعْنَى مُشْتَرَكٌ. بَابُ الْبَيْعِ بِغَيْرِ إشْهَادٍ 2848- عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّ عَمَّهُ حَدَّثَهُ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ ابْتَاعَ فَرَسًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ فَاسْتَتْبَعَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِيَقْضِيَهُ ثَمَنَ فَرَسِهِ فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْمَشْيَ وَأَبْطَأَ الأَعْرَابِيُّ، فَطَفِقَ رِجَالٌ يَعْتَرِضُونَ الأَعْرَابِيَّ فَيُسَاوِمُونَهُ بِالْفَرَسِ لا يَشْعُرُونَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ابْتَاعَهُ فَنَادَى الأَعْرَابِيُّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنْ كُنْتَ مُبْتَاعًا هَذَا الْفَرَسَ فَابْتَعْهُ وَإِلا بِعْتُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ سَمِعَ نِدَاءَ الأَعْرَابِيِّ: «أَوَلَيْسَ قَدْ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ» ؟ قَالَ الأَعْرَابِيُّ: لا وَاَللَّهِ مَا بِعْتُكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «بَلَى قَدْ ابْتَعْتُهُ» . فَطَفِقَ الأَعْرَابِيُّ يَقُولُ: هَلُمَّ شَهِيدًا، قَالَ خُزَيْمَةُ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ ابْتَعْتَهُ، فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى خُزَيْمَةَ فَقَالَ: «بِمَ تَشْهَدُ» ؟ فَقَالَ: بِتَصْدِيقِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَجَعَلَ شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ بِغَيْرِ إشْهَادٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ كَانَ الإِشْهَادُ حَتْمًا لَمْ يُبَايِعْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْنِي: الأَعْرَابِيَّ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ شَهَادَةٍ، وَمُرَادُهُ أَنَّ الأَمْرَ فِي قَوْله تَعَالَى: ... {وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ} لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ، بَلْ هُوَ عَلَى النَّدْبِ؛ وَهُوَ

(2/27)


الظَّاهِرُ وَقَدْ تَرْجَمَ أَبُو دَاوُد عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بَابَ إذَا عَلِمَ الْحَاكِمُ صِدْقَ الشَّاهِدِ. الْوَاحِدِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمُ بِهِ، وَبِهِ يَقُولُ شُرَيْحٌ. وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ فَاسْتَحَلُّوا الشَّهَادَةَ لِمَنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالصِّدْقِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ادَّعَاهُ، وَهُوَ تَمَسُّكٌ بَاطِلٌ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِمَنْزِلَةٍ لا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ لِغَيْرِهِ بِمُقَارَبَتِهَا فَضْلًا عَنْ مُسَاوَاتِهَا حَتَّى يَصِحَّ الإِلْحَاقُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/28)


أَبْوَابُ بَيْعِ الأُصُولِ وَالثِّمَارِ بَابُ مَنْ بَاعَ نَخْلًا مُؤَبَّرًا 2849- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ يُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلَّذِي بَاعَهَا إلا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ وَمَنْ ابْتَاعَ عَبْدًا فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ إلا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» . رَوَاهُ الجماعة. 2850- وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى أَنَّ ثَمَرَةَ النَّخْلِ لِمَنْ أَبَّرَهَا إلا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ وَقَضَى أَنَّ مَالَ الْمَمْلُوكِ لِمَنْ بَاعَهُ إلا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي الْمُسْنَدِ أَبِيهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (بَعْدَ أَنْ يُؤَبَّرَ) التَّأْبِيرُ: التَّشْقِيقُ وَالتَّلْقِيحُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ بَاعَ نَخْلًا وَعَلَيْهَا ثَمَرَةٌ مُؤَبَّرَةٌ لَمْ تَدْخُلْ الثَّمَرَةُ فِي الْبَيْعِ بَلْ تَسْتَمِرُّ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ، وَيَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهَا إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ وَتَكُونُ لِلْمُشْتَرِي، وَبِذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، قَالَ فِي الْفَتْحِ: لا يُشْتَرَطُ فِي التَّأْبِيرِ أَنْ يُؤَبِّرَهُ أَحَدٌ بَلْ، لَوْ تَأَبَّرَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَخْتَلِفْ الْحُكْمُ عِنْدَ جَمِيعِ الْقَائِلِينَ بِهِ. قَوْلُهُ: «وَمَنْ ابْتَاعَ عَبْدًا» إلَى آخره، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا مَلَّكَهُ سَيِّدُهُ مَالًا مَلَكَهُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَهُوَ الظَّاهِرِ قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَالْجَمْعُ بَيْنَ حَدِيثِ التَّأْبِيرِ، وَحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاحِ أَنَّ الثَّمَرَةَ فِي بَيْعِ النَّخْلِ تَابِعَةٌ لِلنَّخْلِ، وَفِي حَدِيثِ النَّهْيِ مُسْتَقِلَّةٌ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/29)


بَابُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاحِهِ 2851- عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهَا، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. 2852- وَفِي لَفْظٍ: نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ، وَعَنْ بَيْعِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَةْ. 2853- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَتَبَايَعُوا الثِّمَارَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. 2854- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ وَعَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ. 2855- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى تُزْهِيَ، قَالُوا: وَمَا تُزْهِي؟ قَالَ: «تَحْمَرُّ» . وَقَالَ: «إذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فَبِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَ أَخِيكَ» . أَخْرَجَاهُ. 2856- وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُعَاوَمَةِ وَالْمُخَابَرَةِ. وَفِي لَفْظٍ: بَدَلَ الْمُعَاوَمَةِ: وَعَنْ بَيْعِ السِّنِينَ. 2857- وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهُ. 2858- وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى يَطِيبَ. 2859- وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى يُطْعَمَ. 2860- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ عَطَاءَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُخَابَرَةِ وَأَنْ يَشْتَرِيَ النَّخْلَ حَتَّى يُشْقِهَ، وَالإِشْقَاءُ أَنْ يَحْمَرَّ أَوْ يَصْفَرَّ أَوْ يُؤْكَلَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَالْمُحَاقَلَةُ أَنْ يُبَاعَ الْحَقْلُ بِكَيْلٍ مِنْ الطَّعَامِ مَعْلُومٍ، وَالْمُزَابَنَةُ أَنْ يُبَاعَ النَّخْلُ بِأَوْسَاقٍ مِنْ التَّمْرِ، وَالْمُخَابَرَةُ الثُّلُثُ ... وَالرُّبُعُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، قَالَ زَيْدٌ: قُلْت لِعَطَاءَ: أَسَمِعْتَ جَابِرًا

(2/30)


يَذْكُرُ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: نَعَمْ. مُتَّفَقٌ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ إلا الأَخِيرَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لأَحْمَدَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ بَيْعُ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاحِهَا وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ: الأَوَّلِ: أَنَّهُ بَاطِلٌ مُطْلَقًا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ إذَا شَرَطَ الْقَطْعَ لَمْ تَبْطُلْ وَإِلا بَطَلَ، وَنَسَبَهُ الْحَافِظُ إلَى الْجُمْهُورِ، الثَّالِثِ: أَنَّهُ يَصِحُّ إنْ لَمْ يَشْتَرِطْ التَّبْقِيَةَ انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: (الْمُحَاقَلَةُ) قَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا بِمَا فِي الْحَدِيثِ فَقَالَ: هِيَ بَيْعُ الْحَقْلِ بِكَيْلٍ مِنْ الطَّعَامِ مَعْلُومٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هِيَ بَيْعُ الطَّعَامِ فِي سُنْبُلِهِ وَالْحَقْلُ الْحَرِثُ وَمَوْضِعُ الزَّرْعِ وَقَالَ اللَّيْثُ: الْحَقْلُ: الزَّرْعُ إذَا تَشَعَّبَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَغْلُظَ سُوقُهُ، وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ الْمُحَاقَلَةَ: أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ الزَّرْعَ بِمِائَةِ فَرْقٍ مِنْ الْحِنْطَةِ وَقَالَ مَالِكٌ: الْمُحَاقَلَةُ: أَنْ تُكْرَى الأَرْضُ بِبَعْضِ مَا يَنْبُتُ مِنْهَا وَهِيَ الْمُخَابَرَةُ انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ (وَالْمُزَابَنَةُ) فُسِّرَتْ بِمَا فِي الْحَدِيثِ، أَعْنِي: بَيْعَ النَّخْلِ بِأَوْسَاقٍ مِنْ التَّمْرِ، وَفُسِّرَتْ بِهَذَا، وَبِبَيْعِ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَهَذَانِ أَصْلُ الْمُزَابَنَةِ وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ كُلَّ بَيْعٍ مَجْهُولٍ بمَعْلُومٍ مِنْ جِنْسٍ يَجْرِي الرِّبَا فِي نَقْدِهِ، وَبِذَلِكَ قَالَ الْجُمْهُورُ، انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: (وَالْمُعَاوَمَةِ) هِيَ بَيْعُ الشَّجَرِ أَعْوَامًا كَثِيرَةً. قَوْلُهُ: (وَالْمُخَابَرَةِ) سَيَأْتِي الْكَلامُ عَلَيْهَا فِي كِتَابِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ أن شاء الله تعالى. قَوْلُهُ: (حَتَّى يُشْقِهَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ ثُمَّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ قَافٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: يُشْقِحَ وَهِيَ الأَصْلُ وَالْهَاءُ بَدَلٌ مِنْ الْحَاءِ، وَإِشْقَاحُ النَّخْلِ احْمِرَارُهُ وَاصْفِرَارُهُ وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ وَنَحْوِهَا عَلَى تَحْرِيمِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَمَا شَارَكَهُمَا فِي الْعِلَّةِ قِيَاسًا وَهِيَ إمَّا مَظِنَّةُ الرِّبَا لِعَدَمِ عِلْمِ التَّسَاوِي أَوْ الْغَرَرِ، وَعَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ السِّنِينَ وَعَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ صَلاحِهِ وَقَدْ وَقَعَ الاتِّفَاقُ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فِي غَيْرِ الْعَرَايَا وَعَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الْحِنْطَةِ فِي سَنَابِلِهَا بِالْحِنْطَةِ مُنْسَلَّةً عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ وَلا فَرْقَ

(2/31)


عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ بَيْنَ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ عَلَى الشَّجَرِ وَبَيْنَ مَا كَانَ مَقْطُوعًا مِنْهُمَا. بَابُ الثَّمَرَةِ الْمُشْتَرَاةِ يَلْحَقُهَا جَائِحَةٌ 2861- عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَضَعَ الْجَوَائِحَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 2862- وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ. 2863- وَفِي لَفْظٍ قَالَ: إنْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمْرًة، فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ؟ . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الْجَوَائِحُ) جَمْعُ جَائِحَةٍ وَهِيَ الآفَةُ الَّتِي تُصِيبُ الثِّمَارَ فَتُهْلِكُهَا وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ إذَا بِيعَتْ الثَّمَرَةُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلاحِهَا وَسَلَّمَهَا الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي بِالتَّخْلِيَةِ ثُمَّ تَلِفَتْ بِالْجَائِحَةِ قَبْلَ أَوَانِ الْجُذَاذِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْكُوفِيِّينَ وَاللَّيْثُ: لا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِشَيْءٍ قَالُوا: وَإِنَّمَا وَرَدَ وَضْعُ الْجَوَائِحِ فِيمَا إذَا بِيعَتْ الثَّمَرَةُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاحِهَا بِغَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ، فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ الْحَدِيثِ فِي رِوَايَةِ جَابِرٍ عَلَى مَا قُيِّدَ بِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمِ. وَاسْتَدَلَّ الطَّحَاوِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أُصِيبَ رَجُلٌ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا، فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ» . فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ فَقَالَ: «خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إلا ذَلِكَ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ قَالَ: فَلَمَّا لَمْ يُبْطِلْ دَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِذَهَابِ الثِّمَارِ بِالْعَاهَاتِ وَلَمْ يَأْخُذْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الثَّمَنَ مِمَّنْ بَاعَهَا مِنْهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ وَضْعَ الْجَوَائِحِ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: هِيَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ فَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِمَا دَفَعَهُ مِنْ الثَّمَنِ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنِ سَلامٍ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَفِي الأَحَادِيثِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى وُجُوبِ إسْقَاطِ مَا اُجْتِيحَ مِنْ الثَّمَرَةِ عَنْ الْمُشْتَرِي وَلا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأَنَّهُ مِنْ قَوْلِ أَنَسٍ، بَلْ

(2/32)


الصَّحِيحُ رَفْعُ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَأَنَسٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ أَذْهَبَتْ الْجَائِحَةُ دُونَ الثُّلُثِ لَمْ يَجِبْ الْوَضْعُ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثَ فَأَكْثَرَ وَجَبَ، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» . قَالَ أَبُو دَاوُد: لَمْ يَصِحَّ فِي الثُّلُثِ شَيْءٌ عَنْ النَّبِيِّ وَهُوَ رَأْيُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالرَّاجِحُ الْوَضْعُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَبَيْنَ الْبَيْعِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاحِ وَبَعْدَهُ وَمَا احْتَجَّ بِهِ الأَوَّلُونَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْوَضْعِ مَعَ الْبَيْعِ قَبْلَ الصَّلاحِ لا يُنَافِي الْوَضْعَ مَعَ الْبَيْعِ بَعْدَهُ وَلا يَصْلُحُ مِثْلُهُ لَتَخْصِيصِ مَا دَلَّ عَلَى وَضْعِ الْجَوَائِحِ وَلا لِتَقْيِيدِهِ وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ الطَّحَاوِيُّ فَغَيْرُ صَالِحٍ لِلاسْتِدْلالِ بِهِ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لأَنَّهُ لا تَصْرِيحَ فِيهِ بِأَنَّ ذَهَابَ ثَمَرَةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ كَانَ بِعَاهَاتٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَأَيْضًا عَدَمُ نَقْلِ تَضْمِينِ بَائِعِ الثَّمَرَةِ لا يَصْلُحُ لِلاسْتِدْلالِ بِهِ؛ لأَنَّهُ قَدْ نَقَلَ مَا يُشْعِرُ بِالتَّضْمِينِ عَلَى الْعُمُومِ فَلا يُنَافِيهِ عَدَمُ النَّقْلِ فِي قَضِيَّةٍ خَاصَّةٍ وَسَيَأْتِي حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي كِتَابِ التَّفْلِيسِ وَيَأْتِي فِي شَرْحِهِ بَقِيَّةُ الْكَلامِ عَلَى الْوَضْعِ إن شاء الله تعالى. انْتَهَى. قُلْتُ: رَأْيُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي هَذَا قَوْلٌ وَسَطٌ قَرِيبٌ.

(2/33)


أَبْوَابُ الشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ بَابُ اشْتِرَاطِ مَنْفَعَةِ الْمَبِيعِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا 2864- عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أَعْيَا فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ قَالَ: وَلَحِقَنِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَدَعَا لِي وَضَرَبَهُ فَسَارَ سَيْرًا لَمْ يَسِرْ مِثْلَهُ فَقَالَ: «بِعْنِيهِ» . فَقُلْتُ: لا، ثُمَّ قَالَ: «بِعْنِيهِ» . فَبِعْتُهُ وَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلَنَهُ إلَى أَهْلِي. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2865- وَفِي لَفْظٍ لأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ: وَشَرَطْتُ ظَهْرَهُ إلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ الرُّكُوبِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ: لا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ وَحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ الثُّنْيَا، وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ الْبَابِ بِأَنَّهُ قِصَّةُ عَيْنٍ تَدْخُلُهَا الاحْتِمَالاتُ وَيُجَابُ بِأَنَّ حَدِيثَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْمَقَالِ هُوَ أَعَمُّ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ مُطْلَقًا فَيُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ. وَأَمَّا حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ الثُّنْيَا فَقَدْ تم تَقَدَّمَ تَقْيِيدُهُ بِقَوْلِهِ: إلا أَنْ يُعْلَمَ انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ النَّهْيِ عَنْ جَمْعِ شَرْطَيْنِ مِنْ ذَلِكَ 2866- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ.

(2/34)


2867- إلا ابْنَ مَاجَةْ فَإِنَّ لَهُ مِنْهُ: «رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (لا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ) قَالَ الْبَغَوِيّ: الْمُرَادُ بِالسَّلَفِ هُنَا الْقَرْضُ. قَالَ أَحْمَدُ: هُوَ أَنْ يُقْرِضَهُ قَرْضًا ثُمَّ يُبَايِعَهُ عَلَيْهِ بَيْعًا يَزْدَادُ عَلَيْهِ وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لأَنَّهُ إنَّمَا يُقْرِضُهُ عَلَى أَنْ يُحَابِيَهُ فِي الثَّمَنِ وَقَدْ يَكُونُ السَّلَفُ بِمَعْنَى السَّلَمِ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَبِيعُكَ عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ تُسَلِّفَنِي مِائَةً فِي كَذَا وَكَذَا أَوْ يُسْلِمَ إلَيْهِ فِي شَيْءٍ وَيَقُولَ: إنْ لَمْ يَتَهَيَّأْ الْمُسْلَمُ فِيهِ عِنْدَكَ فَهُوَ بَيْعٌ لَكَ. قَوْلُهُ: «وَلا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ» قَالَ الْبَغَوِيّ: هُوَ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ نَقْدًا أَوْ بِأَلْفَيْنِ نَسِيئَةً فَهَذَا بَيْعٌ وَاحِدٍ تَضَمَّنَ شَرْطَيْنِ يَخْتَلِفُ الْمَقْصُودُ فِيهِ بِاخْتِلافِهِمَا وَلا فَرْقَ بَيْنَ شَرْطَيْنِ وَشُرُوطٍ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ مَرْوِيٌّ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ ثَوْبِي بِكَذَا وَعَلَيَّ قِصَارَتُهُ وَخِيَاطَتُهُ فَهَذَا فَاسِدٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ أَحْمَدُ: إنَّهُ صَحِيحٌ. انتهى. وَقَالَ الْحَافِظُ عَلَى حَدِيثِ بَرِيرَةَ: وَفِيه جُوازُ تَعَدُّدِ الشُّرُوطِ لِقَوْلِهِ مائة شرط. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: (وَلَوْ كَانَ مِائَةُ شَرْطٍ) خَرَّجَ مَخْرَج التَّكْثِير، يَعْنِي أَنَّ الشُّرُوط غَيْر الْمَشْرُوعَةِ بَاطِلَةٌ وَلَوْ كَثُرَتْ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمَشْرُوعَةَ صَحِيحَةٌ. انْتَهَى. قَوْلُهُ: «وَلا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ» يَعْنِي: لا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ رِبْحَ سِلْعَةٍ لَمْ يَضْمَنْهَا مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ مَتَاعًا وَيَبِيعَهُ إلَى آخَرَ قَبْلَ قَبْضِهِ مِنْ الْبَائِعِ فَهَذَا الْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَرِبْحُهُ لا يَجُوزُ؛ لأَنَّ الْمَبِيعَ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ الأَوَّلِ، وَلَيْسَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي مِنْهُ لِعَدَمِ الْقَبْضِ. بَابُ مَنْ اشْتَرَى عَبْدًا بِشَرْطِ أَنْ يُعْتِقَهُ 2868- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ لِلْعِتْقِ فَاشْتَرَطُوا وَلاءَهَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا فَإِنَّمَا الْوَلاءُ

(2/35)


لِمَنْ أَعْتَقَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْبُخَارِيُّ لَفْظَةَ: أَعْتِقِيهَا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: الشَّرْطُ فِي الْبَيْعِ أَقْسَامٌ: أَحَدُهَا: يَقْتَضِيهِ إطْلاقُ الْعَقْدِ كَشَرْطِ تَسْلِيمِهِ. الثَّانِي: شَرْطٌ فِيهِ مَصْلَحَةٌ كَالرَّهْنِ وَهُمَا جَائِزَانِ اتِّفَاقًا. الثَّالِثُ: اشْتِرَاطُ الْعِتْقِ فِي الْعَبْدِ وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِهَذَا الْحَدِيثِ. الرَّابِعُ: مَا يَزِيدُ عَلَى مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلا مَصْلَحَةَ فِيهِ لِلْمُشْتَرِي كَاسْتِثْنَاءِ مَنْفَعَتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ. بَابُ أَنَّ مَنْ شَرَطَ الْوَلاءَ أَوْ شَرْطًا فَاسِدًا لَغَا وَصَحَّ الْعَقْدُ 2869- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ بَرِيرَةُ وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ فَقَالَتْ: اشْتَرِينِي فَأَعْتِقِينِي، قُلْت: نَعَمْ، قَالَتْ: لا يَبِيعُونِي حَتَّى يَشْتَرِطُوا وَلائِي، قُلْت: لا حَاجَةَ لِي فِيكِ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَبوْ بَلَغَهُ، فَقَالَ: «مَا شَأْنُ بَرِيرَةَ» ؟ فَذَكَرَتْ عَائِشَةُ مَا قَالَتْ، فَقَالَ: «اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقِيهَا وَيَشْتَرِطُوا مَا شَاءُوا» . قَالَتْ: فَاشْتَرَيْتُهَا فَأَعْتَقْتُهَا، وَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا وَلاءَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَإِنْ اشْتَرَطُوا مِائَةَ شَرْطٍ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 2870- وَلِمُسْلِمٍ مَعْنَاهُ. 2871- وَلِلْبُخَارِيِّ فِي لَفْظٍ آخَرَ: «خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلاءَ فَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . 2872- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عَائِشَةَ أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ جَارِيَةً تُعْتِقُهَا، فَقَالَ أَهْلُهَا: نَبِيعُكِهَا عَلَى أَنَّ وَلاءَهَا لَنَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «لا يَمْنَعُكِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْوَلاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 2873- وَكَذَلِكَ مُسْلِمٌ، لَكِنْ قَالَ فِيهِ: عَنْ عَائِشَةَ جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِهَا. 2874 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَرَادَتْ عَائِشَةُ أَنْ تَشْتَرِيَ جَارِيَةً تُعْتِقَهَا فَأَبَى أَهْلُهَا إلا أَنْ يَكُونَ الْوَلاءُ لَهُمْ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «لا يَمْنَعُكِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْوَلاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «اشْتَرِيهَا» فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ

(2/36)


بَيْعِ الْمُكَاتَبِ إذَا رَضِيَ وَلَوْ لَمْ يُعَجِّزْ نَفْسَهُ. قَوْلُهُ: «وَيَشْتَرِطُوا مَا شَاءُوا» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْبَائِعِ لِلْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ الْوَلاءُ لَهُ لا يَصِحُّ، بَلْ الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. قَوْلُهُ: «وَإِنْ اشْتَرَطُوا مِائَةَ شَرْطٍ» قَالَ النَّوَوِيُّ: أَيْ: لَوْ شَرَطُوا مِائَةَ مَرَّةٍ تَوْكِيدًا فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ انتهى. قَالَ الْحَافِظُ وَإِنَّ احُتمِلَ التَّأْكِيدِ ظَاهِرٌ فِي أن الْمُرَادُ بِهِ التعدد، وذكر الْمِائَةِ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةُ. والله أعلم. قَوْلُهُ: «وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلاءَ» وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهُ أَذِنَ فِي ذَلِكَ لِقَصْدِ أَنْ يُعَطِّلَ عَلَيْهِمْ شُرُوطَهُمْ لِيَرْتَدِعُوا عَنْ ذَلِكَ، وَيَرْتَدِعَ بِهِ غَيْرُهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الأَدَبِ. قَوْلُهُ: «فَإِنَّما الْوَلاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ» فِيهِ إثْبَاتُ الْوَلاءِ لِلْمُعْتِقِ وَنَفْيُهُ عَمَّن عَدَاهُ. بَابُ شَرْطِ السَّلامَةِ مِنْ الْغَبْنِ 2875- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: ذَكَرَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ فَقَالَ: «مَنْ بَايَعْتَ فَقُلْ: لا خِلابَةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2876- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَبْتَاعُ وَكَانَ فِي عُقْدَتِهِ، يَعْنِي: فِي عَقْلِهِ، ضَعْفٌ فَأَتَى أَهْلُهُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: اُحْجُرْ عَلَى فُلانٍ فَإِنَّهُ يَبْتَاعُ، وَفِي عُقْدَتِهِ ضَعْفٌ، فَدَعَاهُ وَنَهَاهُ عَنْ الْبَيْعِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لا أَصْبِرُ عَنْ الْبَيْعِ، فَقَالَ: «إنْ كُنْتَ غَيْرَ تَارِكٍ لِلْبَيْعِ فَقُلْ: هَا وَهَا وَلا خِلابَةَ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِيهِ صِحَّةُ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ؛ لأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ إيَّاهُ وَطَلَبُوهُ مِنْهُ وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ لَمَا طَلَبُوهُ وَلا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ. 2877- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ مُنْقِذًا سُفِعَ فِي رَأْسِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَأْمُومَةً فَخَبِلَتْ لِسَانُهُ، فَكَانَ إذَا بَايَعَ يُخْدَعُ فِي الْبَيْعِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ... «بَايِعْ وَقُلْ لا خِلابَةَ، ثُمَّ أَنْتَ بِالْخِيَارِ ثَلاثًا» . قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَسَمِعْتُهُ يُبَايِعُ وَيَقُولُ:

(2/37)


لا خِذَابَةَ لا خِذَابَةَ. رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَذَكَرَهُ. 2878- وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ قَالَ: هُوَ جَدِّي مُنْقِذُ بْنُ عُمَرَ وَكَانَ رَجُلًا قَدْ أَصَابَتْهُ آمَّةٌ فِي رَأْسِهِ فَكَسَرَتْ لِسَانَهُ، وَكَانَ لا يَدَعُ عَلَى ذَلِكَ التِّجَارَةَ، فَكَانَ لا يَزَالُ يُغْبَنُ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «إذَا أَنْتَ بَايَعْتَ فَقُلْ: لا خِلابَةَ، ثُمَّ أَنْتَ فِي كُلِّ سِلْعَةٍ ابْتَعْتَهَا بِالْخِيَارِ ثَلاثَ لَيَالٍ، إنْ رَضِيتَ فَأَمْسِكْ وَإِنْ سَخِطْتَ فَارْدُدْهَا عَلَى صَاحِبِهَا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَابْنُ مَاجَةْ وَالدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لا خِلابَةَ» بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ اللامِ أَيْ: لا خَدِيعَةَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَقَّنَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - هَذَا الْقَوْلَ لَيَتَلَفَّظَ بِهِ عِنْدَ الْبَيْعِ فَيُطْلِعَ بِهِ صَاحِبَهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ذَوِي الْبَصَائِرِ فِي مَعْرِفَةِ السِّلَعِ وَمَقَادِيرِ الْقِيمَةِ، وَيَرَى لَهُ مَا يَرَى لِنَفْسِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ غَبْنٌ رَدَّ الثَّمَنَ وَاسْتَرَدَّ الْمَبِيعَ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الشَّرْطِ هَلْ كَانَ خَاصًّا بِهَذَا الرَّجُلِ أَمْ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ مَنْ شَرَطَ هَذَا الشَّرْطَ فَعِنْدَ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَالْمَنْصُورِ بِاَللَّهِ وَالإِمَامِ يَحْيَى أَنَّهُ يَثْبُتُ الرَّدُّ لِكُلِّ مَنْ شَرَطَ هَذَا الشَّرْطَ، وَيُثْبِتُونَ الرَّدَّ بِالْغَبْنِ لِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ قِيمَةَ السِّلَعِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِكَوْنِ الْغَبْنِ فَاحِشًا وَهُوَ ثُلُثُ الْقِيمَةِ عِنْدَهُ، قَالُوا: بِجَامِعِ الْخَدْعِ الَّذِي لأَجْلِهِ أَثْبَتَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِذَلِكَ الرَّجُلِ الْخِيَارَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّمَا جَعَلَ لِهَذَا الرَّجُلِ الْخِيَارَ لِلضَّعْفِ الَّذِي كَانَ فِي عَقْلِهِ فَلا يَلْحَقُ بِهِ إلا مَنْ كَانَ مِثْلَهُ فِي ذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ يَقُولَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ إذَا غُبِنَ يَشْهَدُ رَجُلٌ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ جَعَلَهُ بِالْخِيَارِ ثَلاثًا فَيَرْجِعُ فِي ذَلِكَ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لا يَصِحُّ الاسْتِدْلال بِمِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِكُلِّ مَغْبُونٍ وَإِنْ كَانَ صَحِيحَ الْعَقْلِ، وَلا عَلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِمَنْ كَانَ ضَعِيفَ الْعَقْلِ إذَا غُبِنَ وَلَمْ يَقُلْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الْحَقُّ. انْتَهَى. قَالَ الْمُوَفِّقُ فِي الْمُقْنِعِ: وَالثَّالِثَةُ الْمُسْتَرْسِلْ إِذَا غُبِنَ. قَالَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ يَعْنِي إذَا غُبِنَ غبنًا يخرج عَنِ الْعَادَةِ يَثْبُتُ لُهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإِمْضَاءِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكُ: قَالَ ابْنِ أَبِي مُوسَى: وَقَد قِيلَ: قَدْ لَزِمَهُ الْبَيْعَ وَلا

(2/38)


فَسْخَ لُهُ وَهُوَ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ الشَّافِعِيِّ، لأَنَّ نُقْصَانَ قِيمَةُ السِّلْعَةِ مَعَ سَلامَتِهَا لا يَمْنَعُ لُزُومُ الْعَقْد كَغَيْرِ الْمُسْتَرْسِلِ وَكَالْغَبْنِ الْيَسِيرِ، وَلَنَا أَنَّهُ غبن حَصَلَ لِجَهْلِهِ بِالْمَبِيعِ فَأَثْبَتَ الْخِيَارُ كَالْغبن فِي تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمُسْتَرْسِلِ فَإِنَّهُ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَة بِالغبن، فَهُوَ كَالْعَالِمِ بِالْعَيْبِ، وَكَذَا لَوْ اسْتَعْجَلَ فَجَهْل مَا لَوْ تَثْبُتُ لِعِلْمِهِ لَمْ يَكُنْ لُهُ خِيَارُ لأَنَّهُ أَنْبَنَي عَلَى تَفْرِيطِهِ وَتَقْصِيرِهِ، وَالْمُسْتَرْسِلْ: هُوَ الْجَاهِلُ بِقِيمَةِ السِّلْعَةِ وَلا يَحْسُنْ الْمَبَالَغَةِ، قَالَ أَحْمَدُ: الْمُسْتَرْسِلُ الَّذِي لا يُحْسِنُ أَنْ يُمَاكِسَ، وَفِي لَفْظٍ: الَّذِي لا يُمَاكِسُ، فَكَأَنَّهُ اسْتَرْسَلَ إِلَى الْبَائِعِ فَأَخَذَ مَا أَعْطَاهُ مِنْ غَيْرِ مُمَاكَسَةِ ولا معرفة بغبنه، ولا تحديد للغبن في المنصوص عن أحمد، وحده أبو بكر في التَّنْبِيه وَابْنِ أَبِي مُوسَى فِي الإِرْشَادِ بِالثُّلُثُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» . وَقِيلَ: السُّدْسُ، وَالأَوْلَى تَحْدِيدهُ بِمَا لا يتغَابَن النَّاسُ بِِهِ فِي الْعَادَةِِ لأَنَّ مَا لا يَرِدُ الشَّرْعُ بِتَحْدِيدِهِ يُرْجع فيه إلِى العرف. انْتَهَى. بَابُ إثْبَاتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ 2879- عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا» أَوْ قَالَ: «حَتَّى يَفْتَرِقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» . 2880- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ وَرُبَّمَا قَالَ: أَوْ يَكُونُ بَيْعُ الْخِيَارِ» . 2881- وَفِي لَفْظٍ: «إذَا تَبَايَعَ الرَّجُلانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعًا أَوْ يُخَيِّرْ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ» . مُتَّفَقٌ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ. 2882- وَفِي لَفْظٍ: «كُلُّ بَيِّعَيْنِ لا بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا إلا بَيْعَ ... الْخِيَارِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا.

(2/39)


2883- وَفِي لَفْظٍ: «الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إلا بَيْعَ الْخِيَارِ» . 2884- وَفِي لَفْظٍ «إذَا تَبَايَعَ الْمُتَبَايِعَانِ بِالْبَيْعِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مِنْ بَيْعِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَكُونُ بَيْعُهُمَا عَنْ خِيَارٍ، فَإِذَا كَانَ بَيْعُهُمَا عَنْ خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ» . قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا بَايَعَ رَجُلًا فَأَرَادَ أَنْ لا يُقِيلَهُ قَامَ فَمَشَى هُنَيَّة ثُمَّ رَجَعَ أَخْرَجَاهُمَا. 2885- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ... «الْبَيِّعُ وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، إلا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ، وَلا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا ابْنَ مَاجَةْ. 2886- وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ - وَفِي لَفْظٍ: «حَتَّى يَتَفَرَّقَا مِنْ مَكَانِهِمَا» . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بِعْتُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ مَالًا بِالْوَادِي بِمَالٍ لَهُ بِخَيْبَرَ، فَلَمَّا تَبَايَعْنَا رَجَعْتُ عَلَى عَقِبِي حَتَّى خَرَجْتُ مِنْ بَيْتِهِ خَشْيَةَ أَنْ يُرَادَّنِي الْبَيْعَ، وَكَانَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ حَالَةَ الْعَقْدِ لا تُشْتَرَطُ، بَلْ تَكْفِي الصِّفَةُ أَوْ الرُّؤْيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ» بِكَسْرِ الْخَاءِ وَهُوَ طَلَبُ خَيْرِ الأَمْرَيْنِ مِنْ إمْضَاءِ الْبَيْعِ أَوْ فَسْخِهِ وَالْمُرَادُ بِالْخِيَارِ هُنَا: خِيَارُ الْمَجْلِسِ. قَوْلُهُ: «مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» قَدْ اُخْتُلِفَ هَلْ الْمُعْتَبَرُ التَّفَرُّقُ بِالأَبْدَانِ، أَوْ بِالأَقْوَالِ؟ فَابْنُ عُمَرَ حَمَلَهُ عَلَى التَّفْرِيقِ بِالأَبْدَانِ، وَكَذَلِكَ حَمَلَهُ أَبُو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيُّ. قَالَ صَاحِبُ الْفَتْحِ: وَلا يُعْلَمُ لَهُمَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَمِنْ الأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى إرَادَةِ التَّفَرُّقِ بِالأَبْدَانِ قَوْلُهُ: «مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعًا» إلى أن قَالَ: وَقَدْ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّفَرُّقِ تَفَرُّقُ الأَبْدَانِ هَلْ لَهُ حَدٌّ يَنْتَهِي إلَيْهِ أَمْ لا؟ وَالْمَشْهُورُ الرَّاجِحُ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ مَوْكُولٌ إلَى الْعُرْفِ.

(2/40)


قَوْلُهُ: «فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا» أَيْ: صَدَقَ الْبَائِعُ فِي إخْبَارِ الْمُشْتَرِي وَبَيَّنَ الْعَيْبَ إنْ كَانَ فِي السِّلْعَةِ، وَصَدَقَ الْمُشْتَرِي فِي قَدْرِ الثَّمَنِ وَبَيَّنَ الْعَيْبَ إنْ كَانَ فِي الثَّمَنِ. قَوْلُهُ: «أَوْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اخْتَرْ» وَرُبَّمَا قَالَ: أَوْ يَكُونُ بَيْعَ الْخِيَارِ، قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: «إلا بَيْعَ الْخِيَارِ» فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ امْتِدَادِ الْخِيَارِ إلَى التَّفَرُّقِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمَا إنْ اخْتَارَا إمْضَاءَ الْبَيْعِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ فَقَدْ لَزِمَ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ وَبَطَلَ اعْتِبَارُ التَّفَرُّقِ، فَالتَّقْدِيرُ: إلا الْبَيْعَ الَّذِي جَرَى فِيهِ التَّخَايُرُ، وَقِيلَ: هِو اسْتِثْنَاءٌ مِنْ انْقِطَاعِ الْخِيَارِ بِالتَّفَرُّقِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ أَوْ يُخَيِّرْ أَحَدُهُمَا الآخَرَ أَيْ: فَيَشْتَرِطُ الْخِيَارَ مُدَّةً مُعَيَّنَةً فَلا يَنْقَضِي الْخِيَارُ بِالتَّفَرُّقِ، بَلْ يَبْقَى حَتَّى تَمْضِيَ الْمُدَّةُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إلا أَنْ يَتَخَايَرَا وَلَوْ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، وَإِلا أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَلَوْ بَعْدَ التَّفَرُّقِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَهُوَ قَوْلٌ يَجْمَعُ التَّأْوِيلَيْنِ الأَوَّلَيْنِ. انْتَهَى. ملخصًا. قَوْلُهُ: «رَجَعْتُ عَلَى عَقِبِي» إلَى آخْره، قِيلَ: لَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْ ابْنَ عُمَرَ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الْمَذْكُورُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالُ: إنَّهُ بَلَغَهُ وَلَكِنَّهُ عَرَفَ أَنَّهُ لا يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ والله أعلم.

(2/41)


أبواب الربا بَابُ التَّشْدِيدِ فِيهِ 2887- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. غَيْرَ أَنَّ لَفْظَ النَّسَائِيّ قَالَ: 2888- آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ إذَا عَلِمُوا ذَلِكَ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْقِيَامَةِ. 2889- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ غِسِّيلِ الْمَلائِكَةِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «دِرْهَمُ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَشَدُّ مِنْ سِتٍّ وَثَلاثِينَ زَنْيَةً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَكَاتِبَهُ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ كِتَابَةِ الرِّبَا إذَا عَلِمَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ. قَوْلُهُ: «أَشَدُّ مِنْ سِتٍّ وَثَلاثِينَ زَنْيَةً» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْصِيَةَ الرِّبَا مِنْ أَشَدِّ الْمَعَاصِي. بَابُ مَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا 2890- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلا تَبِيعُوا الْوَرِقَ

(2/42)


بِالْوَرِقِ إلا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلا تَبِيعُوا مِنْهُمَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2891- وَفِي لَفْظٍ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ أَوْ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى، الآخِذُ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاءٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 2892- وَفِي لَفْظٍ: «لا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَلا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلا وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 2893- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 2894- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ أَوْ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى إلا مَا اخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 2895- وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلا وَزْنًا بِوَزْنٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 2896- وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ إلا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَشْتَرِيَ الْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْنَا وَنَشْتَرِيَ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْنَا. أَخْرَجَاهُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ مُجَازَفَةً. 2897- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إلا هَاءَ وَهَاءَ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إلا هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إلا هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إلا هَاءَ وَهَاءَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2898- وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ

(2/43)


مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 2899- وَلِلنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَةْ وَأَبِي دَاوُد نَحْوُهُ وَفِي آخِرِهِ: «وَأَمَرَنَا أَنْ نَبِيعَ الْبُرَّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شِئْنَا» . وَهُوَ صَرِيحٌ فِي كَوْنِ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ جِنْسَيْنِ. 2900- وَعَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ أَسْمَعُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَكَانَ طَعَامُنَا يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 2901- وَعَنْ الْحَسَنِ عَنْ عُبَادَةَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا وُزِنَ مِثْلٌ بِمِثْلٍ إذَا كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا، وَمَا كِيلَ فَمِثْلُ ذَلِكَ فَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَلا بَأْسَ بِهِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. 2902- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُمْ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَالَ: «أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا» ؟ قَالَ: إنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلاثَةِ، فَقَالَ: «لا تَفْعَلْ، بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» . وَقَالَ فِي الْمِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ» يَدْخُلُ فِي الذَّهَبِ جَمِيعُ أَنْوَاعِهِ مِنْ مَضْرُوبٍ وَمَنْقُوشٍ وَجَيِّدٍ وَرَدِيءٍ وَصَحِيحٍ وَمُكَسَّرٍ وَحُلِيٍّ وَتِبْرٍ وَخَالِصٍ وَمَغْشُوشٍ، وَقَدْ نَقَلَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ الإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ. قَوْلُهُ: «وَلا تُشِفُّوا» بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنْ أَشَفَّ، وَالشِّفُّ الزِّيَادَةُ، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّقْصِ، وَالْمُرَادُ هُنَا لا تُفَضِّلُوا. قَوْلُهُ: «فَمَنْ زَادَ» إلى آَخْره، فِيهِ التَّصْرِيحُ بِتَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ رِبَا الْفَضْلِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ مِثْلُ قَوْلِهِمَا عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ إلى أن قَالَ: وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أُسَامَةَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ: «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» . قَالَ فِي

(2/44)


الْفَتْحِ: وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ. فَقِيلَ: إنَّ حَدِيثَ أُسَامَةَ مَنْسُوخٌ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: «لا رِبَا» الرِّبَا الأَغْلَظُ. قَوْلُهُ: «إلا وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ» الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الأَلْفَاظِ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ أَوْ لِلْمُبَالَغَةِ. قَوْلُهُ: «إلا مَا اخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهُ» الْمُرَادُ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي اللَّوْنِ اخْتِلافًا يَصِيرُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنْسًا غَيْرَ جِنْسِ مُقَابِلِهِ، فَمَعْنَاهُ مَعْنَى قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ» . إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلا بُدَّ فِي بَيْعِ بَعْضِ الرِّبَوِيَّاتِ ببَعْضِ مِنْ التَّقَابُضِ وَلاسِيَّمَا فِي الصَّرْفِ وَهُوَ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ بِالذَّهَبِ وَعَكْسُهُ فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى اشْتِرَاطِهِ. وَقَالَ الْمَغْرِبِيُّ فِي شَرْحِ بُلُوغِ الْمَرَامِ: وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الرِّبَوِيِّ بِرِبَوِيٍّ لا يُشَارِكُهُ فِي الْعِلَّةِ مُتَفَاضِلاً أَوْ مُؤَجَّلاً كَبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْحِنْطَةِ وَبَيْعِ الْفِضَّةِ بِالشَّعِيرِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَكِيلِ قَالَ الشَّارِحُ: وَأَمَّا إذَا كَانَ الرِّبَوِيُّ يُشَارِكُ مُقَابِلَهُ فِي الْعِلَّةِ، فَإِنْ كَانَ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ أَوْ الْعَكْسُ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ إجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الأَجْنَاسِ كَبَيْعِ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ أَوْ بِالتَّمْرِ أَوْ الْعَكْسِ. فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ عَدَمُ الْجَوَازِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ: «إلا يَدًا بِيَدٍ» عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الصَّرْفِ عِنْدَ الإِيجَابِ بِالْكَلامِ وَلا يَجُوزُ التَّرَاخِي وَأن كَانَا فِي الْمَجْلِسِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْجُمْهُورُ: إنَّ الْمُعْتَبَرَ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ وَإِنْ تَرَاخَى عَنْ الإِيجَابِ، قَوْلُهُ: (بِعْ الْجَمْعَ) قَالَ فِي الْفَتْحِ: هُوَ التَّمْرُ الْمُخْتَلِطُ بِغَيْرِهِ، قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ بَيْعُ رَدِيءِ الْجِنْسِ بِجَيِّدِهِ مُتَفَاضِلًا وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لا خِلافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ. قَوْلُهُ: (وَقَالَ فِي الْمِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ) أَيْ: مِثْلَ مَا قَالَ فِي الْمَكِيلِ مِنْ أَنَّهُ لا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِ الْجِنْسِ مِنْهُ بِبَعْضِهِ مُتَفَاضِلًا، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ بَلْ يُبَاعُ رَدِيئُهُ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ يُشْتَرَى بِهَذَا الْجَيِّدُ وَالْمُرَادُ بِالْمِيزَانِ هُنَا الْمَوْزُونُ. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ حُجَّةٌ فِي جَرَيَانِ الرِّبَا فِي الْمَوْزُونَاتِ كُلِّهَا؛ لأَنَّ قَوْلَهُ (فِي الْمِيزَانِ) أَيْ: فِي الْمَوْزُونِ وَإِلا فَنَفْسُ الْمِيزَانِ لَيْسَ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا.

(2/45)


بَابٌ فِي أَنَّ الْجَهْلَ بِالتَّسَاوِي كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ 2903- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنْ التَّمْرِ لا يُعْلَمُ كَيْلُهَا بِالْكَيْلِ الْمُسَمَّى مِنْ التَّمْرِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَهُوَ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَهَا بِجِنْسٍ غَيْرِ التَّمْرِ لَجَازَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ جِنْسٌ بِجِنْسِهِ، وَأَحَدُهُمَا مَجْهُولُ الْمِقْدَارِ؛ لأَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّسَاوِي مَعَ الاتِّفَاقِ فِي الْجِنْسِ شَرْطٌ لا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِدُونِهِ وَلا شَكَّ أَنَّ الْجَهْلَ بِكِلا الْبَدَلَيْنِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا فَقَطْ مَظِنَّةٌ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَمَا كَانَ مَظِنَّةً لِلْحَرَامِ وَجَبَ تَجَنُّبُهُ وَتَجَنُّبُ هَذِهِ الْمَظِنَّةِ إنَّمَا يَكُونُ بِكَيْلِ الْمَكِيلِ وَوَزْنِ الْمَوْزُونِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَدَلَيْنِ. بَابُ مَنْ بَاعَ ذَهَبًا وَغَيْرَهُ بِذَهَبٍ 2904- عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: اشْتَرَيْتُ قِلادَةً يَوْمَ خَيْبَرَ بِاثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ، فَفَصَّلْتُهَا فَوَجَدْتُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «لا يُبَاعُ حَتَّى يُفَصَّلَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 2905- وَفِي لَفْظٍ: أُتِيَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِقِلادَةٍ فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ ابْتَاعَهَا رَجُلٌ بِتِسْعَةِ دَنَانِيرَ أَوْ سَبْعَةِ دَنَانِيرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا حَتَّى تُمَيِّزَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ» . فَقَالَ: إنَّمَا أَرَدْتُ الْحِجَارَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا حَتَّى تُمَيِّزَ بَيْنَهُمَا» . قَالَ فَرَدَّهُ حَتَّى مَيَّزَ بَيْنَهُمَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ بَيْعُ الذَّهَبِ مَعَ غَيْرِهِ بِذَهَبٍ حَتَّى يُفَصَّلَ مِنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَيُمَيَّزَ عَنْهُ لِيُعْرَفَ مِقْدَارُ الذَّهَبِ الْمُتَّصِلِ بِغَيْرِهِ وَمِثْلُهُ الْفِضَّةُ مَعَ غَيْرِهَا بِفِضَّةٍ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الأَجْنَاسِ الرِّبَوِيَّةِ لاتِّحَادِهَا فِي الْعِلَّةِ وَهِيَ تَحْرِيمُ بَيْعِ الْجِنْسِ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا. بَابُ مَرَدِّ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ 2906- عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ،

(2/46)


وَالْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُرْجَعُ عِنْدَ الاخْتِلافِ فِي الْكَيْلِ إلَى مِكْيَالِ الْمَدِينَةِ وَعِنْدَ الاخْتِلافِ فِي الْوَزْنِ إلَى مِيزَانِ مَكَّةَ. أَمَّا مِقْدَارُ مِيزَانِ مَكَّةَ فَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: بَحَثْتُ غَايَةَ الْبَحْثِ عَنْ كُلِّ مَنْ وَثَقْتُ بِتَمْيِيزِهِ فَوَجَدْتُ كُلًّا يَقُولُ: إنَّ دِينَارَ الذَّهَبِ بِمَكَّةَ وَزْنُهُ اثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ حَبَّةً وَثَلاثَةُ أَعْشَارِ حَبَّةٍ بِالْحَبِّ مِنْ الشَّعِيرِ، وَالدِّرْهَمُ سَبْعَةُ أَعْشَارِ الْمِثْقَالِ، فَوَزْنُ الدِّرْهَمِ سَبْعٌ وَخَمْسُونَ حَبَّةً وَسِتَّةُ أَعْشَارِ حَبَّةٍ وَعُشْرُ عُشْرِ الْحَبَّةِ، فَالرِّطْلُ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا بِالدِّرْهَمِ الْمَذْكُورِ وَأَمَّا مِكْيَالُ الْمَدِينَةِ فَقَدْ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَهُ فِي الْفِطْرَةِ. بَابُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ كُلِّ رَطْبٍ مِنْ حَبٍّ أَوْ تَمْرٍ بِيَابِسِهِ 2907- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْمُزَابَنَةِ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ ثَمَرَ حَائِطِهِ إنْ كَانَ نَخْلًا بِتَمْرٍ كَيْلًا، وَإِنْ كَانَ كَرْمًا أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلًا وَإِنْ كَانَ زَرْعًا أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ، نَهَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2908- وَلِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ: وَعَنْ كُلِّ ثَمَرٍ بِخَرْصِهِ. 2909- وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُسْأَلُ عَنْ اشْتِرَاءِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: «أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا يَبِسَ» ؟ قَالُوا: نَعَمْ فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. قَوْلُهُ: (بِتَمْرٍ كَيْلًا) إلى آخره قَالَ الشَّارِحُ: وَالْمُرَادُ بِالْكَرْمِ الْعِنَبُ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَهَذَا أَصْلُ الْمُزَابَنَةِ، وَأَلْحَقَ الْجُمْهُورُ بِذَلِكَ كُلَّ بَيْعٍ مَجْهُولٍ بِمَجْهُولٍ أَوْ بِمَعْلُومٍ مِنْ جِنْسٍ يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا. قَوْلُهُ: «أَيَنْقُصُ إذَا يَبِسَ» قَالُوا: نَعَمْ فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ الشَّارِحُ: وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا عَدَمُ جَوَازِ بَيْعِ الرُّطَبِ، بِالرُّطَبِ؛ لأَنَّ نَقْصَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لا يَحْصُلُ بِالْعِلْمِ بِأَنَّهُ مِثْلُ نَقْصِ الآخَرِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ إلا الشَّافِعِيَّ انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/47)


بَابُ الرُّخْصَةِ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا 2910- عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَسَهْلِ بْنِ حَثْمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ إلا أَصْحَابَ الْعَرَايَا فَإِنَّهُ قَدْ أَذِنَ لَهُمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَزَادَ فِيهِ: 2911- وَعَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ، وَعَنْ كُلِّ تَمْرٍ بِخَرْصِهِ. 2912- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْر، وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا أَنْ يَشْتَرِيَ بِخَرْصِهَا يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2913- وَفِي لَفْظٍ: عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، وَقَالَ: ذَلِكَ الرِّبَا تِلْكَ الْمُزَابَنَةُ إلا أَنَّهُ رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ النَّخْلَةِ وَالنَّخْلَتَيْنِ يَأْخُذُهَا أَهْلُ الْبَيْتِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2914- وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ حِينَ أَذِنَ لأَهْلِ الْعَرَايَا أَنْ يَبِيعُوهَا بِخَرْصِهَا يَقُولُ: «الْوَسْقَ وَالْوَسْقَيْنِ وَالثَّلاثَةَ وَالأَرْبَعَةَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2915- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا كَيْلًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 2916- وَفِي لَفْظٍ: رَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ يَأْخُذُهَا أَهْلُ الْبَيْتِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2917- وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ بِالرُّطَبِ أَوْ بِالتَّمْرِ وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ أَخْرَجَاهُ. 2918- وَفِي لَفْظٍ: بِالتَّمْرِ وَبِالرُّطَبِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ) الأَوَّلُ بِالْمُثَلَّثَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، وَالثَّانِي بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَالْمُرَادُ بِالأَوَّلِ ثَمَرُ النَّخْلَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الثَّمَرَ مِنْ غَيْرِ النَّخْلِ؛ لأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالتَّمْرِ قَوْلُهُ: (إلا أَصْحَابَ الْعَرَايَا)

(2/48)


جَمْعُ عَرِيَّةٍ قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَهِيَ فِي الأَصْلِ عَطِيَّةُ ثَمَرِ النَّخْلِ دُونَ الرَّقَبَةِ كَانَتْ الْعَرَبُ فِي الْجَدْبِ تَتَطَوَّعُ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ لا ثَمَرَ لَهُ كَمَا يَتَطَوَّعُ صَاحِبُ الشَّاةِ أَوْ الإِبِلِ بِالْمَنِيحَةِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: صُوَرُ الْعَرِيَّةِ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِصَاحِبِ النَّخْلِ: بِعْنِي ثَمَرَ ثلاثٍ بِأَعْيَانِهَا بِخَرْصِهَا مِنْ التَّمْرِ فَيَخْرِصُهَا وَيَبِيعُهَا وَيَقْبِضُ مِنْهُ التَّمْرَ وَيُسَلِّمُ لَهُ النَّخَلاتِ بِالتَّخْلِيَةِ فَيَنْتَفِعُ بِرُطَبِهَا، وَمِنْهَا: أَنْ يَهَبَ صَاحِبُ الْحَائِطِ لِرَجُلٍ نَخَلاتٍ أَوْ ثَمَرَ نَخَلاتٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ حَائِطِهِ ثُمَّ يَتَضَرَّرَ بِدُخُولِهِ عَلَيْهِ فَيَخْرِصَهَا وَيَشْتَرِيَ رُطَبَهَا بِقَدْرِ خَرْصِهِ بِثَمَرٍ مُعَجَّلٍ، وَمِنْهَا أَنْ يَهَبَهُ إيَّاهَا فَيَتَضَرَّرَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِانْتِظَارِ صَيْرُورَةِ الرُّطَبِ تَمْرًا وَلا يُحِبُّ أَكْلَهَا رُطَبًا لاحْتِيَاجِهِ إلَى التَّمْرِ فَيَبِيعَ ذَلِكَ الرُّطَبَ بِخَرْصِهِ مِنْ الْوَاهِبِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ بِتَمْرٍ يَأْخُذُهُ مُعَجَّلًا. وَمِنْهَا أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ ثَمَرَ حَائِطِهِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلاحِهِ وَيَسْتَثْنِيَ مِنْهُ نَخَلاتٍ مَعْلُومَةً يُبْقِيهَا لِنَفْسِهِ أَوْ لِعِيَالِهِ وَهِيَ الَّتِي عُفِيَ لَهُ عَنْ خَرْصِهَا فِي الصَّدَقَةِ وَسُمِّيَتْ عَرَايَا؛ لأَنَّهَا أُعْرِيَتْ عَنْ أَنْ تُخْرَصَ فِي الصَّدَقَةِ فَرُخِّصَ لأَهْلِ الْحَاجَةِ الَّذِينَ لا نَقْدَ لَهُمْ وَعِنْدَهُمْ فُضُولٌ مِنْ تَمْرِ قُوتِهِمْ أَنْ يَبْتَاعُوا بِذَلِكَ التَّمْرِ مِنْ رُطَبِ تِلْكَ النَّخَلاتِ بِخَرْصِهَا. قَوْلُهُ: «يَقُولُ الْوَسْقَ وَالْوَسْقَيْنِ» إلَى آخْره اسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ قَالَ: إنَّهُ لا يَجُوزُ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا إلا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، وَهُمْ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ قَالُوا: لأَنَّ الأَصْلَ التَّحْرِيمُ، فَيُؤْخَذُ بِمَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْجَوَازُ وَيُبْقَى مَا وَقَعَ فِيهِ الشَّكُّ. بَابُ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ 2919- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: الْحَدِيثَ لا يَنْتَهِضُ لِلاحْتِجَاجِ بِمَجْمُوعِ طُرُقِهِ فَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَتْ الْعِتْرَةُ وَالشَّافِعِيُّ إذَا كَانَ الْحَيَوَانُ مَأْكُولًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْكُولٍ جَازَ عِنْدَ الْعِتْرَةِ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ لاخْتِلافِ الْجِنْسِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لا يَجُوزُ لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِعُمُومِ

(2/49)


قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ: إنْ غَلَبَ اللَّحْمُ جَازَ لِيُقَابِلَ الزَّائِدُ مِنْهُ الْجِلْدَ. انتهى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: ويحرم بَيْعِ اللَّحْمُ بَِالْحَيَوَانِ من جِنْسِه مَقْصُود اللَّحْمُ. بَابُ جَوَازِ التَّفَاضُلِ وَالنَّسِيئَةِ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ 2920- عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اشْتَرَى عَبْدًا بِعَبْدَيْنِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 2921- وَلِمُسْلِمٍ مَعْنَاهُ. 2922- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اشْتَرَى صَفِيَّةَ بِسَبْعَةِ أَرْؤُسٍ مِنْ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَةْ. 2923- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَبْعَثَ جَيْشًا عَلَى إبِلٍ كَانَتْ عِنْدِي قَالَ: فَحَمَلْتُ النَّاسَ عَلَيْهَا حَتَّى نَفَدَتْ الإِبِلُ وَبَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ النَّاسِ، قَالَ: فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ الإِبِلُ قَدْ نَفِدَتْ وَقَدْ بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ النَّاسِ لا ظَهْرَ لَهُمْ، فَقَالَ لِي: «ابْتَعْ عَلَيْنَا إبِلًا بِقَلائِصَ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ إلَى مَحَلِّهَا حَتَّى تُنَفِّذَ هَذَا الْبَعْثَ» . قَالَ: فَكُنْتُ أَبْتَاعُ الْبَعِيرَ بِقَلُوصَيْنِ وَثَلاثِ قَلائِصَ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ إلَى مَحَلِّهَا حَتَّى نَفَّذْتُ ذَلِكَ الْبَعْثَ، فَلَمَّا جَاءَتْ إبِلُ الصَّدَقَةِ أَدَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ بِمَعْنَاهُ. 2924- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - أَنَّهُ بَاعَ جَمَلًا يُدْعَى عُصَيْفِيرًا بِعِشْرِينَ بَعِيرًا إلَى أَجَلٍ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ وَالشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ. 2925- وَعَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

(2/50)


2926- وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ مِثْلَهُ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالأَحَادِيثُ وَالآثَارُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ مُتَعَارِضَةٌ كَمَا تَرَى فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى جَوَازِ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً مُتَفَاضِلًا مُطْلَقًا وَشَرَطَ مَالِكٌ أَنْ يَخْتَلِفَ الْجِنْسُ وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا مَعَ النَّسِيئَةِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْكُوفِيِّينَ وَالْهَادَوِيَّةِ، وَتَمَسَّكَ الأَوَّلُونَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بِمَا فِيهِ مِنْ الْمَقَالِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُرَادُ بِهِ النَّسِيئَةُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ؛ فَهِيَ مِنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ وَهُوَ لا يَصِحُّ عِنْدَ الْجَمِيعِ. انْتَهَى ملخصًا. بَابُ أَنَّ مَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِنَسِيئَةٍ لا يَشْتَرِيهَا بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَهَا 2927- عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ امْرَأَتِهِ أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ فَدَخَلَتْ مَعَهَا أُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إنِّي بِعْتُ غُلامًا مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِثَمَانِمَائِةِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً وَإِنِّي ابْتَعْتُهُ مِنْهُ بِسِتِّمَائِةٍ نَقْدًا فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: بِئْسَمَا اشْتَرَيْتِ وَبِئْسَمَا شَرَيْتِ، إنَّ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ بَطَلَ إلا أَنْ يَتُوبَ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ فِي إسْنَادِهِ الْغَالِيَةُ بِنْتُ أَيْفَعَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لا يَصِحُّ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ لِمَنْ بَاعَ شَيْئًا بِثَمَنٍ نَسِيئَةً أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي بِدُونِ ذَلِكَ الثَّمَنِ نَقْدًا قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ الأَوَّلِ أَمَّا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ التَّحَيُّلَ لأَخْذِ النَّقْدِ فِي الْحَالِ وَرَدِّ أَكْثَرَ مِنْهُ بَعْدَ أَيَّامٍ فَلا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الرِّبَا الْمُحَرَّمِ الَّذِي لا يَنْفَعُ فِي تَحْلِيلِهِ الْحِيَلُ الْبَاطِلَةُ وَسَيَأْتِي الْخِلافُ فِي بَيْعِ الْعِينَةِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا. وَالصُّورَةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ صُورَةُ بَيْعِ الْعِينَةِ وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ هَذَا ... الْبَيْعِ وَلَكِنَّ تَصْرِيحَ عَائِشَةَ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ مُوجِبٌ لِبُطْلانِ الْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا قَدْ عَلِمَتْ تَحْرِيمَ ذَلِكَ بِنَصٍّ مِنْ الشَّارِعِ، إمَّا عَلَى جِهَةِ الْعُمُومِ كَالأَحَادِيثِ الْقَاضِيَةِ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا الشَّامِلِ لِمِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ، أَوْ عَلَى جِهَةِ الْخُصُوصِ كَحَدِيثِ الْعِينَةِ الآتِي.

(2/51)


بَابُ مَا جَاءَ فِي بَيْعِ الْعِينَةِ 2928- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ، وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَتَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ بَلاءً، فَلا يَرْفَعُهُ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَلَفْظُهُ. 2929- «إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إلَى دِينِكُمْ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَبَيْعُ الْعِينَةِ هُوَ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِهِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ وَيُسَلِّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ يَشْتَرِيَهُ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ بِثَمَنِ نَقْدٍ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ ذَهَبَ إلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْعِينَةِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالْهَادَوِيَّةُ وَجَوَّزَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ مُسْتَدِلِّينَ عَلَى الْجَوَازِ بِمَا وَقَعَ مِنْ أَلْفَاظِ الْبَيْعِ الَّتِي لا يُرَادُ بِهَا حُصُولُ مَضْمُونِهِ، وَطَرَحُوا الأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْبَابِ. وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْقَيِّمِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْعِينَةِ بِمَا رُوِيَ عَنْ الأَوْزَاعِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَسْتَحِلُّونَ الرِّبَا بِالْبَيْعِ» قَالَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَإِنَّهُ صَالِحٌ لِلاعْتِضَادِ بِهِ بِالاتِّفَاقِ وَلَهُ مِنْ الْمُسْنَدَاتِ مَا يَشْهَدُ لَهُ، وَهِيَ الأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْعِينَةِ، فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعِينَةَ عِنْدَ مَنْ يَسْتَعْمِلُهَا إنَّمَا يُسَمِّيهَا بَيْعًا وَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى حَقِيقَةِ الرِّبَا الصَّرِيحِ قَبْلَ الْعَقْدِ ثُمَّ غَيَّرَا اسْمَهَا إلَى الْمُعَامَلَةِ وَصُورَتَهَا إلَى التَّبَايُعِ الَّذِي لا قَصْدَ لَهُمَا فِيهِ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا هُوَ حِيلَةٌ وَمَكْرٌ وَخَدِيعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى. بَابُ مَا جَاءَ فِي الشُّبُهَاتِ 2930- عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَمَنْ تَرَكَ مَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ مِنْ الإِثْمِ كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنْ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنْ الإِثْمِ أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ، وَالْمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ، مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

(2/52)


2931- وَعَنْ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ الْبَأْسُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. 2932- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: إنْ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَيُصِيبُ التَّمْرَةَ فَيَقُولُ: «لَوْلا أَنِّي أَخْشَى أَنَّهَا مِنْ الصَّدَقَةِ لأَكَلْتُهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 2933- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فَأَطْعَمَهُ طَعَامًا فَلْيَأْكُلْ مِنْ طَعَامِهِ، وَلا يَسْأَل عَنْهُ، وَإِنْ سَقَاهُ شَرَابًا مِنْ شَرَابِهِ فَلْيَشْرَبْ مِنْ شَرَابِهِ وَلا يَسْأَلْهُ عَنْهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2934- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: إذَا دَخَلْتَ عَلَى مُسْلِمٍ لا يُتَّهَمُ فَكُلْ مِنْ طَعَامِهِ وَاشْرَبْ مِنْ شَرَابِهِ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ الشُّبُهَاتِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهَا مَا تَعَارَضَتْ فِيهِ الأَدِلَّةُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهَا مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ وَهُوَ مُنْتَزَعٌ مِنْ التَّفْسِيرِ الأَوَّلِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْمُرَادَ بِهَا قِسْمُ الْمَكْرُوهِ؛ لأَنَّهُ يَجْتَذِبُهُ جَانِبَا الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ الْمُبَاحُ وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنِيرِ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْمَكْرُوهُ عَقَبَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْحَرَامِ، فَمَنْ اسْتَكْثَرَ مِنْ الْمَكْرُوهِ تَطَرَّقَ إلَى الْحَرَامِ، وَالْمُبَاحُ عَقَبَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ... الْمَكْرُوهِ، فَمَنْ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ تَطَرَّقَ إلَى الْمَكْرُوهِ وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لابْنِ حِبَّانَ: «اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْحَرَامِ سُتْرَةً مِنْ الْحَلالِ، مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ» . قَالَ فِي الْفَتْحِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ التَّفَاسِيرَ لِلْمُشْتَبِهَاتِ: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي رُجْحَانُ الْوَجْهِ الأَوَّلِ، قَالَ: وَلا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ الأَوْجُهِ مُرَادًا، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلافِ النَّاسِ قَالَ الْخَطَّابِيِّ: مَا شَكَكْتَ فِيهِ فَالْوَرَعُ اجْتِنَابُهُ، وَهُوَ عَلَى ثَلاثَةِ أَقْسَامٍ: وَاجِبٍ، وَمُسْتَحَبٍّ، وَمَكْرُوهٍ فَالْوَاجِبُ: مَا يَسْتَلْزِمُ ارْتِكَابَ الْمُحَرَّمِ وَالْمَنْدُوبُ اجْتِنَابُ مُعَامَلَةِ مَنْ أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامٌ، وَالْمَكْرُوهُ: اجْتِنَابُ الرُّخَصِ الْمَشْرُوعَةِ قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ أَرْشَدَ الشَّارِعُ إلَى اجْتِنَابِ مَا لا يَتَيَقَّنُ الْمَرْءُ حِلَّهُ بِقَوْلِهِ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لا يَرِيبُكَ» . وَقَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إلَى أَنَّ

(2/53)


الْوَسَاوِسَ وَنَحْوَهَا لَيْسَتْ مِنْ المشُّبُهَاتِ. فَقَالَ: بَابُ مَنْ لَمْ يَرَ الْوَسَاوِسَ وَنَحْوَهَا مِنْ الْمُشَبَّهَاتِ قَالَ فِي الْفَتْحِ: هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَعْقُودَةٌ لِبَيَانِ مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّنَطُّعِ فِي الْوَرَعِ. انتهى. وساق الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ نجاد بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ: شُكِىَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الرَّجُلُ يَجِدُ فِي الصَّلاَةِ شَيْئًا، أَيَقْطَعُ الصَّلاَةَ قَالَ: «لاَ، حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» . وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قَوْمًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ لاَ نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لاَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «سَمُّوا اللَّهَ عَلَيْهِ وَكُلُوهُ» .

(2/54)


أَبْوَابُ أَحْكَامِ الْعُيُوبِ بَابُ وُجُوبِ تَبْيِينِ الْعَيْبِ 2935- عَنْ وَهْبِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا وَفِيهِ عَيْبٌ إلا بَيَّنَهُ لَهُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. 2936- وَعَنْ وَاثِلَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا إلا بَيَّنَ مَا فِيهِ، وَلا يَحِلُّ لأَحَدٍ يَعْلَمُ ذَلِكَ إلا بَيَّنَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2937- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِرَجُلٍ يَبِيعُ طَعَامًا فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ فَإِذَا هُوَ مَبْلُولٌ فَقَالَ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ وَالنَّسَائِيُّ. 2938- وَعَنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ قَالَ: كَتَبَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كِتَابًا: هَذَا مَا اشْتَرَى الْعَدَّاءُ بْنُ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اشْتَرَى مِنْهُ عَبْدًا - أَوْ أَمَةً - لا دَاءَ وَلا غَائِلَةَ وَلا خِبْثَةَ بَيْعُ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ» إلَى آخْره، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «لا يَحِلُّ لأَحَدٍ» إلَى آخْره، فِيهِمَا دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ كَتْمِ الْعَيْبِ وَوُجُوبِ تَبْيِينِهِ لِلْمُشْتَرِي. قَوْلُهُ: «فَلَيْسَ مِنَّا» يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْغِشِّ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَى ذَلِكَ.

(2/55)


قَوْلُهُ: (لا دَاءَ) قَالَ الْمُطَرِّزِيُّ: الْمُرَادُ بِهِ الْبَاطِلُ سَوَاءٌ ظَهَرَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لا كَوَجَعِ الْكَبِدِ وَالسُّعَالِ وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لا دَاءَ أَيْ: تَكَتَّمَهُ الْبَائِعُ، وَإِلا فَلَوْ كَانَ بِالْعَبْدِ دَاءٌ وَبَيَّنَهُ الْبَائِعُ كَانَ مِنْ بَيْعِ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ، وَمُحَصَّلُهُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: لا دَاءَ نَفْيَ الدَّاءِ مُطْلَقًا بَلْ نَفْيَ دَاءٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: (وَلا غَائِلَةَ) قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الإِبَاقُ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: اغْتَالَنِي فُلانٌ: إذَا احْتَالَ بِحِيلَةٍ سَلَبَ بِهَا مَالِي. قَوْلُهُ: (وَلا خِبْثَةَ) . قِيلَ: الْمُرَادُ: الأَخْلاقُ الْخَبِيثَةُ كَالإِبَاقِ. وَقَالَ صَاحِبِ الْعَيْنِ: وَهِيَ الدنية، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْحَرَامُ كَمَا عَبَّرَ عَنْ الْحَلالِ بِالطَّيِّبِ وَقِيلَ: الدَّاءُ مَا كَانَ فِي الْخَلْقِ وَالْخِبْثَةُ مَا كَانَ فِي الْخُلُقِ وَالْغَائِلَةُ: سُكُوتُ الْبَائِعِ عَنْ بَيَانِ مَا يَعْلَمُ مِنْ مَكْرُوهٍ فِي الْبِيعِ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. بَابُ أَنَّ الْكَسْبَ الْحَادِثَ لا يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ 2939- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى: أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. 2940- وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ رَجُلًا ابْتَاعَ غُلامًا فَاسْتَغَلَّهُ، ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ بِالْعَيْبِ، فَقَالَ الْبَائِعُ: غَلَّةُ عَبْدِي، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْغَلَّةُ بِالضَّمَانِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ يَرَى تَلَفَ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (أنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ) الْخَرَاجُ: هُوَ الدَّاخِلُ وَالْمَنْفَعَةُ أَيْ: يَمْلِكَ الْمُشْتَرِي الْخَرَاجَ الْحَاصِلَ مِنْ الْمَبِيعِ بِضَمَانِ الأَصْلِ الَّذِي عَلَيْهِ: أَيْ: بِسَبَبِهِ فَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، فَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ أَرْضًا فَاسْتَغَلَّهَا أَوْ دَابَّةً فَرَكِبَهَا أَوْ عَبْدًا فَاسْتَخْدَمَهُ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا قَدِيمًا فَلَهُ الرَّدُّ وَيَسْتَحِقُّ الْغَلَّةَ فِي مُقَابَلَةِ الضَّمَانِ لِلْمَبِيعِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَوَائِدِ الأَصْلِيَّةِ وَالْفَرْعِيَّةِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَفَصَّلَ مَالِكٌ فَقَالَ: يَسْتَحِقُّ

(2/56)


الْمُشْتَرِي الصُّوفَ وَالشَّعْرَ دُونَ الْوَلَدِ وَفَرَّقَ أَهْلُ الرَّأْيِ وَالْهَادَوِيَّةُ بَيْنَ الْفَوَائِدِ الْفَرْعِيَّةِ وَالأَصْلِيَّةِ فَقَالُوا: يَسْتَحِقُّ الْمُشْتَرِي الْفَرْعِيَّةَ كَالْكِرَاءِ دُونَ الأَصْلِيَّةِ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ، وَهَذَا الْخِلافُ إنَّمَا هُوَ مَعَ انْفِصَالِ الْفَوَائِدِ عَنْ الْمَبِيعِ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُتَّصِلَةً وَقْتَ الرَّدِّ وَجَبَ رَدُّهَا بِالإِجْمَاعِ قِيلَ: إنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُخْتَصٌّ بِمَنْ لَهُ مِلْكٌ فِي الْعَيْنِ الَّتِي انْتَفَعَ بِخَرَاجِهَا كَالْمُشْتَرِي الَّذِي هُوَ سَبَبُ وُرُودِ الْحَدِيثِ، وَإِلَى ذَلِكَ مَالَ الْجُمْهُورُ وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: إنَّ الْغَاصِبَ كَالْمُشْتَرِي قِيَاسًا، وَلا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْقِيَاسِ؛ لأَنَّ الْمِلْكَ فَارِقٌ يَمْنَعُ الإِلْحَاقَ، وَالأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْغَاصِبَ دَاخِلٌ تَحْتَ عُمُومِ اللَّفْظِ، وَلا عِبْرَةَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الأُصُولِ. انتهى. قال الموفق في المقنع: وإن زاد المغصوب لزمه رده بزيادته سواء أكانت متصلة كالسمن وتعلم صنعة أم منفصلة كالولد والكلب وهو الصواب. بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمُصَرَّاةِ 2941- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالْغَنَمَ، فَمَنْ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِلْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُد: 2942- «مَنْ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً فَاحْتَلَبَهَا فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا فَفِي حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ» . وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّاعَ مِنْ التَّمْرِ فِي مُقَابَلَةِ اللَّبَنِ وَأَنَّهُ أَخَذَ قِسْطًا مِنْ الثَّمَنِ. 2943- وَفِي رِوَايَةٍ: «إذَا مَا اشْتَرَى أَحَدُكُمْ لِقْحَةً مُصَرَّاةً أَوْ شَاةً مُصَرَّاةً فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا إمَّا هِيَ وَإِلا فَلْيَرُدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُمْسِكُ بِغَيْرِ أَرْشٍ.

(2/57)


2944- وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ اشْتَرَى مُصَرَّاةً فَهُوَ مِنْهَا بِالْخِيَارِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَمَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ لا سَمْرَاءَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ. 2945- وَعَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَنْ اشْتَرَى مُحَفَّلَةً فَرَدَّهَا فَلْيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالْبَرْقَانِيُّ عَلَى شَرْطِهِ وَزَادَ: مِنْ تَمْرٍ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لا تُصَرُّوا» بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الصَّادِ وَضَمِّ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ مِنْ صَرَّيْتُ اللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ إذَا جَمَعْتُهُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: التَّصْرِيَةُ: حَبْسُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ حَتَّى يَجْتَمِعَ وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الإِبِلِ وَالْغَنَمِ دُونَ الْبَقَرِ؛ لأَنَّ غَالِبَ مَوَاشِيهِمْ كَانَتْ مِنْ الإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْحُكْمُ وَاحِدٌ خِلافًا لِدَاوُدَ. قَوْلُهُ: «فَمَنْ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ» أَيْ: اشْتَرَاهَا بَعْدَ التَّصْرِيَةِ. قَوْلُهُ: «فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا» ظَاهِرُهُ أَنَّ الْخِيَارَ لا يَثْبُتُ إلا بَعْدَ الْحَلْبِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ إذَا عَلِمَ بِالتَّصْرِيَةِ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ عَلَى الْفَوْرِ وَلَوْ لَمْ يَحْلِبْ لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ التَّصْرِيَةُ لا يُعْرَفُ غَالِبُهَا إلا بَعْدَ الْحَلْبِ جُعِلَ قَيْدًا فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ. قَوْلُهُ: «إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا» اُسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ الْمُصَرَّاةِ مَعَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ. قَوْلُهُ: «إنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ» قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الصَّاعِ مِنْ التَّمْرِ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ رَدُّ اللَّبَنِ وَلَوْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى صِفَتِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَلا يَلْزَمُ الْبَائِعَ قَبُولُهُ لِذَهَابِ طَرَاوَتِهِ وَاخْتِلاطِهِ بِمَا تَجَدَّدَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي. قَوْلُهُ: «لِقْحَةً» هِيَ النَّاقَةُ الْحَلُوبُ أَوْ الَّتِي نَتَجَتْ. قَوْلُهُ: «ثَلاثَةَ أَيَّامٍ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى امْتِدَادِ الْخِيَارِ هَذَا الْمِقْدَارَ. قَوْلُهُ «مِنْ تَمْرٍ لا سَمْرَاءَ» لَفْظُ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد: «مِنْ طَعَامٍ لا ... سَمْرَاءَ»

(2/58)


وَقَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ الْجُمْهُورُ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ... اللَّبَنُ الَّذِي اُحْتُلِبَ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَلا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّمْرُ قُوتَ تِلْكَ الْبَلَدِ أَمْ لا. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مَالِكٍ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ: يَتَعَيَّنُ قُوتُ الْبَلَدِ قِيَاسًا عَلَى زَكَاةِ الْفِطْرِ وَحَكَى الْبَغَوِيّ أَنَّهُ لا خِلافَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُمَا لَوْ تَرَاضَيَا بِغَيْرِ التَّمْرِ مِنْ قُوتٍ أَوْ غَيْرِهِ كَفَى انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي النَّهْيِ عَنْ الْغِشِّ وَأَصْلٌ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِمَنْ دُلِّسَ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ وَأَصْلٌ فِي أَنَّهُ لا يُفْسِدُ أَصْلَ الْبَيْعِ وَأَصْلٌ فِي أَنَّ مُدَّةَ الْخِيَارِ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ وَأَصْلٌ فِي تَحْرِيمِ التَّصْرِيَةِ وَثُبُوتِ الْخِيَارِ بِهَا. بَابُ النَّهْيِ عَنْ التَّسْعِيرِ 2946- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: غَلا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ سَعَّرْتَ؟ ، فَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ هُوَ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ الْمُسَعِّرُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَلا يَطْلُبُنِي أَحَدٌ بِمَظْلِمَةٍ ظَلَمْتُهَا إيَّاهُ فِي دَمٍ وَلا مَالٍ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: التَّسْعِيرُ: هُوَ أَنْ يَأْمُرَ السُّلْطَانُ أَوْ نُوَّابُهُ أَوْ أَهْلَ السُّوقِ أَنْ لا يَبِيعُوا أَمْتِعَتَهُمْ إلا بِسِعْرِ كَذَا، فَيُمْنَعُوا مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ أَوْ النُّقْصَانِ لِمَصْلَحَةٍ، وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّسْعِيرِ وَأَنَّهُ مَظْلِمَةٌ وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّاسَ مُسَلَّطُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَالتَّسْعِيرُ حَجْرٌ عَلَيْهِمْ، وَالإِمَامُ مَأْمُورٌ بِرِعَايَةِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ نَظَرُهُ فِي مَصْلَحَةِ الْمُشْتَرِي بِرُخْصِ الثَّمَنِ أَوْلَى مِنْ نَظَرِهِ فِي مَصْلَحَةِ الْبَائِعِ بِتَوْفِيرِ الثَّمَنِ وَإِذَا تَقَابَلَ الأَمْرَانِ وَجَبَ تَمْكِينُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الاجْتِهَادِ لأَنْفُسِهِمْ، وَإِلْزَامُ صَاحِبِ السِّلْعَةِ أَنْ يَبِيعَ بِمَا لا يَرْضَى بِهِ مُنَافٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ} وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلإِمَامِ التَّسْعِيرُ وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَرُدُّ عَلَيْهِ وَظَاهِرُ الأَحَادِيثِ أَنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ حَالَةِ الْغَلاءِ وَحَالَةِ الرُّخْصِ، وَلا فَرْقَ بَيْنَ الْمَجْلُوبِ وَغَيْرِهِ، وَإِلَى ذَلِكَ مَالَ الْجُمْهُورُ وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ جَوَازُ التَّسْعِيرِ فِي حَالَةِ الْغَلاءِ وَهُوَ مَرْدُودٌ.

(2/59)


بَابُ مَا جَاءَ فِي الاحْتِكَارِ 2947- عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَحْتَكِرُ إلا خَاطِئٌ» . وَكَانَ سَعِيدٌ يَحْتَكِرُ الزَّيْتَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 2948- وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيُغْلِيَهُ عَلَيْهِمْ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُقْعِدَهُ بِعُظْمٍ مِنْ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . 2949- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ احْتَكَرَ حُكْرَةً يُرِيدُ أَنْ يُغْلِيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ خَاطِئٌ» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. 2950- وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالإِفْلاسِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «بِعُظْمٍ» بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ: أَيْ: بِمَكَانٍ عَظِيمٍ مِنْ النَّارِ. قَوْلُهُ: «حُكْرَةً» بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَهِيَ حَبْسُ السِّلَعِ عَنْ الْبَيْعِ وَظَاهِرُ أَحَادِيثِ الْبَابِ أَنَّ الاحْتِكَارَ مُحَرَّمٌ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ قُوتِ الآدَمِيِّ وَالدَّوَابِّ. وَذَهَبَتْ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ الْمُحَرَّم إنَّمَا هُوَ احْتِكَارُ الأَقْوَاتِ خَاصَّةً لا غَيْرِهَا وَلا مِقْدَارِ الْكِفَايَةِ مِنْهَا، قَالَ ابْنُ رِسْلانَ: وَلا خِلافَ فِي أَنَّ مَا يَدَّخِرُهُ الإِنْسَانُ مِنْ قُوتٍ وَمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ سَمْنٍ وَعَسَلٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ جَائِزٌ لا بَأْسَ بِهِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَّخِرُ لأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ مِنْ تَمْرٍ وَغَيْرِهِ قَالَ أَبُو دَاوُد: قِيلَ لِسَعِيدٍ يَعْنِي: ابْنَ الْمُسَيِّبِ فَإِنَّكَ تَحْتَكِرُ قَالَ وَمَعْمَرٌ كَانَ يَحْتَكِرُ. وَكَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَآخَرُونَ: إنَّمَا كَانَا يَحْتَكِرَانِ الزَّيْتَ، وَحَمَلا الْحَدِيثَ عَلَى احْتِكَارِ الْقُوتِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ حَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ وَيَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْحَاجَةِ وَقَصْدِ إغْلاءِ السِّعْرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ مَعْقِلٍ «مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيُغْلِيَهُ عَلَيْهِمْ» . قَالَ أَبُو دَاوُد: سَأَلْتُ أَحْمَدَ مَا الْحُكْرَةُ؟ قَالَ: مَا فِيهِ عَيْشُ النَّاسِ: أَيْ: حَيَاتُهُمْ وَقُوتُهُمْ، وَقَالَ الأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي: أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ

(2/60)


يُسْأَلُ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ الاحْتِكَارُ؟ فَقَالَ: إذَا كَانَ مِنْ قُوتِ النَّاسِ فَهُوَ الَّذِي يُكْرَهُ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: الْمُحْتَكِرُ مَنْ يَعْتَرِضُ السُّوقَ أَيْ: يَنْصِبُ نَفْسَهُ لِلتَّرَدُّدِ إلَى الأَسْوَاقِ لِيَشْتَرِيَ مِنْهَا الطَّعَامَ الَّذِي يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ لِيَحْتَكِرَهُ قَالَ السُّبْكِيُّ: الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ مَنَعَ غَيْرَهُ مِنْ الشِّرَاءِ وَحَصَلَ بِهِ ضِيقٌ حُرِّمَ وَإِنْ كَانَتْ الأَسْعَارُ رَخِيصَةً وَكَانَ الْقَدْرُ الَّذِي يَشْتَرِيهِ لا حَاجَةَ بِالنَّاسِ إلَيْهِ فَلَيْسَ لِمَنْعِهِ مِنْ شِرَائِهِ وَادِّخَارِهِ إلَى وَقْتِ حَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ مَعْنًى قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالرُّويَانِيُّ: وَرُبَّمَا يَكُونُ هَذَا حَسَنَةً؛ لأَنَّهُ يَنْفَعُ بِهِ النَّاسَ وَقَطَعَ الْمَحَامِلِيُّ فِي الْمُقْنِعِ بِاسْتِحْبَابِهِ انْتَهَى ملخصًا. قُلْتُ: فِي مَنَعَ التُّجَّارُ مَنْ اشْتِرَاءِ الْمَجْلُوبِ وَغَيْرِهِ مَنْ السِّلَعِ مضرة تعود عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، وَهِيَ أَنَّ الجالب إذَا عَلمِ ذَلِكَ تَرَكَ الْمَجِيءَ وَإذَا أَشْتَرِي التُّجَّارُ السِّلَعِ وَالطَّعَامَ الْمَجْلُوبِ نْفَعُ ذَلِكَ أَهْلِ الْبَلَدِ إذَا احتاجوا إلَيْهِ وكثر الجالب وَقَدْ قَالَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: «دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ» . بَابُ النَّهْيِ عَنْ كَسْرِ سِكَّةِ الْمُسْلِمِينَ إلا مِنْ بَأْسٍ 2951- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْمَازِنِيِّ قَالَ: نَهَى لنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تُكْسَرَ سِكَّةُ الْمُسْلِمِينَ الْجَائِزَةُ بَيْنَهُمْ إلا مِنْ بَأْسٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ مَا فِي الْكَسْرِ مِنْ الضَّرَرِ بِإِضَاعَةِ الْمَالِ لِمَا يَحْصُلُ مِنْ النُّقْصَانِ فِي الدَّرَاهِمِ وَنَحْوِهَا إذَا كُسِرَتْ وَأُبْطِلَتْ الْمُعَامَلَةُ بِهَا قَوْلُهُ: (إلا مِنْ بَأْسٍ) كَأَنْ تَكُونَ زُيُوفًا، وَلا يَخْفَى أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَأْذَنْ فِي الْكَسْرِ إلا إذَا كَانَ بِهَا بَأْسٌ، وَمُجَرَّدُ الإِبْدَالِ لِنَفْعِ الْبَعْضِ رُبَّمَا أَفْضَى إلَى الضَّرَرِ بِالْكَثِيرِ مِنْ النَّاسِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَا جَاءَ فِي اخْتِلافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ 2952- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا اخْتَلَفَ الْبَيِّعَانِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ مَا يَقُولُ صَاحِبُ السِّلْعَةِ أَوْ يَتَرَادَّانِ» . رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.

(2/61)


2953- وَزَادَ فِيهِ ابْنُ مَاجَةْ: «وَالْبَيْعُ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ» . 2954- وَكَذَلِكَ لأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: «وَالسِّلْعَةُ كَمَا هِيَ» . 2955- وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «إذَا اخْتَلَفَ الْبَيِّعَانِ وَالْبَيْعُ مُسْتَهْلَكٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ» . وَرَفَعَ الْحَدِيثَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. 2956- وَلأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: وَأَتَاهُ رَجُلانِ تَبَايَعَا سِلْعَةً، فَقَالَ هَذَا: أَخَذْت بِكَذَا وَكَذَا، وَقَالَ هَذَا: بِعْت بِكَذَا وَكَذَا، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أُتِيَ عَبْدُ اللَّهِ فِي مِثْلِ هَذَا فَقَالَ: حَضَرْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي مِثْلِ هَذَا، فَأَمَرَ بِالْبَائِعِ أَنْ يُسْتَحْلَفَ، ثُمَّ يُخَيَّرَ الْمُبْتَاعُ إنْ شَاءَ أَخَذَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُنْقَطِعٌ إلا أَنَّهُ مَشْهُورُ الأَصْلِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ وَبَنَوْا عَلَيْهِ كَثِيرًا مِنْ فُرُوعِهِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيِّ: هَذَا حَدِيثٌ قَدْ اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى قَبُولِهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَصْلًا وَإِنْ كَانَ فِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ كَمَا اصْطَلَحُوا عَلَى قَبُولِ (لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ) وَإِسْنَادُهُ فِيهِ مَا فِيهِ قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ إذَا وَقَعَ الاخْتِلافُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي فِي أَمْرٍ مِنْ الأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَقْدِ وَلَكِنْ مَعَ يَمِينِهِ. وَهَذَا إذَا لَمْ يَقَعْ التَّرَاضِي بَيْنَهُمَا عَلَى التَّرَادِّ، فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ جَازَ بِلا خِلافٍ، فَلا يَكُونُ لَهُمَا خَلاصٌ عَنْ النِّزَاعِ إلا التَّفَاسُخَ أَوْ حَلِفَ الْبَائِعِ، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ بَقَاءِ الْمَبِيعِ وَتَلَفِهِ لِمَا عَرَفْت مِنْ عَدَمِ انْتِهَاضِ الرِّوَايَةِ الْمُصَرَّحِ فِيهَا بِاشْتِرَاطِ بَقَاءِ الْمَبِيعِ لِلاحْتِجَاجِ، وَالتَّرَدُّدُ مَعَ التَّلَفِ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَرْجِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمِثْلِ الْمِثْلِيِّ وَقِيمَةِ الْقِيَمِيِّ إذَا تَقَرَّرَ لَكَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ كَوْنِ الْقَوْلِ قَوْلَ الْبَائِعِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ إلَى الْعَمَلِ بِهِ فِي جَمِيعِ صُوَرِ الاخْتِلافِ أَحَدٌ فِيمَا أَعْلَمُ، بَلْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ اخْتِلافًا طَوِيلًا عَلَى حَسَبِ مَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي الْفُرُوعِ، وَوَقَعَ الاتِّفَاقُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَالاخْتِلافُ فِي بَعْضٍ وَسَبَبُ الاخْتِلافِ فِي ذَلِكَ قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مِنْ أَنْكَرَ» فَبَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ. انْتَهَى ملخصًا. قَالَ فِي

(2/62)


الْفُرُوعِ: إِذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ تَحَالَفَا، نَقَلَهُ الْجَمَاعَةَ، لأَنَّ كُلا مِنْهُمَا مُدَّعٍ وَمُنْكِر صُورَة، وَكَذَا حُكْمًا لِسَمَاعِ بَيِّنَةِ كُلِّ مِنْهُمَا. قَالَ فِي عُيوُنِ الْمَسَائِلِ: وَلا يَسْمَعُ إِلا بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي بِاتِّفَاقِنَا فَيَحْلِفُ الْبَائِعُ أَنَّهُ مَا بَاعَهُ إِلا بِكَذَا ثُمَّ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ مَا اشْتَرَاهُ إِلا بِكَذَا، وَالأَشْهَرُ يَذْكُرُ كُلٌّ مِنْهٌمَا إِثْبَاتًا وَنَفْيًا يَبْدَآنِ بِالنَّفْيِ، وَعَنْهِ الإِثْبَات، ثُمَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا الْفَسْخ، وَقِيلَ: يَفْسُخُهُ حَاكِم مَا لَمْ يَرْضَ الآخَرْ، وَمَنْ نَكَلَ قَالَ بَعْضُهمْ: لَوْ نَكَلَ مُشْتَرٍ عَنْ إِثْبَاتٍ قَضَي عَلَيْهِ، وَعَنْهُ يُقْبَل قَوْل بَائِع مَع يَمِينِهِ، ذَكَرَهُ فِي التَّرْغِيبِ الْمَنْصُوصُ كَاخْتِلافِهِمَا بَعْدُ قَبْضِهِ وَفَسْخ الْعَقْدِ فِي الْمَنْصُوص. وَعَنْهُ مُشْتَر. وَنَقَلَ أَبُو دَاودُ قَوْلَ الْبَائِعِ أَو يَتَرَادَّان. قِيلَ: فَإِنْ أَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةٍ؟ قَالَ: كَذَلِكَ. انْتَهَى.

(2/63)


 كِتَابُ السَّلَمِ

2957- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، فَقَالَ: «مَنْ أَسْلَفَ فِي ثَمَرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. وَهُوَ حُجَّةٌ فِي السَّلَمِ فِي مُنْقَطِعِ الْجِنْسِ حَالَةَ الْعَقْدِ. 2958- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالا: كُنَّا نُصِيبُ الْمَغَانِمَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ يَأْتِينَا أَنْبَاطٌ مِنْ أَنْبَاطِ الشَّامِ فَنُسْلِفُهُمْ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّيْتِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، قِيلَ: أَكَانَ لَهُمْ زَرْعٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالا: مَا كُنَّا نَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 2959- وَفِي رِوَايَةٍ: كُنَّا نُسْلِفُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّيْتِ وَالتَّمْرِ وَمَا نَرَاهُ عِنْدَهُمْ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. 2960- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. 2961- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَسْلَفَ شَيْئًا فَلا يَشْرِطْ عَلَى صَاحِبِهِ غَيْرَ قَضَائِهِ» . 2962- وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلا يَأْخُذْ إلا مَا أَسْلَفَ فِيهِ أَوْ رَأْسَ مَالِهِ» . رَوَاهُمَا الدَّارَقُطْنِيّ.

(2/64)


وَاللَّفْظُ الأَوَّلُ دَلِيلُ امْتِنَاعِ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِيهِ، وَالثَّانِي يَمْنَعُ الإِقَالَةَ فِي الْبَعْضِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: السَّلَمِ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَاللامِ كَالسَّلَفِ وَزْنًا وَمَعْنًى. وَحُكِيَ فِي الْفَتْحِ عَنْ الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّ السَّلَفَ لُغَةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَالسَّلَمَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَالسَّلَمُ: بَيْعٌ مَوْصُوفٌ فِي الذِّمَّةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لَهُ مَا يُشْتَرَطُ لِلْبَيْعِ، وَعَلَى تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ. قَوْلُهُ: «فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ» اُحْتُرِزَ بِالْكَيْلِ عَنْ السَّلَمِ فِي الأَعْيَانِ، وَبِقَوْلِهِ: «مَعْلُومٍ» عَنْ الْمَجْهُولِ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ. قَوْلُهُ: «إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ الأَجَلِ فِي السَّلَمِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَقَالُوا: لا يَجُوزُ السَّلَمُ حَالًّا، وَقَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ، قَالُوا:؛ لأَنَّهُ إذَا جَازَ مُؤَجَّلًا مَعَ الْغَرَرِ فَجَوَازُهُ حَالًّا أَوْلَى، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْجُمْهُورُ فِي مِقْدَارِ الأَجَلِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا فَرْقَ بَيْنَ الأَجَلِ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ وَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: لا بُدَّ مِنْ أَجَلٍ تَتَغَيَّرُ فِيهِ الأَسْوَاقُ، وَأَقَلُّهُ عِنْدَهُمْ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ، وَعِنْدَ ابْنِ قَاسِمٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَأَجَازَ مَالِكٌ السَّلَمَ إلَى الْعَطَاءِ وَالْحَصَادِ وَمَقْدَمِ الْحَاجِّ، وَالْحَقُّ مَا ذَهَبَتْ إلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِ الأَجَلِ لِعَدَمِ وُرُودِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَا يُقَالُ مِنْ أَنَّهُ يَلْزَمُ مَعَ عَدَمِ الأَجَلِ أَنْ يَكُونَ بَيْعًا لِلْمَعْدُومِ، وَلَمْ يُرَخَّصْ فِيهِ إلا فِي السَّلَمِ، وَلا فَارِقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْعِ إلا الأَجَلَ فَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الصِّيغَةَ فَارِقَةٌ وَذَلِكَ كَافٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلسَّلَمِ شُرُوطًا غَيْرَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ مَبْسُوطَةً فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَلا حَاجَةَ لَنَا فِي التَّعَرُّضِ لِمَا لا دَلِيلَ عَلَيْهِ إلا أَنَّهُ وَقَعَ الإِجْمَاعُ عَلَى اشْتِرَاطِ مَعْرِفَةِ صِفَةِ الشَّيْءِ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ يَتَمَيَّزُ بِتِلْكَ الْمَعْرِفَةِ عَنْ غَيْرِهِ انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: (مَا كُنَّا نَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يُشْتَرَطُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنْ تَقْرِيرِهِ - صلى الله عليه وسلم - لَهُمْ مَعَ تَرْكِ الاسْتِفْصَالِ.

(2/65)


قَوْلُهُ: (وَمَا نَرَاهُ عِنْدَهُمْ) لَفْظُ أَبِي دَاوُد «إلَى قَوْمٍ مَا هُوَ عِنْدَهُمْ» أَيْ: لَيْسَ عِنْدَهُمْ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ السَّلَمِ فِيمَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي وَقْتِ السَّلَمِ إذَا أَمْكَنَ وُجُودُهُ فِي وَقْتِ حُلُولِ الأَجَلِ فَذَهَبَ إلَى جَوَازِهِ الْجُمْهُورُ. قَوْلُهُ: «مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ» قَالَ الشَّارِحُ: فِي إسْنَادِهِ عَطِيَّةُ بْنُ سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: لا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ إلى أن قَالَ: قَوْلُهُ: «فَلا يَصْرِفْهُ فِي غَيْرِهِ» الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرِ رَاجَعْ إلَى الْمُسْلَمِ فِيه لاَ إلَى ثَمَنِهِ الَّذِي هُوَ رَأْسِ الْمَالِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لا يَحِلُّ جَعْلُ الْمُسْلَمِ فِيه ثَمَنًِا لشَّيْءِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَلا يَجُوزُ بيعه قَبْلَ القَبْضِ، أَيْ لا يَصْرِفْهُ إلَى شَّيْءِ غَيْرَ عَقْدُ السَّلَمِ وَقِيلَ: الضَّمِيرِ رَاجَعْ إلَى رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلَهُ ابْنُ رِسْلانَ فِي شَرْحِ السُّنَنِ وَغَيْرَه أَيْ لَيْسَ لُهُ صْرِفْ رَأْسِ الْمَالِ فِي عِوَضٍ آخر كأن يجعله ثَمَنًِا لشَّيْءِ آخر فلا يَجُوزُ لُهُ ذَلِكَ حتى يقَبْضِهِ، وَإلَى ذَلِكَ ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ الْهَادِي وَالْمُؤَيَّدِ بِاَللَّهِ وقَال َالشَّافِعِيِّ وزفر: يَجُوزُ ذَلِكَ لأَنَّهُ عِوَضٍ عَنْ مستقر فِي الذِّمَّةِ فجاز كما لو كان قرضًا، ولأنه مَالِ عاد إليه بفسخ العقد عَلَى فرض تعذر الْمُسْلَمِ فِيه فجاز أخذ العِوَضٍ عنه كالثمن فِي المبيع إذا فسخ العقد. قَوْلُهُ: «فَلا يَشْرِطْ عَلَى صَاحِبِهِ غَيْرَ قَضَائِهِ» . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ شَيْءٍ مِنْ الشُّرُوطِ فِي عَقْدِ السَّلَمُ غَيْرُ الْقَضَاءِ، واسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ عَلَى امْتِنَاعِ الرَّهْنِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ بن جُبَيْرٍ أَنَّ الرَّهْنَ فِي السَّلَمِ هُو الرِّبَا الْمَضْمُون وَقَدْ رُوِيَ نَحْوَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرٍ وَالأَوْزَاعِيّ وَالْحَسَن، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدٍ، وَرَخَّصَ فِيهِ الْبَاقُونَ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَة أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ نَسِيئَةٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ، وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ: «بَاب الرَّهْن فِي السَّلَم» . وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ أَيْضًا: بَاب الْكَفِيل فِي السَّلَم وَالْخِلاف فِيهِ كَالْخِلافِ فِي الرَّهْنِ.

(2/66)


 كِتَابُ الْقَرْضِ

بَابُ فَضِيلَتِهِ 2963- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُقْرِضُ مُسْلِمًا قَرْضًا مَرَّتَيْنِ إلا كَانَ كَصَدَقَتِهَا مَرَّةً» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِي فَضِيلَةِ الْقَرْضِ أَحَادِيثُ وَعُمُومِيَّاتُ الأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْحَدِيثِيَّةِ الْقَاضِيَةِ بِفَضْلِ الْمُعَاوَنَةِ وَقَضَاءِ حَاجَةِ الْمُسْلِمِ وَتَفْرِيجِ كُرْبَتِهِ وَسَدِّ فَاقَتِهِ شَامِلَةٌ لَهُ. بَابُ اسْتِقْرَاضِ الْحَيَوَانِ وَالْقَضَاءِ مِنْ الْجِنْسِ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ 2964- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: اسْتَقْرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سِنًّا، فَأَعْطَى سِنًّا خَيْرًا مِنْ سِنِّهِ، وَقَالَ: «خِيَارُكُمْ أَحَاسِنُكُمْ قَضَاءً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 2965- وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: اسْتَلَفَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَكْرًا، فَجَاءَتْهُ إبِلُ الصَّدَقَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ فَقُلْت: إنِّي لَمْ أَجِدْ فِي الإِبِلِ إلا جَمَلًا خِيَارًا رَبَاعِيًّا، فَقَالَ: «أَعْطِهِ إيَّاهُ فَإِنَّ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ أَحْسَنَهُمْ قَضَاءً» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ. 2966- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَقَاضَاهُ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إلَى خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَقَالَ لَهَا: «إنْ كَانَ عِنْدَكِ تَمْرٌ

(2/67)


فَأَقْرِضِينَا حَتَّى يَأْتِيَنَا تَمْرٌ فَنَقْضِيَكِ» . مُخْتَصَرٌ لابْنِ مَاجَةْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِي الْحَدِيثَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ الْقَرْضِ مِنْ الْمُسْتَقْرِضِ، وَسَيَأْتِي الْكَلامُ عَلَى ذَلِكَ وَفِي الْحَدِيثَيْنِ أَيْضًا جَوَازُ قَرْضِ الْحَيَوَانِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ اسْتَثْنَى مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ قَرْضَ الْوَلائِدِ، فَقَالُوا: لا يَجُوزُ؛ لأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى عَارِيَّةِ الْفَرْجِ إلى أن قال: وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَنْ يَقْضِيَهُ بِدَيْنٍ آخَرَ، وَلا خِلافَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ فِيمَا أَعْلَمُ بَابُ جَوَازِ الزِّيَادَةِ عِنْدَ الْوَفَاءِ وَالنَّهْيِ عَنْهَا قَبْلَهُ 2967- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سِنٌّ مِنْ الإِبِلِ، فَجَاءَ يَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: «أُعْطُوهُ» . فَطَلَبُوا سِنَّهُ فَلَمْ يَجِدُوا إلا سِنًّا فَوْقَهَا، فَقَالَ: «أُعْطُوهُ» . فَقَالَ: أَوْفَيْتَنِي أَوْفَاكَ اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً» . 2968- وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: أَتَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ لِي عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَقَضَانِي وَزَادَنِي. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 2969- وَعَنْ أَنَسٍ وَسُئِلَ: الرَّجُلُ مِنَّا يُقْرِضُ أَخَاهُ الْمَالَ فَيُهْدِي إلَيْهِ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضًا فَأُهْدِيَ إلَيْهِ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ فَلا يَرْكَبْهَا وَلا يَقْبَلْهُ إلا أَنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. 2970- وَعَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا أَقْرَضَ فَلا يَأْخُذْ هَدِيَّةً» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ. 2971- وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَدِمْت الْمَدِينَةَ فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ سَلامٍ فَقَالَ لِي: إنَّك بِأَرْضٍ فِيهَا الرِّبَا فَاشٍ، فَإِذَا كَانَ لَكَ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَأَهْدَى إلَيْكَ حِمْلَ تِبْنٍ أَوْ حِمْلَ شَعِيرٍ أَوْ حِمْلَ قَتٍّ فَلا تَأْخُذْهُ فَإِنَّهُ رِبًا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ.

(2/68)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ إذَا حَلَّ أَجَلُهُ وَحُسْنِ خُلُقِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَتَوَاضُعِهِ وَإِنْصَافِهِ، جَوَازِ قَرْضِ الْحَيَوَانِ، وَفِيهِ جَوَازُ رَدِّ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْمِثْلِ الْمُقْتَرَضِ إذَا لَمْ تَقَعْ شَرْطِيَّةُ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ مَشْرُوطَةً فِي الْعَقْدِ فَتَحْرُمُ اتِّفَاقًا، وَلا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الزِّيَادَةِ فِي الْقَضَاءِ عَلَى مِقْدَارِ الدَّيْنِ جَوَازُ الْهَدِيَّةِ وَنَحْوِهَا قَبْلَ الْقَضَاءِ؛ لأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الرِّشْوَةِ فَلا تَحِلُّ كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثَا أَنَسٍ الْمَذْكُورَانِ وَأَثَرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لأَجْلِ عَادَةٍ جَارِيَةٍ بَيْنَ الْمُقْرِضِ وَالْمُسْتَقْرِضِ قَبْلَ التَّدَايُنِ فَلا بَأْسَ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ حِلِّ الْقَرْضِ الَّذِي يَجُرُّ إلَى الْمُقْرِضِ نَفْعًا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ مَوْقُوفًا بِلَفْظِ: «كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الرِّبَا» . انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/69)


 كِتَابُ الرَّهْنِ

2972- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: رَهَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دِرْعًا عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِالْمَدِينَةِ وَأَخَذَ مِنْهُ شَعِيرًا لأَهْلِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. 2973- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ. 2974- وَفِي لَفْظٍ: تُوُفِّيَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. أَخْرَجَاهُمَا. 2975- وَلأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنِ مَاجَةْ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ جَوَازُ الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ وَمُعَامَلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ. 2976- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إذَا كَانَ مَرْهُونًا وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا مُسْلِمًا وَالنَّسَائِيُّ. 2977- وَفِي لَفْظٍ: «إذَا كَانَتْ الدَّابَّةُ مَرْهُونَةً، فَعَلَى الْمُرْتَهِنِ عَلْفُهَا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ، وَعَلَى الَّذِي يَشْرَبُ نَفَقَتُهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2978- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: هَذَا إسْنَادٌ حَسَنٌ مُتَّصِلٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (عِنْدَ يَهُودِيٍّ) هُوَ أَبُو الشَّحْمِ كَمَا

(2/70)


بَيَّنَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَهَنَ دِرْعًا لَهُ عِنْدَ أَبِي الشَّحْمِ الْيَهُودِيِّ رَجُلٍ مِنْ بَنِي ظَفَرٍ فِي شَعِيرٍ وَالأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الرَّهْنِ وَهُوَ مَجْمُوعٌ عَلَى جَوَازِهِ وَفِيهَا أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَالتَّقْيِيدُ بِالسَّفَرِ فِي الآيَةِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلا مَفْهُومَ لَهُ لِدَلالَةِ الأَحَادِيثِ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ فِي الْحَضَرِ، وَأَيْضًا السَّفَرُ مَظِنَّةُ فَقْدِ الْكَاتِبِ فَلا يُحْتَاجُ إلَى الرَّهْنِ غَالِبًا إلا فِيهِ، وَفِيهَا أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مُعَامَلَةِ الْكُفَّارِ فِيمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ تَحْرِيمُ الْعَيْنِ الْمُتَعَامَلِ فِيهَا وَجَوَازِ رَهْنِ السِّلاحِ عِنْدَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لا عِنْدَ أَهْلِ الْحَرْبِ بِالاتِّفَاقِ وَجَوَازِ الشِّرَاءِ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: فِي عُدُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ مُعَامَلَةِ مَيَاسِيرِ الصَّحَابَةِ إلَى مُعَامَلَةِ الْيَهُودِ إمَّا بَيَانُ الْجَوَازِ، أَوْ لأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ إذْ ذَاكَ طَعَامٌ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَتِهِمْ أَوْ خَشِيَ أَنَّهُمْ لا يَأْخُذُونَ مِنْهُ ثَمَنًا أَوْ عِوَضًا فَلَمْ يُرِدْ التَّضْيِيقَ عَلَيْهِمْ. قَوْلُهُ: «الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إذَا كَانَ مَرْهُونًا» إلى آخره، َفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ الانْتِفَاعُ بِالرَّهْنِ إذَا قَامَ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَأْذَنْ الْمَالِكُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَاللَّيْثُ وَالْحَسَنُ. قَوْلُهُ: «لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ» قَالَ فِي الْقَامُوسِ: غَلِقَ الرَّهْنُ: اسْتَحَقَّهُ الْمُرْتَهِنُ، وَذَلِكَ إذَا لَمْ يَفْتَكَّهُ فِي الْوَقْتِ الْمَشْرُوطِ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ أَنَّهُ فَسَّرَ غِلاقَ الرَّهْنِ بِمَا إذَا قَالَ الرَّجُلُ: إنْ لَمْ آتِكَ بِمَالِكَ فَالرَّهْنُ لَكَ، قَالَ: ثُمَّ بَلَغَنِي عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنْ هَلَكَ لَمْ يَذْهَبْ حَقُّ هَذَا، إنَّمَا هَلَكَ مِنْ رَبِّ الرَّهْنِ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ يَتَمَلَّكُ الرَّهْنَ إذَا لَمْ يُؤَدِّ الرَّاهِنُ إلَيْهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ فِي الْوَقْتِ الْمَضْرُوبِ فَأَبْطَلَهُ الشَّارِعُ.

(2/71)


 كِتَابُ الْحَوَالَةِ وَالضَّمَانِ

بَابُ وُجُوبِ قَبُولِ الْحَوَالَةِ عَلَى الْمَلِيءِ 2979- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُهُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 2980- وَفِي لَفْظٍ لأَحْمَدَ: «وَمَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ» . 2981- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُحِلْتَ عَلَى مَلِيءٍ فَاتْبَعْهُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «عَلَى مَلِيءٍ» قِيلَ: هُوَ بِالْهَمْزِ، وَقِيلَ: بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الْكَرْمَانِيِّ: الْمَلِيُّ، كَالْغَنِيِّ لَفْظًا وَمَعْنًى وَقَالَ الْخَطَّابِيِّ: إنَّهُ فِي الأَصْلِ بِالْهَمْزِ، وَمَنْ رَوَاهُ بِتَرْكِهَا فَقَدْ سَهَّلَهُ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلانِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ أُحِيلَ بِحَقِّهِ عَلَى مَلِيءٍ أَنْ يَحْتَالَ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَأَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الاسْتِحْبَابِ. بَابُ ضَمَانِ دَيْنِ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ 2982- عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأُتِيَ بِجِنَازَةٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: «هَلْ تَرَكَ شَيْئًا» ؟ قَالُوا: لا، فَقَالَ: «هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ» ؟ قَالُوا: ثَلاثَةُ دَنَانِيرَ، قَالَ: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» . فَقَالَ أَبُو

(2/72)


قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. 2983- وَرَوَى الْخَمْسَةُ إلا أَبَا دَاوُد هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ فِيهِ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَةْ فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: أَنَا أَتَكَفَّلُ بِهِ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الإِنْشَاءِ لا يَحْتَمِلُ الإِخْبَارَ بِمَا مَضَى. 2984- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا يُصَلِّي عَلَى رَجُلٍ مَاتَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَأُتِيَ بِمَيِّتٍ، فَسَأَلَ: «عَلَيْهِ دَيْنٌ» ؟ قَالُوا: نَعَمْ، دِينَارَانِ، قَالَ: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» . فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَصَلَّى عَلَيْهِ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ، فَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَصِحُّ الضَّمَانَةُ عَنْ الْمَيِّتِ وَيَلْزَمُ الضَّمِينُ مَا ضَمِنَ بِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَيِّتُ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَفِي صَلاتِهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ بَعْدَ أَنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ إشْعَارٌ بِأَنَّهُ كَانَ يَقْضِيهِ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَهَكَذَا يَلْزَمُ الْمُتَوَلِّي لأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفْعَلهُ بِمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ. بَابٌ فِي أَنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ إنَّمَا يَبْرَأُ بِأَدَاءِ الضَّامِنِ لا بِمُجَرَّدِ ضَمَانِهِ 2985- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: تُوُفِّيَ رَجُلٌ فَغَسَّلْنَاهُ وَحَنَّطْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ، ثُمَّ أَتَيْنَا بِهِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْنَا: تُصَلِّي عَلَيْهِ، فَخَطَا خُطْوَةً ثُمَّ قَالَ: «أَعَلَيْهِ دَيْنٌ» ؟ قُلْنَا: دِينَارَانِ، فَانْصَرَفَ فَتَحَمَّلَهُمَا أَبُو قَتَادَةَ، فَأَتَيْنَاهُ فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: الدِّينَارَانِ عَلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «قَدْ أَوْفَى اللَّهُ حَقَّ الْغَرِيمِ وَبَرِئَ مِنْهُ الْمَيِّتُ» . قَالَ: نَعَمْ، فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ: «مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ» ؟ قَالَ: إنَّمَا مَاتَ أَمْسِ، قَالَ: فَعَادَ إلَيْهِ مِنْ الْغَدِ، فَقَالَ: قَدْ قَضَيْتُهُمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «الآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدُهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَإِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: «وَالْمَيِّتُ مِنْهُمَا بَرِيءٌ» دُخُولَهُ فِي الضَّمَانِ مُتَبَرِّعًا لا يَنْوِي بِهِ رُجُوعًا بِحَالٍ.

(2/73)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «الآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ خُلُوصَ الْمَيِّتِ مِنْ وَرْطَةِ الدَّيْنِ وَبَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَرَفْعُ الْعَذَابِ عَنْهُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَضَاءِ عَنْهُ لا بِمُجَرَّدِ التَّحَمُّلِ بِالدَّيْنِ بِلَفْظِ الضَّمَانَةِ، وَلِهَذَا سَارَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلَى سُؤَالِ أَبِي قَتَادَةَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَنْ الْقَضَاءِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلإِمَامِ أَنْ يَحُضَّ مَنْ تَحَمَّلَ عَنْ مَيِّتٍ عَلَى الإِسْرَاعِ بِالْقَضَاءِ، وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ؛ لأَنَّهُ مِنْ الْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْخَيْرِ وَفِيهِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ التَّبَرُّعِ بِالضَّمَانَةِ عَنْ الْمَيِّتِ. بَابٌ فِي أَنَّ ضَمَانَ دَرْكِ الْمَبِيعِ عَلَى الْبَائِعِ إذَا خَرَجَ مُسْتَحَقًّا 2986- عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ عِنْدَ رَجُلٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَيَتْبَعُ الْبَيِّعُ مَنْ بَاعَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 2987- وَفِي لَفْظٍ: «إذَا سُرِقَ مِنْ الرَّجُلِ مَتَاعٌ أَوْ ضَاعَ مِنْهُ فَوَجَدَهُ بِيَدِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ» يَعْنِي الْمَغْصُوبَ أَوْ الْمَسْرُوقَ عِنْدَ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِلْكُهُ بِالْبَيِّنَةِ، أَوْ صَدَّقَهُ مَنْ فِي يَدِهِ الْعَيْنُ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ الْعَيْنُ بِحَوْزِهِ فَلَهُ مَعَ أَخْذِ الْعَيْنِ الْمُطَالَبَةُ بِمَنْفَعَتِهَا مُدَّةَ بَقَائِهَا فِي يَدِهِ، سَوَاءٌ انْتَفَعَ بِهَا مَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ أَمْ لا، وَإِذَا كَانَتْ الْعَيْنُ قَدْ نَقَصَتْ بِغَيْرِ اسْتِعْمَالٍ كَتَعَثُّثِ الثَّوْبِ وَعَمَى الْعَبْدِ وَسُقُوطِ يَدِهِ بِآفَةٍ، فَقِيلَ: يَجِبُ أَخْذُ الأَرْشِ مَعَ أُجْرَتِهِ سَلِيمًا لِمَا قَبْلَ النَّقْصِ وَنَاقِصًا لِمَا بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ النَّقْصُ بِالاسْتِعْمَالِ. قَوْلُهُ: «الْبَيِّعُ» بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ مَكْسُورَةً وَهُوَ الْمُشْتَرِي: أَيْ: يَرْجِعُ عَلَى مَنْ بَاعَ تِلْكَ الْعَيْنَ مِنْهُ وَلا يَرْجِعُ عِنْدَ الْهَادَوِيَّةِ إلا إذَا كَانَ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ بِإِذْنِ الْبَائِعِ أَوْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِعِلْمِهِ، لا إذَا كَانَ الْحُكْمُ مُسْتَنِدًا إلَى إقْرَارِ الْمُشْتَرِي أَوْ نُكُولِهِ فَلا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ، ثُمَّ إنْ كَانَ

(2/74)


الْمُشْتَرِي عَلِمَ بِأَنَّ تِلْكَ الْعَيْنَ مَغْصُوبَةٌ فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ كُلُّ مَا يَتَوَجَّهُ عَلَى الْغَاصِبِ مِنْ الأُجْرَةِ وَالأَرْشِ وَإِنْ جَهِلَ الْغَصْبَ وَنَحْوَهُ كَانَتْ يَدُهُ عَلَيْهَا يَدَ أَمَانَةٍ كَالْوَدِيعَةِ، وَقِيلَ: يَدَ ضَمَانَةٍ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ بِمَا غَرِمَ عَلَى الْبَائِعِ.

(2/75)


 كِتَابُ التَّفْلِيسِ

بَابُ مُلازَمَةِ الْمَلِيءِ وَإِطْلاقِ الْمُعْسِرِ 2988- عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيُّ الْوَاجِدِ ظُلْمٌ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ وَكِيعٌ: عِرْضَهُ: شِكَايَتُهُ وَعُقُوبَتَهُ: حَبْسُهُ. 2989- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: أُصِيبَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا، فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ: «تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ» . فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِغُرَمَائِهِ: «خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إلا ذَلِكَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لَيُّ الْوَاجِدِ» اللَّيُّ بِالْفَتْحِ: الْمَطْلُ، وَالْوَاجِدُ: الْغَنِيُّ، وَاسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ حَبْسِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ حَتَّى يَقْضِيَهُ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقَضَاءِ تَأْدِيبًا لَهُ وَتَشْدِيدًا عَلَيْهِ لا إذَا لَمْ يَكُنْ قَادِرًا وَإِلَى جَوَازِ الْحَبْسِ لِلْوَاجِدِ ذَهَبَتْ الْحَنَفِيَّةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَبِيعُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ. قَوْلُهُ: (فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا) هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثِّمَارَ إذَا أُصِيبَتْ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ وَضْعِ الْجَوَائِحِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَضَعَ عَنْ الْمُشْتَرِي بِقَدْرِ مَا أَصَابَتْهُ الْجَائِحَةُ، وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ وَضْعَ الْجَوَائِحِ مَحْمُولٌ عَلَى الاسْتِحْبَابِ، وَقِيلَ: إنَّهُ خَاصٌّ بِمَا بِيعَ مِنْ الثِّمَارِ

(2/76)


قَبْلَ بُدُوِّ صَلاحِهِ وَقِيلَ: إنَّهُ يُؤَوَّلُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا بِأَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَى الْغَرِيمِ مِنْ بَابِ الاسْتِحْبَابِ وَكَذَلِكَ قَضَاؤُهُ دَيْنَ غُرَمَائِهِ مِنْ بَابِ التَّعَرُّضِ لِمَكَارِمِ الأَخْلاقِ، وَلَيْسَ التَّصَدُّقُ عَلَى جِهَةِ الْعَزْمِ وَلا الْقَضَاءُ لِلْغُرَمَاءِ عَلَى جِهَةِ الْحَتْمِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ وَضْعِ الْجَوَائِحِ: «لا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ» ؟ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ الْوَضْعِ لا فِي اسْتِحْبَابِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «وَلَيْسَ لَكُمْ إلا ذَلِكَ» . فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ غَيْرُ لازِمٍ، وَلَوْ كَانَ لازِمًا لَمَا سَقَطَ الدَّيْنُ بِمُجَرَّدِ الإِعْسَارِ، بَلْ كَانَ اللازِمُ الإِنْظَارَ إلَى مَيْسَرَةٍ. بَابُ مَنْ وَجَدَ سِلْعَةً بَاعَهَا مِنْ رَجُلٍ عِنْدَهُ وَقَدْ أَفْلَسَ 2990- عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ عِنْدَ مُفْلِسٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2991- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ أَفْلَسَ، أَوْ إنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 2992- وَفِي لَفْظٍ قَالَ فِي الرَّجُلِ الَّذِي يُعْدِمُ: «إذَا وَجَدَ عِنْدَهُ الْمَتَاعَ وَلَمْ يُفَرِّقْهُ إنَّهُ لِصَاحِبِهِ الَّذِي بَاعَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 2993- وَفِي لَفْظٍ: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَفْلَسَ فَوَجَدَ رَجُلٌ عِنْدَهُ مَالَهُ وَلَمْ يَكُنْ اقْتَضَى مِنْ مَالِهِ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 2994- وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعًا فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ وَلَمْ يَقْبِضْ الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا، فَوَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ مَاتَ الْمُشْتَرِي فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ» . رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ وَأَبُو دَاوُد، وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَقَدْ أَسْنَدَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «بِعَيْنِهِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الاسْتِحْقَاقِ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ بَاقِيًا بِعَيْنِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَلَمْ يَتَبَدَّلْ، فَإِنْ تَغَيَّرَتْ الْعَيْنُ

(2/77)


فِي ذَاتِهَا بِالنَّقْصِ مَثَلًا أَوْ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهَا فَهِيَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: «وَلَمْ يُفَرِّقْهُ» وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْهَادَوِيَّةُ إلَى أَنَّ الْبَائِعَ أَوْلَى بِالْعَيْنِ بَعْدَ التَّغَيُّرِ وَالنَّقْصِ. قَوْلُهُ: «فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» أَيْ: مِنْ غَيْرِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَارِثًا أَوْ غَرِيمًا وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ، قَالَ الْحَافِظُ: وَيَلْتَحِقُ بِهِ الْقَرْضُ الْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ بِالأَوْلَى. قَوْلُهُ: «وَلَمْ يَكُنْ اقْتَضَى مِنْ مَالِهِ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ» فِيهِ دَلِيلٌ: لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا كَانَ قَدْ قَضَى بَعْضَ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنِ الْبَائِعُ أَوْلَى بِمَا لَمْ يُسَلِّمْ الْمُشْتَرِي ثَمَنَهُ مِنْ الْمَبِيعِ بَلْ يَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ. قَوْلُهُ: «وَإِنْ مَاتَ الْمُشْتَرِي» إلى آخره، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا مَاتَ السِّلْعَةَ الَّتِي لَمْ يسلم الْمُشْتَرِيَ ثَمَنِهَا بَاقِيَةُ لا يَكُونُ الْبَائِعُ أَوْلَى بِهَا بَلْ يَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ. إلَى ذَلِكَ ذَهَبَ مَالِكٍ وَأَحْمَدُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْبَائِعُ أَوْلَى بِهَا. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «مَنْ أَفْلَسَ أَوْ مَاتَ» . قََالَ فِي الْفَتْحِ: فَتَعَيَّن الْمَصِيرُ إلَيْهَ لأَنَّهَا زِّيَادَةَ مَقْبُولَة مَنْ ثِقَةٌ، وَجَمَعَ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِحَمْلِ مُرْسَلٌ أَبِي بَكْرٍ عَلَى مَا إذَا مَاتَ مليئًا، وَحَمَلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى مَا إذَا مَاتَ مُفْلَسًَا. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قُلْتُ: وَهُوَ الصَّوَابُ. بَابُ الْحَجْرِ عَلَى الْمَدِينِ وَبَيْعِ مَالِهِ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ 2995- عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ مَالَهُ وَبَاعَهُ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. 2996- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ شَابًّا سَخِيًّا، وَكَانَ لا يُمْسِكُ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ يُدَانُ حَتَّى أُغْرِقَ مَالُهُ كُلُّهُ فِي الدَّيْنِ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَكَلَّمَهُ لِيُكَلِّمَ غُرَمَاءَهُ، فَلَوْ تَرَكُوا لأَحَدٍ لَتَرَكُوا لِمُعَاذٍ لأَجْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبَاعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَهُمْ مَالَهُ حَتَّى قَامَ مُعَاذٌ بِغَيْرِ شَيْءٍ. رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ هَكَذَا مُرْسَلًا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ تَقَدَّمَ وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِحَجْرِهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مُعَاذٍ أَنَّهُ يَجُوزُ الْحَجْرُ عَلَى كُلِّ مَدْيُونٍ، وَعَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ بَيْعُ مَالِ الْمَدْيُونِ

(2/78)


لِقَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مَا كَانَ مَالُهُ مُسْتَغْرَقًا بِالدَّيْنِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَالُهُ كَذَلِكَ وَقَدْ حَكَى صَاحِبُ الْبَحْرِ هَذَا عَنْ الْعِتْرَةِ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَيَّدُوا الْجَوَازَ بِطَلَبِ أَهْلِ الدَّيْنِ لِلْحَجْرِ مِنْ الْحَاكِمِ وَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ قَبْلَ الطَّلَبِ لِلْمَصْلَحَةِ بَابُ الْحَجْرِ عَلَى الْمُبَذِّرِ 2997- عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: ابْتَاعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بَيْعًا فَقَالَ عَلِيٌّ - رضي الله عنه -: لَآتِيَنَّ عُثْمَانَ فَلَأَ حْجُرَنَّ عَلَيْكَ، فَأَعْلَمَ ذَلِكَ ابْنُ جَعْفَرٍ الزُّبَيْرَ، فَقَالَ: أَنَا شَرِيكُكَ فِي بَيْعَتِكَ، فَأَتَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: تَعَالَ اُحْجُرْ عَلَى هَذَا، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا شَرِيكُهُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: أَحْجُرُ عَلَى رَجُلٍ شَرِيكُهُ الزُّبَيْرُ؟ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ مَنْ أَجَازَ الْحَجْرَ عَلَى مَنْ كَانَ سَيِّئَ التَّصَرُّفِ قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ. بَابُ عَلامَاتِ الْبُلُوغِ 2998- عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلامٍ، وَلا صُمَاتَ يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 2999- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: عُرِضْت عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعُرِضْت عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَأَجَازَنِي. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 3000- وَعَنْ عَطِيَّةَ قَالَ: عُرِضْنَا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ قُرَيْظَةَ، فَكَانَ مَنْ أَنْبَتَ قُتِلَ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ، فَكُنْتُ مِمَّنْ لَمْ يُنْبِتْ فَخُلِّيَ سَبِيلِي. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 3001- وَفِي لَفْظٍ: «فَمَنْ كَانَ مُحْتَلِمًا أَوْ نَبَتَتْ عَانَتُهُ قُتِلَ، وَمَنْ لا تُرِكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.

(2/79)


3002- وَعَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اُقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَحْيُوا شَرْخَهُمْ» . وَالشَّرْخُ الْغِلْمَانُ الَّذِينَ لَمْ يُنْبِتُوا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلامٍ» اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الاحْتِلامَ مِنْ عَلامَاتِ الْبُلُوغِ، وَالأَوْلَى الاسْتِدْلال بِمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالْحَاكِمِ بِلَفْظِ: «وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ» وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَطِيَّةَ «فَمَنْ كَانَ مُحْتَلِمًا» وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا مَنْ قَالَ: إنَّ مُضِيَّ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ الْوِلادَةِ يَكُونُ بُلُوغًا فِي الذَّكَرِ وَالأُنْثَى وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. قَوْلُهُ: (فَكَانَ مَنْ أَنْبَتَ) إلَى آخْره، اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إنَّ الإِنْبَاتَ مِنْ عَلامَاتِ الْبُلُوغِ. قَوْلُهُ: «شَرْخُهُمْ» . بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا خَاءٌ مُعْجَمَةٌ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: هُوَ أَوَّلُ الشَّبَابِ قَالَ الشَّارِحُ: وَقِيلَ: هُمْ الْغِلْمَانُ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا، وَحَمَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَنْ لَمْ يُنْبِتْ مِنْ الْغِلْمَانِ وَلا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الأَحَادِيثِ، وَإِنْ كَانَ أَوَّلُ الشَّبَابِ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الإِنْبَاتِ، وَالْمُرَادُ بِالإِنْبَاتِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ هُوَ إنْبَاتُ الشَّعْرِ الأَسْوَدِ الْمُتَجَعِّدِ فِي الْعَانَةِ، لا إنْبَاتُ مُطْلَقِ الشَّعْرِ فَإِنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الأَطْفَالِ. بَابُ مَا يَحِلُّ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ بِشَرْطِ الْعَمَلِ وَالْحَاجَةِ 3003- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَلِيِّ الْيَتِيمِ إذَا كَانَ فَقِيرًا أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهُ مَكَانَ قِيَامِهِ عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ. 3004- وَفِي لَفْظٍ: أُنْزِلَتْ فِي وَلِيِّ الْيَتِيمِ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ وَيُصْلِحُ مَالَهُ إنْ كَانَ فَقِيرًا أَكَلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ أَخْرَجَاهُمَا. 3005- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنِّي فَقِيرٌ لَيْسَ لِي شَيْءٌ وَلِي يَتِيمٌ، فَقَالَ: «كُلْ مِنْ مَالِ

(2/80)


يَتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِفٍ وَلا مُبَادِرٍ وَلا مُتَأَثِّلٍ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. وَلِلأَثْرَمِ فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُزَكِّي مَالَ الْيَتِيمِ وَيَسْتَقْرِضُ مِنْهُ وَيَدْفَعُهُ مُضَارَبَةً. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالآيَةُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ إذَا كَانَ فَقِيرًا وَوُجُوبِ الاسْتِعْفَافِ إذَا كَانَ غَنِيًّا، وَالظَّاهِرُ مِنْ الآيَةِ وَالْحَدِيثِ جَوَازُ الأَكْلِ مَعَ الْفَقْرِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ وَلا تَبْذِيرٍ وَلا تَأَثُّلٍ، وَالإِذْنُ بِالأَكْلِ يَدُلُّ إطْلاقُهُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الرَّدِّ عِنْدَ التَّمَكُّنِ. قَوْلُهُ: (إنَّهُ كَانَ يُزَكِّي مَالَ الْيَتِيمِ) إلى آخره، فِيهِ أَنَّ وَلِيَ الْيَتِيمِ يُزَكِّي مَالَهُ وَيُعَامِلُهُ بِالْقَرْضِ وَالْمُضَارَبَةِ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ بَابُ مُخَالَطَةِ الْوَلِيِّ الْيَتِيمَ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ 3006- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} عَزَلُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى حَتَّى جَعَلَ الطَّعَامُ يَفْسُدُ، وَاللَّحْمُ يُنْتِنُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَزَلَتْ: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ} قَالَ: «فَخَالَطُوهُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيَّ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمُخَالَطَةُ أَنْ تَشْرَبَ مِنْ لَبَنِهِ وَيَشْرَبَ مِنْ لَبَنِكَ وَتَأْكُلَ مِنْ قَصْعَتِهِ وَيَأْكُلَ مِنْ قَصْعَتِكَ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ، مَنْ يَتَعَمَّدُ أَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ وَمَنْ يَتَجَنَّبُهُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمُرَادُ بِالْمُخَالَطَةِ أَنْ يَكُونَ الْيَتِيمُ بَيْنَ عِيَالِ الْوَالِي عَلَيْهِ فَيَشُقَّ عَلَيْهِ إفْرَازُ طَعَامِهِ، فَيَأْخُذَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ قَدْرَ مَا يَرَى أَنَّهُ كَافِيهِ بِالتَّحَرِّي فَيَخْلِطَهُ بِنَفَقَةِ عِيَالِهِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ قَدْ تَقَعُ فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ خَشُوا مِنْهُ فَوَسَّعَ اللَّهُ لَهُمْ.

(2/81)


 كِتَابُ الصُّلْحِ وَأَحْكَامِ الْجِوَارِ

بَابُ جَوَازِ الصُّلْحِ عَنْ الْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ وَالتَّحْلِيلِ مِنْهُمَا 3007- عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: جَاءَ رَجُلانِ يَخْتَصِمَانِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَوَارِيثَ بَيْنَهُمَا قَدْ دَرَسَتْ لَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إليَّ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ يَأْتِي بِهَا أُسْطَامًا فِي عُنُقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . فَبَكَى الرَّجُلانِ وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: حَقِّي لأَخِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَّا إذَا قُلْتُمَا فَاذْهَبَا فَاقْتَسِمَا ثُمَّ تَوَخَّيَا الْحَقَّ ثُمَّ اسْتَهِمَا، ثُمَّ لِيُحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3008- وَفِي رِوَايَةٍ لأَبِي دَاوُد «إنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِرَأْيِي فِيمَا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيَّ فِيهِ» . 3009- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إلا صُلْحًا حَرَّمَ حَلالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَزَادَ: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إلا شَرْطًا حَرَّمَ حَلالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. 3010- وَعَنْ جَابِرٍ: أَنَّ أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَاشْتَدَّ الْغُرَمَاءُ فِي حُقُوقِهِمْ، قَالَ: فَأَتَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا ثَمَرَةَ حَائِطِي

(2/82)


وَيُحَلِّلُوا أَبِي، فَأَبَوْا، فَلَمْ يُعْطِهِمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَائِطِي وَقَالَ: «سَنَغْدُو عَلَيْكَ» . فَغَدَا عَلَيْنَا حِينَ أَصْبَحَ، فَطَافَ فِي النَّخْلِ وَدَعَا فِي ثَمَرِهَا بِالْبَرَكَةِ، فَجَدَدْتُهَا فَقَضَيْتُهُمْ وَبَقِيَ لَنَا مِنْ ثَمَرِهَا. 3011- وَفِي لَفْظٍ: أَنَّ أَبَاهُ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ عَلَيْهِ ثَلاثِينَ وَسْقًا لِرَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ، فَاسْتَنْظَرَهُ جَابِرٌ فَأَبَى أَنْ يُنْظِرَهُ، فَكَلَّمَ جَابِرٌ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَشْفَعَ لَهُ إلَيْهِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَلَّمَ الْيَهُودِيَّ لِيَأْخُذَ ثَمَرَةَ نَخْلِهِ بِاَلَّذِي لَهُ فَأَبَى، فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - النَّخْلَ فَمَشَى فِيهَا ثُمَّ قَالَ لِجَابِرٍ: «جُدَّ لَهُ فَأَوْفِ لَهُ الَّذِي ... لَهُ» . فَجَدَّهُ بَعْدَمَا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَوْفَاهُ ثَلاثِينَ وَسْقًا وَفَضَلَتْ سَبْعَةَ عَشَرَ وَسْقًا رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ. 3012- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لا يَكُونَ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ، إنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3013- وَقَالا فِيهِ: «مَظْلِمَةٌ مِنْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «أَلْحَنُ» أَيْ: أَفْطَنُ وَأَعْرَفُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَفْصَحُ تَعْبِيرًا عَنْهَا وَأَظْهَرُ احْتِجَاجًا، فَرُبَّمَا جَاءَ بِعِبَارَةٍ تُخَيِّلُ إلَى السَّامِعِ أَنَّهُ مُحِقٌّ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُبْطِلٌ، وَالأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَبْلَغَ كَمَا فِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَيْ: أَحْسَنُ إيرَادًا لِلْكَلامِ، وَأَصْلُ اللَّحْنِ: الْمَيْلُ عَنْ جِهَةِ الاسْتِقَامَةِ. قَوْلُهُ: «وَإِنَّمَا أَقْضِي» إلَى آخْره، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ إنَّمَا يَحْكُمُ بِظَاهِرِ مَا يَسْمَعُ مِنْ الأَلْفَاظِ مَعَ جَوَازِ كَوْنِ الْبَاطِنِ خِلافًه. قَوْلُهُ: «فَلا يَأْخُذْهُ» فِيهِ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لا يَحِلُّ بِهِ الْحَرَامُ. قَوْلُهُ: «أُسْطَامًا» بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: السِّطَامُ بِالْكَسْرِ: الْمِسْعَارُ الِحَدِيدَةٍ مَفْطُوحَةٍ تُحَرَّكُ بِهَا النَّارُ، ثُمَّ قَالَ: وَالإِسْطَامُ:

(2/83)


الْمِسْعَارُ قَالَ الشَّارِحُ: وَالْمُرَادُ هُنَا الْحَدِيدَةُ الَّتِي تُسَعَّرُ بِهَا النَّارُ: أَيْ: يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَامِلًا لَهَا مَعَ أَثْقَالِهِ. قَوْلُهُ: (حَقِّي لأَخِي) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ هِبَةِ الْمَجْهُولِ وَهِبَةِ الْمُدَّعَى قَبْلَ ثُبُوتِهِ وَهِبَةِ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ. قَوْلُهُ: «أَمَا إذَا قُلْتُمَا» لَفْظُ أَبِي دَاوُد: «أَمَا إذْ فَعَلْتُمَا مَا فَعَلْتُمَا فَاقْتَسِمَا» قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَنِ: أَمَا بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى حَقًّا وَإِذْ لِلتَّعْلِيلِ. قَوْلُهُ: «فَاقْتَسِمَا» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ إنَّمَا تُمَلَّكُ بِالْقَبُولِ؛ لأَنَّ ... النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَهُمَا بِالاقْتِسَامِ بَعْدَ أَنْ وَهَبَ كُلُّ وَاحِدٍ نَصِيبَهُ مِنْ الآخَرِ. قَوْلُهُ: «ثُمَّ تَوَخَّيَا» بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَيْ: اقْصِدَا الْحَقَّ فِيمَا تَصْنَعَانِ مِنْ الْقِسْمَةِ. قَوْلُهُ: «ثُمَّ اسْتَهِمَا» أَيْ: لِيَأْخُذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا مَا تُخْرِجُهُ الْقُرْعَةُ مِنْ الْقِسْمَةِ لِيَتَمَيَّزَ سَهْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا عَنْ الآخَرِ وَفِي الأَمْرِ بِالْقُرْعَةِ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ أَوْ الْمُشَاحَّةِ وَقَدْ وَرَدَتْ الْقُرْعَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: وَجَاءَتْ فِي خَمْسَةِ أَحَادِيثَ مِنْ السُّنَّةِ. قَوْلُهُ: «ثُمَّ لِيُحْلِلْ» إلَى آخْره، أَيْ: لِيَسْأَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي حِلٍّ مِنْ قِبَلِهِ بِإِبْرَاءِ ذِمَّتِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ الإِبْرَاءُ مِنْ الْمَجْهُولِ لأَنَّ الَّذِي فِي ذِمَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ هَاهُنَا غَيْرُ مَعْلُومٍ وَفِيهِ أَيْضًا صِحَّةُ الصُّلْحِ بِمَعْلُومٍ عَنْ مَجْهُولٍ، وَلَكِنْ لا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ التَّحْلِيلِ. قَوْلُهُ: «بِرَأْيِي» هَذَا بمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَهْلُ الأُصُولِ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ وَأَنَّهُ حُجَّةٌ، وَكَذَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ بَعْثِ مُعَاذٍ الْمَعْرُوفِ. قَوْلُهُ: «الصُّلْحُ جَائِزٌ» ظَاهِرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ الْعُمُومُ، فَيَشْمَلُ كُلَّ صُلْحٍ إلا مَا اُسْتُثْنِيَ، وَمَنْ ادَّعَى عَدَمَ جَوَازِ صُلْحٍ زَائِدٍ عَلَى مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّارِحُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَإِلَى الْعُمُومِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ.

(2/84)


قَوْلُهُ: «بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ» هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ؛ لأَنَّ الصُّلْحَ جَائِزٌ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَوَجْهُ التَّخْصِيصِ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالأَحْكَامِ فِي الْغَالِبِ هُمْ الْمُسْلِمُونَ؛ لأَنَّهُمْ هُمْ الْمُنْقَادُونَ لَهَا، وَالصُّلْحُ الَّذِي يُحَرِّمُ الْحَلالَ كَمُصَالَحَةِ الزَّوْجَةِ لِلزَّوْجِ عَلَى أَنْ لا يُطَلِّقَهَا أَوْ لا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَوْ لا يَبِيتَ عِنْدَ ضَرَّتِهَا، وَاَلَّذِي يُحَلِّلُ الْحَرَامَ كَأَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى وَطْءِ أَمَةٍ لا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا، أَوْ أَكْلِ مَالٍ لا يَحِلُّ لَهُ أَكْلُهُ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» أَيْ: ثَابِتُونَ عَلَيْهَا لا يَرْجِعُونَ عَنْهَا قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَهَذَا فِي الشُّرُوطِ الْجَائِزَةِ دُونَ الْفَاسِدَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا. قَوْلُهُ: «إلا شَرْطًا حَرَّمَ حَلالًا» إلَى آخْره، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ مِنْ قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ» وَحَدِيثُ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» وَالشَّرْطُ الَّذِي يُحِلُّ الْحَرَامَ كَأَنْ يَشْرُطَ نُصْرَةَ الظَّالِمِ وَالْبَاغِي أَوْ غَزْوَ الْمُسْلِمِينَ، وَاَلَّذِي يُحَرِّمُ الْحَلالَ كَأَنْ يَشْرُطَ عَلَيْهِ أَلا يَطَأَ أَمَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: (فَجَدَدْتُهَا) بِالْجِيمِ وَدَالَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ، وَالْجِدَادُ: صِرَامُ النَّخْلِ وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْمُصَالَحَةِ بِالْمَجْهُولِ عَنْ الْمَعْلُومِ، وَذَلِكَ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَأَلَ الْغَرِيمَ أَنْ يَأْخُذَ ثَمَرَ الْحَائِطِ وَهُوَ مَجْهُولُ الْقَدْرِ فِي الأَوْسَاقِ الَّتِي لَهُ وَهِيَ مَعْلُومَةٌ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: لا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَأْخُذَ مَنْ لَهُ دَيْنُ تَمْرٍ تَمْرًا مُجَازَفَةً بِدَيْنِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَهْلِ وَالْغَرَرِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مُجَازَفَةً فِي حَقِّهِ أَقَلَّ مِنْ دَيْنِهِ إذَا عَلِمَ الآخِذُ ذَلِكَ وَرَضِيَ، وَهَكَذَا قَالَ الدِّمْيَاطِيُّ وَتَعَقَّبَهُمَا ابْنُ الْمُنِيرِ فَقَالَ: بَيْعُ الْمَعْلُومِ بِالْمَجْهُولِ مُزَابَنَةٌ، فَإِنْ كَانَ تَمْرًا نَحْوَهُ فَمُزَابَنَةٌ وَرِبًا، لَكِنْ اُغْتُفِرَ ذَلِكَ فِي الْوَفَاءِ وَتَبِعَهُ الْحَافِظُ عَلَى ذَلِكَ. فَقَالَ: إنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي الْقَضَاءِ مِنْ الْمُعَاوَضَةِ مَا لا يُغْتَفَرُ ابْتِدَاءً، لأَنَّ بَيْعَ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ لا يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْعَرَايَا، وَيَجُوزُ فِي الْمُعَاوَضَةِ عِنْدَ الْوَفَاءِ. قَالَ: وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي حَدِيثِ الْبَابِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُخَصِّصٌ لِلْعُمُومَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْبِيَعِ الْقَاضِيَةِ بِوُجُوبِ مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَدَلَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ جِنْسًا وَتَقْدِيرًا فَيَجُوزُ الْقَضَاءُ مَعَ الْجَهَالَةِ إذَا وَقَعَ الرِّضَا وَيُؤَيِّدُ هَذَا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ، فَإِنَّهَا وَقَعَتْ فِيهِ الْمُصَالَحَةُ بِمَعْلُومٍ عَنْ مَجْهُولٍ

(2/85)


وَالْمَوَارِيثُ الدَّارِسَةُ تُطْلَقُ عَلَى الأَجْنَاسِ الرِّبَوِيَّةِ وَغَيْرِهَا، فَهُوَ يَقْضِي بِعُمُومِهِ أَنَّهَا تَجُوزُ الْمُصَالَحَةُ مَعَ جَهَالَةِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْمُصَالَحُ بِهِ وَالْمُصَالَحُ عَنْهُ رِبَوِيَّيْنِ، وَلَكِنْ لا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ التَّحْلِيلِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْحَدِيثَيْنِ. قَوْلُهُ: «أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ» أَيْ: صَاحِبِ الْمَظْلِمَةِ «فَحُمِلَ ... عَلَيْهِ» . أَيْ: عَلَى الظَّالِمِ وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الإِبْرَاءِ مِنْ الْمَجْهُولِ لإِطْلاقِهِ. بَابُ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ بِأَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ وَأَقَلَّ 3014- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُتَعَمِّدًا دُفِعَ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ، فَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوا، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ، وَهِيَ ثَلاثُونَ حِقَّةً وَثَلاثُونَ جَذَعَةً وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً، وَذَلِكَ عَقْلُ الْعَمْدِ، وَمَا صَالَحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ وَذَلِكَ تَشْدِيدُ الْعَقْلِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَأْتِي الْكَلامُ عَلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ فِي أَبْوَابِ الدِّيَاتِ، أن شاء الله تعالى وَإِنَّمَا سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ هَا هُنَا لِلاسْتِدْلالِ بِقَوْلِهِ فِيهِ: «وَمَا صَالَحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ» . فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ فِي الدِّمَاءِ بِأَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي وَضْعِ الْخَشَبِ فِي جِدَارِ الْجَار وَإِنْ كَرِهَ 3015- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ» . ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ، وَاَللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا النَّسَائِيّ. 3016- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ، وَلِلرَّجُلِ أَنْ يَضَعَ خَشَبَهُ فِي حَائِطِ جَارِهِ، وَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي الطَّرِيقِ فَاجْعَلُوهُ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ» . 3017- وَعَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ أَخَوَيْنِ مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا أَنْ لا يَغْرِزَ خَشَبَة فِي جِدَارِهِ، فَلَقِيَا مُجَمِّعَ بْنَ يَزِيدَ الأَنْصَارِيَّ وَرِجَالًا كَثِيرًا، فَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أَنْ

(2/86)


يَغْرِزَ خَشَبًا فِي جِدَارِهِ» . فَقَالَ الْحَالِفُ: أَيْ: أَخِي قَدْ عَلِمْت أَنَّك مَقْضِيٌّ لَكَ عَلَيَّ، وَقَدْ حَلَفْت فَاجْعَلْ أُسْطُوَانًا دُونَ جِدَارِي، فَفَعَلَ الآخَرُ فَغَرَزَ فِي الأُسْطُوَانِ خَشَبَةً. رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «خَشَبَهُ» قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: رَوَيْنَاهُ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الأُصُولِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَالإِفْرَادِ، وَرِوَايَةُ مُجَمِّعٍ تَشْهَدُ لِمَنْ رَوَاهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَالأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لا يَحِلُّ لِلْجَارِ أَنْ يَمْنَعَ جَارَهُ مِنْ غَرْزِ الْخَشَبِ فِي جِدَارِهِ وَيُجْبِرُهُ الْحَاكِمُ إذَا امْتَنَعَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ حَبِيبٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ وَالْهَادَوِيَّةُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَالْجُمْهُورُ: إنَّهُ يُشْتَرَطُ إذْنُ الْمَالِكِ وَلا يُجْبَرُ صَاحِبُ الْجِدَارِ إذَا امْتَنَعَ، وَحَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَدِلَّةِ الْقَاضِيَةِ بِأَنَّهُ «لا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ» وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَخَصُّ مِنْ تِلْكَ الأَدِلَّةِ مُطْلَقًا فَيُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَمْ نَجِدْ فِي السُّنَنِ الصَّحِيحَةِ مَا يُعَارِضُ هَذَا الْحُكْمَ إلا عُمُومَاتٌ لا يُسْتَنْكَرُ أَنْ يَخُصَّهَا، قِيلَ: وَهَذَا الْحُكْمُ مَشْرُوطٌ بِأَنَّهُ يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى الْجَارِ بِحَاجَةِ مَنْ يُرِيدُ الْغَرْزَ إلَيْهِ وَعَدَمِ تَضَرُّرِ الْمَالِكِ. قَوْلُهُ: «لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ» هَذَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الضِّرَارِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْجَارِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ وَرَدَ الْوَعِيدُ لِمَنْ ضَارَّ غَيْرَهُ، فَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي صِرْمَةَ مَالِكِ بْنِ قَيْسٍ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ ضَارَّ أَضَرَّ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ شَاقَّ شاقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ» وَاخْتَلَفُوا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الضُّرِّ وَالضِّرَارِ. فَقِيلَ: إنَّ الضُّرَّ: فِعْلُ الْوَاحِدِ، وَالضِّرَارَ: فِعْلُ الاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، وَقِيلَ: الضِّرَارُ: أَنْ تَضُرَّهُ بِغَيْرِ أَنْ تَنْتَفِعَ، وَالضُّرُّ: أَنْ تَضُرَّهُ وَتَنْتَفِعَ أَنْتَ بِهِ وَقِيلَ: الضِّرَارُ: الْجَزَاءُ عَلَى الضُّرِّ، وَالضُّرُّ: الابْتِدَاءُ وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى. قَوْلُهُ: «وَلِلرَّجُلِ أَنْ يَضَعَ خَشَبَهُ فِي حَائِطِ جَارِهِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ وَضْعِ الْخَشَبَةِ فِي جِدَارِ الْجَارِ، وَإِذَا جَازَ الْغَرْزُ جَازَ الْوَضْعُ بِالأَوْلَى؛ لأَنَّهُ أَخَفُّ مِنْهُ.

(2/87)


بَابٌ فِي الطَّرِيقِ إذَا اخْتَلَفُوا فِيهِ كَمْ تُجْعَلُ 3018- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي الطَّرِيقِ فَاجْعَلُوهُ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا النَّسَائِيّ. 3019- وَفِي لَفْظٍ لأَحْمَدَ: «إذَا اخْتَلَفُوا فِي الطَّرِيقِ رُفِعَ مِنْ بَيْنِهِمْ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ» . 3020- وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى فِي الرَّحَبَةِ تَكُونُ فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ يُرِيدُ أَهْلُهَا الْبُنْيَانَ فِيهَا فَقَضَى أَنْ يُتْرَكَ لِلطَّرِيقِ مِنْهَا سَبْعَةُ أَذْرُعٍ، وَكَانَتْ تِلْكَ الطَّرِيقُ تُسَمَّى الْمِيتَاءَ. رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الطَّرِيقِ الْمِيتَاءِ الَّتِي تُؤْتَى مِنْ كُلِّ مَكَان فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَالْمِيتَاءُ بِمِيمٍ مَكْسُورَةٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ وَبَعْدَهَا فَوْقَانِيَّةٌ وَمَدٌّ بِوَزْنِ مِفْعَالٌ مِنْ الإِتْيَانِ. قَوْلُهُ: «سَبْعَةَ أَذْرُعٍ» قَالَ فِي الْفَتْحِ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّرَاعِ ذِرَاعُ الآدَمِيِّ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِالْمُعْتَدِلِ قَالَ الشَّارِحُ: هَذَا الْمِقْدَارُ إنَّمَا هُوَ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي هِيَ مَجْرَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِلْجِمَالِ وَسَائِرِ الْمَوَاشِي لا الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعَةِ بَيْنَ الأَمْلاكِ وَالطُّرُقِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا بَنُو آدَمَ فَقَطْ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ التَّقْيِيدُ بِالْمِيتَاءِ. قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِي وُرُودِ الشَّرْعِ بِتَقْدِيرِ الطَّرِيقِ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ هِيَ أَنْ تَسْلُكَهَا الأَحْمَالُ وَالأَثْقَالُ دُخُولًا وَخُرُوجًا وَتَسَعُ مَا لا بُدَّ مِنْهُ كَمَا يُطْرَحُ عِنْدَ الأَبْوَابِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ إخْرَاجِ مَيَازِيبِ الْمَطَرِ إلَى الشَّارِعِ 3021- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ لِلْعَبَّاسِ مِيزَابٌ عَلَى طَرِيقِ عُمَرَ فَلَبِسَ ثِيَابَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ كَانَ ذُبِحَ لِلْعَبَّاسِ: فَرْخَانِ فَلَمَّا وَافَى الْمِيزَابَ صُبَّ مَاءٌ بِدَمِ الْفَرْخَيْنِ، فَأَمَرَ عُمَرُ بِقَلْعِهِ ثُمَّ رَجَعَ فَطَرَحَ ثِيَابَهُ وَلَبِسَ ثِيَابًا غَيْرَ ثِيَابِهِ، ثُمَّ جَاءَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنَّهُ

(2/88)


لَلْمَوْضِعُ الَّذِي وَضَعَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ عُمَرُ لِلْعَبَّاسِ: وَأَنَا أَعْزِمُ عَلَيْكَ لَمَا صَعِدْت عَلَى ظَهْرِي حَتَّى تَضَعَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَفَعَلَ ذَلِكَ الْعَبَّاسُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ مَنْ خَرَّجَهُ كَمَا فِي النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَفِي نُسْخَةٍ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَهُوَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ بِلَفْظِ: كَانَ لِلْعَبَّاسِ مِيزَابٌ عَلَى طَرِيقِ عُمَرَ فَلَبِسَ ثِيَابَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَصَابَهُ مِنْهُ مَاءٌ بِدَمٍ، فَأَتَاهُ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنَّهُ لَلْمَوْضِعُ الَّذِي وَضَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: أَعْزِمُ عَلَيْكَ لَمَا صَعِدْت عَلَى ظَهْرِي حَتَّى تَضَعَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إخْرَاجِ الْمَيَازِيبِ إلَى الطُّرُقِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لا تَكُونَ مُحْدَثَةً تَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ مُنِعَتْ لأَحَادِيثِ الْمَنْعِ مِنْ الضِّرَارِ.

(2/89)


 كِتَابُ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ

3022- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 3023- وَعَنْ السَّائِبِ بْنِ أَبِي السَّائِبِ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: كُنْت شَرِيكِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكُنْت خَيْرَ شَرِيكٍ لا تُدَارِينِي وَلا تُمَارِينِي. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. 3024- وَلَفْظُهُ: كُنْت شَرِيكِي فَنِعْمَ الشَّرِيكُ، كُنْت لا تُدَارِي وَلا تُمَارِي. 3025- وَعَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ وَالْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ كَانَا شَرِيكَيْنِ فَاشْتَرَيَا فِضَّةً بِنَقْدٍ وَنَسِيئَةٍ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَمَرَهُمَا أَنَّ مَا كَانَ بِنَقْدٍ فَأَجِيزُوهُ، وَمَا كَانَ بِنَسِيئَةٍ فَرُدُّوهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ. 3026- وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: اشْتَرَكْت أَنَا وَعَمَّارٌ وَسَعْدٌ فِيمَا نُصِيبُ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ: فَجَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيرَيْنِ، وَلَمْ أَجِئْ أَنَا وَعَمَّارٌ بِشَيْءٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. وَهُوَ حُجَّةٌ فِي شَرِكَةِ الأَبْدَانِ وَتَمَلُّكِ الْمُبَاحَاتِ. 3027- وَعَنْ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: إنْ كَانَ أَحَدُنَا فِي زَمَنِ ... رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيَأْخُذُ نِضْوَ أَخِيهِ عَلَى أَنَّ لَهُ النِّصْفَ مِمَّا يَغْنَمُ وَلَنَا النِّصْفَ، وَإِنْ كَانَ

(2/90)


أَحَدُنَا لَيَطِيرُ لَهُ النَّصْلُ وَالرِّيشُ وَلِلآخَرِ الْقِدْحُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِطُ عَلَى الرَّجُلِ إذَا أَعْطَاهُ مَالًا مُقَارَضَةً يَضْرِبُ لَهُ بِهِ أَنْ لا تَجْعَلَ مَالِي فِي كَبِدٍ رَطْبَةٍ، وَلا تَحْمِلَهُ فِي بَحْرٍ، وَلا تَنْزِلَ بِهِ بَطْنَ مَسِيلٍ، فَإِنْ فَعَلْت شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ ضَمِنْت مَالِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ» . الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ جَلالُهُ يَضَعُ، الْبَرَكَةَ لِلشَّرِيكَيْنِ فِي مَالِهِمَا مَعَ عَدَمِ الْخِيَانَةِ وَيَمُدُّهُمَا بِالرِّعَايَةِ وَالْمَعُونَةِ، وَيَتَوَلَّى الْحِفْظَ لِمَالِهِمَا. قَوْلُهُ: «خَرَجْت مِنْ بَيْنِهِمَا» أَيْ: نَزَعْت الْبَرَكَةَ مِنْ الْمَالِ، زَادَ رَزِينٌ: «وَجَاءَ الشَّيْطَانُ» . وَرِوَايَةُ الدَّارَقُطْنِيّ: «فَإِذَا خَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ رَفَعَهَا عَنْهُمَا» . يَعْنِي: الْبَرَكَةَ. قَوْلُهُ: (لا تُدَارِينِي وَلا تُمَارِينِي) أَيْ: لا تُمَانِعُنِي وَلا تُحَاوِرُنِي، وَفِي لَفْظٍ لأَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَةْ (أَنَّ السَّائِبَ الْمَخْزُومِيَّ كَانَ شَرِيكَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ الْبِعْثَةِ، فَجَاءَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِأَخِي وَشَرِيكِي لا تُدَارِي وَلا تُمَارِي) وَفِي لَفْظٍ: (أَنَّ السَّائِبَ قَالَ: أَتَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَعَلُوا يُثْنُونَ عَلَيَّ وَيَذْكُرُونَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِهِ» . فَقُلْت: صَدَقْت بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي كُنْت شَرِيكِي فَنِعْمَ الشَّرِيكُ لا تُدَارِي وَلا تُمَارِي) . وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَالرِّفْقِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا وَفِيهِ جَوَازُ السُّكُوتِ مِنْ الْمَمْدُوحِ عِنْدَ سَمَاعِ مَنْ يَمْدَحُهُ بِالْحَقِّ. قَوْلُهُ: «مَا كَانَ بِنَقْدٍ فَأَجِيزُوهُ» قَالَ الشَّارِحُ: لَفْظُ الْبُخَارِيِّ: «مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَخُذُوهُ، وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَرُدُّوهُ» وَالْحَدِيثُ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَيَصِحُّ الصَّحِيحُ مِنْهَا وَيَبْطُلُ مَا لا يَصِحُّ وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَا عَقَدَا عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْبُخَارِيِّ فِي بَابِ الْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَفِيهِ قَدِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ وَنَحْنُ نَتَبَايَعُ هَذَا الْبَيْعَ فَقَالَ: «مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَلا يَصْلُحُ» وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ الشَّرِكَةِ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَهُوَ إجْمَاعٌ، لَكِنْ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ

(2/91)


نَقْدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلَ نَقْدِ صَاحِبِهِ ثُمَّ يَخْلِطَا ذَلِكَ حَتَّى لا يَتَمَيَّزَ ثُمَّ يَتَصَرَّفَا جَمِيعًا، إلا أَنْ يُقِيمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الآخَرَ مَقَامَ نَفْسِهِ وَقَدْ حَكَى أَيْضًا ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَاخْتَلَفُوا: إذَا كَانَتْ الدَّنَانِيرُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالدَّرَاهِمُ مِنْ الآخَرِ فَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَالْكُوفِيُّونَ إلا الثَّوْرِيَّ، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ تَصِحُّ الشَّرِكَةُ فِي غَيْرِ النَّقْدَيْنِ؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى الصِّحَّةِ فِي كُلِّ مَا يُتَمَلَّكُ، إلى أن قَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ الأَصْلَ الْجَوَازُ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الأَمْوَالِ، فَلا تُقْبَلُ دَعْوَى الاخْتِصَاصِ بِالْبَعْضِ إلا بِدَلِيلٍ. قَوْلُهُ: (اشْتَرَكْت أَنَا وَعَمَّارٌ وَسَعْدٌ فِيمَا نُصِيبُ يَوْمَ بَدْرٍ) قَالَ الشَّارِحُ: اُسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ عَلَى جَوَازِ شَرِكَةِ الأَبْدَانِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَ الْعَامِلانِ فِيمَا يَعْمَلانِهِ فَيُوَكِّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ أَنْ يَتَقَبَّلَ وَيَعْمَلَ عَنْهُ فِي قَدْرٍ مَعْلُومٍ مِمَّا اُسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ وَيُعَيِّنَانِ الصَّفَةَ، وَالْحَدِيثُ الثَّانِي يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ دَفْعِ أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ إلَى الآخَرِ رَاحِلَتَهُ فِي الْجِهَادِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْغَنِيمَةُ بَيْنَهُمَا. قَوْلُهُ: (إنَّهُ يَشْتَرِطُ عَلَى الرَّجُلِ إذَا أَعْطَاهُ مَالًا مُقَارَضَةً) إلى آخره، وَفِي تَجْوِيزِ الْمُضَارَبَةِ آثَارٌ: مِنْهَا عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَّهُ قَالَ: فِي الْمُضَارَبَةِ الْوَضِيعَةُ عَلَى الْمَالِ وَالرِّبْحُ عَلَى مَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ أَعْطَى زَيْدَ بْنَ خَلِيدَةَ مَالاً مُقَارَضَةً، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ الْعَبَّاسِ أَنَّهُ كَانَ إذَا دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً فَذَكَرَ قِصَّةً، وَفِيهَا أَنَّهُ رَفَعَ الشَّرْطَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَجَازَهُ وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أُعْطِيَ مَالَ يَتِيمٍ مُضَارَبَةً إلى أن قَالَ: فَهَذِهِ الآثَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ كَانَ الصَّحَابَةُ يَتَعَامَلُونَ بِهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى الْجَوَازِ. قَوْلُهُ: (أَنْ لا تَجْعَلَ مَالِي فِي كَبِدٍ رَطْبَةٍ) أَيْ: لا تَشْتَرِيَ بِهِ الْحَيَوَانَاتِ، وَإِنَّمَا نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ؛ لأَنَّ مَا كَانَ لَهُ رُوحٌ عُرْضَةٌ لِلْهَلاكِ بِطُرُوءِ الْمَوْتِ عَلَيْهِ.

(2/92)


 كِتَابُ الْوَكَالَةِ

بَابُ مَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ مِنْ الْعُقُودِ وَإِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَإِخْرَاجِ الزَّكَوَاتِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ 3028- قَالَ أَبُو رَافِعٍ اسْتَسْلَفَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَكْرًا فَجَاءَتْ إبِلُ الصَّدَقَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ. 3029- وَقَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى: أَتَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِصَدَقَةِ مَالِ أَبِي، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» . 3030- وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الْخَازِنَ الأَمِينَ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مُوَفَّرًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ حَتَّى يَدْفَعَهُ إلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ» . 3031- وَقَالَ: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسٌ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» . 3032- وَقَالَ عَلِيٌّ أَمَرَنِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَقْسِمَ جُلُودَهَا وَجِلالَهَا. 3033- وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَكَّلَنِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي حِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ. 3034- وَأَعْطَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ غَنَمًا يَقْسِمُهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ. 3035- وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ أَبَا رَافِعٍ مَوْلاهُ وَرَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ فَزَوَّجَاهُ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ.

(2/93)


وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ تَزَوُّجَهُ بِهَا قَدْ سَبَقَ إحْرَامَهُ وَأَنَّهُ خَفِيَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. 3036- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَرَدْت الْخُرُوجَ إلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ... «إذَا أَتَيْت وَكِيلِي فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَإِنْ ابْتَغَى مِنْكَ آيَةً فَضَعْ يَدَكَ عَلَى تَرْقُوَتِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ. 3037- وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا أَتَتْكَ رُسُلِي فَأَعْطِهِمْ ثَلاثِينَ دِرْعًا وَثَلاثِينَ بَعِيرًا» . فَقَالَ لَهُ: الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3038- وَقَالَ فِيهِ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ، أَوْ عَارِيَّةٌ مُؤَدَّاةٌ؟ قَالَ: «بَلْ مُؤَدَّاةٌ» . قَوْلُهُ: (قَالَ أَبِو رَافِعٍ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: هَذِهِ الأَحَادِيثُ لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَنْ خَرَّجَهَا، وَحَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ قَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ اسْتِقْرَاضِ الْحَيَوَانِ، وَأَوْرَدَهُ هَاهُنَا لِلاسْتِدْلالِ بِهِ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ فِي قَضَاءِ الْقَرْضِ، وَحَدِيثُ ابْنِ أَبِي أَوْفَى لِلاسْتِدْلالِ بِهِ عَلَى جَوَازِ تَوْكِيلِ صَاحِبِ الصَّدَقَةِ مَنْ يُوصِلُهَا إلَى الإِمَامِ، وَحَدِيثُ الْخَازِنِ لِلاسْتِدْلالِ بِهِ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ فِي الصَّدَقَةِ وَقَوْلُهُ: «اُغْدُ يَا أُنَيْسٌ» وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلإِمَامِ تَوْكِيلُ مَنْ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ وَحَدِيثُ عَلِيٍّ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَوْكِيلِ صَاحِبِ الْهَدْيِ لِرَجُلٍ أَنْ يَقْسِمَ جُلُودَهَا وَجِلالَهَا، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَبَوَّبَ عَلَيْهِ: بَابُ إذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا فَتَرَكَ الْوَكِيلُ شَيْئًا فَأَجَازَهُ الْمُوَكِّلُ فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنْ أَقْرَضَهُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى جَازَ، وَذُكِرَ فِيهِ مَجِيءُ السَّارِقِ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَّهُ شَكَا إلَيْهِ الْحَاجَةَ فَتَرَكَهُ يَأْخُذُ فَكَأَنَّهُ أَسَلَفَهُ إلَى أَجَلٍ وَهُوَ وَقْتُ إخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَحَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ فِي قِسْمَةِ الضَّحَايَا. (وَهَذِهِ الأَحَادِيثُ) تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ، وَهِيَ: التَّفْوِيضُ وَالْحِفْظُ، فِي الشَّرْعِ: إقَامَةُ الشَّخْصِ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا، وَقَدْ اُسْتُدِلَّ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ مِنْ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} وقَوْله تَعَالَى: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ} . انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/94)


قَوْلُهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ أَبَا رَافِعٍ مَوْلاهُ وَرَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ فَزَوَّجَاهُ مَيْمُونَةَ) إلى آخره، قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ مِنْ الزَّوْجِ. قَوْلُهُ: «فَإِنْ ابْتَغَى مِنْكَ آيَةً» أَيْ: عَلامَةً وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ، وَأَنَّ الإِمَامَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ وَيُقِيمَ عَامِلًا عَلَى الصَّدَقَةِ فِي قَبْضِهَا وَفِي دَفْعِهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا وَإِلَى مَنْ يُرْسِلُهُ إلَيْهِ بِأَمَارَةٍ وَفِيهِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِالأَمَارَةِ: وَقَبُولِ قَوْلِ الرَّسُولِ إذَا عَرَفَ الْمُرْسَلُ إلَيْهِ صِدْقَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ اتِّخَاذِ عَلامَةٍ بَيْنَ الْوَكِيلِ وَمُوَكِّلِهِ لا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا غَيْرُهُمَا لِيَعْتَمِدَ الْوَكِيلُ عَلَيْهَا فِي الدَّفْعِ؛ لأَنَّهَا أَسْهَلُ مِنْ الْكِتَابَةِ فَقَدْ لا يَكُونُ أَحَدُهُمَا مِمَّنْ يُحْسِنُهَا وَلأَنَّ الْخَطَّ يَشْتَبِهُ. وَالْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ مِنْ الْمُسْتَعِيرِ لِقَبْضِ الْعَارِيَّةِ. قَوْلُهُ: «الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ» سَيَأْتِي الْكَلامُ عَلَى هَذَا فِي الْعَارِيَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. بَابُ مَنْ وُكِّلَ فِي شِرَاءِ شَيْءٍ فَاشْتَرَى بِالثَّمَنِ أَكْثَرَ مِنْهُ وَتَصَرَّفَ فِي الزِّيَادَةِ 3039- عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ الْبَارِقِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَعْطَاهُ دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ بِهِ لَهُ شَاةً فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَجَاءَهُ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، وَكَانَ لَوْ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 3040- وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَهُ لِيَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً بِدِينَارٍ، فَاشْتَرَى أُضْحِيَّةً فَأُرْبِحَ فِيهَا دِينَارًا، فَاشْتَرَى أُخْرَى مَكَانَهَا، فَجَاءَ بِالأُضْحِيَّةِ وَالدِّينَارِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «ضَحِّ بِالشَّاةِ وَتَصَدَّقْ بِالدِّينَارِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: لا نَعْرِفُهُ إلا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ لَمْ يَسْمَعْ عِنْدِي مِنْ حَكِيمٍ. 3041- وَلأَبِي دَاوُد نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْ حَكِيمٍ.

(2/95)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِي الْحَدِيثَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ إذَا قَالَ لَهُ الْمَالِكُ: اشْتَرِ بِهَذَا الدِّينَارِ شَاةً وَوَصَفَهَا أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ شَاتَيْنِ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ لأَنَّ مَقْصُودَ الْمُوَكِّلِ قَدْ حَصَلَ وَزَادَ الْوَكِيلُ خَيْرًا، وَمِثْلُ هَذَا لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ شَاةً بِدِرْهَمٍ فَبَاعَهَا بِدِرْهَمَيْنِ، أَوْ بِأَنْ يَشْتَرِيَهَا بِدِرْهَمٍ فَاشْتَرَاهَا بِنِصْفِ دِرْهَمٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. قَوْلُهُ: (فَبَاعَ إحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَقَوَّاهُ النَّوَوِيُّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ. قَوْلُهُ: (فَاشْتَرَى أُخْرَى مَكَانَهَا) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الأُضْحِيَّةَ لا تَصِيرُ أُضْحِيَّةً بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ الْبَيْعُ لإِبْدَالِ مِثْلٍ أَوْ أَفْضَلَ. قَوْلُهُ: «وَتَصَدَّقْ بِالدِّينَارِ» جَعَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا أَصْلًا، فَقَالُوا: مَنْ وَصَلَ إلَيْهِ مَالٌ مِنْ شُبْهَةٍ وَهُوَ لا يَعْرِفُ لَهُ مُسْتَحِقًّا فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ وَوَجْهُ الشُّبْهَةِ هَاهُنَا أَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لِعُرْوَةِ فِي بَيْعِ الأُضْحِيَّةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ؛ لأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ عَنْهُ لِلْقُرْبَةِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الأُضْحِيَّةِ فَكَرِهَ أَكْلَ ثَمَنِهَا. بَابُ مَنْ وُكِّلَ فِي التَّصَدُّقِ بِمَالِهِ فَدَفَعَهُ إلَى وَلَدِ الْمُوَكِّلِ 3042- وَعَنْ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كَانَ أَبِي خَرَجَ بِدَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا، فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَجِئْت فَأَخَذْتهَا فَأَتَيْته بِهَا، فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا إيَّاكَ أَرَدْت بِهَا، فَخَاصَمَهُ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «لَكَ مَا نَوَيْت يَا يَزِيدُ، وَلَك يَا مَعْنُ مَا أَخَذْت» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لَكَ مَا نَوَيْت» أَيْ: إنَّكَ نَوَيْت أَنْ تَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى مَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهَا وَابْنُكَ مُحْتَاجٌ فَقَدْ وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِكَ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا، وَلابْنِكَ مَا أَخَذَ؛ لأَنَّهُ أَخَذَهَا مُحْتَاجًا إلَيْهَا إلى أن قَالََ: وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ التَّوْكِيلِ فِي صَرْفِ الصَّدَقَةِ، وَلِهَذَا الْحُكْمِ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ هَا هُنَا.

(2/96)


 كِتَابُ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ

3043- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ سَأَلَتْهُ الْيَهُودُ أَنْ يُقِرَّهُمْ بِهَا عَلَى أَنْ يَكْفُوهُ عَمَلَهَا وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرَةِ، فَقَالَ لَهُمْ: «نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهُوَ حُجَّةٌ فِي أَنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ. 3045- وَلِلْبُخَارِيِّ: أَعْطَى يَهُودَ خَيْبَرَ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا. 3046- وَلِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ: دَفَعَ إلَى يَهُودِ خَيْبَرَ نَخْلَ خَيْبَرَ وَأَرْضَهَا عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَلِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَطْرُ ثَمَرِهَا. قُلْت: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْبَذْرَ مِنْهُمْ وَأَنَّ تَسْمِيَةَ نَصِيبِ الْعَامِلِ تُغْنِي عَنْ تَسْمِيَةِ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ وَيَكُونُ الْبَاقِي لَهُ. 3047- وَعَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ نُخْرِجَهُمْ مَتَى شِئْنَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ. 3048- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَفَعَ خَيْبَرَ أَرْضَهَا وَنَخْلَهَا مُقَاسَمَةً عَلَى النِّصْفِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. 3049- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَتْ الأَنْصَارُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: اقْسِمْ بَيْنَنَا

(2/97)


وَبَيْنَ إخْوَانِنَا النَّخْلَ، قَالَ: «لا» . فَقَالُوا: تَكْفُونَا الْعَمَلَ وَنُشْرِكُكُمْ فِي الثَّمَرَةِ، فَقَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 3050- وَعَنْ طَاوُوسٍ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَكْرَى الأَرْضَ عَلَى عَهْدِ ... رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ فَهُوَ يُعْمَلُ بِهِ إلَى يَوْمِكَ هَذَا. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. قَالَ الْبُخَارِيُّ، وَقَالَ قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: مَا بِالْمَدِينَةِ أَهْلُ بَيْتِ هِجْرَةٍ إلا يَزْرَعُونَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَزَارَعَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاسِمُ وَعُرْوَةُ وَآلُ أَبِي بَكْرٍ، وَآلُ عَلِيٍّ، وَآلُ عُمَرَ قَالَ: وَعَامَلَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى: إنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ فَلَهُ الشَّطْرُ، وَإِنْ جَاءُوا بِالْبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: الْمُسَاقَاةُ: مَا كَانَ فِي النَّخْلِ وَالْكَرْمِ وَجَمِيعِ الشَّجَرِ الَّذِي يُثْمِرُ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ الثَّمَرَةِ لِلأَجِيرِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. قَوْلُهُ: (بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ) فِيهِ جَوَازٌ الْمُزَارَعَةِ ِبالْجُزْءِ الْمَعْلُومِ مِنْ نِصْفٍ أَوْ رُبْعٍ أَوْ ثُمُنٍ أَوْ نَحْوِهَا. قَوْلُهُ: «نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا» الْمُرَادُ أَنَّا نُمَكِّنُكُمْ مِنْ الْمَقَامِ إلَى أَنْ نَشَاءَ إخْرَاجَكُمْ، لأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ عَازِمًا عَلَى إخْرَاجِهِمْ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ عِنْدَ مَوْتِهِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ مُدَّةً مَجْهُولَةً، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَخَالَفَهُمْ الْجُمْهُورُ، وَتَأَوَّلُوا الْحَدِيثَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مُدَّةَ الْعَهْدِ وَأَنَّ لَنَا إخْرَاجَكُمْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا وَلا يَخْفَى بُعْدُهُ. قَوْلُهُ: (مَا بِالْمَدِينَةِ أَهْلُ بَيْتِ هِجْرَةٍ) وَقَدْ تَمَسَّكَ بِالأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ، فَقَالُوا: تَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ وَالْمُسَاقَاةُ بِجُزْءٍ مِنْ الثَّمَرِ أَوْ الزَّرْعِ، قَالُوا: وَيَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى الْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ مُجْتَمِعَتَيْنِ، عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدَةً وَأَجَابُوا عَنْ الأَحَادِيثِ الْقَاضِيَةِ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُزَارَعَةِ بِأَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّنْزِيهِ وَقِيلَ: إنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إذَا اشْتَرَطَ صَاحِبُ الأَرْضِ نَاحِيَةً مِنْهَا مُعَيَّنَةً. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/98)


بَابُ فَسَادٍ الْعَقْدِ إذَا شَرَطَ أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ التِّبْنَ أَوْ بُقْعَةً بِعَيْنِهَا وَنَحْوَهُ 3051- عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: كُنَّا أَكْثَرَ الأَنْصَارِ حَقْلًا، فَكُنَّا نُكْرِي الأَرْضَ عَلَى أَنَّ لَنَا هَذِهِ وَلَهُمْ هَذِهِ، فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ، فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ فَأَمَّا الْوَرِقُ فَلَمْ يَنْهَنَا. أَخْرَجَاهُ. 3052- وَفِي لَفْظٍ: كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الأَرْضِ مُزْدَرَعًا، كُنَّا نُكْرِي الأَرْضَ بِالنَّاحِيَةِ مِنْهَا تُسَمَّى لِسَيِّدِ الأَرْضِ، قَالَ: فَرُبَّمَا يُصَابُ ذَلِكَ وَتَسْلَمُ الأَرْضُ، وَرُبَّمَا تُصَابُ الأَرْضُ وَيَسْلَمُ ذَلِكَ، فَنُهِينَا فَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 3053- وَفِي لَفْظٍ قَالَ: إنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ ... رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ وَأَقْبَالِ الْجَدَاوِلِ وَأَشْيَاءَ مِنْ الزَّرْعِ فَيَهْلِكُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا، وَيَسْلَمُ هَذَا وَيَهْلِكُ هَذَا، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إلا هَذَا، فَلِذَلِكَ زُجِرَ عَنْهُ فَأَمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلا بَأْسَ بِهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 3054- وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ رَافِعٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمَّايَ أَنَّهُمْا كَانَا يُكْرِيَانَ الأَرْضَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَا يَنْبُتُ عَلَى الأَرْبِعَاءِ وَبِشَيْءٍ يَسْتَثْنِيهِ صَاحِبُ الأَرْضِ، قَالَ: فَنَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. 3055- وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ رَافِعٍ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُكْرُونَ الْمَزَارِعَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمَاذِيَانَاتِ وَمَا يَسْقِي الرَّبِيعُ وَشَيْءٍ مِنْ التِّبْنِ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَرَاء الْمَزَارِعِ بِهَذَا وَنَهَى عَنْهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3056- وَعَنْ أَسِيد بْنِ ظُهَيْرٍ قَالَ: كَانَ أَحَدُنَا إذَا اسْتَغْنَى عَنْ أَرْضِهِ أَوْ افْتَقَرَ إلَيْهَا أَعْطَاهَا بِالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَيَشْتَرِطُ ثَلاثَ جَدَاوِلَ وَالْقُصَارَةَ وَمَا يَسْقِي الرَّبِيعُ، وَكَانَ يَعْمَلُ فِيهَا عَمَلًا شَدِيدًا وَيُصِيبُ مِنْهَا مَنْفَعَةً، فَأَتَانَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ فَقَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَكُمْ نَافِعًا،

(2/99)


وَطَاعَةُ ... رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْرٌ لَكُمْ، نَهَاكُمْ عَنْ الْحَقْلِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. وَالْقُصَارَةُ بَقِيَّةُ الْحَبِّ فِي السُّنْبُلِ بَعْدَمَا يُدَاسُ. 3057- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا نُخَابِرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَنُصِيبُ مِنْ الْقُصْرَى وَمِنْ كَذَا وَمِنْ كَذَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيُحْرِثْهَا أَخَاهُ وَإِلا فَلْيَدَعْهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ، وَالْقُصْرَى: الْقُصَارَةُ. 3058- وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ أَصْحَابَ الْمَزَارِعِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانُوا يُكْرُونَ مَزَارِعَهُمْ بِمَا يَكُونُ عَلَى السَّوَاقِي، وَمَا سَعِدَ بِالْمَاءِ مِمَّا حَوْلَ النَّبْتِ، فَجَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاخْتَصَمُوا فِي بَعْضِ ذَلِكَ فَنَهَاهُمْ أَنْ يُكْرُوا بِذَلِكَ وَقَالَ: «أَكْرُوا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. وَمَا وَرَدَ مِنْ النَّهْيِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْمُخَابَرَةِ وَالْمُزَارَعَةِ يُحْمَلُ عَلَى مَا فِيهِ مَفْسَدَةٌ كَمَا بَيَّنَتْهُ هَذِهِ الأَحَادِيثُ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى اجْتِنَابِهَا نَدْبًا وَاسْتِحْبَابًا، فَقَدْ جَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. 3059- فَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: قُلْت لِطَاوُوسٍ: لَوْ تَرَكْت الْمُخَابَرَةَ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْهَا، فَقَالَ: إنَّ أَعْلَمَهُمْ. يَعْنِي: ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَنِي أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَنْهَ عَنْهَا وَقَالَ: «لَأَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا خَرَاجًا مَعْلُومًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ وَأَبُو ... دَاوُد. 3006- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يُحَرِّمْ الْمُزَارَعَةَ، وَلَكِنْ أَمَرَ أَنْ يَرْفُقَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3061- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيُحْرِثْهَا أَخَاهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ» . أَخْرَجَاهُ. وَبِالإِجْمَاعِ تَجُوزُ الإِجَارَةُ وَلا تَجِبُ الإِعَارَةُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ النَّدْبَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (حَقْلًا) أَيْ: أَهْلَ مُزَارَعَةٍ.

(2/100)


قَوْلُهُ: (فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ) أَيْ: عَنْ كَرْيِ الأَرْضِ عَلَى أَنَّ لَنَا هَذِهِ وَلَهُمْ هَذِهِ، فَيَصْلُحُ التَّمَسُّكُ بِهَذَا الْمَذْهَبِ لِمَنْ قَالَ: إنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ هَذَا النَّوْعُ وَنَحْوُهُ مِنْ الْمُزَارَعَةِ وَقَدْ حَكَي فِي الْفَتْحِ عَنْ الْجُمْهُورِ أَنَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَجْهِ الْمُفْضِي إلَى الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ، لا عَنْ إكْرَائِهَا مُطْلَقًا. قَالَ الشَّارِحُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْمُزَارَعَةِ عَلَى مَا يُفْضِي إلَى الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ وَيُوجِبُ الْمُشَاجَرَةَ، وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ الأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُحَابَاةِ كَمَا هُوَ شَأْنُ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَلا يَصِحُّ حَمْلُهَا عَلَى الْمُخَابَرَةِ الَّتِي فَعَلَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي خَيْبَرَ لِمَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَمَرَّ عَلَيْهَا إلَى مَوْتِهِ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا تَصْرِيحُ رَافِعٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِجَوَازِ الْمُزَارَعَةِ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ مَضْمُونٍ. قَوْلُهُ: وَقَالَ: «أَكْرُوا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ جَوَّزَ كِرَاءَ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَلْحَقُوا بِهِمَا غَيْرَهُمَا مِنْ الأَشْيَاءِ الْمَعْلُومَةِ؛ لأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ مَحَلَّ النَّهْيِ فِيمَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا وَلا مَضْمُونًا. قَوْلُهُ: (وَمَا وَرَدَ مِنْ النَّهْيِ) إلَى آخْره، هَذَا كَلامٌ حَسَنٌ، وَلا بُدَّ مِنْ الْمَصِيرِ إلَيْهِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الأَحَادِيثِ انْتَهَى مُلَخَّصًا. والله أعلم.

(2/101)


أَبْوَابُ الإِجَارَةِ بَابُ مَا يَجُوزُ الاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ مِنْ النَّفْعِ الْمُبَاحِ 3062- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا - فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ - قَالَتْ: وَاسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ هَادِيًا خِرِّيتًا، وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَأَمِنَاهُ، فَدَفَعَا إلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلاثِ لَيَالٍ، فَأَتَاهُمَا بِرَاحِلَتَيْهِمَا صَبِيحَةَ لَيَالٍ ثَلاثٍ فَارْتَحَلا. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 3063- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلا رَعَى الْغَنَمَ» . فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ قَالَ: «نَعَمْ كُنْت أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. وَقَالَ سُوَيْد بْنُ سَعِيدٍ: يَعْنِي: كُلَّ شَاةٍ بِقِيرَاطٍ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: قَرَارِيطُ: اسْمُ مَوْضِعٍ. 3064- وَعَنْ سُوَيْد بْنِ قَيْسٍ قَالَ: جَلَبْت أَنَا وَمَخْرَمَةُ الْعَبْدِيُّ بَزًّا مِنْ هَجَرَ فَأَتَيْنَا بِهِ مَكَّةَ، فَجَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْشِي، فَسَاوَمَنَا سَرَاوِيلَ فَبِعْنَاهُ وَثَمَّ رَجُلٌ يَزِنُ بِالأَجْرِ، فَقَالَ لَهُ: «زِنْ وَأَرْجِحْ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ وَكَّلَ رَجُلًا فِي إعْطَاءِ شَيْءٍ لِآخَرَ وَلَمْ يَقْدِرْ جَازَ وَيُحْمَلُ عَلَى مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ.

(2/102)


3065- وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي بَيْعِهِ جَمَلَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَا بِلالُ اقْضِهِ وَزِدْهُ، فَأَعْطَاهُ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ وَزَادَهُ قِيرَاطًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. 3066- وَعَنْ رَافِعِ بْنِ رِفَاعَةَ قَالَ: نَهَانَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ كَسْبِ الأَمَةِ إلا مَا عَمِلَتْ بِيَدَيْهَا، وَقَالَ هَكَذَا بِأَصَابِعِهِ نَحْوَ الْخَبْزِ وَالْغَزْلِ وَالنَّفْشِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَاسْتَأْجَرَ) الْوَاوُ ثَابِتَةٌ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ؛ لأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قِصَّةٍ قَبْلَهَا، وَقَدْ سَاقَهَا الْبُخَارِيُّ مُسْتَوْفَاةً فِي الْهِجْرَةِ، وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اسْتِئْجَارِ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ عَلَى هِدَايَةِ الطَّرِيقِ إذَا أَمِنَ إلَيْهِ وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ الإِجَارَةِ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ: بَابُ اسْتِئْجَارِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ أَهْلُ الإِسْلامِ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ الْجَمْعَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَنَا لا أَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْفُقَهَاءُ يُجِيزُونَ اسْتِئْجَارَهُمْ، يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَغَيْرِهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الذِّلَّةِ لَهُمْ، وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ أَنْ يُؤَجِّرَ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ مِنْ الْمُشْرِكِ لِمَا فِيهِ مِنْ الإِذْلالِ. قَوْلُهُ: «عَلَى قَرَارِيطَ» فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَةْ: «كُنْت أَرْعَاهَا لأَهْلِ مَكَّةَ بِالْقَرَارِيطِ» وَكَذَا رَوَاهُ الإِسْمَاعِيلِيُّ وَقَدْ صَوَّبَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَابْنُ نَاصِرٍ التَّفْسِيرَ الَّذِي ذَكَرَهُ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ لَكِنْ رُجِّحَ تَفْسِيرُ سُوَيْد بِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَعْرِفُونَ مَكَانًا يُقَالُ لَهُ قَرَارِيطُ وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ نَصْرِ بْنِ حَزْنٍ قَالَ: افْتَخَرَ أَهْلُ الإِبِلِ وَالْغَنَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «بُعِثَ مُوسَى وَهُوَ رَاعِي غَنَمٍ، وَبُعِثَ دَاوُد وَهُوَ رَاعِي غَنَمٍ، وَبُعِثْت وَأَنَا رَاعِي غَنَمِ أَهْلِي بِجِيَادٍ» وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ رَدًّا لِتَأْوِيلِ سُوَيْد بْنِ سَعِيدٍ لأَنَّهُ مَا كَانَ يَرْعَى بِالأُجْرَةِ لأَهْلِهِ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَكَانَ، فَعَبَّرَ تَارَةً بِجِيَادٍ وَتَارَةً بِقَرَارِيطَ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لا مَانِعَ مِنْ الْجَمْعِ وَأَنَّهُ كَانَ يَرْعَى لأَهْلِهِ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ وَلِغَيْرِهِمْ بِأُجْرَةٍ، وَهُمْ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ أَهْلُ مَكَّةَ وَيُؤَيِّدُ تَفْسِيرَ سُوَيْد قَوْلُهُ: «عَلَى قَرَارِيطَ» فَإِنَّ الْمَجِيءَ بِعَلَى يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ، وَلا يُنَافِي ذَلِكَ جَعْلَهَا بِمَعْنَى الْبَاءِ الَّتِي لِلسَّبَبِيَّةِ، وَأَمَّا جَعْلُهَا بِمَعْنَى الْبَاءِ الَّتِي لِلظَّرْفِيَّةِ فَبَعِيدٌ قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحِكْمَةُ فِي إلْهَامِ رَعْيِ الْغَنَمِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ أَنْ

(2/103)


يَحْصُلَ لَهُمْ التَّمَرُّنُ بِرَعْيِهَا عَلَى مَا سَيُكَلَّفُونَهُ مِنْ الْقِيَامِ بِأَمْرِ أُمَّتِهِمْ؛ لأَنَّ فِي مُخَالَطَتِهَا مَا يُحَصِّلُ الْحِلْمَ وَالشَّفَقَةَ؛ لأَنَّهُمْ إذَا صَبَرُوا عَلَى رَعْيِهَا وَجَمْعِهَا بَعْدَ تَفْرِيقِهَا فِي الرَّعْيِ وَنَقْلِهَا مِنْ مَسْرَحٍ إلَى مَسْرَحٍ وَدَفْعِ عَدُوِّهَا مِنْ سَبُعٍ وَغَيْرِهِ كَالسَّارِقِ، وَعَلِمُوا اخْتِلافَ طِبَاعِهَا وَشِدَّةَ تَفَرُّقِهَا مَعَ ضَعْفِهَا وَاحْتِيَاجِهَا إلَى الْمُعَاهَدَةِ، أَلِفُوا مِنْ ذَلِكَ الصَّبْرَ عَلَى الأُمَّةِ، وَعَرَفُوا اخْتِلافَ طِبَاعِهَا وَتَفَاوُتَ عُقُولِهَا فَجَبَرُوا كَسْرَهَا وَرَفَقُوا بِضَعِيفِهَا وَأَحْسَنُوا التَّعَاهُدَ لَهَا، فَيَكُونُ تَحَمُّلُهُمْ لِمَشَقَّةِ ذَلِكَ أَسْهَلَ مِمَّا لَوْ كُلِّفُوا الْقِيَامَ بِهِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ لِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ التَّدَرُّجِ بِذَلِكَ، وَخُصَّتْ الْغَنَمُ بِذَلِكَ لِكَوْنِهَا أَضْعَفَ مِنْ غَيْرِهَا، وَلأَنَّ تَفَرُّقَهَا أَكْثَرَ مِنْ تَفَرُّقِ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ لإِمْكَانِ ضَبْطِ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ بِالرَّبْطِ دُونَهَا وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الإِجَارَةِ عَلَى رَعْيِ الْغَنَمِ، وَيَلْحَقُ بِهَا فِي الْجَوَازِ غَيْرُهَا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ. قَوْلُهُ: (بَزًّا) بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا زَايٌ مُشَدَّدَةٌ: وَهُوَ الثِّيَابُ، وَهَجَرَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالْجِيمِ: وَهِيَ مَدِينَةٌ قُرْبَ الْبَحْرَيْنِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا عَشْرُ مَرَاحِلَ. قَوْلُهُ: (سَرَاوِيلَ) مُعَرَّبٌ جَاءَ عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ وَهُوَ وَاحِدٌ أَشْبَهَ مَا لا يَنْصَرِفُ. قَوْلُهُ: (بِالأَجْرِ) أَيْ: بِالأُجْرَةِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الاسْتِئْجَارِ عَلَى الْوَزْنِ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ الْوَزَّانَ أَنْ يَزِنَ ثَمَنَ السَّرَاوِيلِ قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: وَأُجْرَةُ وَزَّانِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي كَمَا أَنَّ أُجْرَةَ وَزَّانِ السِّلْعَةِ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ عَلَى الْبَائِعِ. قَوْلُهُ: «وَأَرْجِحْ» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْجِيمِ: أَيْ: أَعْطِهِ رَاجِحًا وَفِيهِ وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي بَعْدَهُ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَرْجِيحِ الْمُشْتَرِي فِي وَزْنِ الثَّمَنِ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ تَرْجِيحُ الْبَائِعِ فِي وَزْنِ الْمَبِيعِ أَوْ كَيْلِهِ وَفِيهِمَا أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ هِبَةِ الْمَشَاعِ، وَذَلِكَ؛ لأَنَّ مِقْدَارَ الرُّجْحَانِ هِبَةٌ مِنْهُ لِلْبَائِعِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ مِنْ الثَّمَنِ، وَفِيهِمَا أَيْضًا جَوَازُ التَّوْكِيلِ فِي الْهِبَةِ الْمَجْهُولَةِ، وَيُحْمَلُ عَلَى مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ.

(2/104)


قَوْلُهُ: (عَنْ كَسْبِ الأَمَةِ) الْكَسْبُ فِي الأَصْلِ مَصْدَرٌ، تَقُولُ كَسَبْت الْمَالَ أَكْسِبُهُ كَسْبًا، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمَكْسُوبُ وَفِي الْمُوَطَّأ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: «وَلا تُكَلِّفُوا الصَّغِيرَ الْكَسْبَ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ سَرَقَ» . قَوْلُهُ: (وَالنَّفْشِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْفَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ (النَّقْشِ) بِالْقَافِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ 3067- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَثَمَنِ الْكَلْبِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3068- وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3069- وَالنَّسَائِيُّ وَلَفْظُهُ: «شَرُّ الْمَكَاسِبِ ثَمَنُ الْكَلْبِ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ» . 3070- وَعَنْ مُحَيِّصَةُ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ لَهُ غُلامٌ حَجَّامٌ، فَزَجَرَهُ ... النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ كَسْبِهِ، فَقَالَ: أَلا أُطْعِمُهُ أَيْتَامًا لِي؟ قَالَ «لا» . قَالَ: أَفَلا أَتَصَدَّقُ بِهِ؟ قَالَ: «لا» . فَرَخَّصَ لَهُ أَنْ يَعْلِفَهُ نَاضِحَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3071- وَفِي لَفْظٍ: أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي إجَارَةِ الْحَجَّامِ فَنَهَاهُ عَنْهَا، وَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُهُ فِيهَا حَتَّى قَالَ: «اعْلِفْهُ نَاضِحَكَ أَوْ أَطْعِمْهُ رَقِيقَكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. 3072- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ، حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ وَأَعْطَاهُ صَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَكَلَّمَ مَوَالِيَهُ فَخَفَّفُوا عَنْهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3073- وَفِي لَفْظٍ: دَعَا غُلامًا مِنَّا حَجَمَهُ فَأَعْطَاهُ أَجْرَهُ صَاعًا أَوْ صَاعَيْنِ، وَكَلَّمَ مَوَالِيَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ ضَرِيبَتِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 3074- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ، وَلَوْ كَانَ سُحْتًا لَمْ يُعْطِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ.

(2/105)


3075- وَمُسْلِمٌ وَلَفْظُهُ: حَجَمَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَبْدٌ لِبَنِي بَيَاضَةَ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَجْرَهُ وَكَلَّمَ سَيِّدَهُ فَخَفَّفَ عَنْهُ مِنْ ضَرِيبَتِهِ وَلَوْ كَانَ سُحْتًا لَمْ يُعْطِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِ كَسْبِ الْحَجَّامِ وَهُوَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ كَمَا فِي الْبَحْرِ؛ لأَنَّ النَّهْيَ حَقِيقَةٌ فِي التَّحْرِيمِ، وَالْخَبِيثُ حَرَامٌ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا تَسْمِيَةُ ذَلِكَ سُحْتًا كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْ الْعِتْرَةِ وَغَيْرِهِمْ إلَى أَنَّهُ حَلالٌ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَحَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ؛ لأَنَّ فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ دَنَاءَةً وَاَللَّهُ يُحِبُّ مَعَالِيَ الأُمُورِ، وَلأَنَّ الْحِجَامَةَ مِنْ الأَشْيَاءِ الَّتِي تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ لِلإِعَانَةِ لَهُ عِنْدَ الاحْتِيَاجِ إلَيْهَا وَيُؤَيِّدُ هَذَا إذْنُهُ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ أُجْرَةِ الْحِجَامَةِ أَنْ يُطْعِمَ مِنْهَا نَاضِحَهُ وَرَقِيقَهُ. قَوْلُهُ: (وَلَوْ كَانَ سُحْتًا) وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: (وَلَوْ عَلِمَ كَرَاهَةً لَمْ يُعْطِهِ) يَعْنِي: كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا (وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ) وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي الْجَوَازِ. انتهى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَإذَا كان الرجل مُحْتَاجًا إلَى هذا الْكَسْبَ لَيْسَ لَهُ مَا يُغْنِيه عَنْهُ إِلا الْمَسْأَلَة للنَّاسَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كَسْبٌ فِيهِ دَنَاءَةٌ خَيْرٌ مِنْ مَسْأَلَةِ النَّاسَ. انْتَهَى. بَابُ مَا جَاءَ فِي الأُجْرَةِ عَلَى الْقُرَبِ 3076- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلا تَغْلُوا فِيهِ وَلا تَجْفُوا عَنْهُ وَلا تَأْكُلُوا بِهِ وَلا تَسْتَكْثِرُوا بِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3077- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ بِهِ، فَإِنَّ مِنْ بَعْدِكُمْ قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَسْأَلُونَ بِهِ النَّاسَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. 3078- وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: عَلَّمْت رَجُلًا الْقُرْآنَ فَأَهْدَى لِي

(2/106)


قَوْسًا، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «إنْ أَخَذْتَهَا أَخَذْت قَوْسًا مِنْ نَارٍ فَرَدَدْتهَا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. 3079- وَلأَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَةْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. 3080- قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ: «لا تَتَّخِذْ مُؤَذِّنًا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا» . 3081- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَرُّوا بِمَاءٍ فِيهِمْ لَدِيغٌ أَوْ سَلِيمٌ، فَعَرَضَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَاءِ فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ، فَإِنَّ فِي الْمَاءِ رَجُلًا لَدِيغًا أَوْ سَلِيمًا، فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى شَاءٍ، فَجَاءَ بِالشَّاءِ إلَى أَصْحَابِهِ فَكَرِهُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: أَخَذْت عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا، حَتَّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 3082- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ. فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَيِّ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا لَعَلَّهُمْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ بَعْضُ شَيْءٍ، فَأَتَوْهُمْ فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لا يَنْفَعُهُ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنِّي وَاَللَّهِ لَأَرْقِي وَلَكِنْ وَاَللَّهِ لَقَدْ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنْ غَنَمٍ، فَانْطَلَقَ يَتْفُلُ عَلَيْهِ وَيَقْرَأُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ، قَالَ: فَأَوْفُوهُمْ جُعْلَهُمْ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْتَسِمُوا، فَقَالَ: الَّذِي رَقَى، لا تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ فَنَنْظُرَ الَّذِي يَأْمُرُنَا، فَقَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: «وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ» . ثُمَّ قَالَ: «قَدْ أَصَبْتُمْ اقْتَسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا» . وَضَحِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ

(2/107)


إلا النَّسَائِيّ وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَهُوَ أَتَمُّ. 3083- وَعَنْ خَارِجَةَ بْنِ الصَّلْتِ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ أَقْبَلَ رَاجِعًا مِنْ عِنْدِهِ، فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ عِنْدَهُمْ رَجُلٌ مَجْنُونٌ مُوثَقٌ بِالْحَدِيدِ، فَقَالَ أَهْلُهُ: إنَّا قَدْ حُدِّثْنَا أَنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا قَدْ جَاءَ بِخَيْرٍ، فَهَلْ عِنْدَكَ شَيْءٌ تُدَاوِيهِ؟ قَالَ: فَرَقَيْتَهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ فَبَرَأَ، فَأَعْطَوْنِي مِائَتَيْ شَاةٍ، فَأَتَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: «خُذْهَا فَلَعَمْرِي مَنْ أَكَلَ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ فَقَدْ أَكَلْت بِرُقْيَةِ حَقٍّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3084- وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - زَوَّجَ امْرَأَةً رَجُلًا عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهَا سُورًا مِنْ الْقُرْآنِ. وَمَنْ ذَهَبَ إلَى الرُّخْصَةِ لِهَذِهِ الأَحَادِيثِ حَمَلَ حَدِيثَ أُبَيٍّ وَعُبَادَةُ عَلَى أَنَّ التَّعْلِيمَ كَانَ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمَا وَحَمَلَ فِيمَا سِوَاهُمَا مِنْ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى النَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ مَنْ قَالَ: إنَّهَا لا تَحِلُّ الأُجْرَةُ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهَا تَحِلُّ الأُجْرَةُ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ. انتهى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَالاسْتِئْجَارُ عَلَى مُجَرَّدِ التِّلاوَةِ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الأَئِمَّةِ، وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الاسْتِئْجَار عَلَى التَّعْلِيمِ، وَلا بَأْس بِجَوَازِ أَخْذِ الأُجْرَة عَلَى الرُّقْيَةِ. انْتَهَى. قَالَ الشَّارِحُ: قَوْلُهُ: (يَتْفُلُ) بِضَمِّ الْفَاءِ وَكَسْرِهَا: وَهُوَ نَفْخٌ مَعَهُ قَلِيلُ بُزَاقٍ: قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: مَحَلُّ التَّفْلِ فِي الرُّقْيَةِ يَكُونُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ لِتَحْصُلَ بَرَكَةُ الْقِرَاءَةِ فِي الْجَوَارِحِ الَّتِي يَمُرُّ عَلَيْهَا الرِّيقُ. قَوْلُهُ: (وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَاللامِ: أَيْ: عِلَّةٌ، وَسُمِّيَتْ الْعِلَّةُ قَلَبَةً؛ لأَنَّ الَّذِي تُصِيبُهُ يُقَلَّبُ مِنْ جَنْبٍ إلَى جَنْبٍ، وَفِي الْحَدِيثَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الرُّقْيَةِ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَلْتَحِقُ بِهِ مَا كَانَ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ وَكَذَا غَيْرُ الْمَأْثُورِ مِمَّا لا يُخَالِفُ مَا فِي الْمَأْثُورِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَشْرُوعِيَّةُ الضِّيَافَةِ

(2/108)


عَلَى أَهْلِ الْبَوَادِي وَالنُّزُولِ عَلَى مِيَاهِ الْعَرَبِ وَطَلَبِ مَا عِنْدَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْقِرَى أَوْ الشِّرَاءِ وَفِي مُقَابَلَةِ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْمَكْرُمَةِ بِنَظِيرِ صُنْعِهِ، وَفِيهِ الاشْتِرَاكُ فِي الْعَطِيَّةِ وَجَوَازُ طَلَبِ الْهَدِيَّةِ مِمَّنْ يُعْلَمُ رَغْبَتُهُ فِي ذَلِكَ وَإِجَابَتُهُ إلَيْهِ. قَوْلُهُ: (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) لَفْظُ أَبِي دَاوُد: (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً كُلَّمَا خَتَمَهَا جَمَعَ بُزَاقَهُ ثُمَّ تَفَلَ) . قَوْلُهُ: «بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ» أَيْ: بِرُقْيَةِ كَلامٍ بَاطِلٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مُقَامَهُ، وَالرُّقَى الْبَاطِلَةُ الْمَذْمُومَةُ هِيَ الَّتِي كَلامُهَا كُفْرٌ أَوْ الَّتِي لا يُعْرَفُ مَعْنَاهَا كَالطَّلاسِمِ الْمَجْهُولَةِ الْمَعْنَى، وَالأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلإِنْسَانِ أَنْ يَسْتَرْقِيَ، وَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِي الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَهُمْ الَّذِينَ لا يَرْقُونَ وَلا يَسْتَرْقُونَ عَلَى بَيَانِ الأَفْضَلِيَّةِ وَاسْتِحْبَابِ التَّوَكُّلِ وَالإِذْنِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بِحَمْلِ الأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى تَرْكِ الرُّقْيَةِ عَلَى قَوْمٍ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ نَفْعَهَا وَتَأْثِيرَهَا بِطَبْعِهَا كَمَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ يَزْعُمُونَ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ. بَابُ النَّهْيِ أَنْ يَكُونَ النَّفْعُ وَالأَجْرُ مَجْهُولاً وَجَوَازِ اسْتِئْجَارِ الأَجِيرِ بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ 3085- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ اسْتِئْجَارِ الأَجِيرِ حَتَّى يُبَيَّنَ لَهُ أَجْرُهُ، وَعَنْ النَّجْشِ وَاللَّمْسِ وَإِلْقَاءِ الْحَجَرِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3086- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا - رضي الله عنه - قَالَ: نَهَى عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ وَعَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَفَسَّرَ قَوْمٌ قَفِيزَ الطَّحَّانِ: بِطَحْنِ الطَّعَامِ بِجُزْءٍ مِنْهُ مَطْحُونًا، لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِحْقَاقِ طَحْنِ قَدْرِ الأُجْرَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الآخَرِ، وَذَلِكَ مُتَنَاقِضٌ. وَقِيلَ: لا بَأْسَ بِذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ بِقَدْرِهِ. وَإِنَّمَا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ طَحْنُ الصُّبْرَةِ لا يُعْلَمُ كَيْلُهَا بِقَفِيزٍ مِنْهَا وَإِنْ شَرَطَ حَبًّا، لأَنَّ مَا عَدَاهُ مَجْهُولٌ فَهُوَ كَبَيْعِهَا إلا قَفِيزًا مِنْهَا.

(2/109)


3087- وَعَنْ عُتْبَةُ بْنِ النُّدَّرِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَرَأَ: {طس} حَتَّى بَلَغَ قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ: «إنَّ مُوسَى آجَرَ نَفْسَهُ ثَمَانِي سِنِينَ أَوْ عَشْرَ سِنِينَ، عَلَى عِفَّةِ فَرْجِهِ وَطَعَامِ بَطْنِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (حَتَّى يُبَيَّنَ لَهُ أَجْرُهُ) فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ: إنَّهُ يَجِبُ تَعْيِينُ قَدْرِ الأُجْرَةِ وَهُمْ الْعِتْرَةُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ شُبْرُمَةَ: لا يَجِبُ لِلْعُرْفِ وَاسْتِحْسَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الأَوَّلَ الْقِيَاسُ عَلَى ثَمَنِ الْمَبِيعِ. قَوْلُهُ: (وَعَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ) حَكَى الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَحَدِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ بِأَنَّ صُورَتَهُ أَنْ يُقَالَ لِلطَّحَّانِ: اطْحَنْ بِكَذَا وَكَذَا وَزِيَادَةِ قَفِيزٍ مِنْ نَفْسِ الطَّحِينِ وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالنَّاصِرُ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الأُجْرَةُ بَعْضَ الْمَعْمُولِ بَعْدَ الْعَمَلِ وَقَالَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَالإِمَامُ يَحْيَى وَالْمُزَنِيِّ: إنَّهُ يَصِحُّ بِمِقْدَارٍ مِنْهُ مَعْلُومٍ وَأَجَابُوا عَنْ الْحَدِيثِ بِأَنَّ مِقْدَارَ الْقَفِيزِ مَجْهُولٌ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ الاسْتِئْجَارُ عَلَى طَحْنِ صُبْرَةٍ بِقَفِيزٍ مِنْهَا بَعْدَ طَحْنِهَا، وَهُوَ فَاسِدٌ عِنْدَهُمْ. قلت: حَدِيثِ قَفِيزِ الطَّحَّان َفِي إسْنَادِهِ هشام أبو كليب، قال الذهبي: لا يعرف وحديثه منكر، وأورده ابن حبان في الثقات. قَوْلُهُ: «وَطَعَامِ بَطْنِهِ» فِيهِ مُتَمَسَّكٌ لِمَنْ قَالَ بِجَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ بِالنَّفَقَةِ وَمِثْلُهَا الْكِسْوَةُ. انتهى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَيَصِحُّ أَنْ يُسْتَأْجَرَ الأَجِيرُ وَالظِّئْرُ بِطَعَامِهِمَا وَكِسْوَتِهِمَا، وَقَالَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَيَصِحُّ أَنْ يُسْتَأْجَرَ الدَّابَةَ بَعَلَفِهَا وَهُوَ رُوَايَة عَنْ أَحْمَدٍ وَجَزَمَ بِهِ الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْحَيَوَانَ لأَخْذِ لَبَنه، وَلَوْ جَعَلَ الأُجْرَةَ نَفَقَتَهُ. وَقَدْ نَصَّ مَالِكٌ عَلَى جَوَازِ أُجْرَةِ الْحَيَوَانِ لأَخْذِ لَبَنه فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ تَبَعًا لِنَصِّهِ وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ وَمِنْهُمْ مَنْ شَرِطَ شُرُوطًا ضَيَّقَ بِها مَوَارِدَ النَّصِ وَلَمْ يَدُلُّ عَلَيْهَا نَصَّهُ، وَإِذَا اسْتَأْجَرَ حَيَوَانًا لِلَبَنِهِ فَنَقَصَ لَبَنَهُ عَنِ الْعَادَةِ فَلَهُ الْفَسْخُ، وَيَجُوزُ إِجَارَةَ مَاء قَنَاةٍ مُدَّةً، وَيَجُوزُ إِجَارَةَ الشَّجَرِ لأَخْذِ ثَمَرِهِ، وَالشَّمْعِ لِيَشْعَلَهُ، وَهُوَ قِياسُ الْمَذْهَبِ فِيمَا إِذَا أَجَّرَهُ

(2/110)


كُلّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ وَمِثْلَهُ كُلَّمَا أَعْتَقْتَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِكِ فَعَلَى ثَمَنِهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الْعَدَدَ وَالثَّمَنَ، وَلَوْ اضْطَرَّ قَوْمٌ إِلَى السُّكْنَى فِي بَيْتِ إِنْسَانٍ لا يَجِدُونَ غَيْرَهُ أَوْ النُّزُولَ فِي خَانٍ مَمْلُوكٍ أَوْ رَحَى لِطَحْنِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ وَجَبَ بَذْلَهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ بِلا نِزَاع، وَإِذَا رَكَنَ الْمُؤَجِّرُ إِلَى شَخْصٍ لَيُؤَجِّرَهُ لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ سَاكِنًا فِي الدَّارِ، وَإِذَا وَقَعَتْ الإِجَارَةُ صَحِيحَة فَهِيَ لازِمَةٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ لَيْسَ لِلْمُؤَجِّرِ الْفَسْخُ لِأَجْلِ زِيَادَة حَصلَتْ بِاتِّفَاقِ الأَئِمَّةِ، وَأُجْرَة الْمَثَلِ لَيْسَ شَيْئًا مَحْدُودًا وَإِنَّمَا هِيَ مَا يَتَسَاوَى الشَّيْء فِي نُفُوسِ أَهْلِ الرَّغْبَةِ، وَلا عِبْرَةَ بِمَا يَحْدُثُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ مِنَ ارْتِفَاعِ الْكِرَاءِ أَوِ انْخِفَاضِهِ، وَيَجُوزُ إِجَارَة الْمَقْضبةِ لِيَقُومُ عَلَيْهَا الْمُسْتَأْجِرَ وَيَسْقِيهَا فَتَنْبُتُ الْعُرُوقَ الَّتِي فِيهَا بِمَنْزِلَة مَنْ يَسْقِي الأَرْضَ لَيَنْبَتَ فِيهَا الْكَلأَ بِلا بَذْرِ وَإِذَا عَمِلَ لِلأَجِيرِ بَعْضَ الْعَمَلَ أُعْطِيَ مِنَ الأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا عَمِلَ، وَإِذَا مَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ لَمْ يَلْزَم وَرَثَتُهُ تَعْجِيلَ الأُجْرَة فِي أَصَحِّ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ، وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعَقْدِ وَالإِجَارَة فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِمْ، وَإِذَا تَقَايَلا الإِجَارَة أَوْ فَسَخَهَا الْمُسْتَأْجِرُ بِحَقٍ وَكَانَ حَرْثُهَا فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يَقْطَعَ غِرَاسَ الْمُسْتَأْجِرَ وَزَرْعِهِ سَوَاء كَانَتْ الإِجَارَةُ صَحِيحَةُ أَوْ فَاسِدَةٌ بَلْ إِذَا بَقِيَ فَعَلَيْهِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، وَإِذَا بِيعَتْ الْعَيْنُ الْمُؤَجَّرَة أَو الْمَرْهُونَة وَنَحْوَهُمَا مِمَّا بِهِ تَعَلُّقُ حَق غَيْر الْبَائِعِ وَهُوَ عَالِمٌ بِالْعَيْبِ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: لا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَة بِفَسَادِ الْبَيْعِ بَعْدَ هَذَا لأَنَّ إِخْبَارَهُ بِالْعَيْبِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ بِالسُّنَّةِ بِقَوْلِهِ: (وَلا يَحِلّ لِمَنْ عَلِمَ ذَلِكَ إِلا أَنْ يُبَيِّنَهُ) . فَكِتْمَانِهِ تَغْرِيرٌ، وَالْغَارُّ ضَامِنٌ، وَظَاهِرُ كَلامِ الإِمَامِ أَحْمَدٍ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِي أَنَّ مَنْ بَاعَ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهَا مُسْتَأْجَرَةٌ أَنَّهُ لا يَصِحُّ الْبَيْع. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْعَمَلِ مُيَاوَمَةً أَوْ مُشَاهَرَةً أَوْ مُعَاوَمَةً أَوْ مُعَادَدَةً 3088- عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: جُعْتُ مَرَّةً جُوعًا شَدِيدًا، فَخَرَجْت لِطَلَبِ الْعَمَلِ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ، فَإِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ قَدْ جَمَعَتْ مَدَرًا فَظَنَنْتُهَا تُرِيدُ بَلَّهُ، فَقَاطَعْتُهَا كُلَّ ذَنُوبٍ عَلَى تَمْرَةٍ، فَمَدَدْت سِتَّةَ عَشَرَ ذَنُوبًا حَتَّى

(2/111)


مَجِلَتْ يَدَايَ، ثُمَّ أَتَيْتُهَا فَعَدَّتْ لِي سِتَّ عَشْرَةَ تَمْرَةً، فَأَتَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ فَأَكَلَ مَعِي مِنْهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3089- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ قَدِمُوا وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ، فَكَانَتْ الأَنْصَارُ أَهْلَ الأَرْضِ وَالْعَقَارِ، فَقَاسَمَهُمْ الأَنْصَارُ عَلَى أَنْ أَعْطَوْهُمْ نِصْفَ ثِمَارِ أَمْوَالِهِمْ كُلَّ عَامٍ وَيَكْفُوهُمْ الْعَمَلَ وَالْمُؤنَة. أَخْرَجَاهُ. 3090- قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَعْطَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - خَيْبَرَ بِالشَّطْرِ، فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ جَدَّدَا الإِجَارَةَ بَعْدَمَا قُبِضَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَحَدِيثُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ فِيهِ بَيَانُ مَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ مِنْ الْحَاجَةِ وَشِدَّةِ الْفَاقَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْجُوعِ، وَبَذْلِ الأَنْفُسِ وَإِتْعَابِهَا فِي تَحْصِيلِ الْقِوَامِ مِنْ الْعَيْشِ لِلتَّعَفُّفِ عَنْ السُّؤَالِ وَتَحَمُّلِ الْمِنَنِ، وَأَنَّ تَأْجِيرَ النَّفْسِ لا يُعَدُّ دَنَاءَةً وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ غَيْرَ شَرِيفٍ أَوْ كَافِرًا وَالأَجِيرُ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ وَعُظَمَائِهِمْ وَأَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ لِلاسْتِدْلالِ بِهِ عَلَى جَوَازِ الإِجَارَةِ مُعَادَدَةً، يَعْنِي: أَنْ يَفْعَلَ الأَجِيرُ عَدَدًا مَعْلُومًا مِنْ الْعَمَلِ بِعَدَدٍ مَعْلُومٍ مِنْ الأُجْرَةِ وَإِنْ لَمْ يُبَيَّنْ فِي الِابْتِدَاءِ مِقْدَارُ جَمِيعِ الْعَمَلِ وَالأُجْرَةِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إجَارَةِ الأَرْضِ بِنِصْفِ الثَّمَرَةِ الْخَارِجَةِ مِنْهَا فِي كُلِّ عَامٍ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ. بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي عَقْدِ الإِجَارَةِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ 3091- عَنْ سَعِيدِ بْنِ مِينَاءَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلُ أَرْضٍ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيُزْرِعْهَا أَخَاهُ وَلا تَبِيعُوهَا» . قِيلَ لِسَعِيدٍ مَا لا تَبِيعُوهَا أَيَعْنِي: الْكِرَاءَ؟ قَالَ: نَعَمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلامُ عَلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ فِي الْمُزَارَعَةِ، وَأَعَادَهُ الْمُصَنِّفُ هَا هُنَا لِلِاسْتِدْلالِ بِهِ عَلَى صِحَّةِ إطْلاقِ لَفْظِ الْبَيْعِ عَلَى الإِجَارَةِ وَهُوَ مَجَازٌ مِنْ بَابِ إطْلاقِ الْحُكْمِ عَلَى الشَّيْءِ وَهُوَ

(2/112)


لِمَا هُوَ مِنْ الأَشْيَاءِ التَّابِعَةِ لَهُ كَإِطْلاقِ الْبَيْعِ هُنَا عَلَى الأَرْضِ وَهُوَ لِمَنْفَعَتِهَا. انتهى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَهَلْ تَنْعَقِدُ الإِجَارَة بِلَفْظِ الْبَيْعِ؟ فِيهِ وَجْهَان مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ نَوْعٍ مِنَ الْبَيْعِ أَوْ شَبِيهِةِ بِهِ. بَابُ الأَجِيرِ عَلَى عَمَلٍ مَتَى يَسْتَحِقُّ الأُجْرَةَ وَحُكْمِ سِرَايَةِ عَمَلِهِ 3091- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ثَلاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كُنْت خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا وَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُوَفِّهِ أَجْرَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 3093- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - فِي حَدِيثٍ لَهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ يُغْفَرُ لأُمَّتِهِ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ قَالَ: «لا، وَلَكِنَّ الْعَامِلَ إنَّمَا يُوَفَّى أَجْرَهُ إذَا قَضَى عَمَلَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3094- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «وَلَمْ يُوَفِّهِ أَجْرَهُ» هُوَ فِي مَعْنَى مَنْ بَاعَ حُرًّا وَأَكَلَ ثَمَنَهُ؛ لأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَكَأَنَّهُ أَكَلَهَا، وَلأَنَّهُ اسْتَخْدَمَهُ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ فَكَأَنَّهُ اسْتعبد. قَوْلُهُ: «إنَّمَا يُوَفَّى أَجْرَهُ إذَا قَضَى عَمَلَهُ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الأُجْرَةَ تُسْتَحَقُّ بِالْعَمَلِ. قَوْلُهُ: «فَهُوَ ضَامِنٌ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُتَعَاطِيَ الطِّبِّ يَضْمَنُ لِمَا حَصَلَ مِنْ الْجِنَايَةِ بِسَبَبِ عِلاجِهِ وَأَمَّا مَنْ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ طَبِيبٌ فَلا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَنْ يَعْرِفُ الْعِلَّةَ وَدَوَاءَهَا.

(2/113)


 كِتَابُ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ

3095- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا ضَمَانَ عَلَى مُؤْتَمَنٍ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. 3096- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَدِّ الأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. 3097- وَعَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ. زَادَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ: قَالَ قَتَادَةُ: ثُمَّ نَسِيَ الْحَسَنُ فَقَالَ: هُوَ أَمِينُكَ لا ضَمَانَ عَلَيْهِ. يَعْنِي: الْعَارِيَّةَ. 3098- وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَعَارَ مِنْهُ يَوْمَ حُنَيْنٌ أَدْرُعًا، فَقَالَ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: «بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ» . قَالَ: فَضَاعَ بَعْضُهَا، فَعَرَضَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَضْمَنَهَا لَهُ، فَقَالَ: أَنَا الْيَوْمَ فِي الإِسْلامِ أَرْغَبُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3099- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ، فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَرَسًا مِنْ أَبِي طَلْحَةَ يُقَالُ لَهُ الْمَنْدُوبُ فَرَكِبَهُ فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: «مَا رَأَيْنَا مِنْ شَيْءٍ وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3100- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ الْمَاعُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ

(2/114)


- صلى الله عليه وسلم - عَارِيَّةَ الدَّلْوِ وَالْقِدْرِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 3101- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ وَعَلَيْهَا دِرْعُ قطري ثَمَنُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ كَانَ لِي مِنْهُنَّ دِرْعٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ تُقَيَّنُ بِالْمَدِينَةِ إلا أَرْسَلَتْ إلَيَّ تَسْتَعِيرُهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 3102- وَعَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ صَاحِبِ إبِلٍ وَلا بَقَرٍ وَلا غَنَمٍ لا يُؤَدِّي حَقَّهَا إلا أُقْعِدَ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَطَؤُهُ ذَاتُ الظِّلْفِ بِظِلْفِهَا، وَتَنْطَحُهُ ذَاتُ الْقَرْنِ لَيْسَ فِيهَا يَوْمَئِذٍ جَمَّاءُ، وَلا مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ» . قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: «إطْرَاقُ فَحْلِهَا، وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا، وَمِنْحَتُهَا، وَحَلْبُهَا عَلَى الْمَاءِ، وَحَمْلٌ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لا ضَمَانَ عَلَى مُؤْتَمَنٍ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا ضَمَانَ عَلَى مَنْ كَانَ أَمِينًا عَلَى عَيْنٍ مِنْ الأَعْيَانِ كَالْوَدِيعِ وَالْمُسْتَعِيرِ أَمَّا الْوَدِيعُ فَلا يَضْمَنُ قِيلَ: إجْمَاعًا إلا لِجِنَايَةٍ مِنْهُ عَلَى الْعَيْنِ وَقَدْ حُكِيَ فِي الْبَحْرِ الإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ، وَتَأَوَّلَ مَا حُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ الْوَدِيعَ لا يَضْمَنُ إلا بِشَرْطِ الضَّمَانِ بِأَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى ضَمَانِ التَّفْرِيطِ لا الْجِنَايَةِ الْمُتَعَمَّدَةِ، وَالْوَجْهُ فِي تَضْمِينِهِ الْجِنَايَةَ أَنَّهُ صَارَ بِهَا خَائِنًا، وَالْخَائِنُ ضَامِنٌ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَلا عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ» وَالْمُغِلُّ: هُوَ الْخَائِنُ، وَهَكَذَا يَضْمَنُ الْوَدِيعُ إذَا وَقَعَ مِنْهُ تَعَدٍّ فِي حِفْظِ الْعَيْنِ لأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْخِيَانَةِ وَأَمَّا الْعَارِيَّةُ فَذَهَبَتْ الْعِتْرَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ إذَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ تَعَدٍّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَطَاءٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَعَزَاهُ صَاحِبُ الْفَتْحِ إلَى الْجُمْهُورِ: إنَّهَا إذَا تَلِفَتْ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ ضَمِنَهَا إلا فِيمَا إذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالأَوْزَاعِيِّ وَشُرَيْحٍ وَالْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ وَإِنْ شُرِطَ الضَّمَانُ وَعِنْدَ الْعِتْرَةِ وَقَتَادَةَ وَالْعَنْبَرِيِّ: أَنَّهُ إذَا شُرِطَ الضَّمَانُ كَانَتْ مَضْمُونَةً وَحُكِيَ فِي الْبَحْرِ عَنْ مَالِكٍ وَالْبَتِّيِّ أَنَّ غَيْرَ الْحَيَوَانِ مَضْمُونٌ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ ... لا ضَمَانَ عَلَى غَيْرِ الْمُتَعَدِّي بقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ عَلَى

(2/115)


الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ» . وَبِقَوْلِهِ: «لا ضَمَانَ عَلَى مُؤْتَمَنٍ» . انتهى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: والْعَارِيَّةَ تَجِبُ مَعَ غِنَى الْمَالِكِ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدٍ، وَهِي مَضْمُونَةٌ إِنْ شَرِطَ ضَّمَانُ، وَهُوَ رِوَايَة عَنْ أَحْمَدٍ. انْتَهَى. قَوْلُهُ: «وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ مُكَافَأَةُ الْخَائِنِ بِمِثْلِ فِعْلِهِ فَيَكُونُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وقَوْله تَعَالَى: ... {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَالْحَاصِلُ أَنَّ الأَدِلَّةَ الْقَاضِيَةَ بِتَحْرِيمِ مَالِ الآدَمِيِّ وَدَمِهِ وَعِرْضِهِ عُمُومُهَا مُخَصَّصٌ بِهَذِهِ الثَّلاثِ الآيَاتِ وَحَدِيثُ الْبَابِ مُخَصِّصٌ لِهَذِهِ الآيَاتِ، فَيَحْرُمُ مِنْ مَالِ الآدَمِيِّ وَعِرْضِهِ وَدَمِهِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى طَرِيقِ الْمُجَازَاةِ فَإِنَّهَا حَلالٌ إلا الْخِيَانَةَ فَإِنَّهَا لا تَحِلُّ، وَلَكِنَّ الْخِيَانَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي الأَمَانَةِ فَلا يَصِحُّ الِاسْتِدْلال بِهَذَا الْحَدِيثِ، عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ لِمَنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ حَبْسُ حَقِّ خَصْمِهِ عَلَى الْعُمُومِ وَمِمَّا يُؤَيِّدُ الْجَوَازَ إذْنُهُ - صلى الله عليه وسلم - لِامْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ أَنْ تَأْخُذَ لَهَا وَلِوَلَدِهَا مِنْ مَالِ زَوْجِهَا مَا يَكْفِيهَا. انتهى. ملخصًا.

(2/116)


 كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ

3103- عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3104- وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ أَحَاطَ حَائِطًا عَلَى أَرْضٍ فَهِيَ لَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3105- وَلأَحْمَدَ مِثْلُهُ مِنْ رِوَايَةِ سَمُرَةَ. 3106- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 3107- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ عَمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 3108- وَعَنْ أَسْمَرَ بْنِ مُضَرِّسٍ قَالَ: أَتَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَبَايَعْتُهُ، فَقَالَ: ... «مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ» . قَالَ: فَخَرَجَ النَّاسُ يَتَعَادَوْنَ يَتَخَاطُّونَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً» الأَرْضُ الْمَيْتَةُ: هِيَ الَّتِي لَمْ تُعْمَرْ، شُبِّهَتْ عِمَارَتُهَا بِالْحَيَاةِ وَتَعْطِيلُهَا بِالْمَوْتِ، وَالإِحْيَاءُ أَنْ يَعْمِدَ شَخْصٌ إلَى أَرْضٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِلْكٌ عَلَيْهَا لأَحَدٍ فَيُحْيِيَهَا بِالسَّقْيِ أَوْ الزَّرْعِ أَوْ الْغَرْسِ أَوْ الْبِنَاءِ فَتَصِيرُ بِذَلِكَ مِلْكَهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَحَادِيثُ الْبَابِ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَظَاهِرُ الأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ الإِحْيَاءُ سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِ الإِمَامِ

(2/117)


أَوَبِغَيْرِ إذْنِهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا بُدَّ مِنْ إذْنِ الإِمَامِ وَعَنْ مَالِكٍ: يَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الإِمَامِ فِيمَا قَرُبَ مِمَّا لأَهْلِ الْقَرْيَةِ إلَيْهِ حَاجَةٌ مِنْ مَرْعًى وَنَحْوِهِ، وَبِمِثْلِهِ قَالَتْ الْهَادَوِيَّةُ. قَوْلُهُ: «مَنْ أَحَاطَ حَائِطًا» فِيهِ أَنَّ التَّحْوِيطَ عَلَى الأَرْضِ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُسْتَحَقُّ بِهِ مِلْكُهَا، وَالْمِقْدَارُ الْمُعْتَبَرُ مَا يُسَمَّى حَائِطًا فِي اللُّغَةِ. قَوْلُهُ: «وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» قَالَ فِي الْفَتْحِ: رِوَايَةُ الأَكْثَرِ بِتَنْوِينِ عِرْقٍ وَظَالِمٍ نَعْتٌ لَهُ، وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى صَاحِبِ الْعِرْقِ. وَقَالَ رَبِيعَةُ: الْعِرْقُ الظَّالِمُ يَكُونُ ظَاهِرًا وَيَكُونُ بَاطِنًا فَالْبَاطِنُ مَا احْتَفَرَهُ الرَّجُلُ مِنْ الآبَارِ أَوْ اسْتَخْرَجَهُ مِنْ الْمَعَادِنِ، وَالظَّاهِرُ مَا بَنَاهُ أَوْ غَرَسَهُ وَقَالَ غَيْرُهُ: الْعِرْقُ الظَّالِمُ مَنْ غَرَسَ أَوْ زَرَعَ أَوْ بَنَى أَوْ حَفَرَ فِي أَرْضٍ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلا شُبْهَةٍ. قَوْلُهُ «مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ» قال: فخرج ... الناس يَتَعَادَوْنَ يَتَخَاطُّونَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ... (يَتَخَاطُّونَ) : يَعْمَلُونَ عَلَى الأَرْضِ عَلامَاتٍ بِالْخُطُوطِ. انتهى. قَالَ الْمُوَفِّقُ فِي الْمُقْنِعِ: وَمَنْ تَحَجَّرَ مَوَاتًا لَمْ يَمْلِكْهُ وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَوَارِثه بَعْده وَمَنْ يَنْقِلَهُ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ، وَقِيلَ: لَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَتَم إِحْيَاءه قِيلَ لَهُ: إِمَّا أَنْ تُحْيِيه أَوْ تَتْرُكْه فَإِنْ طَلَبِ الإِمْهَالَ أُمْهِلَ الشَّهْرَيْنِ وَالثَّلاثَةِ، فَإِنْ أَحْيَاهُ غَيْرُهُ فَهَلْ يَمْلِكَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. انْتَهَى. قَالَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: تَحَجّر الْمَوَات الْمَشْرُوع فِي إِحْيَائِهِ مِثْل أَنْ يُدِيرَ حَوْلَ الأَرْضِ تُرَابًا أَوْ أَحْجَارًا أَوْ حَاطَهَا بِجِدَارٍ صَغِيرٍ لَمْ يَمْلِكْهَا بِذَلِكَ لأَنَّ الْمِلْكِ بِالإِحْيَاء وَلَيْسَ هَذِا إِحْيَاء، لَكِنْ يَصِيرُ أَحَقُّ النَّاس بِهِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . إِلَى أَنْ قَالَ: فَإِنَّ ضَرْبَ الْمُتَحَجِّر مُدَّة فَانْقَضَتِ الْمُدَّة وَلَمْ يُعَمِّرْ فَلِغَيْرِهِ أَنْ يُعَمَّرَهُ وَيَمْلُكُهُ. لأَنَّ الْمُدَّةَ ضُرِبَتْ لَهُ لَيَنْقَطِعَ حَقَّهُ بِمُضِيِّهَا. بَابُ النَّهْيِ عَنْ مَنْعِ فَضْلِ الْمَاءِ 3109- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تَمْنَعُوا

(2/118)


فَضْلَ الْمَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ الْكَلأ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3110- وَلِمُسْلِمٍ: «لا يُبَاعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُبَاعَ بِهِ الْكَلَأُ» . 3111- وَلِلْبُخَارِيِّ: «لا تَمْنَعُوا فَضْلَ الْمَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ فَضْلَ الْكَلَإِ» . 3112- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُمْنَعَ نَقْعُ الْبِئْرِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. 3113- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ... «مَنْ مَنَعَ فَضْلَ مَائِهِ أَوْ فَضْلَ كَلَئِهِ مَنَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَضْلَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3114- وَعَنْ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي النَّخْلِ أَنْ لا يُمْنَعَ نَقْعُ بِئْرٍ، وَقَضَى بَيْنَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَنْ لا يُمْنَعَ فَضْلُ مَاءٍ لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلَأُ. رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِه. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى: قَوْلُهُ: «فَضْلُ الْمَاءِ» الْمُرَادُ بِهِ مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: «وَلا يُمْنَعُ فَضْلُ مَاءٍ بَعْدَ أَنْ يُسْتَغْنَى عَنْهُ» . قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى مَاءِ الْبِئْرِ الْمَحْفُورَةِ فِي الأَرْضِ الْمَمْلُوكَةِ وَكَذَلِكَ فِي الْمَوَاتِ إذَا كَانَ لِقَصْدِ التَّمَلُّكِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَحَرْمَلَةَ، أَنَّ الْحَافِرَ لا يَمْلِكُ مَاءَهَا وَأَمَّا الْبِئْرُ الْمَحْفُورَةُ فِي الْمَوَاتِ لِقَصْدِ الِارْتِفَاقِ لا التَّمَلُّكِ، فَإِنَّ الْحَافِرَ لا يَمْلِكُ مَاءَهَا بَلْ يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ إلَى أَنْ يَرْتَحِلَ وَفِي الصُّورَتَيْنِ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ مَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِ، وَالْمُرَادُ حَاجَةُ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَزَرْعِهِ وَمَاشِيَتِهِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الْحُكْمَ بِالْمَوَاتِ، قَالَ فِي الْبَحْرِ: وَالْمَاءُ عَلَى أَضْرُبٍ: حَقٌّ إجْمَاعًا كَالأَنْهَارِ غَيْرِ الْمُسْتَخْرَجَةِ وَالسُّيُولِ وَمِلْكٌ إجْمَاعًا يُحْرَزُ فِي الْجِرَارِ وَنَحْوِهَا وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ كَمَاءِ الآبَارِ وَالْعُيُونِ وَالْقَنَا الْمُحْتَفَرَةِ فِي الْمِلْكِ. قَوْلُهُ: «لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلَأُ» . بِفَتْحِ الْكَافِ وَاللامِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَقْصُورَةٌ: وَهُوَ النَّبَاتُ رَطْبُهُ وَيَابِسُهُ، وَالْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ حَوْلَ الْبِئْرِ كَلَأٌ لَيْسَ عِنْدَهُ مَاءٌ غَيْرُهُ

(2/119)


وَلا يُمْكِنُ أَصْحَابَ الْمَوَاشِي رَعْيُهُ إلا إذَا مُكِّنُوا مِنْ سَقْيِ بَهَائِمِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْبِئْرِ لِئَلا يَتَضَرَّرُوا بِالْعَطَشِ بَعْدَ الرَّعْيِ فَيَسْتَلْزِمُ مَنْعُهُمْ مِنْ الْمَاءِ مَنْعَهُمْ مِنْ الرَّعْيِ، وَإِلَى هَذَا التَّفْسِيرِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. بَابُ النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلاثٍ وَشُرْبِ الأَرْضِ الْعُلْيَا قَبْلَ السُّفْلَى إذَا قَلَّ الْمَاءُ أَوْ اخْتَلَفُوا فِيهِ 3115- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يُمْنَعُ الْمَاءُ وَالنَّارُ وَالْكَلَأُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. 3116- وَعَنْ أَبِي خِرَاشٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: قَالَ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاثَةٍ: فِي الْمَاءِ وَالْكَلإ وَالنَّارِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3117- وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَادَ فِيهِ «وَثَمَنُهُ حَرَامٌ» . 3118- وَعَنْ عُبَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى فِي شُرْبِ النَّخْلِ مِنْ السَّيْلِ أَنَّ الأَعْلَى يَشْرَبُ قَبْلَ الأَسْفَلِ، وَيُتْرَكُ الْمَاءُ إلَى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَاءُ إلَى الأَسْفَلِ الَّذِي يَلِيهِ وَكَذَلِكَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَوَائِطُ أَوْ يَفْنَى الْمَاءُ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ. 3119- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى فِي سَيْلِ مَهْزُورٍ أَنْ يُمْسَكَ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يُرْسَلَ الأَعْلَى عَلَى الأَسْفَلِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى: (الْكَلَأُ) : هو النَّبَاتِ رَّطْبِ ويَابِسِه، قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكَلَإِ هُنَا هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُبَاحَةِ كَالأَوْدِيَةِ وَالْجِبَالِ وَالأَرَاضِيِ الَّتِي لا مَالِكَ لَهَا وَأَمَّا مَا كَانَ قَدْ أُحْرِزَ بَعْدَ قَطْعِهِ فَلا شَرِكَةَ فِيهِ بِالإِجْمَاعِ كَمَا قِيلَ وَأَمَّا النَّابِتُ فِي الأَرْضِ الْمَمْلُوكَةِ وَالْمُتَحَجِّرَةِ فَفِيهِ خِلافٌ، فَقِيلَ: مُبَاحٌ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: تَابِعٌ لِلأَرْضِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ أَحَادِيثَ الْبَابِ تَنْتَهِضُ بِمَجْمُوعِهَا فَتَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الأُمُورِ الثَّلاثَةِ مُطْلَقًا

(2/120)


وَلا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إلا بِدَلِيلٍ يُخَصُّ بِهِ عُمُومُهَا. قَوْلُهُ: (مَهْزُورٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ بَعْدهَا زَايٌ مَضْمُومَةٌ ثُمَّ رَاءٌ: وَهُوَ وَادِي بَنِي قُرَيْظَةَ بِالْحِجَازِ، وأحاديث الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الأَعْلَى تَسْتَحِقُّ أَرْضُهُ الشُّرْبَ بِالسَّيْلِ وَالْغَيْلِ وَمَاءِ الْبِئْرِ قَبْلَ الأَرْضِ الَّتِي تَحْتَهَا، وَأَنَّ الأَعْلَى يُمْسِكُ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الأَرَاضِي مُخْتَلِفَةٌ فَيُمْسَكُ لِكُلِّ أَرْضٍ مَا يَكْفِيهَا، قال في البحر: ومن احتفر بئرًا أو نهرًا فهو أحق بمائه إجماعًا وإن بعدت منه أرضه وتوسط غيرها. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَمَنْ مَلَكَ مَاءً نَابِعًا كَبِئْرٍ مَحْفُورَةٍ فِي مِلْكِهِ أَوْ عَيْنِ مَاءٍ فِي أَرْضِهِ فَلَهُ بَيْعِ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ جِمِيعًا، وَيَجُوزُ بَيْع بَعْضِها مَشَاعًا كَإِصِْبِع أَوْ أُصْبُعَيْنِ من قَنَاةٍ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْقَنَاةِ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ، فَكَيْفَ، إِذَا كَانَ أَصْلُهَا فِي أَرْضِهِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَهَذَا لا أَعْلَمُ فِيهِ نِزِاعًا. انْتَهَى. بَابُ الْحِمَى لِدَوَابِّ بَيْتِ الْمَالِ 3120- عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَمَى النَّقِيعَ لِلْخَيْلِ خَيْلِ الْمُسْلِمِينَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّقِيعُ بِالنُّونِ: مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ. 3121- وَعَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَمَى النَّقِيعَ، وَقَالَ: «لا حِمَى إلا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3122- وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْهُ: «لا حِمَى إلا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ» . 3123- وَقَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَمَى النَّقِيعَ. وَأَنَّ عُمَرَ حَمَى سَرِفَ وَالرَّبَذَةَ. وَعَنْ أَسْلَمَ - مَوْلَى عُمَرَ - أَنَّ عُمَرَ اسْتَعْمَلَ مَوْلًى لَهُ يُدْعَى هُنَيًّا عَلَى الْحِمَى، فَقَالَ: يَا هَنِيُّ اُضْمُمْ جَنَاحَكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ، وَأَدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَرَبَّ الْغُنَيْمَةِ، وَإِيَّايَ، وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ، فَإِنَّهُمَا إنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَا إلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ، وَرَبُّ الصُّرَيْمَةِ وَرَبُّ الْغُنَيْمَةِ إنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَأْتِنِي بِبَنِيهِ يَقُولُ: يَا

(2/121)


أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا لا أَبَا لَكَ، فَالْمَاءُ وَالْكَلَأُ أَيْسَرُ عَلَيَّ مِنْ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَأَيْمُ اللَّهِ إنَّهُمْ لَيَرَوْنَ أَنِّي قَدْ ظَلَمْتُهُمْ إنَّهَا لَبِلادُهُمْ قَاتَلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِي الإِسْلامِ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلا الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْت عَلَيْهِمْ مِنْ بِلادِهِمْ شَيْئًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى: قَوْلُهُ: «لا حِمَى إلا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْحَدِيثِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا لَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يَحْمِيَ لِلْمُسْلِمِينَ إلا مَا حَمَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَالآخَرُ مَعْنَاهُ: إلا عَلَى مِثْلِ مَا حَمَاهُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ الْحَافِظُ: وَمَحَلُّ الْجَوَازِ مُطْلَقًا أَنْ لا يَضُرَّ بِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ. قَوْلُهُ: (وَأَنَّ عُمَرَ حَمَى شرف) . لَفْظُ الْبُخَارِيِّ (الشَّرَفُ) بِالتَّعْرِيفِ. بَاب مَا جَاءَ فِي إقْطَاعِ الْمَعَادِنِ 3124- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقْطَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِلالَ بْنَ الْحَارِثِ الْمُزَنِيّ مَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةِ جَلْسِيَّهَا وَغَوْرِيَّهَا وَحَيْثُ يَصْلُحُ الزَّرْعُ مِنْ قُدْسٍ، وَلَمْ يُعْطِهِ حَقَّ مُسْلِمٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3125- وَرَوَيَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ. 3126- وَعَنْ أَبْيَضَ بْنِ حَمَّالٍ: أَنَّهُ وَفَدَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَقْطَعَهُ الْمِلْحَ، فَقَطَعَ لَهُ فَلَمَّا أَنْ وَلَّى قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمَجْلِسِ: أَتَدْرِي مَا أَقْطَعْت لَهُ؟ إنَّمَا أَقْطَعْتَهُ الْمَاءَ الْعِدَّ، قَالَ: فَانْتَزَعَهُ مِنْهُ قَالَ: وَسَأَلَهُ عَمَّا يُحْمَى مِنْ الأَرَاكِ، فَقَالَ: مَا لَمْ تَنَلْهُ خِفَافُ الإِبِلِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ ... (أَخْفَافُ الإِبِلِ) . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَخْزُومِيُّ: يَعْنِي: أَنَّ الإِبِلَ تَأْكُلُ مُنْتَهَى رُءُوسِهَا وَيُحْمَى مَا فَوْقَهُ. 3127- وَعَنْ بُهَيْسَةَ قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ أَبِي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَعَلَ يَدْنُو مِنْهُ وَيَلْتَزِمُهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: «الْمَاءُ» . قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: «الْمِلْحُ» . قَالَ: يَا نَبِيَّ

(2/122)


اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: «أَنْ تَفْعَلَ الْخَيْرَ خَيْرٌ لَكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى: وأحاديث الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ ... لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَلِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ الأَئِمَّةِ إقْطَاعُ الْمَعَادِنِ، وَالْمُرَادُ بِالإِقْطَاعِ: جَعْلُ بَعْضِ الأَرَاضِي الْمَوَاتِ مُخْتَصَّةً بِبَعْضِ الأَشْخَاصِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مَعْدِنًا أَوْ أَرْضًا لِمَا سَيَأْتِي فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْبَعْضُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَوَاتِ الَّتِي لا يَخْتَصُّ بِهَا أَحَدٌ، وَهَذَا أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: (قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ) إلَى آخره ذَكَرَ الْخَطَّابِيِّ وجْهًا آخر فَقَالَ: إنَّمَا يُحْمَى مِنْ الأَرَاكِ مَا بَعُدَ عَنْ حَضْرَةِ الْعِمَارَةِ فَلا تَبْلُغُهُ الإِبِلُ الرَّائِحَةُ إذَا أُرْسِلَتْ فِي الرَّعْيِ. بَابُ إقْطَاعِ الأَرَاضِي 3128- عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - فِي حَدِيثٍ ذَكَرَتْهُ - قَالَتْ: كُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَأْسِي وَهُوَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهُوَ حُجَّةٌ فِي سَفَرِ الْمَرْأَةِ الْيَسِيرِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ. 3129- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَقْطَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الزُّبَيْرَ حُضْرَ فَرَسِهِ، وَأَجْرَى الْفَرَسَ حَتَّى قَامَ، ثُمَّ رَمَى بِسَوْطِهِ فَقَالَ: «أَقْطِعُوهُ حَيْثُ بَلَغَ السَّوْطُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3130- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ قَالَ: خَطَّ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَارًا بِالْمَدِينَةِ بِقَوْسٍ وَقَالَ: «أَزِيدُكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 3131- وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَقْطَعَهُ أَرْضًا بِحَضْرَمَوْتَ، وَبَعَثَ مُعَاوِيَةَ لِيُقْطِعَهَا إيَّاهُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3132- وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ قَالَ: أَقَطَعَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَرْضَ كَذَا وَكَذَا فَذَهَبَ الزُّبَيْرُ إلَى آلِ عُمَرَ

(2/123)


فَاشْتَرَى نَصِيبَهُ مِنْهُمْ، فَأَتَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَقَالَ: إنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَقْطَعَهُ وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَرْضَ كَذَا وَكَذَا، وَإِنِّي اشْتَرَيْت نَصِيبَ آلِ عُمَرَ، فَقَالَ عُثْمَانُ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ جَائِزُ الشَّهَادَةِ لَهُ وَعَلَيْهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3133- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: دَعَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الأَنْصَارَ لِيُقْطِعَ لَهُمْ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ فَعَلْت فَاكْتُبْ لَإِخْوَانِنَا مِنْ قُرَيْشٍ بِمِثْلِهَا، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى: وأحاديث الْبَابِ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ الأَئِمَّةِ إقْطَاعُ الأَرَاضِي وَتَخْصِيصُ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ بِذَلِكَ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي الإِقْطَاعِ غَيْرُ أَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ وَالْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ إلى أن قَالَ وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَزَلَ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ تَحْتَ دَوْمَةٍ، فَأَقَامَ ثَلاثًا ثُمَّ خَرَجَ إلَى تَبُوكَ، وَأَنَّ جُهَيْنَةَ لَحِقُوهُ بِالرَّحَبَةِ، فَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ أَهْلُ ذِي الْمَرْوَةِ» . فَقَالُوا: بَنُو رِفَاعَةَ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَقَالَ: «قَدْ أَقْطَعْتهَا لِبَنِي رِفَاعَةَ، فَاقْتَسَمُوهَا» . فَمِنْهُمْ مَنْ بَاعَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَمْسَكَ فَعَمِلَ. بَابُ الْجُلُوسِ فِي الطُّرُقَاتِ الْمُتَّسِعَةِ لِلْبَيْعِ وَغَيْرِهِ 3134- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ» . فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ: «إذَا أَبَيْتُمْ إلا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا» . قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلامِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3135- وَعَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَامّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَأَنْ يَحْمِلَ أَحَدُكُمْ حَبْلًا فَيَحْتَطِبَ، ثُمَّ يَجِيءَ فَيَضَعَهُ فِي السُّوقِ فَيَبِيعَهُ، ثُمَّ يَسْتَغْنِيَ بِهِ فَيُنْفِقَهُ عَلَى نَفْسِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى: قَوْلُهُ: (مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ) فِيهِ دَلِيلٌ

(2/124)


عَلَى أَنَّ التَّحْذِيرَ لِلإِرْشَادِ لا لِلْوُجُوبِ، وَفِيهِ مُتَمَسَّكٌ لِمَنْ يَقُولُ: إنَّ سَدَّ الذَّرَائِعِ بِطَرِيقِ الأَوْلَى لا عَلَى الْحَتْمِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ دَفْعَ الْمَفْسَدَةِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ وَحَدِيثُ الزُّبَيْرِ قَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَا هُنَا لِقَوْلِهِ فِيهِ (فَيَضَعُهُ فِي السُّوقِ فَيَبِيعُهُ) . انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَنْ وَجَدَ دَابَّةً قَدْ سَيَّبَهَا أَهْلُهَا رَغْبَةً عَنْهَا 3136- عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ وَجَدَ دَابَّةً قَدْ عَجَزَ عَنْهَا أَهْلُهَا أَنْ يَعْلِفُوهَا فَسَيَّبُوهَا فَأَخَذَهَا فَأَحْيَاهَا فَهِيَ لَهُ» . قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَقُلْتُ لَهُ: عَمَّنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ. 3137- وَعَنْ الشَّعْبِيِّ يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ تَرَكَ دَابَّةً بِمُهْلَكَةٍ فَأَحْيَاهَا رَجُلٌ فَهِيَ لِمَنْ أَحْيَاهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى: قَوْلُهُ: «فَهِيَ لَهُ» أَخَذَ بِظَاهِرِهِ أَحْمَدُ وَاللَّيْثُ وَالْحَسَنُ وَإِسْحَاقُ، فَقَالُوا: مَنْ تَرَكَ دَابَّةً بِمُهْلَكَةٍ فَأَخَذَهَا إنْسَانٌ فَأَطْعَمَهَا وَسَقَاهَا وَخَدَمَهَا إلَى أَنْ قَوِيَتْ عَلَى الْمَشْيِ وَالْحَمْلِ عَلَى الرُّكُوبِ مَلَكَهَا إلا أَنْ يَكُونَ مَالِكُهَا تَرَكَهَا لا لِرَغْبَةٍ عَنْهَا بَلْ لِيَرْجِعَ إلَيْهَا أَوْ ضَلَّتْ عَنْهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ لِمَالِكِهَا الأَوَّلِ، وَيَغْرَمُ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا الآخِذُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/125)


 كِتَابُ الْغَصْبِ وَالضَّمَانَاتِ

بَابُ النَّهْيِ عَنْ جِدِّهِ وَهَزْلِهِ 3138- عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ جَادًّا وَلا لاعِبًا، وَإِذَا أَخَذَ أَحَدُكُمْ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا عَلَيْهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 3139- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلا بِطِيبِ نَفْسِهِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَعُمُومُهُ حُجَّةٌ فِي السَّاحَةِ، الْغَصْبُ يُبْنَى عَلَيْهَا، وَالْعَيْنُ تَتَغَيَّرُ صِفَتُهَا أَنَّهَا لا تُمْلَكُ. 3140- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إلَى حَبْلٍ مَعَهُ، فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ: «لا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ جَادًّا وَلا لاعِبًا» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ أَخْذِ مَتَاعِ الإِنْسَانِ عَلَى جِهَةِ الْمَزْحِ وَالْهَزْلِ. قَوْلُهُ: «لا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ» إلَى آخره هَذَا أَمْرٌ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، قَالَ: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} وَمُصَرَّحٌ بِهِ فِي عِدَّةِ

(2/126)


أَحَادِيثَ ومجمع عَلَيْهِ عِنْدَ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَمُتَوَافِقٌ عَلَى مَعْنَاهُ الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ، وَقَدْ خُصِّصَ هَذَا الْعُمُومُ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا الزَّكَاةُ كُرْهًا وَالشُّفْعَةُ وَإِطْعَامُ الْمُضْطَرِّ وَالْقَرِيبِ وَالْمُعْسِرِ وَالزَّوْجَةِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ. قَوْلُهُ: «لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا» . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ تَرْوِيعُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ بِمَا صُورَتُهُ صُورَةُ الْمَزْحِ. بَابُ إثْبَاتِ غَصْبِ الْعَقَارِ 3141- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ ظَلَمَ شِبْرًا مِنْ الأَرْضِ طَوَّقَهُ اللَّهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3142- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ... «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ الأَرْضِ ظُلْمًا فَإِنَّهُ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3143- وَفِي لَفْظٍ لأَحْمَدَ «مَنْ سَرَقَ» . 3144- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنْ الأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ طَوَّقَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3145- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَخَذَ مِنْ الأَرْضِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقٍّ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى سَبْعِ أَرَضِينَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 3146- وَعَنْ الأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ كِنْدَةَ وَرَجُلًا مِنْ حَضْرَمَوْتَ اخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَرْضٍ بِالْيَمَنِ، فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْضِي اغْتَصَبَهَا هَذَا وَأَبُوهُ، فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْضِي وَرِثْتُهَا مِنْ أَبِي، فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَحْلِفْهُ إنَّهُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهَا أَرْضِي وَأَرْضُ وَالِدِي اغْتَصَبَهَا أَبُوهُ، فَتَهَيَّأَ الْكِنْدِيُّ لِلْيَمِينِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّهُ لا يَقْتَطِعُ عَبْدٌ أَوْ رَجُلٌ بِيَمِينِهِ مَالًا إلا لَقِيَ اللَّهَ - يَوْمَ يَلْقَاهُ - وَهُوَ

(2/127)


أَجْذَمُ» . فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضُهُ وَأَرْضُ وَالِدِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى: قَوْلُهُ: «مَنْ ظَلَمَ شِبْرًا» فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «قِيدَ شِبْرٍ» . وَكَأَنَّهُ ذَكَرَ الشِّبْرَ إشَارَةً إلَى اسْتِوَاءِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي الْوَعِيدِ، وأحاديث الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى تَغْلِيظِ عُقُوبَةِ الظُّلْمِ وَالْغَصْبِ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ تُخُومَ الأَرْضِ تُمَلَّكُ، فَيَكُونُ لِلْمَالِكِ مَنْعُ مَنْ رَامَ أَنْ يَحْفِرَ تَحْتَهَا حَفِيرَةً قَالَ فِي الْفَتْحِ: إنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ أَرْضًا مَلَكَ أَسْفَلَهَا إلَى مُنْتَهَى الأَرْضِ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ حَفَرَ تَحْتَهَا سَرَبًا أَوْ بِئْرًا بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَأَنَّ مَنْ مَلَكَ ظَاهِرَ الأَرْضِ مَلَكَ بَاطِنَهَا بِمَا فِيهِ مِنْ حِجَارَةٍ وَأَبْنِيَةٍ وَمَعَادِنَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَنْزِلَ بِالْحَفْرِ مَا شَاءَ مَا لَمْ يَضُرَّ بِمَنْ يُجَاوِرُهُ. وَقِصَّةُ الْحَضْرَمِيِّ وَالْكِنْدِيِّ سَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِي بَابِ اسْتِحْلافِ الْمُنْكِرِ مِنْ كِتَابِ الأَقْضِيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ َتعَالَى وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا إذَا طُلِبَتْ يَمِينُ الْعِلْمِ وَجَبَتْ، وَعَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي أَنْ يَعِظَ مَنْ رَامَ الْحَلِفَ. بَابُ تَمَلُّكِ زَرْعِ الْغَالِبِ بِنَفَقَتِهِ وَقَلْعِ غَراسِهِ 3147- عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ شَيْءٌ وَلَهُ نَفَقَتُهُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. 3148- وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» . قَالَ: وَلَقَدْ أَخْبَرَنِي الَّذِي حَدَّثَنِي هَذَا الْحَدِيثَ: أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غَرَسَ أَحَدُهُمَا نَخْلًا فِي أَرْضِ الآخَرِ فَقَضَى لِصَاحِبِ الأَرْضِ بِأَرْضِهِ، وَأَمَرَ صَاحِبَ النَّخْلِ أَنْ يُخْرِجَ نَخْلَهُ مِنْهَا، قَالَ: فلقد رَأَيْتهَا وَإِنَّهَا لَتُضْرَبُ أُصُولُهَا بِالْفُؤُوسِ وَإِنَّهَا لَنَخْلٌ عُمٌّ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى: قَوْلُهُ: «فَلَيْسَ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ شَيْءٌ» . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ أَرْضًا وَزَرَعَهَا كَانَ الزَّرْعُ لِلْمَالِكِ لِلأَرْضِ، وَلِلْغَاصِبِ مَا غَرِمَهُ فِي الزَّرْعِ يُسَلِّمُهُ لَهُ مَالِكُ الأَرْضِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا

(2/128)


الْحَدِيثِ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ قَالَ ابْنُ رِسْلانَ: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهِ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ مَنْ زَرَعَ بَذْرَا فِي أَرْضِ غَيْرِهِ وَاسْتَرْجَعَهَا صَاحِبُهَا فَلا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَسْتَرْجِعَهَا مَالِكُهَا وَيَأْخُذَهَا بَعْدَ حَصَادِ الزَّرْعِ أَوْ يَسْتَرْجِعَهَا وَالزَّرْعُ قَائِمٌ قَبْلَ أَنْ يُحْصَدَ، فَإِنْ أَخَذَهَا مُسْتَحِقُّهَا بَعْدَ حَصَادِ الزَّرْعِ فَإِنَّ الزَّرْعَ لِغَاصِبِ الأَرْضِ لا يُعْلَمُ فِيهِ خِلافٌ، وَذَلِكَ لأَنَّهُ نَمَاءُ مَالِهِ، وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الأَرْضِ إلَى وَقْتِ التَّسْلِيمِ وَضَمَانُ نَقْصِ الأَرْضِ وَتَسْوِيَةُ حُفَرِهَا وَإِنْ أَخَذَ الأَرْضَ صَاحِبُهَا مِنْ الْغَاصِبِ وَالزَّرْعُ فِيهَا قَائِمٌ لَمْ يَمْلِكْ إجْبَارَ الْغَاصِبِ عَلَى قَلْعِهِ، وَخُيِّرَ الْمَالِكُ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ نَفَقَتَهُ وَيَكُونَ الزَّرْعُ لَهُ، أَوْ يَتْرُكَ الزَّرْعَ لِلْغَاصِبِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: إنَّ صَاحِبَ الأَرْضِ يَمْلِكُ إجْبَارَ الْغَاصِبِ عَلَى قَلْعِهِ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - «لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» وَيَكُونُ الزَّرْعُ لِمَالِكِ الْبَذْرِ عِنْدَهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعَلَيْهِ كِرَاءُ الأَرْضِ. وَحَدِيثَ «لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» وَرَدَ فِي الْغَرْسِ الَّذِي لَهُ عِرْقٌ مُسْتَطِيلٌ فِي الأَرْضِ، وَحَدِيثُ رَافِعٍ وَرَدَ فِي الزَّرْعِ فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَيُعْمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي مَوْضِعِهِ، قَالَ الشَّارِحُ: وَلا يَخْفَى أَنَّ حَدِيثَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَخَصُّ مِنْ قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» مُطْلَقًا فَيُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: (وَأَمَرَ صَاحِبَ النَّخْلِ) إلَى آخره فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْحُكْمُ عَلَى مَنْ غَرْسَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ غُرُوسًا بِغَيْرِ إذْنِهِ بِقَطْعِهَا. قَوْلُهُ: (عُمٌّ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ جَمْعُ (عَمِيمَةٍ) وَهِيَ: الطَّوِيلَةُ. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَإِذَا فَسَدَتِ الْمُزَارَعَة أَوْ الْمُسَاقَاة أَوْ الْمُضَارَبَة اسْتَحَقَّ الْعَامِلُ نَصِيب الْمِثْلِ، وَهُوَ مَا جَرَتْ الْعَادَة فِي مِثْلِهِ لا أُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَإِذَا كُنَّا نَقُولُ فِي الْغَاصِِبِ إِنْ زَرَعَهُ لِرَبِّ الأَرْضِ وَعَلَيْهِ النَّفَقَة فَلأَنْ نَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ إِنَّ الزَّرْعََ لِرَبِّ الأَرْضِ وَإِنْ كَانَ الْبَذْرِ لِغَيْرِهِ أَوْلَى.

(2/129)


بَابُ مَا جَاءَ فِيمَنْ غَصَبَ شَاةً فَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا أَوْ طَبَخَهَا 3149- عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ أَخْبَرَهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا رَجَعَ اسْتَقْبَلَهُ دَاعِي امْرَأَةٍ، فَجَاءَ وَجِيءَ بِالطَّعَامِ فَوَضَعَ يَدَهُ، ثُمَّ وَضَعَ الْقَوْمُ فَأَكَلُوا، فَنَظَرَ آبَاؤُنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَلُوكُ لُقْمَةً فِي فَمِهِ ثُمَّ قَالَ: «أَجِدُ لَحْمَ شَاةٍ أُخِذَتْ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهَا» . فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَرْسَلْت إلَى الْبَقِيعِ يَشْتَرِي لِي شَاةً فَلَمْ أَجِدْ، فَأَرْسَلْت إلَى جَارٍ لِي قَدْ اشْتَرَى شَاةً أَنْ أَرْسِلْ بِهَا إلَيَّ بِثَمَنِهَا فَلَمْ يُوجِدْ، فَأَرْسَلْت إلَى امْرَأَتِهِ، فَأَرْسَلَتْ إلَيَّ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَطْعِمِيهِ الأُسَارَى» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ. 3150- وَفِي لَفْظٍ لَهُ: ثُمَّ قَالَ: «إنِّي لَأَجِدُ لَحْمَ شَاةٍ ذُبِحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهَا» . فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخِي، وَأَنَا مِنْ أَعَزِّ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ خَيْرًا مِنْهَا لَمْ يُغَيِّرْ عَلَيَّ، وَعَلَيَّ أَنْ أُرْضِيَهُ بِأَفْضَلَ مِنْهَا، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَأَمَرَ بِالطَّعَامِ لِلأُسَارَى. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ إجَابَةِ الدَّاعِي وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً وَالْمَدْعُوُّ رَجُلًا أَجْنَبِيًّا إذَا لَمْ يُعَارِضْ ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ مُسَاوِيَةٌ أَوْ رَاجِحَةٌ، وَفِيهِ مُعْجِزَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ظَاهِرَةٌ لِعَدَمِ إسَاغَتِهِ لِذَلِكَ اللَّحْمِ وَإِخْبَارِهِ بِمَا هُوَ الْوَاقِعُ مِنْ أَخْذِهَا بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهَا وَفِيهِ تَجَنُّبُ مَا كَانَ مِنْ الْمَأْكُولاتِ حَرَامًا أَوْ مُشْتَبِهًا، وَعَدَمُ الِاتِّكَالِ عَلَى تَجْوِيزِ إذْنِ مَالِكِهِ بَعْدَ أَكْلِهِ وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُ مَا كَانَ كَذَلِكَ إلَى مَنْ يَأْكُلُهُ كَالأُسَارَى وَمَنْ كَانَ عَلَى صِفَتِهِمْ وَقَدْ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ لِلِاسْتِدْلالِ بِهِ عَلَى حُكْمِ مَنْ غَصَبَ شَاةً فَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا أَوْ طَبَخَهَا كَمَا وَقَعَ فِي التَّرْجَمَةِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَحُكِيَ فِي الْبَحْرِ عَنْ الْقَاسِمِيَّةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَالِكَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ طَلَبِ الْقِيمَةِ وَبَيْنَ أَخْذِ الْعَيْنِ كَمَا هِيَ وَعَدَمِ لُزُومِ الأَرْشِ؛ لأَنَّ الْغَاصِبَ لَمْ يَسْتَهْلِكْ مَا يَنْفَرِدُ بِالتَّقْوِيمِ وَحُكِيَ عَنْ الْمُؤَيَّدِ بِاَللَّهِ وَالنَّاصِرِ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ أَنَّهُ يَأْخُذُ الْعَيْنَ مَعَ الأَرْشِ كَمَا لَوْ قَطَعَ الأُذُنَ وَنَحْوَهَا وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْقِيمَةِ أَوْ الْعَيْنِ مَعَ الأَرْشِ.

(2/130)


بَابُ مَا جَاءَ فِي ضَمَانِ الْمُتْلَفِ بِجِنْسِهِ 3151- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَهْدَتْ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلَيْهِ طَعَامًا فِي قَصْعَةٍ، فَضَرَبَتْ عَائِشَةُ الْقَصْعَةَ بِيَدِهَا فَأَلْقَتْ مَا فِيهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «طَعَامٌ بِطَعَامٍ وَإِنَاءٌ بِإِنَاءٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3152- وَهُوَ بِمَعْنَاهُ لِسَائِرِ الْجَمَاعَةِ إلا مُسْلِمًا. 3153- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْت صَانِعَةً طَعَامًا مِثْلَ صَفِيَّةَ، أَهْدَتْ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إنَاءً مِنْ طَعَامٍ، فَمَا مَلَكْت نَفْسِي أَنْ كَسَرْتُهُ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَفَّارَتُهُ؟ فقَالَ: «إنَاءٌ كَإِنَاءٍ وَطَعَامٌ كَطَعَامٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «إنَاءٌ بِإِنَاءٍ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقِيَمِيَّ يُضْمَنُ بِمِثْلِهِ وَلا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ إلا عِنْدَ عَدَمِ الْمِثْلِ إلى أن قَالَ، وَلا خِلافَ فِي أَنَّ الْمِثْلِيَّ بِمِثْلِهِ. انتهى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَيُضْمَنُ الْمَغْصُوب بِمِثْلِهِ مُكَيَّلاً أَوْ مَوْزُونًا أَوْ غَيْرِهِمَا حَيْثُ أمكنَ، وَإِلا فَالْقِيمَة، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عَنْد أَبِي مُوسَى وَقَالَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَإِذَا تَغَيَّرَ السِّعْر وَفُقِدَ الْمِثْلِ فَيَنْتَقَلَ إِلَى الْقِيمَةِ وَقْتَ الْغَصْبِ وَهُوَ أَرْجَحَ الأَقْوَالِ. انْتَهَى. بَابُ جِنَايَةِ الْبَهِيمَةِ 3154- قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ» . 3155- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الرِّجْلُ جُبَارٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 3156- وَعَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةُ أَنَّ نَاقَةَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطًا فَأَفْسَدَتْ فِيهِ، فَقَضَى نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظُهَا بِالنَّهَارِ، وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتْ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَامِنٌ عَلَى أَهْلِهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ.

(2/131)


3157- وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ وَقَفَ دَابَّةً فِي سَبِيلٍ مِنْ سُبُلِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي سُوقٍ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ، فَأَوْطَأَتْ بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ فَهُوَ ضَامِنٌ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَهَذَا عِنْدَ بَعْضِهِمْ فِيمَا إذَا وَقَفَهَا فِي طَرِيقٍ ضَيِّقٍ أَوْ حَيْثُ يَضُرُّ الْمَارَّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «جُبَارٌ» بِضَمِّ الْجِيمِ، أَيْ: هَدَرٌ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ جِنَايَةَ الْبَهَائِمِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ بِنَفْسِهَا وَلَمْ تَكُنْ عَقُورًا وَلا فَرَّطَ مَالِكُهَا فِي حِفْظِهَا حَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحِفْظُ وَذَلِكَ فِي اللَّيْلِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةُ، وَكَذَلِكَ فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَطُرُقِهِمْ وَمَجَامِعِهِمْ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ. قَوْلُهُ: «الرِّجْلُ» بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، يَعْنِي: أَنَّهُ لا ضَمَانَ فِيمَا جَنَتْهُ الدَّابَّةُ بِرِجْلِهَا، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لا يَكُونَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ مِنْ مَالِكِهَا كَتَوْقِيفِهَا فِي الأَسْوَاقِ وَالطُّرُقِ وَالْمَجَامِعِ وَطَرْدِهَا فِي تِلْكَ الأَمْكِنَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ النُّعْمَانِ، وَبِشَرْطِ أَنْ لا يَكُونَ ذَلِكَ فِي الأَوْقَاتِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ حِفْظُهَا فِيهَا كَاللَّيْلِ وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَقَالُ وَلَكِنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ مَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «جَرْحُهَا جُبَارٌ» فَإِنَّ عُمُومَهُ يَقْتَضِي عَدَمَ الْفَرْقِ بَيْنَ جِنَايَتِهَا بِرِجْلِهَا أَوْ بِغَيْرِهَا. قَوْلُهُ: «ضَامِنٌ عَلَى أَهْلِهَا» أَيْ: مَضْمُونٌ عَلَى أَهْلِهَا وَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ «وَإِنَّ حِفْظَ الْمَاشِيَةِ بِاللَّيْلِ عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ عَلَى أَهْلِ الْمَاشِيَةِ مَا أَصَابَتْ مَاشِيَتُهُمْ بِاللَّيْلِ» . انتهى. وقَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَمَنْ أَمَرَ رَجُلاً بِإِمْسَاكِ دَابَّة ضَارِيَة فَجَنَتْ عَلَيْهِ ضَمِنَهُ إِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِهَا، وَيَضْمَنُ جِنَايَة وَلَدَ الدَّابَةِ إِنْ فَرَّطَ نَحْوَ أَنْ يَعْرِفَه شمُوسًا، وَالدَّابَة إِذَا أَرْسَلَهَا صَاحِبَهَا بِالليلِ كَانَ مُفَرِّطًا فَهُوَ كَمَا إِذَا أَرْسَلَهَا قُرْب زَرْع وَلَوْ كَاَنَ مَعَهَا رَاكبًا أَوْ قَائِدًا أَوْ سَائِقًا فَمَا أَفْسَدَتْ بِفَمِهَا أَوْ يَدِهَا فَهُوَ عَلَيْهِ لأَنَّهُ تَفْرِيطٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدٍ. انْتَهَى.

(2/132)


بَابُ دَفْعِ الصَّائِلِ وَإِنْ أَدَّى إلَى قَتْلِهِ وَأَنَّ الْمَصُولَ عَلَيْهِ يُقْتَلُ شَهِيدًا 3158- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي، قَالَ: «فَلا تُعْطِهِ مَالَك» . قَالَ: أَرَأَيْت إنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: «قَاتِلْهُ» . قَالَ: أَرَأَيْت إنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: «فَأَنْتَ شَهِيدٌ» . قَالَ: أَرَأَيْت إنْ قَتَلْته؟ قَالَ: «هُوَ فِي النَّارِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 3159- وَأَحْمَدُ وَفِي لَفْظِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ عَدَا عَلَى مَالِي؟ قَالَ: «أَنْشِدْ اللَّهَ» . قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا عَلَيَّ قَالَ: «أَنْشِدْ اللَّهَ» . قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا عَلَيَّ؟ قَالَ: «قَاتِلْ، فَإِنْ قُتِلْتَ فَفِي الْجَنَّةِ وَإِنْ قَتَلْتَ فَفِي النَّارِ» . فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ أَنَّهُ يُدْفَعُ بِالأَسْهَلِ فَالأَسْهَلِ. 3160- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3161- وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ أُرِيدَ مَالُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَاتَلَ فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3162- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وأحاديث الْبَابِ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَجُوزُ مُقَاتَلَةُ مَنْ أَرَادَ أَخْذَ مَالِ إنْسَانٍ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ إذَا كَانَ الأَخْذُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَكَمَا تَدُلُّ الأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى جَوَازِ الْمُقَاتَلَةِ لِمَنْ أَرَادَ أَخْذَ الْمَالِ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمُقَاتَلَةِ لِمَنْ أَرَادَ إرَاقَةَ الدَّمِ وَالْفِتْنَةَ فِي الدِّينِ وَالأَهْلِ وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أُرِيدَ مَالُهُ أَوْ نَفْسُهُ أَوْ حَرِيمُهُ فَلَهُ الْمُقَاتَلَةُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ عَقْلٌ وَلا دِيَةٌ وَلا كَفَّارَةٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَدْفَعَ عَمَّا ذُكِرَ إذَا أُرِيدَ ظُلْمًا بِغَيْرِ تَفْصِيلٍ، إلا أَنَّ كُلَّ مَنْ يُحْفَظُ

(2/133)


عَنْهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ كَالْمُجْمِعِينَ عَلَى اسْتِثْنَاءِ السُّلْطَانِ لِلآثَارِ الْوَارِدَةِ بِالأَمْرِ بِالصَّبْرِ عَلَى جَوْرِهِ وَتَرْكِ الْقِيَامِ عَلَيْهِ. انْتَهَى. قلت: وهذا في المال والدم وأما الحريم فليزمه الدفع. بَابٌ فِي أَنَّ الدَّفْعَ لا يُلْزِمُ الْمَصُولُ عَلَيْهِ وَيُلْزِمُ الْغَيْرَ مَعَ الْقُدْرَةِ 3163- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ إذَا جَاءَ مَنْ يُرِيدُ قَتْلَهُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ ابْنَيْ آدَمَ الْقَاتِلُ فِي النَّارِ وَالْمَقْتُولُ فِي الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3164- وَعَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «فِي الْفِتْنَةِ كَسِّرُوا فِيهَا قِسِيَّكُمْ وَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ وَاضْرِبُوا بِسُيُوفِكُمْ الْحِجَارَةَ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَى أَحَدِكُمْ بَيْتَهُ فَلْيَكُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ. 3165- وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي» . قَالَ: أَرَأَيْت إنْ دَخَلَ عَلَيَّ بَيْتِي فَبَسَطَ يَدَهُ إلَيَّ لِيَقْتُلَنِي؟ قَالَ: «كُنْ كَابْنِ آدَمَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 3166- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أُذِلَّ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ فَلَمْ يَنْصُرْهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُ أَذَلَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَرْكِ الْمُقَاتَلَةِ وَعَدَمِ وُجُوبِ الْمُدَافَعَةِ عَنْ النَّفْسِ وَالْمَالِ. إلى أن قال: وَحَدِيثُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ نَصْرُ الْمَظْلُومِ وَدَفْعُ مَنْ أَرَادَ إذْلالَهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي كَسْرِ أَوَانِي الْخَمْرِ 3167- عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي اشْتَرَيْت خَمْرًا لَأَيْتَامٍ فِي حِجْرِي، فَقَالَ: «أَهْرِقْ الْخَمْرَ وَاكْسِرْ الدِّنَانَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ.

(2/134)


3168- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَمَرَنِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ آتِيَهُ بِمُدْيَةٍ وَهِيَ الشَّفْرَةُ، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَأَرْسَلَ بِهَا فَأُرْهِفَتْ، ثُمَّ أَعْطَانِيهَا فَقَالَ: ... «اُغْدُ عَلَيَّ بِهَا» . فَفَعَلْت، فَخَرَجَ بِأَصْحَابِهِ إلَى أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ وَفِيهَا زِقَاقُ الْخَمْرِ قَدْ جُلِبَتْ مِنْ الشَّامِ، فَأَخَذَ الْمُدْيَةَ مِنِّي فَشُقَّ مَا كَانَ مِنْ تِلْكَ الزِّقَاقِ بِحَضْرَتِهِ ثُمَّ أَعْطَانِيهَا، وَأَمَرَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَنْ يَمْضُوا مَعِي وَيُعَاوِنُونِي، وَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ الأَسْوَاقَ كُلَّهَا فَلا أَجِدُ فِيهَا زِقَّ خَمْرٍ إلا شَقَقْتُهُ، فَفَعَلْت، فَلَمْ أَتْرُكْ فِي أَسْوَاقِهَا زِقًّا إلا شَقَقْتُهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3169- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ إنَّ الَّتِي أَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ - أَنْ تُكْسَرَ دِنَانُهُ وَأَنْ تُكْفَأَ لَمِنْ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وأحاديث الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إهْرَاقِ الْخَمْرِ وَكَسْرِ دِنَانِهَا وَشَقِّ زِقَاقِهَا وَإِنْ كَانَ مَالِكُهَا غَيْرَ مُكَلَّفٍ.

(2/135)


 كِتَابُ الشُّفْعَةِ

3170- عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلا شُفْعَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 3171- وَفِي لَفْظٍ: إنَّمَا جَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الشُّفْعَةَ. الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. 3172- وَفِي لَفْظٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلا شُفْعَةَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3173- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا قُسِمَتْ الدَّارُ وَحُدَّتْ فَلا شُفْعَةَ فِيهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ بِمَعْنَاهُ. 3174- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَرِكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ، رَبْعَةٌ أَوْ حَائِطٌ لا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، فَإِنْ بَاعَهُ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 3175- وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِالشُّفْعَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ فِي الأَرَضِينَ وَالدُّورِ. رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي الْمُسْنَدِ، وَيَحْتَجُّ بِعُمُومِهِ مَنْ أَثْبَتَهَا لِلشَّرِيكِ فِيمَا تَضُرُّهُ الْقِسْمَةُ. 3176- وَعَنْ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ مِنْ

(2/136)


غَيْرِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3177- وَعَنْ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْد قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْضٌ لَيْسَ لأَحَدٍ فِيهَا شِرْكٌ وَلا قَسْمٌ إلا الْجِوَارُ؟ فَقَالَ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ مَا كَانَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. 3178- وَلِابْنِ مَاجَةْ مُخْتَصَرُ «الشَّرِيكِ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ مَا كَانَ» . 3179- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ قَالَ: وَقَفْت عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَجَاءَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ ثُمَّ جَاءَ أَبُو رَافِعٍ - مَوْلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا سَعْدُ ابْتَعْ مِنِّي بَيْتَيَّ فِي دَارِكَ، فَقَالَ سَعْدٌ: وَاَللَّهِ مَا أَبْتَاعُهَا، فَقَالَ الْمِسْوَرُ: وَاَللَّهِ لَتَبْتَاعَنَّهَا، فَقَالَ سَعْدٌ: وَاَللَّهِ مَا أَزِيدُكَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلافٍ مُنَجَّمَةٍ - أَوْ مُقَطَّعَةٍ - قَالَ أَبُو رَافِعٍ: لَقَدْ أُعْطِيتُ بِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ، وَلَوْلا أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ» . مَا أَعْطَيْتُكَهَا بِأَرْبَعَةِ آلافٍ وَأَنَا أُعْطَى بِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ، فَأَعْطَاهَا إيَّاهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 2458 - وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِهِ يُنْتَظَرُ بِهَا وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ) ظَاهِرُ هَذَا الْعُمُومِ ثُبُوتُ الشُّفْعَةِ فِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ، وَأَنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ الْحَيَوَانِ وَالْجَمَادِ الْمَنْقُولِ وَغَيْرِهِ. قَوْلُهُ: (فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ) أَيْ: حَصَلَتْ قِسْمَةُ الْحُدُودِ فِي الْمَبِيعِ وَاتَّضَحَتْ بِالْقِسْمَةِ مَوَاضِعُهَا. قَوْلُهُ: (وَصُرِفَتْ) بِضَمِّ الصَّادِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ، وَقِيلَ: بِتَشْدِيدِهَا: أَيْ: بُيِّنَتْ مَصَارِفُهَا. قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: مَعْنَاهُ خَلَصَتْ وَبَانَتْ. قَوْلُهُ: (فَلا شُفْعَةَ) اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إنَّ الشُّفْعَةَ لا تَثْبُتُ إلا بِالْخُلْطَةِ لا بِالْجِوَارِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/137)


قَوْلُهُ: (لا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ) إلَى آخره ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الشَّرِيكِ إذَا أَرَادَ الْبَيْعَ أَنْ يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ. قَوْلُهُ: (فَإِنْ بَاعَهُ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يُؤْذِنْهُ شَرِيكُهُ بِالْبَيْعِ، وَأَمَّا إذَا أَعْلَمَهُ الشَّرِيكُ بِالْبَيْعِ فَأَذِنَ فِيهِ فَبَاعَ ثُمَّ أَرَادَ الشَّرِيكُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالشُّفْعَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْهَادَوِيَّةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْبَتِّيُّ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالشُّفْعَةِ وَلا يَكُونُ مُجَرَّدُ الإِذْنِ مُبْطِلاً لَهَا وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْحَكَمُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالشُّفْعَةِ بَعْدَ وُقُوعِ الإِذْنِ مِنْهُ بِالْبَيْعِ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ. انتهى. واختار الشيخ تقي الدين أنها تسقط. قلت: والأقرب أنه إن أسقطها بعد ثبوت الثمن واستقراره سقطت شفعته، وقبل ذلك لا تسقط. قَوْلُهُ: (مُنَجَّمَةٍ أَوْ مُقَطَّعَةٍ) شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي،، وَالْحَدِيثُ فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْعَرْضِ عَلَى الشَّرِيكِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَعْنَى الْخَبَرِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - إنَّمَا هُوَ الْحَثُّ عَلَى عَرْضِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْبَيْعِ عَلَى الْجَارِ وَتَقْدِيمُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الزَّبُونِ كَمَا فَهِمَهُ الرَّاوِي له فَإِِنَّهُ أَعْرَفُ بِمَا سَمِعَ. قَوْلُهُ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِهِ» قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: وَلا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ، وَقَدْ تَكَلَّمَ شُعْبَةُ فِي عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ هُوَ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ. انتهى. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَعَبْدُ الْمَلِكِ هَذَا ثِقَةٌ مَأْمُونٌ، وَلَكِنْ قَدْ أُنْكِرَ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ قَالَ شُعْبَةُ: سَهَا فِيهِ عَبْدُ الْمَلِكِ فَإِنْ رَوَى حَدِيثًا مِثْلَهُ طَرَحْتُ حَدِيثَهُ ثُمَّ تَرَكَ شُعْبَةُ التَّحْدِيثَ عَنْهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: هَذَا الْحَدِيثُ مُنْكَرٌ. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقَدْ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ.

(2/138)


قُلْتُ: وَيُقَوِّي ضَعْفَهُ رِوَايَةُ جَابِرٍ الصَّحِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَلا يَخْفَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلامِ هَؤُلاءِ الْحُفَّاظِ مَا يَقْدَحُ بِمِثْلِهِ وَقَدْ احْتَجَّ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بِحَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَخْرَجَ لَهُ أَحَادِيثَ، وَاسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَلَمْ يُخَرِّجَا لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ. قَوْلُهُ: «وَإِنْ كَانَ غَائِبًا» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شُفْعَةَ الْغَائِبِ لا تَبْطُلُ وَإِنْ تَرَاخَى. قَوْلُهُ: «إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجِوَارَ بِمُجَرَّدِهِ لا تَثْبُتُ بِهِ الشُّفْعَةُ، بَلْ لا بُدَّ مَعَهُ مِنْ اتِّحَادِ الطَّرِيقِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِاعْتِبَارَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ «فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلا شُفْعَةَ» . فَائِدَةٌ: مِنْ الأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الشُّفْعَةِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَةْ وَالْبَزَّارِ بِلَفْظِ: «لا شُفْعَةَ لِغَائِبٍ وَلا لِصَغِيرٍ، وَالشُّفْعَةُ كَحَلِّ عِقَالٍ» وَفِي إسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ وَلَهُ مَنَاكِيرُ كَثِيرَةٌ. وَقَالَ الْحَافِظُ: إنَّ إسْنَادَهُ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَضَعَّفَهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لا أَصْلَ لَهُ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: مُنْكَرٌ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَيْسَ بِثَابِتٍ. انتهى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ عقار يَقْبَلُ قِسْمَة الإِجْبَارِ بِاتِّفَاقَ الأَئِمَةِ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا فَرِوَايَتَانِِ، الصَّوَابُ الثُّبُوت وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَة وَاخْتِيَارُ ابْن سُرَيْجِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي الْوَفَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَتَثْبُتُ شُفْعَةُ الْجِوَارِ مَعَ الشِّرْكَةِ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ مِنْ طَرِيقٍ أَوْ مَاءٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِي الطَّرِيقِ وَقَالَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلا يَحِلُّ الاحْتِيَال لإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ. انْتَهَى.

(2/139)


 كِتَابُ اللُّقَطَةِ

3181- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: رَخَّصَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْعَصَا وَالسَّوْطِ وَالْحَبْلِ وَأَشْبَاهِهِ يَلْتَقِطُهُ الرَّجُلُ يَنْتَفِعُ بِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3182- وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ: «لَوْلا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا» . أَخْرَجَاهُ. وَفِيهِ إبَاحَةُ الْمُحَقَّرَاتِ فِي الْحَالِ. 3183- وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَوَيْ عَدْلٍ، أَوْ لِيَحْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَلا يَكْتُمْ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَجِئْ صَاحِبُهَا فَهُوَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. 3184- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَأْوِي الضَّالَّةَ إلا ضَالٌّ مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 3185- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: سُئِلَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - عَنْ اللُّقَطَةِ: الذَّهَبُ وَالْوَرِقِ، فَقَالَ: «اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ فَاسْتَنْفِقْهَا وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ، فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمَا مِنْ الدَّهْرِ، فَأَدِّهَا إلَيْهِ» . وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الإِبِلِ فَقَالَ: «مَالَكَ وَلَهَا؟ دَعْهَا فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا» . وَسَأَلَهُ عَنْ الشَّاةِ فَقَالَ: ... «خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(2/140)


3186- وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ أَحْمَدُ الذَّهَبُ أَوْ الْوَرِقُ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْتِقَاطِ الْغَنَمِ. 3187- فِي رِوَايَةٍ: «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَعَرَفَ عِفَاصَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا فَأَعْطِهَا إيَّاهُ وَإِلا فَهِيَ لَكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ. 3188- وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - فِي حَدِيثِ اللُّقَطَةِ - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «عَرِّفْهَا فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِعِدَّتِهَا وَوِعَائِهَا وَوِكَائِهَا فَأَعْطِهَا إيَّاهُ وَإِلا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا» . مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثِ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ. وَهُوَ دَلِيلُ وُجُوبِ الدَّفْعِ بِالصِّفَةِ. 3189- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: نَهَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ لُقَطَةِ الْحَاجِّ. رَوَاهُ أَحْمَد وَمُسْلِمْ. 3190- وَقَدْ سَبَقَ قَوْلُهُ فِي بَلَدِ مَكَّة: «وَلا تَحِلُّ لَقْطَتُهَا إِلا لِمَعْرُوف» . وَاحْتَجَّ بِهِمَا مَنْ قَالَ: لا تَمْلِكُ لَقْطَةَ الْحَرَم بِحال بَلْ تعرف أَبَدًا. 3191- وَعَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ جَرِيرٍ بِالْبَوَازِيجِ فِي السَّواد فَرَاحَتِ الْبَقَرُ فَرَأَى بَقَرَةً أَنْكَرَهَا، فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْبَقَرَةُ؟ قَالُوا: بَقَرَةٌ لَحِقَتْ بِالْبَقَرِ. فَأَمَرَ بِهَا فَطُرِدَتْ حَتَّى تَوَارَتْ ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لاَ يَأْوِى الضَّالَّةَ إِلاَّ ضَالٌّ» . رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَابنُ مَاجَةْ. وَلِمَالِك - فِي الْمُوَطَّأ - عَنْ ابن شِهَاب قَالَ: كَانَتْ ضَوَالُّ الإِبل - فِي زَمَنِ عُمَر بن الْخَطَّاب - إِبْلاً مُؤبلة تتناتج لا يمسها أَحَد حَتَّى إِذَا كَانَ عُثْمَان أَمَرَ بمعرفتها ثم تباع فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا أعطي ثمنها. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ» إلى آخره فيه دليل على أنه، يَجُوزُ لِلْمُلْتَقِطِ أن يرد اللُّقَطَةِ إلى من وصفها بالعلامات من دون إقامة البينة. قَوْلُهُ: (نهى عن لقطة الحاج) هذا النهي تأوله الجمهور بأن المراد به

(2/141)


النهى عن التقاط ذلك للملك، وأما للإنشاد بها فلا بأس، ويدل على ذلك قوله في الحديث الآخر: «ولا تحل لقطتها إلا لمعرف» . قَوْلُهُ: «لا يَأْوِي الضَّالَّةَ إلا ضَالٌّ» قَالَ الشَّارِحُ: وَالْمُرَادُ بِالضَّالَّةِ هُنَا مَا يَحْمِي نَفْسَهُ مِنْ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَيَقْدِرُ عَلَى الإِبْعَادِ فِي طَلَب الْمَرْعَى وَالْمَاءِ بِخِلافِ الْغَنَمِ، فَالْحَيَوَانُ الْمُمْتَنِعُ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ لا يَجُوزُ الْتِقَاطُهُ، وَلا يَجُوزُ لِغَيْرِ الإِمَامِ وَنَائِبِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَيَّدَ مُطْلَقُ هَذَا الْحَدِيثِ بِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ لِقَوْلِهِ فِيهِ: «مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا» وَأَمَّا الْتِقَاطُ الإِبِلِ وَنَحْوِهَا فَقَدْ اسْتُفِيدَ الْمَنْعُ مِنْهُ مِنْ قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا لَكَ وَلَهَا دَعْهَا» . انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/142)


 كِتَابُ الْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ

بَابُ افْتِقَارِهَا إلَى الْقَبُولِ وَالْقَبْضِ وَأَنَّهُ عَلَى مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ 3192- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ دُعِيت إلَى كُرَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ لَأَجَبْت، وَلَوْ أُهْدِيَ إلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْت» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 3193- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ أُهْدِيَ إلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْت، وَلَوْ دُعِيت عَلَيْهِ لَأَجَبْت» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3194- وَعَنْ خَالِدِ بْنِ عَدِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ جَاءَهُ مِنْ أَخِيهِ مَعْرُوفٌ مِنْ غَيْرِ إشْرَافٍ وَلا مَسْأَلَةٍ فَلْيَقْبَلْهُ وَلا يَرُدَّهُ فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3195- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ: كَانَتْ أُخْتِي رُبَّمَا تَبْعَثُنِي بِالشَّيْءِ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تُطْرِفُهُ إيَّاهُ فَيَقْبَلُهُ مِنِّي. 3196- وَفِي لَفْظٍ كَانَتْ تَبْعَثُنِي إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْهَدِيَّةِ فَيَقْبَلُهَا. رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ الْهَدِيَّةِ بِرِسَالَةِ الصَّبِيِّ؛ لأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُسْرٍ كَانَ كَذَلِكَ مُدَّةَ حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. 3197- وَعَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمَّا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أُمَّ

(2/143)


سَلَمَةَ قَالَ لَهَا: «إنِّي قَدْ أَهْدَيْت إلَى النَّجَاشِيِّ حُلَّةً وَأَوَاقِيَّ مِنْ مِسْكٍ، وَلا أَرَى النَّجَاشِيَّ إلا قَدْ مَاتَ، وَلا أَرَى هَدِيَّتِي إلا مَرْدُودَةً، فَإِنْ رُدَّتْ عَلَيَّ فَهِيَ لَكِ» . قَالَتْ: وَكَانَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرُدَّتْ عَلَيْهِ هَدِيَّتُهُ فَأَعْطَى كُلَّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ أُوقِيَّةَ مِسْكٍ، وَأَعْطَى أُمَّ سَلَمَةَ بَقِيَّةَ الْمِسْكِ وَالْحُلَّةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3198- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالَ: «انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ» . وَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ جَاءَهُ الْعَبَّاسُ - رضي الله عنه - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي فَإِنِّي فَادَيْت نَفْسِي وَعَقِيلًا، قَالَ: «خُذْ» . فَحَثَا فِي ثَوْبِهِ ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَقَالَ: مُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ إلَيَّ؟ قَالَ «لا» . قَالَ: ارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ؟ قَالَ: «لا» . فَنَثَرَ مِنْهُ ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَرْفَعْهُ، قَالَ: مُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ عَلَيَّ، قَالَ: «لا» . قَالَ: ارْفَعْهُ عَلَيَّ أَنْتَ، قَالَ: «لا» . فَنَثَرَ مِنْهُ ثُمَّ احْتَمَلَهُ عَلَى كَاهِلِهِ ثُمَّ انْطَلَقَ، فَمَا زَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ حَتَّى خَفِيَ عَلَيْنَا عَجَبًا مِنْ حِرْصِهِ، فَمَا قَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَثَمَّ مِنْهَا دِرْهَمٌ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّفْضِيلِ فِي ذَوِي الْقُرْبَى وَغَيْرِهِمْ وَتَرْكِ تَخْمِيسِ الْفَيْءِ، وَأَنَّهُ مَتَى كَانَ فِي الْغَنِيمَةِ ذُو رَحِمٍ لِبَعْضِ الْغَانِمِينَ لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ. 3199- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رضي الله عنه - كَانَ نَحَلَهَا جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْغَابَةِ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: يَا بُنَيَّةُ إنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا، وَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِهِ وَاحْتَرَثْتِهِ كَانَ لَكِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ وَارِثٍ فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَلْيَقْبَلْهُ» فِيهِ الأَمْرُ بِقَبُولِ الْهَدِيَّةِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الأَخِ فِي الدِّينِ لأَخِيهِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الرَّدِّ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ جَلْبِ الْوَحْشَةِ وَتَنَافُرِ الْخَوَاطِرِ، فَإِنَّ التَّهَادِيَ مِنْ الأَسْبَابِ الْمُورِثَةِ لِلْمَحَبَّةِ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» . قَوْلُهُ: «فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْهِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الأَشْيَاءَ الْوَاصِلَةَ إلَى الْعِبَادِ عَلَى أَيْدِي بَعْضِهِمْ هِيَ مِنْ الأَرْزَاقِ الإِلَهِيَّةِ لِمَنْ وَصَلَتْ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا

(2/144)


جَعَلَهَا اللَّهُ جَارِيَةً عَلَى أَيْدِي الْعِبَادِ لإِثَابَةِ مَنْ جَعَلَهَا عَلَى يَدِهِ فَالْمَحْمُودُ عَلَى جَمِيعِ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ: (فَيَقْبَلُهَا) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْقَبُولِ وَلأَجْلِ ذَلِكَ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أُمِّ كُلْثُومٍ فِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى اعْتِبَارِ الْقَبُولِ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا قَبَضَ الْهَدِيَّةَ الَّتِي بَعَثَ بِهَا إلَى النَّجَاشِيِّ بَعْدَ رُجُوعِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْهَدِيَّةَ لا تُمْلَكُ بِمُجَرَّدِ الإِهْدَاءِ، بَلْ لا بُدَّ مِنْ الْقَبُولِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: (جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا) بِجِيمٍ وَبَعْدَ الأَلِفِ دَالٌ مُهْمَلَةٌ مُشَدَّدَةٌ، أَيْ: أَعْطَاهَا مَالًا يُجِدُّ عِشْرِينَ وَسْقًا، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَحْصُلُ مِنْ ثَمَرَتِهِ ذَلِكَ، وَالْجَدُّ: صِرَامُ النَّخْلِ وَهَذَا الأَثَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ إنَّمَا تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ لِقَوْلِهِ: (لَوْ كُنْتِ جَدَدْتِهِ وَاحْتَرَثْتِهِ كَانَ لَكِ) وَذَلِكَ لأَنَّ قَبْضَ الثَّمَرَةِ يَكُونُ بِالْجِذَاذِ وَقَبْضَ الإِرْثِ بِالْحَرْثِ. انْتَهَى. تَنْبِيه: لَفْظُ الْمُوَطَّأِ: لَوْ كُنْت جددتيه واحتزتيه بالزاي. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَتَصِحُّ هِبَة الْمَعْدُومِ كَالثَّمَرِ وَاللبَنِ بِالسُّنَّةِ، وَاشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ هُنَا فِيهِ نَظَرٌ، بِخِلافِ الْبَيْعِ. وَتَصِحُّ هِبَةُ الْمَجْهُولُ كَقَوْلِهِ: (مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِي فَهُوَ لَكَ) أَو: (مَنْ وَجَدَ شَيْئًا مِنْ مَالِي فَهُوَ لَهُ) . وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ يَحْصُلُُ الْمُلْكُ بِالْقَبْضِ وَنَحْوُهُ، وَلِلْمُبِيحِ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا قَالَ قَبْل التَّمَلُّكِ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الْهِبَةِ يَتَأَخَّرُ الْقُبُولِ فِيهِ عَنْ الإِيجَابِ كَثِيرًا وَلَيْسَ بِإَبَاحَةٍ. انْتَهَى. بَابُ مَا جَاءَ فِي قَبُولِ هَدَايَا الْكُفَّارِ وَالإِهْدَاءِ لَهُمْ 3200- عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: أَهْدَى كِسْرَى لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَبِلَ مِنْهُ وَأَهْدَى لَهُ قَيْصَرُ فَقَبِلَ، وَأَهْدَتْ لَهُ الْمُلُوكُ فَقَبِلَ مِنْهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. 3201- وَفِي حَدِيثٍ عَنْ بِلالٍ الْمُؤَذِّنِ قَالَ: انْطَلَقْت حَتَّى أَتَيْته - يَعْنِي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَإِذَا أَرْبَعُ رَكَائِبَ مُنَاخَاتٍ عَلَيْهِنَّ أَحْمَالُهُنَّ فَاسْتَأْذَنْت، فَقَالَ لِي: «أَبْشِرْ فَقَدْ جَاءَك اللَّهُ بِقَضَائِك» . ثُمَّ قَالَ: «أَلَمْ تَرَ الرَّكَائِبَ الْمُنَاخَاتِ الأَرْبَعَ» ؟

(2/145)


فَقُلْت: بَلَى، فَقَالَ: «إنَّ لَك رِقَابَهُنَّ وَمَا عَلَيْهِنَّ فَإِنَّ عَلَيْهِنَّ كِسْوَةً وَطَعَامًا أَهْدَاهُنَّ إلَيَّ عَظِيمُ فَدَكَ فَاقْبِضْهُنَّ وَاقْضِ دَيْنَك» . فَفَعَلْت. مُخْتَصَرٌ لأَبِي دَاوُد. 3202- وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: أَتَتْنِي أُمِّي رَاغِبَةً فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فَسَأَلْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَصِلُهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3203- زَادَ الْبُخَارِيُّ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} وَمَعْنَى رَاغِبَةً: أَيْ طَامِعَةً تَسْأَلُنِي شَيْئًا. 3204- وَعَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَدِمَتْ قُتَيْلَةُ ابْنَةُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ سَعْدٍ عَلَى ابْنَتِهَا أَسْمَاءَ بِهَدَايَا ضِبَابٍ وَأَقِطٍ وَسَمْنٍ - وَهِيَ مُشْرِكَةٌ - فَأَبَتْ أَسْمَاءُ أَنْ تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا وَتُدْخِلَهَا بَيْتَهَا، فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} إلَى آخِرِ الآيَةِ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا وَأَنْ تُدْخِلَهَا بَيْتَهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3205- وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ: أَنَّهُ أَهْدَى لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - هَدِيَّةً أَوْ نَاقَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَسْلَمْتَ» ؟ قَالَ: لا. قَالَ: «إنِّي نُهِيتُ عَنْ زَبْدِ الْمُشْرِكِينَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِنْ الْكَافِرِ، وَيُعَارِضُهَا حَدِيثُ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الآتِي، وَسَيَأْتِي الْجَمْعُ بَيْنهَا وَبَيْنَهُ وَالآيَةُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْهَدِيَّةِ لِلْكَافِرِ مُطْلَقًا مِنْ الْقَرِيبِ وَغَيْرِهِ وَلا مُنَافَاةَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا بَيْنَ قَوْله تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآيَةُ، فَإِنَّهَا عَامَّةٌ فِي حَقِّ مَنْ قَاتَلَ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَالآيَةُ الْمَذْكُورَةُ خَاصَّةٌ بِمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَأَيْضًا الْبِرُّ وَالصِّلَةُ وَالإِحْسَانُ لا تَسْتَلْزِمُ التَّحَابَّ وَالتَّوَادَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَمِنْ الأَدِلَّةِ الْقَاضِيَةِ بِالْجَوَازِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} وَمِنْهَا أَيْضًا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَسَا عُمَرَ حُلَّةً فَأَرْسَلَ بِهَا إلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ. قَوْلُهُ: (فَأَمَرَهَا أَنْ تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا) إلَى آخره فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ هَدِيَّةِ الْمُشْرِكِ وَعَلَى جَوَازِ إنْزَالِهِ مَنَازِلَ الْمُسْلِمِينَ.

(2/146)


قَوْلُهُ: «زَبْدِ الْمُشْرِكِينَ» بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا دَالٌ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: هُوَ الرِّفْدِ قَالَ الْخَطَّابِيِّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخًا لأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ قَبِلَ هَدِيَّةَ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: إنَّمَا رَدَّهَا لِيَغِيظَهُ فَيَحْمِلَهُ ذَلِكَ عَلَى الإِسْلامِ وَقِيلَ: رَدَّهَا لأَنَّ لِلْهَدِيَّةِ مَوْضِعًا مِنْ الْقَلْبِ، وَلا يَجُوزُ أَنْ يَمِيلَ إلَيْهِ بِقَلْبِهِ، فَرَدَّهَا قَطْعًا لِسَبَبِ الْمِيلِ. بَابُ الثَّوَابُ عَلَى الْهَدِيَّةِ وَالْهِبَةِ 3206- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 3207- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا وَهَبَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - هِبَةً فَأَثَابَهُ عَلَيْهَا، قَالَ: «رَضِيتَ» ؟ قَالَ: لا، فَزَادَهُ قَالَ: «أَرَضِيتَ» ؟ قَالَ: لا، فَزَادَهُ، قَالَ: «أَرَضِيتَ» ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَقَدْ هَمَمْت أَنْ لا أَتَّهِبَ هِبَةً إلا مِنْ قُرَشِيٍّ أَوْ أَنْصَارِيٍّ أَوْ ثَقَفِيٍّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَيُثِيبُ عَلَيْهَا) أَيْ يُعْطِي الْمُهْدِي بَدَلَهَا، وَالْمُرَادُ بِالثَّوَابِ الْمُجَازَاةُ، وَأَقَلُّهُ مَا يُسَاوِي قِيمَةَ الْهَدِيَّةِ. بَابُ التَّعْدِيلِ بَيْنَ الأَوْلادِ فِي الْعَطِيَّةِ وَالنَّهْيِ أَنْ يَرْجِعَ أَحَدٌ فِي عَطِيَّتِهِ إلا الْوَالِدُ 3208- عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اعْدِلُوا بَيْنَ أَبْنَائِكُمْ، اعْدِلُوا بَيْنَ أَبْنَائِكُمْ، اعْدِلُوا بَيْنَ أَبْنَائِكُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 3209- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَتْ امْرَأَةُ بَشِيرٍ: انْحَلْ ابْنِي غُلامًا وَأَشْهِدْ لِي رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنَّ ابْنَةَ فُلانٍ سَأَلَتْنِي أَنْ أَنْحَلَ ابْنَهَا غُلامِي، فَقَالَ: «لَهُ إخْوَةٌ» ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَكُلُّهُمْ أَعْطَيْت مِثْلَ مَا أَعْطَيْته» ؟ قَالَ: لا. قَالَ: «فَلَيْسَ يَصْلُحُ هَذَا وَإِنِّي لا أَشْهَدُ إلا عَلَى حَقٍّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ.

(2/147)


3210- وَقَالَ فِيهِ: «لا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ، إنَّ لِبَنِيك عَلَيْك مِنْ الْحَقِّ أَنْ تَعْدِلَ بَيْنَهُمْ» . 3211- وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنِّي نَحَلْت ابْنِي هَذَا غُلامًا كَانَ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَكُلَّ وَلَدِك نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا» ؟ فَقَالَ: لا. فَقَالَ: «فَأَرْجِعْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3212- وَلَفْظُ مُسْلِمٍ قَالَ: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ، فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَانْطَلَقَ أَبِي إلَيْهِ يُشْهِدُهُ عَلَى صَدَقَتِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «أَفَعَلْت هَذَا بِوَلَدِك كُلِّهِمْ» ؟ قَالَ: لا. فَقَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلادِكُمْ» . فَرَجَعَ أَبِي فِي تِلْكَ الصَّدَقَةِ. 3213- وَلِلْبُخَارِيِّ مِثْلُهُ لَكِنْ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْعَطِيَّةِ لا بِلَفْظِ: الصَّدَقَةِ. 3214- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3215- وَزَادَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ» . وَلأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ: قَالَ قَتَادَةُ: وَلا أَعْلَمُ الْقَيْءَ إلا حَرَامًا. 3216- وَعَنْ طَاوُسٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ - رَفَعَاهُ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُعْطِيَ الْعَطِيَّةَ فَيَرْجِعَ فِيهَا إلا الْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ، وَمَثَلُ الرَّجُلِ يُعْطِي الْعَطِيَّةَ ثُمَّ يَرْجِعُ فِيهَا كَمَثَلِ الْكَلْبِ أَكَلَ حَتَّى إذَا شَبِعَ قَاءَ ثُمَّ رَجَعَ فِي قَيْئِهِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلادِكُمْ» تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ أَوْجَبَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الأَوْلادِ فِي الْعَطِيَّةِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْبُخَارِيُّ. قَوْلُهُ: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ» إلى آخره قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَإِلَى الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ بَعْدَ أَنْ تُقْبَضَ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إلا هِبَةَ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ قَالَ الطَّبَرِيُّ: يُخَصُّ مِنْ عُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ وَهَبَ بِشَرْطِ الثَّوَابِ، وَمَنْ كَانَ وَالِدًا وَالْمَوْهُوبُ لَهُ وَلَدَهُ، وَالْهِبَةُ لَمْ تُقْبَضْ وَاَلَّتِي رَدَّهَا الْمِيرَاثُ إلَى الْوَاهِبِ لِثُبُوتِ الأخْبَارِ بِاسْتِثْنَاءِ كُلِّ ذَلِكَ وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ كَالْغَنِيِّ يُثِيبُ الْفَقِيرَ

(2/148)


وَنَحْوِ مَنْ يَصِلُ رَحِمَهُ فَلا رُجُوعَ قَالَ: وَمِمَّا لا رُجُوعَ فِيهِ مُطْلَقًا الصَّدَقَةُ يُرَادُ بِهَا ثَوَابُ الآخِرَةِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَاخْتُلِفَ فِي الأُمِّ: هَلْ حُكْمُهَا حُكْمُ الأَبِ فِي الرُّجُوعِ أَمْ لا؟ فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إلَى الأَوَّلِ، لأَنَّ لَفْظَ الْوَالِدِ يَشْمَلُهَا. انتهى. وَقَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَإِذَا سَوَّى بَيْنَ أَوْلادِهِ فِي الْعَطَاءِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَطِيَّةِ بَعْضِهِمْ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُحْتَاجًا دُونَ الآخَرِ أَنْفَقَ عَلَيْهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَمْنِ النِّحَلِ، فَلَوْ كَانَ أَحَدُ الأَوْلادِ فَاسِقًا فَقَالَ وَالِدُهُ: لا أُعْطِيكَ نَظِيرَ إِخْوَتِكَ حَتَّى تَتُوبَ فَهَذَا حَسَنٌ يَتَعَيَّنُ اسْتِثْنَاؤهُ. إِلَى أَنْ قَالَ: قَالَ أَحْمَدٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَاكِمِ: وَإِذَا مَاتَ الَّذِي فَضَّلَ لَمْ أُطَيِّبْهُ لَهُ وَلَمْ أَجْبِرْهُ عَلَى رَدِّهِ، وَلِلأَبِّ الرُّجُوعُ فِيَمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهَ مَا لَمْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ أَوْ رَغْبَة فَلا يَرْجِعُ بِقَدْرِ الّدَّيْنِ وَقَدْرِ الرَّغْبَةِ وَيَرْجِعُ فِيمَا زَادَ، وَيَرْجِعُ الأَبُ فِيمَا أَبْرَأَ مِنْهُ ابْنَهُ مِنْ الدِّيُونِ عَلَى قِيَاسِ الْمَذْهَبِ، كَمَا لِلْمَرْأَةِ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ الرُّجُوع عَلَى زَوْجِهَا فِيَمَا أَبْرَأَتْهُ مِنَ الصِّدَاقِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَا جَاءَ فِي أَخْذِ الْوَالِدِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ 3217- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. 3218- وَفِي لَفْظٍ: «وَلَدُ الرَّجُلِ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِهِ، فَكُلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ هَنِيئًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3219- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي مَالًا وَوَلَدًا، وَإِنَّ أَبِي يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالِي، فَقَالَ: «أَنْتَ وَمَالُك لأَبِيك» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. 3220- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنَّ أَبِي يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالِي، فَقَالَ: «أَنْتَ وَمَالُك لِوَالِدِك، إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ فَكُلُوهُ هَنِيئًا» . 3221- وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ: إنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنَّ لِي مَالًا وَوَلَدًا، وَإِنَّ وَالِدِي. الْحَدِيثَ.

(2/149)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَبِمَجْمُوعِ هَذِهِ الطُّرُقِ يَنْتَهِضُ لِلِاحْتِجَاجِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ مُشَارِكٌ لِوَلَدِهِ فِي مَالِهِ، فَيَجُوزُ لَهُ الأَكْلُ سَوَاءٌ أَذِنَ الْوَلَدُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ، وَيَجُوزُ لَهُ أَيْضًا أَنْ يَتَصَرَّفَ بِهِ كَمَا يَتَصَرَّفُ بِمَالِهِ، مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ السَّرَفِ وَالسَّفَهِ. انتهى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَإِذَا أَخَذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ شَيْئًا ثُمَّ انْفَسَخَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ بِحِيث وَجَبَ رَدَّهُ إِلَى الَّذِي كَانَ مَالِكُهُ مَثْلَ أَنْ يَأْخُذَ صِدَاقِهَا فَتُطْلَقُ أَوْ يَأْخُذَ الثَّمَنُ ثُمَّ تُرَدُّ السِّلْعَةَ بِعَيْبٍ، أَوْ يَأْخُذَ الْمَبِيع ثُمَّ يُفْلِسُ الْوَلَدَ بِالثَّمَنِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَالأَقْوَى فِي جِمِيعِ الصُّوَرِ أَنَّ لِلْمِالِكِ الأَوَّلِ الرُّجُوعُ عَلَى الأَبِّ، وَلِلأَبِّ أَنْ يَتَمَلَّكَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا شَاءَ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقّ كَالرَّهْنِ وَالْفَلَسِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلام: «أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ» . يَقْتَضِي إِبَاحَةَ نَفْسِهِ كَإِبَاحَةِ مَالِهِ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ: {لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي} ، وَهُوَ يَقْتَضِي جَوَازُ اسْتِخْدَامِهِ، وَأَنَّهُ يِجِبُ عَلَى الْوَلَدِ خِدْمَةِ أَبِيهِ، وَيُقَوِّيه جَوَاز مَنْعِهِ مِنَ الْجِهَادِ وَالسَّفَرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فِيمَا يَفُوتُ انْتِفَاعَهُ بِهِ، لَكِن هَذَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الأَبَوَانِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقالُ: خُصَّ الأَبُّ بِالْمَالِ وَأَمَّا مَنْفَعَةُ الْبَدَنِ فَيَشْتَرِكَانِ فِيهَا، وَقِياسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ أَنْ يُؤَجِّرَ وَلَدَهُ لِنَفْسِهِ مَعَ فَائِدَةِ الْوَلَدِ مِثْل أَنْ يَتَعَلَّمَ صَنْعَةَ أَوْ حَاجَة الأَبِّ وَإِلا فَلا. انْتَهَى. بَابٌ مَا جَاء فِي الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى 3222- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْعُمْرَى مِيرَاثٌ لأَهْلِهَا» . أَوْ قَالَ: «جَائِزَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3223- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِمُعَمِّرِهِ مَحْيَاهُ وَمَمَاتُهُ، لا تَرْقُبُوا، مَنْ أَرْقَبَ شَيْئًا فَهُوَ سَبِيلُ الْمِيرَاثِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 3224- وَفِي لَفْظٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الرُّقْبَى جَائِزَةٌ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 3225- وَفِي لَفْظٍ: «جَعَلَ الرُّقْبَى لِلَّذِي أَرْقَبَهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 3226- وَفِي لَفْظٍ: «جَعَلَ الرُّقْبَى لِلْوَارِثِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

(2/150)


3227- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِمَنْ أُعْمِرَهَا، وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِمَنْ أُرْقِبَهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 3228- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْمُهَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُعْمِرُوا وَلا تُرْقِبُوا، فَمَنْ أُعْمِرَ شَيْئًا أَوْ أُرْقِبَهُ فَهُوَ لَهُ حَيَاتَهُ وَمَمَاتَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 3229- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3230- وَفِي لَفْظٍ قَالَ: «أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَلا تُفْسِدُوهَا، فَمَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَ حَيًّا وَمَيِّتًا وَلِعَقِبِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 3231- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لأَهْلِهَا، وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لأَهْلِهَا» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. 3232- وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ أَعْمَرَ رَجُلًا عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَقَدْ قَطَعَ قَوْلُهُ حَقَّهُ فِيهَا، وَهِيَ لِمَنْ أُعْمِرَ وَعَقِبِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. 3233- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ أُعْمِرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَإِنَّهَا لِلَّذِي يُعْطَاهَا لا تَرْجِعُ إلَى الَّذِي أَعْطَاهَا، لأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3234- وَفِي لَفْظٍ عَنْ جَابِرٍ: إنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَك وَلِعَقِبِك فَأَمَّا إذَا قَالَ: هِيَ لَك مَا عِشْت فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إلَى صَاحِبِهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 3235- وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِالْعُمْرَى أَنْ يَهَبَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ وَلِعَقِبِهِ الْهِبَةَ وَيَسْتَثْنِيَ إنْ حَدَثَ بِكَ حَدَثٌ وَلِعَقِبِك فَهِيَ إلَيَّ وَإِلَى عَقِبِي، إنَّهَا لِمَنْ أُعْطِيَهَا وَلِعَقِبِهِ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 3236- وَعَنْ جَابِرٍ أَيْضًا: أَنَّ رَجُلاً مِنْ الأَنْصَارِ أَعْطَى أُمَّهُ حَدِيقَةً مِنْ نَخِيلٍ حَيَاتَهَا فَمَاتَتْ، فَجَاءَ إخْوَتُهُ فَقَالُوا: نَحْنُ فِيهِ شَرَعٌ سَوَاءٌ، قَالَ: فَأَبَى، فَاخْتَصَمُوا إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَسَمَهَا بَيْنَهُمْ مِيرَاثًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

(2/151)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «الْعُمْرَى» مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْعُمْرِ وَهُوَ الْحَيَاةُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعْطِي الرَّجُلُ الرَّجُلَ الدَّارَ وَيَقُولُ لَهُ: أَعْمَرْتُك إيَّاهَا. أَيْ أَبَحْتُهَا لَك مُدَّةَ عُمْرِكَ وَحَيَاتِكَ، فَقِيلَ لَهَا: (عُمْرَى) لِذَلِكَ، وَ (الرُّقْبَى) مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْمُرَاقَبَةِ، لأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَرْقُبُ الآخَرَ مَتَى يَمُوتُ لِتَرْجِعَ إلَيْهِ، وَكَذَا وَرَثَتُهُ يَقُومُونَ مَقَامَهُ هَذَا أَصْلُهَا لُغَةً قَالَ فِي الْفَتْحِ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ الْعُمْرَى إذَا وَقَعَتْ كَانَتْ مِلْكًا لِلآخَرِ وَلا تَرْجِعُ إلَى الأَوَّلِ إلا إذَا صَرَّحَ بِاشْتِرَاطِ ذَلِكَ وَإِلَى أَنَّهَا صَحِيحَةٌ جَائِزَةٌ. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الرِّوَايَاتِ ثَلاثَةُ أَحْوَالٍ: الأَوَّلُ أَنْ يَقُولَ: أَعْمَرْتُكَهَا وَيُطْلِقُ، فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهَا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمُؤَبَّدَةِ لا تَرْجِعُ إلَى الْوَاهِبِ، وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُورِ. الثَّانِي أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَك مَا عِشْتَ فَإِذَا مِتَّ رَجَعَتْ إلَيَّ، فَهَذِهِ عَارِيَّةٌ مُؤَقَّتَةٌ تَرْجِعُ إلَى الْمُعِيرِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُعْمَرِ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. الثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَك وَلِعَقِبِك مِنْ بَعْدِك. أَوْ يَأْتِي بِلَفْظٍ يُشْعِرُ بِالتَّأْبِيدِ، فَهَذِهِ حُكْمُهَا حُكْمُ الْهِبَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. انتهى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَتَصِحُّ الْعُمْرَى وَتَكُونُ لِلْمُعَمِّرُ وَلِوَرَثَتِهِ إِلا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُعَمِّرُ عَوْدهَا إِلَيْهِ فَيَصِحُّ الشَّرْطَ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدٍ، وَلا يَدْخُلُ الزَّوْجَانِ فِي قَوْلِهِ وَلِعَقِبِكَ. انْتَهَى. بَابُ مَا جَاءَ فِي تصرف الْمَرْأَةِ فِي مَالِهَا وَمَالِ زَوْجِهَا 3237- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ لا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَجْرِ بَعْضٍ شَيْئًا» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 3238- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 3239- وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - مَوْقُوفًا - فِي الْمَرْأَةِ تَصَدَّقُ مِنْ

(2/152)


بَيْتِ زَوْجِهَا قَالَ: «لا، إلا مِنْ قُوتِهَا وَالأَجْرُ بَيْنَهُمَا وَلا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَصَدَّقَ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا إلا بِإِذْنِهِ» . 3240- وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي شَيْءٌ إلا مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أُرْضِخَ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: «ارْضِخِي مَا اسْتَطَعْتِ وَلا تُوعِي فَيُوعِي اللَّهُ عَلَيْكِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3241- وَفِي لَفْظٍ عَنْهَا: أَنَّهَا سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ الزُّبَيْرَ رَجُلٌ شَدِيدٌ وَيَأْتِينِي الْمِسْكِينُ فَأَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ... «ارْضِخِي وَلا تُوعِي فَيُوعِي اللَّهُ عَلَيْكِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3242- وَعَنْ سَعْدٍ قَالَ: لَمَّا بَايَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - النِّسَاءَ قَالَتْ امْرَأَةٌ جَلِيلَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نِسَاءِ مُضَرَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّا كَلٌّ عَلَى آبَائِنَا وَأَبْنَائِنَا - قَالَ أَبُو دَاوُد: وَأَرَى فِيهِ: وَأَزْوَاجِنَا - فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ؟ قَالَ: «الرَّطْبُ تَأْكُلْنَهُ وَتُهْدِينَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: الرَّطْبُ: الْخُبْزُ وَالْبَقْلُ وَالرُّطَبُ. 3243- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَبَدَأَ بِالصَّلاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِلا أَذَانٍ وَلا إقَامَةٍ، ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلالٍ، فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ، وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ وَقَالَ: «تَصَدَّقْنَ فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ» . فَقَامَتْ امْرَأَةٌ مِنْ سَطَةِ النِّسَاءِ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ فَقَالَتْ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ» . قَالَتْ: فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلالٍ مِنْ أَقْرَاطِهِنَّ وَخَوَاتِيمِهِنَّ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3244- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَجُوزُ لِامْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ إلا بِإِذْنِ زَوْجِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 3245- وَفِي لَفْظٍ: «لا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَمْرٌ فِي مَالِهَا إذَا مَلَكَ زَوْجُهَا عِصْمَتَهَا» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ» إلى آَخْره قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَا إذَا تَصَدَّقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا، فَمِنْهُمْ

(2/153)


مَنْ أَجَازَهُ لَكِنْ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ الَّذِي لا يُأْبَهُ لَهُ وَلا يَظْهَرُ بِهِ النُّقْصَانُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَا إذَا أَذِنَ الزَّوْجُ وَلَوْ بِطَرِيقِ الإِجْمَالِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ، وَأَمَّا التَّقْيِيدُ بِغَيْرِ الإِفْسَادِ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِنَفَقَةِ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَالْخَازِنِ: وَالنَّفَقَةُ عَلَى عِيَالِ صَاحِبِ الْمَالِ فِي مَصَالِحِهِ. وَقَوْلُهُا: (إنَّا كَلٌّ) قَالَ الشَّارِحُ: بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ اللامِ أَيْ نَحْنُ عِيَالٌ عَلَيْهِمْ لَيْسَ لَنَا مِنْ الأَمْوَالِ مَا نَنْتَفِعُ بِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ مَالِ ابْنِهَا وَأَبِيهَا وَزَوْجِهَا بِغَيْرِ إذْنِهِمْ وَتُهَادِي، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالأُمُورِ الْمَأْكُولَةِ الَّتِي لا تُدَّخَرُ فَلا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُهَادِيَ بِالثِّيَابِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْحُبُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: (فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ) قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ فِيهِ فَوَائِدُ: مِنْهَا: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَا هُنَا لأَجْلِهِ، وَهُوَ جَوَازُ صَدَقَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ مَالِهَا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى إذْنِ زَوْجِهَا أَوْ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مِنْ مَالِهَا كَالثُّلُثِ. وَقَوْلُهُ: «لا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَمْرٌ فِي مَالِهَا» الْحَدِيث. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُعْطِيَ عَطِيَّةً مِنْ مَالِهَا بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا وَلَوْ كَانَتْ رَشِيدَةً. وَقَدْ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ اللَّيْثُ: لا يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ مُطْلَقًا لا فِي الثُّلُثِ وَلا فِيمَا دُونَهُ إلا فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ. وَقَالَ طَاوُسٌ: إنَّهُ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُعْطِيَ مَالَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ فِي الثُّلُثِ لا فِيمَا فَوْقَهُ فَلا يَجُوزُ إلا بِإِذْنِهِ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ إذْنٍ مِنْ الزَّوْجِ إذَا لَمْ تَكُنْ سَفِيهَةً، فَإِنْ كَانَتْ سَفِيهَةً لَمْ يَجُزْ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَأَدِلَّةُ الْجُمْهُورِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ. بَابُ مَا جَاءَ فِي تَبَرُّعِ الْعَبْدِ 3246- عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ: كُنْتُ مَمْلُوكًا فَسَأَلْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أَتَصَدَّقُ مِنْ مَالِ مَوْلايَ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَالأَجْرُ بَيْنَكُمَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 3247- وَعَنْهُ قَالَ: أَمَرَنِي مَوْلايَ أَنْ أَقْدِرَ لَحْمًا، فَجَاءَنِي مِسْكِينٌ

(2/154)


فَأَطْعَمْتُهُ مِنْهُ فَضَرَبَنِي، فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ، فَدَعَاهُ فَقَالَ: «لِمَ ضَرَبْته» ؟ قَالَ: يُعْطِي طَعَامِي مِنْ غَيْرِ أَنْ آمُرَهُ، فَقَالَ: «الأَجْرُ بَيْنَكُمَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 2348- وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: أَتَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِطَعَامٍ وَأَنَا مَمْلُوكٌ، فَقُلْت: هَذِهِ صَدَقَةٌ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِطَعَامٍ، فَقُلْت: هَذِهِ هَدِيَّةٌ أَهْدَيْتُهَا لَك أُكْرِمْك بِهَا فَإِنِّي رَأَيْتُك لا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا وَأَكَلَ مَعَهُمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3249- وَعَنْ سَلْمَانَ قَالَ: كُنْتُ اسْتَأْذَنْت مَوْلايَ فِي ذَلِكَ فَطَيَّبَ لِي، فَاحْتَطَبْت حَطَبًا فَبِعْتُهُ فَاشْتَرَيْت ذَلِكَ الطَّعَامَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: قَالَ: «نَعَمْ وَالأَجْرُ بَيْنَكُمَا» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ مَالِ مَوْلاهُ وَأَنَّهُ يَكُونُ شَرِيك الْمَوْلَى فِي الأَجْرِ وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ لِذَلِكَ فَقَالَ: (بَابُ مَنْ أَمَرَ خَادِمَهُ بِالصَّدَقَةِ وَلَمْ يُنَاوِلْ نَفْسَهُ) وَقَالَ أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: هُوَ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ لا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ» .

(2/155)


 كِتَابُ الْوَقْفِ

3250- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلا مِنْ ثَلاثَةِ أَشْيَاءَ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَةْ. 3251- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ أَصَابَ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ خَيْبَرَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْت أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُنِي؟ فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «إنْ شِئْتَ حَبَسْت أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْت بِهَا» . فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ عَلَى أَنْ لا تُبَاعَ وَلا تُوهَبَ وَلا تُورَثَ، فِي الْفُقَرَاءِ وَذَوِي الْقُرْبَى وَالرِّقَابِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ، لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَيُطْعِمَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ - وَفِي لَفْظٍ: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ - مَالًا. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 3252- وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ فِي صَدَقَةِ عُمَرَ: لَيْسَ عَلَى الْوَلِيِّ جُنَاحٌ أَنْ يَأْكُلَ وَيُؤْكِلَ صَدِيقًا لَهُ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ، قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ هُوَ يَلِي صَدَقَةَ عُمَرَ، وَيُهْدِي لِنَاسٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ: أَنَّ مَنْ وَقَفَ شَيْئًا عَلَى صِنْفٍ مِنْ النَّاسِ وَوَلَدُهُ مِنْهُمْ دَخَلَ فِيهِ. 3253- وَعَنْ عُثْمَانَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ يُسْتَعْذَبُ غَيْرَ بِئْرِ رُومَةَ، فَقَالَ: «مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيَجْعَلَ فِيهَا دَلْوَهُ مَعَ

(2/156)


دِلاءِ الْمُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ» ؟ فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ صُلْبِ مَالِي. رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِيهِ جَوَازُ انْتِفَاعِ الْوَاقِفِ بِوَقْفِهِ الْعَامِّ. قَوْلُهُ: «إنْ شِئْتَ حَبَسْت أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْت بِهَا» قَالَ الشَّارِحُ: أَيْ بِمَنْفَعَتِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: حَبِّسْ أَصْلَهَا وَسَبِّلْ ثَمَرَتَهَا. قَوْلُهُ: (أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنَّ الْعَامِلَ يَأْكُلُ مِنْ ثَمَرَةِ الْوَاقِفِ حَتَّى لَوْ اشْتَرَطَ الْوَاقِفُ أَنَّ الْعَامِلَ لا يَأْكُلُ لاسْتُقْبِحَ ذَلِكَ مِنْهُ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَحَدِيثُ عُمَرَ هَذَا أَصْلٌ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْوَقْفِ. قَالَ الشارح: وَقَدْ ذَهَبَ إلَى جَوَازِ الْوَقْفِ وَلُزُومِهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ حَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ بَلَغَ أَبَا حَنِيفَةَ لَقَالَ بِهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: رَادُّ الْوَقْفِ مُخَالِفٌ لِلإِجْمَاعِ فَلا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. قَوْلُهُ: «مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ» بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَغَوِيِّ فِي الصَّحَابَةِ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ بَشِيرٍ الأَسْلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهَا كَانَتْ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ عَيْنٌ يُقَالُ لَهَا: رُومَةُ، وَكَانَ يَبِيعُ مِنْهَا الْقِرْبَةَ بِمُدٍّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «تَبِيعُنِيهَا بِعَيْنٍ فِي الْجَنَّةِ» ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي وَلا لِعِيَالِي غَيْرُهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمَانَ، فَاشْتَرَاهَا بِخَمْسَةٍ وَثَلاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَتَجْعَلُ لِي مَا جَعَلْت لَهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ، قَدْ جَعَلْتهَا لِلْمُسْلِمِينَ» . قَوْلُهُ: «فَيَجْعَلَ فِيهَا دَلْوُهُ مَعَ دِلاءِ الْمُسْلِمِينَ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَجْعَلَ لِنَفْسِهِ نَصِيبًا مِنْ الْوَقْفِ.

(2/157)


بَابُ وَقْفِ الْمُشَاعِ وَالْمَنْقُولِ 3254- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ الْمِائَةَ السَّهْمِ الَّتِي لِي بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَعْجَبَ إلَيَّ مِنْهَا قَدْ أَرَدْت أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «احْبِسْ أَصْلَهَا وَسَبِّلْ ثَمَرَتَهَا» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَةْ. 3255- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَسَنَاتٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 3256- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْحَجَّ، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ لِزَوْجِهَا: أَحِجَّنِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: مَا عِنْدِي مَا أُحِجُّكِ عَلَيْهِ، قَالَتْ: أَحِجَّنِي عَلَى جَمَلِك فُلانٍ، قَالَ: ذَلِكَ حَبِيسٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «أَمَا إنَّك لَوْ أَحْجَجْتَهَا عَلَيْهِ كَانَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 3257- وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي حَقِّ خَالِد بن الْوَلِيد: «قَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (إنَّ الْمِائَةَ السَّهْمِ) إلى آخره، اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى صِحَّةِ وَقْفِ الْمُشَاعِ وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ عَلَى صِحَّةِ وَقْفِ الْمُشَاعِ بِحَدِيثِ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «ثَامِنُونِي حَائِطَكُمْ» . فَقَالُوا: لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إلا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي جَوَازِ وَقْفِ الْمُشَاعِ. قَوْلُهُ: «مَنْ احْتَبَسَ فَرَسًا» إلى آخره، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ وَقْفُ الْحَيَوَانِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَحَدِيثُ تَحْبِيسِ خَالِدٍ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ وَقْفِ الْمَنْقُولاتِ. بَابُ مَنْ وَقَفَ أَوْ تَصَدَّقَ عَلَى أَقْرِبَائِهِ أَوْ وَصَّى لَهُمْ مَنْ يَدْخُلُ فِيهِ؟ 3258- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {لَنْ

(2/158)


تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إلَيَّ بَيْرَحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاك اللَّهُ، فَقَالَ: «بَخٍ بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ - مَرَّتَيْنِ - وَقَدْ سَمِعْت، أُرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ» . فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3259- وَفِي رِوَايَةٍ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَى رَبَّنَا يَسْأَلُنَا مِنْ أَمْوَالِنَا فَأُشْهِدُك أَنِّي جَعَلْت أَرْضِي بَيْرَحَاءَ لِلَّهِ، فَقَالَ: «اجْعَلْهَا فِي قَرَابَتِك» . قَالَ فَجَعَلَهَا فِي حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 3260- وَلِلْبُخَارِيِّ مَعْنَاهُ وَقَالَ فِيهِ: «اجْعَلْهَا لِفُقَرَاءِ قَرَابَتِك» . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ: أَبُو طَلْحَةَ زَيْدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ حَرَامٍ، يَجْتَمِعَانِ إلَى حَرَامٍ وَهُوَ الأَبُ الثَّالِثُ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، فَعَمْرٌو يَجْمَعُ حَسَّانًا وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيًّا، وَبَيْنَ أُبَيٍّ وَأَبِي طَلْحَةَ سِتَّةَ آبَاءٍ. 3261- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ، فَقَالَ: «يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ: أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ، يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ؛ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنْ النَّارِ فَإِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبِلُّهَا بِبِلالِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِي قِصَّةِ أَبِي طَلْحَةَ فَوَائِدُ: مِنْهَا: أَنَّ الْوَقْفَ لا يَحْتَاجُ فِي انْعِقَادِهِ إلَى قَبُولِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَفِيهِ تَقْدِيمُ الأَقْرَبِ مِنْ

(2/159)


الأَقَارِبِ عَلَى غَيْرِهِمْ وَفِيهِ جَوَازُ وَفِيهِ جَوَازُ تَوَلِّي الْمُتَصَدِّقِ لِقَسْمِ صَدَقَتِهِ وَفِيهِ جَوَازُ أَخْذِ الْغَنِيِّ مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ إذَا حَصَلَتْ لَهُ بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ. قَوْلُهُ: (فَعَمَّ وَخَصَّ) أَيْ جَاءَ بِالْعَامِّ أَوَّلًا وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ مَنْ نَادَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ لَفْظُ الأَقْرَبِينَ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى دُخُولِ النِّسَاءِ فِي الأَقَارِبِ وَعَلَى دُخُولِ الْفُرُوعِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْوَلَدِ يَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ الْوَلَدِ بِالْقَرِينَةِ بِالإِطْلاقِ 3262- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَلَغَ صَفِيَّةَ أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ: بِنْتُ يَهُودِيٍّ، فَبَكَتْ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَهِيَ تَبْكِي وَقَالَتْ: قَالَتْ لِي حَفْصَةُ: أَنْتِ ابْنَةُ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّكِ لابْنَةُ نَبِيٍّ، وَإِنَّ عَمَّكِ لَنَبِيٌّ، وَإِنَّكِ لَتَحْتَ نَبِيٍّ، فَبِمَ تَفْتَخِرُ عَلَيْكِ» ؟ ثُمَّ قَالَ: «اتَّقِي اللَّهَ يَا حَفْصَةُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3263- وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: «إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ يُصْلِحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» . يَعْنِي الْحَسَنَ ابْنَ عَلِيٍّ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ. 3264- وَفِي حَدِيثٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِعَلِيٍّ: «وَأَمَّا أَنْتَ يَا عَلِيُّ فَخَتَنِي وَأَبُو وَلَدَيَّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3265- وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ - وَحَسَنٌ وَحُسَيْنٌ عَلَى وَرِكَيْهِ -: «هَذَانِ ابْنَايَ وَابْنَا ابْنَتِي، اللَّهُمَّ إنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. 3266- وَقَالَ الْبَرَاءُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِبَ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ» وَهُوَ فِي حَدِيثٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3267- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «اللَّهُمَّ

(2/160)


اغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَلأَبْنَاءِ الأَنْصَارِ، وَلأَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 3268- وَفِي لَفْظٍ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَلِذَرَارِيِّ الأَنْصَارِ وَلِذَرَارِيِّ ذَرَارِيِّهِمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «إنَّكِ لابْنَةُ نَبِيٍّ» إنَّمَا قَالَ لَهَا ذَلِكَ لأَنَّهَا مِنْ ذُرِّيَّةِ هَارُونَ وَعَمُّهَا مُوسَى، وَبَنُو قُرَيْظَةَ مِنْ ذُرِّيَّةِ هَارُونَ، فَسَمَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هَارُونَ أَبًا لَهَا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَهُ آبَاءٌ مُتَعَدِّدُونَ، وَكَذَلِكَ جَعَلَ الْحَسَنَ ابْنًا لَهُ وَهُوَ ابْنُ ابْنَتِهِ، وَكَذَلِكَ الْحُسَيْنُ كَمَا فِي سَائِرِ الأَحَادِيثِ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ جَدُّهُ، وَجَعَلَ لأَبْنَاءِ الأَنْصَارِ وَأَبْنَائِهِمْ حُكْمَ الأَنْصَارِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ أَوْلادِ الأَوْلادِ حُكْمُ الأَوْلادِ، فَمَنْ وَقَفَ عَلَى أَوْلادِهِ دَخَلَ فِي ذَلِكَ أَوْلادُ الأَوْلادِ مَا تَنَاسَلُوا، وَكَذَلِكَ أَوْلادُ الْبَنَاتِ، وَفِي ذَلِكَ خِلافٌ وَمِمَّا يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ بِدُخُولِ أَوْلادِ الْبَنَاتِ: مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ» . بَابُ مَا يُصْنَعُ بِفَاضِلِ مَالِ الْكَعْبَةِ 3269- عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: جَلَسْت إلَى شَيْبَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ فَقَالَ: جَلَسَ إلَيَّ عُمَرُ فِي مَجْلِسِك هَذَا، فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْت أَنْ لا أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلا بَيْضَاءَ إلا قَسَمْتهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، قُلْت: مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ؟ قَالَ: لِمَ؟ قُلْت: لَمْ يَفْعَلْهُ صَاحِبَاك، فَقَالَ: هُمَا الْمَرْءَانِ يُقْتَدَى بِهِمَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 3270- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ - أَوْ قَالَ: - بِكُفْرٍ لَأَنْفَقْت كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَجَعَلْت بَابَهَا بِالأَرْضِ وَلَأَدْخَلْت فِيهَا مِنْ الْحِجْرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْمُرَادُ بِالصَّفْرَاءِ: الذَّهَبُ، وَبِالْبَيْضَاءِ: الْفِضَّةُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَرَادَ عُمَرُ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ إنْفَاقِهِ فِي مَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ

(2/161)


لَمَّا ذُكِرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ أَمْسَكَ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهُ - صلى الله عليه وسلم - لِذَلِكَ رِعَايَةً لِقُلُوبِ قُرَيْشٍ كَمَا تَرَكَ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ. قَالَ الشَّارِحُ: وَعَلَى هَذَا فَإِنْفَاقُهُ جَائِزٌ كَمَا جَازَ لابْنِ الزُّبَيْرِ بِنَاءُ الْبَيْتِ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ لِزَوَالِ السَّبَبِ الَّذِي لأَجْلِهِ تَرَكَ بِنَاءَهُ - صلى الله عليه وسلم -. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/162)


 كِتَابُ الْوَصَايَا

بَابُ الْحَثِّ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْحَيْفِ فِيهَا وَفَضِيلَةِ التَّنْجِيزِ حَالَ الْحَيَاةِ 3271- عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ وَلَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ إلا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ يَعْمَلُ بِالْخَطِّ إذَا عُرِفَ. 3272- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ - أَوْ أَعْظَمُ - أَجْرًا؟ قَالَ: «أَمَا وَأَبِيك لَتُفْتَأَنَّ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ شَحِيحٌ صَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْبَقَاءَ وَلا تَمَهَّلْ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلانٍ كَذَا وَلِفُلانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. 3273- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ أَوْ الْمَرْأَةُ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ فَيُضَارَّانِ فِي الْوَصِيَّةِ فَيَجِبُ لَهُمَا النَّارُ» . ثُمَّ قَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ} - إلَى قَوْلِهِ -: {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 3274- وَلأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَةْ مَعْنَاهُ، وَقَالا فِيهِ: «سَبْعِينَ سَنَةً» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «مَا حَقُّ» مَا نَافِيَةٌ بِمَعْنَى لَيْسَ،

(2/163)


وَالْخَبَرُ مَا بَعْدَ إلا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ: مَا الْحَزْمُ وَالِاحْتِيَاطُ لِلْمُسْلِمِ إلا أَنْ تَكُونَ وَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ. وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَعَ قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} الآيَةُ عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ. وَأَجَابَوا عَنْ الآيَةِ بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بالمواريث. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: وُجُوبُ الْوَصِيَّةِ فِي الآيَةِ. وَالْحَدِيثُ يَخْتَصُّ بِمَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ شَرْعِيٌّ يَخْشَى أَنْ يَضِيعَ عَلَى صَاحِبِهِ إنْ لَمْ يُوصِ بِهِ كَالْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ وَنَحْوِهِمَا. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أنَّ الْوَصِيَّةَ غَيْرُ وَاجِبَةٌ بِعَيْنِهَا، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ بِعَيْنِهِ الْخُرُوجُ مِنْ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ لِلْغَيْرِ سَوَاءٌ كَانَ بِتَنْجِيزٍ أَوْ وَصِيَّةٍ. قَالَ: وَعُرِفَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ قَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً. وَقَدْ تَكُونُ مَنْدُوبَةً فِيمَنْ رَجَا مِنْهَا كَثْرَةَ الأَجْرِ، وَمَكْرُوهَةً فِي عَكْسِهِ، وَمُبَاحَةً فِيمَنْ اسْتَوَى الأَمْرَانِ فِيهِ، وَمُحَرَّمَةً فِيمَا إذَا كَانَ فِيهَا إضْرَارٌ كَمَا ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: الإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ. انتهى. قَوْلُهُ: «وَتَأْمُلُ» بِضَمِّ الْمِيمِ: أَيْ تَطْمَعُ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ أَنَّ تَنْجِيزَ وَفَاءِ الدَّيْنِ وَالتَّصَدُّقِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ أَفْضَلُ مِنْهُ حَالَ الْمَرَضِ وَفِي مَعْنَى الْحَدِيثِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ} الآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: «لَأَنْ يَتَصَدَّقَ الرَّجُلُ فِي حَيَاتِهِ وَصِحَّتِهِ بِدِرْهَمٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ عِنْدَ مَوْتِهِ بِمِائَةٍ» . قَوْلُهُ: «فَيَجِبُ لَهُمَا النَّارُ» قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ وَزَجْرٌ بَلِيغٌ وَتَهْدِيدٌ، لأَنَّ مُجَرَّدَ الْمُضَارَّةِ فِي الْوَصِيَّةِ إذَا كَانَتْ مِنْ مُوجِبَاتِ النَّارِ بَعْدَ الْعِبَادَةِ الطَّوِيلَةِ فِي السِّنِينَ الْمُتَعَدِّدَةِ فَلا شَكَّ أَنَّهَا مِنْ أَشَدِّ الذُّنُوبِ، فَمَا أَحَقُّ وَصِيَّةِ الضِّرَارِ بِالإِبْطَالِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الثُّلُثِ وَمَا دُونَهُ وَمَا فَوْقَهُ. بَابُ مَا جَاءَ فِي كَرَاهَةِ مُجَاوَزَةِ الثُّلُثِ وَالإِيصَاءِ لِلْوَارِثِ 3275- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَوْ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنْ الثُّلُثِ إلَى الرُّبُعِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(2/164)


3276- وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُنِي مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ مَا تَرَى وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلا يَرِثُنِي إلا ابْنَةٌ لِي، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: «لا» . قُلْت: فَالشَّطْرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لا» . قُلْت: فَالثُّلُثَ؟ قَالَ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ - أَوْ كَبِيرٌ - إنَّك أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 3277- وَفِي رِوَايَةِ أَكْثَرِهِمْ: جَاءَنِي يَعُودُنِي فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. 3278- وَفِي لَفْظٍ: عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَرَضِي فَقَالَ: «أَوْصَيْت» ؟ قُلْت: نَعَمْ، قَالَ: «بِكَمْ» ؟ قُلْت: بِمَالِي كُلِّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: «فَمَا تَرَكْت لِوَلَدِك» ؟ قُلْت: هُمْ أَغْنِيَاءُ، قَالَ: «أُوصِ بِالْعُشْرِ» . فَمَا زَالَ يَقُولُ وَأَقُولُ حَتَّى قَالَ: «أُوصِ بِالثُّلُثِ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَحْمَدُ بِمَعْنَاهُ. 3279- إلا أَنَّهُ قَالَ: قُلْت: نَعَمْ جَعَلْت مَالِي كُلَّهُ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِلأَقْرَبِينَ. 3280- وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً فِي حَسَنَاتِكُمْ لِيَجْعَلَهَا لَكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. 3281- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَ عَلَى نَاقَتِهِ وَأَنَا تَحْتَ جِرَانِهَا وَهِيَ تَقْصَعُ بِجِرَّتِهَا، وَإِنَّ لُغَامَهَا يَسِيلُ بَيْنَ كَتِفِي فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا أَبَا دَاوُد وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 3282- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: يَقُولُ «إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ.

(2/165)


3283- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَجُوزُ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ إلا أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ» . 3284- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إلا أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ» . رَوَاهُمَا الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ، وَعَلَى أَنَّ الأُولَى أَنْ يَنْقُصَ عَنْهُ وَلا يَزِيدُ عَلَيْهِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَاسْتَقَرَّ الإِجْمَاعُ عَلَى مَنْعِ الْوَصِيَّةِ بِأَزْيَدَ مِنْ الثُّلُثِ، لَكِنْ اُخْتُلِفَ فِيمَنْ لَيْسَ لَهُ وَارِثٌ خَاصٌّ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى مَنْعِهِ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ، وَجَوَّزَ لَهُ الْحَنَفِيَّةُ الزِّيَادَةُ وَإِسْحَاقُ وَشَرِيكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَحَكَاهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ الْعِتْرَةِ. قَوْلُهُ: «إلا أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ» فِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى قَالَ: إنَّهَا لا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَلَوْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمْ إنْ أَجَازُوا فِي حَيَاةِ الْمُوصِي كَانَ لَهُمْ الرُّجُوعُ، وَإِنْ أَجَازُوا بَعْدَ نَفَذٍ. بَابٌ فِي أَنَّ تَبَرُّعَاتِ الْمَرِيضِ مِنْ الثُّلُثِ 3285- عَنْ أَبِي زَيْدٍ الأَنْصَارِيِّ: أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ - عِنْدَ مَوْتِهِ - لَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُمْ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد بِمَعْنَاهُ. 3286- وَقَالَ فِيهِ: «لَوْ شَهِدْته قَبْلَ أَنْ يُدْفَنَ لَمْ يُدْفَنْ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ» . 3287- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُمْ، فَدَعَا بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَزَّأَهُمْ أَثْلاثًا ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيدًا. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ. 3288- وَفِي لَفْظٍ: أنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عِنْدَ مَوْتِهِ سِتَّةَ رَجْلَةٍ لَهُ، فَجَاءَ وَرَثَتُهُ

(2/166)


مِنْ الأَعْرَابِ فَأَخْبَرُوا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَا صَنَعَ، قَالَ: «أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ؟ لَوْ عَلِمْنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ مَا صَلَّيْنَا عَلَيْهِ» فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ مِنْهُمْ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً. رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ سَوَّى بَيْنَ مُتَقَدِّمِ الْعَطَايَا وَمُتَأَخِّرِهَا، لأَنَّهُ لَمْ يَسْتَفْصِلْ هَلْ أَعْتَقَهُمْ بِكَلِمَةٍ أَوْ بِكَلِمَاتٍ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ عِنْدَ مَوْتِهِ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ نَجَّزَ عِتْقَهُمْ فِي مَرَضِهِ. قَوْلُهُ: (فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ) هَذَا نَصٌّ فِي اعْتِبَارِ الْقُرْعَةِ شَرْعًا. قَوْلُهُ: «لَوْ شَهِدْته قَبْلَ أَنْ يُدْفَنَ» إلى آخره، هَذَا تَفْسِيرٌ لِلْقَوْلِ الشَّدِيدِ، وَفِيهِ تَغْلِيظٌ شَدِيدٌ وَذَمٌّ مُتَبَالَغٌ، وَذَلِكَ لأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَأْذَنْ لِلْمَرِيضِ بِالتَّصَرُّفِ إلا فِي الثُّلُثِ، فَإِذَا تَصَرَّفَ فِي أَكْثَرَ مِنْهُ كَانَ مُخَالِفًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَمُشَابِهًا لِمَنْ وَهَبَ غَيْرَ مَالِهِ. وَالْحَدِيثَانِ يَدُلانِ عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمَرِيضِ إنَّمَا تَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ وَلَوْ كَانَتْ مُنْجَزَةً فِي الْحَالِ. بَابُ وَصِيَّةِ الْحَرْبِيِّ إذَا أَسْلَمَ وَرَثَتُهُ هَلْ يَجِبُ تَنْفِيذُهَا 3289- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ الْعَاصِ بْنَ وَائِلٍ أَوْصَى أَنْ يَعْتِقَ عَنْهُ مِائَةُ رَقَبَةٍ، فَأَعْتَقَ ابْنُهُ هِشَامٌ خَمْسِينَ رَقَبَةً، فَأَرَادَ ابْنُهُ عَمْرٌو أَنْ يَعْتِقَ عَنْهُ الْخَمْسِينَ الْبَاقِيَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّ أَبِي أَوْصَى بِعِتْقِ مِائَةِ رَقَبَةٍ، وَإِنَّ هِشَامًا أَعْتَقَ عَنْهُ خَمْسِينَ رَقَبَةً وَبَقِيَتْ خَمْسُونَ رَقَبَةً، أَفَأَعْتِقُ عَنْهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَأَعْتَقْتُمْ عَنْهُ أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ بَلغهُ ذَلِكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ إذَا أَوْصَى بِقُرْبَةٍ مِنْ الْقُرَبِ لَمْ يَلْحَقْهُ ذَلِكَ لأَنَّ الْكُفْرَ مَانِعٌ، وَهَكَذَا لا يَلْحَقُهُ مَا فَعَلَهُ قَرَابَتُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ وَصِيَّةِ الْكَافِرِ. انتهى ملخصُا.

(2/167)


بَابُ الإِيصَاءِ بِمَا يَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ مِنْ خِلافَةٍ وَعَتَاقَةٍ وَمُحَاكَمَةٍ فِي نَسَبٍ وَغَيْر ذلك 3290- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حَضَرْت أَبِي حِينَ أُصِيبَ فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ وَقَالُوا: جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا، فَقَالَ: رَاغِبٌ وَرَاهِبٌ، قَالُوا: اسْتَخْلِفْ، فَقَالَ: أَتَحَمَّلُ أَمْرَكُمْ حَيًّا وَمَيِّتًا؟ لَوَدِدْت أَنَّ حَظِّي مِنْهَا الْكَفَافُ لا عَلَيَّ وَلا لِي، فَإِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدْ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي - يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ - وَإِنْ أَتْرُكُكُمْ فَقَدْ تَرَكَكُمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي - يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَعَرَفْت أَنَّهُ حِينَ ذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3291- وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ عَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ اخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصَانِي أَخِي إذَا قَدِمْت أَنْ أَنْظُرَ ابْنَ أَمَةِ زَمْعَةَ فَأَقْبِضَهُ فَإِنَّهُ ابْنِي، وَقَالَ ابْنُ زَمْعَةَ: أَخِي وَابْنُ أَمَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي، فَرَأَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - شَبَهًا بَيْنَهُ بِعُتْبَةَ، فَقَالَ: «هُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 3292- وَعَنْ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْد الثَّقَفِيِّ: أَنَّ أُمَّهُ أَوْصَتْ أَنْ يَعْتِقَ عَنْهَا رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: عِنْدِي جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَ: ... «ائْتِ بِهَا» . فَدَعَا بِهَا فَجَاءَتْ، فَقَالَ لَهَا: «مَنْ رَبُّكِ» ؟ قَالَتْ: اللَّهُ، قَالَ: «مَنْ أَنَا» ؟ قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: «اعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَقَدْ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي) اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْمُصَنِّفُ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِالْخِلافَةِ. قَوْلُهُ: (وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ عَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ) إلَى آخره، إِنَّمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنَّفُ هَا هُنَا لِلاسْتِدْلالِ بِهِ عَلَى جَوَازِ الإِيصَاءِ بِالنِّيَابَةِ فِي دَعْوَى النَّسَبِ وَالْمُحَاكَمَةِ. قَوْلُهُ: (وَعَنْ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْد) إلى آخره، اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ عَلَى جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي الْعِتْقِ بِالْوَصِيَّةِ.

(2/168)


قَوْلُهُ: فَقَالَ لَهَا: «مَنْ رَبُّكِ» إلى آخره قَدْ اكْتَفَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ فِي كَوْنِ تِلْكَ الرَّقَبَةُ مُؤْمِنَةً، وَقَدْ ثَبَتَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ. بَابُ وَصِيَّةِ مَنْ لا يَعِيشُ مِثْلُهُ 3293- عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: رَأَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَبْلَ أَنْ يُصَابَ بِأَيَّامٍ بِالْمَدِينَةِ وَقَفَ عَلَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ فَقَالَ: كَيْفَ فَعَلْتُمَا؟ أَتَخَافَان أَنْ تَكُونَا قَدْ حَمَّلْتُمَا الأَرْضَ مَا لا تُطِيقُ؟ قَالا: حَمَّلْنَاهَا أَمْرًا هِيَ لَهُ مُطِيقَةٌ، فِيهَا كَثِيرُ فَضْلٍ. قَالَ: اُنْظُرَا أَنْ تَكُونَا حَمَّلْتُمَا الأَرْضَ مَا لا تُطِيقُ قَالَ: قَالا: لا. فَقَالَ عُمَرُ: لَئِنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ لَأَدَعَنَّ أَرَامِلَ أَهْلِ الْعِرَاقِ لا يَحْتَجْنَ إلَى رَجُلٍ بَعْدِي أَبَدًا. قَالَ: فَمَا أَتَتْ عَلَيْهِ رَابِعَةٌ حَتَّى أُصِيبَ. قَالَ: إنِّي لَقَائِمٌ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ إلا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ - غَدَاةَ أُصِيبَ - وَكَانَ إذَا مَرَّ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ. قَالَ: اسْتَوُوا، حَتَّى إذَا لَمْ يَرَ فِيهِنَّ خَلَلاً تَقَدَّمَ وَكَبَّرَ، وَرُبَّمَا قَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ أَوْ النَّحْلَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ، فَمَا هُوَ إلا أَنْ كَبَّرَ فَسَمِعْته يَقُولُ: قَتَلَنِي أَوْ أَكَلَنِي الْكَلْبُ حِينَ طَعَنَهُ - فَطَارَ الْعِلْجُ بِسِكِّينٍ ذَاتِ طَرَفَيْنِ لا يَمُرُّ عَلَى أَحَدٍ يَمِينًا وَلا شِمَالًا إلا طَعَنَهُ حَتَّى طَعَنَ ثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا مَاتَ مِنْهُمْ تِسْعَةٌ؛ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ طَرَحَ عَلَيْهِ بُرْنُسًا؛ فَلَمَّا ظَنَّ الْعِلْجُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ نَحَرَ نَفْسَهُ؛ وَتَنَاوَلَ عُمَرُ يَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَدَّمَهُ، فَمَنْ يَلِي عُمَرَ فَقَدْ رَأَى الَّذِينَ أَرَى. وَأَمَّا نَوَاحِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُمْ لا يَدْرُونَ، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَدْ فَقَدُوا صَوْتَ عُمَرَ وَهُمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ، فَصَلَّى بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ صَلاةً خَفِيفَةً فَلَمَّا انْصَرَفُوا قَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ اُنْظُرْ مَنْ قَتَلَنِي، فَجَالَ سَاعَةً ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: غُلامُ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ: الصَّنَعُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ لَقَدْ أَمَرْتُ بِهِ مَعْرُوفًا، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ مَنِيَّتِي بِيَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي الإِسْلامَ وَقَدْ كُنْتَ أَنْتَ وَأَبُوكَ تُحِبَّانِ أَنْ تَكْثُرَ الْعُلُوجُ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ أَكْثَرَهُمْ رَقِيقًا، فَقَالَ: إنْ شِئْت فَعَلْت: أَيْ إنْ شِئْت قَتَلْنَا - قَالَ: كَذَبْتَ بَعْدَ مَا تَكَلَّمُوا بِلِسَانِكُمْ، وَصَلُّوا صَلاتَكُمْ، وَحَجُّوا حَجَّكُمْ؟ فَاحْتُمِلَ إلَى بَيْتِهِ، فَانْطَلَقْنَا مَعَهُ، وَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ تُصِبْهُمْ مُصِيبَةٌ قَبْلَ

(2/169)


يَوْمِئِذٍ، فَقَائِلٌ يَقُولُ: أَخَافُ عَلَيْهِ، فَأُتِيَ بِنَبِيذٍ فَشَرِبَهُ فَخَرَجَ مِنْ جَوْفِهِ. ثُمَّ أُتِيَ بِلَبَنٍ فَشَرِبَهُ فَخَرَجَ مِنْ جُرْحِهِ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ مَيِّتٌ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ وَجَاءَ النَّاسُ يُثْنُونَ عَلَيْهِ، وَجَاءَ رَجُلٌ شَابٌّ، فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِبُشْرَى اللَّهِ لَك مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدَمٍ فِي الإِسْلامِ مَا قَدْ عَلِمْت، ثُمَّ وَلِيتَ فَعَدَلْت، ثُمَّ شَهَادَةٌ قَالَ: وَدِدْت ذَلِكَ كَفَافًا لا عَلَيَّ وَلا لِي. فَلَمَّا أَدْبَرَ إذَا إزَارُهُ يَمَسُّ الأَرْضَ، فَقَالَ: رُدُّوا عَلَيَّ الْغُلامَ، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي ارْفَعْ ثَوْبَك فَإِنَّهُ أَبْقَى لِثَوْبِك وَأَتْقَى لِرَبِّك، يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ اُنْظُرْ مَا عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ، فَحَسَبُوهُ فَوَجَدُوهُ سِتَّةً وَثَمَانِينَ أَلْفًا وَنَحْوَهُ، قَالَ: إنْ وَفَّى لَهُ مَالُ آلِ عُمَرَ فَأَدِّهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَإِلا فَسَلْ فِي بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَإِنْ لَمْ تَفِ أَمْوَالُهُمْ فَسَلْ فِي قُرَيْشٍ وَلا تَعْدُهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ، فَأَدِّ عَنِّي هَذَا الْمَالَ؛ انْطَلِقْ إلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَقُلْ: يَقْرَأُ عَلَيْكُمْ عُمَرُ السَّلامَ، وَلا تَقُلْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنِّي لَسْت الْيَوْمَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمِيرًا وَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ، فَسَلَّمَ وَاسْتَأْذَنَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهَا فَوَجَدَهَا قَاعِدَةً تَبْكِي فَقَالَ: يَقْرَأُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَيْكُمْ السَّلامَ وَيَسْتَأْذِنُ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ، فَقَالَتْ : كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي، وَلَأُوثِرَنَّهُ بِهِ الْيَوْمَ عَلَى نَفَسِي؛ فَلَمَّا أَقْبَلَ قِيلَ: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَدْ جَاءَ، قَالَ: ارْفَعُونِي، فَأَسْنَدَهُ رَجُلٌ إلَيْهِ فَقَالَ: مَا لَدَيْك؟ قَالَ: الَّذِي تُحِبُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَذِنَتْ. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا كَانَ شَيْءٌ أَهَمَّ إلَيَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا قُبِضْت فَاحْمِلُونِي، ثُمَّ سَلِّمْ فَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَإِنْ أَذِنَتْ لِي فَأَدْخِلُونِي، وَإِنْ رَدَّتْنِي فَرُدُّونِي إلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَجَاءَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ حَفْصَةُ وَالنِّسَاءُ تَسِيرُ تَتْبَعُهَا؛ فَلَمَّا رَأَيْنَاهَا قُمْنَا، فَوَلَجَتْ عَلَيْهِ فَبَكَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، وَاسْتَأْذَنَ الرِّجَالُ فَوَلَجَتْ دَاخِلًا لَهُمْ، فَسَمِعْنَا بُكَاءَهَا مِنْ الدَّاخِلِ، فَقَالُوا: أَوْصِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اسْتَخْلِفْ، فَقَالَ: مَا أَجِدُ أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ هَؤُلاءِ النَّفَرِ أَوْ الرَّهْطِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ فَسَمَّى عَلِيًّا وَعُثْمَانَ وَالزُّبَيْرَ وَطَلْحَةَ وَسَعْدًا وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ وَقَالَ: يَشْهَدُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ، كَهَيْئَةِ التَّعْزِيَةِ لَهُ، فَإِنْ أَصَابَتْ الإِمْرَةُ سَعْدًا فَهُوَ ذَاكَ. وَإِلا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ مَا أُمِّرَ، فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ مِنْ عَجْزٍ وَلا خِيَانَةٍ. وَقَالَ: أُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي

(2/170)


بِالْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَيَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ وَأُوصِيهِ بِالأَنْصَارِ خَيْرًا الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْ مُسِيئِهِمْ وَأُوصِيهِ بِأَهْلِ الأَمْصَارِ خَيْرًا، فَهُمْ رِدْءُ الإِسْلامِ، وَجُبَاةُ الْمَالِ، وَغَيْظُ الْعَدُوِّ، وَأَنْ لا يُؤْخَذَ مِنْهُمْ إلا فَضْلُهُمْ عَنْ رِضَاهُمْ وَأُوصِيهِ بِالأَعْرَابِ خَيْرًا، فَإِنَّهُمْ أَصْلُ الْعَرَبِ، وَمَادَّةُ الإِسْلامِ، أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ حَوَاشِي أَمْوَالِهِمْ، وَيُرَدَّ فِي فُقَرَائِهِمْ وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ أَنْ يُوَفِّيَ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَأَنْ يُقَاتِلَ مَنْ وَرَاءَهُمْ، وَلا يُكَلَّفُوا إلا طَاقَتَهُمْ. فَلَمَّا قُبِضَ خَرَجْنَا بِهِ فَانْطَلَقْنَا نَمْشِي، فَسَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَقَالَ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَتْ: أَدْخِلُوهُ، فَأُدْخِلَ، فَوُضِعَ هُنَالِكَ مَعَ صَاحِبَيْهِ؛ فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ دَفْنِهِ اجْتَمَعَ هَؤُلاءِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ إلَى ثَلاثَةٍ مِنْكُمْ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: قَدْ جَعَلْت أَمْرِي إلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ طَلْحَةُ: قَدْ جَعَلْت أَمْرِي إلَى عُثْمَانَ. وَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ جَعَلْت أَمْرِي إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَيُّكُمَا يَبَرَأَ مِنْ هَذَا الأَمْرِ فَنَجْعَلَهُ إلَيْهِ وَاَللَّهُ عَلَيْهِ وَالإِسْلامُ لَيَنْظُرَنَّ أَفْضَلَهُمْ فِي نَفْسِهِ، فَأُسْكِتَ الشَّيْخَانِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَفَتَجْعَلُونَهُ إلَيَّ؟ وَاَللَّهُ عَلَيَّ أَنْ لا آلُو عَنْ أَفْضَلِكُمْ، قَالا: نَعَمْ، فَأَخَذَ بِيَدِ أَحَدِهِمْ فَقَالَ: لَكَ مِنْ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالْقَدَمِ فِي الإِسْلامِ مَا قَدْ عَلِمْت، فَاَللَّهُ عَلَيْك لَئِنْ أَمَّرْتُك لَتَعْدِلَنَّ، وَلَئِنْ أَمَّرْت عُثْمَانَ لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ، ثُمَّ خَلا بِالآخَرِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ؛ فَلَمَّا أَخَذَ الْمِيثَاقَ قَالَ: ارْفَعْ يَدَك يَا عُثْمَانُ، فَبَايَعَهُ وَبَايَعَهُ عَلِيٌّ، وَوَلَجَ أَهْلُ الدَّارِ فَبَايَعُوهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ رَأَى لِلْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِي هَذَا الأَثَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ جَعْلُ أَمْرِ الْخِلافَةِ شُورَى بَيْنَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ وَالصَّلاحِ، كَمَا يَجُوزُ الِاسْتِخْلافُ وَعَقْدُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ. قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: أَجْمَعُوا عَلَى انْعِقَادِ الْخِلافَةِ بِالِاسْتِخْلافِ، وَعَلَى انْعِقَادِهَا بِعَقْدِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لإِنْسَانٍ حَيْثُ لا يَكُونُ هُنَاكَ اسْتِخْلافٌ غَيْرُهُ، وَعَلَى جَوَازِ جَعْلِ الْخِلافَةِ شُورَى بَيْنَ عَدَدٍ مَحْصُورٍ أَوْ غَيْرِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ نَصْبُ خَلِيفَةٍ.

(2/171)


بَابُ أَنَّ وَلِيَّ الْمَيِّتِ يَقْضِي دَيْنَهُ إذَا عَلِمَ صِحَّتَهُ 3294- عَنْ سَعْدٍ الأَطْوَلِ: أَنَّ أَخَاهُ مَاتَ وَتَرَكَ ثَلاثَ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَتَرَكَ عِيَالًا، قَالَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أُنْفِقَهَا عَلَى عِيَالِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أَخَاكَ مُحْتَبِسٌ بِدَيْنِهِ فَاقْضِ عَنْهُ» . فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَدَّيْتُ عَنْهُ إلا دِينَارَيْنِ ادَّعَتْهُمَا امْرَأَةٌ وَلَيْسَ لَهَا بَيِّنَةٌ، قَالَ: «فَأَعْطِهَا فَإِنَّهَا مُحِقَّةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ إخْرَاجِ الدَّيْنِ عَلَى مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ نَفَقَةِ أَوْلادِ الْمَيِّتِ وَنَحْوِهَا. وَلا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلافًا وَهَكَذَا يُقَدَّمُ الدَّيْنُ عَلَى الْوَصِيَّة.

(2/172)


 كِتَابُ الْفَرَائِضِ

3295- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا فَإِنَّهُ نِصْفُ الْعِلْمِ، وَهُوَ يُنْسَى، وَهُوَ أَوَّلُ شَيْءٍ يُنْزَعُ مِنْ أُمَّتِي» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَالدَّارَقُطْنِيّ. 3296- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْعِلْمُ ثَلاثَةٌ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَضْلٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. 3297- وَعَنْ الأَحْوَصِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ، وَتَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا، فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ، وَالْعِلْمُ مَرْفُوعٌ، وَيُوشِكُ أَنْ يَخْتَلِفَ اثْنَانِ فِي الْفَرِيضَةِ وَالْمَسْأَلَةِ فَلا يَجِدَانِ أَحَدًا يُخْبِرُهُمَا» . ذَكَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ. 3298- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهَا فِي دِينِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهَا حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَعْلَمُهَا بِالْحَلالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَقْرَؤُهَا لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أُبَيٌّ، وَأَعْلَمُهَا بِالْفَرَائِضِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ؛ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ، وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَإِنَّهُ نِصْفُ الْعِلْمِ» قَالَ ابْنُ الصَّلاحِ: لَفْظُ النِّصْفِ هَا هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ الْقِسْمِ الْوَاحِدِ وَإِنْ لَمْ يَتَسَاوَيَا. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: إنَّمَا قِيلَ لَهُ: نِصْفُ الْعِلْمِ لأَنَّهُ مُبْتَلَى بِهِ النَّاسُ كُلُّهُمْ. وَفِيهِ التَّرْغِيبُ فِي تَعَلُّمِ الْفَرَائِضِ

(2/173)


وَتَعْلِيمِهَا وَالتَّحْرِيضُ عَلَى حِفْظِهَا، لأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ تُنْسَى وَكَانَتْ أَوَّلَ مَا يُنْزَعُ مِنْ الْعِلْمِ، كَانَ الِاعْتِنَاءَ أَهَمُّ وَمَعْرِفَتَهَا لِذَلِكَ أَقْوَمُ. قَوْلُهُ: «وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَضْلٌ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ النَّافِعَ الَّذِي يَنْبَغِي تَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمُهُ هُوَ الثَّلاثَةُ الْمَذْكُورَةُ، وَمَا عَدَاهَا فَفَضْلٌ لا تَمَسُّ حَاجَةٌ إلَيْهِ. وَحَدِيثُ أَنَسٍ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَدْ أُعِلَّ بِالإِرْسَالِ، وَسَمَاعُ أَبِي قِلابَةَ مِنْ أَنَسٍ صَحِيحٌ، إلا أَنَّهُ قِيلَ: لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيّ الِاخْتِلافَ عَلَى أَبِي قِلابَةَ فِي الْعِلَلِ وَرَجَّحَ هُوَ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْخَطِيبُ فِي الْمُدْرَجِ أَنَّ الْمَوْصُولَ مِنْهُ ذِكْرُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالْبَاقِي مُرْسَلٌ وَرَجَّحَ ابْنُ الْمَوَّاقِ وَغَيْرُهُ رِوَايَةَ الْمَوْصُولِ وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ أَنَسٍ أَخْرَجَهَا التِّرْمِذِيُّ، وَفِي الْبَابِ عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الصَّغِيرِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ الْعُقَيْلِيِّ فِي الضُّعَفَاءِ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ، وَفِي إسْنَادِهِ كَوْثَرٌ وَهُوَ مَتْرُوكٌ، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى فَضِيلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْمَذْكُورِينَ، وَإِنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَعْلَمَهُمْ بِالْفَرَائِضِ فَيَكُونُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ عِنْدَ الاخْتِلافِ فِيهَا أَوْلَى مِنْ الرُّجُوعِ إلَى غَيْرِهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ فِيهَا مُقَدَّمًا عَلَى أَقْوَالِ سَائِرِ الصَّحَابَةِ، وَلِهَذَا اعْتَمَدَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْفَرَائِضِ. بَابُ الْبدَايَةِ بِذَوِي الْفُرُوضِ وَإِعْطَاءِ الْعَصَبَةِ مَا بَقِيَ 3299- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3300- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِابْنَتَيْهَا مِنْ سَعْدٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ فِي أُحُدٍ شَهِيدًا وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا، وَلا يُنْكَحَانِ إلا بِمَالٍ، فَقَالَ: «يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ» . فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى عَمِّهِمَا فَقَالَ: «أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ وَأُمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ. 3301- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ زَوْجٍ وَأُخْتٍ لأَبَوَيْنِ، فَأَعْطَى

(2/174)


الزَّوْجَ النِّصْفَ وَالأُخْتَ النِّصْفَ، وَقَالَ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى ... بِذَلِكَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3302- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلا أَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ، {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلاهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا» الْفَرَائِضُ: الأَنْصِبَاءُ الْمُقَدَّرَةُ، وَأَهْلُهَا: الْمُسْتَحِقُّونَ لَهَا بِالنَّصِّ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ أَهْلِ الْفُرُوضِ يَكُونُ لأَقْرَبِ الْعَصَبَاتِ مِنْ الرِّجَالِ وَلا يُشَارِكُهُ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ. قَوْلُهُ: (فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ) أَيْ قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} الآيَةَ والْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ. قَوْلُهُ: (سُئِلَ عَنْ زَوْجٍ وَأُخْتٍ لأَبَوَيْنِ) الْحَدِيثُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ يَسْتَحِقُّ النِّصْفَ، وَالأُخْتُ النِّصْفَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ الَّذِي لَمْ يَتْرُكْ غَيْرَهُمَا، وَذَلِكَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ. قَوْلُهُ: «وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا» قَالَ الْخَطَّابِيِّ: هُوَ وَصْفٌ لِمَنْ خَلَّفَهُ الْمَيِّتُ بِلَفْظِ الْمَصْدَرِ: أَيْ تَرَكَ ذَوِي ضَيَاعٍ: أَيْ لا شَيْءَ لَهُمْ. بَابُ سُقُوطِ وَلَدِ الأَبِ بِالإِخْوَةِ مِنْ الأَبَوَيْنِ 3303- عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ، وَإِنَّ أَعْيَانَ بَنِي الأُمِّ يَتَوَارَثُونَ بَنِي الْعَلاتِ، الرَّجُلُ يَرِثُ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ، دُونَ أَخِيهِ لأَبِيهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. 3304- وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْهُ تَعْلِيقًا قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ.

(2/175)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَإِنَّ أَعْيَانَ بَنِي الأُمِّ) الأَعْيَانُ مِن الإِخْوَةِ هُم الإِخْوَةُ مِن أَب وَأُم. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (دُونَ بَنِي الْعَلاتِ) هُمْ أَوْلادُ الأُمَّهَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ، وَيُقَالُ لِلإِخْوَةِ لأُمٍّ فَقَطْ: أَخْيَافُ وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تُقَدَّمُ الإِخْوَةُ لأَبٍ وَأُمٍّ عَلَى الإِخْوَةِ لأَبٍ، وَلا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلافًا. بَابُ الأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةٌ 3305- عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: سُئِلَ أَبُو مُوسَى عَنْ ابْنَةٍ وَابْنَةِ ابْنٍ وَأُخْتٍ، فَقَالَ: لِلِابْنَةِ النِّصْفُ، وَلِلأُخْتِ النِّصْفُ، وَائْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ؛ فَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُخْبِرَ بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى، فَقَالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إذًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ، أَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِابْنَةِ الِابْنِ السُّدُسُ - تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ - وَمَا بَقِيَ فَلِلأُخْتِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا مُسْلِمًا وَالنَّسَائِيُّ. 3306- وَزَادَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ: فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: لا تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ فِيكُمْ. 3307- وَعَنْ الأَسْوَدِ: أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَرَّثَ أُخْتًا وَابْنَةً جَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ وَهُوَ بِالْيَمَنِ وَنَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَئِذٍ حَيٌّ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الأُخْتَ مَعَ الْبِنْتِ عَصَبَةٌ تَأْخُذُ الْبَاقِيَ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ وَالْجَدِّ 3308- عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ قَالَ: جَاءَتْ الْجَدَّةُ إلَى أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَتْهُ مِيرَاثَهَا، فَقَالَ: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، وَمَا عَلِمْتُ لَكِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا، فَارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ، فَسَأَلَ النَّاسَ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَعْطَاهَا السُّدُسَ، فَقَالَ: هَلْ مَعَكَ غَيْرُكَ؟ فَقَامَ

(2/176)


مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةُ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: ثُمَّ جَاءَتْ الْجَدَّةُ الأُخْرَى إلَى عُمَرَ فَسَأَلَتْهُ مِيرَاثَهَا، فَقَالَ: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، وَلَكِنْ هُوَ ذَاكَ السُّدُسُ، فَإِنْ اجْتَمَعْتُمَا فَهُوَ بَيْنَكُمَا، وَأَيُّكُمَا خَلَتْ بِهِ فَهُوَ لَهَا. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 3309- وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى «لِلْجَدَّتَيْنِ مِنْ الْمِيرَاثِ بِالسُّدُسِ بَيْنَهُمَا» . رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي الْمُسْنَدِ. 3310- وَعَنْ بُرَيْدَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ لِلْجَدَّةِ السُّدُسَ إذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهَا أُمٌّ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 3311- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَلاثَ جَدَّاتٍ السُّدُسَ: ثِنْتَيْنِ مِنْ قِبَلِ الأَبِ، وَوَاحِدَةٌ مِنْ قِبَلِ الأُمِّ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ هَكَذَا مُرْسَلًا. 3312- وَعَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: جَاءَتْ الْجَدَّتَانِ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ السُّدُسَ لِلَّتِي مِنْ قِبَلِ الأُمِّ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ: أَمَا إنَّكَ تَتْرُكُ الَّتِي لَوْ مَاتَتْ وَهُوَ حَيٌّ كَانَ إيَّاهَا يَرِثُ؟ فَجَعَلَ السُّدُسَ بَيْنَهُمَا. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ. 3313- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنَّ ابْنَ ابْنِي مَاتَ فَمَا لِي مِنْ مِيرَاثِهِ؟ فَقَالَ: «لَكَ السُّدُسُ» . فَلَمَّا أَدْبَرَ دَعَاهُ قَالَ: «لَك سُدُسٌ آخَرُ» . فَلَمَّا أَدْبَرَ دَعَاهُ فَقَالَ: «إنَّ السُّدُسَ الآخَرَ طُعْمَةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3314- وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ عَنْ فَرِيضَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْجَدِّ، فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ الْمُزَنِيّ فَقَالَ: قَضَى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: مَاذَا؟ قَالَ: السُّدُسُ، قَالَ: مَعَ مَنْ؟ قَالَ: لا أَدْرِي، قَالَ: لا دَرَيْتَ فَمَا تُغْنِي إذَنْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْجَدَّةِ الْوَاحِدَةِ السُّدُسُ، وَكَذَلِكَ فَرْضُ الْجَدَّتَيْنِ وَالثَّلاثِ انتهى. قَالَ

(2/177)


فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَلا يَرِثُ غَيْرَ ثَلاثٍ جَدَّاتٍ أُمّ الأُمّ وَأُمّ الأَبِّ وَأُمّ أَبِي الأَبِّ وَإِنْ عَلَوْنَ أُمُومَة وَأُبُوَّة إِلا الْمدلية بِغَيْرِ وَارِثٍ كَأُمِّ أَبِي الأُمِّ. انْتَهَى. قَالَ الشَّارِحُ: وَحَدِيثُ عِمْرَانَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَدَّ يَسْتَحِقُّ مَا فَرَضَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ قَتَادَةُ: لا نَدْرِي مَعَ أَيِّ شَيْءٍ وَرِثَهُ قَالَ: وَأَقَلُّ مَا يَرِثُهُ الْجَدُّ السُّدُسُ وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ تَرَكَ الْمَيِّتُ بِنْتَيْنِ وَهَذَا السَّائِلُ فَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي ثُلُثٌ دَفَعَ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُ إلَى الْجَدِّ سُدُسًا بِالْفَرْضِ لِكَوْنِهِ جِدًّا، وَلَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ السُّدُسَ الآخَرَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ بِالتَّعْصِيبِ لِئَلا يُظَنَّ أَنَّ فَرْضَهُ الثُّلُثُ وَتَرَكَهُ حَتَّى وَلَّى - أَيْ ذَهَبَ - فَدَعَاهُ وَقَالَ: «لَك سُدُسٌ آخَرُ» . ثُمَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ هَذَا السُّدُسَ طُعْمَةٌ أَيْ زَائِدٌ عَلَى السَّهْمِ الْمَفْرُوضِ، وَمَا زَادَ عَلَى الْمَفْرُوضِ فَلَيْسَ بِلازِمٍ كَالْفَرْضِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي الْجَدِّ اخْتِلافًا طَوِيلًا فَفِي الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْجَدِّ قَضَايَا مُخْتَلِفَةً وَجَعَلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ كَالأَبِ كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ مِنْ رَأْيِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَنَّ الْجَدَّ أَوْلَى مِنْ الأَخِ، وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُ الْكَلامَ فِيهِ انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَالْجَدِّ يَسْقُطُ الإِخْوَة مِنَ الأُمِّ إِجْمَاعًا وَكَذَا مِنَ الأَبَوَيْنِ أَوْ الأَبِّ، وَهِي رِوَايَةٌ عَنْ الإِمَامِ أَحْمَدٍ وَاخْتَارَهَا بَعْضَ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الصِّدْيِقِ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضْيَ اللهُ عَنْهُمْ. انْتَهَى. بَابُ مَا جَاءَ فِي ذَوِي الأَرْحَامِ وَالْمَوْلَى مِنْ أَسْفَلُ وَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ 3305- عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَأَنَا وَارِثُ مَنْ لا وَارِثَ لَهُ أَعْقِلُ عَنْهُ وَأَرِثُ، وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لا وَارِثَ لَهُ، يَعْقِلُ عَنْهُ وَيَرِثُهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. 3316- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ أَنَّ رَجُلًا رَمَى رَجُلًا بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ إلا خَالٌ، فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ إلَى عُمَرَ فَكَتَبَ عُمَرُ: إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اللَّهُ وَرَسُولُهُ مَوْلَى مَنْ لا مَوْلَى لَهُ، وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لا وَارِثَ لَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ.

(2/178)


3317- وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْهُ الْمَرْفُوعُ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. 3318- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا مَاتَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا إلا عَبْدًا هُوَ أَعْتَقَهُ فَأَعْطَاهُ مِيرَاثَهُ. 3319- وَعَنْ قَبِيصَةَ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: مَا السُّنَّةُ فِي الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ يُسْلِمُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: «هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ» . وَهُوَ مُرْسَلٌ قَبِيصَةُ لَمْ يَلْقَ تَمِيمًا الدَّارِيَّ. 3320- وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ مَوْلَى لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَّ مِنْ عَذْقِ نَخْلَةٍ فَمَاتَ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «هَلْ لَهُ مِنْ نَسِيبٍ أَوْ رَحِمٍ» ؟ قَالُوا: لا. قَالَ: «أَعْطُوا مِيرَاثَهُ بَعْضَ أَهْلِ قَرْيَتِهِ» . رَوَاهُنَّ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ. 3321- وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنْ الأَزْدِ فَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ادْفَعُوهُ إلَى أَكْبَرِ خُزَاعَةَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3322- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - آخَى بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِذَلِكَ حَتَّى نَزَلَتْ: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ} فَتَوَارَثُوا بِالنَّسَبِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَوْلُهُ: «الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لا وَارِثَ لَهُ» قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِحَدِيثَيْ الْبَابِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا عَلَى أَنَّ الْخَالَ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَوَرَّثَ بَعْضُهُمْ الْخَالَ وَالْخَالَةَ وَالْعَمَّةَ، وَإِلَى هَذَا الْحَدِيثِ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَوْرِيثِ ذَوِي الأَرْحَامِ وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَلَمْ يُوَرِّثْهُمْ، وَجَعَلَ الْمِيرَاثَ فِي بَيْتِ الْمَالِ. انتهى. قَالَ الشَّارِحُ: وَمِنْ الْمُؤَيِّدَاتِ لِمِيرَاثِ ذَوِي الأَرْحَامِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ» . انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: «هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَمَاتَ وَلا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ مِيرَاثُهُ. قَوْلُهُ: «هَلْ لَهُ مِنْ نَسِيبٍ أَوْ رَحِمٍ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَوْرِيثِ ذَوِي الأَرْحَامِ. قَوْلُهُ: «أَعْطُوا مِيرَاثَهُ بَعْضَ أَهْلِ قَرْيَتِهِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ صَرْفِ مِيرَاثِ

(2/179)


مَنْ لا وَارِثَ لَهُ مَعْلُومٌ إلَى وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: «ادْفَعُوه إلَى أَكْبَرِ خُزَاعَةَ» أنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّوْرِيثِ لأَنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ يَجْتَمِعُ هُوَ وَقَبِيلَتُهُ فِي جَدٍّ مَعْلُومٍ وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ وَارِثٌ مِنْهُمْ عَلَى التَّعْيِينِ فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا أَقْرَبُهُمْ إلَيْهِ نَسَبًا، لأَنَّ، كِبَرَ السِّنِّ مَظِنَّةٌ لِعُلُوِّ الدَّرَجَةِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: أَسْبَابُ التَّوَارُثُ رَحِم وَنِكَاح وَوَلاء عِتْقٍ إِجْمَاعًا، وَذَكَرَ عِنْدَ عَدَمَ ذَلِكَ كُلّه مُوَالاته وَمُعَاقَدته وَإِسْلامه عَلَى يَدَيْهِ وَالْتِقَاطِهِ وَكَوْنِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْوَرَثَةِ وَقَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. انْتَهَىَ. بَابُ مِيرَاثِ ابْنِ الْمُلاعَنَةِ وَالزَّانِيَةِ مِنْهُمَا وَمِيرَاثُهُمَا مِنْهُ وَانْقِطَاعُهُ مِنْ الأَبِ 3323- فِي حَدِيثِ الْمُتَلاعِنَيْنِ الَّذِي يَرْوِيهِ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: وَكَانَتْ حَامِلًا وَكَانَ ابْنُهَا يُنْسَبُ إلَى أُمِّهِ، فَجَرَتْ السُّنَّةُ أَنَّهُ يَرِثُهَا وَتَرِثُ مِنْهُ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهَا. أَخْرَجَاهُ. 3324- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا مُسَاعَاةَ فِي الإِسْلامِ، مَنْ سَاعَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَدْ أَلْحَقْتُهُ بِعَصَبَتِهِ وَمَنْ ادَّعَى وَلَدًا مِنْ غَيْرِ رِشْدَةٍ فَلا يَرِثُ وَلا يُورَثُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3325- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ عَاهَرَ بِحُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ فَالْوَلَدُ وَلَدُ زِنًا لا يَرِثُ وَلا يُورَثُ» . رَوَاهُ ... التِّرْمِذِيُّ. 3326- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهُ جَعَلَ مِيرَاثَ ابْنِ الْمُلاعَنَةِ لأُمِّهِ وَلِوَرَثَتِهَا مِنْ بَعْدِهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وأحاديث الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لا يَرِثُ ابْنُ الْمُلاعَنَةِ مِنْ الْمُلاعِنِ لَهُ وَلا مِنْ قَرَابَتِهِ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ لا يَرِثُونَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ وَلَدُ الزِّنَا وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَى ذَلِكَ، وَيَكُونُ مِيرَاثُهُ لأُمِّهِ وَلِقَرَابَتِهَا وَتَكُونُ عَصَبَتُهُ عَصَبَةَ أُمِّهِ.

(2/180)


قَوْلُهُ: «لا مُسَاعَاةَ فِي الإِسْلامِ» الْمُسَاعَاةُ: الزِّنَا. بَابُ مِيرَاثِ الْحَمْلِ 3327- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ وَرِثَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 3328- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالا: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَرِثُ الصَّبِيُّ حَتَّى يَسْتَهِلَّ» . ذَكَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «إذَا اسْتَهَلَّ» قَالَ ابْنُ الأَثِيرِ: اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ إذَا بَكَى عِنْدَ وِلادَتِهِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ وِلادَتِهِ حَيًّا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ بَلْ وُجِدَتْ مِنْهُ أَمَارَةٌ تَدُلسُّ عَلَى حَيَاتِهِ وَالْحَدِيثَانِ يَدُلانِ عَلَى أَنَّ الْمَوْلُودَ إذَا وَقَعَ مِنْهُ الِاسْتِهْلالُ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ ثُمَّ مَاتَ وَرِثَهُ قَرَابَتُهُ وَوَرِثَ هُوَ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ مِمَّا لا خِلافَ فِيهِ. بَابُ الْمِيرَاثِ بِالْوَلاءِ 3329- صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . 3330- وَلِلْبُخَارِيِّ فِي رِوَايَةٍ: «الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْطَى الْوَرِقَ، وَوَلِيَ ... النِّعْمَةَ» . 3331- وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَلْمَى بِنْتِ حَمْزَةَ: أَنَّ مَوْلاهَا مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَتَهُ، فَوَرَّثَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ابْنَتَهُ النِّصْفَ، وَوَرَّثَ يَعْلَى النِّصْفَ وَكَانَ ابْنَ سَلْمَى. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3332- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ مَوْلَى لِحَمْزَةَ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ ابْنَتَهُ وَابْنَةَ حَمْزَةَ، فَأَعْطَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ابْنَتَهُ النِّصْفَ وَابْنَةَ حَمْزَةَ النِّصْفَ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِهَذَا الْخَبَرِ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَذَهَبَ إلَيْهِ. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَيَحْيَى بْنِ آدَمَ وَإِسْحَاقَ بْنِ

(2/181)


رَاهْوَيْهِ أَنَّ الْمَوْلَى كَانَ لِحَمْزَةَ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لِبِنْتِ حَمْزَةَ. 3333- فَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ عَنْ ... عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ بِنْتِ حَمْزَةَ وَهِيَ أُخْتُ ابْنِ شَدَّادٍ لأُمِّهِ قَالَتْ: مَاتَ مَوْلايَ وَتَرَكَ ابْنَتَهُ، فَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَالَهُ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنَتِهِ، فَجَعَلَ لِي النِّصْفَ وَلَهَا النِّصْفُ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى فِيهِ ضَعْفٌ. فَإِنْ صَحَّ هَذَا لَمْ يَقْدَحْ فِي الرِّوَايَةِ الأُولَى، فَإِنَّ مِنْ الْمُحْتَمَلِ تَعَدُّدَ الْوَاقِعَةِ، وَمِنْ الْمُحْتَمَلِ أَنَّهُ أَضَافَ مَوْلَى الْوَالِدِ إلَى الْوَلَدِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِانْتِقَالِهِ إلَيْهِ أَوْ تَوْرِيثِهِ بِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: اتَّفَقَ الرُّوَاةُ عَلَى أَنَّ ابْنَةَ حَمْزَةَ هِيَ الْمُعْتَقَةُ، وَقَالَ: إنَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ: إنَّهُ مَوْلَى حَمْزَةَ غَلَطٌ، وَالأَوْلَى الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِمِثْلِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَحَدِيثُ ابْنَةِ حَمْزَةَ فِيهِ - عَلَى فَرْضِ أَنَّهَا هِيَ الْمُعْتِقَةُ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَوْلَى الأَسْفَلَ إذَا مَاتَ وَتَرَكَ أَحَدًا مِنْ ذَوِي سِهَامِهِ وَمُعْتَقَهُ كَانَ لِذَوِي السِّهَامِ مِنْ قَرَابَتِهِ مِقْدَارُ مِيرَاثِهِمْ الْمَفْرُوضِ وَالْبَاقِي لِلْمُعْتَقِ، وَلا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ عُمُومُ قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» و «وَالْوَلاءُ لِمَنْ أَعْطَى الْوَرِقَ وَوَلِيَ النِّعْمَةَ» . وَقَدْ وَقَعَ الْخِلافُ فِيمَنْ تَرَكَ ذَوِي أَرْحَامِهِ وَمُعْتَقَهُ، فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَالنَّاصِرِ أَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقِ لا يَرِثُ إلا بَعْدَ ذَوِي أَرْحَامِ الْمَيِّتِ، وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إلَى إنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى ذَوِي أَرْحَامِ الْمَيِّتِ وَيَأْخُذُ الْبَاقِي بَعْدَ ذَوِي السِّهَامِ، وَيَسْقُطُ مَعَ الْعَصَبَاتِ وَالرِّوَايَةُ الْمَذْكُورَةُ عَنْ قَتَادَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَتِيقَ إذَا مَاتَ وَتَرَكَ ذَوِي سِهَامِهِ وَعَصَبَةَ مَوْلاهُ كَانَ لِذَوِي سِهَامِهِ نَصِيبُهُمْ وَالْبَاقِي لِذَوِي سِهَامِ مَوْلاهُ، وَاَلَّذِي جَزَمَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْفَرَائِضِ أَنَّ ذَوِي سِهَامِ الْمَيِّتِ يُسْقِطُونَ ذَوِي سِهَامِ الْمُعْتَقِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مِيرَاثُ الْوَلاءِ لِلأَكْبَرِ مِنْ الذُّكُورِ، وَلا تَرِثُ النِّسَاءُ مِنْ الْوَلاءِ إلا وَلاءَ مَنْ أَعْتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَهُ مَنْ أَعْتَقْنَ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُمْ كَانُوا لا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ مِنْ الْوَلاءِ إلا وَلاءَ مَنْ أَعْتَقْنَ.

(2/182)


بَابُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْوَلاءِ وَهِبَتِهِ وَمَا جَاءَ فِي السَّائِبَةِ 3334- عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلاءِ وَهِبَتِهِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 3335- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلا عَدْلًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِمُسْلِمٍ فِيهِ: «بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ» . 3336- لَكِنْ لَهُ مِثْلُهُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. 3337- وَعَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: إنِّي أَعْتَقْتُ عَبْدًا لِي وَجَعَلْتُهُ سَائِبَةً فَمَاتَ وَتَرَكَ مَالًا وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إنَّ أَهْلَ الإِسْلامِ لا يُسَيِّبُونَ، وَإِنَّمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُسَيِّبُونَ وَأَنْتَ وَلِيُّ نِعْمَتِهِ وَلَك مِيرَاثُهُ. وَإِنْ تَأَثَّمَتْ وَتَحَرَّجَتْ فِي شَيْءٍ فَنَحْنُ نَقْبَلُهُ وَنَجْعَلُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. رَوَاهُ الْبَرْقَانِيُّ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ. 3338- وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْهُ: إنَّ أَهْلَ الإِسْلامِ لا يُسَيِّبُونَ، وَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُسَيِّبُونَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَصِحُّ بَيْعُ الْوَلاءِ وَلا هِبَتُهُ لأَنَّهُ أَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ كَالنَّسَبِ فَلا يَتَأَتَّى انْتِقَالُهُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ تَحْوِيلُ النَّسَبِ، وَحُكْمُ الْوَلاءِ حُكْمُهُ لِحَدِيثِ: «الْوَلاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» . قَوْلُهُ: «صَرْفًا وَلا عَدْلًا» الصَّرْفُ: التَّوْبَةُ وَقِيلَ: النَّافِلَةُ، وَالْعَدْلُ: الْفِدْيَةُ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يُوَالِيَ غَيْرَ مَوَالِيهِ. قَوْلُهُ: «وَجَعَلْتُهُ سَائِبَةً» قَالَ فِي الْقَامُوسِ: السَّائِبَةُ: الْمُهْمَلَةُ: وَالْعَبْدُ يَعْتِقُ عَلَى أَنْ لا وَلاءَ لَهُ، قال الشارح: وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ثُمَّ هَدَمَهُ الإِسْلامُ.

(2/183)


بَابُ الْوَلاءِ هَلْ يُوَرَّثُ أَوْ يُورَثُ بِهِ؟ 3339- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: تَزَوَّجَ رِيَابُ بْنُ حُذَيْفَةَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَهْمٍ أُمَّ وَائِلِ بِنْتَ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيَّةَ، فَوَلَدَتْ لَهُ ثَلاثَةً، فَتُوُفِّيَتْ أُمُّهُمْ، فَوَرِثَهَا بَنُوهَا رِبَاعَهَا وَوَلاءَ مَوَالِيهَا، فَخَرَجَ بِهِمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مَعَهُ إلَى الشَّامِ، فَمَاتُوا فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ، فَوَرِثَهُمْ عَمْرُو وَكَانَ عَصَبَتَهُمْ؛ فَلَمَّا رَجَعَ عَمْرُو وَجَاءَ بَنُو مَعْمَرِ بْنِ حَبِيبٍ يُخَاصِمُونَهُ فِي وَلاءِ أُخْتِهِمْ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِمَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَا أَحْرَزَ الْوَالِدُ أَوْ الْوَلَدُ فَهُوَ لِعَصَبَتِهِ مَنْ كَانَ، فَقَضَى لَنَا بِهِ، وَكَتَبَ لَنَا كِتَابًا فِيهِ شَهَادَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَأَبُو دَاوُد بِمَعْنَاهُ. 3340- وَلأَحْمَدَ وَسَطُهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَمَّا رَجَعَ بَنُو مَعْمَرٍ إلَى قَوْلِهِ فَقَضَى لَنَا بِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ صَالِحٍ: حَدِيثُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أَحْرَزَ الْوَالِدُ أَوْ الْوَلَدُ فَهُوَ لِعَصَبَتِهِ مَنْ كَانَ» . هَكَذَا يَرْوِيهِ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: (الْوَلاءُ لِلْكُبَرِ) فَهَذَا الَّذِي نَذْهَبُ إلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ النَّاسِ فِيمَا بَلَغَنَا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (رِيَاب) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَهَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ وَبَعْدَ الأَلِفِ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ وَذَكَرَهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ فِي مَادَّةِ الْمَهْمُوزِ. قَوْلُهُ: (عَمَوَاسَ) هِيَ قَرْيَةٌ بَيْنَ الرَّمْلَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَوْلُهُ: (أنَّهُمْ قَالُوا: الْوَلاءُ لِلْكُبَرِ) إلَى آخره، أَرَادَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَنَّ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ يَقْتَضِي أَنَّ وَلاءَ عُتَقَاءِ أُمِّ وَائِلِ بِنْتِ مَعْمَرٍ يَكُونُ لإِخْوَتِهَا دُونَ بَنِيهَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، ذَكَرَ مَعْنَى ذَلِكَ فِي نِهَايَةِ الْمُجْتَهِدِ وَحَدِيثُ عُمَرَ وَفِعْلُهُ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْبَنِينَ ثُمَّ رَدَّهُ إلَى الإِخْوَةِ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ شُرَيْحٍ وَجَمَاعَةٍ وَحُجَّتُهُمْ ظَاهِرُ خَبَرِ عُمَرَ، لأَنَّ الْبَنِينَ عَصَبَتُهَا، وَلَمَّا كَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ لَهَا رُدَّ الْوَلاءُ إلَى إخْوَتِهَا لأَنَّهُمْ عَصَبَتُهَا وَفِي ذَلِكَ دَلالَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَلاءَ لا يُوَرِّثُ وَإِلا لَكَانَ عَمْرُو أَحَقَّ بِهِ مِنْهُمْ. إِلَى أَنْ قَالَ وَمَعْنَى

(2/184)


كَوْنِ الْوَلاءِ لِلْكُبَرِ أَنَّهَا لا تَجْرِي فِيهِ قَوَاعِدُ الْمِيرَاثِ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِإِرْثِهِ الْكُبَرُ مِنْ أَوْلادِ الْمُعْتِقِ أَوْ غَيْرِهِمْ، فَإِذَا خَلَّفَ رَجُلٌ وَلَدَيْنِ وَقَدْ كَانَ أَعْتَقَ عَبْدًا فَمَاتَ أَحَدُ الْوَلَدَيْنِ وَخَلَّفَ وَلَدًا ثُمَّ مَاتَ الْعَتِيقُ اخْتَصَّ بِوَلائِهِ ابْنُ الْمُعْتِقِ دُونَ ابْنِ ابْنِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ رَجُلٌ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَ وَتَرَكَ أَخَوَيْنِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا، وَتَرَكَ ابْنًا ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتِقُ فَمِيرَاثُهُ لأَخِي الْمُعْتِقِ دُونَ ابْنِ أَخِيهِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلالِ بِمَا رُوِيَ عَنْ هَؤُلاءِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ لا يُخَالِفُونَ التَّوْرِيثَ إلا تَوْقِيفًا. انتهى. قال الموفق في المقنع: ولا يرث النساء من الولاء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن أو كاتبن أو كاتب من كاتبن. وعنه في بنت المعتق خاصة ترث، والأول أصح. إلى أن قال: والولاء لا يورث وإنما يورث به، ولا يباع ولا يوهب، وهو للكبر فإذا مات المعتق وخلف عتيقه وابنين فمات أحد الابنين بعده عن ابن ثم مات العتيق فالميراث لابن المعتق. فإن مات الابنان بعده وقبل المولى وخلف أحدهما ابنًا والآخر تسعة فولاؤه بينهم على عددهم، وإذا اشترى رجل وأخته أباهما أو أخاهما فعتق عليهما ثم اشترى عبدًا فأعتقه ثم مات المعتق ثم مات مولاه ورثه الرجل دون أخته، وإذا ماتت المرأة وخلفت ابنها وعصبتها ومولاها فولاؤه لابنها وعقله على عصبتها. انتهى. قال في الحاشية: قوله: (وهو للكبر) تفسيره أنه يورث المعتق من عصابات سيده أقربهم إليه وأولاهم بميراثه يوم موت العبد، هذا قول أكثر أهل العلم. روي عن عمر وعثمان وعلي وزيد وابن مسعود رضي الله عنهم. بَابُ مِيرَاثِ الْمُعْتَقِ بَعْضُهُ 3341- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْمُكَاتَبُ يَعْتِقُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى، وَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ وَيُورَثُ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 3342- وَكَذَلِكَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلَفْظُهُمَا: ... «إذَا أَصَابَ الْمُكَاتَبُ حَدًّا أَوْ مِيرَاثًا وَرِثَ بِحِسَابِ مَا عَتَقَ مِنْهُ» . 3343- وَالدَّارَقُطْنِيّ مِثْلُهُمَا، وَزَادَ: «وَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِحِسَابِ مَا عَتَقَ مِنْهُ» .

(2/185)


3344- وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: إذَا كَانَ الْعَبْدُ نِصْفُهُ حُرًّا وَنِصْفُهُ عَبْدًا وَرِثَ بِقَدْرِ الْحُرِّيَّةِ. كَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِ الْمُكَاتَبِ إذَا أَدَّى بَعْضَ مَالِ الْكِتَابَةِ؛ فَذَهَبَ أَبُو طَالِبٍ وَالْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ إلَى أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ صَارَ لِقَدْرِهِ حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ فِيمَا يَتَبَعَّضُ مِنْ الأَحْكَامِ حَيًّا وَمَيِّتًا كَالْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ وَالْحَدِّ وَالأَرْشِ، وَفِيمَا لا يَتَبَعَّضُ كَالْقَوَدِ وَالرَّجْمِ وَالْوَطْءِ بِالْمِلْكِ لَهُ حُكْمُ الْعَبْدِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: أنَّهُ لا يَثْبُتُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الأَحْرَارِ، بَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ الْعَبْدِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْحُرِّيَّةَ وَحَكَاهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ عَنْ الْجُمْهُورِ وَحُكِيَ فِي الْبَحْرِ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالزُّهْرِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالْعِتْرَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ: أَنَّ الْمُكَاتَبَ لا يَعْتِقُ حَتَّى يُوَفِّيَ وَلَوْ سَلَّمَ الأَكْثَرَ وَاحْتَجُّوا بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: «وَالْمُكَاتَبُ قِنٌّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» . إِلَى أَنْ قَالَ: وَحَدِيثُ الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ. وله فِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ يَعْتِقُ بِنَفْسِ الْكِتَابَةِ وَرَجَّحَ بِأَنَّ حُكْمَ الْكِتَابَةِ حُكْمُ الْبَيْعِ، وَرَجَحَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ بِأَنَّهُ أَحْوَطُ، لأَنَّ مِلْكَ السَّيِّدِ لا يَزُولُ إلا بَعْدَ تَسْلِيمِ مَا قَدْ رَضِيَ بِهِ مِنْ الْمَالِ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَالْحَدِيثُ الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَرْجَحُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ امْتِنَاعِ الإِرْثِ بِاخْتِلافِ الدِّينِ وَحُكْمِ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مِيرَاثٍ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ 3345- عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا مُسْلِمًا وَالنَّسَائِيُّ. 3346- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنْزِلُ غَدًا فِي دَارِكِ بِمَكَّةَ؟ قَالَ: «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ» ؟ وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ

(2/186)


هُوَ وَطَالِبٌ، وَلَمْ يَرِثْ جَعْفَرٌ وَلا عَلِيٌّ شَيْئًا لأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ أَخْرَجَاهُ. 3347- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. 3348- وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ. 3349- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَرِثُ الْمُسْلِمُ النَّصْرَانِيَّ إلا أَنْ يَكُونَ عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. 3350- وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ مَوْقُوفًا عَلَى جَابِرٍ. وَقَالَ: مَوْقُوفٌ وَهُوَ مَحْفُوظٌ. 3351- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ قَسْمٍ قُسِمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ عَلَى مَا قُسِمَ، وَكُلُّ قَسْمٍ أَدْرَكَهُ الإِسْلامُ فَإِنَّهُ عَلَى مَا قَسَمَ الإِسْلامُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: حَدِيثُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ هُوَ بِاللَّفْظِ الأَوَّلِ فِي مُسْلِمٍ لا كَمَا زَعَمَ الْمُصَنِّفُ قَالَ الْحَافِظُ: وَأَغْرَبَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُنْتَقَى فَادَّعَى أَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يُخْرِجْهُ، وَكَذَا ابْنُ الأَثِيرِ فِي الْجَامِعِ ادَّعَى أَنَّ النَّسَائِيّ لَمْ يُخْرِجْهُ إلى أَنَّ قَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَحَادِيثَ الْبَابِ قَاضِيَةٌ بِأَنَّهُ لا يَرِثُ الْمُسْلِمُ مِنْ الْكَافِرِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حَرْبِيًّا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُرْتَدًّا فَلا يُقْبَلُ التَّخْصِيصُ إلا بِدَلِيلٍ وَظَاهِرُ قَوْلُهُ: «لا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ» أَنَّهُ لا يَرِثُ أَهْلُ مِلَّةٍ كُفْرِيَّةٍ مِنْ أَهْلِ مِلَّةٍ كُفْرِيَّةٍ أُخْرَى، وَبِهِ قَالَ الأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْهَادَوِيَّةُ وَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِإِحْدَى الْمِلَّتَيْنِ الإِسْلامُ وَبِالأُخْرَى الْكُفْرُ وَلا يَخْفَى بَعْدَ ذَلِكَ وَفِي مِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ أَقْوَالٌ أُخَرُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَالْمُسْلِمُ يَرِثُ مِنْ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ الذِّمِّيِّ بِخِلافِ الْعَكْسِ لِئَلا يَمْتَنِعُ قَرِيبِهِ مِنَ الإِسْلامِ، وَلَوُجُود نصرهم وَلا يَنْصُرُونَنَا. وَالْمُرْتَدُّ إِذَا قُتِلَ فِي رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ عَلَيْهَا فَمَا لَهُ لِوَارِثِهِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدٍ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الصَّحَابَةِ، وَلأَنَّ رِدَّتِهِ كَمَرَضِ مَوْتِهِ. وَالزِّنْدِيقِ مُنَافِقٌ يَرِثُ

(2/187)


وَيُوَرَّثُ لأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامِ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ تِرْكَةِ مُنَافِقٍ شَيْئًا وَلا جَعَلَهُ فَيْئًا، فَعُلِمَ أَنَّ التَّوَارُثَ مَدَارُهُ عَلَى النَّصْرِ الظَّاهِرَة، وَاسْم الإِسْلام يَجْرِي عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ إِجْمَاعًا. بَابُ أَنَّ الْقَاتِلَ لا يَرِثُ وَأَنَّ دِيَةَ الْمَقْتُولِ لِجَمِيعِ وَرَثَتِهِ مِنْ زَوْجَةٍ وَغَيْرِهَا 3352- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَرِثُ الْقَاتِلُ شَيْئًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 3353- وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَيْسَ لِقَاتِلٍ مِيرَاثٌ» . رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. 3354- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: الدِّيَةُ لِلْعَاقِلَةِ، لا تَرِثُ الْمَرْأَةُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا. حَتَّى أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلابِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ إلَيَّ «أَنْ أُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَّابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3355- وَرَوَاهُ مَالِكٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ، وَزَادَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ قَتْلُهُمْ أَشِيَمَ خَطَأً. 3356- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى: «أَنَّ الْعَقْلَ مِيرَاثٌ بَيْنَ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ عَلَى فَرَائِضِهِمْ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. 3357- وَعَنْ قُرَّةَ بْنِ دَعْمُوصٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَا وَعَمِّي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدَ هَذَا دِيَةُ أَبِي فَمُرْهُ يُعْطِنِيهَا، وَكَانَ قُتِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: «أَعْطِهِ دِيَةَ أَبِيهِ» . فَقُلْتُ: هَلْ لأُمِّي فِيهَا حَقٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . وَكَانَتْ دِيَتُهُ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لا يَرِثُ الْقَاتِلُ شَيْئًا» اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْقَاتِلَ لا يَرِثُ سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ

(2/188)


وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالُوا: وَلا يَرِثُ مِنْ الْمَالِ وَلا مِنْ الدِّيَةِ. قَوْلُهُ: «مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ تَرِثُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا كَمَا تَرِثُ مِنْ مَالِهِ. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَلَوْ مَاتَ مُتَوَارِثَانِ وَجُهِلَ أَوَّلُهُمَا مَوْتًا لَمْ يَرِثْ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةِ وَالشَّافِعِيّ. وَالآمِر بِقَتْلِ مورثه لا يَرِثَهُ وَلَو انْتَفَى عَنْهُ الضَّمَان. انْتَهَى. بَابٌ فِي أَنَّ الأَنْبِيَاءَ لا يُورَثُونَ 3358- عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» . 3359- وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِعُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ وَعَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ: أَنْشُدُكُمْ اللَّهَ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» ؟ قَالُوا: نَعَمْ. 3360- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ تُوُفِّيَ أَرَدْنَ أَنْ يَبْعَثَ عُثْمَانَ إلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلْنَهُ مِيرَاثَهُنَّ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَلَيْسَ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» ؟ . 3361- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ. 3362- وَفِي لَفْظٍ لأَحْمَدَ: «لا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا» . 3363- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لأَبِي بَكْرٍ: مَنْ يَرِثُكَ إذَا مِتَّ؟ قَالَ: وَلَدِي وَأَهْلِي، قَالَتْ: فَمَا لَنَا لا نَرِثُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إنَّ النَّبِيَّ لا يُورَثُ» . وَلَكِنْ أَعُولُ مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُولُ، وَأُنْفِقُ عَلَى مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُنْفِقُ عَلَيْهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

(2/189)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَظَاهِرُ الأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ لا يُورَثُونَ، وَأَنَّ جَمِيعَ مَا تَرَكُوهُ مِنْ الأَمْوَالِ صَدَقَةٌ، وَلا يُعَارِضُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْوِرَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ وِرَاثَةُ الْعِلْمِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ. قَوْلُهُ: (وَلَكِنْ أَعُولُ مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُولُ) إلى آخره، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ عَلَى الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَعُولَ مَنْ كَانَ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَعُولُهُ، وَيُنْفِقُ عَلَى مَا كَانَ الرَّسُولُ يُنْفِقُ عَلَيْهِ.

(2/190)


 كِتَابُ الْعِتْقِ

بَابُ الْحَثِّ عَلَيْهِ 3364- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْ النَّارِ حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3365- وَعَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَعْنِي عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا كَانَ فِكَاكَهُ مِنْ النَّارِ، يُجْزِي كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ؛ وَأَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ كَانَتَا فِكَاكَهُ مِنْ النَّارِ، يُجْزِي كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُمَا عُضْوًا مِنْهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3366- وَلأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد مَعْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ أَوْ مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ السُّلَمِيُّ، وَزَادَ فِيهِ: «وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتْ امْرَأَةً مُسْلِمَةً ... إلا كَانَتْ فِكَاكَهَا مِنْ النَّارِ، يُجْزِي بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهَا» . 3367- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الإِيمَانُ بِاَللَّهِ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا» . 3368- وَعَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً لَهَا وَلَمْ تَسْتَأْذِنْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهَا فِيهِ، قَالَتْ: أَشَعَرْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ

(2/191)


أَنِّي أَعْتَقْت وَلِيدَتِي؟ قَالَ: «أَوْ فَعَلْت» ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: «أَمَا إنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتَهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَفِي الثَّانِي دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَبَرُّعِ الْمَرْأَةِ بِدُونِ إذْنِ زَوْجِهَا، وَأَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ أَفْضَلُ مِنْ الْعِتْقِ. 3369- وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ وَعَتَاقٍ وَصِلَةِ رَحِمٍ، هَلْ لِي فِيهَا مِنْ أَجْرٍ؟ قَالَ: «أَسْلَمْت عَلَى مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ اُحْتُجَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ يَنْفُذُ عِتْقُهُ، وَمَتَى نَفَذَ فَلَهُ وَلاؤُهُ بِالْخَيْرِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وأحاديث الْبَابِ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ مِنْ الْقُرَبِ الْمُوجِبَةِ لِلسَّلامَةِ مِنْ النَّارِ، وَأَنَّ عِتْقَ الذَّكَرِ أَفْضَلُ مِنْ عِتْقِ الأُنْثَى. قَوْلُهُ: «أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا» أَيْ اغْتِبَاطُهُمْ بِهَا أَشَدُّ، فَإِنَّ عِتْقَ مِثْلِ ذَلِكَ مَا يَقَعُ غَالِبًا إلا خَالِصًا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} . قَوْلُهُ: «أَسْلَمْت عَلَى مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْكَافِرُ حَالَ كُفْرِهِ مِنْ الْقُرَبِ يُكْتَبُ لَهُ إذَا أَسْلَمَ فَيَكُونُ هَذَا الْحَدِيثُ مُخَصِّصًا لِحَدِيثِ: «الإِسْلامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» وَجَبُّ ذُنُوبِ الْكَافِرِ بِالإِسْلامِ أَيْضًا مَشْرُوطٌ بِأَنْ يُحْسِنَ فِي الإِسْلامِ لِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: «مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِسْلامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِسْلامِ أُوخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ» . وَحَدِيثُ حَكِيمٍ الْمَذْكُورُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ الْعِتْقُ مِنْ الْكَافِرِ فِي حَالِ كُفْرِهِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ إذَا أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَصِلَةُ الرَّحِمِ. بَابُ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ خِدْمَةً 3370- عَنْ سَفِينَةَ - أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ - قَالَ: أَعْتَقَتْنِي أُمُّ سَلَمَةَ وَشَرَطَتْ عَلَيَّ أَنْ أَخْدُمَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَا عَاشَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ.

(2/192)


3371- وَفِي لَفْظٍ: كُنْت مَمْلُوكًا لأُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ: أُعْتِقُكَ وَأَشْتَرِطُ عَلَيْك أَنْ تَخْدُمَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا عِشْتَ، فَقُلْت: لَوْ لَمْ تَشْتَرِطِي عَلَيَّ مَا فَارَقْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا عِشْت، فَأَعْتَقَتْنِي وَاشْتَرَطَتْ عَلَيَّ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى صِحَّةِ الْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الْعَبْدَ إذَا أَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ عَلَى أَنْ يَخْدُمَهُ سِنِينَ أَنَّهُ لا يَتِمُّ عِتْقُهُ إلا بِخِدْمَتِهِ. قَالَ ابْنُ رَسْلانَ: وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا، فَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يُثْبِتُ الشَّرْطَ فِي مِثْلِ هَذَا، وَسُئِلَ عَنْهُ أَحْمَدُ فَقَالَ: يَشْتَرِي هَذِهِ الْخِدْمَةَ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي اشْتَرَطَ لَهُ، قِيلَ لَهُ: يَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ؟ قَالَ: نَعَمْ. انتهى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَإِذَا شَرَطَ الْبَائِعُ نَفْعَ الْمَبِيعِ لِغَيْرِهِ مُدَّة مَعْلُومَة فَمُقْتَضَى كَلام أَصْحَابِنَا جَوَازُهُ، فَإِنَّهُم احْتَجُّوا بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَة أَنَّهَا أَعْتَقَتْ سفينة وَشَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنَّهً يَخْدِمَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَا عَاشَ وَاسْتَثْنَاء خَدْمَة غَيْرِهِ فِي الْعِتْقِ كَاسْتِثْنَائِهَا فِي الْبَيْعِ. انْتَهَى. بَابُ مَا جَاءَ فِيمَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ 3372- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَجْزِي وَلَدٌ عَنْ وَالِدِهِ إلا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيَعْتِقَهُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ. 3373- وَعَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ. 3374- وَفِي لَفْظٍ لأَحْمَدَ: «فَهُوَ عَتِيقٌ» . 3375- وَلأَبِي دَاوُد عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَوْقُوفًا مِثْلُ حَدِيثِ سَمُرَةَ. 3376- وَرَوَى أَنَسٌ: أَنَّ رِجَالًا مِنْ الأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لِابْنِ أُخْتِنَا عَبَّاسٍ فِدَاءَهُ، فَقَالَ: «لا تَدَعُوا مِنْهُ دِرْهَمًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

(2/193)


وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي الْغَنِيمَةِ ذُو رَحِمٍ لِبَعْضِ الْغَانِمِينَ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ لَمْ يَعْتِقَ عَلَيْهِ، لأَنَّ الْعَبَّاسَ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمِنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لا يَجْزِي» بِفَتْحِ أَوَّلِهِ: أَيْ لا يُكَافِئُهُ بِمَا لَهُ مِنْ الْحُقُوقِ عَلَيْهِ إلا بِأَنْ يَشْتَرِيَهُ فَيَعْتِقُهُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لا يَعْتِقُ بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ بَلْ لا بُدَّ مِنْ الْعِتْقِ، وَبِهِ قَالَتْ الظَّاهِرِيَّةُ وَخَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ فَقَالُوا: إنَّهُ يَعْتِقُ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ. قَوْلُهُ: «ذَا رَحِمٍ» بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ، وَأَصْلُهُ مَوْضِعُ تَكْوِينِ الْوَلَدِ ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ لِلْقَرَابَةِ فَيَقَعُ عَلَى كُلِّ مَنْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ نَسَبٌ يُوجِبُ تَحْرِيمَ النِّكَاحِ. قَوْلُهُ: «مَحْرَمٌ» بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ، وَيُقَالُ: (مُحَرَّمٌ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْمَحْرَمُ مَنْ لا يَحِلُّ نِكَاحُهُ مِنْ الأَقَارِبِ. قَالَ ابْنُ الأَثِيرِ: الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَأَحْمَدُ أَنَّ مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ عَلَيْهِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى. قَوْلُهُ: (لِابْنِ أُخْتِنَا) بِالْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَخْوَالُ أَبِيهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. بَابُ أَنَّ مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ 3377- عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ زِنْبَاعًا - أَبَا رَوْحٍ - وَجَدَ غُلامًا لَهُ مَعَ جَارِيَةٍ لَهُ، فَجَدَعَ أَنْفَهُ وَجَبَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «مَنْ فَعَلَ هَذَا بِكَ» ؟ قَالَ: زِنْبَاعٌ، فَدَعَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا» ؟ فَقَالَ: كَانَ مِنْ أَمْرِهِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ» . فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَوْلَى مَنْ أَنَا؟ فَقَالَ: «مَوْلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ» . فَأَوْصَى بِهِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَلَمَّا قُبِضَ جَاءَ إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: وَصِيَّةُ رَسُولِ اللَّهِ

(2/194)


- صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: نَعَمْ، تَجْرِي عَلَيْكَ النَّفَقَةُ وَعَلَى عِيَالِكَ، فَأَجْرَاهَا عَلَيْهِ حَتَّى قُبِضَ فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ جَاءَهُ فَقَالَ: وَصِيَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: نَعَمْ، أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: مِصْرَ، قَالَ: فَكَتَبَ عُمَرُ إلَى صَاحِبِ مِصْرَ أَنْ يُعْطِيَهُ أَرْضًا يَأْكُلُهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3378- فِي رِوَايَةِ أَبِي حَمْزَةَ الصَّيْرَفِيِّ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - صَارِخًا، فَقَالَ لَهُ: «مَا لَكَ» ؟ قَالَ: سَيِّدِي رَآنِي أُقَبِّلُ جَارِيَةً لَهُ فَجَبَّ مَذَاكِيرِي، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَيَّ بِالرَّجُلِ» . فَطُلِبَ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. 3379- وَزَادَ قَالَ: عَلَى مَنْ نُصْرَتِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: يَقُولُ أَرَأَيْت إنْ اسْتَرَقَّنِي مَوْلايَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ - أَوْ - مُسْلِمٍ» . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَقْعَدَ أَمَةً لَهُ فِي مَقْلَى حَارٍّ فَأَحْرَقَ عَجُزَهَا، فَأَعْتَقَهَا عُمَرُ وَأَوْجَعَهُ ضَرْبًا. حَكَاهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ، قَالَ: وَكَذَلِكَ أَقُولُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُثْلَةَ مِنْ أَسْبَابِ الْعِتْقِ وَقَدْ اخْتُلِفَ: هَلْ يَقَعُ الْعِتْقُ بِمُجَرَّدِهَا أَمْ لا؟ فَحُكِيَ فِي الْبَحْرِ عَنْ عَلِيٍّ وَالْهَادِي وَالْمُؤَيَّدِ بِاَللَّهِ وَالْعَرَاقَيينِ أَنَّهُ لا يَعْتِقُ بِمُجَرَّدِهَا، بَلْ يُؤْمَرُ السَّيِّدُ بِالْعِتْقِ فَإِنْ تَمَرَّدَ فَالْحَاكِمُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَدَاوُد وَالأَوْزَاعِيُّ: بَلْ يَعْتِقُ بِمُجَرَّدِهَا. وَحُكِيَ فِي الْبَحْرِ أَيْضًا عَنْ الأَكْثَرِ أَنَّ مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِ غَيْرِهِ لَمْ يَعْتِقُ وَعَنْ الأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ يَعْتِقُ وَيَضْمَنُ الْقِيمَةَ لِلْمَالِكِ. انتهى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَالْمَالِكُ إِذَا اسْتَكْرَهَ عَبْدَهُ عَلَى الْفَاحِشَةِ عُتِقَ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ. بَابُ مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ 3380- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَإِلا فَقَدْ عَتَقَ عَلَيْهِ مَا عَتَقَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.

(2/195)


3381- وَالدَّارَقُطْنِيّ وَزَادَ: «وَرَقَّ مَا بَقِيَ» . 3382- وَفِي رِوَايَةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا: «مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ قُوِّمَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ قِيمَةُ عَدْلٍ لا وَكْسَ وَلا شَطَطَ، ثُمَّ عَتَقَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ ... مُوسِرًا» . 3383- وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ يَعْتِقُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 3384- وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتِقَ كُلَّهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ قَدْرُ ثَمَنِهِ يُقَامُ قِيمَةَ عَدْلٍ وَيُعْطِي شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَيُخْلِي سَبِيلَ الْمُعْتَقِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 3385- وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ عَتَقَ مَا بَقِيَ فِي مَالِهِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 3387- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي فِي الْعَبْدِ أَوْ الأَمَةِ - يَكُونُ بَيْنَ - شُرَكَاءٍ، فَيَعْتِقُ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ مِنْهُ يَقُولُ: قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُهُ كُلُّهُ إذَا كَانَ لِلَّذِي أَعْتَقَ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ يُقَوِّمُ مِنْ مَالِهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ وَيَدْفَعُ إلَى الشُّرَكَاءِ أَنْصِبَاءَهُمْ، وَيُخَلَّى سَبِيلُ الْمُعْتَقِ، يُخْبِرُ بِذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 3388- وَعَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ قَوْمِنَا أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ مِنْ مَمْلُوك، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَعَلَ خَلاصَهُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ وَقَالَ: «لَيْسَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شَرِيكٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3389- وَفِي لَفْظٍ: «هُوَ حُرٌّ كُلُّهُ لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3390- وَلأَبِي دَاوُد مَعْنَاهُ.

(2/196)


3391- وَعَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَ لَهُمْ غُلامٌ يُقَالُ لَهُ: طَهْمَانُ أَوْ ذَكْوَانُ، فَأَعْتَقَ جَدُّهُ نِصْفَهُ، فَجَاءَ الْعَبْدُ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «تُعْتَقُ فِي عِتْقِكَ، وَتُرَقُّ فِي رِقِّكَ» . قَالَ: فَكَانَ يَخْدُمُ سَيِّدَهُ حَتَّى مَاتَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3392- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ مِنْ مَمْلُوكِهِ فَعَلَيْهِ خَلاصُهُ فِي مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ قُوِّمَ الْمَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ اسْتُسْعِيَ فِي نَصِيبِ الَّذِي لَمْ يَعْتِقْ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا النَّسَائِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ جَمَعَ الْبَيْهَقِيُّ بَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، بِأَنَّ مَعْنَاهُمَا أَنَّ الْمُعْسِرَ إذَا أَعْتَقَ حِصَّتَهُ لَمْ يَسْرِ الْعِتْقُ فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ، بَلْ تَبْقَى حِصَّةُ شَرِيكِهِ عَلَى حَالِهَا وَهِيَ الرِّقُّ، ثُمَّ يُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي عِتْقِ بَقِيَّتِهِ فَيَحْصُلُ ثَمَنُ الْجُزْءِ الذي لِشَرِيكِ سَيِّدِهِ وَيَدْفَعُهُ إلَيْهِ وَيَعْتِقُ وَجَعَلُوهُ فِي ذَلِكَ كَالْمُكَاتَبِ. وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ الْبُخَارِيُّ قَالَ الْحَافِظُ: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ فِي ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ لِقَوْلِهِ: «غَيْرُ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ» . انتهى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَإِذَا أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ وَهُو مُوسِرُ عُتِقَ نَصِِيبَهُ وَيُعْتَقُ نَصِيبُ شَرِيكَهُ بِدَفْعِ الْقِيمَة، وَهُوَ قُوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا عُتِقَ كُلَّهُ وَاسْتَسْعَى فِي بَاقِي قِيمَتِهِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدٍ اخْتَارَهَا بَعْضُ أَصْحَابِهِ. انْتَهَى. بَابُ التَّدْبِيرِ 3393- عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ غُلامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَاحْتَاجَ فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي» ؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِكَذَا وَكَذَا فَدَفَعَهُ إلَيْهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3394- وَفِي لَفْظٍ: قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ غُلامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ وَكَانَ مُحْتَاجًا وَكَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَبَاعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَأَعْطَاهُ فَقَالَ: «اقْضِ دَيْنَكَ، وَأَنْفِقْ عَلَى عِيَالَكَ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ.

(2/197)


وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الأَحْنَفِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّهُ أَعْتَقَ غُلامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ وَكَاتَبَهُ، فَأَدَّى بَعْضًا وَبَقِيَ بَعْضٌ وَمَاتَ مَوْلاهُ، فَأَتَوْا ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: مَا أَخَذَ فَهُوَ لَهُ، وَمَا بَقِيَ فَلا شَيْءَ لَكُمْ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (عَنْ دُبُرٍ) بِضَمِّ الدَّالِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ الْعِتْقُ فِي دُبُرِ الْحَيَاةِ كَأَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ إذَا مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ؛ وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْفَقْر وَالضَّرُورَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ، وَنَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَحَكَى النَّوَوِيُّ عَنْ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ مُطْلَقًا وَالْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: لا يَجُوزُ بَيْعُهُ إلا إذَا كَانَ عَلَى السَّيِّدِ دَيْنٌ فَيُبَاعُ لَهُ وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ الْبَابِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّدْبِيرِ، وَذَلِكَ مِمَّا لا خِلافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْخِلافُ هَلْ يَنْفُذُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ مِنْ الثُّلُثِ، وَلا شَكَّ أَنَّهُ بِالْوَصِيَّةِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْهِبَةِ لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ مِنْ الْمُشَابَهَةِ التَّامَّةِ. قَوْلُهُ: (مَا أَخَذَ فَهُوَ لَهُ وَمَا بَقِيَ فَلا شَيْءَ لَكُمْ) اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ لا يَبْطُلُ بِهَ التَّدْبِيرُ، وَيَعْتِقُ الْعَبْدُ بِالأَسْبَقِ مِنْهُمَا. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ الْمُكَاتَبِ 3395- عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُهَا فِي كِتَابَتِهَا وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: ارْجِعِي إلَى أَهْلِكِ، فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَيَكُونُ وَلاؤُكِ لِي فَعَلْتُ، فَذَكَرَتْ بَرِيرَةُ ذَلِكَ لأَهْلِهَا فَأَبَوْا وَقَالُوا: إنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ فَلْتَفْعَلْ وَيَكُونُ لَنَا وَلاؤُكِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ابْتَاعِي فَأَعْتِقِي، فَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: «مَا بَالُ أُنَاسٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ، وَإِنْ شَرَطَهُ مِائَةَ مَرَّةٍ، شَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3396- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ: جَاءَتْ بَرِيرَةُ فَقَالَتْ: إنِّي كَاتَبْتُ أَهْلِي

(2/198)


عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ - الْحَدِيثُ - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3397- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَيُّمَا عَبْدٍ كُوتِبَ بِمِائَةِ أُوقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا إلا عَشْرَ أُوقِيَّاتٍ فَهُوَ رَقِيقٌ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ. 3398- وَفِي لَفْظٍ: «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ دِرْهَمٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 3399- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا كَانَ لإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ وَكَانَ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَيُحْمَلُ الأَمْرُ بِالِاحْتِجَابِ عَلَى النَّدْبِ. 3400- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يُؤدَى الْمُكَاتَبُ بِحِصَّةِ مَا أَدَّى دِيَةَ الْحُرِّ وَمَا بَقِيَ دِيَةَ الْعَبْدِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا ابْنَ مَاجَةْ. 3401- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يُؤدَى الْمُكَاتَبُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَعَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ أَنَّ سِيرِينَ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الْمُكَاتَبَةَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ فَأَبَى، فَانْطَلَقَ إلَى عُمَرَ فَقَالَ: كَاتِبْهُ، فَأَبَى، فَضَرَبَهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ وَتَلا عُمَرُ: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ: اشْتَرَتْنِي امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ بِسَبْعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَدِمَتْ فَكَاتَبَتْنِي عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَذْهَبْتُ إلَيْهَا عَامَّةَ الْمَالِ ثُمَّ حَمَلْتُ مَا بَقِيَ إلَيْهَا، فَقُلْتُ: هَذَا مَالُكِ فَاقْبِضِيهِ، فَقَالَتْ: لا وَاَللَّهِ حَتَّى آخُذَهُ مِنْكِ شَهْرًا بِشَهْرٍ وَسَنَةً بِسَنَةٍ، فَخَرَجْتُ بِهِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه -، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: ارْفَعْهُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ بَعَثَ إلَيْهَا: هَذَا مَالُكِ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَقَدْ عَتَقَ أَبُو سَعِيدٍ، فَإِنْ شِئْتِ فَخُذِي شَهْرًا بِشَهْرٍ، وَسَنَةً بِسَنَةٍ. قَالَ: فَأَرْسَلَتْ فَأَخَذَتْهُ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ.

(2/199)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (بَاب الْمكَاتَب) بِفَتْح الْفَوْقَانِيَّة، من تَقَعْ لَهُ الْكِتَابَةْ وَبِكَسْرِهَا مَنْ تقع مِنْهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَيَكُونُ وَلاؤُكِ لِي فَعَلْتُ) ظَاهِرُهُ أَنَّ عَائِشَةَ طَلَبَتْ أَنْ يَكُونَ الْوَلاءُ لَهَا إذَا بَذَلَتْ جَمِيعَ مَالِ الْكِتَابَةِ وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ إذْ لَوْ وَقَعَ لَكَانَ اللَّوْمُ عَلَى عَائِشَةَ بِطَلَبِهَا وَلاءَ مَنْ أَعْتَقَهُ غَيْرُهَا وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو أُسَامَةَ بِلَفْظٍ يُزِيلُ الإِشْكَالَ فَقَالَ: إِنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عِدَّةً وَاحِدَةً وَأُعْتِقُكِ وَيَكُونُ وَلاؤُكِ لِي فَعَلْت. فَعُرِفَ بِذَلِكَ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَهَا شِرَاءً صَحِيحًا ثُمَّ تَعْتِقَهَا، إذْ الْعِتْقُ فَرْعُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «ابْتَاعِي فَأَعْتِقِي» . وَقَدْ قَدَّمْنَا بَقِيَّةَ الْكَلامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ الْبَابِ مِنْ كِتَابِ الْبَيْعِ. قَوْلُهُ: «فَهُوَ رَقِيقٌ» أَيْ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الرِّقِّ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ لأَنَّهُ رِقٌّ مَمْلُوكٌ، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَالْوَصِيَّةُ بِهِ، وَهُوَ الْقَدِيمُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: بِيعَتْ بَرِيرَةُ بِعِلْمِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ فَفِيهِ أَبْيَنُ بَيَانٍ أَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ قَالَ: وَلا أَعْلَمُ خَبَرًا يُعَارِضُهُ. قَالَ: وَلا أَعْلَمُ دَلِيلًا عَلَى عَجْزِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنَّهُ لا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَبِهِ قَالَتْ الْعِتْرَةُ، قَالُوا: لأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ بِدَلِيلِ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ وَالاسْتِخْدَامِ. وَتَأَوَّلَ الشَّافِعِيُّ حَدِيثَ بَرِيرَةَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ قَدْ عَجَزَتْ وَكَانَ بَيْعُهَا فَسْخًا لِكِتَابَتِهَا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ. قَوْلُهُ: «فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ» ظَاهِرُ الأَمْرِ الْوُجُوبُ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْقَرِينَةُ الْقَاضِيَةُ بِحَمْلِ هَذَا الأَمْرِ عَلَى النَّدْبِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الْمَذْكُورُ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ حُكْمَ الْمُكَاتَبِ قَبْلَ تَسْلِيمِ جَمِيعِ مَالِ الْكِتَابَةِ حُكْمُ الْعَبْدِ، وَالْعَبْدُ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إلَى سَيِّدَتِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ السَّلَفِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَالُوا: حُكْمُ الْمُكَاتَبِ قَبْلَ تَسْلِيمِ جَمِيعِ مَالِ الْكِتَابَةِ حُكْمُ الْعَبْدِ فِي جَمِيعِ الأَحْكَامِ مِنْ الإِرْثِ وَالأَرْشِ وَالدِّيَةِ وَالْحَدِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَتَمَسَّكَ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ يَعْتِقُ مِنْ الْمُكَاتَبِ بِقَدْرِ مَا أَدَّى وَتَتَبَعَّضُ الأَحْكَامُ

(2/200)


الَّتِي يُمْكِنُ تَبَعُّضُهَا فِي حَقِّهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثِ عَلِيٍّ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: (إنَّ سِيرِينَ) هُوَ وَالِدُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ الْفَقِيهُ الْمَشْهُورُ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِالآيَةِ الْمَذْكُورَةِ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْكِتَابَةِ، وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ وَالضَّحَّاكِ وَزَادَ الْقُرْطُبِيُّ مَعَهُمَا عكرمة، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَتْ الظَّاهِرِيَّةُ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَحَكَاهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ عَطَاءٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: إنَّهَا وَاجِبَةٌ إذَا طَلَبَهَا الْعَبْدُ وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ وَأَجَابُوا عَنْ الآيَةِ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا مَا قَالَهُ أَبُو سَعِيدٍ الإِصْطَخْرِيُّ: أنَّ الْقَرِينَةَ الصَّارِفَةَ لِلأَمْرِ الْمَذْكُورَةَ آخِرَ الآيَةِ، أَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} فَإِنَّهُ وَكَلَ الِاجْتِهَادَ فِي ذَلِكَ إلَى الْمَوْلَى، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ إذَا رَأَى عَدَمَهُ لَمْ يجب عَلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ وَاسْتَدَلَّ بِفِعْلِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ التَّنْجِيمَ فِي الْكِتَابَةِ. إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّنْجِيمَ جَائِزٌ بِالاتِّفَاقِ كَمَا حُكِيَ ذَلِكَ فِي الْفَتْحِ وَأَمَّا كَوْنُهُ شَرْطًا أَوْ وَاجِبًا فَلا مُسْتَنَدَ لَهُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَا جَاءَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ 3402- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ وَطِئَ أَمَتَهُ فَوَلَدَتْ لَهُ فَهِيَ مُعْتَقَةٌ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. 3403- وَفِي لَفْظٍ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَهِيَ مُعْتَقَةٌ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ» . أَوْ قَالَ: «مِنْ بَعْدِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3404- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ذُكِرَتْ أُمُّ إبْرَاهِيمَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَالدَّارَقُطْنِيّ. 3405- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نُصِيبُ سَبْيًا فَنُحِبُّ الأَثْمَانَ فَكَيْفَ تَرَى فِي الْعَزْلِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ ذَلِكُمْ؟ لا عَلَيْكُمْ أَنْ لا تَفْعَلُوا ذَلِكُمْ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ نَسَمَةٌ كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَخْرُجَ إلا وَهِيَ خَارِجَةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ.

(2/201)


3406- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الأَوْلادِ، وَقَالَ: «لا يُبَعْنَ وَلا يُوهَبْنَ وَلا يُورَثْنَ، يَسْتَمْتِعُ بِهَا السَّيِّدُ مَا دَامَ حَيًّا، وَإِذَا مَاتَ فَهِيَ حُرَّةٌ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَالدَّارَقُطْنِيّ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ وَهُوَ أَصَحُّ. 3407- وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: كُنَّا نَبِيعُ سَرَارِينَا أُمَّهَاتِ أَوْلادِنَا وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِينَا حَيٌّ لا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. 3408- وَعَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: بِعْنَا أُمَّهَاتِ الأَوْلادِ عَلَى عَهْدِ ... رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ نَهَانَا فَانْتَهَيْنَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنَّمَا وَجْهُ هَذَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُبَاحًا ثُمَّ نَهَى عَنْهُ وَلَمْ يَظْهَرْ النَّهْيُ لِمَنْ بَاعَهَا، وَلا عَلِمَ أَبُو بَكْرٍ بِمَنْ بَاعَ فِي زَمَانِهِ لِقِصَرِ مُدَّتِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِأَهَمِّ أُمُورِ الدِّينِ ثُمَّ ظَهَرَ ذَلِكَ زَمَنَ عُمَرَ فَأَظْهَرَ النَّهْيَ وَالْمَنْعَ. 3409- وَهَذَا مِثْلُ حَدِيثِ جَابِرٍ أَيْضًا فِي الْمُتْعَةِ قَالَ: كُنَّا نَسْتَمْتِعُ بِالْقَبْضَةِ مِنْ التَّمْرِ وَالدَّقِيقِ الأَيَّامَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ حَتَّى نَهَانَا عَنْهُ عُمَرُ فِي شَأْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَإِنَّمَا وَجْهُهُ مَا سَبَقَ لامْتِنَاعِ النَّسْخِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. 3410- وَعَنْ الْخَطَّابِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ: حَدَّثَتْنِي سَلامَةُ بِنْتُ مَعْقِلٍ قَالَتْ: كُنْتُ لِلْحُبَابِ بْنِ عَمْرٍو وَلِي مِنْهُ غُلامٌ، فَقَالَتْ لِي امْرَأَتُهُ: الآنَ تُبَاعِينَ فِي دَيْنِهِ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «مَنْ صَاحِبُ تَرِكَةِ الْحُبَابِ بْنِ عَمْرٍو» ؟ قَالُوا: أَخُوهُ أَبُو الْيَسْرِ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو فَدَعَاهُ فَقَالَ: «لا تَبِيعُوهَا وَأَعْتِقُوهَا فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِرَقِيقٍ قَدْ جَاءَنِي فَأْتُونِي أُعَوِّضْكُمْ» . فَفَعَلُوا، فَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ قَوْمٌ: أُمُّ الْوَلَدِ مَمْلُوكَةٌ لَوْلا ذَلِكَ لَمْ يُعَوِّضْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ حُرَّةٌ قَدْ أَعْتَقَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَفِي كَانَ الاخْتِلافُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ.

(2/202)


قَالَ الْخَطَّابِيِّ: وَلَيْسَ إسْنَادُهُ بِذَلِكَ. قَوْلُهُ: «مَنْ وَطِئَ أَمَتَهُ فَوَلَدَتْ لَهُ فَهِيَ مُعْتَقَةٌ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ» وَقَوْلُهُ: ... «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلانِ عَلَى أَنَّ الأُمَّ تَصِيرُ حُرَّةً إذَا وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلامُ عَلَى ذَلِكَ قَرِيبًا وَالْخِلافُ فِيهِ، وَأُمُّ الْوَلَدِ هِيَ الأَمَةُ الَّتِي عَلِقَتْ مِنْ سَيِّدِهَا بِحَمْلٍ وَوَضَعَتْهُ مُخْتَلِفًا. قَوْلُهُ: (إنَّا نُصِيبُ سَبْيًا) الْحَدِيث قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْعَزْلِ عَنْ الإِمَاءِ وَسيَأْتِي شَرْحُهُ فِي بَابِ مَا جَاءَ فِي الْعَزْلِ مِنْ كِتَابِ الْوَلِيمَةِ وَالْبِنَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَعَلَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِإِيرَادِ الْحَدِيثِ الاسْتِدْلال بِقَوْلِهِ: (فَنُحِبُّ الأَثْمَانَ) عَلَى مَنْعِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الأَوْلادِ. قَوْلُهُ: (قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ) قَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا الْكَلامِ عَنْ الْخَطَّابِيِّ فَقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَيْعُ أُمَّهَاتِ الأَوْلادِ كَانَ مُبَاحًا ثُمَّ نَهَى عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي آخِرِ حَيَاتِهِ وَلَمْ يَشْتَهِرْ ذَلِكَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ نَهَاهُمْ. انتهى. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثَيْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لا يَجُوزُ بَيْعُ أُمَّهَاتِ الأَوْلادِ وَهُمْ الْجُمْهُورُ وَقَدْ حَكَى ابْنُ قُدَامَةَ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَلا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ مِنْ الْجَوَازِ؛ لأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ الرُّجُوعُ عَنْ الْمُخَالَفَةِ، كَمَا حَكَى ذَلِكَ ابْنُ رَسْلانَ فِي شَرْحِ السُّنَنِ وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَلِيٍّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ رَأْيِهِ الآخَرِ إلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ. انتهى ملخصًًا. والله أعلم.

(2/203)


 كِتَابُ النِّكَاحِ

بَابُ الْحَثِّ عَلَيْهِ وَكَرَاهَةِ تَرْكِهِ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ 3411- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 3412- وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لاخْتَصَيْنَا. 3413- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ بَعْضُهُمْ: لا أَتَزَوَّجُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُصَلِّي وَلا أَنَامُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَصُومُ وَلا أُفْطِرُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 3414- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ تَزَوَّجْتَ؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: تَزَوَّجْ، فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 3415- وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ التَّبَتُّلِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ.

(2/204)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (نَهَى عَنْ التَّبَتُّلِ) قَدْ اسْتَدَلَّ بِهَذَا النَّهْيِ، وَبِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الأَوَّلِ: «فَلْيَتَزَوَّجْ» وَبِقَوْلِهِ: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي» وَبِسَائِرِ مَا فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ مِنْ الأَوَامِرِ وَنَحْوِهَا مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ النِّكَاحِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَقَدْ قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ الرَّجُلَ فِي التَّزْوِيجِ إلَى أَقْسَامٍ: التَّائِقُ إلَيْهِ الْقَادِرُ عَلَى مُؤَنِهِ الْخَائِفُ عَلَى نَفْسِهِ، فَهَذَا يُنْدَبُ لَهُ النِّكَاحُ عِنْدَ الْجَمِيعِ وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ يَجِبُ، وَبِذَلِكَ قَالَ أَبُو عَوَانَةَ الْإسْفَرايِينِيّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَصَرَّحَ بِهِ فِي صَحِيحِهِ، وَنَقَلَهُ الْمُصْعَبِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْجُوَيْنِيِّ وَجْهًا وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد وَأَتْبَاعِهِ انْتَهَى. قَالَ الشَّارِحُ: وَبِهِ قَالَتْ الْهَادَوِيَّةُ مَعَ الْخَشْيَةِ عَلَى النَّفْسِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ قَادِرٍ عَلَى الْوَطْءِ إنْ وَجَدَ مَا يَتَزَوَّجُ بِهِ أَوْ يَتَسَرَّى أَنْ يَفْعَلَ أَحَدَهُمَا، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَلْيُكْثِرْ مِنْ الصَّوْمِ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لا يَجِبُ عَلَى الْقَادِرِ التَّائِقِ إلا إذَا خَشِيَ الْعَنَتَ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ اقْتَصَرَ ابْنُ هُبَيْرَةَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمُسْتَطِيعُ الَّذِي يَخَافُ الضَّرَرَ عَلَى نَفْسِهِ وَدِينِهِ مِنْ الْعُزُوبَةِ لا يَرْتَفِعُ عَنْهُ ذَلِكَ إلا بِالتَّزْوِيجِ لا يُخْتَلَفُ فِي وُجُوبِ التَّزْوِيجِ عَلَيْهِ وَحَكَى ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ الْوُجُوبَ عَلَى مَنْ خَافَ الْعَنَتَ عَنْ الْمَازِرِيِّ، وَكَذَلِكَ حُكِيَ عَنْهُ التَّحْرِيمُ عَلَى مَنْ يُخِلُّ بِالزَّوْجَةِ فِي الْوَطْءِ وَالإِنْفَاقِ مَعَ عَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَالْكَرَاهَةُ حَيْثُ لا يَضُرُّ بِالزَّوْجَةِ مَعَ عَدَمِ التَّوَقَانِ إلَيْهِ، وَتَزْدَادُ الْكَرَاهَةُ إذَا كَانَ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى الإِخْلالِ بِشَيْءٍ مِنْ الطَّاعَاتِ الَّتِي يَعْتَادُهَا وَالاسْتِحْبَابُ فِيمَا إذَا حَصَلَ بِهِ مَعْنًى مَقْصُودٌ مِنْ كَسْرِ شَهْوَةٍ وَإِعْفَافِ نَفْسٍ وَتَحْصِينِ فَرْجٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالإِبَاحَةُ فِيمَا إذَا اتَّفَقَتْ الدَّوَاعِي وَالْمَوَانِعُ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هُوَ مَنْدُوبٌ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ يُرْجَى مِنْهُ النَّسْلُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْوَطْءِ شَهْوَةٌ، وَكَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَهُ رَغْبَةٌ فِي نَوْعٍ مِنْ الاسْتِمْتَاعِ بِالنِّسَاءِ غَيْرَ الْوَطْءِ فَأَمَّا مَنْ لا نَسْلَ لَهُ وَلا أَرَبَ لَهُ فِي النِّسَاءِ وَلا فِي الاسْتِمْتَاعِ فَهَذَا مُبَاحٌ فِي حَقِّهِ إذَا عَلِمَتْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ وَرَضِيَتْ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَالإِعْرَاضُ عَنِ الأَهْلِ وَالأَوْلادِ لَيْسَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا هُوَ دِينُ الأَنْبِيَاءِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} ، وَلَيْسَ لِلأَبَوَيْنِ إِلْزَامِ الْوَلَدِ بِنِكَاحِ مَنْ لا يُرِيدُ فَلا

(2/205)


يَكُونُ عَاقًا كَأَكْلِ مَا لا يُرِيدُ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَإِنْ احْتَاجَ الإِنْسَانُ إِلَى النِّكَاحِ وَخَشِيَ الْعَنَتَ بِتَرْكَهِ قَدَّمَهُ عَلَى الْحَجِّ الْوَاجِبِ، وَإِنْ لَمْ يَخْفِ قَدَمَ الْحَجِّ، وَنَصَّ الإَمِامُ أَحْمَد عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ صَالِحِ وَغَيْرِهِ وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ الْعِبَادَاتِ فَرْضَ كِفَايَة كَالْعِلْمِ وَالْجِهَادِ قُدِّمَتْ عَلَى النِّكَاحِ إِنْ لَمْ يَخْشَ الْعَنَتَ. انْتَهَى. بَابُ صِفَةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي تُسْتَحَبُّ خِطْبَتُهَا 3416- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَأْمُرُ بِالْبَاءَةِ وَيَنْهَى عَنْ التَّبَتُّلِ نَهْيًا شَدِيدًا وَيَقُولُ: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الأَنْبِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . 3417- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «انْكِحُوا أُمَّهَاتِ الأَوْلادِ فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. 3418- وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَجَمَالٍ وَإِنَّهَا لا تَلِدُ أَفَأَتَزَوَّجُهَا؟ قَالَ: «لا» . ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَنَهَاهُ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 3419- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ: «يَا جَابِرُ تَزَوَّجْتَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا» ؟ قَالَ: ثَيِّبًا، فَقَالَ: «هَلا تَزَوَّجْتَ بِكْرًا تُلاعِبُهَا وَتُلاعِبُكَ» ؟ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 3420- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. 3421- وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ الْمَرْأَةَ تُنْكَحُ عَلَى دِينِهَا، وَمَالِهَا، وَجَمَالِهَا، فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَهَذِهِ الأَحَادِيثُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا تَدُلُّ عَلَى

(2/206)


مَشْرُوعِيَّةِ النِّكَاحِ وَمَشْرُوعِيَّةِ أَنْ تَكُونَ الْمَنْكُوحَةُ وَلُودًا. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ نِكَاحِ الأَبْكَارِ إلا لِمُقْتَضٍ، وَتقديم ذَاتُ الدِّينِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ خِطْبَةِ الْمُجْبَرَةِ إلَى وَلِيِّهَا وَالرَّشِيدَةِ إلَى نَفْسِهَا 3422- عَنْ عِرَاكٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَ عَائِشَةَ إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: إنَّمَا أَنَا أَخُوكَ فَقَالَ لَهُ: «أَنْتَ أَخِي فِي دِينِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَهِيَ لِي حَلالٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هَكَذَا مُرْسَلاً. 3423- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ أَرْسَلَ إلَيَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ يَخْطُبُنِي لَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: إنَّ لِي بِنْتًا، وَأَنَا غَيُورٌ، فَقَالَ: «أَمَّا ابْنَتُهَا فَنَدْعُو اللَّهَ أَنْ يُغْنِيَهَا عَنْهَا، وَأَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَذْهَبَ بِالْغَيْرَةِ» . مُخْتَصَرٌ مِنْ مُسْلِمٍ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ الأَوَّلُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ خِطْبَةَ الْمَرْأَةِ الصَّغِيرَةِ الْبِكْرِ تَكُونُ إلَى وَلِيِّهَا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَفِيهِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ إنْكَاحِ الْبِكْرِ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ مَخْصُوصٌ بِالْبَالِغَةِ الَّتِي يُتَصَوَّرُ مِنْهَا الإِذْنُ وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلا إذْنَ لَهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلامُ عَلَى ذَلِكَ فِي بَابِ مَا جَاءَ فِي الإِجْبَارِ وَالِاسْتِئْمَارِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ: (وَأَنَا غَيُورٌ) أي: تَغَارُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً أُخْرَى، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْبَالِغَةَ الثَّيِّب تُخْطَبُ إلَى نَفْسِهَا. انْتَهَى ملخصًا. بَابُ النَّهْيِ أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ 3424- عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ فَلا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلا يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَذَرَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 2635 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. 3426- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا

(2/207)


يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ الرَّجُلِ حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «وَلا يَخْطُبُ» إلى آخره اُسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى تَحْرِيمِ الْخِطْبَةِ عَلَى الْخِطْبَةِ لِقَوْلِهِ «لا يَحِلُّ» بِالنَّهْيِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَهو مذَهَبَ الْجُمْهُورُ. قَوْلُهُ: «حَتَّى يَتْرُكَ» فِيه دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلآخَرِ أَنْ يَخْطُبَ بَعْدَ أَنْ يَعْلَمَ رَغْبَةَ الأَوَّلِ عَنْ النِّكَاحِ. بَابُ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ فِي الْعِدَّةِ 3427- عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلاثًا، فَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سُكْنَى وَلا نَفَقَةً، قَالَتْ: وَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا حَلَلْت فَآذِنِينِي» . فَآذَنْتُهُ فَخَطَبَهَا مُعَاوِيَةُ وَأَبُو جَهْمٍ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَرَجُلٌ تَرِبٌ لا مَالَ لَهُ. وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَرَجُلٌ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ، وَلَكِنْ أُسَامَةُ» . فَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا: أُسَامَةُ؟ أُسَامَةُ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «طَاعَةُ اللَّهِ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ» . قَالَتْ: فَتَزَوَّجْتُهُ فَاغْتَبَطْتُ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا {فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} يَقُولُ: إنِّي أُرِيدُ التَّزْوِيجَ وَلَوَدِدْت أَنَّهُ يَسَّرَ لِي امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 3428- وَعَنْ سُكَيْنَةَ بِنْتِ حَنْظَلَةَ قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتِي مِنْ مَهْلَكَةِ زَوْجِي، فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتِ قَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَرَابَتِي مِنْ عَلِيٍّ، وَمَوْضِعِي مِنْ الْعَرَبِ، قُلْت: غَفَرَ اللَّهُ لَك يَا أَبَا جَعْفَرٍ إنَّكَ رَجُلٌ يُؤْخَذُ عَنْكَ وَتَخْطُبُنِي فِي عِدَّتِي؟ فَقَالَ: إنَّمَا أَخْبَرْتُكِ بِقَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمِنْ عَلِيٍّ وَقَدْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ مُتَأَيِّمَةٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، فَقَالَ: «لَقَدْ عَلِمْتِ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ وَمَوْضِعِي مِنْ قَوْمِي» . كَانَتْ تِلْكَ خِطْبَتَهُ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (إنِّي أُرِيدُ التَّزْوِيجَ) هُوَ تَفْسِير

(2/208)


التَّعْرِيض الْمَذْكُور فِي الآية، وَمِنْ التَّعْرِيضِ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُد: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا: «لا تَفُوتِينَا بِنَفْسِكِ» وَمِنْهُ قَوْل الْبَاقِرُ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحُكْمِ مَنْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنْ الطَّلاقِ الْبَائِنِ، وَكَذَا مَنْ وَقَفَ نِكَاحُهَا وَأَمَّا الرَّجْعِيَّةُ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لا يَجُوزُ لأَحَدٍ أَنْ يُعَرِّضَ لَهَا بِالْخِطْبَةِ فِيهَا وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّصْرِيحَ بِالْخِطْبَةِ حَرَامٌ لِجَمِيعِ الْمُعْتَدَّاتِ، وَالتَّعْرِيضُ مُبَاحٌ لِلأُولَى وَحَرَامٌ فِي الأَخِيرَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فِي الْبَائِنِ. انتهى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَالْمُعْتَدَّةُ بِاسْتَبْرَاءٍ كَأُمِّ الْوَلَدِ أَوْ مَاتَ سَيِّدُهَا أَوْ أَعْتَقَهَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ فِي حُكْمِ الأَجْنَبِيَّةِ كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا، وَالْمُطَلَّقَةِ ثَلاثًا وَالْمُفْسِخُ نِكَاحهَا بِرِضَاعٍ أَوْ لِعَانٍ فَيَجُوزُ التَّعَرُّض دُونَ التَّصْرِيحِ. انْتَهَى. بَابُ النَّظَرِ إلَى الْمَخْطُوبَةِ 3429- فِي حَدِيثِ الْوَاهِبَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «فَصَعَّدَ فِيهَا النَّظَرَ وَصَوَّبَهُ» . 3430- وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: أَنَّهُ خَطَبَ امْرَأَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ... «اُنْظُرْ إلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا أَبَا دَاوُد. 3431- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَطَبَ رَجُلٌ امْرَأَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ... «اُنْظُرْ إلَيْهَا فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الأَنْصَارِ شَيْئًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 3432- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إذَا خَطَبَ أَحَدُكُمْ الْمَرْأَةَ فَقَدَرَ أَنْ يَرَى مِنْهَا بَعْضَ مَا يَدْعُوهُ إلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3433- وَعَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ أَوْ حُمَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا خَطَبَ أَحَدُكُمْ امْرَأَةً فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا إذَا كَانَ، إنَّمَا يَنْظُرُ إلَيْهَا لِخِطْبَةٍ وَإِنْ كَانَتْ لا تَعْلَمُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3434- وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إذَا أَلْقَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَلْبِ امْرِئٍ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ فَلا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ.

(2/209)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وأحاديث الْبَابِ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا بَأْسَ بِنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: أَنَّ عُمَرَ خَطَبَ إلَى عَلِيٍّ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ، فَذَكَرَ لَهُ صِغَرَهَا، فَقَالَ: أَبْعَثُ بِهَا إلَيْكَ فَإِنْ رَضِيتَ فَهِيَ امْرَأَتُكَ، فَأَرْسَلَ بِهَا إلَيْهِ، فَكَشَفَ عَنْ سَاقِهَا، فَقَالَتْ: لَوْلا أَنَّكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَصَكَكْتُ عَيْنَيْكَ. بَابُ النَّهْيِ عَنْ الْخَلْوَةِ بِالأَجْنَبِيَّةِ وَالأَمْرِ بِغَضِّ النَّظَرِ وَالْعَفْوِ عَنْ نَظَرِ الْفَجْأَةِ 3435- عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يَخْلُوَنَّ بِامْرَأَةٍ لَيْسَ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا، فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ» . 3436- وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لا تَحِلُّ لَهُ، فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ إلا مَحْرَمٌ» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. 3437- وَقَدْ سَبَقَ مَعْنَاهُ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ. 3438- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَلا تَنْظُرُ الْمَرْأَةُ إلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ، وَلا يُفْضِي الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ وَلا الْمَرْأَةُ إلَى الْمَرْأَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ» . 3439- وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ نَظَرِ الْفَجْأَةِ؟ فَقَالَ: «اصْرِفْ بَصَرَكَ» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 3440- وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعَلِيٍّ «يَا عَلِيُّ لا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّمَا لَكَ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 3441- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ» . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَالَ: وَمَعْنَى قَوْلُهُ:

(2/210)


«الْحَمْوِ» يُقَالُ: هُوَ أَخُو الزَّوْجِ كَأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْخَلْوَةُ بِالأَجْنَبِيَّةِ مُجْمَعٌ عَلَى تَحْرِيمِهَا. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَقُومُ مَقَامَهُ المحرم غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ كَالنِّسْوَةِ الثِّقَاتِ؟ فَقِيلَ: يَجُوزُ لِضَعْفِ التُّهْمَةِ وَقِيلَ: لا يَجُوزُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، إلى أن قَالَ: وَحَدِيثُ بُرَيْدَةَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ الْوَاقِعَ فَجْأَةً مِنْ دُونِ قَصْدٍ وَتَعَمُّدٍ لا يُوجِبُ إثْمَ النَّاظِرِ لأَنَّ التَّكْلِيفَ بِهِ خَارِجٌ عَنْ الاسْتِطَاعَةِ. قَوْلُهُ: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ» أَيْ: الْخَوْفُ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ، وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ اللَّيْثِ أَنَّهُ قَالَ: الْحَمْوُ: أَخُو الزَّوْجِ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ أَقَارِبِ الزَّوْجِ، ابْنُ الْعَمِّ وَنَحْوُهُ. بَابُ أَنَّ الْمَرْأَةَ عَوْرَةٌ إلا الْوَجْهَ وَأَنَّ عَبْدَهَا كَمَحْرَمِهَا فِي نَظَرِ مَا يَبْدُو مِنْهَا غَالِبًا 3442- وَعَنْ خَالِدِ بْنِ دُرَيْكٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَقَالَ: «يَا أَسْمَاءُ إنَّ الْمَرْأَةَ إذَا بَلَغَتْ الْمَحِيضَ لَمْ يَصْلُحْ لَهَا أَنْ يُرَى مِنْهَا إلا هَذَا وَهَذَا، وَأَشَارَ إلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ: هَذَا مُرْسَلٌ، خَالِدُ بْنُ دُرَيْكٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ. 3443- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَتَى فَاطِمَةَ بِعَبْدٍ قَدْ وَهَبَهُ لَهَا، قَالَ: وَعَلَى فَاطِمَةَ ثَوْبٌ إذَا قَنَّعَتْ بِهِ رَأْسَهَا لَمْ يَبْلُغْ رِجْلَيْهَا، وَإِذَا غَطَّتْ بِهِ رِجْلَيْهَا، لَمْ يَبْلُغْ رَأْسَهَا؛ فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَا تَلْقَى قَالَ: «إنَّهُ لَيْسَ عَلَيْك بَأْسٌ، إنَّمَا هُوَ أَبُوكِ وَغُلامُكِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 3444- وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: «إذَا كَانَ لإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ وَكَانَ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «إلا هَذَا وَهَذَا» فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ: إنَّهُ يَجُوزُ نَظَرُ الأَجْنَبِيَّةِ. قَالَ ابْنُ رَسْلانَ: وَهَذَا عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ مِمَّا تَدْعُو الشَّهْوَةُ إلَيْهِ مِنْ جِمَاعٍ أَوْ مَا دُونَهُ أَمَّا عِنْدَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ فَظَاهِرُ إطْلاقِ الآيَةِ

(2/211)


وَالْحَدِيثِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْحَاجَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى تَقْيِيدِهِ بِالْحَاجَةِ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْعِ النِّسَاءِ أَنْ يَخْرُجْنَ سَافِرَاتِ الْوُجُوهِ لا سِيَّمَا عِنْدَ كَثْرَةِ الْفُسَّاقِ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لا يَلْزَمُهَا سَتْرُ وَجْهِهَا فِي طَرِيقِهَا وَعَلَى الرِّجَالِ غَضُّ الْبَصَرِ لِلآيَةِ. قَوْلُهُ: «إنَّمَا هُوَ أَبُوكِ وَغُلامُكِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَبْدِ النَّظَرُ إلَى سَيِّدَتِهِ وَأَنَّهُ مِنْ مَحَارِمِهَا يَخْلُو بِهَا وَيُسَافِرُ مَعَهَا وَيَنْظُرُ مِنْهَا مَا يَنْظُرُ إلَيْهِ مَحْرَمُهَا، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَتْ عَائِشَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ الْمَمْلُوكَ كَالأَجْنَبِيِّ بِدَلِيلِ صِحَّةِ تَزَوُّجِهَا إيَّاهُ بَعْدَ الْعِتْقِ. بَابٌ فِي غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ 3445- عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ عِنْدَهَا وَفِي الْبَيْتِ مُخَنَّثٌ، فَقَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ - أَخِي أُمِّ سَلَمَةَ -: يَا عَبْدَ اللَّهِ إنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِي الطَّائِفِ فَإِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى ابْنَةِ غَيْلانَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ، فَقَالَ ... النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَدْخُلَنَّ هَؤُلاءِ عَلَيْكُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3446- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا قَالَتْ: كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُخَنَّثٌ، قَالَتْ: وَكَانُوا يَعُدُّونَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ وَهُوَ يَنْعَتُ امْرَأَةً، قَالَ: إذَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَتْ بِأَرْبَعٍ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ أَدْبَرَتْ بِثَمَانٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَرَى هَذَا يَعْرِفُ مَا هَا هُنَا لا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُمْ هَذَا» . فَحَجَبُوهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ لَهُ. 3447- وَأَخْرَجَهُ وَكَانَ بِالْبَيْدَاءِ يَدْخُلُ كُلَّ جُمُعَةٍ يَسْتَطْعِمُ. 3448- وَعَنْ الأَوْزَاعِيِّ - فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ - فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ إذًا يَمُوتُ مِنْ الْجُوعِ؟ فَأَذِنَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ فَيَسْأَلُ ثُمَّ يَرْجِعُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (مُخَنَّثٌ) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا

(2/212)


وَالْفَتْحُ الْمَشْهُورُ: وَهُوَ الَّذِي يُلَيِّنُ فِي قَوْلِهِ وَيَتَكَسَّرُ فِي مِشْيَتِهِ وَيَتَثَنَّى فِيهَا كَالنِّسَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ خِلْقَةً وَقَدْ يَكُونُ تَصَنُّعًا مِنْ الْفَسَقَةِ، وَمَنْ كَانَ ذَلِكَ فِيهِ خِلْقَةً فَالْغَالِبُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لا أَرَبَ لَهُ فِي النِّسَاءِ، وَلِذَلِكَ كَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَعْدُدْنَ هَذَا الْمُخَنَّثَ مِنْ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ، وَكُنَّ لا يَحْجُبْنَهُ إلا إنْ ظَهَرَ مِنْهُ مَا ظَهَرَ مِنْ هَذَا الْكَلامِ. قَوْلُهُ: (تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ) الْمُرَادُ بِالأَرْبَعِ هِيَ الْعُكَنُ جَمْعُ عُكْنَةٍ، وَلِكُلِّ عُكْنَةٍ طَرَفَانِ، فَإِذَا رَآهُنَّ الرَّائِي مِنْ جِهَةِ الْبَطْنِ وَجَدَهُنَّ أَرْبَعًا وَإِذَا رَآهُنَّ مِنْ جِهَةِ الظَّهْرِ وَجَدَهُنَّ ثَمَانِيًا. قَوْلُهُ: «أَرَى هَذَا» إلَى آخره بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا يَدُلُّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ لا يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ النِّسَاءِ وَلا يَخْطِرُ لَهُ بِبَالٍ، وَيُشْبِهُ أَنَّ التَّخْنِيثَ كَانَ فِيهِ خِلْقَةً وَطَبِيعَةً وَلَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ إلا ذَلِكَ، وَلِهَذَا كَانُوا يَعُدُّونَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ. قَوْلُهُ: (وَأَخْرَجَهُ) قَالَ الْعُلَمَاءُ: إخْرَاجُ الْمُخَنَّثِ وَنَفْيِهِ كَانَ لِثَلاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ الْكَلامُ زَالَ الظَّنُّ. وَالثَّانِي: وَصْفُ النِّسَاءَ وَمَحَاسِنَهُنَّ وَعَوْرَاتِهِنَّ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَطَّلِعُ من النِّسَاءَ وَأَجْسَامَهُنَّ وَعَوْرَاتِهِنَّ عَلَى مَا لا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ النِّسَاءِ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلُ جَوَازِ الْعُقُوبَةِ بِالإِخْرَاجِ مِنْ الْوَطَنِ لِمَا يُخَافُ مِنْ الْفَسَادِ وَالْفِسْقِ، وَجَوَازِ الإِذْنِ بِالدُّخُولِ فِي بَعْضِ الأَوْقَاتِ لِلْحَاجَةِ. بَابٌ فِي نَظَرِ الْمَرْأَةِ إلَى الرَّجُلِ 3449- عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَيْمُونَةَ، فَأَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أُمِرَ بِالْحِجَابِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ... «احْتَجِبَا مِنْهُ» . فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ أَعْمَى لا يُبْصِرُنَا وَلا يَعْرِفُنَا؟ فَقَالَ: «أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا، أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ» ؟ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3450- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ

(2/213)


إلَى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّتِي أَسْأَمُهُ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3451- وَلأَحْمَدَ: إنَّ الْحَبَشَةَ كَانُوا يَلْعَبُونَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي يَوْمِ عِيدٍ، قَالَتْ: فَاطَّلَعْت مِنْ فَوْقِ عَاتِقِهِ فَطَأْطَأَ لِي مَنْكِبَيْهِ، فَجَعَلْت أَنْظُرُ إلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِ عَاتِقِهِ حَتَّى شَبِعْت ثُمَّ انْصَرَفْت. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ هَذَا مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ نَظَرُ الرَّجُلِ كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ نَظَرُ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالْهَادَوِيَّةِ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ الأصح وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: ... {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّهُ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَقَدْ جَمَعَ أَبُو دَاوُد بَيْنَ الأَحَادِيثِ فَجَعَلَ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ مُخْتَصًّا بِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا جَمْعٌ حَسَنٌ. قَالَ: وَيُؤَيِّدُ الْجَوَازَ اسْتِمْرَارُ الْعَمَلِ عَلَى جَوَازِ خُرُوجِ النِّسَاءِ إلَى الْمَسَاجِدِ وَالأَسْوَاقِ وَالأَسْفَارِ مُنْتَقِبَاتٍ لِئَلا يَرَاهُنَّ الرِّجَالُ، وَلَمْ يُؤْمَرْ الرِّجَالُ قَطُّ بِالانْتِقَابِ لِئَلا يَرَاهُمْ النِّسَاءُ، فَدَلَّ عَلَى مُغَايَرَةِ الْحُكْمِ. انْتَهَى ملخصًا. قَوْلُهُ: (يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ وَجَوَازُ النَّظَرِ إلَى اللَّهْوِ الْمُبَاحِ، وَفِيهِ حُسْنُ خُلُقِهِ مَعَ أَهْلِهِ وَكَرَمُ مُعَاشَرَتِهِ - صلى الله عليه وسلم -. بَابُ لا نِكَاحَ إلا بِوَلِيٍّ 3452- عَنْ أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا نِكَاحَ إلا بِوَلِيٍّ» . 3453- وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ؛ فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنْ اشْتَجَرَا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لا وَلِيَّ لَهُ» . رَوَاهُمَا الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ. وَرَوَى الثَّانِي أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ.

(2/214)


3454- وَلَفْظُهُ: «لا نِكَاحَ إلا بِوَلِيٍّ وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لا وَلِيَّ لَهُ» . 3455- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، وَلا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فَإِنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: جَمَعَتْ الطَّرِيقُ رَكْبًا، فَجَعَلَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ - ثَيِّبٌ - أَمْرَهَا بِيَدِ رَجُلٍ غَيْرِ وَلِيٍّ فَأَنْكَحَهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ، فَجَلَدَ النَّاكِحَ وَالْمُنْكَحَ وَرَدَّ نِكَاحَهَا. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: مَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَشَدَّ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِنْ عَلِيٍّ، كَانَ يَضْرِبُ فِيهِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لا نِكَاحَ إلا بِوَلِيٍّ» هَذَا النَّفْيُ يَتَوَجَّهُ إمَّا إلَى الذَّاتِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ إلَى الصِّحَّةِ، فَيَكُونُ النِّكَاحُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ بَاطِلاً كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَقَدْ ذَهَبَ إلَى هَذَا جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَالُوا: لا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِدُونِ وَلِيٍّ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إنَّهُ لا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلافُ ذَلِكَ وَحُكِيَ فِي الْبَحْرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لا يُعْتَبَرُ الْوَلِيُّ مُطْلَقًا لِحَدِيثِ: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ اعْتِبَارُ الرِّضَا مِنْهَا جَمْعًا بَيْنَ الأَخْبَارِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَإِذَا تَعَذَّرَ مَنْ لَهُ وِلايَة النِّكَاحِ انْتَقَلَتْ الْوِلايَةُ إِلَى أَصْلَحُ مَنْ يُوجَدُ مِمَّنْ لَهُ نَوْعُ وِلايَةٍ فِي غَيْرِ النِّكَاحِ كَرَئِيسِ الْقَرْيَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ باِلدّهقَانِ، وَأَمِير الْقَافِلَةِ وَنَحْوُهُ. بَابُ مَا جَاءَ فِي الإِجْبَارِ وَالاسْتِئْمَارِ 3456- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ وَمَكَثَتْ عِنْدَهُ تِسْعًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(2/215)


3457- وَفِي رِوَايَةٍ: تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتُ سَبْعِ سِنِينَ، وَزُفَّتْ إلَيْهِ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 3458- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ. 3459- وَفِي رِوَايَةٍ لأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ: «وَالْبِكْرُ يَسْتَأْمِرُهَا أَبُوهَا» . 3460- وَفِي رِوَايَةٍ لأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ: «وَالْيَتِيمَةُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا» . 3461- وَفِي رِوَايَةٍ لأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ: «لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ، وَالْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ، وَصَمْتُهَا إقْرَارُهَا» . 3462 - وَعَنْ خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامٍ الأَنْصَارِيَّةِ: أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا - وَهِيَ ثَيِّبٌ - فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَدَّ نِكَاحَهَا. أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ إلا مُسْلِمًا. 3463- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلا الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ إذْنُهَا؟ قَالَ: «أَنْ تَسْكُتَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 3464- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ: تُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ فِي أَبْضَاعِهِنَّ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . قُلْتُ: إنَّ الْبِكْرَ تُسْتَأْمَرُ فَتَسْتَحِي فَتَسْكُتُ، فَقَالَ: «سُكَاتُهَا إذْنُهَا» . 3465- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ» . قُلْت: إنَّ الْبِكْرَ تُسْتَأْذَنُ فَتَسْتَحِي، قَالَ: «إذْنُهَا صُمَاتُهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 3466- وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا، فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ أَذِنَتْ، وَإِنْ أَبَتْ لَمْ تُكْرَهْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3467- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فِي

(2/216)


نَفْسِهَا، فَإِنْ سَكَتَتْ فَهُوَ إذْنُهَا، وَإِنْ أَبَتْ فَلا جَوَازَ عَلَيْهَا» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا ابْنَ مَاجَةْ. 3468- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَتْ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ وَالدَّارَقُطْنِيّ. 3469- وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضًا عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُرْسَلاً وَذَكَرَ أَنَّهُ أَصَحُّ. 3470- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: تُوُفِّيَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَتَرَكَ ابْنَةً لَهُ مِنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الأَوْقَصِ، وَأَوْصَى إلَى أَخِيهِ قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَهُمَا خَالايَ، فَخَطَبْتُ إلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ ابْنَةَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فَزَوَّجَنِيهَا، وَدَخَلَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، يَعْنِي إلَى أُمِّهَا فَأَرْغَبَهَا فِي الْمَالِ، فَحَطَّتْ إلَيْهِ وَحَطَّتْ الْجَارِيَةُ إلَى هَوَى أُمِّهَا، فَأَبَتَا حَتَّى ارْتَفَعَ أَمْرُهُمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنَةُ أَخِي أَوْصَى بِهَا إلَيَّ فَزَوَّجْتُهَا ابْنَ عَمَّتِهَا فَلَمْ أُقَصِّرْ بِهَا فِي الصَّلاحِ وَلا فِي الْكَفَاءَةِ، وَلَكِنَّهَا امْرَأَةٌ وَإِنَّمَا حَطَّتْ إلَى هَوَى أُمِّهَا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هِيَ يَتِيمَةٌ وَلا تُنْكَحُ إلا بِإِذْنِهَا» . قَالَ: فَانْتُزِعَتْ وَاَللَّهِ مِنِّي بَعْدَ أَنْ مَلَكْتُهَا فَزَوَّجُوهَا الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْيَتِيمَةَ لا يُجْبِرُهَا وَصِيٌّ وَلا غَيْرُهُ. 3471- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «آمِرُوا النِّسَاءَ فِي بَنَاتِهِنَّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ: (إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ) الْحَدِيثُ، قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ لِلِاسْتِدْلالِ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلأَبِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانِهَا، وَكَذَلِكَ صَنَعَ الْبُخَارِيُّ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَزْوِيجُ الصَّغِيرَةِ بِالْكَبِيرِ وَحُكِيَ فِي الْفَتْحِ الإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ. قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ فِي الْمَهْدِ لَكِنْ لا يُمَكَّنُ مِنْهَا حَتَّى تَصْلُحَ لِلْوَطْءِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/217)


قَوْلُهُ: «الْبِكْرُ يَسْتَأْمِرُهَا أَبُوهَا» قَالَ الشَّارِحُ: الِاسْتِئْمَارُ: طَلَبُ الأَمْرِ، وَالْمَعْنَى: لا يَعْقِدُ عَلَيْهَا حَتَّى يَطْلُبَ الأَمْرَ مِنْهَا. قَوْلُهُ: «لا تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ» عَبَّرَ لِلثَّيِّبِ بِالِاسْتِئْمَارِ وَالْبِكْرِ بِالِاسْتِئْذَانِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الِاسْتِئْمَارَ يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ الْمُشَاوَرَةِ وَجَعْلِ الأَمْرِ إلَى الْمُسْتَأْمرة، وَلِهَذَا يَحْتَاجُ الْوَلِيُّ إلَى صَرِيحِ إذْنِهَا، وَالْبِكْرُ بِخِلافِ ذَلِكَ، وَالإِذْنُ دَائِرٌ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالسُّكُوتِ. قَوْلُهُ: (حَطَّتْ) أَيْ: مَالَتْ وَأَسْرَعَتْ. وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى اعْتِبَارِ الرِّضَا مِنْ الْمَرْأَةِ الَّتِي يُرَادُ تَزْوِيجُهَا، وَأَنَّهُ لا بُدَّ مِنْ صَرِيحِ الإِذْنِ مِنْ الثَّيِّبِ وَيَكْفِي السُّكُوتُ مِنْ الْبِكْرِ، إلَى أن قَالَ: وَظَاهِرُ أَحَادِيثِ الْبَابِ أَنَّ الْبِكْرَ الْبَالِغَةَ إذَا زُوِّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهَا لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْعِتْرَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ، وَحَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلأَبِ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ قَوْلِهِ: «وَالْبِكْرُ يَسْتَأْمِرُهَا أَبُوهَا» . وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الأَوَّلُونَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ جَارِيَةً بِكْرًا» إلَى آخره، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا» أَنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَالْجَدُّ كَالأّبِّ فِي الإِجْبَارِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَد. وَلَيْسَ لِلأَبِّ إِجْبَار بَنْت التِّسْع بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثيبًا، وَهُوَ رِوَايةٌ عَنْ أَحْمَدٍ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ. وَرِضَا الثَّيِّب الْكَلام، وَالْبِكْرِ الصُّمَاتُ. انْتَهَى. بَابُ الِابْنِ يُزَوِّجُ أُمَّهُ 3472- عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّهَا لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُهَا قَالَتْ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِي شَاهِدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِكِ شَاهِدٌ وَلا غَائِبٌ يَكْرَهُ ذَلِكَ» . فَقَالَتْ لِابْنِهَا: يَا عُمَرُ: قُمْ فَزَوِّجْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَزَوَّجَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ بِأَنَّ

(2/218)


الْوَلَدَ مِنْ جُمْلَةِ الأَوْلِيَاءِ فِي النِّكَاحِ وَهُمْ الْجُمْهُورُ. بَابُ الْعَضْلِ 3473- عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: كَانَتْ لِي أُخْتٌ تُخْطَبُ إلَيَّ، فَأَتَانِي ابْنُ عَمٍّ لِي فَأَنْكَحْتُهَا إيَّاهُ، ثُمَّ طَلَّقَهَا طَلاقًا لَهُ رَجْعَةٌ ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا؛ فَلَمَّا خُطِبَتْ إلَيَّ أَتَانِي يَخْطُبُهَا، فَقُلْتُ: لا وَاَللَّهِ لا أُنْكِحُكَهَا أَبَدًا، قَالَ: فَفِي نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} الآيَةَ قَالَ: فَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَنْكَحْتُهَا إيَّاهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ التَّكْفِيرَ. 3474- وَفِيهِ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: وَكَانَ رَجُلًا لا بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إلَيْهِ. وَهُوَ حُجَّةٌ فِي اعْتِبَارِ الْوَلِيِّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِي حَدِيثِ مَعْقِلٍ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السُّلْطَانَ لا يُزَوِّجُ الْمَرْأَةَ إلا بَعْدَ أَنْ يَأْمُرَ وَلِيَّهَا بِالرُّجُوعِ عَنْ الْعَضْلِ فَإِنْ أَجَابَ فَذَاكَ، وَإِنْ أَصَرَّ زَوَّجَهَا. انتهى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدٍ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِي فِي الْبَلَدِ يَكُونُ فِيهِ الْوَلِيّ وَلَيْسَ فِيهِ قَاضٍ يُزَوِّجُ إِذَا احْتَاطَ لِلْمَرْأَةَ فِي الْمَهْرِ وَالْكُفُءِ أَرْجُو أَنْ لا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَيُزَوِّجُ الأَيَامَى فَرْضُ كِفَايَة إِجْمَاعًا، فَإِنْ أَبَاهُ حَاكِمٌ إِلا بِظُلْمٍ كَطَلَبِهِ جَعْلاً لا يَسْتَحِقَّهُ صَارَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. انتهى. بَابُ الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ 3475- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْبَغَايَا اللاتِي يَنْكِحْنَ أَنْفُسَهُنَّ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُ عَبْدِ الأَعْلَى، وَأَنَّهُ قَدْ وَقَفَهُ مَرَّةً وَأَنَّ الْوَقْفَ أَصَحُّ وَهَذَا يَقْدَحُ لأَنَّ عَبْدَ الأَعْلَى ثِقَةٌ فَيُقْبَلُ رَفْعُهُ وَزِيَادَتُهُ، وَقَدْ يَرْفَعُ الرَّاوِي الْحَدِيثَ وَقَدْ يَقِفُهُ. 3476- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا نِكَاحَ إلا بِوَلِيٍّ

(2/219)


وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» . ذَكَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ. 3477- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا نِكَاحَ إلا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ، فَإِنْ تَشَاجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لا وَلِيَّ لَهُ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَلِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أُتِيَ بِنِكَاحٍ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ إلا رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، فَقَالَ: هَذَا نِكَاحُ السِّرِّ وَلا أُجِيزُهُ، وَلَوْ كُنْتُ تَقَدَّمْتُ فِيهِ لَرَجَمْتُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ مَنْ جَعَلَ الإِشْهَادَ شَرْطً. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ، قَالُوا: لا نِكَاحَ إلا بِشُهُودٍ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي ذَلِكَ مَنْ مَضَى مِنْهُمْ إلا قَوْمٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذَا إذَا شَهِدَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، فَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ: لا يَجُوزُ النِّكَاحُ حَتَّى يَشْهَدَ الشَّاهِدَانِ مَعًا عِنْدَ عُقْدَةِ النِّكَاحِ وَقَدْ رَوَى بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: إذَا شَهِدَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ إذَا أَعْلَنُوا ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَجُوزُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي النِّكَاحِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، انْتَهَى كَلامُ التِّرْمِذِيِّ. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَالَّذِي لا رَيْبَ فِيهِ أنَّ بِالنِّكَاحِ مَعَ الإِعْلانِ صَحِيح، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ شَاهِدَانِ، وَأَمَّا مَعَ الْكِتْمَانِ وَالإِشْهَادُ فَهَذَا مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، وَإِذَا اجْتَمَعَ وَالإِشْهَادُ الإِعْلانُ فَهَذَا لا نِزَاعَ فِي صِّحَّته، وَإِنْ خَلا عَنِ الإِشْهَادِ وَالإِعْلانِ فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ قُدِّرَ فِيهِ خِلافٌ فَهُوَ قَلِيلٌ. انْتَهَى. بَابُ مَا جَاءَ فِي الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ 3478- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَتْ فَتَاةٌ إلَى ... رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: إنَّ أَبِي زَوَّجَنِي ابْنَ أَخِيهِ لِيَرْفَعَ بِي خَسِيسَتَهُ، قَالَ: فَجَعَلَ الأَمْرَ إلَيْهَا، فَقَالَتْ: قَدْ أَجَزْتُ مَا صَنَعَ أَبِي، وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ أُعْلِمَ النِّسَاءَ أَنْ لَيْسَ إلَى الآبَاءِ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. 3479- وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ بُرَيْدَةَ َعَنْ عَائِشَةَ.

(2/220)


وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: لأَمْنَعَنَّ تَزَوُّجَ ذَوَاتِ الأَحْسَابِ إلا مِنْ الأَكْفَاءِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. 3480- وَعَنْ أَبِي حَاتِمٍ الْمُزَنِيّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ إلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ ... كَبِيرٌ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ؟ قَالَ: «إذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ» . ثَلاثَ مَرَّاتٍ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةُ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ - وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تَبَنَّى سَالِمًا وَأَنْكَحَهُ ابْنَةَ أَخِيهِ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةُ بْنِ رَبِيعَةَ وَهُوَ مَوْلَى لامْرَأَةٍ مِنْ الأَنْصَارِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. وَعَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الْجُمَحِيِّ عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ: رَأَيْتُ أُخْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ تَحْتَ بِلالٍ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ فِي الدِّينِ وَالْخُلُقِ، وَقَدْ جَزَمَ بِأَنَّ الاعْتِبَارَ الْكَفَاءَةِ مُخْتَصٌّ بِالدِّينِ مَالِكٌ وَنُقِلَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَمِنْ التَّابِعِينَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وَاعْتَبَرَ الْكَفَاءَةَ فِي النَّسَبِ الْجُمْهُورُ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَاعْتِبَارُ الْكَفَاءَةِ فِي الدِّينِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَلا تَحِلُّ الْمُسْلِمَةُ لِكَافِرٍ. قَالَ الْخَطَّابِيِّ: إنَّ الْكَفَاءَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: الدِّينِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالنَّسَبِ وَالصِّنَاعَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ السَّلامَةَ مِنْ الْعُيُوبِ، وَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ الْيَسَارَ. قَالَ الشَّارِحُ: وَمِنْ جُمْلَةِ الأُمُورِ الْمُوجِبَةِ لِرِفْعَةِ الْمُتَّصِفِ بِهَا، الصَّنَائِعُ الْعَالِيَةُ وَأَعْلاهَا عَلَى الإِطْلاقِ: الْعِلْمُ، لِحَدِيثِ: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ» . قَوْلُهُ: (تَبَنَّى سَالِمًا وَأَنْكَحَهُ ابْنَةَ أَخِيهِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكَفَاءَةَ تُغْتَفَرُ بِرِضَا الأَعْلَى لا مَعَ عَدَمِ الرِّضَا، فَقَدْ خَيَّرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَرِيرَةَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ زَوْجُهَا كُفُؤًا لَهَا. بَابُ اسْتِحْبَابِ الْخُطْبَةِ لِلنِّكَاحِ وَمَا يُدْعَى بِهِ لِلْمُتَزَوِّجِ 3481- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - التَّشَهُّدَ فِي الصَّلاةِ

(2/221)


وَالتَّشَهُّدَ فِي الْحَاجَةِ، وَذَكَرَ تَشَهُّدَ الصَّلاةِ، قَالَ: وَالتَّشَهُّدُ فِي الْحَاجَةِ: «إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» قَالَ: وَيَقْرَأُ ثَلاثَ آيَاتٍ، فَفَسَّرَهَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: {اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} {وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} الآيَةَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3483- وَعَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ قَالَ: خَطَبْتُ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أُمَامَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَأَنْكَحَنِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَشَهَّدَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 3483- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا رَفَّأَ إنْسَانًا إذَا تَزَوَّجَ قَالَ: «بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 3484- وَعَنْ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي جُشَمٍ، فَقَالُوا: بِالرَّفَاءِ وَالْبَنِينَ، فَقَالَ: لا تَقُولُوا هَكَذَا، وَلَكِنْ قُولُوا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِمْ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَةْ وَأَحْمَدُ بِمَعْنَاهُ. 3485- وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: لا تَقُولُوا ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ نَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، قُولُوا: (بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، وَبَارَكَ لَكَ فِيهَا) . قَوْلُهُ: (وَالتَّشَهُّدَ فِي الْحَاجَةِ: إِنَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ: «إذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَخْطُبَ لِحَاجَةٍ مِنْ النِّكَاحِ أَوْ غَيْرِهِ فَلْيَقُلْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ» . إلَى آخْره قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْخُطْبَةِ عِنْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ وَعِنْدَ كُلِّ حَاجَةٍ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ بِغَيْرِ خُطْبَةٍ. قَوْلُهُ: (رَفَّأَ) قَالَ فِي الْفَتْحِ: بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ مَهْمُوزٌ: مَعْنَاهُ دَعَا

(2/222)


لَهُ قَالَ الشَّارِحُ: وَفِي الْبَابِ عَنْ هَبَّارٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - شَهِدَ نِكَاحَ رَجُلٍ فَقَالَ: «عَلَى الْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ وَالأُلْفَةُ وَالطَّائِرُ الْمَيْمُونُ وَالسَّعَةُ وَالرِّزْقُ، بَارَكَ اللَّهُ لَكُمْ» . بَابُ مَا جَاءَ فِي الزَّوْجَيْنِ يُوَكِّلانِ وَاحِدًا فِي الْعَقْدِ 3486- عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِرَجُلٍ: «أَتَرْضَى أَنْ أُزَوِّجَكَ فُلانَةَ» ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: «أَتَرْضِينَ أَنْ أُزَوِّجَكِ فُلانًا» ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَزَوَّجَ أَحَدَهُمَا صَاحِبَهُ، فَدَخَلَ بِهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا وَلَمْ يُعْطِهَا شَيْئًا، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ، وَكَانَ مَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ لَهُ سَهْمٌ بِخَيْبَرَ؛ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَوَّجَنِي فُلانَةَ وَلَمْ أَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا وَلَمْ أُعْطِهَا شَيْئًا، وَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَعْطَيْتُهَا مِنْ صَدَاقِهَا سَهْمِي بِخَيْبَرَ، فَأَخَذَتْ سَهْمَهُ فَبَاعَتْهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لأُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ قَارِظٍ: أَتَجْعَلِينَ أَمْرَكِ إلَيَّ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: فَقَدْ تَزَوَّجْتُك. ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ كُل مَنْ وُكِّلَ فِي تَزْوِيجٍ أَوْ فِي بَيْع شَيْء فَلَهُ أَنْ بيعَ وَيُزَوِّجَ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عُقْبَةَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ الأَوْزَاعِيِّ وَرَبِيعَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ وَاللَّيْثِ وَالْهَادَوِيَّةِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَحُكِيَ فِي الْبَحْرِ عَنْ النَّاصِرِ وَالشَّافِعِيِّ وَزُفَرَ أَنَّهُ لا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ نِكَاحٍ وَلا يَحْضُرُهُ أَرْبَعَةٌ» وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُزَوِّجُهُ السُّلْطَانُ أَوْ وَلِيٌّ آخَرُ مِثْلُهُ أَوْ أَبْعَدُ مِنْهُ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ الْمُغِيرَةِ تَعْلِيقًا أَنَّهُ خَطَبَ امْرَأَةً هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهَا فَأَمَرَ رَجُلًا فَزَوَّجَهُ. قال في المقنع: وإذا زوج عبده الصغير من أمته جاز أن يتولى طرفي العقد، وكذلك ولي المرأة مثل ابن العم. والمولى والحاكم إذا أذنت له في نكاحها فله أن يتولى طرفي العقد، وعنه لا يجوز حتى يوكل غيره في أحد

(2/223)


الطرفين. انتهى. قلت: والأحوط أن يوكل غيره في ذلك. والله أعلم. بَابُ مَا جَاءَ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَبَيَانِ نَسْخِهِ 3487- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْسَ مَعَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: أَلا نَخْتَصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا بَعْدُ أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ إلَى أَجَلٍ، ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الآيَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3488- وَعَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ فَرَخَّصَ فَقَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ: إنَّمَا ذَلِكَ فِي الْحَالِ الشَّدِيدِ، وَفِي النِّسَاءِ قِلَّةٌ أَوْ نَحْوَهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 3489- وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إنَّمَا كَانَتْ الْمُتْعَةُ فِي أَوَّلِ الإِسْلامِ كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْبَلْدَةَ لَيْسَ لَهُ بِهَا مَعْرِفَةٌ فَيَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّهُ يُقِيمُ فَتَحْفَظُ لَهُ مَتَاعَهُ وَتُصْلِحُ لَهُ شَأْنَهُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكُلُّ فَرْجٍ سِوَاهُمَا حَرَامٌ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. 3490- وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ. 3491- وَفِي رِوَايَةٍ: نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 3492- وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: رَخَّصَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ - عَامَ أَوْطَاسٍ - ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ نَهَى عَنْه. 3493- وَعَنْ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَتْحَ مَكَّةَ، قَالَ: فَأَقَمْنَا بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ، فَأَذِنَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ - وَذَكَرَ الْحَدِيثَ - إلَى أَنْ قَالَ: فَلَمْ أَخْرُجْ حَتَّى حَرَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. 3494- وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي

(2/224)


كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنْ النِّسَاءِ وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهُ وَلا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا» . رَوَاهُنَّ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 3495- وَفِي لَفْظٍ عَنْ سَبْرَةَ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمُتْعَةِ عَامَ الْفَتْحِ حِينَ دَخَلْنَا مَكَّةَ، ثُمَّ لَمْ نَخْرُجْ مِنْهَا حَتَّى نَهَانَا عَنْهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 3496- وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ - نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ رَوَى الرُّجُوعَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ جَمَاعَةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: جَاءَ عَنْ الأَوَائِلِ الرُّخْصَةُ فِيهَا، وَلا أَعْلَمُ الْيَوْمَ أَحَدًا يُجِيزُهَا إلا بَعْضَ الرَّافِضَةِ، وَلا مَعْنَى لِقَوْلٍ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيِّ: تَحْرِيمُ الْمُتْعَةِ كَالإِجْمَاعِ إلا عَنْ بَعْضِ الشِّيعَةِ، وَلا يَصِحُّ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي الرُّجُوعِ فِي الْمُخَالَفَاتِ إلَى عَلِيٍّ، فَقَدْ صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهَا نُسِخَتْ وَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُتْعَةِ فَقَالَ: هِيَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: مَا حَكَاهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ مِنْ الْجَوَازِ خَطَأٌ، فَقَدْ بَالَغَ الْمَالِكِيَّةُ فِي مَنْعِ النِّكَاحِ الْمُؤَقَّتِ حَتَّى أَبْطَلُوا تَوْقِيتَ الْحِلِّ بِسَبَبِهِ فَقَالُوا: لَوْ عُلِّقَ عَلَى وَقْتٍ لا بُدَّ مِنْ مَجِيئِهِ وَقَعَ الطَّلاقُ الآنَ لأَنَّهُ تَوْقِيتٌ لِلْحِلِّ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى نِكَاحِ الْمُتْعَةِ. قَالَ عِيَاضٌ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْبُطْلانِ التَّصْرِيحُ بِالشَّرْطِ، فَلَوْ نَوَى عِنْدَ الْعَقْدِ أَنْ يُفَارِقَ بَعْدَ مُدَّةٍ صَحَّ نِكَاحُهُ إلا الَْوْزَاعِيَّ فَأَبْطَلَهُ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُحَدُّ نَاكِحُ الْمُتْعَةِ أَوْ يُعَزَّرُ عَلَى قَوْلَيْنِ. انْتَهَى ملخصًا. بَابُ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ 3497- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3498- وَالْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مِثْلَهُ. 3499- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَلا أُخْبِرُكُمْ

(2/225)


بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ» ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «هُوَ الْمُحَلِّلُ، لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ التَّحْلِيلِ لأَنَّ اللَّعْنَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى ذَنْبٍ كَبِيرٍ. قَالَ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ: اسْتَدَلُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى بُطْلانِ النِّكَاحِ إذَا شَرَطَ الزَّوْجُ أَنَّهُ إذَا نَكَحَهَا بَانَتْ مِنْهُ، أَوْ شَرَطَ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى ذَلِكَ، وَلا شَكَّ أَنَّ إطْلاقَهُ يَشْمَلُ هَذِهِ الصُّورَةَ وَغَيْرَهَا، لَكِنْ رَوَى الْحَاكِمُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ جَاءَ إلَيْهِ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثًا، فَتَزَوَّجَهَا أَخٌ لَهُ عَنْ غَيْرِ مُؤَامَرَةٍ لِيُحِلَّهَا لأَخِيهِ هَلْ تَحِلُّ لِلأَوَّلِ؟ قَالَ: لا، إلا بِنِكَاحِ رَغْبَةٍ، كُنَّا نَعُدُّ هَذَا سِفَاحًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إعْلامِ الْمُوَقِّعِينَ: وَصَحَّ عَنْ عَطَاءٍ فِيمَنْ نَكَحَ امْرَأَةً مُحَلِّلاً ثُمَّ رَغِبَ فِيهَا فَأَمْسَكَهَا. قَالَ: لا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لا بَأْسَ بِالتَّحْلِيلِ إذَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ الزَّوْجُ. انْتَهَى ملخصًا. بَابُ نِكَاحِ الشِّغَارِ 3500- عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ الشِّغَارِ، وَالشِّغَارُ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، لَكِنَّ التِّرْمِذِيَّ لَمْ يَذْكُرْ تَفْسِيرَ الشِّغَارِ، وَأَبُو دَاوُد جَعَلَهُ مِنْ كَلامِ نَافِعٍ. 3501- وَهُوَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا. 3502- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا شِغَارَ فِي الإِسْلامِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 3503- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الشِّغَارِ، وَالشِّغَارُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ وَأُزَوِّجُكَ ابْنَتِي، أَوْ زَوِّجْنِي أُخْتَكَ وَأُزَوِّجُكَ أُخْتِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 3504- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ الأَعْرَجِ: أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ

(2/226)


عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنْكَحَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَكَمِ ابْنَتَهُ، وَأَنْكَحَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنَتَهُ، وَقَدْ كَانَا جَعَلاهُ صَدَاقًا، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ إلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ يَأْمُرُهُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ فِي كِتَابِهِ: هَذَا الشِّغَارُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3505- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا جَلَبَ وَلا جَنَبَ وَلا شِغَارَ فِي الإِسْلامِ، وَمَنْ انْتَهَبَ فَلَيْسَ مِنَّا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَلِلشِّغَارِ صُورَتَانِ: إحْدَاهُمَا الْمَذْكُورَةُ فِي الأَحَادِيثِ، وَهِيَ خُلُوُّ بُضْعِ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ الصَّدَاقِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَشْرِطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَلِيَّيْنِ عَلَى الآخَرِ أَنْ يُزَوِّجَهُ وَلِيَّتَهُ، فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ اعْتَبَرَ الأُولَى فَقَطْ فَمَنَعَهَا دُونَ الثَّانِيَةِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ الشِّغَارِ لا يَجُوزُ وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي صِحَّتِهِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى الْبُطْلانِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مَالِكٍ: يُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ لا بَعْدَهُ وَذَهَبَتْ الْحَنَفِيَّةُ إلَى صِحَّتِهِ وَوُجُوبِ الْمَهْرِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَعِلَّةُ بُطْلانِ نِكَاحِ الشَّغَارِ اشْتِرَاط عَدَم الْمَهْرِ فَإِنْ سَمُّوا مَهْرًا صَحَّ. بَابُ الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْهَا 3506- عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 3507- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، أَوْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِهِ، وَلا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلاقَ أُخْتِهَا لِتَكْتَفِئَ مَا فِي صَحْفَتِهَا أَوْ إنَائِهَا، فَإِنَّمَا رِزْقُهَا عَلَى اللَّهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3508- وَفِي لَفْظٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ: نَهَى أَنْ تَشْتَرِطَ الْمَرْأَةُ طَلاقَ أُخْتِهَا. 3509- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَحِلُّ أَنْ تُنْكَحَ امْرَأَةٌ بِطَلاقِ أُخْرَى» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

(2/227)


قَوْلُهُ: «أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: أَيْ أَحَقُّ الشُّرُوطِ بِالْوَفَاءِ شُرُوطُ النِّكَاحِ لأَنَّ أَمْرَهُ أَحْوَطُ وَبَابَهُ أَضْيَقُ. قَالَ الْخَطَّابِيِّ: الشُّرُوطُ فِي النِّكَاحِ مُخْتَلِفَةٌ، فَمِنْهَا: مَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ اتِّفَاقًا وَهُوَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ إمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ، وَعَلَيْهِ حَمَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ وَمِنْهَا: مَا لا يُوَفَّى بِهِ اتِّفَاقًا كَسُؤَالِ الْمَرْأَةِ طَلاقَ أُخْتِهَا وَمِنْهَا: مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ كَاشْتِرَاطِ أَنْ لا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَوْ لا يَتَسَرَّى أَوْ لا يَنْقُلَهَا مِنْ مَنْزِلِهَا إلَى مَنْزِلِهِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي اشْتِرَاطِ الْمَرْأَةِ أَنْ لا يُخْرِجُهَا زَوْجُهَا مِنْ بَلَدِهَا فَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الصَّحَابَةِ، قَالَ: وَمِنْهُمْ عُمَرُ، أَنَّهُ يَلْزَمُ، قَالَ: وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: إِذَا شَرَطَ الزَّوْجُ لِلزَّوْجَةِ فِي الْعَقْدِ أَو اتَّفَقَا قَبْلَهُ أَن لا يُخْرِجهَا مِنْ دَارِهَا أَوْ بَلَدِهَا أَوْ لا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَوْ لا يَتَسَرَّى أَوْ إِنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا فَلَهَا تَطْلِيقَهَا صَحَّ الشَّرْط، وَهُوَ مَذْهَبُ الإِمَامِ أَحْمَد. وَلَوْ خَدَعَهَا فَسَافَرَ بِهَا ثُمَّ كَرِهَتْهُ لَمْ يُكْرِهْهَا، وَمَنْ شَرَطَ لَهَا أَنْ يُسْكِنْهَا مَنْزِلَ أَبِيهِ فَسَكَنَتْ ثُمَّ طَلَبَتْ سُكْنَى مُنْفَرِدَة وَهُوَ عَاجِزٌ لَمْ يَلْزِمْهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ بَلْ لَوْ كَانَ قَادِرًا فَلَيْسَ لَهَا عِنْدَ مَالِكٍ، وَهُوَ أَحّدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدٍ وَغَيْرِهِ غَيْرَ مَا شَرَطَا لَهَا، وَإِنْ شَرَطَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا فِيهِ خِيَارًا صَحَّ الْعَقْدِ وَالشَّرْطِ، وَإِنْ شَرَطَهَا بِكْرًا أَوْ جَمِيلَة أَوْ ثَيِّبًا فَبَانَتْ بِخِلافِهِ ملْك الْفَسْخِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الإِمَامِ أَحْمَدٍ وَقَوْلُ مَالِكٍ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهَا أَنْ تُحَافِظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَتَرَكَتْهُ فِيمَا بَعْدُ مَلَكَ الْفَسْخُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ نِكَاحِ الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ 3510- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الزَّانِي الْمَجْلُودُ لا يَنْكِحُ إلا مِثْلَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3511- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا: أُمُّ مَهْزُولٍ كَانَتْ تُسَافِحُ، وَتَشْتَرِطُ لَهُ أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ، قَالَ: فَاسْتَأْذَنَ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ ذَكَرَ لَهُ أَمْرَهَا، فَقَرَأَ عَلَيْهِ نَبِيُّ

(2/228)


اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3512- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ كَانَ يَحْمِلُ الأُسَارَى بِمَكَّةَ، وَكَانَ بِمَكَّةَ بَغِيٌّ، يُقَالُ لَهَا: عَنَاقٌ، وَكَانَتْ صَدِيقَتَهُ، قَالَ: فَجِئْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْكِحُ عَنَاقًا؟ قَالَ: فَسَكَتَ عَنِّي فَنَزَلَتْ: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} فَدَعَانِي فَقَرَأَهَا عَلَيَّ وَقَالَ: «لا تَنْكِحْهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «الزَّانِي الْمَجْلُودُ» إلَى آخره هَذَا الْوَصْفُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ بِاعْتِبَارِ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ الزِّنَا وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ الزِّنَا وَكَذَلِكَ لا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِمَنْ ظَهَرَ مِنْهَا الزِّنَا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الآيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ لأَنَّ فِي آخِرِهَا: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . انتهى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَتَحْرُمُ َالزَّانِيَةُ حَتَّى تَتُوبَ وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الإِمَامُ أَحْمَدٍ وَغَيْرِهِ، وَيُمْنَعُ الزَّانِي مِنْ تَزْوِيجِ الْعَفِيفَةُ حَتَّى يَتُوبَ. وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّهُ يعضل الزَّانِيَةُ لِتَخْتَلِعَ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَزْنِي لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُمْسِكهَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ بَلْ يُفَارِقُهَا وَإِلا كَانَ دَيُّوثًا. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ النَّهْيِ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا 3513- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 3514- وَفِي رِوَايَةٍ: نَهَى أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا ابْنَ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيَّ. 3515- وَلأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مِثْلَ اللَّفْظِ الأَوَّلِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَةِ رَجُلٍ وَابْنَتِهِ مِنْ غَيْرِهَا بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ وَخُلْعٍ.

(2/229)


وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ - كَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ يُقَالُ لَهُ جَبَلَةُ - أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَةِ رَجُلٍ وَابْنَتِهِ مِنْ غَيْرِهَا. رَوَاهُمَا الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَجَمَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بَيْنَ ابْنَةِ عَلِيٍّ وَامْرَأَةِ عَلِيٍّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وأحاديث الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ أوْ خَالَتِهَا، وَقَدْ حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ: لا أَعْلَمُ بَيْنَهُمْ اخْتِلافًا فِي ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إِنَّمَا قَالَ بِالْجَوَازِ فِرْقَةٌ مِنْ الْخَوَارِجِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلا يُعْتَدُّ بِخِلافِهِمْ لأَنَّهُمْ مَرَقُوا مِنْ الدِّينِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: (وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَةِ رَجُلٍ وَابْنَتِهِ مِنْ غَيْرِهَا) . إلى آخره قَالَ الشَّارِحُ: وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَرِهَهُ مَرَّةً، ثُمَّ قَالَ: لا بَأْسَ بِهِ. بَابُ الْعَدَدِ الْمُبَاحِ لِلْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَمَا خُصَّ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي ذَلِكَ 3516- عَنْ قَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: أَسْلَمْتُ وَعِنْدِي ثَمَانِ نِسْوَةٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: يَنْكِحُ الْعَبْدُ امْرَأَتَيْنِ، وَيُطَلِّقُ تَطْلِيقَتَيْنِ، وَتَعْتَدُّ الأَمَةُ حَيْضَتَيْنِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. 3517- وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ. 3518- وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُنَّ إحْدَى عَشْرَةَ، قُلْتُ لأَنَسٍ: وَكَانَ يُطِيقُهُ؟ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُعْطِيَ قُوَّةَ ثَلاثِينَ. رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا» اسْتَدَلَّ بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَى تَحْرِيمِ الزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعٍ وَذَهَبَتْ الظَّاهِرِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ

(2/230)


أَنْ يَتَزَوَّجَ تِسْعًا، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ قَوْله تَعَالَى: {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} وَمَجْمُوعُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ الْعَدْلِ تِسْعٌ. انتهى. قال البغوي: أي حل لكم من النساء مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ معدولات عن اثنين وثلاث وأربع، ولذلك لا يصرفن والواو بمعنى أو للتخيير كقوله تعالى: {أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} وقوله تعالى: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} وهذا أجماع أنَّ أحدًا من الأَمَة لا يجوز له أن يزيد على أربع نسوة، وكانت الزيادة من خصائص ... النبي - صلى الله عليه وسلم - لا مشاركة معه لأحد من الأَمَةِ فيها. انتهى. قَوْلُهُ: (يَنْكِحُ الْعَبْدُ امْرَأَتَيْنِ) قَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا مَنْ قَالَ: إنَّهُ لا يَجُوزُ لِعَبْدٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَالنَّاصِرِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَمُجَاهِدٍ وَرَبِيعَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَالِمٍ وَالْقَاسِمِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ أَرْبَعًا كَالْحُرِّ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ الْعَبْدِ يَتَزَوَّجُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ 3519- وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ فَهُوَ عَاهِرٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إنَّ نِكَاحَ الْعَبْدِ لا يَصِحُّ إلا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وَقَالَ دَاوُد: إنَّ نِكَاحَ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلاهُ صَحِيحٌ لأَنَّ النِّكَاحَ عِنْدَهُ فَرْضُ عَيْنٍ وَفرض الأَعْيَانِ لا تَحْتَاجُ إلَى إذْنٍ وَهُوَ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ الْخِيَارِ لِلأَمَةِ إذَا عَتَقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ 3520- عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ بَرِيرَةَ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ، فَلَمَّا أَعْتَقْتُهَا قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اخْتَارِي فَإِنْ شِئْت أَنْ تَمْكُثِي تَحْتَ هَذَا الْعَبْدِ، وَإِنْ شِئْت أَنْ تُفَارِقِيهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ. 3521- وَعَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ بَرِيرَةَ خَيَّرَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ

(2/231)


زَوْجُهَا عَبْدًا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. 3522- وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ بَرِيرَةَ أُعْتِقَتْ وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَوْ كَانَ حُرًّا لَمْ يُخَيِّرْهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3523- وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ بَرِيرَةَ أُعْتِقَتْ - وَهِيَ عِنْدَ مُغِيثٍ عَبْدٍ لآلِ أَبِي أَحْمَدَ - فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ: «إنْ قَرَبَكِ فَلا خِيَارَ لَكِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ تُطَأْ. 3524- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا أَسْوَدَ يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ - عَبْدًا لِبَنِي فُلانٍ - كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِ يَطُوفُ وَرَاءَهَا فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 3525- وَفِي لَفْظٍ: أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ لِبَنِي مُغِيرَةَ يَوْمَ أُعْتِقَتْ بَرِيرَةُ، وَاَللَّهِ لَكَأَنِّي بِهِ فِي الْمَدِينَةِ وَنَوَاحِيهَا، وَإِنَّ دُمُوعَهُ لَتَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، يَتَرَضَّاهَا لِتَخْتَارَهُ فَلَمْ تَفْعَلْ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَهُوَ صَرِيحٌ بِبَقَاءِ عُبُودِيَّتِهِ يَوْمَ الْعِتْقِ. 3526- وَعَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ حُرًّا، فَلَمَّا أُعْتِقَتْ خَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَوْلُ الأَسْوَدِ مُنْقَطِعٌ، ثُمَّ عَائِشَةُ عَمَّةُ الْقَاسِمِ وَخَالَةُ عُرْوَةَ فَرِوَايَتُهُمَا عَنْهَا أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ أَجْنَبِيٍّ يَسْمَعُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا هَلْ يَثْبُتُ لِلزَّوْجَةِ الْخِيَارُ أَمْ لا؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ لا يَثْبُتُ وَجَعَلُوا الْعِلَّةَ فِي الْفَسْخِ عَدَمَ الْكَفَاءَةِ. بَابُ مَنْ أَعْتَقَ أَمَةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا 3527- عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ

(2/232)


عِنْدَهُ وَلِيدَةٌ فَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ؛ وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِي فَلَهُ أَجْرَانِ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ مَمْلُوكٍ أَدَّى حَقَّ مَوَالِيهِ وَحَقَّ رَبِّهِ فَلَهُ أَجْرَانِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا أَبَا دَاوُد. 3528- فَإِنَّمَا لَهُ مِنْهُ: «مَنْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا كَانَ لَهُ أَجْرَانِ» . 3529- وَلأَحْمَدَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بِمَهْرٍ جَدِيدٍ كَانَ لَهُ أَجْرَانِ» . 3530- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَتَزَوَّجَهَا، فَقَالَ لَهُ ثَابِتٌ: مَا أَصْدَقَهَا؟ قَالَ: نَفْسَهَا؛ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ وَأَبَا دَاوُد. 3531- وَفِي لَفْظٍ: أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَتَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 3532- وَفِي لَفْظٍ: أَعْتَقَ صَفِيَّةَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. 3533- وَفِي لَفْظٍ: أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3534- وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اصْطَفَى صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ فَاتَّخَذَهَا لِنَفْسِهِ وَخَيَّرَهَا أَنْ يَعْتِقَهَا وَتَكُونَ زَوْجَتَهُ، أَوْ يُلْحِقَهَا بِأَهْلِهَا، فَاخْتَارَتْ أَنْ يَعْتِقَهَا وَتَكُونَ زَوْجَتَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ جَرَى عَلَيْهِ مِلْكُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ السَّبْيِّ يَجُوزُ رَدُّهُ إلَى الْكُفَّارِ إذَا كَانَ عَلَى دِينِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَعْلِيمِ الإِمَاءِ وَإِحْسَانِ تَأْدِيبِهِنَّ ثُمَّ إعْتَاقِهِنَّ وَالتَّزَوُّجِ بِهِنَّ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ الْعِتْقُ صَدَاقَ الْمُعْتَقَةِ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ الْمَذْكُورُ لِقَوْلِهِ فِيهِ: (مَا أَصْدَقَهَا؟ قَالَ: نَفْسَهَا) وَكَذَلِكَ سَائِرُ الأَلْفَاظِ

(2/233)


الْمَذْكُورَةِ فِي بَقِيَّةِ الرِّوَايَاتِ وَقَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِ ذَلِكَ مِنْ الْقُدَمَاءِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ وَطَاوُسٌ وَالزُّهْرِيُّ، وَمِنْ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَحَكَاهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ الْعِتْرَةِ وَالأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ فَقَالُوا: إذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا صَحَّ الْعَقْدُ وَالْعِتْقُ وَالْمَهْرُ وَذَهَبَ مَنْ عَدَا هَؤُلاءِ إلَى أَنَّهُ لا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْعِتْقُ مَهْرًا وَأَجَابُوا عَنْ الأْحَادِيثِ بِأَجْوِبَةٍ، إلى أن قال: وَبِالْجُمْلَةِ فَالدَّلِيلُ قَدْ وَرَدَ بِهَذَا، وَمُجَرَّدُ الاسْتِبْعَادِ لا يَصْلُحُ لإِبْطَالِ مَا صَحَّ مِنْ الأَدِلَّةِ، وَالأَقْيِسَةُ مُطْرَحَةٌ فِي مُقَابَلَةِ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ فَلَيْسَ بِيَدِ الْمَانِعِ بُرْهَانٌ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي رَدِّ الْمَنْكُوحَةِ بِالْعَيْبِ 3535- عَنْ جَمِيلِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ الأَنْصَارِ - ذَكَرَ ... أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ - يُقَالُ لَهُ: كَعْبُ بْنُ زَيْدٍ أَوْ زَيْدُ بْنُ كَعْبٍ: أَنَّ ... رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي غِفَارٍ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا فَوَضَعَ ثَوْبَهُ وَقَعَدَ عَلَى الْفِرَاشِ أَبْصَرَ بِكَشْحِهَا بَيَاضًا، فَانْحَازَ عَنْ الْفِرَاشِ ثُمَّ قَالَ: «خُذِي عَلَيْكِ ثِيَابَكِ» . وَلَمْ يَأْخُذْ مِمَّا آتَاهَا شَيْئًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَرَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ، وَقَالَ: عَنْ زَيْدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ وَلَمْ يَشُكَّ. وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ غُرَّ بِهَا رَجُلٌ - بِهَا جُنُونٌ أَوْ جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ - فَلَهَا مَهْرُهَا بِمَا أَصَابَ مِنْهَا وَصَدَاقُ الرَّجُلِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَفِي لَفْظٍ: قَضَى عُمَرُ فِي الْبَرْصَاءِ وَالْجَذْمَاءِ وَالْمَجْنُونَةِ إذَا دَخَلَ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَالصَّدَاقُ لَهَا بِمَسِيسِهِ إيَّاهَا وَهُوَ لَهُ عَلَى وَلِيِّهَا. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِحَدِيثَيْ الْبَابِ عَلَى أَنَّ الْبَرَصَ وَالْجُنُونَ وَالْجُذَامَ عُيُوبٌ يُفْسَخُ بِهَا النِّكَاحُ، وَلَكِنَّ حَدِيثَ كَعْبٍ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الْفَسْخِ لأَنَّ قَوْلَهُ: «خُذِي عَلَيْكِ ثِيَابَكِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «الْحَقِي بِأَهْلِكِ» يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةَ طَلاقٍ وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ إلَى أَنَّهُ يُفْسَخُ النِّكَاحُ بِالْعُيُوبِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي تَفَاصِيلِ ذَلِكَ وَفِي

(2/234)


تَعْيِينِ الْعُيُوبِ الَّتِي يُفْسَخُ بِهَا النِّكَاحُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا لا تُرَدُّ النِّسَاءُ إلا بِأَرْبَعَةِ عُيُوبٍ: الْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ، وَالدَّاءُ فِي الْفَرْجِ. وَخَالَفَ النَّاصِرُ فِي الْبَرَصِ فَلَمْ يَجْعَلْهُ عَيْبًا يُرَدُّ بِهِ النِّكَاحُ، وَالرَّجُلُ يُشَارِكُ الْمَرْأَةَ فِي الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ، وَتَفْسَخُهُ الْمَرْأَةُ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يُفْسَخُ النِّكَاحُ بِكُلِّ دَاءٍ عُضَالٍ. قَوْلُهُ: (وَصَدَاقُ الرَّجُلِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ) قَدْ ذَهَبَ إلَى هَذَا مَالِكٌ وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَالْهَادَوِيَّةُ فَقَالُوا: إنَّهُ يَرْجِعُ الزَّوْجُ بِالْمَهْرِ عَلَى مَنْ غَرَّرَ عَلَيْهِ بِأَنْ أَوْهَمَهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لا عَيْبَ فِيهَا فَانْكَشَفَ أَنَّهَا مَعِيبَةٌ بِأَحَدِ تِلْكَ الْعُيُوبِ وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَمَ بِذَلِكَ الْعَيْبِ لا إذَا جَهِلَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَالاسْتِحَاضَةُ عَيْبٌ يَثْبُتُ بِهِ فَسْخُ النِّكَاحُ فِي أَظْهَرِ الْوَجْهَيْنِ وَإِذَا لَمْ يُقِر بِالْعِنَّةِ وَلَمْ يُنْكِرْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَمَا لَوْ أَنْكَرَ الْعِنَّةِ وَنَكَّلَ عَنِ الْيَمِينِ فَإِنْ قُلْنَا: يُحْبَسُ النَّاكِلُ عَنْ الْجَوَابِ فَالتَّأْجِيلِ أَيْسَرِ مِنْ الْحَبْسِ، وَالسُّنَّة الْمُعْتَبَرَة فِي التَّأْجِيلِ هِي الْهِلالِيَّة، وَيَتَخَرج إِذَا عَلٍمَتْ بِعِنَّتِهِ أَو اخْتَارَتْ الْمُقَامُ مَعَهُ عَلَى عُسْرَتِهِ هَلْ لَهَا الْفَسْخِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَلو خَرَجَ هَذَا فِي جَمِيعِ الْعُيُوبِ لِتَوجه، وَتَرَدُّ الْمَرْأَةِ بِكُلِّ عَيْبٍ يُنَفِّرُ عَنْ كَمَالَ الاسْتِمْتَاعِ وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ الْفَسْخَ يَثْبُتُ بِتَرَاضِيهِمَا تَارَةَّ وَبِحُكْمِ الْحَاكِمِ أُخْرَى أَوِ بِمُجَرَّدِ فَسْخ الْمُسْتَحَق ثُمَّ الآخر إِنْ أَمْضَاهُ وَإِلا أَمْضَاهُ الْحَاكِمُ لتَوَجَه، وَهُوَ الأَقْوَى وَمتَى أَذِنَ الْحَاكِمُ أَوْ حَكَمَ لأَحَدٍ بِاسْتِحْقَاقٍ عَقَدَ أَوْ فَسَخَ مَأْذُونٌ لَهُ لَمْ يَحْتَجْ بَعْدُ ذَلِكَ إِلَى حُكْمٍ بِصِحَّتِهِ بِلا نِزَاعٍ وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ الْمَغْرُورُ بِالصِّدَاقِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ مِنَ الْمَرْأَةِ أَوْ الْوَلِي فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَاللهُ أَعْلَمُ.

(2/235)


أَبْوَاب أَنْكِحَة الْكُفار ذِكْرِ أَنْكِحَةِ الْكُفَّارِ وَإِقْرَارِهِمْ عَلَيْهَا 3536- عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ: فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ، يَخْطُبُ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ أَوْ ابْنَتَهُ وَيصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا وَنِكَاحٌ آخَرُ، كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ إذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا: أَرْسِلِي إلَى فُلانٍ فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلا يَمَسُّهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا إذَا أَحَبَّ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةِ الْوَلَدِ، فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ يُسَمَّى نِكَاحُ الِاسْتِبْضَاعِ وَنِكَاحٌ آخَرُ، يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ دُونَ الْعَشَرَةِ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ كُلُّهُمْ فَيُصِيبُونَهَا، فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ وَمَرَّ لَيَالٍ - بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا - أَرْسَلَتْ إلَيْهِمْ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا، فَتَقُولُ لَهُمْ: قَدْ عَرَفْتُمْ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ وَقَدْ وَلَدْتُ فَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلانُ، فَتُسَمِّي مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ، فَيُلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْهُ الرَّجُلُ وَنِكَاحٌ رَابِعٌ يَجْتَمِعُ النَّاسُ الْكَثِيرُ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ لا تَمْتَنِعُ مِمَّنْ جَاءَهَا، وَهُنَّ الْبَغَايَا يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ الرَّايَاتِ وَتَكُونُ عَلَمًا، فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ، فَإِذَا حَمَلَتْ إحْدَاهُنَّ وَوَضَعَتْ جَمَعُوا لَهَا وَدَعَوْا لَهَا الْقَافَةَ، ثُمَّ أَلْحَقُوا وَلَدَهَا بِاَلَّذِي يَرَوْنَ، فَالْتَاطَ بِهِ وَدُعِيَ ابْنَهُ لا يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - بِالْحَقِّ هَدَمَ نِكَاحَ الْجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ إلا نِكَاحَ النَّاسِ الْيَوْمَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد.

(2/236)


قال الشارح رحمه الله تعالى: وقد احتج بهذا الحديث على اشتراط الولي. بَابُ مَنْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ 3537- عَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ فَيْرُوزَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَسْلَمْتُ وَعِنْدِي امْرَأَتَانِ أُخْتَانِ، فَأَمَرَنِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أُطَلِّقَ إحْدَاهُمَا. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ. 3538- وَفِي لَفْظِ التِّرْمِذِيِّ: «اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا شِئْت» . 3539- وَعَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَسْلَمَ غَيْلانُ الثَّقَفِيُّ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ. 3540- وَزَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ طَلَّقَ نِسَاءَهُ وَقَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ بَنِيهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ، فَقَالَ: إنِّي لأَظُنُّ الشَّيْطَانَ - فِيمَا يَسْتَرِقُ مِنْ السَّمْعِ - سَمِعَ بِمَوْتِكَ فَقَذَفَهُ فِي نَفْسِكَ، وَلَعَلَّكَ لا تَمْكُثُ إلا قَلِيلاً، وَاَيْمُ اللَّهِ لَتُرَاجِعَنَّ نِسَاءَكَ وَلَتُرَاجِعَنَّ مَالَكَ أَوْ لَأُوَرِّثَهُنَّ مِنْكَ وَلَآمُرَنَّ بِقَبْرِكَ أَنْ يُرْجَمَ كَمَا رُجِمَ قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ. قَوْلُهُ: لَتُرَاجِعَنَّ نِسَاءَكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ رَجْعِيًّا، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ تَرِثُ وَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فِي الْمَرَضِ وَإِلا فَنَفْسُ الطَّلاقِ الرَّجْعِيِّ لا يَقْطَعُ لِيُتَّخَذَ حِيلَةً فِي الْمَرَضِ. قال الشارح رحمه الله تعالى: وَحَدِيثُ الضَّحَّاك استدل به على تحريم الجمع بين الأختين ولا أعرف في ذلك خلافًا وهو نص القرآن قال الله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} فإذا أسلم كافر وعنده أختان أجبر على تطليق إحداهما وفي ترك استفصاله عن المتقدمة منهما من المتأخرة دليل على أنه يحكم لعقود الكفار بالصحة وإن لم توافق الإسلام، فإذا أسلموا أجرينا عليهم في الأنكحة أحكام المسلمين وقد ذهب إلى هذا مالك والشافعي وأحمد وداود.

(2/237)


بَابُ الزَّوْجَيْنِ الْكَافِرَيْنِ يُسْلِمُ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الآخَرِ 5413- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَدَّ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بِالنِّكَاحِ الأَوَّلِ لَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3542- وَفِي لَفْظٍ: رَدَّ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ زَوْجِهَا بِنِكَاحِهَا الأَوَّلِ بَعْدَ سَنَتَيْنِ وَلَمْ يُحْدِثْ صَدَاقًا. رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. 3543- وَفِي لَفْظٍ: رَدَّ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ، وَكَانَ إسْلامُهَا قَبْلَ إسْلامِهِ بِسِتِّ سِنِينَ عَلَى النِّكَاحِ الأَوَّلِ وَلَمْ يُحْدِثْ شَهَادَةً وَلا صَدَاقًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3544- وَكَذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ فِيهِ: لَمْ يُحْدِثْ نِكَاحًا وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْسٌ. 3545- وَقَدْ رُوِيَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَدَّ ابْنَتَهُ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بِمَهْرٍ جَدِيدٍ وَنِكَاحٍ جَدِيدٍ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: فِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي رُوِيَ أَنَّهُ أَقَرَّهُمَا عَلَى النِّكَاحِ الأَوَّلِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا حَدِيثٌ لا يَثْبُتُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَدَّهَا بِالنِّكَاحِ الأَوَّلِ. 3546- وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ ابْنَةَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةَ كَانَتْ تَحْتَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فَأَسْلَمَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ وَهَرَبَ زَوْجُهَا صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ مِنْ الإِسْلامِ، فَبَعَثَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَانًا وَشَهِدَ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ وَهُوَ كَافِرٌ وَامْرَأَتُهُ مُسْلِمَةٌ، فَلَمْ يُفَرِّقْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَهُمَا حَتَّى أَسْلَمَ صَفْوَانُ، وَاسْتَقَرَّتْ عِنْدَهُ بِذَلِكَ النِّكَاحِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ بَيْنَ إسْلامِ صَفْوَانَ وَبَيْنَ إسْلامِ زَوْجَتِهِ نَحْوٌ مِنْ شَهْرٍ. مُخْتَصَرٌ مِنْ الْمُوَطَّأِ لِمَالِكٍ. 3547- وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ أُمَّ حَكِيمٍ ابْنَةَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَسْلَمَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ بِمَكَّةَ، وَهَرَبَ زَوْجُهَا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ مِنْ الإِسْلامِ حَتَّى قَدِمَ

(2/238)


الْيَمَنَ، فَارْتَحَلَتْ أُمُّ حَكِيمٍ حَتَّى قَدِمَتْ عَلَى زَوْجِهَا بِالْيَمَنِ وَدَعَتْهُ إلَى الإِسْلامِ فَأَسْلَمَ، وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبَايَعَهُ فَثَبَتَا عَلَى نِكَاحِهِمَا ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ امْرَأَةً هَاجَرَتْ إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ مُقِيمٌ بِدَارِ الْكُفْرِ إلا فَرَّقَتْ هِجْرَتُهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، إلا أَنْ يَقْدَمَ زَوْجُهَا مُهَاجِرًا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ امْرَأَةً فُرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا إذَا قَدِمَ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا. رَوَاهُ عَنْهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَحَدِيثُ عَمْرُو بِنْ شُعَيْب تُعَضِّدَهُ الأُصُول، وَقَدْ صَرَّحَ فِيه بِوُقُوعِ عَقْدٍ جَدِيدٍ وَالأَخْذُ بِالصَّرِيحِ أَوْلَى مِنَ الأَخْذِ بِالْمُحْتَمِلِ، وَيُؤَيِّدَهُ مُخَالَفَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِمَا رَوَاهُ كَمَا حَكَى ذَلِكَ عَنْهُ الْبُخَارِي، قَالَ الْحَافِظُ: وَأَحْسَنُ الْمَسَالِكِ فِي تَقْرِيرِ الْحَدِيثَيْنِ تَرْجِيحِ حَدِيث ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا رَجَّحَهُ الأَئِمَّة وَحَمَلَهُ عَلَى تَطَاول الْعِدَّةِ فِيمَا بَيْنَ نُزُولِ آيَة التَّحْرِيمِ وَإِسْلامِ أَبِي الْعَاصِ، وَلا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهدى مَا مُحَصِّلَهُ: إِنَّ اعْتِبَارَ الْعِدَّة لَمْ يُعْرَفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الأَحَادِيثِ وَلا كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُ الْمَرْأَةُ هَلِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا أَمْ لا، وَلَوْ كَانَ الإِسْلامُ بِمُجَرَّدِهِ فُرْقَة لَكَانَتْ طَلْقَة بَائِنَة وَلا رَجْعَةَ فِيهَا فَلا يَكُونُ الزَّوْجُ أَحَقُّ بِهَا إِذَا أَسْلَمَ وَقَدْ دَلَّ حُكْمِهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ النِّكَاحَ مَوْقُوفٌ فَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ قَبْل انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ فَهِي زَوْجَتُهُ وَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَهَا أَنْ تَنْكِحَ مَنْ شَاءَتْ، وَإِنْ أَحَبَّتْ انْتَظَرَتْهُ وَإِذَا أَسْلَمَ كَانَتْ زَوْجَتُهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى تَجْدِيدِ نِكَاحٍ. قَال: وَلا نَعْلَمُ أَحَدًا جَدَّدَ بَعْدَ الإِسْلامِ نِكَاحَهُ الْبَتَّةَ بَلْ كَانَ الْوَاقِعُ أَحَدُ الأَمْرَيْنِ إِمَّا افْتِرَاقُهُمَا وَنِكَاحُهَا غَيْرِهِ وَإِمَّا بَقَاؤُهُمَا عَلَى النِّكَاحِ الأَوَّلِ إِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ. وَأَمَّا تَنْجِيزِ الْفُرْقَةِ أَوْ مُرَاعَاةُ الْعِدَّة فَلَمْ يُعْلَمْ أََنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِوَاحِدَ مِنْهُمَا مَعَ كَثْرَةِ مَنْ أَسْلَمَ فِي عَهْدِهِ، وَهَذَا كَلامٌ فِي غَايَةَ الْحُسْنِ وَالْمَتَانَة. قَالَ: وَهَذَا اخْتِيَارُ الْخَلال وَأَبِي بَكْرٍ صَاحِبَهُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنِ حَزْمٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنُ وَطَاوسُ وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة وَالْحَكَمُ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَهُوَ قَوْلُ عُمَر بن الْخَطَّابِ وَجَابِرٍ بن عَبْدِ اللهِ وَابْن عَبَّاسٍ ثُمَّ عَدَّ آخَرِينَ. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَإِذَا أَسْلَمْتِ الزَّوْجَةُ وَالزَّوْجُ كَافِرٌ ثٌمَّ أَسْلَمَ قَبْل الدُّخُول أَوْ بَعْد الدُّخُول فَالنِّكَاحِ بَاقٍ مَا لَمْ تَنْكِحْ غَيْرَهُ وَالأَمْرُ إِلَيْهَا وَلا حُكْم

(2/239)


لَهُ عَلَيْهَا وَلا حَقّ عَلَيْهِ لأَنَّ الشَّارِعَ لِمْ يُفَصِّلْ وَهُوَ مَصْلَحَة مَحْضَة. وَكَذَا إِنْ أَسْلَمَ قَبْلَهَا وَلَيْسَ لَهُ حَسْبُهَا فَمَتَى أَسْلَمَتْ وَلَوْ قَبْل الدُّخُول أَوْ بَعْدَهُ فَهِي امْرَأَتُهُ إِنْ اخْتَارَ. وَكَذَا إِنِ ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَحَدُهُمَا. انْتَهَى. بَابُ الْمَرْأَةِ تُسْبَى وَزَوْجُهَا بِدَارِ الشِّرْكِ 3548- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ حُنَيْنٌ - بَعَثَ جَيْشًا إلَى أَوْطَاسٍ فَلَقِيَ عَدُوًّا فَقَاتَلُوهُمْ فَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ وَأَصَابُوا لَهُمْ سَبَايَا، فَكَأَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تَحَرَّجُوا مِنْ غَشَيَانِهِنَّ مِنْ أَجْلِ أَزْوَاجِهِنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أَيْ فَهُنَّ لَكُمْ حَلالٌ إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 3549- وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ الزِّيَادَةُ فِي آخِرِهِ بَعْدَ الآيَةِ وَالتِّرْمِذِيُّ مُخْتَصَرًا. 3550- وَلَفْظُهُ: أَصَبْنَا سَبَايَا يَوْمَ أَوْطَاسٍ لَهُنَّ أَزْوَاجٌ فِي قَوْمِهِنَّ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَنَزَلَتْ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . 3551- وَعَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَرَّمَ وَطْءَ السَّبَايَا حَتَّى يَضَعْنَ مَا فِي بُطُونِهِنَّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَهُوَ عَامٌّ فِي ذَوَاتِ الأَزْوَاجِ وَغَيْرِهِنَّ. قال الشارح رحمه الله تعالى: وَسَيَأْتِي فِي بَابِ اسْتِبْرَاءِ الأَمَةِ إذَا مُلِكَتْ مِنْ كِتَابِ الْعِدَّةِ. مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: «لا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلا غَيْرُ حَامِلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً» وَيَأْتِي الْكَلامُ عَلَى هَذِهِ الأَحَادِيثِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْبَابِ لِلاسْتِدْلالِ بِهِ عَلَى أَنَّ السَّبَايَا حَلالٌ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ ذَوَاتِ الأَزْوَاجِ وَغَيْرِهِنَّ، وَذَلِكَ مِمَّا لا خِلافَ فِيهِ فِيمَا أَعْلَمُ، وَلَكِنْ بَعْدَ الْعِدَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا. انتهى. والله أعلم.

(2/240)


كِتَابُ الصَّدَاقِ بَابُ جَوَازِ التَّزْوِيجِ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَاسْتِحْبَابِ الْقَصْدِ فِيهِ 3552- عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي فَزَارَةَ تَزَوَّجَتْ عَلَى نَعْلَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَرَضِيَتْ مِنْ نَفْسِكِ وَمَالِكِ بِنَعْلَيْنِ» ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَأَجَازَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3553- وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ أَنَّ رَجُلاً أَعْطَى امْرَأَةً صَدَاقًا مِلْءَ يَدَيْهِ طَعَامًا كَانَتْ لَهُ حَلالاً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد بِمَعْنَاهُ. 3554- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ، فَقَالَ: «مَا هَذَا» ؟ قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: «بَارَكَ اللَّهُ لَك، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَبُو دَاوُد: «بَارَكَ اللَّهُ لَك» . 3555- وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤنة» . رواه أحمد. 3556- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان صداقنا إذ كان فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر أواق. رواه النسائي وأحمد. 3557- وزاد وطبق بيديه، وذلك أربعمائة.

(2/241)


3558- وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ كَمْ كَانَ صَدَاقُ ... رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ: كَانَ صَدَاقُهُ لأَزْوَاجِهِ اثْنَى عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا. قَالَتْ: أَتَدْرِى مَا النَّشُّ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَتْ: نِصْفُ أُوقِيَّةٍ. فَتِلْكَ خَمْسُمِائَةِ. رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. 3559- عن أبي العجفاء قال: سمعت عمرو يقول: لا تغلوا صدق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة كان أولاكم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشر أوقية. رواه الخمسة وصححه الترمذي. 3560- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «هَلْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا؟ فَإِنَّ فِي عُيُونِ الأَنْصَارِ شَيْئًا» . قَالَ: قَدْ نَظَرْتُ إِلَيْهَا. قَالَ: «عَلَى كَمْ تَزَوَّجْتَهَا» ؟ قَالَ: عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ؟ كَأَنَّمَا تَنْحِتُونَ الْفِضَّةَ مِنْ عُرْضِ هَذَا الْجَبَلِ مَا عِنْدَنَا مَا نُعْطِيكَ وَلَكِنْ عَسَى أَنْ نَبْعَثَكَ فِي بَعْثٍ تُصِيبُ مِنْهُ» . قَالَ: فَبَعَثَ بَعْثًا إِلَى بَنِي عَبْسٍ بَعَثَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فِيهِمْ. رواه مسلم. 3561- وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَهَا - وَهِيَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ - زَوَّجَهَا النَّجَاشِىُّ وَأَمْهَرَهَا أَرْبَعَةَ آلاَفٍ وَجَهَّزَهَا مِنْ عِنْدِهِ وَبَعَثَ بِهَا مَعَ شُرَحْبِيلَ ابْنِ حَسَنَةَ وَلَمْ يَبْعَثْ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشَيْءٍ وَكَانَ مَهْرُ نِسَائِهِ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ. رواه أحمد والنسائي. قال الشارح رحمه الله تعالى: وَالأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ شَيْئًا حَقِيرًا كَالنَّعْلَيْنِ وَالْمُدِّ مِنْ الطَّعَامِ وَوَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ الَّذِي لا يَتَمَوَّلُ وَلا لَهُ قِيمَةٌ لا يَكُونُ صَدَاقًا وَلا يَحِلُّ بِهِ النِّكَاحُ. قَوْلُهُ: «أيسره مؤنة» . فيه دليل على أفضلية النكاح مع قلة المهر وأن الزواج بمهر قليل مندوب إليه لأن المهر إذا كان قليلاً لم يستصعب النكاح من يريده وقد وقع الإجماع بأن المهر لا حد لأكثره.

(2/242)


قَوْلُهُ: (زَوَّجَهَا النَّجَاشِيُّ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ مِنْ الزَّوْجِ لِمَنْ يَقْبَلُ عَنْهُ النِّكَاحَ، وَكَانَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ الْمَذْكُورَةُ مُهَاجِرَةً بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مَعَ زَوْجِهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، فَمَاتَ بِتِلْكَ الأَرْضِ فَزَوَّجَهَا النَّجَاشِيُّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -. بَابُ جَعْلِ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ صَدَاقًا 3562- عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا ... رَسُولَ اللَّهِ إنِّي قَدْ وَهَبْت نَفْسِي لَك، فَقَامَتْ قِيَامًا طَوِيلًا، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زَوِّجْنِيهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَك بِهَا حَاجَةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هَلْ عِنْدَك مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا إيَّاها» ؟ فَقَالَ: مَا عِنْدِي إلا إزَارِي هَذَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنْ أَعْطَيْتَهَا إزَارَكَ جَلَسْتَ لا إزَارَ لَك فَالْتَمِسْ شَيْئًا» . فَقَالَ: مَا أَجِدُ شَيْئًا، فَقَالَ: «الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» . فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «هَلْ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ» ؟ قَالَ: نَعَمْ سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا - لِسُوَرٍ يُسَمِّيهَا - فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «قَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3563- وَفِي رِوَايَةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا: «قَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ» . 3564- وَفِي رِوَايَةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا: فَصَعَّدَ فِيهَا النَّظْرَ وَصَوَّبَهُ. 3565- وَعَنْ أَبِي النُّعْمَانِ الأَزْدِيِّ قَالَ: زَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - امْرَأَةً عَلَى سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ قَالَ: «لا يَكُونُ لأَحَدٍ بَعْدَك مَهْرًا» . رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ وَهُوَ مُرْسَلٌ. قال الشارح رحمه الله تعالى: حَدِيثُ أَبِي النُّعْمَانِ مَعَ إرْسَالِهِ قَالَ فِي الْفَتْحِ: فِيهِ مَنْ لا يُعْرَفُ. قال الشارح: والحديث يدل على جواز جعل المنفعة صداقًا ولو كنت تعليم قرآن. وقد ذهب إلى جواز جعل المنفعة صداقًا الشافعي وإسحاق والحسن بن صالح وبه قالت العترة وقد نقل القاضي عياض جواز الاستئجار لتعليم القرآن عن العلماء كافة إلا الحنفية وفي الحديث فوائد منها ثبوت ولاية الإمام على المرأة التي لا قريب لها. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/243)


قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَلَوْ عَلِمَ السُّورَةَ أَوْ الْقَصِيدَة غَيْرَ الزَّوْجِ يَنْوِي بِالتَّعْلِيمِ أَنَّهُ عَنِ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْلِمَ الزَّوْجَة فَهَلْ يَقَعُ عَنِ الزَّوْجِ إِلى آخِرِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ أَيْضًا: وَلَوْ قِيلَ: إِنًَهُ يَكْرُهُ جَعْلَََََ الصِّدَاقُ دِينًا سَوَاء كَانَ مُؤَخّر الْوَفَاءِ وَهُوَ حاَلَ أَوْ كَانَ مُؤَجَّلاً لَكَان مُتَوَجِّهًا لِحَدِيثِ الْوَاهِبِةِ. بَابُ مَنْ تَزَوَّجَ وَلَمْ يُسَمِّ صَدَاقًا 3566- عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: أُتِيَ عَبْدُ اللَّهِ فِي امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ، ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا، قَالَ: فَاخْتَلَفُوا إلَيْهِ فَقَالَ: أَرَى لَهَا مِثْلَ مَهْرِ نِسَائِهَا وَلَهَا الْمِيرَاثُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، فَشَهِدَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الأَشْجَعِيُّ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى فِي بِرْوَعَ ابْنَةِ وَاشِقٍ بِمِثْلِ مَا قَضَى. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. قال الشارح رحمه الله تعالى: وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَحِقُّ بِمَوْتِ زَوْجِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ فَرْضِ الصَّدَاقِ جَمِيعَ الْمَهْرِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ دُخُولٌ وَلا خَلْوَةٌ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ سِيرِينَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ. وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ حرملة بن يحيى أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّافِعِي يَقُولُ: إِنْ صَحَّ حَدِيث بروع بنت واشق قُلْتُ بِهِ. قَالَ الْحَاكِمُ: قَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ: لَوْ حَضَرَتُ الشَّافِعِيَّ لَقُمْتُ عَلَى رُؤوسِ النَّاسِ وَقُلْتُ: قَدْ صَحَّ الْحَدِيث فَقُلْ بِهِ. قَوْلُهُ: (وَلَهَا الْمِيرَاثُ) هُوَ مُجْمَعٌ عَلَى ذَلِكَ. بَابُ تَقْدِمَةِ شَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالرُّخْصَةِ فِي تَرْكِهِ 3567- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا تَزَوَّجَ عَلِيٌّ فَاطِمَةَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَعْطِهَا شَيْئًا» . قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ. قَالَ: «أَيْنَ دِرْعُكَ الْحُطَمِيَّةُ» ؟ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 3568- وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ عَلِيًّا - رضي الله عنه - لَمَّا تَزَوَّجَ فَاطِمَةَ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَمَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يُعْطِيَهَا شَيْئًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ

(2/244)


لِي شَيْءٌ؟ فَقَالَ لَهُ: «أَعْطِهَا دِرْعَكَ الْحُطَمِيَّةَ» . فَأَعْطَاهَا دِرْعَهُ، ثُمَّ دَخَلَ بِهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِامْتِنَاعِ مِنْ تَسْلِيمِ الْمَرْأَةِ مَا لَمْ تَقْبِضْ مَهْرَهَا. 3569- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أُدْخِلَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهَا شَيْئًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. قال الشارح رحمه الله تعالى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَجُوزُ الامْتِنَاعُ مِنْ تَسْلِيمِ الْمَرْأَةِ حَتَّى يُسَلِّمَ الزَّوْجُ مَهْرَهَا، وَكَذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ الامْتِنَاعُ حَتَّى يُسَمِّيَ الزَّوْجُ مَهْرَهَا. إلى أن قال: وَحَدِيثُ عَائِشَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ أَنْ يُسَلِّمَ الزَّوْجُ إلَى الْمَرْأَةِ مَهْرَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلا أَعْرِفُ فِي ذَلِكَ خِلافًا. بَابُ حُكْمِ هَدَايَا الزَّوْجِ لِلْمَرْأَةِ وَأَوْلِيَائِهَا 3570- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ عَلَى صَدَاقٍ أَوْ حِبَاءٍ أَوْ عِدَةٍ قَبْلَ عِصْمَةِ النِّكَاحِ فَهُوَ لَهَا، وَمَا كَانَ بَعْدَ عِصْمَةِ النِّكَاحِ فَهُوَ لِمَنْ أُعْطِيَهُ، وَأَحَقُّ مَا يُكْرَمُ عَلَيْهِ الرَّجُلُ ابْنَتُهُ وَأُخْتُهُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ مَا يُذْكَرُ قَبْلَ الْعَقْدِ مِنْ صَدَاقٍ أَوْ حِبَاءٍ وَهُوَ الْعَطَاءُ أَوْ عِدَةٍ بِوَعْدٍ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَذْكُورًا لِغَيْرِهَا، وَمَا يُذْكَرُ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ فَهُوَ لِمَنْ جُعِلَ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ وَلِيًّا أَوْ غَيْرَ وَلِيٍّ أَوْ الْمَرْأَةَ نَفْسَهَا. وَقَدْ ذَهَبَ إلَى هَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَمَالِكٌ وَالْهَادَوِيَّةُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ ذَكَرَ قَبْلَ الْعَقْدِ لِغَيْرِهَا اسْتَحَقَّهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا سَمَّى لِغَيْرِهَا كَانَتْ التَّسْمِيَةُ فَاسِدَةً وَتَسْتَحِقُّ مَهْرَ الْمِثْلِ. قَوْلُهُ: «وَأَحَقُّ مَا يُكْرَمُ عَلَيْهِ» . إلى آخره فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ صِلَةِ أَقَارِبِ الزَّوْجَةِ وَإِكْرَامِهِمْ وَالإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ حَلالٌ لَهُمْ وَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الرُّسُومِ الْمُحَرَّمَةِ إلا أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ التَّزْوِيجِ إلا بِهِ.

(2/245)


 كِتَابُ الْوَلِيمَةِ وَالْبِنَاءِ

عَلَى النِّسَاءِ وَعِشْرَتِهِنَّ بَابُ اسْتِحْبَابِ الْوَلِيمَةِ بِالشَّاةِ فَأَكْثَرَ وَجَوَازِهَا بِدُونِهَا 3571- قَالَ - صلى الله عليه وسلم - لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ» . 3572- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا أَوْلَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى شَيْءٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ، أَوْلَمَ بِشَاةٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3573- وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْلَمَ عَلَى صَفِيَّةَ بِتَمْرٍ وَسَوِيقٍ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ. 3574- وَعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوْلَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ هَكَذَا مُرْسَلاً. 3575- وَعَنْ أَنَسٍ - فِي قِصَّةِ صَفِيَّةَ - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ وَلِيمَتَهَا التَّمْرَ وَالأَقِطَ وَالسَّمْنَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 3576- وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَقَامَ بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلاثَ لَيَالٍ يَبْنِي بِصَفِيَّةَ، فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إلَى وَلِيمَتِهِ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلا لَحْمٍ، وَمَا كَانَ فِيهَا إلا أَنْ أَمَرَ بِالأَنْطَاعِ فَبُسِطَتْ فَأُلْقِيَ عَلَيْهَا التَّمْرُ وَالأَقِطُ وَالسَّمْنُ. فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ؟ فَقَالُوا: إنْ حَجَبَهَا فَهِيَ إحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهِيَ مِمَّا

(2/246)


مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّأَ لَهَا خَلْفَهُ وَمَدَّ الْحِجَابَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لا حَدَّ لأَكْثَرَ مَا يُولَمُ بِهِ، وَأَمَّا أَقَلُّهُ فَكَذَلِكَ، وَمَهْمَا تَيَسَّرَ أَجْزَأَ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنَّهَا عَلَى قَدْرِ حَالِ الزَّوْجِ. بَابُ إجَابَةِ الدَّاعِي 3577- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُدْعَى لَهَا الأَغْنِيَاءُ وَتُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ، وَمَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3578- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا وَيُدْعَى إلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا، وَمَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 3579- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَجِيبُوا هَذِهِ الدَّعْوَةَ إذَا دُعِيتُمْ لَهَا» . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَأْتِي الدَّعْوَةَ فِي الْعُرْسِ وَغَيْرِ الْعُرْسِ، وَيَأْتِيهَا وَهُوَ صَائِمٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3580- وَفِي رِوَايَةٍ: «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3581- وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَزَادَ: «فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ، وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيَدْعُ» . 3582- وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ دُعِيَ فَلَمْ يُجِبْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمَنْ دَخَلَ عَلَى غَيْرِ دَعْوَةٍ دَخَلَ سَارِقًا وَخَرَجَ مُغِيرًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 3583- وَفِي لَفْظٍ: «إذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُجِبْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 3584- وَفِي لَفْظٍ: «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى وَلِيمَةِ عُرْسٍ فَلْيُجِبْ» . 3585- وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ دُعِيَ إلَى عُرْسٍ أَوْ نَحْوِهِ فَلْيُجِبْ» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد.

(2/247)


3586- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ وَقَالَ فِيهِ: «وَهُوَ صَائِمٌ» . 3587- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ، وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 3588- وَفِي لَفْظٍ: «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى الطَّعَامِ وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ وَالنَّسَائِيُّ. 3589- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى الطَّعَامِ، فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ فَذَلِكَ لَهُ إذْنٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» احْتَجَّ بِهَذَا مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الإِجَابَةِ إلَى الْوَلِيمَةِ؛ وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَى وُجُوبِ الإِجَابَةِ لِوَلِيمَةِ الْعُرْسِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَفِيهِ نَظَرٌ، نَعَمْ الْمَشْهُورُ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ الْوُجُوبُ، وَصَرَّحَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ، وَنَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ. قَوْلُهُ: «مَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ» يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الإِجَابَةِ إلَى غَيْرِ وَلِيمَةِ الْعُرْسِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَأَمَّا الدَّعْوَةُ فَهِيَ أَعَمُّ مِنْ الْوَلِيمَةِ، وَهِيَ بِفَتْحِ الدَّالِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَضَمَّهَا قُطْرُبٌ فِي مُثَلَّثَاتِهِ وَغَلَّطُوهُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ النَّوَوِيُّ. بَابُ مَا يُصْنَعُ إذَا اجْتَمَعَ الدَّاعِيَانِ 3590- عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا اجْتَمَعَ الدَّاعِيَانِ فَأَجِبْ أَقْرَبَهُمَا بَابًا، فَإِنَّ أَقْرَبَهُمَا بَابًا أَقْرَبُهُمَا جِوَارًا، فَإِذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا فَأَجِبْ الَّذِي سَبَقَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3591- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: إنَّ لِي

(2/248)


جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ فَقَالَ: «إلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَوَجْهُ ذلك أَنَّ إيثَارَ الأَقْرَبِ بِالْهَدِيَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَحَقُّ مِنْ الأَبْعَدِ فِي الإِحْسَانِ إلَيْهِ فَيَكُونُ أَحَقَّ مِنْهُ بِإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ مَعَ اجْتِمَاعِهَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ تَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا كَانَ أَوْلَى بِالإِجَابَةِ مِنْ الآخَرِ. بَابُ إجَابَةِ مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ اُدْعُ مَنْ لَقِيتَ وَحُكْمِ الإِجَابَةِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ 3592- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: تَزَوَّجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَدَخَلَ بِأَهْلِهِ، فَصَنَعَتْ أُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ حَيْسًا فَجَعَلَتْهُ فِي تَوْرٍ، فَقَالَتْ: يَا أَنَسُ اذْهَبْ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَهَبْتُ بِهِ، فَقَالَ: «ضَعْهُ» . ثُمَّ قَالَ: «اذْهَبْ فَادْعُ لِي فُلانًا وَفُلانًا وَمَنْ لَقِيتَ» . فَدَعَوْتُ مَنْ سَمَّى وَمَنْ لَقِيتُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ. 3593- وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ الثَّقَفِيِّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ يُقَالُ إِنَّ لَهُ مَعْرُوفًا، وَأَثْنَى عَلَيْهِ. قَالَ قَتَادَةُ: إنْ لَمْ يَكُنْ اسْمُهُ زُهَيْرَ ابْنَ عُثْمَانَ فَلا أَدْرِي مَا اسْمُهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْوَلِيمَةُ أَوَّلَ يَوْمٍ حَقٌّ، وَالْيَوْمُ الثَّانِي مَعْرُوفٌ، وَالْيَوْمُ الثَّالِثُ سُمْعَةٌ وَرِيَاءٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3594- وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ. 3595- وَابْنُ مَاجَةْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (حَيْسًا) وَهُوَ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الأَقِطِ وَالتَّمْرِ وَالسَّمْنِ، وَقَدْ يُجْعَلُ عِوَضَ الأَقِطِ الدَّقِيقُ. وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الدَّعْوَةِ إلَى الطَّعَامِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا - صلى الله عليه وسلم -. قَوْلُهُ: «الْوَلِيمَةُ أَوَّلَ يَوْمٍ حَقٌّ» إلى آخره، قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ دَلِيلُ عاى مَشْرُوعِيَّةِ الْيَوْمِ الأَوَّلِ وَعَدَمُ كَرَاهَتِهَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَكَرَاهَتُهَا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: إذَا أَوْلَمَ ثَلاثًا فَالإِجَابَةُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مَكْرُوهَةٌ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي لا

(2/249)


تَجِبُ قَطْعًا وَلا يَكُونُ اسْتِحْبَابُهَا فِيهِ كَاسْتِحْبَابِهَا فِي الْيَوْمِ الأَوَّلِ. بَابُ مَنْ دُعِيَ فَرَأَى مُنْكَرًا فَلْيُنْكِرْهُ وَإِلا فَلْيَرْجِعْ 3596- قَدْ سَبَقَ قَوْلُهُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ» . 3597- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: صَنَعْتُ طَعَامًا فَدَعَوْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَاءَ فَرَأَى فِي الْبَيْتِ تَصَاوِيرَ فَرَجَعَ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. 3598- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ مَطْعَمَيْنِ: عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ، وَأَنْ يَأْكُلَ وَهُوَ مُنْبَطِحٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 3599- وَعَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يَقْعُدْ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يَدْخُلْ الْحَمَّامَ إلا بِإِزَارٍ، وَمَنْ كَانَتْ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا تَدْخُلْ الْحَمَّامَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3600- وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِمَعْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. قَالَ أَحْمَدُ: وَقَدْ خَرَجَ أَبُو أَيُّوبَ - حِينَ دَعَاهُ ابْنُ عُمَرَ - فَرَأَى الْبَيْتَ قَدْ سُتِرَ. وَدعي حُذَيْفَةَ فَخَرَجَ، وَإِنَّمَا رَأَى شَيْئًا مِنْ زِيِّ الأَعَاجِمِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَرَأَى ابْنُ مَسْعُودٍ صُورَةً فِي الْبَيْتِ فَرَجَعَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وأحاديث الْبَابِ وَآثَارُهُ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ الدُّخُولُ فِي الدَّعْوَةِ يَكُونُ فِيهَا مُنْكَرٌ مِمَّا نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إظْهَارِ الرِّضَا بِهَا. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَحَاصِلُهُ إنْ كَانَ هُنَاكَ مُحَرَّمٌ وَقَدَرَ عَلَى إزَالَتِهِ فَأَزَالَهُ فَلا بَأْسَ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلْيَرْجِعْ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُكْرَهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ فَلا يُخْفِي الْوَرَعَ.

(2/250)


بَابُ حُجَّةِ مَنْ كَرِهَ النِّثَارَ وَالِانْتِهَابَ مِنْهُ 3601- عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى عَنْ النُّهْبَةِ وَالْخُلْسَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3602- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ الْمُثْلَةِ وَالنُّهْبَى. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 3603- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ انْتَهَبَ فَلَيْسَ مِنَّا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3604- وَقَدْ سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مِثْلُهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ عَنْ النهبى ثَابِتَةٌ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهِيَ تَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ انْتِهَابٍ. وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ انْتِهَابُ النِّثَارِ. إلى أن قَالَ: وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهُمَا كَانَا لا يَرَيَانِ بِهِ بَأْسًا. وَأَخْرَجَ كَرَاهِيَتَهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَعِكْرِمَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ: يُكْرَهُ لِمُنَافَاتِهِ الْمُرُوءَةَ وَالْوَقَارَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَنْ أَذِنَ فِي انْتِهَابِ أُضْحِيَّتِهِ مِنْ أَبْوَابِ الضَّحَايَا حَدِيثٌ جَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ حُجَّةً لِمَنْ رَخَّصَ فِي النِّثَارِ. انْتَهَى ملخصًا. بَابُ مَا جَاءَ فِي إجَابَةِ دَعْوَةِ الْخِتَانِ 3605- عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: دُعِيَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ إلَى خِتَانٍ فَأَبَى أَنْ يُجِيبَ، فَقِيلَ لَهُ. فَقَالَ: إنَّا كُنَّا لا نَأْتِي الْخِتَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلا نُدْعَى لَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ إجَابَةِ وَلِيمَةِ الْخِتَانِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وُجُوبُ الإِجَابَةِ إلَى سَائِرِ الْوَلائِمِ. بَابُ الدُّفِّ وَاللَّهْوِ فِي النِّكَاحِ 3606- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَصْلُ مَا بَيْنَ

(2/251)


الْحَلالِ وَالْحَرَامِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ فِي النِّكَاحِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا أَبَا دَاوُد. 3607- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالْغِرْبَالِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. 3608- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا زَفَّتْ امْرَأَةً إلَى رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ، فَقَالَ ... النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا عَائِشَةُ مَا كَانَ مَعَكُمْ مِنْ لَهْوٍ؟ فَإِنَّ الأَنْصَارَ يُعْجِبُهُمْ اللَّهْوُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 3609- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ جَدِّهِ أَبِي حَسَنٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَكْرَهُ نِكَاحَ السِّرِّ حَتَّى يُضْرَبَ بِدُفٍّ وَيُقَالَ: أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ ... فَحَيُّونَا نُحَيِّيكُمْ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي الْمُسْنَدِ. 3610- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَنْكَحَتْ عَائِشَةُ ذَاتَ قَرَابَةٍ لَهَا مِنْ الأَنْصَارِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «أَهْدَيْتُمْ الْفَتَاةَ» ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: «أَرْسَلْتُمْ مَعَهَا مَنْ يُغَنِّي» ؟ قَالَتْ: لا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الأَنْصَارَ قَوْمٌ فِيهَا غَزَلٌ، فَلَوْ بَعَثْتُمْ مَعَهَا مَنْ يَقُولُ: أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ ... فَحَيُّونَا نُحَيِّيكُمْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. 3611- وَعَنْ خَالِدِ بْنِ ذَكْوَانَ عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - غَدَاةَ بُنِيَ عَلَيَّ، فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي وَجُوَيْرَاتٌ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ يَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِي يَوْمَ بَدْرٍ، حَتَّى قَالَتْ إحْدَاهُنَّ: وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَقُولِي هَكَذَا وَقَوْلِي كَمَا كُنْتِ تَقُولِينَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا مُسْلِمًا وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِي الْبَابِ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: دَخَلْت عَلَى قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ فِي عُرْسٍ وَإِذَا جَوَارٍ يُغَنِّينَ، فَقُلْت: أَيْ صَاحِبَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَهْلَ بَدْرٍ يُفْعَلُ هَذَا عِنْدَكُمْ، فَقَالُوا:

(2/252)


اجْلِسْ إنْ شِئْت فَاسْتَمِعْ مَعَنَا، وَإِنْ شِئْت فَاذْهَبْ، فَإِنَّهُ قَدْ رُخِّصَ لَنَا اللَّهْوُ عِنْدَ الْعُرْسِ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. قَوْلُهُ: «الدُّفُّ وَالصَّوْتُ» أَيْ ضَرْبُ الدُّفِّ وَرَفْعُ الصَّوْتِ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ فِي النِّكَاحِ ضَرْبُ الأَدْفَافِ وَرَفْعُ الأَصْوَاتِ بِشَيْءٍ مِنْ الْكَلامِ نَحْوَ: أَتَيْنَاكُمْ وَنَحْوِهِ، لا بِالأَغَانِي الْمُهَيِّجَةِ لِلشُّرُورِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى وَصْفِ الْجَمَالِ وَالْفُجُورِ وَمُعَاقَرَ الْخُمُورِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْرُمُ فِي النِّكَاحِ كَمَا يَحْرُمُ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَلاهِي الْمُحَرَّمَةِ. قَوْلُهُ: (يَنْدُبْنَ) مِنْ النُّدْبَةِ بِضَمِّ النُّونِ: وَهِيَ ذِكْرُ أَوْصَافِ الْمَيِّتِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إعْلانُ النِّكَاحِ بِالدُّفِّ وَبِالْغِنَاءِ الْمُبَاحِ، وَفِيهِ إقْبَالُ الإِمَامِ إلَى الْعُرْسِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ لَهْوٌ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ الْمُبَاحِ، وَسَيَأْتِي الْكَلامُ فِي الْغِنَاءِ وَآلاتِ الْمَلاهِي مَبْسُوطًا فِي أَبْوَابِ السَّبْقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. بَابُ الأَوْقَاتِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ فِيهَا الْبِنَاءُ عَلَى النِّسَاءِ وَمَا يَقُولُ إذَا زُفَّتْ إلَيْهِ 3612- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي شَوَّالٍ وَبَنَى بِي فِي شَوَّالٍ، فَأَيُّ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ أَحْظَى عِنْدَهُ مِنِّي، وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَسْتَحِبُّ أَنْ تَدْخُلَ نِسَاءَهَا فِي شَوَّالٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 3613- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا أَفَادَ أَحَدُكُمْ امْرَأَةً أَوْ خَادِمًا أَوْ دَابَّةً فَلْيَأْخُذْ بِنَاصِيَتِهَا وَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي ... أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِهَا وَخَيْرِ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَأَبُو دَاوُد بِمَعْنَاهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْبِنَاءِ بِالْمَرْأَةِ فِي شَوَّالٍ وَهُوَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَصَدَ ذَلِكَ وَقَدْ تَزَوَّجَ - صلى الله عليه وسلم - بِنِسَائِهِ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ عَلَى حَسَبِ الِاتِّفَاقِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/253)


قَالَ: وَالْحَدِيثُ الثَّانِي فِيهِ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ بِمَا تَضَمَّنَهُ الْحَدِيثُ عِنْدَ تَزَوُّجِ الْمَرْأَةِ وَمِلْكِ الْخَادِمِ وَالدَّابَّةِ. بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ تَزَيُّنِ النِّسَاءِ بِهِ وَمَا لا يُكْرَهُ 3614- عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: أَتَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي ابْنَةً عُرَيِّسًا، وَإِنَّهُ أَصَابَهَا حَصْبَةٌ فَتَمَرَّقَ شَعْرُهَا أَفَأَصِلُهُ؟ فَقَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3615- وَمُتَّفَقٌ عَلَى مِثْلِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ. 3616- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ. 3617- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَات وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ: مَا لِي لا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ 3618- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ - وَتَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعْرٍ -: سَمِعْتُ ... رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ وَيَقُولُ: «إنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَ هَذِهِ نِسَاؤُهُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ. 3619- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ فِي شَعْرِهَا مِنْ شَعْرِ غَيْرِهَا فَإِنَّمَا تُدْخِلُهُ زُورًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3620- وَفِي لَفْظٍ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَادَتْ فِي شَعْرِهَا شَعْرًا لَيْسَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ زُورٌ تَزِيدُ فِيهِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 3621- وَمَعْنَاهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3622- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى عَنْ النَّامِصَةِ وَالْوَاشِرَةِ وَالْوَاصِلَةِ وَالْوَاشِمَةِ إلا مِنْ دَاءٍ. 3623- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَلْعَنُ الْقَاشِرَةَ

(2/254)


وَالْمَقْشُورَةَ، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمَوْشُومَةَ، وَالْوَاصِلَةَ وَالْمَوْصُولَةَ. رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. وَالنَّامِصَةُ: نَاتِفَةُ الشَّعْرِ مِنْ الْوَجْهِ. وَالْوَاشِرَةُ: الَّتِي تَشِرُ الأَسْنَانَ حَتَّى تَكُونَ لَهَا أَشَرٌ: أَيْ تَحَدُّدٌ وَرِقَّةٌ تَفْعَلُهُ الْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ تَتَشَبَّهُ بِالْحَدِيثَةِ السِّنِّ. وَالْوَاشِمَةُ: الَّتِي تَغْرِزُ مِنْ الْيَدِ بِإِبْرَةٍ ظَهْرَ الْكَفِّ وَالْمِعْصَمِ، ثُمَّ تُحْشِي بِالْكُحْلِ أَوْ بالنئور: وَهُوَ دُخَانُ الشَّحْمِ حَتَّى يَخْضَرَّ. وَالْمُتَنَمِّصَةُ وَالْمُؤْتَشِرَةُ وَالْمُسْتَوْشِمَةُ اللاتِي يُفْعَلُ بِهِنَّ ذَلِكَ بِإِذْنِهِنَّ. وَأَمَّا الْقَاشِرَةُ وَالْمَقْشُورَةُ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: نُرَاهُ أَرَادَ هَذِهِ الْغَمْرَةَ الَّتِي يُعَالِجُ بِهَا النِّسَاءُ وُجُوهَهُنَّ حَتَّى يَنْسَحِقَ أَعْلَى الْجِلْدِ وَيَبْدُوَ مَا تَحْتَهُ مِنْ الْبَشَرَةِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِمَا جَاءَ فِي النَّامِصَةِ. 3624- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ تَخَضبُ وَتَطيبُ، فَتَرَكَتْهُ فَدَخَلَتْ عَلَيَّ، فَقُلْتُ: أَمُشْهِدٌ أَمْ مُغِيبٌ؟ فَقَالَتْ: مُشْهِدٌ، قَالَتْ لَهَا: عُثْمَانُ لا يُرِيدُ الدُّنْيَا وَلا يُرِيدُ النِّسَاءَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ، فَلَقِيَ عُثْمَانَ فَقَالَ: «يَا عُثْمَانُ تُؤْمِنُ بِمَا نُؤْمِنُ بِهِ» ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَأُسْوَةٌ مَا لَك بِنَا» . 3625- وَعَنْ كَرِيمَةَ بِنْتِ هَمَّامٍ قَالَتْ: دَخَلْت الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَأَخْلَوْهُ لِعَائِشَةَ فَسَأَلَتْهَا امْرَأَةٌ: مَا تَقُولِينَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحِنَّاءِ؟ فَقَالَتْ: كَانَ حَبِيبِي - صلى الله عليه وسلم - يُعْجِبُهُ لَوْنُهُ، وَيَكْرَهُ رِيحَهُ وَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ عَلَيْكُنَّ بَيْنَ كُلِّ حَيْضَتَيْنِ أَوْ عِنْدَ كُلِّ حَيْضَةٍ. رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. 3626- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ. 3627- وَفِي رِوَايَةٍ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ، وَالْمُتَرَجِّلاتِ مِنْ النِّسَاءِ، وَقَالَ: «أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ» فَأَخْرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فُلانَةَ، وَأَخْرَجَ عُمَرُ فُلانًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْوَصْلُ حَرَامٌ لأَنَّ اللَّعْنَ لا يَكُونُ عَلَى أَمْرٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ. قَالَ: قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالطَّبَرِيُّ وَكَثِيرُونَ: الْوَصْلُ مَمْنُوعٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، سَوَاءٌ وَصَلَتْهُ بِشَعْرٍ أَوْ

(2/255)


صُوفٍ أَوْ خِرَقٍ. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - زَجَرَ أَنْ تَصِلَ الْمَرْأَةُ بِرَأْسِهَا شَيْئًا. قَوْلُهُ: «وَالْمُتَنَمِّصَاتُ» جَمْعُ مُتَنَمِّصَةٍ، وَهَى الَّتِي تَسْتَدْعِي نَتْفَ الشَّعْرِ مِنْ وَجْهِهَا وَهُوَ حَرَامٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: إلا إذَا نَبَتَ لِلْمَرْأَةِ لِحْيَةٌ أَوْ شَارِبُ فَلا تَحْرُمُ إزَالَتُهَا بَلْ تُسْتَحَبُّ. قَوْلُهُ: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ» إلَى آخْره فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ التَّشَبُّهُ بِالنِّسَاءِ، وَعَلَى النِّسَاءِ التَّشَبُّهُ بِالرِّجَالِ فِي الْكَلامِ وَاللِّبَاسِ وَالْمَشْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. بَابُ التَّسْمِيَةِ وَالتَّسَتُّرِ عِنْدَ الْجِمَاعِ 3628- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنْ قُدِّرَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ وَلَدٌ لَنْ يَضُرَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ الشَّيْطَانُ أَبَدًا» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا النَّسَائِيّ. 3629- وَعَنْ عُتْبَةُ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيُّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَسْتَتِرْ وَلا يَتَجَرَّدَا تَجَرُّدَ الْعِيرَيْنِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. 3630- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إيَّاكُمْ وَالتَّعَرِّي فَإِنَّ مَعَكُمْ مَنْ لا يُفَارِقُكُمْ إلا عِنْدَ الْغَائِطِ وَحِينَ يُفْضِي الرَّجُلُ إلَى أَهْلِهِ ... فَاسْتَحْيُوهُمْ وَأَكْرِمُوهُمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ الْحَدِيثَيْنِ الأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي الأَمْرِ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ: مِنْهَا حَدِيثُ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قُلْت يَا نَبِيَّ اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: «احْفَظْ عَوْرَتَكَ إلا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ؟ قَالَ: «إنْ اسْتَطَعْت أَنْ لا يَرَاهَا أَحَدٌ فلا يَرَاهَا» . قَالَ: قُلْت: إذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟ قَالَ: «فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْ النَّاسِ» . هَذَا لَفْظُ

(2/256)


التِّرْمِذِيِّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الأَمْرُ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ، وَالإِذْنِ بِكَشْفِ مَا لا بُدَّ مِنْهُ لِلزَّوْجَاتِ وَالْمَمْلُوكَاتِ حَالَ الْجِمَاعِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي الْعَزْلِ 3631- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3632- وَلِمُسْلِمٍ: كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَلَمْ يَنْهَنَا. 3633- وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلاً أَتَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنَّ لِي جَارِيَةً هِيَ خَادِمَتُنَا وَسَانِيَتُنَا فِي النَّخْلِ وَأَنَا أَطُوفُ عَلَيْهَا وَأَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، فَقَالَ: «اعْزِلْ عَنْهَا إنْ شِئْت فَإِنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 3634- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ - فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ الْعَرَبِ، فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ وَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ وَأَحْبَبْنَا الْعَزْلَ، فَسَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «مَا عَلَيْكُمْ أَلا تَفْعَلُوا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ كَتَبَ مَا هُوَ خَالِقٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3635- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَتْ الْيَهُودُ: الْعَزْلُ الْمَوْؤودَةُ الصُّغْرَى، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «كَذَبَتْ يَهُودُ، إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَصْرِفَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3636- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْعَزْلِ: «أَنْتَ تَخْلُقُهُ، أَنْتَ تَرْزُقُهُ؟ أَقِرَّهُ قَرَارَهُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ الْقَدَرُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3637- وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنِّي، أَعْزِلُ عَنْ امْرَأَتِي، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لِمَ تَفْعَلُ ذَلِكَ» ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أُشْفِقُ عَلَى وَلَدِهَا أَوْ عَلَى أَوْلادِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ

(2/257)


- صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ كَانَ ضَارًّا أضر فَارِسَ وَالرُّومَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 3638- وَعَنْ جُذَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ الأَسَدِيَّةِ قَالَتْ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي أُنَاسٍ وَهُوَ يَقُولُ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنْ الْغِيلَةِ، فَنَظَرْتُ فِي الرُّومِ وَفَارِسَ فَإِذَا هُمْ يُغِيلُونَ أَوْلادَهُمْ، فَلا يَضُرُّ أَوْلادَهُمْ شَيْئًا» . ثُمَّ سَأَلُوهُ عَنْ الْعَزْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ذَلِكَ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ وَهِيَ {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 3639- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُعْزَلَ عَنْ الْحُرَّةِ إلا بِإِذْنِهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ وَلَيْسَ إسْنَادُهُ بِذَلِكَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (كُنَّا نَعْزِلُ) الْعَزْلُ: النَّزْعُ بَعْدَ الإِيلاجِ لَيَنْزِلَ خَارِجَ الْفَرْجِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي حُكْمِ الْعَزْلِ، فَحُكِيَ فِي الْفَتْحِ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ قَالَ: لا خِلافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لا يُعْزَلُ عَنْ الزَّوْجَةِ الْحُرَّةِ إلا بِإِذْنِهَا؛ لأَنَّ الْجِمَاعَ مِنْ حَقِّهَا وَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَلَيْسَ الْجِمَاعُ الْمَعْرُوفُ إلا مَا لا يَلْحَقُهُ عَزْلٌ. قَوْلُهُ: «كَذَبَتْ يَهُودُ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْعَزْلِ وَلَكِنَّهُ يُعَارِضُ ذَلِكَ مَا فِي حَدِيثِ جُذَامَةَ مِنْ تَصْرِيحِهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّ ذَلِكَ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ، فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَهما، فَحُمِلَ هَذَا عَلَى التَّنْزِيهِ، إلى أن قَالَ: وَجَمَعَ ابْنُ الْقَيِّمِ فَقَالَ: الَّذِي كَذَبَ فِيهِ - صلى الله عليه وسلم - الْيَهُودُ هُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ الْعَزْلَ لا يُتَصَوَّرُ مَعَهُ الْحَمْلُ أَصْلاً وَجَعَلُوهُ بِمَنْزِلَةِ قَطْعِ النَّسْلِ بِالْوَأْدِ فَأَكْذَبَهُمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لا يَمْنَعُ الْحَمْلَ إذَا شَاءَ اللَّهُ خَلْقَهُ، وَإِذَا لَمْ يُرِدْ خَلْقَهُ لَمْ يَكُنْ وَأْدًا حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ وَأْدًا خَفِيًّا فِي حَدِيثِ جُذَامَةَ لأَنَّ الرَّجُلَ إنَّمَا يَعْزِلُ هَرَبًا مِنْ الْحَمْلِ فَأَجْرَى قَصْدَهُ لِذَلِكَ مُجْرَى الْوَأْدِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْوَأْدَ. ظَاهِرٌ بِالْمُبَاشَرَةِ اجْتَمَعَ فِيهِ الْقَصْدُ وَالْفِعْلُ، وَالْعَزْلُ يَتَعَلَّقُ بِالْقَصْدِ فَقَطْ، فَلِذَلِكَ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ خَفِيًّا وَهَذَا الْجَمْعُ قَوِيٌّ، وَقَدْ ضُعِّفَ أَيْضًا حَدِيثُ جُذَامَةَ، أَعْنِي الزِّيَادَةَ الَّتِي فِي آخِرِهِ. قَوْلُهُ: «أَنْ أَنْهَى عَنْ الْغِيلَةِ» بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُرَادُ بِهَا أَنْ يُجَامِعَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ مُرْضِعٌ.

(2/258)


بَابُ نَهْيِ الزَّوْجَيْنِ عَنْ التَّحَدُّثِ بِمَا يَجْرِي حَالَ الْوِقَاعِ 3640- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إلَى الْمَرْأَةِ وَتُفْضِي إلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 3641- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى، فَلَمَّا سَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: «مَجَالِسَكُمْ، هَلْ مِنْكُمْ الرَّجُلُ إذَا أَتَى أَهْلَهُ أَغْلَقَ بَابَهُ وَأَرْخَى سِتْرَهُ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُحَدِّثُ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ بِأَهْلِي كَذَا وَفَعَلْتُ بِأَهْلِي كَذَا» ؟ فَسَكَتُوا، فَأَقْبَلَ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ: «هَلْ مِنْكُنَّ مَنْ تُحَدِّثُ» ؟ فَجَثَتْ فَتَاةٌ كَعَابٌ عَلَى إحْدَى رُكْبَتَيْهَا وَتَطَاوَلَتْ، لِيَرَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَليَسْمَعَ كَلامَهَا، فَقَالَتْ: إي وَاَللَّهِ إنَّهُمْ يَتَحَدَّثُونَ وَإِنَّهُنَّ لَيَتَحَدَّثْنَ، فَقَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَا مَثَلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ؟ إنَّ مَثَلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، مَثَلُ شَيْطَانٍ وَشَيْطَانَةٍ لَقِيَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بِالسِّكَّةِ فَقَضَى حَاجَتَهُ مِنْهَا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3642- وَلأَحْمَدَ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلانِ عَلَى تَحْرِيمِ إفْشَاءِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِمَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا مِنْ أُمُورِ الْجِمَاعِ. بَابُ النَّهْيِ عَنْ إتْيَانِ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا 3643- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3644- وَفِي لَفْظٍ: «لا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى رَجُلٍ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. 3645- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوْ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.

(2/259)


3646- وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ: «فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أُنْزِلَ» . 3647- وَعَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. 3648- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَعْجَازِهِنَّ» . أَوْ قَالَ: «فِي أَدْبَارِهِنَّ» . 3649- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا: «هِيَ اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. 3650- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ طَلْقٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَسْتَاهِهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. 3651- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً فِي الدُّبُرِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ. 3652- وَعَنْ جَابِرٍ: أَنَّ يَهُودَ كَانَتْ تَقُولُ: إذَا أُتِيَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ دُبُرِهَا ثُمَّ حَمَلَتْ كَانَ وَلَدُهَا أَحْوَلَ، قَالَ: فَنَزَلَتْ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا النَّسَائِيّ. 3652- وَزَادَ مُسْلِمٌ: «إنْ شَاءَ مُجَبِّيَةً وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مُجَبِّيَةٍ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ» . 3654- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي قَوْله تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} «يَعْنِي صِمَامًا وَاحِدًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. 3655- وَعَنْهَا أَيْضًا قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ عَلَى الأَنْصَارِ تَزَوَّجُوا مِنْ نِسَائِهِمْ، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يُجَبُّونَ، وَكَانَتْ الأَنْصَارُ لا تُجَبِّي، فَأَرَادَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى ذَلِكَ، فَأَبَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَسْأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: فَأَتَتْهُ، فَاسْتَحْيَتْ أَنْ تَسْأَلَهُ فَسَأَلَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ، فَنَزَلَتْ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ

(2/260)


فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} وَقَالَ: «لا، إلا فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3656- وَلأَبِي دَاوُد هَذَا الْمَعْنَى مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما. 3657- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ عُمَرُ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ، قَالَ: «وَمَا الَّذِي أَهْلَكَكَ» ؟ قَالَ: حَوَّلْتُ رَحْلِي الْبَارِحَةَ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، قَالَ: فَأَوْحَى اللَّهُ إلَى رَسُولِهِ هَذِهِ الآيَةَ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} «أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ، وَاتَّقُوا الدُّبُرَ وَالْحَيْضَةَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. 3658- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اسْتَحْيُوا فَإِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ، لا يَحِلُّ مَأْتَاكَ النِّسَاءَ فِي حُشُوشِهِنَّ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَحْرُمُ إتْيَانُ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ لِذَلِكَ مَفَاسِدَ دِينِيَّةً وَدُنْيَوِيَّةً، وَكَفَى مُنَادِيًا عَلَى خَسَاسَتِهِ أَنَّهُ لا يَرْضَى أَحَدٌ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ وَلا إلَى إمَامِهِ تَجْوِيزُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: «مُجَبِّيَةً» أَيْ: بَارِكَةً. والجبية: الانْكِبَابُ عَلَى الْوَجْهِ. قَوْلُهُ: «غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ» أي: الْقُبُلِ وَهَذَا أَحَدُ الأَسْبَابِ فِي نُزُولِ الآيَةِ. بَابُ إحْسَانِ الْعِشْرَةِ وَبَيَانِ حَقِّ الزَّوْجَيْنِ 3659- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الْمَرْأَةَ كَالضِّلَعِ إنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا، وَإِنْ تَرَكْتَهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا عَلَى عِوَجٍ» . 3660- وَفِي لَفْظٍ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 3661- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَفْرَكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.

(2/261)


3662- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَيْتِهِ وَهُنَّ اللُّعَبُ، وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا دَخَلَ يَنْقَمِعْنَ مَعَهُ، فَيُسَرِّبُهُنَّ إلَيَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِي. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3663- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3664- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3665- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَزَوْجُهَا رَاضٍ عَنْهَا دَخَلَتْ الْجَنَّةَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. 3666- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا، لَعَنَتْهَا الْمَلائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3667- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. 3668- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، وَلَوْ صَلُحَ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ مِنْ قَدَمِهِ إلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ قُرْحَةً تَنْبَجِسُ بِالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْهُ تَلْحَسُهُ مَا أَدَّتْ حَقَّهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3669- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا؛ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَنْقُلَ مِنْ جَبَلٍ أَحْمَرَ إلَى جَبَلٍ أَسْوَدَ، وَمِنْ جَبَلٍ أَسْوَدَ إلَى جَبَلٍ

(2/262)


أَحْمَرَ، لَكَانَ نَوْلُهَا أَنْ تَفْعَلَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. 3670- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: لَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ مِنْ الشَّامِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا مُعَاذُ» ؟ قَالَ: أَتَيْتُ الشَّامَ فَوَافَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لأَسَاقِفَتِهِمْ وَبَطَارِقَتِهِمْ، فَرَدِدْتُ فِي نَفْسِي أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ بك. فَقَالَ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَلا تَفْعَلُوا، فَإِنِّي لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا تُؤَدِّي الْمَرْأَةُ حَقَّ رَبِّهَا حَتَّى تُؤَدِّيَ حَقَّ زَوْجِهَا، وَلَوْ سَأَلَهَا نَفْسَهَا وَهِيَ عَلَى قَتَبٍ لَمْ تَمْنَعْهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. 3671- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الأَحْوَصِ أَنَّهُ شَهِدَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَرَ وَوَعَظَ ثُمَّ قَالَ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّمَا هُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ إلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً، إنَّ لَكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ؛ أَلا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَهَادَتَهُ عَلَيْهَا بِالزِّنَا لا تُقْبَلُ لأَنَّهُ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِتَرْكِ حَقِّهِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ. 3672- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَأَلَهُ رَجُلٌ: مَا حَقُّ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ؟ قَالَ: «تُطْعِمُهَا إذَا طَعِمْتَ. وَتَكْسُوهَا إذَا اكْتَسَيْتَ، وَلا تَضْرِبْ الْوَجْهَ، وَلا تُقَبِّحْ وَلا تَهْجُرْ إلا فِي الْبَيْتِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. 3673- وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَنْفِقْ عَلَى عِيَالِكَ مِنْ طَوْلِكَ، وَلا تَرْفَعْ عَنْهُمْ عَصَاكَ أَدَبًا وَأَخِفْهُمْ فِي اللَّهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3674- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إلا بِإِذْنِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(2/263)


3675- وَفِي رِوَايَةٍ: «لا تَصُومُ امْرَأَةٌ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ يَوْمًا مِنْ غَيْرِ رَمَضَانَ إلا بِإِذْنِهِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ. وَهُوَ حُجَّةٌ لِمَنْ يَمْنَعُهَا مِنْ صَوْمِ النَّذْرِ وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا إلا بِإِذْنِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ» أَيْ مِنْ ضِلَعِ آدَمَ الَّذِي خُلِقَتْ مِنْهُ حَوَّاءُ. وَالْحَدِيثُ فِيهِ الإِرْشَادُ إلَى مُلاطَفَةِ النِّسَاءِ وَالصَّبْرِ عَلَى مَا لا يَسْتَقِيمُ مِنْ أَخْلاقِهِنَّ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُنَّ خُلِقْنَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ الَّتِي لا يُفِيدُ مَعَهَا التَّأْدِيبُ وَلا يَنْجَحُ عِنْدَهَا النُّصْحُ فَلَمْ يَبْقَ إلا الصَّبْرُ وَالْمُحَاسَنَةُ وَتَرْكُ التَّأْنِيبِ وَالْمُخَاشَنَةُ. قَوْلُهُ: «لا يَفْرَكُ» بِالْفَاءِ سَاكِنَةً بَعْدَهَا رَاءٌ وَهُوَ الْبُغْضُ. وَالْحَدِيثُ فِيهِ الإِرْشَادُ إلَى حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْبُغْضِ لِلزَّوْجَةِ بِمُجَرَّدِ كَرَاهَةِ خُلُقٍ مِنْ أَخْلاقِهَا فَإِنَّهَا لا تَخْلُو مَعَ ذَلِكَ عَنْ أَمْرٍ يَرْضَاهُ مِنْهَا. قَوْلُهُ: (الْبَنَاتِ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالْبَنَاتُ: التَّمَاثِيلُ الصِّغَارُ يُلْعَبُ بِهَا. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَمْكِينُ الصِّغَارِ مِنْ اللَّعِبِ بِالتَّمَاثِيلِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَشْتَرِيَ لِبِنْتِهِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: إنَّ اللَّعِبَ بِالْبَنَاتِ لِلَبِنَاتِ الصِّغَارِ رُخْصَةٌ. قَوْلُهُ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ» إلَى آخْره، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ مَزِيَّةُ حُسْنِ الْخُلُقِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ الْكَامِلِ. قَوْلُهُ: «وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ» وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الآخَرِ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ» فِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَعْلَى النَّاسِ رُتْبَةً فِي الْخَيْرِ، وَأَحَقُّهُمْ بِالِاتِّصَافِ بِهِ هُوَ مَنْ كَانَ خَيْرَ النَّاسِ لأَهْلِهِ، فَإِنَّ الأَهْلَ هُمْ الأَحِقَّاءُ بِالْبِشْرِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَالإِحْسَانِ وَجَلْبِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ. قَوْلُهُ: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ ... تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا» قَالَ الشَّارِحُ: وَيُؤَيِّدُ أَحَادِيثَ الْبَابِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أَتَيْتُ الْحِيرَةَ فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِمَرْزُبَانٍ لَهُمْ، فَقُلْتُ: رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَقُّ أَنْ يُسْجَدَ لَهُ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: إنِّي أَتَيْتُ الْحِيرَةَ فَرَأَيْتُهُمْ

(2/264)


يَسْجُدُونَ لِمَرْزُبَانٍ لَهُمْ فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُسْجَدَ لَك قَالَ: «أَرَأَيْتَ لَوْ مَرَرْتَ بِقَبْرِي أَكُنْتَ تَسْجُدُ لَهُ» ؟ قَالَ: قُلْتُ: لا، قَالَ: «فَلا تَفْعَلُوا لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ لأَمَرْتُ النِّسَاءَ أَنْ يَسْجُدْنَ لأَزْوَاجِهِنَّ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ الْحَقِّ» . قَوْلُهُ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَزَوْجُهَا رَاضٍ عَنْهَا دَخَلَتْ الْجَنَّةَ» قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ التَّرْغِيبُ الْعَظِيمُ إلَى طَاعَةِ الزَّوْجِ وَطَلَبِ مَرْضَاتِهِ وَأَنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلْجَنَّةِ. قَوْلُهُ: «لَعَنَتْهَا الْمَلائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ» فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «حَتَّى تَرْجِعَ» وَفِيهِ دَلالَةٍ عَلَى تَأَكُّدِ وُجُوبِ طَاعَةِ الزَّوْجِ وَتَحْرِيمِ عِصْيَانِهِ وَمُغَاضَبَتِهِ. قَوْلُهُ: «نَوْلُهَا» أَيْ حَظُّهَا وَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَفْعَلَ. قَوْلُهُ: «عَوَانٌ» جَمْعُ عَانِيَةٍ، وَالْعَانِي: الأَسِيرُ. قَوْلُهُ: «فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ» إلَى آخْره، فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ» وَظَاهِرُ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ لا يَجُوزُ الْهَجْرُ فِي الْمَضْجَعِ وَالضَّرْبُ إلا إذَا أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ لا بِسَبَبٍ غَيْرِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: «وَلا تَضْرِبْ الْوَجْهَ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ اجْتِنَابِ الْوَجْهِ عِنْدَ التَّأْدِيبِ. قَوْلُهُ: «وَلا تُقَبِّحْ» . أَيْ لا تَقُلْ لِامْرَأَتِكَ: قَبَّحَهَا اللَّهُ. قَوْلُهُ: «وَلا تَرْفَعْ عَنْهُمْ عَصَاكَ» فِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ لَهُ عِيَالٌ أَنْ يُخَوِّفَهُمْ وَيُحَذِّرَهُمْ الْوُقُوعَ فِيمَا لا يَلِيقُ، وَلا يُكْثِرُ تَأْنِيبَهُمْ وَمُدَاعَبَتَهُمْ، فَيُفْضِي ذَلِكَ إلَى الِاسْتِخْفَافِ بِهِ وَيَكُونُ سَبَبًا لِتَرْكِهِمْ لِلآدَابِ الْمُسْتَحْسَنَةِ وَتَخَلُّقِهِمْ بِالأَخْلاقِ السَّيِّئَةِ قَوْلُهُ: «لا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إلا بِإِذْنِهِ» يَعْنِي فِي غَيْرِ صِيَامِ أَيَّامِ رَمَضَانَ، وَكَذَا سَائِرُ الصِّيَامَاتِ الْوَاجِبَةِ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ عَلَى الْمَرْأَةِ بِدُونِ إذْنِ زَوْجِهَا الْحَاضِرِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ،

(2/265)


وَظَاهِرُ التَّقْيِيدِ بِالشَّاهِدِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا التَّطَوُّعُ إذَا كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا، فَلَوْ صَامَتْ وَقَدِمَ فِي أَثْنَاءِ الصِّيَامِ قِيلَ: فَلَهُ إفْسَادُ صَوْمِهَا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ. بَابُ نَهْيِ الْمُسَافِرِ أَنْ يَطْرُقَ أَهْلَهُ بِقُدُومِهِ لَيْلاً 3676- عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ لا يَطْرُقُ أَهْلَهُ لَيْلًا وَكَانَ يَأْتِيهِمْ غُدْوَةً أَوْ عَشِيَّةً. 3677- وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا أَطَالَ أَحَدُكُمْ الْغَيْبَةَ فَلا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلًا» . 3678- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةٍ، فَلَمَّا قَدِمْنَا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ، فَقَالَ: «أَمْهِلُوا حَتَّى نَدْخُلَ لَيْلاً - أَيْ عِشَاءً - لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ. 3679- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَهَى نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلًا يَتَخَوَّنُهُمْ أَوْ يَطْلُبُ عَثَرَاتِهِمْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «إذَا أَطَالَ أَحَدُكُمْ الْغَيْبَةَ» فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ إنَّمَا تُوجَدُ حِينَئِذٍ فَالْحُكْمُ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا. بَابُ الْقَسْمِ لِلْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ الْجَدِيدَتَيْنِ 3680- عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا تَزَوَّجَهَا - أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَقَالَ: «إنَّهُ لَيْسَ بِكَ هَوَانٌ عَلَى أَهْلِكِ، فَإِنْ شِئْت سَبَّعْتُ لَكِ، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. 3681- وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَلَفْظُهُ: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا حِينَ دَخَلَ بِهَا: «لَيْسَ بِكِ عَلَى أَهْلِكِ هَوَانٌ، إنْ شِئْت أَقَمْتُ عِنْدَكِ ثَلاثًا خَالِصَةً لَكِ، وَإِنْ شِئْت سَبَّعْتُ لَكِ وَسَبَّعْتُ لِنِسَائِي» . قَالَتْ: تُقِيمُ مَعِي ثَلاثًا خَالِصَةً. 3682- وَعَنْ أَبِي قِلابَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ إذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا ثُمَّ قَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاثًا ثُمَّ

(2/266)


قَسَمَ. قَالَ أَبُو قِلابَةَ: وَلَوْ شِئْت لَقُلْتُ: إنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. أَخْرَجَاهُ. 3683- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لِلْبِكْرِ سَبْعَةُ أَيَّامٍ، وَلِلثَّيِّبِ ثَلاثٌ ثُمَّ يَعُودُ إلَى نِسَائِهِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. 3684- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا أَخَذَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَفِيَّةَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاثًا وَكَانَتْ ثَيِّبًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وأحاديث الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبِكْرَ تُؤْثَرُ بِسَبْعٍ وَالثَّيِّبَ بِثَلاثٍ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: يُكْرَهُ أَنْ يَتَأَخَّرَ فِي السَّبْعِ أَوْ الثَّلاثِ عَنْ الصَّلاةِ وَسَائِرِ أَعْمَالِ الْبِرِّ. بَابُ مَا يَجِبُ فِيهِ التَّعْدِيلُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَمَا لا يَجِبُ 3685- عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تِسْعُ نِسْوَةٍ، وَكَانَ إذَا قَسَمَ بَيْنَهُنَّ لا يَنْتَهِي إلَى الْمَرْأَةِ الأُولَى إلَى تِسْعٍ، فَكُنَّ يَجْتَمِعْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي بَيْتِ الَّتِي يَأْتِيهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 3686- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا مِنْ يَوْمٍ إلا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا امْرَأَةً امْرَأَةً، فَيَدْنُو وَيَلْمِسُ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ حَتَّى يُفْضِيَ إلَى الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا فَيَبِيتَ عِنْدَهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد بِنَحْوِهِ. 3687- وَفِي لَفْظٍ: كَانَ إذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاةِ الْعَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ فَيَدْنُو مِنْ إحْدَاهُنَّ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3688- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ يَمِيلُ لإِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجُرُّ أَحَدَ شِقَّيْهِ سَاقِطًا أَوْ مَائِلاً» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. 3689- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلا أَمْلِكُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا أَحْمَدَ.

(2/267)


3690- وَعَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَنِي وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا: لا يَغُرَّنَّك أنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْضَأَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إلَى ... النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدُ عَائِشَةَ - فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3691- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: «أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا؟» . يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ؟ فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ، فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ حَتَّى مَاتَ عِنْدَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3692- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يُشْتَرَطُ فِي الْعَدْلِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ أَنْ يُفْرِدَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ لَيْلَةً بِحَيْثُ لا يَجْتَمِعُ فِيهَا مَعَ غَيْرِهَا، بَلْ يَجُوزُ مُجَالَسَةُ غَيْرِ صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ وَمُحَادَثَتُهَا، وَلِهَذَا كُنَّ يَجْتَمِعْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي بَيْتِ صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ دُخُولُ بَيْتِ غَيْرِ صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ وَالدُّنُوُّ مِنْهَا وَاللَّمْسُ إلا الْجِمَاعَ. قَوْلُهُ: «يَمِيلُ لإِحْدَاهُمَا» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْلِ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَمْرٍ يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ كَالْقِسْمَةِ وَالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ. قَوْلُهُ: «فَلا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلا أَمْلِكُ» ؛ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: يَعْنِي بِهِ الْحُبَّ وَالْمَوَدَّةَ، كَذَلِكَ فَسَّرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} قَالَ: فِي الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ. قَوْلُهُ: (يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ إرَادَةِ الزَّوْجِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فِي مَرَضِهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ لا يَكُونُ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ بَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ لِلزَّوْجَاتِ الإِذْنُ لَهُ بِالْوُقُوفِ مَعَ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ. قَوْلُهُ: (أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ) اُسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقُرْعَةِ فِي الْقِسْمَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

(2/268)


بَابُ الْمَرْأَةُ تَهَبُ يَوْمَهَا لِضَرَّتِهَا أَوْ تُصَالِحُ الزَّوْجَ عَلَى إسْقَاطِهِ 3693- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ فَكَانَ ... النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3694- وَعَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا} قَالَتْ: هِيَ الْمَرْأَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ لا يَسْتَكْثِرُ مِنْهَا فَيُرِيدُ طَلاقَهَا وَيَتَزَوَّجُ غَيْرَهَا تَقُولُ لَهُ: أَمْسِكْنِي وَلا تُطَلِّقْنِي ثُمَّ تَزَوَّجْ غَيْرِي وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ النَّفَقَةِ عَلَيَّ وَالْقَسْمِ لِي، فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} . 3695- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ: هُوَ الرَّجُلُ يَرَى مِنْ امْرَأَتِهِ مَا لا يُعْجِبُهُ كِبَرًا أَوْ غَيْرَهُ فَيُرِيدُ فِرَاقَهَا، فَتَقُولُ: أَمْسِكْنِي وَاقْسِمْ لِي مَا شِئْت، قَالَ: فَلا بَأْسَ إذَا تَرَاضَيَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 3696- وَعَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تِسْعٌ، وَكَانَ يَقْسِمُ لِثَمَانٍ وَلا يَقْسِمُ لِوَاحِدَةٍ، قَالَ عَطَاءٌ: الَّتِي لا يَقْسِمُ لَهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. وَاَلَّتِي تَرَكَ الْقَسْمَ لَهَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَنْ صُلْحٍ وَرِضًا مِنْهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِعَدَمِ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} . الآيَةَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (قَالَ عَطَاءٌ: الَّتِي لا يَقْسِمُ لَهَا صَفِيَّةُ) . قَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي أَوَّلِ الْهَدْيِ عِنْدَ الْكَامِ عَلَى هَدْيِهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي النِّكَاحِ وَالْقَسْمِ أَنَّ هَذَا غَلَطٌ، وَأَنَّ صَفِيَّةَ إنَّمَا سَقَطَتْ نَوْبَتُهَا مِنْ الْقِسْمَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً. انتهى. والله أعلم.

(2/269)


 كِتَابُ الطَّلاقِ

بَابُ جَوَازِهِ لِلْحَاجَةِ وَكَرَاهَتِهِ مَعَ عَدَمِهَا وَطَاعَةِ الْوَالِدِ فِيهِ 3697- عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - طَلَّقَ حَفْصَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. 3698- وَهُوَ لأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ. 3699- وَعَنْ لَقِيطِ بْنِ صُبْرَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي امْرَأَةً فَذَكَرَ مِنْ بَذَائِهَا، قَالَ: «طَلِّقْهَا» . قُلْت: إنَّ لَهَا صُحْبَةً وَوَلَدًا، قَالَ: «مُرْهَا - أَوْ قُلْ لَهَا - فَإِنْ يَكُنْ فِيهَا خَيْرٌ سَتَفْعَلْ، وَلا تَضْرِبْ ظَعِينَتَكَ ضَرْبَكَ أَمَتَكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3700- وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلاقَ فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ. 3701- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَبْغَضُ الْحَلالِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الطَّلاقُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. 3702- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ تَحْتِي امْرَأَةٌ أُحِبُّهَا وَكَانَ أَبِي يَكْرَهُهَا، فَأَمَرَنِي أَنْ أُطَلِّقَهَا فَأَبَيْتُ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ طَلِّقْ امْرَأَتَكَ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: الطَّلاقُ قَدْ يَكُونُ حَرَامًا وَمَكْرُوهًا وَوَاجِبًا وَمَنْدُوبًا وَجَائِزًا. أَمَّا الأَوَّلُ: فَفِيمَا إذَا كَانَ بِدْعِيًّا. وَأَمَّا الثَّانِي: فَفِيمَا إذَا وَقَعَ بِغَيْرِ سَبَبٍ

(2/270)


مَعَ اسْتِقَامَةِ الْحَالِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَفِي صُوَرٍ مِنْهَا الشِّقَاقُ إذَا رَأَى ذَلِكَ الْحَكَمَانِ. وَأَمَّا الرَّابِعُ: فَفِيمَا إذَا كَانَتْ غَيْرَ عَفِيفَةٍ. وَأَمَّا الْخَامِسُ: ففيما إذَا كَانَ لا يُرِيدُهَا وَلا تَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يَتَحَمَّلَ مُؤْنَتَهَا مِنْ غَيْرِ حُصُولِ غَرَضِ الاسْتِمْتَاعِ. انْتَهَى ملخصًا. قَوْلُهُ: (إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - طَلَّقَ حَفْصَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا) قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّلاقَ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ مِنْ دُونِ كَرَاهَةٍ. قَوْلُهُ: «طَلِّقْهَا» فِيهِ أَنَّهُ يَحْسُنُ طَلاقُ مَنْ كَانَتْ بَذِيئةَ اللِّسَانِ وَيَجُوزُ إمْسَاكُهَا وَلا يَحِلُّ ضَرْبُهَا كَضَرْبِ الأَمَةِ. قَوْلُهُ: «فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُؤَالَ الْمَرْأَةِ الطَّلاقَ مِنْ زَوْجِهَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهَا تَحْرِيمًا شَدِيدًا. قَوْلُهُ: «أَبْغَضُ الْحَلالِ إلَى اللَّهِ الطَّلاقُ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ حَلالٍ مَحْبُوبًا. قَوْلُهُ: «طَلِّقْ امْرَأَتَكَ» هَذَا دَلِيلٌ صَرِيحٌ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ إذَا أَمَرَهُ أَبُوهُ بِطَلاقِ زَوْجَتِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَإِنْ كَانَ يُحِبُّهَا. بَابُ النَّهْيِ عَنْ الطَّلاقِ فِي الْحَيْضِ وَفِي الطُّهْرِ بَعْدَ أَنْ يُجَامِعَهَا مَا لَمْ يَبِنْ حَمْلُهَا 3703- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، أَوْ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلاً» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ. 3704- وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَتَغَيَّظَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ: «لِيُرَاجِعْهَا ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى» . 3705- وَفِي لَفْظٍ: «فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ، فَإِنَّ لَهُ مِنْهُ إلَى الأَمْرِ بِالرَّجْعَةِ. 3706- وَلِمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ نَحْوُهُ وَفِي آخِرِهِ قَالَ ابْنُ عَمْرٍو: وَقَرَأَ

(2/271)


النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: « {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ» . 3707- وَفِي رِوَايَةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ طَلَّقَ تَطْلِيقَةً فَحُسِبَتْ مِنْ طَلاقِهَا. 3708- وَفِي رِوَايَةٍ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَالَ لأَحَدِهِمْ: أَمَّا إنْ طَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَنِي بِهَذَا، وَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَ ثَلاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْك حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَك وَعَصَيْت اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلاقِ امْرَأَتِك. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 3709- وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ - وَهِيَ حَائِضٌ - تَطْلِيقَةً، فَانْطَلَقَ عُمَرُ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مُرْ عَبْدَ اللَّهِ فَلْيُرَاجِعْهَا، فَإِذَا اغْتَسَلَتْ فَلْيَتْرُكْهَا حَتَّى تَحِيضَ، فَإِذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ حَيْضَتِهَا الأُخْرَى فَلا يَمَسَّهَا حَتَّى يُطَلِّقَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُمْسِكَهَا فَلْيُمْسِكْهَا، فَإِنَّهَا الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْوَطْءِ وَالطَّلاقِ قَبْلَ الْغُسْلِ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الطَّلاقُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهَانِ حَلالٌ، وَوَجْهَانِ حَرَامٌ. فَأَمَّا اللَّذَانِ هُمَا حَلالٌ فَأَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، أَوْ يُطَلِّقَهَا حَامِلًا مُسْتَبِينًا حَمْلُهَا. وَأَمَّا اللَّذَانِ هُمَا حَرَامٌ فَأَنْ يُطَلِّقَهَا حَائِضًا، أَوْ يُطَلِّقَهَا عِنْدَ الْجِمَاعِ لا يَدْرِي اشْتَمَلَ الرَّحِمُ عَلَى وَلَدٍ أَمْ لا. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» وَظَاهِرُ الأَمْرِ الْوُجُوبُ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: الاسْتِحْبَابُ واتفقوا على أنه لو طلق قبل الدخول وهي حائض لم يؤمر بالمراجعة إلا ما نقل عن زفر، وحكي ابن بطال وغيره الاتفاق إذا انقضت العدة أنه لا رجعة. قَوْلُهُ: «قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا» استدل بذلك على أن الطلاق في طهر جامع فيه حرام، وبه صرح الجمهور. قَوْلُهُ: (فَحُسِبَتْ مِنْ طَلاقِهَا) تمسك بذلك من قال بأن الطلاق البدعي يقع، وهم الجمهور.

(2/272)


بَابُ مَا جَاءَ فِي طَلاقِ الْبَتَّةَ وَجَمْعِ الثَّلاثِ وَاخْتِيَارِ تَفْرِيقِهَا 3710- عَنْ رُكَانَةُ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ أَلْبَتَّةَ، فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَرَدْت إلا وَاحِدَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ... «وَاَللَّهِ مَا أَرَدْت إلا وَاحِدَةً» ؟ قَالَ رُكَانَةُ: وَاَللَّهِ مَا أَرَدْت إلا وَاحِدَةً، فَرَدَّهَا إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَطَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَالثَّالِثَةَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: قَالَ أَبُو دَاوُد: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. 3711- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: لَمَّا لاعَنَ أَخُو بَنِي عَجْلانَ امْرَأَتَهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ظَلَمْتهَا إنْ أَمْسَكْتهَا، هِيَ الطَّلاقُ وَهِيَ الطَّلاقُ وَهِيَ الطَّلاقُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3712- وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً وَهِيَ حَائِضٌ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتْبَعَهَا بِتَطْلِيقَتَيْنِ آخِرَتَيْنِ عِنْدَ الْقُرءينِ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «يَا ابْنَ عُمَرَ مَا هَكَذَا أَمَرَكَ اللَّهُ تَعَالَى، إنَّك قَدْ أَخْطَأْت السُّنَّةَ، وَالسُّنَّةُ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ فَتُطَلِّقَ لِكُلِّ قُرْءٍ» . قَالَ: فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَاجَعْتهَا، ثُمَّ قَالَ: «إذَا هِيَ طَهُرَتْ فَطَلِّقْ عِنْدَ ذَلِكَ أَوْ أَمْسِكْ» . فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت لَوْ طَلَّقْتهَا ثَلاثًا أَكَانَ يَحِلُّ لِي أَنْ أُرَاجِعَهَا قَالَ: «لا، كَانَتْ تَبِينُ مِنْكَ وَتَكُونُ مَعْصِيَةً» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. 3713- وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ لأَيُّوبَ: هَلْ عَلِمْت أَحَدًا قَالَ فِي: أَمْرُكِ بِيَدِكِ، أَنَّهَا ثَلاثٌ إلا الْحَسَنُ؟ قَالَ: لا، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ غُفْرًا إلا مَا حَدَّثَنِي قَتَادَةُ عَنْ كَثِيرٍ مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «ثَلاثٌ» . قَالَ أَيُّوبُ: فَلَقِيت كَثِيرًا مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ فَسَأَلْتُهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَرَجَعْتُ إلَى قَتَادَةَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: نَسِيَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لا نَعْرِفُهُ إلا مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ. وَعَنْ زُرَارَةَ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُثْمَانَ فِي: أَمْرُكِ بِيَدِكِ، الْقَضَاءُ مَا قَضَيْت. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ. وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الْخَلِيَّةُ وَالْبَرِّيَّةُ وَالْبَتَّةُ وَالْبَائِنُ وَالْحَرَامُ ثَلاثًا، لا تَحِلُّ

(2/273)


لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: فِي الْخَلِيَّةِ وَالْبَرِّيَّةِ ثَلاثًا ثَلاثًا. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. وَعَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ رَجُلٍ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِ أَبِيهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَقَالَ أَبُوهُ: هِيَ طَالِقٌ ثَلاثًا، كَيْفَ السُّنَّةُ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ - مَوْلَى بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ - أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إيَاسِ بْنِ الْبُكَيْرِ اللَّيْثِيَّ - وَكَانَ أَبُوهُ شَهِدَ بَدْرًا - أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَانَتْ عَنْهُ فَلا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَأَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِهِمَا. رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُخَرَّجِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ. 3714- وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثًا، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ رَادُّهَا إلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَنْطَلِقُ أَحَدُكُمْ فَيَرْكَبُ الْحَمُوقَةَ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} وَإِنَّك لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فَلَمْ أَجِدْ لَكَ مَخْرَجًا، عَصَيْتَ ... رَبَّكَ فَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُك، وَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ مِائَةً، قَالَ: عَصَيْتَ رَبَّكَ، وَفَارَقْتَ امْرَأَتَكَ، لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فَيَجْعَلْ لَكَ مَخْرَجًا. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلاً طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْفًا، قَالَ: يَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ ثَلاثٌ وَتَدَعْ تِسْعَمِائَةٍ وَسَبْعًا وَتِسْعِينَ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ عَدَدَ النُّجُومِ، فَقَالَ: أَخْطَأَ السُّنَّةَ، وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ. رَوَاهُنَّ الدَّارَقُطْنِيّ. وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى إجْمَاعِهِمْ عَلَى صِحَّةِ وُقُوعِ الثَّلاثِ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ. 3715- وَقَدْ رَوَى طَاوُسٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الطَّلاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ طَلاقُ الثَّلاثِ وَاحِدَةً،

(2/274)


فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 3716- وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لابْنِ عَبَّاسٍ: هَاتِ مِنْ هَنَاتِكَ، أَلَمْ يَكُنْ طَلاقُ الثَّلاثِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً، قَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ؛ فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الطَّلاقِ فَأَجَازَهُ عَلَيْهِمْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 3717- وَفِي رِوَايَةٍ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلَى كَانَ الرَّجُلُ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدْ تَتَابَعُوا فِيهَا قَالَ: أَجِيزُوهُنَّ عَلَيْهِمْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ - يَعْنِي حَدِيث رُكَانَةْ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ بِلَفْظِ أَلْبَتَّةَ وَأَرَادَ وَاحِدَةً كَانَتْ وَاحِدَةً، وَإِنْ أَرَادَ ثَلاثًا كَانَتْ ثَلاثًا. قَوْلُهُ: فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «وَاَللَّهِ مَا أَرَدْت إلا وَاحِدَةً.» إلَى آخره فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يُقْبَلُ قَوْلُ مَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ بِلَفْظِ أَلْبَتَّةَ ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ أَرَادَ وَاحِدَةً إلا بِيَمِينٍ، وَمِثْلُ هَذَا كُلُّ دَعْوَى يَدَّعِيهَا الزَّوْجُ رَاجِعَةً إلَى الطَّلاقِ إذَا كَانَ لَهُ فِيهَا نَفْعٌ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِزَوْجَتِهِ: (أَمْرُكِ بِيَدِكِ) هَلْ هُوَ صَرِيحُ تَمْلِيكٍ لِلطَّلاقِ فَلا يُقْبَلُ قَوْلُ الزَّوْجِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ التَّوْكِيلَ أَوْ كِنَايَةُ تَمْلِيكٍ فَيُقْبَلُ قَوْلِ الزَّوْجِ أَنَّهُ أَرَادَ التَّوْكِيلَ؟ . قَوْلُهُ: (قَالَ: الْخَلِيَّةُ) إلَى آخْره هَذِهِ الأَلْفَاظُ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلاقِ الصَّرِيحِ، وَأَمَّا كَوْنُهَا بِمَنْزِلَةِ إيقَاعِ ثَلاثِ تَطْلِيقَاتٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي لَفْظِ الْبَتَّةَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الطَّلاقِ الثَّلاثِ إلا أَنْ يَحْلِفَ الزَّوْجُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ إلا وَاحِدَةً، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلِيٌّ - رضي الله عنه - أَلْحَقَ بِهِ بَقِيَّةَ الأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ إلى أنَّ قَالَ: واعلم أنه قد وقع الخلاف في الطلاق الثلاث إذا أوقعت في وقت واحد هل يقع جميعها ويتبع الطلاق الطلاق أم لا؟ فذهب جمهور التابعين وكثير من

(2/275)


الصحابة وأئمة المذاهب الأربعة وطائفة من أهل البيت منهم أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - إلى أن الطلاق يتبع الطلاق، وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن الطلاق لا يتبع الطلاق بل يقع واحدة فقط، وإليه ذهب جماعة من المتأخرين منهم ابن تيمية وابن القيم وجماعة من المحققين، وذهب بعض الإمامية أنه لا يقع بالطلاق المتتابع شيء، وبه قال أبو عبيدة وبعض أهل الظاهر وسائر من يقول إن الطلاق البدعي لا يقع، وذهب جماعة من أصحاب ابن عباس وإسحق بن راهويه أن المطلقة إن كانت مدخولة وقعت الثلاث وإن لم تكن مدخولة فواحدة. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قال المصنف رحمه الله تعالى: وقد اختلف الناس في تأويل هذا الحديث، فذهب بعض التابعين إلى ظاهره، في حق من لم يدخل بها، كما دلت عليه رواية أبي داود. وتأوله بعضهم على صورة تكرير لفظ الطلاق، بأن يقول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. فإنه يلزمه واحدة، إذا قصد تكرير الإيقاع، فكان الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر على صدقهم، وسلامتهم، وقصدهم في الغالب الفضيلة والاختيار، لم يظهر فيهم خب ولا خداع، وكانوا يصدقون في إرادة التوكيد فلما رأى عمر في زمانه أمورًا ظهرت، وأحوالاً تغيرت، وفشا إيقاع الثلاث جملة، بلفظ لا يحتمل التأويل، ألزمهم الثلاث في صورة التكرير إذ صار الغالب عليهم قصدها، وقد أشار إليه بقوله: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناه. قال أحمد بن حنبل: كل أصحاب ابن عباس رووا عنه خلاف ما قال طاوس سعيد بن جبير، ومجاهد، ونافع عن ابن عباس بخلافه. وقال أبو داود، في سننه: صار قول ابن عباس فيما حدثنا أحمد بن صالح قال: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وعن محمد بن إياس أن ابن عباس وأبا هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص سئلوا عن البكر يطلقها زوجها ثلاثًا، فكلهم قال: لا يحل له حتى تنكح زوجًا غيره. قَالَ الشَّارِحُ: والحاصل أن القائلين بالتتابع قد استكثروا من الأجوبة ... على

(2/276)


حديث ابن عباس وكلها غير خارجة عن دائرة التعسف، والحق أحق بالاتباع. بَابُ مَا جَاءَ فِي كَلامِ الْهَازِلِ وَالْمُكْرَهِ وَالسَّكْرَانِ بِالطَّلاقِ وَغَيْرِهِ 3718- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلاقُ، وَالرَّجْعَةُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. 3719- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لا طَلاقَ، وَلا عَتَاقَ فِي إغْلاقٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. 3720- وَفِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ - فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ - أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي، قَالَ: «مِمَّ أُطَهِّرُكَ» ؟ قَالَ: مِنْ الزِّنَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَبِهِ جُنُونٌ» ؟ فَأُخْبِرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، فَقَالَ: «أَشَرِبَ خَمْرًا» ؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَزَنَيْت» ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَقَالَ عُثْمَانُ: لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلا لِسَكْرَانَ طَلاقٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَلاقُ السَّكْرَانِ وَالْمُسْتَكْرَهِ لَيْسَ بِجَائِزٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَنْ يُكْرِهُهُ اللُّصُوصُ فَيُطَلِّقُ: فَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ عَلِيٌّ: كُلُّ الطَّلاقِ جَائِزٌ إلا طَلاقَ الْمَعْتُوهِ، ذَكَرَهُنَّ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. وَعَنْ قُدَامَةَ بْنِ إبْرَاهِيمَ: أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ تَدَلَّى يَشْتَارُ عَسَلاً، فَأَقْبَلَتْ امْرَأَتُهُ فَجَلَسَتْ عَلَى الْحَبْلِ، فَقَالَتْ: لِيُطَلِّقْهَا ثَلاثًا وَإِلا قَطَعْتُ الْحَبْلَ، فَذَكَّرَهَا اللَّهَ وَالإِسْلامَ فَأَبَتْ، فَطَلَّقَهَا ثَلاثًا، ثُمَّ خَرَجَ إلَى عُمَرَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إلَى أَهْلِكَ فَلَيْسَ هَذَا بِطَلاقٍ. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلامٍ. قَوْلُهُ: «ثَلاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ» إلى آخره، قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ تَلَفَّظَ هَازِلاً بِلَفْظِ نِكَاحٍ أَوْ طَلاقٍ

(2/277)


أَوْ رَجْعَةٍ أَوْ عَتَاقٍ كَمَا فِي الأَحَادِيثِ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: «فِي إغْلاقٍ» فَسَّرَهُ عُلَمَاءُ الْغَرِيبِ بِالإِكْرَاهِ، وَقِيلَ: الْجُنُونُ. وَقِيلَ: الْغَضَبُ. وَرَدَّهُ ابنُ السَّيِّد فَقَال: لَوْ كَأنَ كَذَلِكَ لَمْ يَقَعْ عَلَى أَحَد طلاق لأَنَّ أَحَدًا لا يطلق حَتَّى يغضب. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الإِغْلاقُ: التَّضْيِيقُ. وقد اسْتَدَلُّ بهذا الحديث من قال: أنه لا يصح طَلاقِ المكره، وبه قال جماعة من أهل العلم ويؤيد ذلك حديث: «رفع عن أمتي الخطأ والنيسان وما استكرهوا عليه» واحتج عطاء بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} وقال: الشرك أعظم من الطَّلاقُ. قَوْلُهُ: «أبه جْنُونٍ» ؟ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الإقرار من الْمَجْنُونٍ لا يصح، وكذلك سائر التصرفات والإنشاءات ولا أحفظ في ذلك خلافًا. قَوْلُهُ: «أشرب خمرًا» ؟ فيه دليل أيضًا على أن إِقْرَار السَّكْرَان لا يصح وَكَأَنَّ الْمُصَنَّف رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَاسَ طَلاقُ السَّكْرَانَ عَلى إِقْرَارِه، وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْم فِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّكْرَان الَّذِي لا يَعْقِل لا حُكْمَ لِطَلاقِهِ لِعَدَمْ الْمَنَاط الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ الأَحْكَام، وَقَدْ عَيَّنَ الشَّارِعُ عُقُوبَتَهُ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُجَاوِزَهَا بِرَأْيِنَا. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَا جَاءَ فِي طَلاقِ الْعَبْدِ 3721- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَيِّدِي زَوَّجَنِي أَمَتَهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا؟ قَالَ: فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمِنْبَرَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يُزَوِّجُ عَبْدَهُ أَمَتَهُ، ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا؟ إنَّمَا الطَّلاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَالدَّارَقُطْنِيّ. 3722- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ مُعَتِّبٍ أَنَّ أَبَا حَسَنٍ - مَوْلَى بَنِي نَوْفَلٍ - أَخْبَرَهُ أَنَّهُ اسْتَفْتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فِي مَمْلُوكٍ تَحْتَهُ مَمْلُوكَةٌ فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَتَيْنِ، ثُمَّ عَتَقَا هَلْ يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَخْطُبَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَضَى بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ.

(2/278)


3723- وَفِي رِوَايَةٍ: بَقِيَتْ لَك وَاحِدَةٌ قَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَمَعْمَرٌ: لَقَدْ تَحَمَّلَ أَبُو حَسَنٍ هَذَا صَخْرَةً عَظِيمَةً. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ، فِي عَبْدٍ تَحْتَهُ مَمْلُوكَةٌ فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ عَتَقَا يَتَزَوَّجُهَا وَيَكُونُ عَلَى وَاحِدَةٍ عَلَى حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْمُعَتِّبٍ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَتَزَوَّجُهَا وَلا يُبَالِي فِي الْعِدَّةِ عِتْقًا أَوْ بَعْدَ الْعِدَّةِ. قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي سَلَمَةَ وَقَتَادَةَ. قَوْلُهُ: «إنَّمَا الطَّلاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ» قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَطُرُقُهُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِنْ كَانَ فِي إسْنَادِهِ مَا فِيهِ فَالْقُرْآنُ يُعَضِّدُهُ وَعَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: الْقُرْآنُ يُعَضِّدُهُ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى: {إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} وقَوْله تَعَالَى: {إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ} الآيَةَ. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنَّ طَلاقَ امْرَأَةِ الْعَبْدِ لا يَصِحُّ إلا مِنْهُ لا مِنْ سَيِّدِهِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يَقَعُ طَلاقُ السَّيِّدِ، وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَاسْتُدِلَّ أَيْضًا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الثَّانِي أَيْضًا أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ مِنْ الطَّلاقِ ثَلاثًا كَمَا يَمْلِكُ الْحُرُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهُ لا يَمْلِكُ مِنْ إلا اثْنَتَيْنِ، حُرَّةً كَانَتْ زَوْجَتُهُ أَوْ أَمَةً. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالنَّاصِرُ: إنَّهُ لا يَمْلِكُ فِي الأَمَةِ إلا اثْنَتَيْنِ لا فِي الْحُرَّةِ فَكَالْحُرِّ. انتهى. قال في المقنع: يملك إلى ثلاث طلقات وإن كان أمة ويملك العبد ثنتين ولو كان تحته حرة. وعنه أن الطلاق بالنساء. انتهى. قال الزركشي: وَالأَحَادِيثَ في هذا الباب ضعيفة، والذي يظهر من الآية الكريمة يعني قوله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} أن كل زوج يملك الثلاث مطلقًا، في الإنصاف: وهو قوي في النظر. بَابُ مَنْ عَلَّقَ الطَّلاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ 3724- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا نَذْرَ لِابْنِ آدَمَ فِيمَا لا يَمْلِكُ، وَلا عِتْقَ لَهُ فِيمَا لا يَمْلِكُ، وَلا طَلاقَ لَهُ فِيمَا لا يَمْلِكُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَهُوَ أَحْسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ.

(2/279)


3725- وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ فِيهِ: «وَلا وَفَاءَ نَذْرٍ إلا فِيمَا يَمْلِكُ» . 3726- وَلِابْنِ مَاجَةْ مِنْهُ: «لا طَلاقَ فِيمَا لا يَمْلِكُ» . 3727- وَعَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا طَلاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ، وَلا عِتْقَ قَبْلَ مِلْكٍ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ وَقَعَ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لا يَقَعُ الطَّلاقُ النَّاجِزُ عَلَى الأَجْنَبِيَّةِ. وَأَمَّا التَّعْلِيقُ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: إنْ تَزَوَّجْتُ فُلانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ؛ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إلَى أَنَّهُ لا يَقَعُ. بَابُ الطَّلاقِ بِالْكِنَايَاتِ إذَا نَوَاهُ بِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ 3728- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاخْتَرْنَاهُ فَلَمْ يَعُدَّهَا شَيْئًا. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 3729- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ: لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ بَدَأَ بِي، فَقَالَ: «إنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلا عَلَيْكِ أَنْ لا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ» . قَالَتْ: وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا لِيَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ، قَالَتْ: ثُمَّ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ لِي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} الآيَةَ {وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ} » . الآيَةَ قَالَتْ: فَقُلْت: فِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ، قَالَتْ: ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَ مَا فَعَلْتُ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا أَبَا دَاوُد. 3730- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَدَنَا مِنْهَا قَالَتْ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ لَهَا: «لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ: الْكِلابِيَّةَ بَدَلَ ابْنَةِ الْجَوْنِ. وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ يَرَى لَفْظَةَ الْخِيَارِ وَالْحَقِي بِأَهْلِكِ وَاحِدَةً لا ثَلاثًا؛ لأَنَّ جَمْعَ الثَّلاثِ يُكْرَهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ لا يَفْعَلُهُ. 3731- وَفِي حَدِيثِ تَخَلُّفِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا مَضَتْ أَرْبَعُونَ

(2/280)


مِنْ الْخَمْسِينَ وَاسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ، وَإِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْتِينِي، فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ، فَقُلْت: أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ قَالَ: بَلْ اعْتَزِلْهَا فَلا تَقْرَبَنَّهَا، قَالَ: فَقُلْت لِامْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِكِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3732- وَيُذْكَرُ فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ هَكَذَا وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا» . يَعْنِي ثَلاثِينَ، ثُمَّ قَالَ: «وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» . يَعْنِي تِسْعًا وَعِشْرِينَ، يَقُولُ: مَرَّةً ثَلاثِينَ، وَمَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3733- وَيُذْكَرُ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ قَالَ لِغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، وَطَالِقٌ، أَوْ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ مَا رَوَى حُذَيْفَةُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلانٌ، وَقُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلانٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَلابْنِ مَاجَةْ مَعْنَاهُ. 3734- وَعَنْ قُتَيْلَةَ بِنْتِ صَيْفِيٍّ قَالَتْ: أَتَى حَبْرٌ مِنْ الأَحْبَارِ إلَى ... رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ نِعْمَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ لَوْلا أَنَّكُمْ تَجْعَلُونَ لِلَّهِ نِدًّا. قَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا ذَاكَ» ؟ قَالَ: تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت، قَالَ: فَأَمْهَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا ثُمَّ قَالَ: «إنَّهُ قَدْ قَالَ، فَمَنْ قَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ فَلِيَفْصِلْ بَيْنَهُمَا ثُمَّ شِئْت» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3735- وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ، قُلْ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 3736- وَيُذْكَرُ فِيمَنْ طَلَّقَ بِقَلْبِهِ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ بِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَعُدَّهَا شَيْئًا) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْعَيْنِ مِنْ الْعَدَدِ. وَفِي رِوَايَةٍ: (فَلَمْ يَعْتدْ) مِنْ الاعْتِدَادِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: (فَلَمْ يَعُدَّهُ طَلاقًا) وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ قَالَ: إنَّهُ لا يَقَعُ بِالتَّخْيِيرِ

(2/281)


شَيْءٌ إذَا اخْتَارَتْ الزَّوْجَةُ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَفُقَهَاءُ الأَمْصَارِ، وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا هَلْ يَقَعُ طَلْقَةً وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنَةً أَوْ يَقَعُ ثَلاثًا؟ فَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - أَنَّهَا إنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةً بَائِنَةً، وَإِنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةً رَجْعِيَّةً. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: إنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَثَلاث، وَإِنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةً بَائِنَةً وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ: إنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةً بَائِنَةً. وَعَنْهُمَا: رَجْعِيَّةً، وَإِنَّ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلا شَيْءَ. وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ الْجُمْهُورِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ التَّخْيِيرَ تَرْدِيدٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، فَلَوْ كَانَ اخْتِيَارُهَا لِزَوْجِهَا طَلاقًا لاتَّحَدَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اخْتِيَارَهَا لِنَفْسِهَا بِمَعْنَى الْفِرَاقِ، وَاخْتِيَارَهَا لِزَوْجِهَا بِمَعْنَى الْبَقَاءِ فِي الْعِصْمَةِ. إلى أن قال: وَأَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ فِيمَا إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةً بَائِنَةً. انتهى. قال في المقنع: فإن قال اختاري نفسك لم يكن لها أن تطلق أكثر من واحدة إلا أن يجعل إليها أكثر من ذلك، وليس لها أن تطلق إلا ما دامت في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه إلا أن يجعل إليها أكثر من ذلك فإن جعل لها الخيار اليوم كله أو جعل أمرها بيدها فردته أو رجع فيه أو وطئها بطل خيارها، هذا المذهب. قال في الحاشية: وليس لها أن تطلق إلا ما دامت في المجلس إلى آخره، وهذا المذهب وبه قال أكثر أهل العلم. قَوْلُهُ: «الْحَقِي بِأَهْلِكِ» وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ

(2/282)


لِامْرَأَتِهِ: الْحَقِي بِأَهْلِكِ، وَأَرَادَ الطَّلاقَ، طَلُقَتْ، فَإِنْ لَمْ يُرِدْ الطَّلاقَ لَمْ تَطْلُقْ فَيَكُونُ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلاقِ لأَنَّ التَّصْرِيحَ لا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْعِتْرَةِ. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي إخْبَارِهِ - صلى الله عليه وسلم - بِعَدَدِ الشَّهْرِ تَقَدَّمَ فِي الصِّيَامِ وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ هَا هُنَا لِلاسْتِدْلالِ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الْعَدَدِ بِالإِشَارَةِ بِالأَصَابِعِ وَاعْتِبَارِهِ مِنْ دُونِ تَلَفُّظٍ بِاللِّسَانِ، فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتَ طَالِقٌ هَكَذَا وَأَشَارَ بِثَلاثٍ مِنْ أَصَابِعِهِ كَانَ ذَلِكَ ثَلاثًا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الطَّلاقَ يَتْبَعُ الطَّلاقَ. وَأَوْرَدَ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ وَحَدِيثَ قُتَيْلَةَ لِلاسْتِدْلالِ بِهِمَا عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ، كَانَ كَالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ لأَنَّ الْمَحَلَّ لا يَقْبَلُ غَيْرَهَا فَتَكُونُ الثَّانِيَةُ لَغْوًا، بِخِلافِ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ، وَقَعَتْ عَلَيْهَا الطَّلْقَةُ الأُولَى فِي الْحَالِ، وَوَقَعَتْ عَلَيْهَا الثَّانِيَةُ بَعْدَ أَنْ تَصِيرَ قَابِلَةً لَهَا، وَذَلِكَ لأَنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ فَكَأَنَّهُ إذَا جَاءَ بِهَا مُوقِعٌ لِمَجْمُوعِ الطَّلاقَيْنِ عَلَيْهَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، بِخِلافِ (ثُمَّ) فَإِنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ مَعَ تَرَاخٍ، فَيَصِيرُ الزَّوْجُ فِي حُكْمِ الْمُوقِعِ لِطَلاقٍ بَعْدَهُ طَلاقٌ مُتَرَاخٍ عَنْهُ. إِلَى أَنْ قَالَ: هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي بَيَانِ وَجْهِ اسْتِدْلالِ الْمُصَنِّفِ بِحَدِيثَيْ الْمَشِيئَةِ وَحَدِيثِ الْخُطْبَةِ. انتهى. قَالَ فِي الْمُقْنِعِ: إِذَا قَالَ لِمَدْخُولٌ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ إِلا أَنْ يَنْوِي بِالثَّانِيةِ الْتَأْكِيد أَوْ إِفْهَامهَا، وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ، أَوْ ثُمَّ طَالِقٌ، أَوْ بَلْ طَالِقٌ، أَوْ طَالِقٌ طَلْقَة بَلْ طَلْقَتَيْنِ، أَوْ بَلْ طَلْقَة، أَوْ طَالِق طَلْقَة بَعْدَهَا طَلْقَة، أَوْ قَبْل طَلْقَة، طلقت طَلْقَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٌ بِهَا بَانَتْ بِالأُولَى وَلَمْ يَلْزِمْهُ مَا بَعْدَهَا، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَة مَعَهَا طَلْقَة، أَوْ مَعَ طَلْقَةٍ، أَوْ طَالِق وَطَالِق طلقت طَلْقَتَيْنِ. انْتَهَى. قَالَ فِي الْحَاشِيةِ: قَوْلُهُ: أَوْ طَالِق وَطَالِق هَذَا الْمَذْهَبُ، وَكَذَا إِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِق وَطَالِق طلقت ثَلاثًا، وَسَوَاء فِي ذَلِكَ الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرِهَا. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالأَوْزَاعِيُّ وَالليْثُ وَرَبِيعَةُ. وَابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَقَالَ الْثَوْرِي وَالشَّافِعِيُّ: لا يَقَعُ إِلا وَاحِدَة لأَنَّهُ أَوْقَعَ الأَوُلَى قَبْل الثَّانِية، فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْء آخَر، وَلأَنَّ الْوَاو تَقْتَضِي الْجَمْع وَلا تَرْتِيب فِيهَا فَيَكُون موقعًا لِلثَّلاثِ جَمِيعًا فَيَقَعْنَ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاثًا أَوْ طَلْقَة مَعَهَا طَلْقَتَانِ، وَيفَارق مَا إِذَا فَرَّقَهَا فَإِنَّهَا لا تَقَع جَمِيعهَا. انْتَهَى. وَبِهَذَا يَظْهَرُ مُرَادُ الْمُصَنَّفِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَأَوْرَدَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ لِلاسْتِدْلالِ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَلْفِظْ بِلِسَانِهِ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ حُكْمُ الطَّلاقِ؛ لأَنَّ خَطَرَاتِ الْقَلْبِ مَغْفُورَةٌ لِلْعِبَادِ إذَا كَانَتْ فِيمَا فِيهِ ذَنْبٌ، فَكَذَلِكَ لا يَلْزَمُ حُكْمًا فِي الأُمُورِ الْمُبَاحَةِ، فَلا يَكُونُ حُكْمُ خُطُورِ الطَّلاقِ بِالْقَلْبِ أَوْ إرَادَتِهِ حُكْمَ التَّلَفُّظِ بِهِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الإِنْشَاءَاتِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إخْرَاجِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا لَفْظُهُ: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ الرَّجُلَ إذَا حَدَّثَ نَفْسَهُ بِالطَّلاقِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِهِ. انْتَهَى. وَاللهُ أَعْلَمُ.

(2/283)


 كِتَابُ الْخُلْعِ

3737- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلا دِينٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الإِسْلامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ» ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. 3738- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَمِيلَةَ بِنْتَ سَلُولَ أَتَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا أَعْتِبُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلا خُلُقٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الإِسْلامِ، لا أُطِيقُهُ بُغْضًا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ» ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا حَدِيقَتَهُ وَلا يَزْدَادَ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. 3739- وَعَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ فَكَسَرَ يَدَهَا وَهِيَ جَمِيلَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَأَتَى أَخُوهَا يَشْتَكِيهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى ثَابِتٍ، فَقَالَ لَهُ: «خُذْ الَّذِي لَهَا عَلَيْكَ وَخَلِّ سَبِيلَهَا» ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تَتَرَبَّصَ حَيْضَةً وَاحِدَةً وَتَلْحَقَ بِأَهْلِهَا. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 3740- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. 3741- وَعَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -،

(2/284)


فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ أُمِرَتْ - أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثُ الرُّبَيِّعِ الصَّحِيحُ أَنَّهَا أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ. 3742- وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ كَانَتْ عِنْدَهُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، وَكَانَ أَصْدَقَهَا حَدِيقَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ الَّتِي أَعْطَاكِ» ؟ قَالَتْ: نَعَمْ وَزِيَادَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلا وَلَكِنْ حَدِيقَتَهُ» ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخَذَهَا لَهُ وَخَلَّى سَبِيلَهَا؛ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ: قَدْ قَبِلْت قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَقَالَ: سَمِعَهُ أَبُو الزُّبَيْرِ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابن عَبَّاس والرَّبِيع أَنَّ اسْمَهَا جَمِيلة وَوَقَعَ فِي رِوَايَة لأَبِي الزُّبَيْر أَنَّ اسْمَهَا زَيْنَب. وَالرِّوَايَةُ الأُولَى أَصَحُّ وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي حَدِيث ابن عَبَّاس أَنَّهَا بِنْت سَلُول وَوَقَعَ فِي رِوَايَة لِلْبُخَارِي أَنَّهَا بِنْتُ أُبَي فَقِيل: إِنَّهَا أُخْتُ عَبْدُ اللهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابنُ الأَثِير وَتَبِعَهُ النَّوَوِي وَجَزَمَا بِأَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا بِنْتُ عَبْدُ اللهِ وَهم. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ) قَالَ فِي الْفَتْحِ: هُوَ أَمْرُ إرْشَادٍ وَإِصْلاحٍ لا إيجَابٍ. وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَدُلُّ عَلَى صَرْفِ الأَمْرِ عَنْ حَقِيقَتِهِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَخْذٌ الْعِوَضِ مِنْ الْمَرْأَةِ إذَا كَرِهَتْ الْبَقَاءَ مَعَهُ. قَوْلُهُ: «تَتَرَبَّصَ حَيْضَةً» اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ مَنْ قَالَ: إنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ لا طَلاق. لَوْ كَانَ طَلاقًا لَمْ يَقْتَصِرْ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الأَمْرِ بِحَيْضَةٍ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ... {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} ثُمَّ ذَكَرَ الِافْتِدَاءَ ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ طَلاقٌ بِمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ مِنْ أَمْرِهِ - صلى الله عليه وسلم - لِثَابِتٍ بِالطَّلاقِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ الْمَرْأَةِ صَاحِبَةِ الْقِصَّةِ عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ بِلَفْظِ: «وَخَلِّ سَبِيلَهَا» وَصَاحِبُ الْقِصَّةِ أَعْرَفُ بِهَا، وَأَيْضًا ثَبَتَ الأَمْرِ بِتَخْلِيَةِ السَّبِيلِ مِنْ حَدِيثِ الرُّبَيِّعِ وَأَبِي الزُّبَيْرِ وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَبِلَفْظِ: «وَفَارِقْهَا» وَمِنْ حَدِيثِ الرُّبَيِّعِ عِنْدِ النَّسَائِيّ بِلَفْظِ: «وَتَلْحَقَ بِأَهْلِهَا» وَرِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ أَرْجَحُ مِنْ رِوَايَةِ الْوَاحِدِ.

(2/285)


قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِدُونِ ذِكْرِ الطَّلاقِ وَابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ جُمْلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ فَسْخٌ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: «أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلا» اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ مَنْ قَالَ: إنَّ الْعِوَضَ مِنْ الزَّوْجَةِ لا يَكُونُ إلا بِمِقْدَارِ مَا دَفَعَ إلَيْهَا الزَّوْجُ لا بِأَكْثَرَ مِنْهُ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا عِنْدَ ابْنِ مَاجَةْ وَالْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ... النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا وَلا يَزْدَادَ. وَفِي رِوَايَةِ وَكَرِهَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى.

(2/286)


 كِتَابُ الرَّجْعَةِ

وَالإِبَاحَةِ لِلزَّوْجِ الأَوَّلِ 3743- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} الآيَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلاثًا فَنَسَخَ ذَلِكَ {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} الآيَةَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 3744- وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّاسُ وَالرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ مَا شَاءَ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَهِيَ امْرَأَتُهُ إذَا ارْتَجَعَهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ طَلَّقَهَا مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ حَتَّى قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ: وَاَللَّهِ لا أُطَلِّقُكِ فَتَبِينِي مِنِّي، وَلا آوِيكِ أَبَدًا، قَالَتْ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أُطَلِّقُكِ، فَكُلَّمَا هَمَّتْ عِدَّتُكِ أَنْ تَنْقَضِيَ رَاجَعْتُكِ، فَذَهَبَتْ الْمَرْأَةُ حَتَّى دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ فَأَخْبَرَتْهَا فَسَكَتَتْ عَائِشَةُ حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَتْهُ، فَسَكَتَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} قَالَتْ عَائِشَةُ: فَاسْتَأْنَفَ النَّاسُ الطَّلاقَ مُسْتَقْبَلًا مَنْ كَانَ طَلَّقَ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ طَلَّقَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. 3745- وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عُرْوَةَ مُرْسَلاً وَذَكَر أَنَّهُ أَصَحُّ. وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يَقَعُ بِهَا وَلَمْ يُشْهِدْ عَلَى طَلاقِهَا وَلا عَلَى رَجِعَتِهَا، فَقَالَ: طَلَّقْتَ لِغَيْرِ سُنَّةٍ، وَرَاجَعْتَ لِغَيْرِ سُنَّةٍ، أَشْهِدْ عَلَى طَلاقِهَا وَعَلَى رَجْعَتِهَا وَلا تَعُدْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ وَلَمْ يَقُلْ: وَلا تَعُدْ.

(2/287)


3746- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلاقِي، فَتَزَوَّجْت بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ ابْنَ الزَّبِيرِ، وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هَدْبَةِ الثَّوْبِ فَقَالَ: «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ؟ لا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 3747- لَكِنْ لأَبِي دَاوُد مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الزَّوْجَيْنِ. 3748- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْعُسَيْلَةُ هِيَ الْجِمَاعُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 3749- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثَلاثًا وَيَتَزَوَّجُهَا آخَرُ فَيُغْلِقُ الْبَابَ وَيُرْخِي السِّتْرَ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، هَلْ تَحِلُّ لِلأَوَّلِ؟ قَالَ: «لا، حَتَّى يَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3750- وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ: قَالَ: «لا تَحِلُّ لِلأَوَّلِ حَتَّى يُجَامِعَهَا الآخَرُ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَا يَكُونُ بِهِ الرَّجُلُ مُرَاجِعًا، فَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: إذَا جَامَعَهَا فَقَدْ رَاجَعَهَا. وَمِثْلُهُ أَيْضًا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَإِسْحَاقُ: بِشَرْطِ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الرَّجْعَةَ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ كَالأَوْزَاعِيِّ وَزَادُوا: وَلَوْ لَمَسَهَا لِشَهْوَةٍ، أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا لِشَهْوَةٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لا تَكُونُ الرَّجْعَةُ إلا بِالْكَلامِ. وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الطَّلاقَ يُزِيلُ النِّكَاحَ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الإِمَامُ يَحْيَى، وَالظَّاهِرُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الأَوَّلُونَ، لأَنَّ الْعِدَّةَ مُدَّةُ خِيَارٍ، وَالاخْتِيَارُ يَصِحُّ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الضِّرَارِ فِي الرَّجْعَةِ لأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ} وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ فَاسِدٌ فَسَادًا يُرَادِفُ الْبُطْلانَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً} فَكُلُّ رَجْعَةٍ لا يُرَادُ بِهَا الإِصْلاحُ لَيْسَتْ بِرَجْعَةٍ شَرْعِيَّةٍ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ بحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الإِشْهَادِ عَلَى الرَّجْعَةِ. وَقَدْ ذَهَبَ إلَى عَدَمِ وُجُوبه أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَمِنْ الأَدِلَّةِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الإِشْهَادِ فِي

(2/288)


الطَّلاقِ وَالرَّجْعَةُ قَرِينَتُهُ وَالْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ يَقُولُونَ بِالِاسْتِحْبَابِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ الشَّارِحُ: وَاسْتُدِلَّ بحَدِيثِ عَائِشَةَ عَلَى أَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ الثَّانِي لا يَكُونُ مُحَلِّلًا ارْتِجَاعَ الزَّوْجِ الأَوَّلِ لِلْمَرْأَةِ إلا إنْ كَانَ حَالَ وَطْئِهِ مُنْتَشِرًا، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ أَوْ كَانَ عِنِّينًا أَوْ طِفْلًا لَمْ يَكْفِ عَلَى الأَصَحِّ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

(2/289)


 كِتَابُ الإِيلاءُ

3751- عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ نِسَائِهِ وَحَرَّمَ، فَجَعَلَ الْحَرَامَ حَلالًا وَجَعَلَ فِي الْيَمِينِ الْكَفَّارَةَ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا وَأَنَّهُ أَصَحُّ. 3752- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يُوقَفُ حَتَّى يُطَلِّقَ وَلا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلاقُ حَتَّى يُطَلِّقَ، يَعْنَى الْمُولِيَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ: وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَأَبِي الدَّرْدَاءَ، وَعَائِشَةَ، وَاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: قَالَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابن عُمَرَ: يُوقَفُ الْمُولِي بَعْدَ الأَرْبَعَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَفِيءَ وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ. وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: أَدْرَكْت بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ ... النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كُلُّهُمْ يَقِفُونَ الْمُولِيَ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَعَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْت اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ رَجُلٍ يُولِي، قَالُوا: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَيُوقَفُ، فَإِنْ فَاءَ وَإِلا طَلَّقَ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (آلَى) الإِيلاءُ فِي اللُّغَةِ: الْحَلِفُ. وَفِي الشَّرْعِ: الْحَلِفُ الْوَاقِعُ مِنْ الزَّوْجِ أَنْ لا يَطَأَ زَوْجَتَهُ. قَوْلُهُ: (وَحَرَّمَ) فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ الَّذِي حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى نَفْسِهِ

(2/290)


هُوَ الْعَسَلُ. وَقِيلَ: تَحْرِيمُ مَارِيَةَ وَرَوَى ابْنُ مَرْدُوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ مَا يُفِيدُ الْجَمْعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَمُدَّةُ إيلائِهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ نِسَائِهِ شَهْرٌ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ مُدَّةِ الإِيلاءِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا قَالُوا: فَإِنْ حَلَفَ عَلَى أَنْقَصَ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ إيلاءُ الْجَاهِلِيَّةِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، فَوَقَّتَ اللَّهُ لَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَمَنْ كَانَ إيلاؤُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيْسَ بِإِيلاءٍ، وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ الزَّوْجَ لا يُطَالَبُ بِالْفَيْءِ قَبْلَ مُضِيِّ الأَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ، إلَى أَنَّ الطَّلاقَ الْوَاقِعَ مِنْ الزَّوْجِ فِي الإِيلاءِ يَكُونُ رَجْعِيًّا، وَهَكَذَا عِنْدَ مَنْ قَالَ: إنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ يَكُونُ طَلاقًا وَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْ وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهَا إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَفِئْ طَلُقَتْ طَلْقَةً بَائِنَةً. انْتَهَى ملخصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَإِذَا لَمْ يَفِئْ وَطَلَّقَ بَعْدَ الْمُدًّة أَوْ طَلَّقَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ لَمْ يَقَعْ إِلا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّة، وَهُوَ الَّذِي يَدُلًُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، فَإِذَا رَاجَعَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَطَأَ عَقِبَ هَذِهِ الرَّجْعَة إِذَا طَلَبَتْ ذَلِكَ مِنْهُ، وَلا يمكن مِنَ الرّجْعَةِ إِلا بِهَذَا الشَّرْطِ، وَلأَنَّ اللهَ إِنَّمَا جَعَلَ الرَّجْعَةَ لِمَنْ أَرَادَ إِصْلاحًا بِقَوْلِهِ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً} . انْتَهَى.

(2/291)


 كِتَابُ الظِّهَارِ

3753- عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ قَالَ: كُنْتُ امْرَأً قَدْ أُوتِيتُ مِنْ جِمَاعِ النِّسَاءِ مَا لَمْ يُؤْتَ غَيْرِي، فَلَمَّا دَخَلَ رَمَضَانُ ظَاهَرْتُ مِنْ امْرَأَتِي حَتَّى يَنْسَلِخَ رَمَضَانُ فَرَقًا مِنْ أَنْ أُصِيبَ فِي لَيْلَتِي شَيْئًا فَأَتَتَايَعَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنْ يُدْرِكَنِي النَّهَارُ وَأَنَا لا أَقْدِرُ أَنْ أَنْزِعَ، فَبَيْنَا هِيَ تَخْدُمُنِي مِنْ اللَّيْلِ إذْ تَكَشَّفَ إلَيَّ مِنْهَا شَيْءٌ، فَوَثَبْتُ عَلَيْهَا، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْت عَلَى قَوْمِي فَأَخْبَرْتُهُمْ خَبَرِي وَقُلْت لَهُمْ: انْطَلِقُوا مَعِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأُخْبِرَهُ بِأَمْرِي، فَقَالُوا: وَاَللَّهِ لا نَفْعَلُ نَتَخَوَّفُ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا قُرْآنٌ أَوْ يَقُولَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَقَالَةً يَبْقَى عَلَيْنَا عَارُهَا، وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ، فَخَرَجْتُ حَتَّى أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، فَقَالَ لِي: «أَنْتَ بِذَاكَ» ؟ فَقُلْت: أَنَا بِذَاكَ، فَقَالَ: «أَنْتَ بِذَاكَ» ؟ قُلْت: أَنَا بِذَاكَ، فَقَالَ: «أَنْتَ بِذَاكَ» ؟ قُلْت: نَعَمْ هَا أَنَا ذَا فَامْضِ فِي حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَأَنَا صَابِرٌ. قَالَ: «أَعْتِقْ رَقَبَةً» . فَضَرَبْتُ صَفْحَةَ رَقَبَتِي بِيَدِي وَقُلْت: لا وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَصْبَحْتُ أَمْلِكُ غَيْرَهَا، قَالَ: «فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ» . قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي إلا فِي الصَّوْمِ؟ قَالَ: «فَتَصَدَّقْ» . قَالَ: قُلْت: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ بِتْنَا لَيْلَتَنَا وَحْشًا مَا لَنَا عَشَاءٌ، قَالَ: «اذْهَبْ إلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ فَقُلْ لَهُ فَلْيَدْفَعْهَا إلَيْكَ فَأَطْعِمْ عَنْكَ مِنْهَا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ سِتِّينَ مِسْكِينًا، ثُمَّ اسْتَعِنْ بِسَائِرِهِ عَلَيْكَ وَعَلَى عِيَالِكَ» . قَالَ: فَرَجَعْتُ إلَى قَوْمِي فَقُلْت: وَجَدْتُ عِنْدَكُمْ الضِّيقَ وَسُوءَ الرَّأْيِ، وَوَجَدْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - السَّعَةَ وَالْبَرَكَةَ، وَقَدْ أَمَرَ لِي بِصَدَقَتِكُمْ فَادْفَعُوهَا إلَيَّ، فَدَفَعُوهَا إلَيَّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد

(2/292)


وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. 3754- وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمُظَاهِرِ يُوَاقِعُ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ، قَالَ: «كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ. 3755- وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَعْطَاهُ مِكْتَلًا فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، فَقَالَ: «أَطْعِمْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَذَلِكَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ ... مُدٌّ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَلِلتِّرْمِذِيِّ مَعْنَاهُ. 3756- وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي ظَاهَرْتُ مِنْ امْرَأَتِي فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أُكَفِّرَ، قَالَ: «مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ» ؟ قَالَ: رَأَيْت خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ، قَالَ: «فَلا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا أَحْمَدَ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَهُوَ حُجَّةٌ فِي تَحْرِيمِ الْوَطْءِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ بِالإِطْعَامِ وَغَيْرِهِ. 3757- وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضًا عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلاً وَقَالَ فِيهِ: «فَاعْتَزِلْهَا حَتَّى تَقْضِيَ مَا عَلَيْكَ» . وَهُوَ حُجَّةٌ فِي ثُبُوتِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فِي الذِّمَّةِ. 3758- وَعَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَتْ: ظَاهَرَ مِنِّي أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ، فَجِئْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَشْكُو إلَيْهِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُجَادِلُنِي فِيهِ وَيَقُولُ: «اتَّقِي اللَّهَ فَإِنَّهُ ابْنُ عَمِّك» . فَمَا بَرِحَ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إلَى الْفَرْضِ فَقَالَ: «يُعْتِقُ رَقَبَةً» . قَالَتْ: لا يَجِدُ، قَالَ: «فَيَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ» . قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ، قَالَ: «فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا» . قَالَتْ: مَا عِنْدَهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَصَدَّقُ بِهِ، قَالَ: «فَإِنِّي سَأُعِينه بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ» . قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ، قَالَ: «قَدْ أَحْسَنْت اذْهَبِي فَأَطْعِمِي بِهِمَا عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَارْجِعِي إلَى ابْنِ عَمِّك» . وَالْعَرَقُ سِتُّونَ صَاعًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 3759- وَلأَحْمَدَ مَعْنَاهُ لَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ قَدْرَ الْعَرَقِ وَقَالَ فِيهِ: «فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ» .

(2/293)


3760- وَلأَبِي دَاوُد فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَالْعَرَقُ مِكْتَلٌ يَسَعُ ثَلاثِينَ صَاعًا. وَقَالَ: هَذَا أَصَحُّ. 3761- وَلَهُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَوْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَعْطَاهُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا. وَهَذَا مُرْسَلٌ. قَالَ أَبُو دَاوُد: عَطَاءٌ لَمْ يُدْرِكْ أَوْسًا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (ظَاهَرْتُ مِنْ امْرَأَتِي) الظِّهَارُ هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ الظِّهَارَ مُخْتَصُّ بِالأُمِّ كَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ. فَلَوْ قَالَ: كَظَهْرِ أُخْتِي، مَثَلًا لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ ظِهَارٌ وَحَكَي فِي الْبَحْرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَالنَّاصِرِ وَالإِمَامِ يَحْيَى وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ أَنَّهُ يُقَاسُ الْمَحَارِمُ عَلَى الأُمِّ وَلَوْ مِنْ رَضَاعٍ، إذْ الْعِلَّةُ التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ. قَوْلُهُ: «سِتِّينَ مِسْكِينًا» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجْزِئ مَنْ لَمْ يَجِدْ رَقَبَةً وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الصِّيَامِ لِعِلَّةِ أَنْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا. وَقَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِ حَدِيثِ الْبَابِ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْهَادَوِيَّةُ وَالْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ، فَقَالُوا: الْوَاجِبُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ ذُرَةٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ زَبِيبٍ أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا: إنَّ الْوَاجِبَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ، وَتَمَسَّكُوا بِالرِّوَايَاتِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْعَرَقِ وَتَقْدِيرُهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لا تَسْقُطُ بِالْعَجْزِ عَنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا لأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَعَانَهُ بِمَا يُكَفِّرُ بِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى السُّقُوطِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى التَّفْصِيلِ فَقَالُوا: تَسْقُطُ كَفَّارَةُ صَوْمِ رَمَضَانَ لا غَيْرُهَا مِنْ الْكَفَّارَاتِ. قَوْلُهُ: (وَالْعَرَقُ سِتُّونَ صَاعًا) هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَفَرَّدَ بِهَا مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: لا يُعْرَفُ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَفِيهَا أَيْضًا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ عَنْعَنَ، وَالْمَشْهُورُ عُرْفًا أَنَّ الْعَرَقَ يَسَعُ خَمْسَةَ عَشْرَ صَاعًا كَمَا رَوَى ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ نَفْسِهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/294)


بَابُ مَنْ حَرَّمَ زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ 3762- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَهِيَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا وَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ: أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنِّي جَعَلْت امْرَأَتِي عَلَيَّ حَرَامًا، فَقَالَ: كَذَبْت، لَيْسَتْ عَلَيْك بِحَرَامٍ، ثُمَّ تَلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك} عَلَيْكَ أَغْلَظُ الْكَفَّارَةِ عِتْقُ رَقَبَةٍ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 3763- وَعَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا، فَلَمْ تَزَلْ بِهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ حَتَّى حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلَى آخِرِ الآيَةِ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا، فَإِنْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا عَلَى أَقْوَالٍ: الْمَذْهَبُ الأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ لَغْوٌ وَبَاطِلٌ لا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مَسْرُوقٌ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ وَدَاوُد وَجَمِيعُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الْمَالِكِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ أَصْبَغُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهَا ثَلاثُ تَطْلِيقَاتٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا بِهَذَا الْقَوْلِ حَرَامٌ عَلَيْهِ. الرَّابِعُ: الْوَقْفُ فِيهَا. الْخَامِسُ: إنْ نَوَى بِهِ الطَّلاقَ فَهُوَ طَلاقٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ كَانَ يَمِينًا، وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ الْحَسَنِ، وَحَكَاهُ فِي الْفَتْحِ عَنْ النَّخَعِيّ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ كِنَايَةٌ فِي الطَّلاقِ فَإِنْ نَوَاهُ كَانَ طَلاقًا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ كَانَ يَمِينًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلَى قَوْلِهِ: {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} . السَّادِسُ: أَنَّهُ إنْ نَوَى الثَّلاثَ فَثَلاثٌ وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَإِنْ نَوَى يَمِينًا فَهُوَ يَمِينٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهُوَ كَذْبَةٌ لا شَيْءَ فِيهَا، قَالَهُ سُفْيَانُ: وَحَكَاهُ النَّخَعِيّ عَنْ أَصْحَابِهِ. السَّابِعُ: مِثْلُ هَذَا إلا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهُوَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فَإِذَا نَوَى بِهِ الطَّلاقَ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا. الثَّامِنُ: مِثْلُ هَذَا إلا أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَوَاحِدَةٌ بَائِنًا. التَّاسِعُ: أَنَّ فِيهِ كَفَّارَةَ ظِهَارٍ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: صَحَّ عَنْ

(2/295)


ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي قِلابَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ التَّشْبِيهَ بِمَنْ تُحَرَّمُ عَلَيْهِ ظِهَارًا فَالتَّصْرِيحُ بِالتَّحْرِيمِ أَوْلَى. الْعَاشِرُ: أَنَّهَا تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَوْلُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُفْيان شَيْخِ أَبِي حَنِيفَةَ. الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّهُ يَنْوِي مَا أَرَادَ مِنْ ذَلِكَ فِي إرَادَةِ أَصْلِ الطَّلاقِ وَعَدَدِهِ وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمًا بِغَيْرِ طَلاقٍ فَيَمِينٌ مُكَفَّرَةٌ. الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّهُ يَنْوِي أَيْضًا مَا شَاءَ مِنْ عَدَدِ الطَّلاقِ، إلا أَنَّهُ إذَا نَوَى وَاحِدَةً كَانَتْ بَائِنَةً، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَإِيلاءٌ، وَإِنْ نَوَى الْكَذِبَ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ هَكَذَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: صَحَّ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَنَافِعٍ وَالأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَخَلْقٍ سِوَاهُمْ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فَرْضَ تَحِلَّةِ الأَيْمَانِ عَقِبَ تَحْرِيمِ الْحَلالِ. الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهُ يَمِينٌ مُغَلَّظَةٌ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: صَحَّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ. الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّهُ طَلاقٌ، ثُمَّ إنَّهَا إنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا فَهُوَ مَا نَوَاهُ مِنْ الْوَاحِدَةِ فَمَا فَوْقَهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولاً بِهَا فَهُوَ ثَلاثٌ، وَإِنْ نَوَى أَقَلَّ مِنْهَا وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ فِي نِهَايَةِ الْمُجْتَهِدِ عَنْ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ رَجَّحَ الْمَذْهَبَ الأَوَّلَ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدِي إذَا أَرَادَ تَحْرِيمَ الْعَيْنِ، وَأَمَّا إذَا أَرَادَ بِهِ الطَّلاقَ فَلَيْسَ فِي الأَدِلَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ وُقُوعِهِ بِهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قلت: والراجح أن الرجل إذا حرم زوجته فهو على نيته، فإن نوى ظهارًا فهو ظهار، وإن نوى طلاقًا فهو طلاق، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» . وإن لم ينو ظهارًا ولا طلاقًا فهو يمين. والله أعلم.

(2/296)


 كِتَابُ اللِّعَانِ

3764- عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلاً لاعَنَ امْرَأَتَهُ وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 3765- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، الْمُتَلاعِنَانِ أَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! نَعَمْ إنَّ أَوَّلَ مَنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فُلانُ بْنُ فُلانٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت لَوْ وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ إنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، قَالَ: فَسَكَتَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُجِبْهُ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُ فَقَالَ: إنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ اُبْتُلِيتُ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلاءِ الآيَاتِ فِي سُورَةِ النُّورِ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} فَتَلاهُنَّ عَلَيْهِ وَوَعَظَهُ وَذَكَّرَهُ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ، فَقَالَ: لا وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا كَذَبْت عَلَيْهَا، ثُمَّ دَعَاهَا فَوَعَظَهَا وَأَخْبَرَهَا أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ، فَقَالَتْ: لا وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ نَبِيًّا إنَّهُ لَكَاذِبٌ؛ فَبَدَأَ بِالرَّجُلِ فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ؛ ثُمَّ ثَنَّى بِالْمَرْأَةِ، فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. 3766- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي عَجْلانَ وَقَالَ: «اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا مِنْ تَائِبٍ» ؟ ثَلاثًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.

(2/297)


3767- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلانِيُّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قَدْ نَزَلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا» . قَالَ سَهْلٌ: فَتَلاعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا فَرَغَا قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلاعِنَيْنِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. 3768- وَفِي رِوَايَةٍ - مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا - فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ذَاكُمْ التَّفْرِيقُ بَيْنَ كُلِّ مُتَلاعِنَيْنِ» . 3769- وَفِي لَفْظٍ لأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ: وَكَانَ فِرَاقُهُ إيَّاهَا سُنَّةً فِي الْمُتَلاعِنَيْنِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ مَشْرُوعٌ، وَعَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ التَّحَقُّقِ. وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ اللِّعَانِ لِنَفْيِ الْوَلَدِ، وَعَنْ أَحْمَدَ يَنْتَفِي الْوَلَدُ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ الرَّجُلُ لِذِكْرِهِ فِي اللِّعَانِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَفِيهِ نَظَرٌ لأَنَّهُ لَوْ اسْتَلْحَقَهُ لَحِقَهُ، وَإِنَّمَا يُؤْثِرُ اللَّعَّانُ دَفْعَ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ وَثُبُوتَ زِنَا الْمَرْأَةِ. قَوْلُهُ: (عَلَى فَاحِشَةٍ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا وَتَحَقَّقَ وُجُودُ الْفَاحِشَةِ مِنْهُمَا فَقَتَلَهُ هَلْ يُقْتَلُ بِهِ أَمْ لا؟ فَمَنَعَ الْجُمْهُورُ الإِقْدَامَ وَقَالُوا: يُقْتَصُّ مِنْهُ إلا أَنْ يَأْتِيَ بِبَيِّنَةِ الزِّنَى أَوْ يَعْتَرِفَ الْمَقْتُولُ بِذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُحْصَنًا. وَقِيلَ: بَلْ يُقْتَلُ بِهِ لأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ بِغَيْرِ إذْنِ الإِمَامِ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لا يُقْتَلُ أَصْلاً وَيُعْذَرُ فِيمَا فَعَلَهُ إذَا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ صِدْقِهِ، وَشَرَطَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَمَنْ تَبِعَهُمَا أَنْ يَأْتِيَ بِشَاهِدَيْنِ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَوَافَقَهُمْ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ حَبِيبٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ لَكِنْ زَادَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ قَدْ أُحْصِنَ وَعِنْدَ الْهَادَوِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ وَجَدَهُ مَعَ زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ وَوَلَدِهِ حَالَ الْفِعْلِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَيُقَادُ بِهِ إنْ كَانَ بِكْرًا.

(2/298)


بَابُ لا يَجْتَمِعُ الْمُتَلاعِنَانِ أَبَدًا 3770- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِلْمُتَلاعِنَيْنِ: «حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا» . قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالِي؟ قَالَ: «لا مَالَ لَكَ، إنْ كُنْتَ صَدَقْت عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْت مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْت عَلَيْهَا فَذَلِكَ أَبْعَدُ لَك مِنْهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهُوَ حُجَّةٌ فِي أَنَّ كُلَّ فُرْقَةٍ بَعْدَ الدُّخُولِ لا تُؤَثِّرُ فِي إسْقَاطِ الْمَهْرِ. 3771- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي خَبَرِ الْمُتَلاعِنَيْنِ قَالَ: فَطَلَّقَهَا ثَلاثَ تَطْلِيقَاتٍ، فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَكَانَ مَا صُنِعَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سُنَّةً. قَالَ سَهْلٌ: حَضَرْت هَذَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَضَتْ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 3772- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - فِي قِصَّةِ الْمُتَلاعِنَيْنِ - قَالَ: فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَهُمَا وَقَالَ: «لا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا» . 3773- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْمُتَلاعِنَانِ إذَا تَفَرَّقَا لا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا» . 3774- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مَضَتْ السُّنَّةُ فِي الْمُتَلاعِنَيْنِ أَنْ لا يَجْتَمِعَا أَبَدًا. 3775- وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالا: مَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ لا يَجْتَمِعَ الْمُتَلاعِنَانِ. رَوَاهُنَّ الدَّارَقُطْنِيّ. قَوْلُهُ: «لا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا» قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَأْبِيدِ الْفُرْقَةِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. قَالَ: وَوَقَعَ في حَدِيث لأَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: وقضى أن ليس عليه قوت ولا سكنى مِنْ أجل أنهما يفترقان بغير طَلاقٌ ولا متوفى عنها، وهو ظاهر في أن الفرقة وقعت بينهما بنفس اللِّعَانُ. بَابُ إيجَابِ الْحَدِّ بِقَذْفِ الزَّوْجِ وَأَنَّ اللِّعَانَ يُسْقِطُهُ 3776- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هِلالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -

(2/299)


بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» . فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ؟ فَجَعَلَ ... النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «الْبَيِّنَةُ وَإِلا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» . فَقَالَ هِلالٌ: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إنِّي لَصَادِقٌ وَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنْ الْحَدِّ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: {إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ} فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَرْسَلَ إلَيْهِمَا. فَجَاءَ هِلالٌ، فَشَهِدُوا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ» ؟ ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْخَامِسَةِ وَقَّفُوهَا، فَقَالُوا: إنَّهَا مُوجِبَةٌ، فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ ثُمَّ قَالَتْ: لا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ فَمَضَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «انْظُرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ سَابِغَ الأَلْيَتَيْنِ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ» . فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْلا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا مُسْلِمًا وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا وَعَجَزَ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَاذِفِ، وَإِذَا وَقَعَ اللِّعَانُ سَقَطَ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. بَابُ مَنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِرَجُلٍ سَمَّاهُ 3777- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ هِلالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، وَكَانَ أَخَا الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ لأُمِّهِ، وَكَانَ أَوَّلَ رَجُلٍ لاعَنَ فِي الإِسْلامِ، قَالَ: فَلاعَنَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبْطًا قَضِيءَ الْعَيْنَيْنِ فَهُوَ لِهِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْدًا حَمْشَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ» . قَالَ: فَأُنْبِئْت أَنَّهَا جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْدًا حَمْشَ السَّاقَيْنِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 3778- وَفِي رِوَايَةٍ: إنَّ أَوَّلَ لِعَانٍ كَانَ فِي الإِسْلامِ أَنَّ هِلالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ شَرِيكَ بْنَ السَّحْمَاءِ بِامْرَأَتِهِ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ ... النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَرْبَعَةُ شُهَدَاءَ وَإِلا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» . يُرَدِّدُ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِرَارًا فَقَالَ لَهُ هِلالٌ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَعْلَمُ أَنِّي لَصَادِقٌ، وَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ

(2/300)


عَلَيْكَ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنْ الْحَدِّ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ آيَةُ اللِّعَانِ {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} إلَى آخِرِ الآيَةِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يَسْقُطُ بِاللِّعَانِ وَلَوْ كَانَ قَذَفَ الزَّوْجَةَ بِرَجُلٍ مُعَيَّنٍ. بَابٌ فِي أَنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ 3779- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ هِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ وَهُوَ أَحَدُ الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، فَجَاءَ مِنْ أَرْضِهِ عِشَاءً فَوَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ رَجُلاً، فَذَكَرَ حَدِيثَ تَلاعُنِهِمَا إلَى أَنْ قَالَ: فَفَرَّقَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَهُمَا وَقَالَ: «إنْ جَاءَتْ بِهِ أُصَيْهِبَ أُرَيْسِحَ حَمْشَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِهِلالٍ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْدًا جُمَّالِيًّا خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ سَابِغَ الأَلْيَتَيْنِ فَهُوَ لِلَّذِي رُمِيَتْ بِهِ» . فَجَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْدًا جُمَّالِيًّا خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ سَابِغَ الأَلْيَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْلا الأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «أُرَيْسِحَ» تَصْغِيرُ الأَرْسَحِ بِالسِّينِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ: وَهُوَ خَفِيفُ لَحْمِ الْفَخِذَيْنِ وَالأَلْيَتَيْنِ. قَوْلُهُ: «لَوْلا الأَيْمَانُ» اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ وَإِلَيْهِ ذَهَبَتْ وَالْجُمْهُورُ. بَابُ مَا جَاءَ فِي اللِّعَانِ عَلَى الْحَمْلِ وَالِاعْتِرَافِ بِهِ 3780- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لاعَنَ عَلَى الْحَمْلِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3781- وَفِي حَدِيثِ سَهْلٍ: وَكَانَتْ حَامِلاً وَكَانَ ابْنُهَا يُنْسَبُ إلَى أُمِّهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. 3782- وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لاعَنَ بَيْنَ هِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَامْرَأَتِهِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَقَضَى أَنْ لا يُدْعَى وَلَدُهَا لأَبٍ، وَلا يُرْمَى وَلَدُهَا، وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ. قَالَ عِكْرِمَةُ: فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَمِيرًا عَلَى

(2/301)


مِصْرَ وَمَا يُدْعَى لأَبٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. وَقَدْ أَسْلَفْنَا فِي غَيْرِ حَدِيثٍ أَنَّ تَلاعُنَهُمَا قَبْلَ الْوَضْعِ. وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ قَالَ: قَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي رَجُلٍ أَنْكَرَ وَلَدَ امْرَأَتِهِ وَهُوَ فِي بَطْنِهَا، ثُمَّ اعْتَرَفَ بِهِ وَهُوَ فِي بَطْنِهَا حَتَّى إذَا وُلِدَ أَنْكَرَهُ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ فَجُلِدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً لِفِرْيَتِهِ عَلَيْهَا، ثُمَّ أُلْحِقَ بِهِ وَلَدُهَا. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَصِحُّ اللِّعَانُ قَبْلَ الْوَضْعِ مُطْلَقًا وَنَفْيُ الْحَمْلِ. وَقَدْ حَكَاهُ فِي الْهَدْيِ عَنْ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الْحَقُّ لِلأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ. وَأَثَرُ عُمَرَ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لا يَصِحُّ نَفْيُ الْوَلَدِ بَعْدَ الإِقْرَارِ وَهُمْ الْعِتْرَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ الرُّجُوعُ بَعْدَهُ لَصَحَّ عَنْ كُلِّ إقْرَارٍ فَلا يَتَقَرَّرُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ، وَالتَّالِي بَاطِلٌ بِالإِجْمَاعِ فَالْمُقَدَّمُ مِثْلُهُ. بَابُ الْمُلاعَنَةِ بَعْدَ الْوَضْعِ لِقَذْفٍ قَبْلَهُ وَإِنْ شَهِدَ الشَّبَهُ لأَحَدِهَِا 3783- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ ذُكِرَ التَّلاعُنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي ذَلِكَ قَوْلًا، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يَشْكُو إلَيْهِ أَنَّهُ وَجَدَ مَعَ أَهْلِهِ رَجُلًا، فَقَالَ عَاصِمٌ: مَا اُبْتُلِيتُ بِهَذَا إلا لِقَوْلِي فِيهِ، فَذَهَبَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَهُ بِاَلَّذِي وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُصْفَرًّا قَلِيلَ اللَّحْمِ سَبِطَ الشَّعْرِ، وَكَانَ الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ وَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ خَدْلًا آدَمَ كَثِيرَ اللَّحْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ بَيِّنْ» . فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِاَلَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَهَا، فَلاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَهُمَا، فَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمَجْلِسِ: أَهِيَ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ رَجَمْت أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ رَجَمْت هَذِهِ» ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لا، تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ فِي الإِسْلامِ السُّوءَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَلاعَنَ) إلى آخره، ظَاهِرُهُ أَنَّ

(2/302)


الْمُلاعَنَةَ تَأَخَّرَتْ إلَى وَضْعِ الْمَرْأَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ بَوَّبَ الْمُصَنِّفُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ أَنَّ اللِّعَانَ وَقَعَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ أَنْ تَضَعَ. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: (فَلاعَنَ) لِعَطْفِ (لاعَنَ) عَلَى (فَأَخْبَرَهُ) وَيَكُونُ مَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا. انتهى. بَابُ مَا جَاءَ فِي قَذْفِ الْمُلاعَنَةِ وَسُقُوطِ نَفَقَتِهَا 3784- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - فِي قِصَّةِ الْمُلاعَنَةِ - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى أَنْ لا قُوتَ لَهَا وَلا سُكْنَى مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا يَتَفَرَّقَانِ مِنْ غَيْرِ طَلاقٍ وَلا مُتَوَفَّى عَنْهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3785- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ. قَالَ: قَضَى ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي وَلَدِ الْمُتَلاعِنَيْنِ أَنَّهُ يَرِثُ أُمَّهُ وَتَرِثُهُ أُمُّهُ، وَمَنْ رَمَاهَا بِهِ جُلِدَ ثَمَانِينَ، وَمَنْ دَعَاهُ وَلَدَ زِنًى جُلِدَ ثَمَانِينَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (أَنْ لا قُوتَ وَلا سُكْنَى) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمَفْسُوخَةَ بِاللِّعَانِ لا تَسْتَحِقُّ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ نَفَقَةً وَلا سُكْنَى لأَنَّ النَّفَقَةَ إنَّمَا تُسْتَحَقُّ فِي عِدَّةِ الطَّلاقِ لا فِي عِدَّةِ الْفَسْخِ، وَكَذَلِكَ السُّكْنَى وَلاسِيَّمَا إذَا كَانَ الْفَسْخُ بِحُكْمٍ كَالْمُلاعَنَةِ. بَابُ النَّهْيِ أَنْ يَقْذِفَ زَوْجَتَهُ لأَنَّهَا وَلَدَتْ مَا يُخَالِفُ لَوْنَهُمَا 3786- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: وَلَدَتْ امْرَأَتِي غُلامًا أَسْوَدَ وَهُوَ حِينَئِذٍ يُعَرِّضُ بِأَنْ يَنْفِيَهُ، فَقَالَ لَهُ ... النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «هَلْ لَكَ مِنْ إبِلٍ» ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَمَا أَلْوَانُهَا» ؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: «هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ» ؟ قَالَ: إنَّ فِيهَا لَوُرْقًا قَالَ: «فَأَنَّى أَتَاهَا ذَلِكَ» ؟ ، قَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ، قَالَ: «فَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ» . وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي الِانْتِفَاءِ مِنْهُ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 3787- وَلأَبِي دَاوُد فِي رِوَايَةٍ: إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلامًا أَسْوَدَ وَإِنِّي أُنْكِرُهُ.

(2/303)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (يُعَرِّضُ بِأَنْ يَنْفِيَهُ) وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ لا يَكُونُ قَذْفًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: التَّعْرِيضُ إذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ السُّؤَالِ لا حَدَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ فِي التَّعْرِيضِ إذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاجَهَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الْفَرْقُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالأَجْنَبِيِّ فِي التَّعْرِيضِ أَنَّ الأَجْنَبِيَّ يَقْصِدُ الأَذِيَّةَ الْمَحْضَةَ وَالزَّوْجُ يُعْذَرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى صِيَانَةِ النَّسَبِ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ لِلأَبِ أَنْ يَنْفِيَ وَلَدَهُ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مُخَالِفًا لَهُ فِي اللَّوْنِ. بَابُ أَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ دُونَ الزَّانِي 3788- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا أَبَا دَاوُد. 3789- وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: «لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ» . 3790- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ أَخِي عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ اُنْظُرْ إلَى شَبَهِهِ. وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: هَذَا أَخِي يَا رَسُولَ اللَّهِ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي؛ فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى شَبَهِهِ، فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ: «هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ» . قَالَ: فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ قَطُّ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. 3791- وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَرِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «هُوَ أُخُوكَ يَا عَبْدُ» . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَطَئُونَ وَلائِدَهُمْ ثُمَّ يَعْتَزِلُونَهُنَّ، لا يَأْتِينِي وَلِيدَةٌ يَعْتَرِفُ سَيِّدُهَا أَنْ قَدْ أَلَمَّ بِهَا إلا أَلْحَقْتُ بِهِ وَلَدَهَا، فَاعْزِلُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ اُتْرُكُوا. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى (الْفِرَاشِ) فَذَهَبَ الأَكْثَرُ إلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلْمَرْأَةِ. وَفِي الْقَامُوسِ: أنَّ الْفِرَاشَ: زَوْجَةُ الرَّجُلِ، وَالْجَارِيَةُ يَفْتَرِشُهَا الرَّجُلُ.

(2/304)


قَوْلُهُ: «وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» الْعَاهِرُ: الزَّانِي، أَيْ لا شَيْءَ لَهُ فِي الْوَلَدِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يُلْحَقُ بِالأَبِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْفِرَاشِ، وَهُوَ لا يَثْبُتُ إلا بَعْدَ إمْكَانِ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَوْ الْفَاسِدِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ فِرَاشَ الأَمَةِ كَفِرَاشِ الْحُرَّةِ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ نَصٌّ فِي ذَلِكَ. قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ) إلى آَخره، فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِغَيْرِ الأَبِ أَنْ يَسْتَلْحِقَ الْوَلَدَ. انْتَهَى ملخصًا. قَوْلُهُ: (يَعْتَرِفُ سَيِّدُهَا أَنْ قَدْ أَلَمَّ بِهَا) فِيهِ تَقْوِيَةٌ لِمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ مِنْ أَنَّهُ لا يُشْتَرَطُ فِي فِرَاشِ الأَمَةِ الدَّعْوَةُ، بَلْ يَكْفِي مُجَرَّدُ ثُبُوتِ الْفِرَاشِ. بَابُ الشُّرَكَاءِ يَطَئُونَ الأَمَةَ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ 3792- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ - رضي الله عنه - وَهُوَ بِالْيَمَنِ - فِي ثَلاثَةٍ وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلَ اثْنَيْنِ فَقَالَ: أَتُقِرَّانِ لِهَذَا بِالْوَلَدِ؟ ... قَالا: لا، ثُمَّ سَأَلَ اثْنَيْنِ: أَتُقِرَّانِ لِهَذَا بِالْوَلَدِ؟ قَالا: لا، فَجَعَلَ كُلَّمَا سَأَلَ اثْنَيْنِ: أَتُقِرَّانِ لِهَذَا بِالْوَلَدِ؟ قَالا: لا. فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِاَلَّذِي أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ وَجَعَلَ، عَلَيْهِ ثُلُثَيْ الدِّيَةِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ بِإِسْنَادٍ أَجْوَدَ مِنْ إسْنَادِ الْمَرْفُوعِ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَقَالَ فِيهِ: فَأَغْرَمَهُ ثُلُثَيْ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ لِصَاحِبَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِابْنَ لا يُلْحَقُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ، قَالَهُ الْخَطَّابِيِّ. وَقَالَ أَيْضًا: وَفِيهِ إثْبَاتُ الْقُرْعَةِ فِي إلْحَاقِ الْوَلَدِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ أَخَذَ بِالْقُرْعَةِ مُطْلَقًا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ. وَقَدْ وَرَدَ الْعَمَلُ بِهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا: فِي إلْحَاقِ الْوَلَدِ، وَمِنْهَا فِي الرَّجُلِ الَّذِي أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ. وَمِنْهَا: فِي تَعْيِينِ الْمَرْأَةِ مِنْ نِسَائِهِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ

(2/305)


يُسَافِرَ بِهَا وَفِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. وَمِمَّنْ قَالَ بِظَاهِرِ حَدِيثِ الْبَابِ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ. وَقِيلَ لأَحْمَدَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ هَذَا فَقَالَ: حَدِيثُ الْقَافَةِ أَحَبُّ إلَيَّ وَسَيَأْتِي. وَقَالَ الْمُقْبِلِيُّ: إنَّ حَدِيثَ الإِلْحَاقِ بِالْقُرْعَةِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ انْسِدَادِ الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ. انْتَهَى ملخصًا. بَابُ الْحُجَّةِ فِي الْعَمَلِ بِالْقَافَةِ 3793- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيَّ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ فَقَالَ: «أَلَمْ تَرَيْ؟ أَنَّ مُجَزِّزًا نَظَرَ آنِفًا إلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 3794- وَفِي لَفْظِ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَة وَرِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيِّ: «أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ رَأَى زَيْدًا وَأُسَامَةَ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا بِقَطِيفَةٍ وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» . 3795- وَفِي لَفْظٍ قَالَ: دَخَلَ قَائِفٌ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - شَاهِدٌ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مُضْطَجِعَانِ فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فَسُرَّ بِذَلِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَعْجَبَهُ وَأَخْبَرَ بِهِ عَائِشَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: كَانَ أُسَامَةُ أَسْوَدَ وَكَانَ زَيْدٌ أَبْيَضَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَالَ الْخَطَّابِيِّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ الْعَمَلِ بِالْقَافَةِ وَصِحَّةِ الْحُكْمِ بِقَوْلِهِمْ فِي إلْحَاقِ الْوَلَدِ، وَذَلِكَ لأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لا يُظْهِرُ السُّرُورَ إلا بِمَا هُوَ حَقٌّ عِنْدَهُ وَكَانَ النَّاسُ قَدْ ارْتَابُوا فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَابْنِهِ أُسَامَةَ، وَكَانَ زَيْدٌ أَبْيَضَ وَأُسَامَةُ أَسْوَدَ كَمَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَتَمَارَى النَّاسُ فِي ذَلِكَ وَتَكَلَّمُوا بِقَوْلٍ كَانَ يَسُوءُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا سَمِعَ قَوْلَ الْمُدْلِجِيِّ فَرِحَ بِهِ وَسَري عَنْهُ. وَقَدْ أَثْبَتَ الْحُكْمَ بِالْقَافَةِ عُمَرُ ابْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَالأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ إلى أن قَالَ: فَيَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ فِي مِثْلِ الأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ إذَا وَطِئَهَا الْمَالِكُونَ لَهَا. وَمِنْ الأَدِلَّةِ الْمُقَوِّيَةِ للْقَافَةِ حَدِيثُ الْمُلاعَنَةِ لا مُعَارَضَةَ بَيْنَ حَدِيثِ الْعَمَلِ بِالْقَافَةِ

(2/306)


وَحَدِيثِ الْعَمَلِ بِالْقُرْعَةِ، فَمَعَ الِاتِّفَاقِ لا إشْكَالَ، وَمَعَ الاخْتِلافِ الظَّاهِرُ أَنَّ الاعْتِبَارَ بِالأَوَّلِ مِنْهُمَا. انْتَهَى ملخصًا. بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ 3796- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا أُنْزِلَ عُذْرِي قَامَ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ ذَلِكَ وَتَلا الْقُرْآنَ، فَلَمَّا نَزَلَ أَمَرَ بِرَجُلَيْنِ وَامْرَأَةٍ فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ. 3797- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْت أَبَا الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي الزِّنَادِ أَنَّهُ قَالَ: جَلَدَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَبْدًا فِي فِرْيَةٍ ثَمَانِينَ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: فَسَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَدْرَكْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَالْخُلَفَاءَ هَلُمَّ جَرًّا مَا رَأَيْتُ أَحَدًا جَلَدَ عَبْدًا فِي فِرْيَةٍ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى ثُبُوتِ حَدِّ الْقَذْفِ. وعَلَى أَنَّ حَدَّهُ ثَمَانُونَ جَلْدَةً لِنَصِّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُنَصَّفُ الْحَدُّ لِلْعَبْدِ أَمْ لا؟ فَذَهَبَ الأَكْثَرُ إلَى الأَوَّلِ. قَوْلُهُ: «يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لا يُحَدُّ مَنْ قَذَفَ عَبْدَهُ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ لا يُحَدُّ قَاذِفُ الْعَبْدِ مُطْلَقًا. بَابُ مَنْ أَقَرَّ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ لا يَكُونُ قَاذِفًا لَهَا 3798- عَنْ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ قَالَ: كَانَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ يَتِيمًا فِي حِجْرِ أَبِي، فَأَصَابَ جَارِيَةً مِنْ الْحَيِّ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبِرْهُ بِمَا صَنَعْت لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ لَكَ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي زَنَيْتُ فَأَقِمْ عَلَيَّ كِتَابَ اللَّهِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَعَادَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي زَنَيْتُ فَأَقِمْ عَلَيَّ كِتَابَ اللَّهِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي زَنَيْتُ

(2/307)


فَأَقِمْ عَلَيَّ كِتَابَ اللَّهِ، ثُمَّ أَتَاهُ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي زَنَيْتُ فَأَقِمْ عَلَيَّ كِتَابَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّك قَدْ قُلْتَهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَبِمَنْ» ؟ قَالَ: بِفُلانَةَ، قَالَ: «ضَاجَعْتَهَا» ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «جَامَعْتَهَا» ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ فَخَرَجَ إلَى الْحَرَّةِ، فَلَمَّا رُجِمَ فَوَجَدَ مَسَّ الْحِجَارَةِ جَزِعَ، فَخَرَجَ يَشْتَدُّ، فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٌ وَقَدْ أَعْجَزَ أَصْحَابَهُ، فَنَزَعَ بِوَظِيفِ بَعِيرٍ فَرَمَاهُ بِهِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «هَلا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ: «فَهَلا تَرَكْتُمُوهُ» فِي حَدِيثُ جَابِرَ َ عَنْد أَبِي دَاوُد: «فَهَلا تَرَكْتُمُوهُ وَجِئْتُمُونِي بِهِ» لِيَسْتَثْبِتَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْهُ، فَأَمَّا لِتَرْكِ حَدٍّ فَلا، قَالَ الشَّارِحُ: وَسَيَأْتِي الْكَلامُ عَلَى حَدِيثِ مَاعِزٍ هَذَا فِي أَبْوَابِ حَدِّ الزَّانِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ هَا هُنَا لِلاسْتِدْلالِ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لا يَلْزَمُ مَنْ أَقَرَّ بِالزِّنَى حَدُّ الْقَذْفِ إذَا قَالَ: زَنَيْت بِفُلانَة.

(2/308)


 كِتَابُ الْعِدَدِ

بَابُ أنَّ عِدَّةَ الْحَامِلِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ 379- عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهَا: سُبَيْعَةُ كَانَتْ تَحْتَ زَوْجِهَا فَتُوُفِّيَ عَنْهَا وَهِيَ حُبْلَى، فَخَطَبَهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ، فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَهُ فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا يَصْلُحُ أَنْ تَنْكِحِي حَتَّى تَعْتَدِّي آخِرَ الأَجَلَيْنِ فَمَكَثَتْ قَرِيبًا مِنْ عَشْرِ لَيَالٍ ثُمَّ نُفِسَتْ، ثُمَّ جَاءَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «انْكِحِي» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا أَبَا دَاوُد وَابْنَ مَاجَةْ. 3800- وَلِلْجَمَاعَةِ إلا التِّرْمِذِيَّ مَعْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ سُبَيْعَةَ وَقَالَتْ فِيهِ: فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْت حِينَ وَضَعْت حَمْلِي وَأَمَرَنِي بِالتَّزْوِيجِ إنْ بَدَا لِي. 3801- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ - قَالَ: أَتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا التَّغْلِيظَ وَلا تَجْعَلُونَ عَلَيْهَا الرُّخْصَةَ؟ أَنْزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ الطُّولَى {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. 3802- وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلاثًا وَلِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا؟ فَقَالَ: «هِيَ لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلاثًا وَلِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ. 3803- وَعَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَهُ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ فَقَالَتْ لَهُ وَهِيَ حَامِلٌ: طَيِّبْ نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ، فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً ثُمَّ خَرَجَ إلَى

(2/309)


الصَّلاةِ فَرَجَعَ وَقَدْ وَضَعَتْ، فَقَالَ: مَا لَهَا خَدَعَتْنِي خَدَعَهَا اللَّهُ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «سَبَقَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ اُخْطُبْهَا إلَى نَفْسِهَا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفَتْوَى فِي الأَمْصَارِ إلَى أَنَّ الْحَامِلَ إذَا مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ. ألى أن قَالَ: وَهَذِهِ الأَحَادِيثُ وَالآثَارُ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْعِدَدِ وَأَنَّ عُمُومَ آيَةِ الْبَقَرَةِ مُخَصَّصٌ بِهَا. بَابُ الاعْتِدَادِ بِالأَقْرَاءِ وَتَفْسِيرِهَا 3804- عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَمَرْتُ بَرِيرَةَ أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلاثِ حِيَضٍ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. 3805- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَيَّرَ بَرِيرَةَ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ عِدَّةَ الْحُرَّةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ. 3806- وَقَدْ أَسْلَفْنَا قَوْلَهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمُسْتَحَاضَةِ «تَجْلِسُ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا» . 3807- وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «طَلاقُ الأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ، وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 3808- وَفِي لَفْظٍ: «طَلاقُ الْعَبْدِ اثْنَتَانِ وَقُرْءُ الأَمَةِ حَيْضَتَانِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. 3809- وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «طَلاقُ الأَمَةِ اثْنَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَإِسْنَادُ الْحَدِيثَيْنِ ضَعِيفٌ، وَالصَّحِيحُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَوْلُهُ: عِدَّةُ الْحُرَّةِ ثَلاثُ حِيَضٍ، وَعِدَّةُ الأَمَةِ حَيْضَتَانِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الأَحَادِيثَ لِلِاسْتِدْلالِ بِهَا عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ ثَلاثَةُ أَقْرَاءٍ، وَعَلَى أَنَّ الأَقْرَاءَ هِيَ

(2/310)


الْحِيَضُ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْقَرْءُ، وَيُضَمُّ: الْحَيْضُ وَالطُّهْرُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إنَّ لَفْظَ الْقُرْءِ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي كَلامِ الشَّارِعِ إلا لِلْحَيْضِ، وَلَمْ يَجِئْ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ اسْتِعْمَالُهُ لِلطُّهْرِ، فَحَمْلُهُ فِي الآيَةِ عَلَى الْمَعْهُودِ الْمَعْرُوفِ مِنْ خِطَابِ الشَّارِعِ أَوْلَى، بَلْ يَتَعَيَّنُ، فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ لِلْمُسْتَحَاضَةِ: «دَعِي الصَّلاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ» وَهُوَ - صلى الله عليه وسلم - الْمُعَبِّرُ عَنْ اللَّهِ وَبِلُغَةِ قَوْمِهِ نَزَلَ الْقُرْآنُ. بَابُ إحْدَادِ الْمُعْتَدَّةِ 3810- عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ امْرَأَةً تُوُفِّيَ زَوْجُهَا فَخَشَوْا عَلَى عَيْنِهَا فَأَتَوْا النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَأْذَنُوهُ فِي الْكُحْلِ، فَقَالَ: «لا تَكْتَحِلْ، كَانَتْ إحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ فِي شَرِّ أَحْلاسِهَا - أَوْ شَرِّ بَيْتِهَا - فَإِذَا كَانَ حَوْلٌ فَمَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ بِبَعْرَةٍ فَلا حَتَّى تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3811- وَعَنْ حُمَيْدٍ بْنِ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ بِهَذِهِ الأَحَادِيثِ الثَّلاثَ قَالَتْ: دَخَلْت عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ - حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ - فَدَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةٌ خَلُوقٌ أَوْ غَيْرُهُ فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً، ثُمَّ مَسَّتْ بِعَارِضَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: «لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ إلا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» . قَالَتْ زَيْنَبُ: ثُمَّ دَخَلَتْ عَلَيَّ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ - حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا - فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ مِنْهُ ثُمَّ قَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْت ... رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: «لا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ إلا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» . قَالَتْ زَيْنَبُ: وَسَمِعْت أُمِّي أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَنَكْحُلُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا» . مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: «لا» . ثُمَّ قَالَ: «إنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، قَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ» . قَالَتْ زَيْنَبُ: كَانَتْ الْمَرْأَةُ إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا وَلا شَيْئًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا

(2/311)


سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ - حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَيْرٍ - فَتَقْتَضُّ بِهِ، فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إلا مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعَرَةً فَتَرْمِي بِهَا، ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ. أَخْرَجَاهُ. 3812- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ إلا عَلَى زَوْجِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ... وَعَشْرًا» . أَخْرَجَاهُ. وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ لَمْ يَرَ الإِحْدَادَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لا تَكْتَحِلْ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الِاكْتِحَالِ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي أَيَّامِ عِدَّتِهَا مِنْ مَوْتِ زَوْجِهَا سَوَاءٌ احْتَاجَتْ إلَى ذَلِكَ أَمْ لا. وَجَاءَ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ: «اجْعَلِيهِ بِاللَّيْلِ وَامْسَحِيهِ بِالنَّهَارِ» وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد: «فَتَكْتَحِلِينَ بِاللَّيْلِ وَتَغْسِلِينَهُ بِالنَّهَارِ» قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّهَا إذَا لَمْ تَحْتَجْ إلَيْهِ لا يَحِلُّ. وَإِذَا احْتَاجَتْ لَمْ يَجُزْ بِالنَّهَارِ وَيَجُوزُ بِاللَّيْلِ مَعَ أَنَّ الأَوْلَى تَرْكُهُ؛ فَإِذَا فَعَلَتْ مَسَحَتْهُ بِالنَّهَارِ. قَوْلُهُ: «لا يَحِلُّ» اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى تَحْرِيمِ الإِحْدَادِ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَعَلَى وُجُوبِ الإِحْدَادِ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي مَاتَ زَوْجُهَا. قَوْلُهُ: «لِامْرَأَةٍ» تَمَسَّكَ بِمَفْهُومِهِ الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: لا يَجِبُ الإِحْدَادُ عَلَى الصَّغِيرَةِ، وَخَالَفَهُمْ الْجُمْهُورُ فَأَوْجَبُوهُ عَلَيْهَا كَالْعِدَّةِ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَدْخُولَةِ وَغَيْرِهَا وَالْحُرَّةِ وَالأَمَةِ. قَوْلُهُ: «تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ» اسْتَدَلَّ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الإِحْدَادِ عَلَى الذِّمِّيَّةِ. وَخَالَفَهُمْ الْجُمْهُورُ، وَأَجَابُوا بِأَنَّهُ ذُكِرَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ فَلا مَفْهُومَ لَهُ. قَوْلُهُ: «تُحِدُّ» بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ مِنْ الرُّبَاعِيِّ وَيَجُوزُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ ثَانِيهِ مِنْ الثُّلاثِيِّ. قَالَ ابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ: مَعْنَى الإِحْدَادِ مَنْعُ الْمُعْتَدَّةِ نَفْسَهَا لِلزِّينَةِ وَبَدَنَهَا لِلطِّيبِ وَمَنْعُ الْخُطَّابِ خِطْبَتَهَا. قَوْلُهُ: «عَلَى مَيِّتٍ» اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لا إحْدَادَ عَلَى امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ

(2/312)


لِعَدَمِ تَحَقُّقِ وَفَاتِهِ خِلافًا لِلْمَالِكِيَّةِ. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لا إحْدَادَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ. فَأَمَّا الرَّجْعِيَّةُ فَإِجْمَاعٌ وَأَمَّا الْبَائِنَةُ فَلا إحْدَادَ عَلَيْهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. بَابُ مَا تَجْتَنِبُ الْحَادَّةُ وَمَا رُخِّصَ لَهَا فِيهِ 3813- عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ إلا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلا نَكْتَحِلُ، وَلا نَطَّيَّبُ، وَلا نَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إلا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَقَدْ رُخِّصَ لَنَا عِنْدَ الطُّهْرِ - إذَا اغْتَسَلَتْ إحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا - فِي نُبْذَةٍ مِنْ كُسْتِ أَظْفَارٍ. أَخْرَجَاهُ. 3814- َفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُحِدُّ فَوْقَ ثَلاثٍ إلا عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا لا تَكْتَحِلُ، وَلا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إلا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلا تَمَسُّ طِيبًا إلا إذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3815-وَقَالَ فِيهِ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ: «لا تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ إلا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تُحِدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» . 3816- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنْ الثِّيَابِ، وَلا الْمُمَشَّقَةَ، وَلا الْحُلِيَّ، وَلا تَخْتَضِبُ، وَلا تَكْتَحِلُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 3817- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ وَقَدْ جَعَلْت عَلَيَّ صَبْرًا - فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا أُمَّ سَلَمَةَ» ؟ فَقُلْت: إنَّمَا هُوَ صَبْرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ، قَالَ: «إنَّهُ يَشُبُّ الْوَجْهَ فَلا تَجْعَلِيهِ إلا بِاللَّيْلِ وَتَنْزِعِينَهُ بِالنَّهَارِ وَلا تَمْتَشِطِي بِالطِّيبِ وَلا بِالْحِنَّاءِ فَإِنَّهُ خِضَابٌ» . قَالَتْ: قُلْت: بِأَيِّ شَيْءٍ أَمْتَشِطُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «بِالسِّدْرِ تُغَلِّفِينَ بِهِ رَأْسَك» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 3818- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: طَلُقَتْ خَالَتِي ثَلاثًا، فَخَرَجَتْ تَجُدُّ نَخْلاً لَهَا، فَلَقِيَهَا رَجُلٌ فَنَهَاهَا، فَأَتَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «اُخْرُجِي فَجُدِّي نَخْلَك لَعَلَّك أَنْ تَصَّدَّقِي مِنْهُ أَوْ تَفْعَلِي خَيْرًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ

(2/313)


وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ وَالنَّسَائِيُّ. 3819- وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: لَمَّا أُصِيبَ جَعْفَرٌ أَتَانَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «تَسَلَّبِي ثَلاثًا ثُمَّ اصْنَعِي مَا شِئْت» . 3820- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْيَوْمَ الثَّالِثَ مِنْ قَتْلِ جَعْفَرٍ، فَقَالَ: «لا تُحِدِّي بَعْدَ يَوْمِك هَذَا» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. وَهُوَ مُتَأَوَّلٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الإِحْدَادِ وَالْجُلُوسِ لِلتَّعْزِيَةِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَلا نَتَطَيَّبُ) فِيهِ تَحْرِيمُ الطِّيبِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ وَهُوَ كُلُّ مَا يُسَمَّى طِيبًا وَلا خِلافَ فِي ذَلِكَ. قَوْلُهُ: (وَلا نَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إلا ثَوْبَ عَصْبٍ) بِمُهْمَلَتَيْنِ: بُرُودُ ... الْيَمَنِ، يُعْصَبُ غَزْلُهَا: أَيْ يُرْبَطُ ثُمَّ يُصْبَغُ ثُمَّ يُنْسَجُ مَعْصُوبًا فَيَخْرُجُ مُوَشًّى لِبَقَاءِ مَا عُصِبَ مِنْهُ أَبْيَضَ لَمْ يَنْصَبِغْ، وَإِنَّمَا يَنْصَبِغُ السُّدَى دُونَ اللُّحْمَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ لِلْحَادَّةِ لُبْسُ الثِّيَابِ الْمُعَصْفَرَةِ وَلا الْمَصْبُوغَةِ إلا مَا صُبِغَ بِسَوَادٍ فَرَخَّصَ فِيهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لِكَوْنِهِ لا يُتَّخَذُ لِلزِّينَةِ بَلْ هُوَ مِنْ لِبَاسِ الْحُزْنِ. قَوْلُهُ: (فِي نُبْذَةٍ مِنْ كُسْتِ أَظْفَارٍ) وَفِي الرِّوَايَةِ الأُخْرَى (مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ) قَالَ النَّوَوِيُّ: الْقُسْطُ وَالأَظْفَارُ نَوْعَانِ مَعْرُوفَانِ مِنْ الْبَخُورِ وَلَيْسَا مِنْ مَقْصُودِ الطِّيبِ رُخِّصَ فِيهِ لِلْمُغْتَسِلَةِ مِنْ الْحَيْضِ لإِزَالَةِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ تَتْبَعُ بِهِ أَثَرَ الدَّمِ لا لِلتَّطَيُّبِ. قَوْلُهُ: «وَلا الْمُمَشَّقَةَ» أَيْ الْمَصْبُوغَةَ بِالْمِشْقِ وَهُوَ الْمَغْرَةُ. قَوْلُهُ: «يَشُبُّ الْوَجْهَ» بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ: أَيْ يُجَمِّلُهُ. قَوْلُهُ: «وَلا تَمْتَشِطِي بِالطِّيبِ وَلا بِالْحِنَّاءِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْتَشِطَ بِشَيْءٍ مِنْ الطِّيبِ أَوْ بِمَا فِيهِ زِينَةٌ كَالْحِنَّاءِ، وَلَكِنَّهَا تَمْتَشِطُ بِالسِّدْرِ. قَوْلُهُ: «تُغَلِّفِينَ بِهِ رَأْسَك» الْغِلافُ فِي الأَصْلِ الْغِشَاوَةُ. قَوْلُهُ: (تَجُدُّ) : أَيْ تَقْطَعُ نَخْلًا لَهَا، وَظَاهِرُ إذْنِهِ - صلى الله عليه وسلم - لَهَا بِالْخُرُوجِ لِجَدِّ

(2/314)


النَّخْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ لِتِلْكَ الْحَاجَةِ وَلِمَا يُشَابِهُهَا بِالْقِيَاسِ. وَقَدْ بَوَّبَ النَّوَوِيُّ لِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: (بَابُ جَوَازِ خُرُوجِ الْمُعْتَدَّةِ الْبَائِنِ مِنْ مَنْزِلِهَا فِي النَّهَارِ لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ وَلا يَجُوزُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ) . قَوْلُهُ «تَسَلَّبِي» أَيْ الْبَسِي السَّلابَ: وَهُوَ ثَوْبُ الإِحْدَادِ. وَقِيلَ: هُوَ ثَوْبٌ أَسْوَدُ تُغَطِّي بِهِ رَأْسَهَا. قَالَ العراقي فِي شرح الترمذي: ظاهره أنه لا يجب الإحداد عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا بعد اليوم الثالث لأن أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ كانت زوج جعفر بالاتفاق، وهي والدة أولاده. وأجاب بأن هَذَا الْحَدِيثُ شاذ مخالف للأَحَادِيثِ الصحيحة َقَدْ أجمعوا عَلَى خلافه. بَابُ أَيْنَ تَعْتَدُّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا 3821- عَنْ فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ قَالَتْ: خَرَجَ زَوْجِي فِي طَلَبِ أَعْلاجٍ لَهُ فَأَدْرَكَهُمْ فِي طَرَفِ الْقُدُومِ فَقَتَلُوهُ، فَأَتَانِي نَعْيُهُ وَأَنَا فِي دَارٍ شَاسِعَةٍ مِنْ دُورِ أَهْلِي، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ، فَقُلْت: إنَّ نَعْيَ زَوْجِي أَتَانِي فِي دَارٍ شَاسِعَةٍ مِنْ دُورِ أَهْلِي، وَلَمْ يَدَعْ نَفَقَةً وَلا مَالاً وَرِثْتُهُ، وَلَيْسَ الْمَسْكَنُ لَهُ، فَلَوْ تَحَوَّلْت إلَى أَهْلِي وَإِخْوَتِي لَكَانَ أَرْفَقَ لِي فِي بَعْضِ شَأْنِي، قَالَ: «تَحَوَّلِي» . فَلَمَّا خَرَجْت إلَى الْمَسْجِدِ أَوْ إلَى الْحُجْرَةِ دَعَانِي أَوْ أَمَرَ بِي فَدُعِيتُ، فَقَالَ: «اُمْكُثِي فِي بَيْتِكِ الَّذِي أَتَاكِ فِيهِ نَعْيُ زَوْجِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» . قَالَتْ: فَاعْتَدَدْت فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. قَالَتْ: وَأَرْسَلَ إلَيَّ عُثْمَانُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَأَخَذَ بِهِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَةْ إرْسَالَ عُثْمَانَ. 3822- وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الْمِيرَاثِ بِمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهَا مِنْ الرُّبُعِ وَالثُّمُنِ، وَنُسِخَ أَجَلُ الْحَوْلِ أَنْ جُعِلَ أَجَلُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ فُرَيْعَةَ عَلَى أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا تَعْتَدُّ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي بَلَغَهَا نَعْيُ زَوْجِهَا وَهِيَ فِيهِ وَلا تَخْرُجُ مِنْهُ

(2/315)


إلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ جَوَازُ خُرُوجِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا لِلْعُذْرِ عَنْ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ عُمَرُ، أَخْرَجَ عَنْهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّهُ رَخَّصَ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَهَا بَيَاضَ يَوْمِهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ ابْنَةٌ تَعْتَدُّ مِنْ وَفَاةِ زَوْجِهَا فَكَانَتْ تَأْتِيهِمْ بِالنَّهَارِ فَتُحَدِّثُ ... إلَيْهِمْ، فَإِذَا كَانَ بِاللَّيْلِ أَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إلَى بَيْتِهَا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - أَنَّهُ جَوَّزَ لِلْمُسَافِرَةِ الِانْتِقَالَ. إلى أن قَالَ: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْ قَالَ: إنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا لا تَسْتَحِقُّ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: حَفِظْت عَمَّنْ أَرْضَى بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ نَفَقَةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَكِسْوَتَهَا حَوْلًا مَنْسُوخَتَانِ بِآيَةِ الْمِيرَاثِ. وَقَالَ أَيْضًا: الاخْتِيَارُ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ أَنْ يُسَكِّنُوهَا لأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «اُمْكُثِي فِي بَيْتِكِ» وَقَدْ ذَكَرَتْ أَنَّهُ لا بَيْتَ لِزَوْجِهَا، يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ سُكْنَاهَا فِي بَيْتِ زَوْجِهَا إذَا كَانَ لَهُ بَيْتٌ بِالطَّرِيقِ الأَوْلَى. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَا جَاءَ فِي نَفَقَةِ الْمَبْتُوتَةِ وَسُكْنَاهَا 3823- عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلاثًا قَالَ: «لَيْسَ لَهَا سُكْنَى وَلا نَفَقَةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 3824- وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا قَالَتْ: طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلاثًا فَلَمْ يَجْعَلْ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سُكْنَى وَلا نَفَقَةً. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ. 3825- وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا أَيْضًا قَالَتْ: طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلاثًا، فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَعْتَدَّ فِي أَهْلِي. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 3826- وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ: أَلَمْ تَرَيْ إلَى فُلانَةَ بِنْتِ الْحَكَمِ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا الْبَتَّةَ، فَخَرَجَتْ، فَقَالَ: بِئْسَمَا صَنَعَتْ. فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعِي إلَى قَوْلِ فَاطِمَةَ؟ فَقَالَتْ: أَمَا إنَّهُ لا خَيْرَ لَهَا فِي ذَلِكَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3827- وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عَائِشَةَ عَابَتْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْعَيْبِ وَقَالَتْ: إنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ فِي مَكَان وَحْشٍ فَخِيفَ عَلَى نَاحِيَتِهَا، فَلِذَلِكَ أَرْخَصَ لَهَا

(2/316)


رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. 3828- وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ زَوْجِي طَلَّقَنِي ثَلاثًا وَأَخَافُ أَنْ يَقْتَحِمَ عَلَيَّ، فَأَمَرَهَا فَتَحَوَّلَتْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 3829- وَعَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ حَدَّثَ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ ... رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى وَلا نَفَقَةً، فَأَخَذَ الأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ كَفًّا مِنْ حَصًى فَحَصَبَهُ بِهِ وَقَالَ: وَيْلَكَ تُحَدِّثُ بِمِثْلِ هَذَا؟ قَالَ عُمَرُ: لا نَتْرُكُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لا نَدْرِي لَعَلَّهَا حَفِظَتْ أَوْ نَسِيَتْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 3830- وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةُ قَالَ: أَرْسَلَ مَرْوَانُ قَبِيصَةَ بْنَ ذُؤَيْبٍ إلَى فَاطِمَةَ، فَسَأَلَهَا فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ أَبِي حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَّرَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - يَعْنِي عَلَى بَعْضِ الْيَمَنِ - فَخَرَجَ مَعَهُ زَوْجُهَا، فَبَعَثَ إلَيْهَا بِتَطْلِيقَةٍ كَانَتْ بَقِيَتْ لَهَا، وَأَمَرَ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ أَنْ يُنْفِقَا عَلَيْهَا، فَقَالا: لا وَاَللَّهِ مَا لَهَا نَفَقَةٌ إلا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا، فَأَتَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «لا نَفَقَةَ لَك إلا أَنْ تَكُونِي حَامِلاً» . وَاسْتَأْذَنَتْهُ فِي الِانْتِقَالِ فَأَذِنَ لَهَا. فَقَالَتْ: أَيْنَ أَنْتَقِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: ... «عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ» . وَكَانَ أَعْمَى تَضَعُ ثِيَابَهَا عِنْدَهُ وَلا يُبْصِرُهَا، فَلَمْ تَزَلْ هُنَاكَ حَتَّى مَضَتْ عِدَّتُهَا، فَأَنْكَحَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أُسَامَةَ، فَرَجَعَ قَبِيصَةُ إلَى مَرْوَانَ فَأَخْبَرَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ مَرْوَانُ: لَمْ نَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ إلا مِنْ امْرَأَةٍ، فَسَنَأْخُذُ بِالْعِصْمَةِ الَّتِي وَجَدْنَا النَّاسَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ حِينَ بَلَغَهَا ذَلِكَ: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، حَتَّى قَالَ: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} ، فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلاثِ؟ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَمُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْمُطَلَّقَةَ بَائِنًا لا تَسْتَحِقُّ عَلَى زَوْجِهَا شَيْئًا مِنْ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد وَأَتْبَاعُهُمْ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ

(2/317)


لا نَفَقَةَ لَهَا، وَلَهَا السُّكْنَى. وَاحْتَجُّوا لإِثْبَاتِ السُّكْنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وَلإِسْقَاطِ النَّفَقَةِ بِمَفْهُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . وَذَهَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالثَّوْرِيُّ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ إلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى. وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ} الآيَةِ وَذَهَبَ الْهَادِي وَالْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ وَحَكَاهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إلَى أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ دُونَ السُّكْنَى. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ... {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} وَبِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ بَائِنًا مَحْبُوسَةٌ بِسَبَبِ الزَّوْجِ. وأرجح هذه الأقوال الأول. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قوْلُهُ: (وَاسْتَأْذَنَتْهُ فِي الِانْتِقَالِ فَأَذِنَ لَهَا) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُطَلَّقَةِ بَائِنًا الِانْتِقَالُ مِنْ الْمَنْزِلِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلاقُ وهي فِيهِ، فَيَكُونُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَخْرُجْنَ} وَلا يُعَارِضُ هَذَا حَدِيثُ الْفُرَيْعَةِ لأَنَّهُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ. بَابُ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لِلْمُعْتَدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ 3831- عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ: أَتَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْت: إنَّ زَوْجِي فُلانًا أَرْسَلَ إلَيَّ بِطَلاقٍ، وَإِنِّي سَأَلْت أَهْلَهُ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى فَأَبَوْا عَلَيَّ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ أَرْسَلَ إلَيْهَا بِثَلاثِ تَطْلِيقَاتٍ قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّمَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى لِلْمَرْأَةِ إذَا كَانَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 3832- وَفِي لَفْظٍ: «إنَّمَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا مَا كَانَتْ لَهُ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ فَلا نَفَقَةَ وَلا سُكْنَى» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ بِمَنْطُوقِهِ عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى عَلَى الزَّوْجِ لِلْمُطَلَّقَةِ رَجْعِيًّا، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَيَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِمَا لِمَنْ عَدَاهَا إلا إذَا كَانَتْ حَامِلًا.

(2/318)


بَابُ اسْتِبْرَاءِ الأَمَةِ إذَا مُلِكَتْ 3833- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي سَبْيِ أَوْطَاسٍ: «لا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَحِيضَ، وَلا غَيْرُ حَامِلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3834- عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهُ أَتَى عَلَى امْرَأَةٍ مُجِحٍّ عَلَى بَابِ فُسْطَاطٍ فَقَالَ: «لَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُلِمَّ بِهَا» ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنَةً تَدْخُلُ مَعَهُ قَبْرَهُ، كَيْفَ يُوَرِّثُهُ وَهُوَ لا يَحِلُّ لَهُ؟ كَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ وَهُوَ لا يَحِلُّ لَهُ» ؟ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 3835- وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ وَقَالَ: «كَيْفَ يُوَرِّثُهُ وَهُوَ لا يَحِلُّ لَهُ؟ وَكَيْفَ يَسْتَرِقُّهُ وَهُوَ لا يَحِلُّ لَهُ» ؟ وَالْمُجِحُّ: هِيَ الْحَامِلُ الْمُقْرَبُ. 3836- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَقَعَنَّ رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ وَحَمْلُهَا لِغَيْرِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3837- وَعَنْ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يَسْقِ مَاءَهُ وَلَدَ غَيْرِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. 3838- وَأَبُو دَاوُد وَزَادَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يَقَعْ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ السَّبْيِ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا» . 3839- وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يَنْكِحَنَّ ثَيِّبًا مِنْ السَّبَايَا حَتَّى تَحِيضَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَمَفْهُومُهُ أَنَّ الْبِكْرَ لا تُسْتَبْرَأُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إذَا وُهِبَتْ الْوَلِيدَةُ الَّتِي تُوطَأُ أَوْ بِيعَتْ أَوْ أُعْتِقَتْ فَلْتُسْتَبْرَأْ بِحَيْضَةٍ، وَلا تُسْتَبْرَأُ الْعَذْرَاءُ. حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ عَنْ عَلِيٍّ مَا الظَّاهِرُ حَمْلُهُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ. 3840- فَرَوَى بُرَيْدَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلِيًّا إلَى خَالِدٍ - يَعْنِي إلَى الْيَمَنِ - لِيَقْبِضَ الْخُمْسَ، فَاصْطفَى عَلِي مِنْهُ سَبِيَّةً فَأَصْبَحَ وَقَدْ اغْتَسَلَ، فَقُلْت لِخَالِدٍ: أَلا تَرَى إلَى هَذَا؟ - وَكُنْت أُبْغِضُ عَلِيًّا - فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: «يَا بُرَيْدَةَ أَتُبْغِضُ عَلِيًّا» ؟ فَقُلْت: نَعَمْ، فَقَالَ:

(2/319)


.. «لا تُبْغِضْهُ فَإِنَّ لَهُ فِي الْخُمْسِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 3841- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: أَبْغَضْت عَلِيًّا بُغْضًا لَمْ أُبْغِضْهُ أَحَدًا، وَأَحْبَبْت رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ لَمْ أُحْبِبْهُ إلا عَلَى بُغْضِهِ عَلِيًّا، قَالَ: فَبُعِثَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى خَيْلٍ فَصَحِبْتُهُ فَأَصَبْنَا سَبَايَا، قَالَ: فَكَتَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ابْعَثْ إلَيْنَا مَنْ يُخَمِّسُهُ، قَالَ: فَبَعَثَ إلَيْنَا عَلِيًّا، وَفِي السَّبْيِ وَصِيفَةٌ. هِيَ مِنْ أَفْضَلِ السَّبْيِ، قَالَ فَخَمَّسَ وَقَسَمَ، فَخَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، فَقُلْنَا: يَا أَبَا الْحَسَنِ مَا هَذَا؟ قَالَ: أَلَمْ تَرَوْا إلَى الْوَصِيفَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي السَّبْيِ؟ فَإِنِّي قَسَمْت وَخَمَّسْت فَصَارَتْ فِي الْخُمُسِ ثُمَّ صَارَتْ فِي أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ صَارَتْ فِي آلِ عَلِيٍّ وَوَقَعْت بِهَا، قَالَ: فَكَتَبَ الرَّجُلُ إلَى نَبِيِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْت: ابْعَثْنِي، فَبَعَثَنِي مُصَدِّقًا، فَجَعَلْت أَقْرَأُ الْكِتَابَ وَأَقُولُ: صَدَقَ، قَالَ: فَأَمْسَكَ يَدَيَّ وَالْكِتَابَ وَقَالَ: «أَتُبْغِضُ عَلِيًّا» ؟ قُلْت: نَعَمْ، قَالَ: «فَلا تُبْغِضْهُ، وَإِنْ كُنْت تُحِبُّهُ فَازْدَدْ لَهُ حُبًّا، فَوَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَنَصِيبُ آلِ عَلِيٍّ فِي الْخُمْسِ أَفْضَلُ مِنْ وَصِيفَةٍ» . قَالَ: فَمَا كَانَ مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ بَعْدَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ عَلِيٍّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ بَعْضَ الشُّرَكَاءِ يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ فِي قِسْمَةِ مَالِ الشَّرِكَةِ، وَالْمُرَادُ بِآلِ عَلِيٍّ نَفْسُهُ. قوْلُهُ: «لا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلا غَيْرُ حَامِلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً» قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: َالْحَدِيثَانِ يَدُلانِ عَلَى أَنَّهُ يُحَرَّمُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَطَأَ الأَمَةَ الْمَسْبِيَّةَ إذَا كَانَتْ حَامِلًا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا. وَالْحَدِيثُ الأَوَّلُ مِنْهُمَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَطَأَ الأَمَةَ الْمَسْبِيَّةَ إذَا كَانَتْ حَائِلاً حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: «وَلا غَيْرَ حَامِلٍ» أَنَّهُ يَجِبُ الاسْتِبْرَاءُ لِلْبِكْرِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْقِيَاسُ عَلَى الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا تَجِبُ مَعَ الْعِلْمِ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى أَنَّ الاسْتِبْرَاءَ إنَّمَا يَجِبُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ تَعْلَمْ بَرَاءَةَ رَحِمِهَا وَأَمَّا مَنْ عَلِمَتْ بَرَاءَةَ رَحِمِهَا فَلا اسْتِبْرَاءَ فِي حَقِّهَا. وَيُؤَيِّدُ هَذَا حَدِيثُ رُوَيْفِعٍ فَإِنَّ قَوْلَهُ: «فَلا يَنْكِحَنَّ ثَيِّبًا مِنْ السَّبَايَا حَتَّى تَحِيضَ» يُرْشِدُ إلَى ذَلِكَ وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا حَدِيثُ عَلِيٍّ فَيَكُونُ هَذَا مُخَصِّصًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ: «وَلا غَيْرَ

(2/320)


حَامِلٍ» أَوْ مُقَيِّدًا لَهُ. وَاسْتَدَلَّ بِالأَثَرِ الْمَذْكُورِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِوُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى وَاهِبِ الأَمَةِ وَبَائِعِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لا يَجِبُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُسْتَحَبُّ فَقَطْ. وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَالْمُتَّهِبِ وَنَحْوِهِمَا. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى الْوُجُوبِ، وَظَاهِرُ حَدِيثِ رُوَيْفِعٍ وَمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ الْحَامِلِ مِنْ زِنًى وَغَيْرِهَا فَيَجِبُ اسْتِبْرَاءُ الأَمَةِ الَّتِي كَانَت قَبْلَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا تَزْنِي إنْ كَانَتْ حَامِلًا فَبِالْوَضْعِ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ حَامِلٍ فَبِحَيْضَةٍ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: (فَاصْطَفَى عَلِيٌّ مِنْهُ سَبِيَّةً) إلَى آخره يُمْكِنُ حَمْلُ هَذَا عَلَى أَنَّ السَّبِيَّةَ الَّتِي أَصَابَهَا كَانَتْ بِكْرًا أَوْ كَانَ قَدْ مَضَى عَلَيْهَا مِنْ بَعْدِ السَّبْيِ مِقْدَارُ مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ لأَنَّهَا قَدْ دَخَلَتْ فِي مِلْكِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَقْتِ السَّبْيِ، وَالْمَصِيرُ إلَى مِثْلِ هَذَا مُتَعَيَّنٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ، وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ وَسَائِرِ أَحَادِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ لا يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ وَطْءِ الْسبية الإِسْلامُ، وَلَوْ كَانَ شَرْطًا لنَبيه - صلى الله عليه وسلم -. انتهى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَلا يَجِبُ اسْتِبْرَاءُ الأَمَة الْبِكْرِ كَانَتْ كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنُ عُمَر وَاخْتِيَارِ الْبُخَارِيّ وَرِوَايَة عَنْ أَحْمَدٍ، وَالأَشْبَهُ وَلا مَنِ اشْتَرَاهَا مِنْ رَجُلٍ صَادِقٌ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يَطَأْ أَوْ وَطِيَء وَاسْتِبْرَأ. انْتَهَى.

(2/321)


 كِتَابُ الرَّضَاعِ

بَابُ عَدَدِ الرَّضَعَاتِ الْمُحَرِّمَةِ

3842- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلا الْمَصَّتَانِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ. 3843- وَعَنْ أُمِّ الْفَضْلِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أَتُحَرِّمُ الْمَصَّةُ؟ فَقَالَ: «لا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَالرَّضْعَتَانِ، وَالْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ» . 3844- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ: دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي بَيْتِي - فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنِّي كَانَتْ لِي امْرَأَةٌ فَتَزَوَّجْت عَلَيْهَا أُخْرَى فَزَعَمَتْ امْرَأَتِي الأُولَى أَنَّهَا أَرْضَعَتْ امْرَأَتِي الْحُدْثَى رَضْعَةً أَوْ رَضْعَتَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُحَرِّمُ الإِمْلاجَةُ وَلا الإِمْلاجَتَانِ» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 3845- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ. 3846- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ فِيمَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهي فِيمَا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 3847- وَفِي لَفْظٍ قَالَتْ - وَهِيَ تَذْكُرُ الَّذِي يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ -: نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ أَيْضًا خَمْسٌ مَعْلُومَاتٌ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

(2/322)


3848- وَفِي لَفْظٍ قَالَت: أُنْزِلَ فِي الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ، فَنُسِخَ مِنْ ذَلِكَ خَمْسُ رَضَعَاتٍ إلَى خَمْسِ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. 3849- وَفِي لَفْظٍ: كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ سَقَطَ: لا يُحَرِّمُ إلا عَشْرُ رَضَعَاتٍ أَوْ خَمْسٌ مَعْلُومَاتٌ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. 3850- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ فَأَرْضَعَتْ سَالِمًا خَمْسَ رَضَعَاتٍ وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3851- وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ تَبَنَّى سَالِمًا وَهُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنْ الأَنْصَارِ كَمَا تَبَنَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - زَيْدًا، وَكَانَ مَنْ تَبَنَّى رَجُلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ دَعَاهُ النَّاسُ ابْنَهُ وَوَرِثَ مِيرَاثَهُ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} فَرُدُّوا إلَى آبَائِهِمْ، فَمَنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ أَبٌ فَمَوْلًى وَأَخٌ فِي الدِّينِ، فَجَاءَتْ سَهْلَةُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا يَأْوِي مَعِي وَمَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ وَيَرَانِي فُضُلى وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ مَا قَدْ عَلِمْت، فَقَالَ: «أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ» . فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ وَأَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «الرَّضْعَةُ» هِيَ الْمَرَّةُ مِنْ الرَّضَاعِ فَمَتَى الْتَقَمَ الصَّبِيُّ الثَّدْيَ فَامْتَصَّ مِنْهُ ثُمَّ تَرَكَهُ بِاخْتِيَارِهِ لِغَيْرِ عَارِضٍ كَانَ ذَلِكَ رَضْعَةً. وَالإِمْلاجَةُ: الإِرْضَاعَةُ الْوَاحِدَةُ مِثْلُ الْمَصَّةِ. وَالأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّضْعَةَ الْوَاحِدَةَ وَالرَّضْعَتَيْنِ، لا يَثْبُتُ بِهَا حُكْمُ الرَّضَاعِ الْمُوجِبُ لِلتَّحْرِيمِ. وَتَدُلُّ بِمَفْهُومِهَا أَنَّ الثَّلاثَ تَقْتَضِي التَّحْرِيمَ. وَلَكِنَّهُ يُعَارِضُ هَذَا الْمَفْهُومَ الْخَمْسُ الرَّضَعَاتِ الْمَذْكُورَة. قَوْلُهُ: «مَعْلُومَاتٍ» فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لا يَثْبُتُ حُكْمُ الرَّضَاعِ إلا بَعْدَ الْعِلْمِ بِعَدَدِ الرَّضَعَاتِ وَأَنَّهُ لا يَكْفِي الظَّنُّ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ مِنْ الرَّضَاعِ إلا خَمْسُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعُرْوَةُ ابْنُ

(2/323)


الزُّبَيْرِ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ حَزْمٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ الرَّضَاعَ الْوَاصِلَ إلَى الْجَوْفِ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَإِنْ قَلَّ، إلى أن قَالَ: فَالظَّاهِرُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِاعْتِبَارِ الْخَمْسِ. قَوْلُهُ: (فُضُلى) بِضَمِّ الْفَاءِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ قَالَ الْخَطَّابِيِّ: أَيْ مُبْتَذِلَةً فِي ثِيَابِ مِهْنَتِهَا. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْفُضُلُ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ: الَّذِي عَلَيْهِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ بِغَيْرِ إزَارٍ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَيْ مَكْشُوفُ الرَّأْسِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي رَضَاعَةِ الْكَبِيرِ 3852- عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ لِعَائِشَةَ: إنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْك الْغُلامُ الأَيْفَعُ الَّذِي مَا أُحِبُّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيَّ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَا لَكِ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟ وَقَالَتْ: إنَّ امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ سَالِمًا يَدْخُلُ عَلَيَّ وَهُوَ رَجُلٌ وَفِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَرْضِعِيهِ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْكِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِم. 3853- وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ زَيْنَبَ عَنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُدْخِلْنَ عَلَيْهِنَّ أَحَدًا بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ: مَا نُرَى هَذَا إلا رُخْصَةً أَرْخَصَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِسَالِمٍ خَاصَّةً، فَمَا هُوَ بِدَاخِلٍ عَلَيْنَا أَحَدٌ بِهَذِهِ الرَّضَاعَةِ وَلا رَائِينَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. 3854- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلاَّ مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ» . 3855- وَعَنْ ابنُ عُيَيْنَة عَنْ عَمْرُو بن دِينَار عَنِ ابنِ عَبَّاسَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا رِضَاعَ إِلا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي وَقَالَ: لَمْ يسنده عَنْ ابن عُيَيْنَة غَيْرَ الْهَيْثَمِ بن جَمِيل وَهُوَ ثِقَة حَافِظ. 3856- وَعَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا رِضَاعَ بَعْدَ فِصَال، وَلا يَتِمُّ

(2/324)


بَعْدَ احْتِلام» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد والطَّيَالِسي فِي مُسْنَدِهِ. 3857- وَعَائِشَةُ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعِنْدِى رَجُلٌ فَقَالَ: «مَنْ هَذَا» . قُلْتُ: أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ. قَالَ: «يَا عَائِشَةُ انْظُرْنَ إِخْوَانَكُنَّ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ - يَعْنِي قِصَّةِ سَالِمْ - مَنْ قَالَ: إنَّ إرْضَاعَ الْكَبِيرِ يَثْبُتُ بِهِ التَّحْرِيمُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - وَإِلَيْهِ ذَهَبَتْ عَائِشَةُ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَاللَّيْثُ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ عُلَيَّةَ وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ دَاوُد الظَّاهِرِيِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ الإِطْلاقَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ} . وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ حُكْمَ الرَّضَاعِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الصَّغِيرِ وَأَجَابُوا عَنْ قِصَّةِ سَالِمٍ بِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ دَعْوَى الِاخْتِصَاصِ تَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ مُخْتَصَّةً بِسَالِمٍ لَبَيَّنَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا بَيَّنَ اخْتِصَاصَ أَبِي بُرْدَةَ بِالتَّضْحِيَةِ بِالْجَذَعِ مِنْ الْمَعْزِ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ الَّتِي يَقْتَضِي الرَّضَاعُ فِيهَا التَّحْرِيمَ عَلَى أَقْوَالٍ: الأَوَّلُ: أَنَّهُ لا يُحَرِّمُ مِنْهُ إلا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ. إِلَى أَنْ قَالَ: الْقَوْلُ التَّاسِعُ: أَنَّ الرَّضَاعَ يُعْتَبَرُ فِيهِ الصِّغَرُ إلا فِيمَا دَعَتْ إلَيْهِ الْحَاجَةُ كَرَضَاعِ الْكَبِيرِ الَّذِي لا يُسْتَغْنَى عَنْ دُخُولِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ وَيَشُقُّ احْتِجَابُهَا مِنْهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ شَيْخُ الإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدِي، وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الأَحَادِيثِ، وَهَذِهِ طَرِيقٌ مُتَوَسِّطَةٌ. انتهى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَرِضَاعُ الْكَبِيرِ تُنْشَرُ بِه الْحُرْمَةُ بِحِيث يُبِيحُ الدُّخُولُ وَالْخُلْوَة إِذَا كَانَ قَدْ رُبِّيَ فِي الْبَيْتِ بِحِيث لا يَحَتَشِمُونَ مِنْهُ لِلْحَاجَةِ لِقِصَّةِ سَالِمُ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَة وَهُوَ بَعْضُ مَذْهَب عَائِشَة وَعَطَاءَ وَاللَّيْث وَدَاود مِمَّنْ يَرَى أَنَّهُ يَنْشُرُ الْحُرْمَة مُطْلَقًا. انْتَهَى. بَابُ يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يُحَرِّمُ مِنْ النَّسَبِ 3858- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُرِيدَ عَلَى ابْنَةِ حَمْزَةَ فَقَالَ: «إنَّهَا

(2/325)


لا تَحِلُّ لِي، إنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَيَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الرَّحِمِ» . 3859 - وَفِي لَفْظٍ: «مِنْ النَّسَبِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3860- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلادَةِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 3861- وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَةْ: «مِنْ النَّسَبِ» . 3862- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا - وَهُوَ عَمُّهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ - بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْحِجَابُ قَالَتْ: فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ؛ فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرْتُهُ بِاَلَّذِي صَنَعْت، فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 3863- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنْ الرَّضَاعِ مَا حَرَّمَ مِنْ النَّسَبِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ، وَذَلِكَ بِالنَّظَرِ إلَى أَقَارِبِ الْمُرْضِعِ لأَنَّهُمْ أَقَارِبُ لِلرَّضِيعِ وَأَمَّا أَقَارِبُ الرَّضِيعِ فَلا قَرَابَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُرْضِعِ وَالْمُحَرَّمَاتُ مِنْ الرَّضَاعِ سَبْعٌ: الأُمُّ وَالأُخْتُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَالْبِنْتُ وَالْعَمَّةُ وَالْخَالَةُ وَبِنْتُ الأَخِ وَبِنْتُ الأُخْتِ لأَنَّ هَؤُلاءِ الْخَمْسَ يُحَرَّمْنَ مِنْ النَّسَبِ وَقَدْ ذَهَبَ الأَئِمَّةُ الأَرْبَعَةُ إلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ نَظِيرُ الْمُصَاهَرَةِ بِالرَّضَاعِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّ امْرَأَتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَامْرَأَةُ أَبِيهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَيَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبِنْتِهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي دُخُولِ أَفْلَحَ عَلَيْهَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِ الرَّضَاعِ فِي حَقِّ زَوْجِ الْمُرْضِعَةِ وَأَقَارِبِهِ كَالْمُرْضِعَةِ وَقَدْ ذَهَبَ إلَى هَذَا جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ بِالرَّضَاعِ 3864- عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إهَابٍ

(2/326)


فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا. قَالَ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَعْرَضَ عَنِّي، قَالَ: فَتَنَحَّيْت فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا» . فَنَهَاهُ عَنْهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 3865- وَفِي رِوَايَةٍ: «دَعْهَا عَنْك» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا مُسْلِمًا وَابْنَ مَاجَةْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْمُرْضِعَةِ وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا وَحْدَهَا وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالْحَسَنِ وَإِسْحَاقَ وَالأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَلَكِنَّهُ قَالَ: يَجِبُ الْعَمَلُ عَلَى الرَّجُلِ بِشَهَادَتِهَا فَيُفَارِقُ زَوْجَتَهُ وَلا يَجِبُ الْحُكْمُ عَلَى الْحَاكِمِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ لا يُقْبَلُ فِي الرَّضَاعِ إلا شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بِالأَوَّلِ وَذَهَبَتْ الْعِتْرَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لا بُدَّ مِنْ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَسَائِرِ الأُمُورِ وَلا تَكْفِي شَهَادَةُ الْمُرْضِعَةِ وَحْدَهَا. إِلَى أَنْ قَالَ: وَالِاسْتِدْلالُ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ الْمَرْأَةِ الْمُرْضِعَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} لا يُفِيدُ شَيْئًا لأَنَّ الْوَاجِبَ بِنَاءُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَلا شَكَّ أَنَّ الْحَدِيثَ أَخَصُّ مُطْلَقًا. إِلَى أَنْ قَالَ: فَالْحَقُّ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِقَوْلِ الْمَرْأَةِ الْمُرْضِعَةِ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً. انتهى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَعْرُوفَةُ بِالصِّدْقِ وَذَكَرَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْ طِفْلاً خَمَس رَضَعَات قَبْل قَوْلِهَا وَيَثْبُتُ حُكْم الرَّضَاعِ الصَّحِيحِ. انْتَهَى. بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ أَنْ تُعْطَى الْمُرْضِعَةُ عِنْدَ الْفِطَامِ 3866- عَنْ حَجَّاجِ بْنِ حَجَّاجٍ - رَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ - قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُذْهِبُ عَنِّي مَذَمَّةَ الرَّضَاعِ؟ قَالَ: «غُرَّةٌ: عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا ابْنَ مَاجَةْ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

(2/327)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْعَطِيَّةِ لِلْمُرْضِعَةِ عِنْدَ الْفِطَامِ وَأَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً. وَاَللهُ أَعْلَمُ.

(2/328)


 كِتَابُ النَّفَقَاتِ

بَابُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَتَقْدِيمِهَا عَلَى نَفَقَةِ الأَقَارِبِ 3867- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْت بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 3868- وَعَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِرَجُلٍ: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلأَهْلِكَ؛ فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ؛ فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 3869- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تَصَدَّقُوا» . قَالَ رَجُلٌ: عِنْدِي دِينَارٌ، قَالَ: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِك» . قَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ، قَالَ: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجَتِك» . قَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ، قَالَ: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِك» . قَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ، قَالَ: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِك» . قَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ، قَالَ: «أَنْتَ أَبْصَرُ بِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد لَكِنَّهُ قَدَّمَ الْوَلَدَ عَلَى الزَّوْجَةِ. وَاحْتَجَّ بِهِ أَبُو عُبَيْدٍ فِي تَحْدِيدِ الْغِنَى بِخَمْسَةِ دَنَانِيرَ ذَهَبًا تَقْوِيَةً لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْخَمْسِينَ دِرْهَمًا.

(2/329)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الأَوَّلُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الإِنْفَاقَ عَلَى أَهْلِ الرَّجُلِ أَفْضَلُ مِنْ الإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمِنْ الإِنْفَاقِ فِي الرِّقَابِ وَمِنْ التَّصَدُّقِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُؤْثِرَ زَوْجَتَهُ وَسَائِرَ قَرَابَتِهِ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي نَفَقَةِ نَفْسِهِ ثُمَّ إذَا فَضَلَ عَنْ حَاجَةِ نَفْسِهِ شَيْءٌ فَعَلَيْهِ إنْفَاقُهُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَقَدْ انْعَقَدَ الإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، ثُمَّ إذَا فَضَلَ عَنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَعَلَى ذَوِي قَرَابَتِهِ، ثُمَّ إذَا فَضَلَ عَنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ التَّصَدُّقُ بِالْفَاضِلِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ الْمُوسِرِ مَئُونَة الأَبَوَيْنِ الْمُعْسِرَيْنِ. قَوْلُهُ: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِك» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ الأَبَ نَفَقَةُ وَلَدِهِ الْمُعْسِرِ فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ صَغِيرًا فَذَلِكَ إجْمَاعٌ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَقِيلَ: نَفَقَتُهُ عَلَى الأَبِ وَحْدَهُ دُونَ الأُمِّ، وَقِيلَ: عَلَيْهِمَا حَسَبُ الإِرْثِ. قَوْلُهُ: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِك» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْخَادِمِ. بَابُ اعْتِبَارِ حَالِ الزَّوْجِ فِي النَّفَقَةِ 3870- عَنْ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ قَالَ: أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فَقُلْت: مَا تَقُولُ فِي نِسَائِنَا؟ قَالَ: «أَطْعِمُوهُنَّ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَاكْسُوهُنَّ مِمَّا تَكْتَسُونَ، وَلا تَضْرِبُوهُنَّ وَلا تُقَبِّحُوهُنَّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِحَالِ الزَّوْجِ فِي النَّفَقَةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} . بَابُ الْمَرْأَةِ تُنْفِقُ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ إذَا مَنَعَهَا الْكِفَايَةَ 3871- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ هِنْدًا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إلا مَا أَخَذْت مِنْهُ وَهُوَ لا يَعْلَمُ. فَقَالَ: «خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ

(2/330)


الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا، وَعَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ عَلَى الأَبِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ وَجَبَتْ لَهُ النَّفَقَةُ شَرْعًا عَلَى شَخْصٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيهِ إذَا لَمْ يَقَعْ مِنْهُ الِامْتِثَالُ وَأَصَرَّ عَلَى التَّمَرُّدِ، وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ مَنْ قَدَّرَ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ بِالْكِفَايَةِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. بَابُ إثْبَاتِ الْفُرْقَةِ لِلْمَرْأَةِ إذَا تَعَذَّرَتْ النَّفَقَةُ بِإِعْسَارٍ وَنَحْوِهِ 3872- عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ مِنْهَا عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» . فَقِيلَ: مَنْ أَعُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «امْرَأَتُك مِمَّنْ تَعُولُ، تَقُولُ: أَطْعِمْنِي وَإِلا فَارِقْنِي. وَجَارِيَتُك تَقُولُ: أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي، وَوَلَدُك يَقُولُ: إلَى مَنْ تَتْرُكُنِي» ؟ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. 3873- وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَأَحْمَدُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَجَعَلُوا الزِّيَادَةَ الْمُفَسَّرَةَ فِيهِ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ. 3847- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنٍ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الرَّجُل ِ لا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ قَالَ: «يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: «تَقُولُ أَطْعِمْنِي وَإِلا فَارِقْنِي» اُسْتُدِلَّ بِهِ وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الآخَرِ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إذَا أُعْسِرَ عَنْ نَفَقَةِ امْرَأَتِهِ وَاخْتَارَتْ فِرَاقَهُ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. إلى أن قال: وَأَمَّا اسْتِدْلالُ الآخَرِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} فَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّا لَمْ نُكَلِّفْهُ النَّفَقَةَ حَالَ إعْسَارِهِ، بَلْ دَفَعْنَا الضَّرَرَ عَنْ امْرَأَتِهِ وَخَلَّصْنَاهَا مِنْ حِبَالِهِ لِتَكْتَسِبَ لِنَفْسِهَا أَوْ يَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ آخَرُ وَظَاهِرُ الأَدِلَّةِ أَنَّهُ يَثْبُتُ الْفَسْخُ لِلْمَرْأَةِ بِمُجَرَّدِ عَدَمِ وِجْدَانِ الزَّوْجِ لِنَفَقَتِهَا بِحَيْثُ يَحْصُلُ عَلَيْهَا ضَرَرٌ مِنْ ذَلِكَ وَقِيلَ: إنَّهُ يُؤَجَّلُ الزَّوْجُ مُدَّةً، فَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُؤَجَّلُ شَهْرًا، وَعَنْ الشَّافِعِيَّةِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَلَهَا الْفَسْخُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَرُوِيَ عَنْ حَمَّادٍ أَنَّ الزَّوْجَ يُؤَجَّلُ سَنَةً ثُمَّ يُفْسَخُ قِيَاسًا عَلَى الْعِنِّينِ. وَهَلْ تَحْتَاجُ الْمَرْأَةُ إلَى الرَّفْعِ إلَى الْحَاكِمِ؟ رُوِيَ عَنْ الْمَالِكِيَّةِ فِي

(2/331)


وَجْهٍ لَهُمْ أَنَّهَا تُرَافِعُهُ إلَى الْحَاكِمِ لِيُجْبِرَهُ عَلَى الإِنْفَاقِ أَوْ يُطَلِّقَ عَنْهُ وَفِي وَجْهٍ لَهُمْ آخَرَ أَنَّهُ يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بِالإِعْسَارِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَثْبُتَ إعْسَارُهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَالْفَسْخُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَيْهَا وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا إذَا اخْتَارَتْ الْفَسْخَ رَفَعَتْهُ إلَى الْحَاكِمِ وَالْخِيَارُ إلَيْهِ بَيْنَ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى الْفَسْخِ أَوْ الطَّلاقِ. انتهى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَحُصُولُ الضَّرَرِ لِلزَّوْجَةِ بِتَرْكِ الْوَطْءِ مُقْتَضٍ لِلْفَسْخِ بِكُلِّ حَالٍ سَوَاء كَانَ بِقَصْدٍ مِنَ الزَّوْجِ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ وَلَوْ مَعَ قُدْرَتِهِ وَعَجْزِهِ كَالنَّفَقَةِ وَأَوْلَى لِلْفَسْخِ بِتَعَذُّرِهِ فِي الإِيلاءِ إِجْمَاعًا. انْتَهَى. بَابُ النَّفَقَةِ عَلَى الأَقَارِبِ وَمَنْ يَقْدَمُ مِنْهُمْ 3875- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَحَقُّ مِنِّي بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ؟ قَالَ: «أُمُّك» . قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أُمُّك» . قَالَ: ثُمَّ مَنْ قَالَ: «أُمُّك» . قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أَبُوك» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ 3876- وَلِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ: مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: «أُمَّك» . 3877- وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: «أُمَّك» . قَالَ: قُلْت: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أُمَّك» . قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أُمَّك» . قَالَ: قُلْت: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أَبَاك، ثُمَّ الأَقْرَبَ فَالأَقْرَبَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 3878- وَعَنْ طَارِقٍ الْمُحَارِبِيُّ قَالَ: قَدِمْت الْمَدِينَةَ فَإِذَا النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ وَهُوَ يَقُولُ: «يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ: أُمَّك وَأَبَاك، وَأُخْتَك وَأَخَاك، ثُمَّ أَدْنَاك أَدْنَاك» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 3879- وَعَنْ كُلَيْبِ بْنِ مَنْفَعَةَ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: «أُمَّك وَأَبَاك وَأُخْتَك وَأَخَاك، وَمَوْلاك الَّذِي يَلِي ذَاكَ حَقٌّ وَاجِبٌ وَرَحِمٌ مَوْصُولَةٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «أُمَّك» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الأُمَّ أَحَقُّ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ مِنْ الأَبِ وَأَوْلَى مِنْهُ بِالْبِرِّ حَيْثُ لا يَتَّسِعُ مَالُ الِابْنِ إلا لِنَفَقَةِ

(2/332)


وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. قَوْلُهُ: «ثُمَّ الأَقْرَبَ فَالأَقْرَبَ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الأَقَارِبِ عَلَى الأَقَارِبِ، سَوَاءٌ كَانُوا وَارِثِينَ أَمْ لا، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَرِيبَ الأَقْرَبَ أَحَقُّ بِالْبِرِّ وَالإِنْفَاقِ مِنْ الْقَرِيبِ الأَبْعَدِ وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا فَقِيرَيْنِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِ الْمُنْفِقِ إلا مِقْدَارُ مَا يَكْفِي أَحَدَهُمَا فَقَطْ بَعْدَ كِفَايَتِهِ. قَوْلُهُ: «وَمَوْلاك الَّذِي يَلِي ذَاكَ» قِيلَ: أَرَادَ بِالْمَوْلَى هُنَا الْقَرِيبَ وَلَعَلَّ وَجْهَ ذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَهُ وَالِيًا لِلأُمِّ وَالأَبِ وَالأُخْتِ وَالأَخِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَلِيهِمْ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ. انتهى ملخصا. بَابُ مَنْ أَحَقُّ بِكَفَالَةِ الطِّفْلِ 3880- عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: أَنَّ ابْنَةَ حَمْزَةَ اخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَجَعْفَرٌ وَزَيْدٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا هِيَ ابْنَةُ عَمِّي، وَقَالَ جَعْفَرٌ: بِنْتُ عَمِّي وَخَالَتُهَا تَحْتِي، وَقَالَ زَيْدٌ: ابْنَةُ أَخِي، فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِخَالَتِهَا وَقَالَ: «الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3881- وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ طَرِيق عَلِيٍّ، وَفِيهِ: «وَالْجَارِيَةُ عِنْدَ خَالَتِهَا، فَإِنَّ الْخَالَةَ وَالِدَةٌ» . 3882- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وَعَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَزَعَمَ أَبُوهُ أَنَّهُ يَنْزِعُهُ مِنِّي، فَقَالَ: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد 3883- لَكِنْ فِي لَفْظِهِ: وَأَنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي وَزَعَمَ أَنَّهُ يَنْتَزِعُهُ مِنِّي. 3884- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَيَّرَ غُلامًا بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3885- وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي وَقَدْ سَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ، وَقَدْ نَفَعَنِي، فَقَالَ

(2/333)


.. رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اسْتَهِمَا عَلَيْهِ» . فَقَالَ زَوْجُهَا: مَنْ يُحَاقُّنِي فِي وَلَدِي؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (هَذَا أَبُوك وَهَذِهِ أُمُّك فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْت» . فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ فَانْطَلَقَتْ بِهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 3886- وَكَذَلِكَ النَّسَائِيّ وَلَمْ يَذْكُرْ فَقَالَ: «اسْتَهِمَا عَلَيْهِ» . 3887- وَلأَحْمَدَ مَعْنَاهُ لَكِنَّهُ قَالَ فِيهِ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ قَدْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ قَوْلَهَا: قَدْ سَقَانِي وَنَفَعَنِي. 3888- وَعَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ جَدَّهُ أَسْلَمَ وَأَبَتْ امْرَأَتُهُ أَنْ تُسْلِمَ، فَجَاءَ بِابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ لَمْ يَبْلُغْ، قَالَ: فَأَجْلَسَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الأَبَ هَا هُنَا وَالأُمَّ هَا هُنَا، ثُمَّ خَيَّرَهُ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِهِ» . فَذَهَبَ إلَى أَبِيهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 3889- وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي رَافِعِ بْنِ سِنَانٍ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَأَبَتْ امْرَأَتُهُ أَنْ تُسْلِمَ، فَأَتَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: ابْنَتِي وَهِيَ فَطِيمٌ أَوْ شِبْهُهُ، وَقَالَ رَافِعٌ: ابْنَتِي، ... فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اُقْعُدْ نَاحِيَةً» . وَقَالَ لَهَا: «اُقْعُدِي نَاحِيَةً» . فَأَقْعَدَ الصَّبِيَّةَ بَيْنَهُمَا قَالَ: «اُدْعُوَاهَا» . فَمَالَتْ إلَى أُمِّهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ اهْدِهَا» . فَمَالَتْ إلَى أَبِيهَا فَأَخَذَهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. وَعَبْدُ الْحَمِيدِ هَذَا هُوَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعِ بْنِ سِنَانٍ الأَنْصَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَوْلُهُ: (وَقَالَ زَيْدٌ: ابْنَةُ أَخِي) إنَّمَا سَمَّى حَمْزَةَ أَخَاهُ لأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. قَوْلُهُ: «الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَالَةَ فِي الْحَضَانَةِ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالإِجْمَاعِ أَنَّ الأُمَّ أَقْدَمُ الْحَوَاضِنِ، فَمُقْتَضَى التَّشْبِيهِ أَنْ تَكُونَ الْخَالَةُ أَقْدَمَ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الأُمِّ وَأَقْدَمَ مِنْ الأَبِ وَالْعَمَّاتِ وَذَهَبَتْ الشَّافِعِيَّةُ وَالْهَادِي إلَى تَقْدِيمِ الأَبِ عَلَى الْخَالَةِ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْهَادَوِيَّةُ إلَى تَقَدُّمِ أُمِّ الأُمِّ وَأُمِّ الأَبِ عَلَى الْخَالَةِ أَيْضًا وَذَهَبَ النَّاصِرُ

(2/334)


وَالْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ الأَخَوَاتِ أَقْدَمُ مِنْ الْخَالَةِ وَالأَوْلَى تَقْدِيمُ الْخَالَةِ بَعْدَ الأُمِّ عَلَى سَائِرِ الْحَوَاضِنِ لِنَصِّ الْحَدِيثِ وَفَاءً بِحَقِّ التَّشْبِيهِ. انتهى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَالْعَمَّةُ أَحَقُّ مِنَ الْخَالَةِ وَكَذَا نِسَاءُ الأَبِّ أَحَقُّ يُقَدِّمْنَ عَلَى نِسَاءِ الأُمِّ لأَنَّ الْولايَة لِلأَبِّ وَكَذَا أَقَارِبَهُ، وَإِنَّمَا قَدِمَتْ الأُمِّ عَلَى الأَبِّ لأَنَّهُ لا يَقُومُ مَقَامهَا هُنَا فِي مَصْلَحَةِ الطِّفْلِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ السَّلام خَالَة بِنْت حَمْزَة عَلَى عَمَّتِهَا صَفِيَّة لأَنَّ صَفِيَّةَ لَمْ تَطْلَبْ وَجَعْفَر طَلَبَ نائبًا عَنْ خَالَتِهَا فَقَضَى لَهَا فِي غَيْبَتِهَا. انْتَهَى. قَوْلُهُ: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الأُمَّ أَوْلَى بِالْوَلَدِ مِنْ الأَبِ مَا لَمْ يَحْصُلْ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ بِالنِّكَاحِ لِتَقْيِيدِهِ - صلى الله عليه وسلم - لِلأَحَقِّيَّةِ بِقَوْلِهِ: «مَا لَمْ تَنْكِحِي» وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَى ذَلِكَ. قَوْلُهُ: (خَيَّرَ غُلامًا) إلى آخره فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا تَنَازَعَ الأَبُ وَالأُمُّ فِي ابْنٍ لَهُمَا كَانَ الْوَاجِبُ هُوَ تَخْيِيرُهُ فَمَنْ اخْتَارَهُ ذَهَبَ بِهِ وَالظَّاهِرُ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ أَنَّ التَّخْيِيرَ فِي حَقِّ مَنْ بَلَغَ مِنْ الأَوْلادِ إلَى سِنِّ التَّمْيِيزِ هُوَ الْوَاجِبُ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُنْثَى. قَوْلُهُ: «اسْتَهِمَا عَلَيْهِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْعَةَ طَرِيقٌ شَرْعِيَّةٌ عِنْدَ تَسَاوِي الأَمْرَيْنِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا كَمَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ إلَى التَّخْيِيرِ. قَوْلُهُ: فَمَالَتْ إلَى أُمِّهَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ اهْدِهَا» اُسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى جَوَازِ نَقْلِ الصَّبِيِّ إلَى مَنْ اخْتَارَ ثَانِيًا، وَعَلَى ثُبُوتِ الْحَضَانَةِ لِلأُمِّ الْكَافِرَةِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ لا حَضَانَةَ لِلْكَافِرَةِ عَلَى وَلَدِهَا الْمُسْلِمِ وَأَجَابُوا عَنْ الْحَدِيثِ بِمَا فِيهِ مِنْ الْمَقَالِ وَيُجَابُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ صَالِحٌ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي قَبْلَ التَّخْيِيرِ وَالِاسْتِهَامِ مُلاحَظَةُ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلصَّبِيِّ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الأَبَوَيْنِ أَصْلَحَ لِلصَّبِيِّ مِنْ الآخَرِ قُدِّمَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ وَلا تَخْيِيرٍ، هَكَذَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ وَحَكَى عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ أَنَّهُ قَالَ: تَنَازَعَ أَبَوَانِ صَبِيًّا عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَخَيَّرَ الْوَلَدَ بَيْنَهُمَا فَاخْتَارَ أَبَاهُ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: سَلْهُ لأَيِّ شَيْءٍ يَخْتَارُهُ؟ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: أُمِّي

(2/335)


تَبْعَثُنِي كُلَّ يَوْمٍ لِلْكَاتِبِ وَالْفَقِيهِ يَضْرِبَانِي، وَأَبِي يَتْرُكُنِي أَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، فَقَضَى بِهِ لِلأُمِّ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ نَفَقَةِ الرَّقِيقِ وَالرِّفْقِ بِهِمْ 3890- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ لِقَهْرَمَانٍ لَهُ: هَلْ أَعْطَيْتَ الرَّقِيقَ قُوتَهُمْ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَانْطَلِقْ: فَأَعْطِهِمْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 3891- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكُسْوَتُهُ وَلا يُكَلَّفُ مِنْ الْعَمَلِ مَا لا يُطِيقُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 3892- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «هُمْ إخْوَانُكُمْ وَخَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ عَلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3893- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيُنَاوِلْهُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ أَوْ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ فَإِنَّهُ وَلِيَ حَرَّهُ وَعِلاجَهُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 3894- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَهُوَ يُغَرْغَرُ بِنَفْسِهِ: «الصَّلاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وأحاديث الْبَابِ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْمَمْلُوكِ وَكِسْوَتِهِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَى ذَلِكَ وَظَاهِرُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لا يَتَعَيَّنُ عَلَى السَّيِّدِ إطْعَامُهُ مِمَّا يَأْكُلُ، بَلْ الْوَاجِبُ الْكِفَايَةُ بِالْمَعْرُوفِ وَحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ. بَابُ نَفَقَةِ الْبَهَائِمِ 3895- عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ

(2/336)


فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ لا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إذْ حَبَسَتْهَا وَلا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ» . 3896- وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ مِثْلَهُ. 3897- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَأَ خُفَّهُ مَاءً ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَامِ أَجْرًا؟ فَقَالَ: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْه. 3898- وَعَنْ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الضَّالَّةِ مِنْ الإِبِلِ تَغْشَى حِيَاضِي قَدْ لُطْتهَا لِلإِبِلِ هَلْ لِي مِنْ أَجْرٍ فِي شَأْنِ مَا أَسْقِيهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرى أَجْرٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَوْلُهُ: «فِي هِرَّةٍ» أَيْ بِسَبَبِ هِرَّةٍ وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى تَحْرِيمِ حَبْسِ الْهِرَّةِ وَمَا يُشَابِهُهَا مِنْ الدَّوَابِّ بِدُونِ طَعَامٍ وَلا شَرَابٍ، لأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَعْذِيبِ خَلْقِ اللَّهِ. قَوْلُهُ: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ» الرَّطْبُ فِي الأَصْلِ ضِدُّ الْيَابِسِ، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا الْحَيَاةُ لأَنَّ الرُّطُوبَةَ فِي الْبَدَنِ تُلازِمُهَا، وَكَذَلِكَ الْحَرَارَةُ فِي الأَصْلِ ضِدُّ الْبُرُودَةِ، وَأُرِيدَ بِهَا هُنَا الْحَيَاةُ لأَنَّ الْحَرَارَةَ تُلازِمُهَا.

(2/337)


 كِتَابُ الدِّمَاءِ

بَابُ إيجَابِ الْقِصَاصِ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ وَأَنَّ مُسْتَحِقَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدِّيَةِ 3899- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلا بِإِحْدَى ثَلاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 3900- وَعَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلا مِنْ ثَلاثَةٍ: إلا مَنْ زَنَى بَعْدَ مَا أَحْصَنَ أَوْ كَفَرَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ أَوْ قَتَلَ نَفْسًا فَقُتِلَ بِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَمُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ. 3901- وَفِي لَفْظٍ: «لا يَحِلُّ قَتْلُ مُسْلِمٍ إلا فِي إحْدَى ثَلاثِ خِصَالٍ: زَانٍ مُحْصَنٍ فَيُرْجَمُ، وَرَجُلٍ يَقْتُلُ مُسْلِمًا مُتَعَمِّدَا، وَرَجُلٍ يَخْرُجُ مِنْ الإِسْلامِ فَيُحَارِبُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولَهُ فَيُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ أَوْ يُنْفَى مِنْ الأَرْضِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَهُوَ حُجَّةٌ فِي أَنَّهُ لا يُؤْخَذُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. 3902- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَفْتَدِيَ وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 3903- لَكِنَّ لَفْظَ التِّرْمِذِيِّ: «إمَّا أَنْ يَعْفُوَ وَإِمَّا أَنْ يُقْتَلَ» . 3904- وَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ أُصِيبَ بِدَمٍ أَوْ خَبْلٍ - وَالْخَبْلُ: الْجِرَاحُ - فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إحْدَى ثَلاثٍ:

(2/338)


إمَّا أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَأْخُذَ الْعَقْلَ أَوْ يَعْفُوَ فَإِنْ أَرَادَ رَابِعَةً فَخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. 3905- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ الدِّيَةُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِهَذِهِ الأُمَّةِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} الآيَةُ {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} قَالَ: فَالْعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ فِي الْعَمْدِ الدِّيَةَ. وَالِاتِّبَاعُ بِالْمَعْرُوفِ يَتْبَعُ الطَّالِبُ بِمَعْرُوفٍ وَيُؤَدِّي إلَيْهِ الْمَطْلُوبُ بِإِحْسَانٍ {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} فِيمَا كُتِبَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَوْلُهُ: «وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ» ظَاهِرُهُ أَنَّ الرِّدَّةَ مِنْ مُوجِبَاتِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ كَانَتْ، وَالْمُرَادُ بِمُفَارَقَةِ الْجَمَاعَةِ: مُفَارَقَةُ جَمَاعَةِ الإِسْلامِ، وَلا يَكُونُ ذَلِكَ إلا بِالْكُفْرِ لا بِالْبَغْيِ وَالِابْتِدَاعِ وَنَحْوِهِمَا. قَوْلُهُ: «بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إمَّا أَنْ يَفْتَدِيَ وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَ» ظَاهِرُهُ أَنَّ الْخِيَارَ إلَى الأَهْلِ الَّذِينَ هُمْ الْوَارِثُونَ لِلْقَتِيلِ سَوَاءً كَانُوا يَرِثُونَهُ بِسَبَبٍ أَوْ نَسَبٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْعِتْرَةِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ: يَخْتَصّ بِالْعَصَبَةِ إذْ شُرِعَ لِنَفْيِ الْعَارِ كَوِلايَةِ النِّكَاحِ، فَإِنْ عَفَوْا فَالدِّيَةُ كَالتَّرِكَةِ. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَلا يَصِحُّ الْعَفْو فِي قَتْلِ الْغِيلَةِ لِتَعَذُّرِ الاحْتِرَاز مِنْهُ كَالْقَتْلِ فِي الْمُحَارَبَةِ، وَولايَةِ الْقَصَاصِ وَالْعَفْو عَنْهُ لَيْسَتْ عَامَّة لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ، بَلْ تَخْتَصُّ بِالْعُصْبَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَتَخْرٌجٌ رِوَايَة أَحْمَدٍ. انْتَهَى. بَابُ مَا جَاءَ لا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَالتَّشْدِيدُ فِي قَتْلِ الذِّمِّيّ وَمَا جَاءَ فِي الْحُرِّ بِالْعَبْدِ 3906- عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنْ الْوَحْيِ مَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: لا وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إلا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ قُلْتُ: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ وَفِكَاكُ الأَسِيرِ وَأَنْ لا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. رَوَاهُ

(2/339)


أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 3907- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ أَلا لا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. وَهُوَ حُجَّةٌ فِي أَخْذِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ. 3908- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى أَنْ لا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ. 3909- وَفِي لَفْظٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3910- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. 3911- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَلا مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدَةً لَهَا ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَقَدْ أَخْفَرَ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلا يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَة أَرْبَعِينَ خَرِيفًا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3912- وَعَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ وَمَنْ جَدَعَ عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. 3913- وَفِي رِوَايَةٍ لأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ: «وَمَنْ خَصَى عَبْدَهُ خَصَيْنَاهُ» . قَالَ الْبُخَارِيُّ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: سَمَاعُ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ صَحِيحٌ وَأَخَذَ بِحَدِيثِهِ: «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ» . وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لا يُقْتَلُ السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ وَتَأَوَّلُوا الْخَبَرَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ كَانَ عَبْدُهُ لِئَلا يُتَوَهَّمَ تَقَدُّمُ الْمِلْكِ مَانِعًا. 3914- وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ الأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ عَبْدَهُ مُتَعَمِّدًا

(2/340)


فَجَلَدَهُ ... النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَنَفَاهُ سَنَةً وَمَحَا سَهْمَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُقِدْهُ بِهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً. وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ فِيهِ ضَعْفٌ إلا أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: مَا رَوَى عَنْ الشَّامِيِّينَ صَحِيحٌ. وَمَا رَوَى عَنْ أَهْلِ الْحِجَازِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَوْلُهُ: «وَأَنْ لا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لا يُقَادُ بِالْكَافِرِ، أَمَّا الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ فَذَلِكَ إجْمَاعٌ وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ لِصِدْقِ اسْمِ الْكَافِرِ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» أَيْ تَتَسَاوَى فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَاتِ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ فِي الدَّمِ بِخِلافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةِ. قَوْلُهُ: «وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» يَعْنِي إذَا أَمَّنَ الْمُسْلِمُ حَرْبِيًّا كَانَ أَمَانُهُ أَمَانًا مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُ امْرَأَةً بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا. قَوْلُهُ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» قَالَ الشَّارِحُ: وَهَا كِنَايَة عَنْ عَدَمِ دُخُولِهَا، وَالْحَدِيثَانِ اشْتَمَلا عَلَى تَشْدِيدِ الْوَعِيدِ عَلَى قَاتِلِ الْمُعَاهَدِ. إلى أن قال: وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ. وَحَكَى صَاحِبُ الْبَحْرِ الإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لا يُقْتَلُ السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ إلا عَنْ النَّخَعِيّ. وَهَكَذَا حَكَى الْخِلافَ عَنْ النَّخَعِيّ وَبَعْضِ التَّابِعِينَ التِّرْمِذِيُّ، وَأَمَّا قَتْلُ الْحُرِّ بِعَبْدِ غَيْرِهِ فَحَكَاهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ قِصَاصٌ لا فِي النَّفْسِ وَلا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ. قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا قَتَلَ عَبْدَهُ لا يُقْتَلُ بِهِ، وَإِذَا قَتَلَ عَبْدَ غَيْرِهِ قُتِلَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَلا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِذِمِّيّ إِلا أَنْ يَقْتُلَهُ غِيلَة لأَخْذِ مَالِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الْعَبْدِ نُصُوصٌ صَحِيَحةٌ صَرِيحَةٌ كَمَا فِي الذِّمِّيّ بَلْ أَجْوَدُ مَا رُوِيَ: «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ

(2/341)


قَتَلْنَاهُ» . وَهَذَا لأَنَّهُ إِذَا قَتَلَهُ ظُلْمًا كَانَ الإِمِامُ وَلِيّ دَمّه. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ وَالآثَارِ أَنَّهُ إِذَا مَثَّلَ بِعَبْدِهِ عُتِقَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدٍ وَغَيْرِهِمَا، وَقَتْلُهُ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْمُثْلَةِ فَلا يَمُوتُ إِلا حُرًّا لَكِن حُرِّيَّتَهُ لَمْ تَثْبٌتْ حَالَ حَيَاتِهِ حَتَّى تَرِثَهُ عُصْبَتُهُ بَلْ حُرِّيَّتَهُ ثَبَتَتْ حُكْمًا وَهُوَ إِذَا عُتِقَ كَانَ وَلاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الإِمَامُ هُوَ وَلِيُّهُ فَلَهُ قَتْلَ قَاتِلَ عَبْدِهِ. وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَذَا مَنْ يَقُولُ: إِنَّ قَاتِلَ عَبْدِ غَيْرِهِ لِسَيِّدِهِ قَتْلُهُ. وَإِذَا دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى هَذَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الرَّاجِحُ، وَهَذَا قَوِيٌّ عَلَى قَوْلِ أَحْمَدٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ شَهَادَة الْعَبْدِ كَالْحُرِّ بِخِلافِ الذِّمِّيِّ فَلِمَاذَا لا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» . وَمَنْ قَالَ: لا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ يَقُولُ: إِنَّهُ لا يُقْتَلُ الذِّمِّيُّ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ الْمُسْلِِمِ وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} . فَالْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ خَيْرٌ مِنَ الذِّمِّيِّ الْمُشْرِكِ فَكَيْفَ لا يُقْتَلُ بِهِ؟ . انْتَهَى. بَابُ قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ وَالْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ وَهَلْ يُمَثَّلُ بِالْقَاتِلِ إذَا مَثَّلَ أَمْ لا؟ 3915- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ بِك هَذَا؟ فُلانٌ أَوْ فُلانٌ حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا فَجِيءَ بِهِ فَاعْتَرَفَ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَرُضَّ رَأْسُهُ بِحَجَرَيْنِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 3916- وَعَنْ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِمِسْطَحٍ فَقَتَلَتْهَا وَجَنِينَهَا فَقَضَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي جَنِينِهَا بِغُرَّةٍ وَأَنْ تُقْتَلَ بِهَا. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. 3917- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَحُثُّ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُثْلَةِ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 3918- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رضي الله عنه - قَالَ: مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خُطْبَةً إلا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ وَنَهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3919- وَلَهُ مِثْلُهُ مِنْ رِوَايَةِ سَمُرَةَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَوْلُهُ: (رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ) فِي رِوَايَةٍ

(2/342)


لِمُسْلِمٍ (فَقَتَلَهَا بِحَجَرٍ) وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ الرَّجُلُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ مَنْ أَدْرَكْتُهُ مِنْ فُقَهَائِنَا الَّذِينَ يُنْتَهَى إلَى قَوْلِهِمْ أَنَّ الْمَرْأَةَ تُقَادُ مِنْ الرَّجُلِ عَيْنًا بِعَيْنٍ وَأُذُنًا بِأُذُنٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْجِرَاحِ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ قَتَلَهَا قُتِلَ بِهَا. وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ، وَفِيهِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْقَوَدُ بِمِثْلِ مَا قُتِلَ بِهِ الْمَقْتُولُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} . وَذَهَبَتْ الْعِتْرَةُ وَالْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ الِاقْتِصَاصَ لا يَكُونُ إلا بِالسَّيْفِ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ «لا قَوَدَ إلا بِالسَّيْفِ» قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَاسْتَدَلُّوا بِالأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُثْلَةِ. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَيُفْعَلُ بِالْجَانِي عَلَى النَّفْسِ مِثْل مَا فَعَلَ بِالْمَجْنِي عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا فِي نَفْسِهِ أَوْ يَقْتُلُهُ بِالسَّيْفِ إِنْ شَاءَ وَهُوَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدٍ وَلَوْ كَوَى شَيْخًا بِمِسْمَارٍ كَانَ لِلْمَجْنِي عَلَيْهِ أَنْ يَكْوِيهُ مِثْلَ مَا كَوَاهُ إِنْ أَمْكَنَ وَيَجْرِي الْقِصَاصُ فِي اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ وَنَحْو ذَلِكَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدٌ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيل بن سَعْدِ السَّالِنْجِي. انْتَهَى. بَابُ مَا جَاءَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ 3920- وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ... «عَقْلُ شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّظٌ مِثْلُ عَقْلِ الْعَمْدِ وَلا يُقْتَلُ صَاحِبُهُ وَذَلِكَ أَنْ يَنْزُوَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ النَّاسِ فَتَكُونَ دِمَاءٌ فِي غَيْرِ ضَغِينَةٍ وَلا حَمْلِ سِلاحٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 3921- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَلا إنَّ قَتِيلَ الْخَطَإِ شِبْهِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ أَوْ الْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنْ الإِبِلِ مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلادُهَا» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. 3922- وَلَهُمْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رّضِيَ اللهُ عَنْهَُا مِثْلُهُ.

(2/343)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَدْ اسْتَدَلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقَتْلَ عَلَى ثَلاثَةِ أَضْرُبٍ: عَمْدٌ، وَخَطَأٌ، وَشِبْهُ عَمْدٍ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَجَعَلُوا فِي الْعَمْدِ الْقِصَاصَ. وَفِي الْخَطَإِ الدِّيَةَ وَفِي شِبْهِ الْعَمْدِ دِيَةً مُغَلَّظَةً. بَابُ مَنْ أَمْسَكَ رَجُلًا وَقَتَلَهُ آخَرُ 3923- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا أَمْسَكَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ وَقَتَلَهُ الآخَرُ يُقْتَلُ الَّذِي قَتَلَ وَيُحْبَسُ الَّذِي أَمْسَكَ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. 3924- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَضَى فِي رَجُلٍ قَتَلَ رَجُلًا مُتَعَمِّدًا وَأَمْسَكَهُ آخَرُ قَالَ: يُقْتَلُ الْقَاتِلُ وَيُحْبَسُ الآخَرُ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَمُوتَ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُمْسِكَ لِلْمَقْتُولِ حَالَ قَتْلِ الْقَاتِلِ لَهُ لا يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ وَلا يُعَدُّ فِعْلُهُ مُشَارَكَةً حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ وَالْحَبْسُ الْمَذْكُورُ جَعَلَهُ الْجُمْهُورُ مَوْكُولًا إلَى نَظَرِ الإِمَامِ فِي طُولِ الْمُدَّةِ وَقِصَرِهَا لأَنَّ الْغَرَضَ تَأْدِيبُهُ وَحُكِيَ فِي الْبَحْرِ أَيْضًا عَنْ النَّخَعِيّ وَمَالِكٍ وَاللَّيْثِ أَنَّهُ يُقْتَلُ الْمُمْسِكُ كَالْمُبَاشِرِ لِلْقَتْلِ لأَنَّهُمَا شَرِيكَانِ، وَالْحَقُّ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَإِذَا اتَّفَقَ الْجَمَاعَةُ عَلَى قَتْلِ شَخْصٍ فَلأَوْلِياءِ الدَّمِّ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ وَلَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا بَعْضُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ عَيْن الْقَاتِل فَلِلأَوْلِياءِ أَنْ يحلفُوا عَلَى وَاحِدٍ بِقَتْلِهِ وَيُحْكَمُ لَهُمْ بِالدَّمِّ. انْتَهَى. بَابُ الْقِصَاصِ فِي كَسْرِ السِّنِّ 3924- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ الرُّبَيِّعِ عَمَّتَهُ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ فَطَلَبُوا إلَيْهَا الْعَفْوَ فَأَبَوْا فَعَرَضُوا الأَرْشَ فَأَبَوْا فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَبَوْا إلا الْقِصَاصَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْقِصَاصِ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ

(2/344)


الرُّبَيِّعِ؟ لا وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» . فَرَضِيَ الْقَوْمُ فَعَفَوْا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ وَقَدْ حَكَى صَاحِبُ الْبَحْرِ الإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَسْرًا لا قَلْعًا، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُعْرَفَ مِقْدَارُ الْمَكْسُورِ وَيُمْكِنَ أَخْذُ مِثْلِهِ مِنْ سِنِّ الْكَاسِرِ فَيَكُونَ الِاقْتِصَاصُ بِأَنْ تُبْرَدَ سِنُّ الْجَانِي إلَى الْحَدِّ الذَّاهِبِ مِنْ سِنِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَقَدْ حُكِيَ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لا قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ الْهَلاكُ. بَابُ مَنْ عَضَّ يَدَ رَجُلٍ فَانْتَزَعَهَا فَسَقَطَتْ ثَنِيَّتُهُ 3925- عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَجُلًا عَضَّ يَدَ رَجُلٍ فَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتَاهُ فَاخْتَصَمُوا إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «يَعَضُّ أَحَدُكُمْ يَدَ أَخِيهِ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ؟ لا دِيَةَ لَك» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا أَبَا دَاوُد. 3926- وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: كَانَ لِي أَجِيرٌ فَقَاتَلَ إنْسَانًا فَعَضَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَانْتَزَعَ أُصْبُعَهُ فَأَنْدَرَ ثَنِيَّتَهُ فَسَقَطَتْ فَانْطَلَقَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَهْدَرَ ثَنِيَّتَهُ وَقَالَ: «أَيَدَعُ يَدَهُ فِي فِيكَ تَقْضَمُهَا كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ» ؟ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلانِ عَلَى أَنَّ الْجِنَايَةَ إذَا وَقَعَتْ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ مِنْهُ كَالْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَمَا شَابَهَهَا فَلا قِصَاصَ وَلا أَرْشَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لا يَتَمَكَّنَ الْمَعْضُوضُ مَثَلاً مِنْ إطْلاقِ يَدِهِ أَوْ نَحْوِهَا بِمَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَضُّ مِمَّا يَتَأَلَّمُ بِهِ الْمَعْضُوضُ. بَابُ مَنْ اطَّلَعَ مِنْ بَيْتِ قَوْمِ مُغْلَقٍ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ 3927- عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي جُحْرٍ فِي بَابِ رَسُولِ اللَّهِ

(2/345)


- صلى الله عليه وسلم - وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِدْرًى يُرَجِّلُ بِهَا رَأْسَهُ فَقَالَ لَهُ: «لَوْ أَعْلَمُ أَنَّك تَنْظُرُ طَعَنْت بِهِ فِي عَيْنِك إنَّمَا جُعِلَ الإِذْنُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ» . 3928- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي بَعْضِ حُجَرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَامَ إلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِشْقَصٍ - أََوْ بِمَشَاقِصَ - فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِ يَخْتِلُ الرَّجُلَ لِيَطْعَنَهُ. 3929- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ عَلَيْك بِغَيْرِ إذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْت عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْك جُنَاحٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ. 3930- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 3931- وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَلا دِيَةَ لَهُ وَلا قِصَاصَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ مَنْ قَالَ: إنَّ مَنْ قَصَدَ النَّظَرَ إلَى مَكَان لا يَجُوزُ لَهُ الدُّخُولُ إلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنٍ جَازَ لِلْمَنْظُورِ إلَى مَكَانِهِ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَهُ وَلا قِصَاصَ عَلَيْهِ وَلا دِيَةَ. بَابُ النَّهْي عَنْ الِاقْتِصَاصِ فِي الطَّرَفِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ 3932- عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا جُرِحَ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَقِيدَ فَنَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُسْتَقَادَ مِنْ الْجَارِحِ حَتَّى يَبْرَأَ الْمَجْرُوحُ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. 3933- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَجُلًا طَعَنَ رَجُلًا بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَقِدْنِي. فَقَالَ: «حَتَّى تَبْرَأَ» . ثُمَّ جَاءَ إلَيْهِ فَقَالَ: أَقِدْنِي. فَأَقَادَهُ ثُمَّ جَاءَ إلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَرَجْت قَالَ: «قَدْ نَهَيْتُك فَعَصَيْتنِي فَأَبْعَدَك اللَّهُ وَبَطَلَ عَرْجُك» . ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ جُرْحٍ حَتَّى يَبْرَأَ صَاحِبُهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثَيْنِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَجِبُ الِانْتِظَارُ إلَى أَنْ يَبْرَأ الْجُرْحُ وَيَنْدَمِلُ ثُمَّ يُقْتَصُّ الْمَجْرُوحُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَتْ

(2/346)


الْعِتْرَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ فَقَطْ، وَتَمَسَّكَ بِتَمْكِينِهِ - صلى الله عليه وسلم - الرَّجُلَ الْمَطْعُونَ بِالْقَرْنِ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ الْقِصَاصِ قَبْلَ الْبُرْءِ. إلى أن قال: قَوْلُهُ: (ثُمَّ نَهَى أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ جُرْحٍ حَتَّى يَبْرَأَ صَاحِبُهُ) . يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الِاقْتِصَاصِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ. بَابُ فِي أَنَّ الدَّمَ حَقٌّ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ 3934- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى أَنْ يَعْقِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ عَصَبَتُهَا مَنْ كَانُوا وَلا يَرِثُوا مِنْهَا إلا مَا فَضَلَ عَنْ وَرَثَتِهَا وَإِنْ قَتَلَتْ فَعَقْلُهَا بَيْنَ وَرَثَتِهَا وَهُمْ يَقْتُلُونَ قَاتِلَهَا. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. 3935- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «وَعَلَى الْمُقْتَتِلِينَ أَنْ يَنْحَجِزُوا الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. وَأَرَادَ بِالْمُقْتَتِلِينَ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ الطَّالِبِينَ الْقَوَدَ وَيَنْحَجِزُوا أَيْ يَنْكَفُّوا عَنْ الْقَوَدِ بِعَفْوِ أَحَدِهِمْ وَلَوْ كَانَ امْرَأَةً وَقَوْلُهُ: «الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ» أَيْ الأَقْرَبَ فَالأَقْرَبَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِالْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلدَّمِ جَمِيعُ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُنْثَى وَالسَّبَبِ وَالنَّسَبِ فَيَكُونُ الْقِصَاصُ إلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَتْ الْعِتْرَةُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَذَهَبَ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ إلَى أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْعَصَبَةِ. انتهى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَوِلايَةُ الْقِصَاصُ وَالْعَفْوُ عَنْهُ لَيْسَتْ عَامَّة لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ بَلْ تَخْتَصُّ بِالْعُصْبَةِ. انْتَهَى. قَالَ الشَّارِحُ: حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فِي إسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ الدِّمَشْقِيُّ وَقَدْ وَثَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي إسْنَادِهِ حِصْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدِّمَشْقِيُّ. قَالَ أَبُو حَاتِمِ الرَّازِيّ: لا أَعْلَمُ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ الأَوْزَاعِيِّ وَلا أَعْلَمُ أَحَدًا نَسَبَهُ.

(2/347)


بَابُ فَضْلِ الْعَفْوِ عَنْ الِاقْتِصَاصِ وَالشَّفَاعَةِ فِي ذَلِكَ 3936- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا عَفَا رَجُلٌ عَنْ مَظْلِمَةٍ إلا زَادَهُ اللَّهُ بِهَا عِزًّا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3937- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا رُفِعَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمْرٌ فِيهِ الْقِصَاصُ إلا أَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. 3938- وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ فِي جَسَدِهِ فَيَتَصَدَّقَ بِهِ إلا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَةً وَحَطَّ بِهِ عَنْهُ خَطِيئَةً» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ. 3939- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «ثَلاثٌ وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إنْ كُنْتُ لَحَالِفًا عَلَيْهِنَّ: لا يَنْقُصُ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ فَتَصَدَّقُوا، وَلا يَعْفُو عَبْدٌ عَنْ مَظْلِمَةٍ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إلا زَادَهُ اللَّهُ بِهَا عِزًّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلا يَفْتَحُ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إلا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالتَّرْغِيبُ فِي الْعَفْوِ ثَابِتٌ بِالأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَنُصُوصِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ. بَابُ ثُبُوتِ الْقِصَاصِ بِالإِقْرَارِ 3940- عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: إنِّي لَقَاعِدٌ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ جَاءَ رَجُلٌ يَقُودُ آخَرَ بِنِسْعَةٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه هَذَا قَتَلَ أَخِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ... «أَقَتَلْتَهُ» ؟ فَقَالَ: إنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ أَقَمْت عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ. قَالَ: نَعَمْ قَتَلْتُهُ. قَالَ: «كَيْفَ قَتَلْتَهُ» ؟ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَهُوَ نَحْتَطِبُ مِنْ شَجَرَةٍ فَسَبَّنِي فَأَغْضَبَنِي فَضَرَبْتُهُ بِالْفَأْسِ عَلَى قَرْنِهِ فَقَتَلْته. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «هَلْ لَك مِنْ شَيْءٍ تُؤَدِّيهِ عَنْ نَفْسِك» ؟ قَالَ: مَا لِي مَالٌ إلا كِسَائِي وَفَأْسِي. قَالَ: «فَتَرَى قَوْمَك يَشْتَرُونَك» ؟ قَالَ: أَنَا أَهْوَنُ عَلَى قَوْمِي مِنْ ذَاكَ فَرَمَى إلَيْهِ بِنِسْعَتِهِ. وَقَالَ: «دُونَك صَاحِبَك» . قَالَ: فَانْطَلَقَ بِهِ الرَّجُلُ فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ» . فَرَجَعَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَنِي أَنَّكَ قُلْتَ: «إنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ» .

(2/348)


وَأَخَذْتُهُ بِأَمْرِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَا تُرِيدُ أَنْ يَبُوءَ بِإِثْمِك وَإِثْمِ صَاحِبِك» ؟ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَعَلَّهُ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: «فَإِنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ» . فَرَمَى بِنِسْعَتِهِ وَخَلَّى سَبِيلَهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 3941- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِحَبَشِيٍّ فَقَالَ: إنَّ هَذَا قَتَلَ أَخِي. قَالَ: «كَيْفَ قَتَلْته» ؟ قَالَ: ضَرَبْت رَأْسَهُ بِالْفَأْسِ وَلَمْ أُرِدْ قَتْلَهُ. قَالَ " «هَلْ لَكَ مَالٌ تُؤَدِّي دِيَتَهُ» ؟ قَالَ: لا. قَالَ: «أَفَرَأَيْتَ إنْ أَرْسَلْتُك تَسْأَلُ النَّاسَ تَجْمَعُ دِيَتَهُ» ؟ قَالَ: لا. قَالَ: «فَمَوَالِيك يُعْطُونَك دِيَتَهُ» ؟ قَالَ: لا. قَالَ لِلرَّجُلِ: «خُذْهُ» . فَخَرَجَ بِهِ لِيَقْتُلَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ... «أَمَا إنَّهُ إنْ قَتَلَهُ كَانَ مِثْلُهُ» . فَبَلَغَ بِهِ الرَّجُلُ حَيْثُ سَمِعَ قَوْلَهُ فَقَالَ: هُوَ ذَا فَمُرْ فِيهِ مَا شِئْت. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَرْسِلْهُ يَبُوءُ بِإِثْمِ صَاحِبِهِ وَإِثْمِهِ فَيَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «إنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ» . قَدْ اسْتَشْكَلَ هَذَا بَعْدَ إذْنِهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالِاقْتِصَاصِ وَإِقْرَارِ الْقَاتِلِ الْقَتْلَ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَالأَوْلَى حَمْلُ هَذَا الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ قَتْلَهُ بِذَلِكَ الْفِعْلِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي قَوْلِهِ: «إنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ» لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الْمَأْثَمِ، وَكَيْفَ يُرِيدُهُ وَالْقِصَاصُ مُبَاحٌ، لَكِنْ أَحَبَّ لَهُ الْعَفْوَ فَعَرَّضَ تَعْرِيضَا أَوْهَمَهُ بِهِ أَنَّهُ إنْ قَتَلَهُ كَانَ مِثْلَهُ فِي الإِثْمِ لِيَعْفُوَ عَنْهُ، وَكَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُ يَقْتُلُ نَفْسًا كَمَا أَنَّ الأَوَّلَ قَتَلَ نَفْسًا، وَإِنْ كَانَ الأَوَّلُ ظَالِمًا وَالآخَرُ مُقْتَصًّا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَانَ مِثْلهُ فِي حُكْمِ الْبَوَاءِ فَصَارَا مُتَسَاوِيَيْنِ لا فَضْلَ لِلْمُقْتَصِّ إذَا اسْتَوْفَى عَلَى الْمُقْتَصِّ مِنْهُ. وَقِيلَ: أَرَادَ رَدْعَهُ عَنْ قَتْلِهِ، لأَنَّ الْقَاتِلَ ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَهُ، فَلَوْ قَتَلَهُ الْوَلِيُّ كَانَ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ مِثْلَهُ لَوْ ثَبَتَ مِنْهُ قَصْدُ الْقَتْلِ. 3942- يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قُتِلَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَدُفِعَ الْقَاتِلُ إلَى وَلِيِّهِ، فَقَالَ الْقَاتِلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاَللَّهِ مَا أَرَدْت قَتْلَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَا إنَّهُ إنْ كَانَ صَادِقًا فَقَتَلْتَهُ دَخَلْتَ النَّارَ» .

(2/349)


فَخَلاهُ الرَّجُلُ وَكَانَ مَكْتُوفًا بِنِسْعَةٍ فَخَرَجَ يَجُرُّ نِسْعَتَهُ، قَالَ: فَكَانَ يُسَمَّى ذَا النِّسْعَةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَوْلُهُ: (قَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَعَلَّهُ) أَيْ لَعَلَّهُ أَنْ لا يَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِ صَاحِبِي، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «بَلَى» . يَعْنِي بَلَى يَبُوءُ بِذَلِكَ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ الْقِصَاصُ عَلَى الْجَانِي بِإِقْرَارِهِ وَهُوَ مِمَّا لا أَحْفَظُ فِيهِ خِلافًا إذَا كَانَ الإِقْرَارُ صَحِيحًا مُتَجَرِّدًا عَنْ الْمَوَانِعِ. بَابُ ثُبُوتِ الْقَتْلِ بِشَاهِدَيْنِ 3943- عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: أَصْبَحَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ بِخَيْبَرَ مَقْتُولًا فَانْطَلَقَ أَوْلِيَاؤُهُ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «لَكُمْ شَاهِدَانِ يَشْهَدَانِ عَلَى قَتْلِ صَاحِبِكُمْ» ؟ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا هُمْ يَهُودٌ قَدْ يَجْتَرِئُونَ عَلَى أَعْظَمَ مِنْ هَذَا قَالَ: «فَاخْتَارُوا مِنْهُمْ خَمْسِينَ فَاسْتَحْلِفُوهُمْ» . فَوَدَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ عِنْدِهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 3944- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ ابْنَ مُحَيِّصَةُ الأَصْغَرَ أَصْبَحَ قَتِيلًا عَلَى أَبْوَابِ خَيْبَرَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَقِمْ شَاهِدَيْنِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ أَدْفَعْهُ إلَيْكُمْ بِرُمَّتِهِ» . قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمِنْ أَيْنَ أُصِيبُ شَاهِدَيْنِ وَإِنَّمَا أَصْبَحَ قَتِيلاً عَلَى أَبْوَابِهِمْ؟ قَالَ: «فَتَحْلِفُ خَمْسِينَ قَسَامَةً» . فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ أَحْلِفُ عَلَى مَا لَمْ أَعْلَمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَاسْتَحْلِفْ مِنْهُمْ خَمْسِينَ قَسَامَةً» . فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَسْتَحْلِفُهُمْ وَهُمْ الْيَهُودُ؟ فَقَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دِيَتَهُ عَلَيْهِمْ وَأَعَانَهُمْ بِنِصْفِهَا. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْكَلامُ عَلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَانِ مِنْ أَحْكَامِ الْقَسَامَةِ يَأْتِي فِي بَابِهَا، وَأَوْرَدَهُمَا الْمُصَنِّفُ هَا هُنَا لِلاسْتِدْلالِ بِهِمَا عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ الْقَتْلُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ.

(2/350)


بَابُ مَا جَاءَ فِي الْقَسَامَةِ 3945- عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الأَنْصَارِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَقَرَّ الْقَسَامَةَ عَلَى مَا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 3946- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: انْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ ابْنُ مَسْعُودٍ إلَى خَيْبَرَ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ - فَتَفَرَّقَا فَأَتَى مُحَيِّصَةُ إلَى عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَهْلٍ وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ قَتِيلًا فَدَفَنَهُ ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ وَحُوَيِّصَةُ - ابْنَا مَسْعُودٍ - إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ فَقَالَ: «كَبِّرْ كَبِّرْ» وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ فَسَكَتَ فَتَكَلَّمَا قَالَ: ... «تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ أَوْ صَاحِبَكُمْ» ؟ فَقَالُوا: وَكَيْفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نَشْهَدْ وَلَمْ نَرَ؟ قَالَ: «فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا» ؟ فَقَالُوا: كَيْفَ نَأْخُذُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ؟ فَعَقَلَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ عِنْدِهِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 3947- وَفِي رِوَايَةٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ» . قَالُوا: أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْهُ كَيْفَ نَحْلِفُ؟ قَالَ: «فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ» ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْمٌ كُفَّارٌ - وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ. وَهُوَ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ: لا يُقْسِمُونَ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ وَاحِدٍ. 3948- وَفِي لَفْظٍ لأَحْمَدَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تُسَمُّونَ قَاتِلَكُمْ ثُمَّ تَحْلِفُونَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا ثُمَّ نُسَلِّمُهُ» . 3949- وَفِي رِوَايَةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا: فَقَالَ لَهُمْ: «تَأْتُونَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ» ؟ قَالُوا: مَا لَنَا مِنْ بَيِّنَةٍ قَالَ: «فَيَحْلِفُونَ» ؟ قَالُوا: لا نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُطَلَّ دَمُهُ فَوَدَاهُ بِمِائَةٍ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ. 3950- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إلا فِي الْقَسَامَةِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ.

(2/351)


3951- وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِلْيَهُودِ - وَبَدَأَ بِهمْ -: «يَحْلِفُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا» ؟ فَأَبَوْا فَقَالَ لِلأَنْصَارِ: «اسْتَحِقُّوا» . فَقَالُوا: أَنَحْلِفُ عَلَى الْغَيْبِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَجَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دِيَةً عَلَى الْيَهُودِ لأَنَّهُ وُجِدَ بَيْن أَظْهُرِهِمْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (أَقَرَّ الْقَسَامَةَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) الْقَسَامَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ صِفَتهَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَوَّلَ قَسَامَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَفِينَا بَنِي هَاشِمٍ كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ اسْتَأْجَرَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ فَخْذٍ أُخْرَى، فَانْطَلَقَ مَعَهُ فِي إبِلِهِ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ قَدْ انْقَطَعَتْ عُرْوَةُ جَوَالِقِهِ فَقَالَ: أَغِثْنِي بِعِقَالٍ أَشُدُّ بِهِ عُرْوَةَ جَوَالِقِي لا تَنْفِرُ الإِبِلُ، فَأَعْطَاهُ عِقَالًا فَشَدَّ بِهِ عُرْوَةَ جَوَالِقِهِ، فَلَمَّا نَزَلُوا عُقِلَتْ الإِبِلُ إلا بَعِيرًا وَاحِدًا. فَقَالَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ: مَا بَالُ هَذَا الْبَعِيرِ لَمْ يُعْقَلْ مِنْ بَيْنِ الإِبِلِ؟ قَالَ: لَيْسَ لَهُ عِقَالٌ. قَالَ: فَأَيْنَ عِقَالُهُ؟ فَحَذَفَهُ بِعَصًا كَانَ فِيهِ أَجَلُهُ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: أَتَشْهَدُ الْمَوْسِمَ؟ قَالَ: مَا أَشْهَدُهُ وَرُبَّمَا شَهِدْتُهُ. قَالَ: هَلْ أَنْتَ مُبَلِّغٌ عَنِّي رِسَالَةً مَرَّةً مِنْ الدَّهْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِذَا شَهِدْتَ فَنَادِ: يَا قُرَيْشُ، فَإِذَا أَجَابُوكَ فَنَادِ: يَا آلَ هَاشِمٍ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَسَلْ عَنْ أَبِي طَالِبٍ فَأَخْبِرْهُ أَنَّ فُلانًا قَتَلَنِي فِي عِقَالٍ وَمَاتَ الْمُسْتَأْجَرُ. فَلَمَّا قَدِمَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ أَتَاهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ: مَا فَعَلَ صَاحِبُنَا؟ قَالَ: مَرِضَ فَأَحْسَنْتُ الْقِيَامَ عَلَيْهِ وَوَلِيتُ دَفْنَهُ. قَالَ: قَدْ كَانَ أَهْلُ ذَاكَ مِنْكَ، فَمَكَثَ حِينًا ثُمَّ إنَّ الرَّجُلَ الَّذِي أَوْصَى إلَيْهِ أَنْ يُبَلِّغَ عَنْهُ وَافَى الْمَوْسِمَ فَقَالَ: يَا قُرَيْشُ. قَالُوا: هَذِهِ قُرَيْشٌ. قَالَ: يَا آلَ بَنِي هَاشِمٍ. قَالُوا: هَذِهِ بَنُو هَاشِمٍ. قَالَ: أَيْنَ أَبُو طَالِبٍ؟ قَالُوا: هَذَا أَبُو طَالِبٍ، قَالَ: أَمَرَنِي فُلانٌ أَنْ أُبَلِّغَكَ رِسَالَةً إنَّ فُلانًا قَتَلَهُ فِي عِقَالٍ، فَأَتَاهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ: اخْتَرْ مِنَّا إحْدَى ثَلاثٍ: إنْ شِئْتَ أَنْ تُؤدِي مِائَةً مِنْ الإِبِلِ فَإِنَّكَ قَتَلْتَ صَاحِبَنَا، وَإِنْ شِئْتَ حَلَفَ خَمْسُونَ مِنْ قَوْمِكَ أَنَّكَ لَمْ تَقْتُلْهُ، فَإِنْ أَبَيْتَ قَتَلْنَاكَ بِهِ، فَأَتَى قَوْمَهُ فَأَخْبَرَهُمْ، فَقَالُوا: نَحْلِفُ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ كَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْهُمْ كَانَتْ قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا طَالِبٍ أُحِبُّ أَنْ تُجِيرَ ابْنِي هَذَا بِرَجُلٍ مِنْ الْخَمْسِينَ وَلا تَصْبِر يَمِينُهُ حَيْثُ تُصْبَرُ الأَيْمَانُ،

(2/352)


فَفَعَلَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَرَدْت خَمْسِينَ رَجُلًا أَنْ يَحْلِفُوا مَكَانَ مِائَةٍ مِنْ الإِبِلِ فَيُصِيبُ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَعِيرَانِ، هَذَانِ الْبَعِيرَانِ فَاقْبَلْهُمَا مِنِّي وَلا تَصْبِرْ يَمِينِي حَيْثُ تُصْبَرُ الأَيْمَانُ، فَقَبِلَهُمَا، وَجَاءَ ثَمَانِيَةُ وَأَرْبَعُونَ فَحَلَفُوا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا حَالَ الْحَوْلُ وَمِنْ الثَّمَانِيَةِ وَالأَرْبَعِينَ عَيْنٌ تَطْرِفُ. قَوْلُهُ: «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ صَاحِبَكُمْ» . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقَسَامَةِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ. إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ قَتِيلًا وُجِدَ بَيْنَ وَادِعَةَ وَشَاكِرٍ، فَأَمَرَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يَقِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا فَوَجَدُوهُ إلَى وَادِعَةَ أَقْرَبَ، فَأَحْلَفَهُمْ عُمَرُ خَمْسِينَ يَمِينًا كُلّ رَجُلٍ مَا قَتَلْته وَلا عَلِمْتُ قَاتِلَهُ، ثُمَّ أَغْرَمَهُمْ الدِّيَةَ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لا أَيْمَانُنَا دَفَعَتْ عَنْ أَمْوَالِنَا، وَلا أَمْوَالُنَا دَفَعَتْ عَنْ أَيْمَانِنَا. فَقَالَ عُمَرُ: كَذَلِكَ الْحَقُّ وَأَخْرَجَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَعِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ أَجْرَى فَرَسًا فَوَطِئَ عَلَى أُصْبُعِ رَجُلٍ مِنْ جُهَيْنَةَ فَمَاتَ، فَقَالَ عُمَرُ لِلَّذِينَ ادَّعَى عَلَيْهِمْ: أَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا مَا مَاتَ مِنْهَا، فَأَبَوْا. فَقَالَ لِلآخَرِينَ: احْلِفُوا أَنْتُمْ، فَأَبَوْا، فَقَضَى عُمَرُ بِشَطْرِ الدِّيَةِ عَلَى السَّعْدِيِّينَ. قَوْلُهُ: «فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ» بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَهِيَ الْحَبْلُ الَّذِي يُقَادُ بِهِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَجِبُ الْقَوَدُ بِالْقَسَامَةِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وَأَبُو الزِّنَادِ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد وَمُعْظَمُ الْحِجَازِيِّينَ. إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ» أَحْمَدُ وَمَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّ الْقَسَامَةَ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ عَلَى مُعَيَّنٍ سَوَاءٌ كَانَ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَخْتَصُّ الْقَتْلُ بِوَاحِدٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ الْمُعَيَّنِينَ أَوْ يُقْتَلُ الْكُلُّ إِلَى أَنْ قَالَ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَتْ عَلَى مُعَيَّنٍ كَانَ الْوَاجِبُ فِي الْعَمْدِ الْقَوَدَ وَفِي الْخَطَأ الدِّيَةَ فَمَا وَجْهُ إيجَابِ الْقَسَامَةِ؟ فَيُقَالُ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَى ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ بَيِّنَةٌ وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ مُصَادَقَةٌ كَانَ ذَلِكَ مُجَرَّدَ لَوْثٍ، فَإِنَّ اللَّوْثَ فِي الأَصْلِ هُوَ مَا يُثْمِرُ صِدْقَ الدَّعْوَى، وَلَهُ صُوَرٌ مِنْهَا:

(2/353)


وُجُودُ الْقَتِيلِ فِي بَلَدٍ يَسْكُنُهُ مَحْصُورُونَ، فَإِنْ كَانَ يَدْخُلُهُ غَيْرُهُمْ اُشْتُرِطَ عَدَاوَةُ الْمُسْتَوْطِنِينَ لِلْقَتِيلِ كَمَا فِي قِصَّةِ أَهْلِ خَيْبَرَ. وَمِنْهَا: وُجُودُهُ فِي صَحْرَاءَ وَبِالْقُرْبِ مِنْهُ رَجُلٌ فِي يَدِهِ سِلاحٌ مَخْضُوبٌ بِالدَّمِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُهُ. وَمِنْهَا وُجُودُهُ بَيْنَ صَفَّيْ الْقِتَالِ، وَمِنْهَا: وُجُودُهُ مَيِّتًا بَيْنَ مُزْدَحِمِينَ فِي سُوقٍ أَوْ نَحْوِهِ. وَمِنْهَا: كَوْنُ الشُّهَّادِ عَلَى الْقَتْلِ نِسَاءً أَوْ صِبْيَانًا لا يُقَدَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ وَمِنْ صُوَرِ اللَّوْثِ أَنْ يَقُولَ الْمَقْتُولُ فِي حَيَاتِهِ دَمِي عِنْدَ فُلانٍ أَوْ هُوَ قَتَلَنِي أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَمِنْهَا: إذَا كَانَ الشُّهُودُ غَيْرَ عُدُولٍ أَوْ كَانَ الشَّاهِدُ وَاحِدًا. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهَا لا تَجِبُ الْقَسَامَةُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الأَوْلِيَاءِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا شُبْهَةٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ الْحُكْمُ بِهَا. قَوْلُهُ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إلا فِي الْقَسَامَةِ» قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ الْقَسَامَةِ مُخَالِفَةٌ لِمَا عَلَيْهِ سَائِرُ الْقَضَايَا مِنْ إيجَابِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: قَالَ الْمَيْمُونِيُّ عَنْ الإِمَامِ أَحْمَدٍ: أذهب إِلَى الْقسامَةِ إِذَا كَانَ ثَمَّ لَطْخٌ وَإِذَا كَانَ سَبَبٌ بَيّنٌ، وَإِذَا كَانَ ثَمَّ عَدَاوَةٌ وَإِذَا كَانَ مِثْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَفْعَلُ هَذَا. انْتَهَى. بَابُ هَلْ يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ وَالْحُدُودُ فِي الْحَرَمِ أَمْ لا؟ 3952- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: «اُقْتُلُوهُ» . 3953- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مَكَّةَ قَامَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا لا تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي» . 3954- وَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ - وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إلَى مَكَّةَ - ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلاً قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -

(2/354)


الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا فَقُولُوا لَهُ: إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ، فَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» . فَقِيلَ لأَبِي شُرَيْحٍ: مَاذَا قَالَ لَكَ عَمْرٌو؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَاكَ مِنْك يَا أَبَا شُرَيْحٍ إنَّ الْحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلا فَارًّا بِدَمٍ وَلا فَارًّا بِخُرْبَةٍ. 3955- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَامٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَى أَرْبَعَتِهِنَّ. 3956- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ أَعْدَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ أَوْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ أَوْ قَتَلَ بِذُحُولِ الْجَاهِلِيَّةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3957- وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ نَحْوُهُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَوْ وَجَدْتُ قَاتِلَ عُمَرَ فِي الْحَرَمِ مَا هُجْتُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - فِي الَّذِي يُصِيبُ حَدًّا ثُمَّ يَلْجَأُ إلَى الْحَرَمِ -: يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ. حَكَاهُمَا أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الأَثْرَمِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَوْلُهُ: «إنَّ أَعْدَى النَّاسِ» فِي رِوَايَةٍ: إنَّ أَعْتَى النَّاسِ إلى أن قال: وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْحَرَمَ لا يَعْصِمُ مِنْ إقَامَةِ وَاجِبٍ، وَلا يُؤَخَّرُ لأَجْلِهِ عَنْ وَقْتِهِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لا يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَسْفِكَ بِالْحَرَمِ دَمًا وَلا يُقِيمُ بِهِ حَدًّا حَتَّى يَخْرُجَ عَنْهُ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ. وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ ابْن عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَرَقَ أَوْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ أُقِيمَ عَلَيْهِ فِي الْحَرَمِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/355)


بَابُ مَا جَاءَ فِي تَوْبَةِ الْقَاتِلِ وَالتَّشْدِيدِ فِي الْقَتْلِ 3958- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا أَبَا دَاوُد. 3959- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودً قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إلا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ ... الْقَتْلَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3960- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. 3961- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ إلا الرَّجُلَ يَمُوتُ كَافِرًا، أَوْ الرَّجُلَ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 3962- وَلأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ كَذَلِكَ. 3963- وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» . ... فَقِيلَ: هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: «قَدْ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3964- وَعَنْ جُنْدُبٍ الْبَجَلِيِّ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كَانَ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ فَجَزِعَ، فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ، فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْت عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» . أَخْرَجَاهُ. 3965- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِسُمٍّ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ مُتَرَدٍّ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» .

(2/356)


3966- وَعَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا ... رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنْ الْكُفَّارِ فَقَاتَلَنِي فَضَرَبَ إحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا ثُمَّ لاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ فَقَالَ: أَسْلَمْت لِلَّهِ أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ قَالَ: «لا تَقْتُلْهُ» . قَالَ: فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ قَطَعَ يَدِي ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَطَعَهَا أَفَأَقْتُلُهُ؟ قَالَ: «لا تَقْتُلْهُ فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِك قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ وَإِنَّك بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 3967- وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ إلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَمَرِضَ فَجَزِعَ فَأَخَذَ مَشَاقِصَ فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إلَى نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -. فَقَالَ: مَا لِي أَرَاك مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 3968- وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ - وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ -: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلا تَسْرِقُوا وَلا تَزْنُوا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ وَلا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ وَلا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَتَهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ» . فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ. 3967- وَفِي لَفْظٍ: «وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالْحَقِّ» . 3970- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدَرِيُّ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ: إنَّهُ قَدْ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لا. فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ

(2/357)


الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ: إنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ مَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلا تَرْجِعْ إلَى أَرْضِك فَإِنَّهَا أَرْضُ سُوءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا فَقَبِلَهُ اللَّهُ، وَقَالَتْ مَلائِكَةُ الْعَذَابِ: إنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوا فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إلَى الأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 3971- وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي صَاحِبٍ لَنَا أَوْجَبَ - يَعْنِي النَّارَ - بِالْقَتْلِ، فَقَالَ: «أَعْتِقُوا عَنْهُ يُعْتِقْ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْم الْقيَامَة فِي الدِّمَاءَ» قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ ذَنْبِ الْقَتْلِ، لأَنَّ الِابْتِدَاءَ إنَّمَا يَكُونُ بِالأَهَمِّ. قَوْلُهُ: «فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» قَالَ فِي الْفَتْحِ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَى كَوْنِهِمَا فِي النَّارِ أَنَّهُمَا يَسْتَحِقَّانِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ أَمْرَهُمَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى إنْ شَاءَ عَاقَبَهُمَا ثُمَّ أَخْرَجَهُمَا مِنْ النَّارِ كَسَائِرِ الْمُوَحِّدِينَ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُمَا أَصْلاً وَلا حُجَّةَ فِيهِ لِلْخَوَارِجِ. وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّ أَهْلَ الْمَعَاصِي مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ لَمْ يَرَ الْقِتَالَ فِي الْفِتْنَةِ وَهُمْ كُلُّ مَنْ تَرَكَ الْقِتَالَ مَعَ عَلِيٍّ فِي حُرُوبِهِ وَذَهَبَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إلَى وُجُوبِ نُصْرَةِ الْحَقِّ وَقِتَالِ الْبَاغِينَ وَاتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ مَنْعِ الطَّعْنِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ عُرِفَ الْمُحِقُّ مِنْهُمْ لأَنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا إلا عَنْ اجْتِهَادٍ، وَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْ الْمُخْطِئ فِي الِاجْتِهَادِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ الشَّارِحُ: وَحَدِيثُ جُنْدُبٍ الْبَجَلِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ يَدُلانِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ مِنْ الْمُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ، فَيَكُونُ عُمُومُ إخْرَاجِ الْمُوَحِّدِينَ مُخَصَّصًا بِمِثْلِ هَذَا وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ وَظَاهِرُ حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ يُخَالِفُهُمَا فَإِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي

(2/358)


قَطَعَ بَرَاجِمَهُ بِالْمَشَاقِصِ وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ أَخْبَرَ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَفَرَ لَهُ، وَوَقَعَ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - التَّقْرِيرُ لِذَلِكَ بَلْ دَعَا لَهُ. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ قَتْلَ نَفْسِهِ. انتهى. قُلْتُ: وَيَشْهَدُ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} . قَوْلُهُ: «وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ» قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ. قَوْلُهُ: «وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللهُ فَهُوَ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ» قَالَ الْمَازِرِيُّ: فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِالذُّنُوبِ، وَرَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يُوجِبُونَ تَعْذِيبَ الْفَاسِق إذَا مَاتَ بِلا تَوْبَةٍ، لأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ. قَوْلُهُ: «انْطَلِقْ إلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا» إلى آخره قَالَ الْعُلَمَاءُ: فِي هَذَا اسْتِحْبَابُ مُفَارَقَةِ التَّائِبِ لِلْمَوَاضِعِ الَّتِي أَصَابَ بِهَا الذُّنُوبَ، وَالأَخْدَانِ الْمُسَاعِدِينَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَمُقَاطَعَتِهِمْ مَا دَامُوا عَلَى حَالِهِمْ، وَأَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِمْ صُحْبَةَ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلاحِ وَالْمُتَعَبِّدِينَ الْوَرِعِينَ. وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى قَبُولِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ عَمْدًا.

(2/359)


أَبْوَابُ الدِّيَاتِ بَابُ دِيَةِ النَّفْسِ وَأَعْضَائِهَا وَمَنَافِعِهَا 3972- عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ كِتَابًا، وَكَانَ فِي كِتَابِهِ: «أَنَّ مَنْ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ قَوَدٌ، إلا أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ، وَأَنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ، وَأَنَّ فِي الأَنْفِ إذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةَ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةَ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةَ وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةَ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةَ، وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةَ، وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةَ، وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثَ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثَ الدِّيَةِ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ الإِبِلِ، وَفِي كُلِّ إصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ عَشْرًا مِنْ الإِبِلِ، وَفِي السِّنِّ خَمْس مِنْ الإِبِلِ، وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسًا مِنْ الإِبِلِ وَأَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَقَالَ: وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا. 373- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى فِي الأَنْفِ إذَا جُدِعَ كُلُّهُ بِالْعَقْلِ كَامِلًا، وَإِذَا جُدِعَتْ أَرْنَبَتُهُ فَنِصْفُ الْعَقْلِ، وَقَضَى فِي الْعَيْنِ نِصْفَ الْعَقْلِ، وَالرِّجْلِ نِصْفَ الْعَقْلِ، وَالْيَدِ نِصْفَ الْعَقْلِ، وَالْمَأْمُومَةِ ثُلُثَ الْعَقْلِ، وَالْمُنَقِّلَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ الإِبِلِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. وَلَمْ يَذْكُرَا فِيهِ الْعَيْنَ وَلا الْمُنَقِّلَةَ.

(2/360)


3974- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ» . يَعْنِي الْخِنْصِرَ وَالْبِنْصِرَ وَالإِبْهَامَ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا مُسْلِمًا. 3975- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «دِيَةُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ سَوَاءٌ عَشْرٌ مِنْ الإِبِلِ لَكُلِّ أُصْبُعٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 3976- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الأَسْنَانُ - سَوَى الثَّنِيَّةُ وَالضِّرْسُ - سَوَاءٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. 3977- وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى فِي الأَصَابِعِ بِعَشْرٍ عَشْرٍ مِنْ الإِبِلِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 3978- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرٌ مِنْ الإِبِلِ، وَفِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الإِبِلِ، وَالأَصَابِعُ سَوَاءٌ، وَالأَسْنَانُ سَوَاءٌ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. 3979- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «فِي الْمَوَاضِحِ خَمْسٌ خَمْسٌ مِنْ الإِبِلِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. 3980- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى فِي الْعَيْنِ الْعَوْرَاءِ السَّادَّةِ لِمَكَانِهَا إذَا طُمِسَتْ بِثُلُثِ دِيَتِهَا، وَفِي الْيَدِ الشَّلاءِ إذَا قُطِعَتْ بِثُلُثِ دِيَتِهَا، وَفِي السِّنِّ السَّوْدَاءِ إذَا نُزِعَتْ بِثُلُثِ دِيَتِهَا. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 3981- وَلأَبِي دَاوُد مِنْهُ: قَضَى فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ السَّادَّةِ لِمَكَانِهَا بِثُلُثِ الدِّيَةِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَضَى فِي رَجُلٍ ضَرَبَ رَجُلًا فَذَهَبَ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَنِكَاحُهُ وَعَقْلُهُ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ. ذَكَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَوْلُهُ: «وَإِنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ» الِاقْتِصَارُ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ أَنْوَاعِ الدِّيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي الأَصْلِ الْوُجُوبُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَمِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ الْقَاسِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، قَالا: وَبَقِيَّةُ الأَصْنَافِ

(2/361)


كَانَتْ مُصَالَحَةً لا تَقْدِيرًا شَرْعِيًّا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ لَهُ: بَلْ هِيَ مِنْ الإِبِلِ لِلنَّصِّ، وَمِنْ النَّقْدَيْنِ تَقْوِيمًا إذْ هُمَا قِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ وَمَا سِوَاهُمَا صُلْحٌ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى أَنَّ الدِّيَةَ مِنْ الإِبِلِ مِائَةٌ، وَمِنْ الْبَقَرِ مِائَتَانِ وَمِنْ الْغَنَمِ أَلْفَانِ، وَمِنْ الذَّهَبِ أَلْفُ مِثْقَالٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْفِضَّةِ فَذَهَبَ الْهَادِي وَالْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ إلَى أَنَّهَا عَشْرَةُ آلافِ دِرْهَمٍ وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ: إِلَى أَنَّهَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمْ. وقَالَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالنَّاصِرُ: أَوْ مِائَتَا حُلَّةٍ، الْحُلَّةُ: إزَارٌ وَرِدَاءٌ أَوْ قَمِيصٌ وَسَرَاوِيلٌ. قَوْلُهُ: «وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ» فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ جَعَلَ الذَّهَبَ مِنْ أَنْوَاعِ الدِّيَةِ الشَّرْعِيَّةِ. قَوْلُهُ: «بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ دِيَةٌ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةً. وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَا صَاحِبُ الْبَحْرِ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إجْمَاعًا. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ: إنَّهُ وَجَدَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ: «فِي السَّمْعِ الدِّيَةُ» قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ النَّصُّ بِإِيجَابِ الدِّيَةِ فِي بَعْضِ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ وَيُقَاسُ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: مَضَتْ السُّنَّةُ فِي أَشْيَاءَ مِنْ الإِنْسَانِ إلَى أَنْ قَالَ: وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ وَفِي الصَّوْتِ إذَا انْقَطَعَ الدِّيَةُ. رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَضَى بِالدِّيَةِ لِمَنْ ضُرِبَ حَتَّى سَلِسَ بَوْلُهُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ دِيَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ 3982- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «عَقْلُ الْكَافِرِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ. 3983- وَفِي لَفْظٍ: قَضَى أَنَّ عَقْلَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. 3984- وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَتْ قِيمَةُ الدِّيَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَمَانَمِائَةِ

(2/362)


دِينَارٍ وَثَمَانِيَةَ آلافِ دِرْهَمٍ، وَدِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَوْمَئِذٍ النِّصْفُ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. قَالَ: وَكَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ حَتَّى اُسْتُخْلِفَ عُمَرُ فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: إنَّ الإِبِلَ قَدْ غَلَتْ. قَالَ: فَفَرَضَهَا عُمَرُ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشْرَ أَلْفًا، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَيْ شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ. قَالَ: وَتَرَكَ دِيَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَرْفَعْهَا فِيمَا رَفَعَ مِنْ الدِّيَةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَجْعَلُ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةَ آلافٍ وَالْمَجُوسِيِّ ثَمَانَمِائَةٍ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «عَقْلُ الْكَافِرِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْكَافِرِ الذِّمِّيِّ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالنَّاصِرُ إلَى أَنَّ دِيَةَ الْكَافِرِ أَرْبَعَةَ آلافِ دِرْهَمٍ. إلى أن قال: وَاللازِمُ الأَخْذُ بِمَا هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى زِيَادَةٍ فَيَكُونُ الْمَجُوسِيُّ دَاخِلاً تَحْتَ ذَلِكَ الْعُمُومِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ لَهُ ذِمَّةٌ مِنْ الْكُفَّارِ. بَابُ دِيَةِ الْمَرْأَةِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا 3985- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عَقْلُ الْمَرْأَةِ مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثَ مِنْ دِيَتَهُ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ. 3986- وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ: كَمْ فِي أُصْبُعِ الْمَرْأَةِ؟ قَالَ: عَشْرٌ مِنْ الإِبِلِ، قُلْتُ: كَمْ فِي أُصْبُعَيْنِ؟ قَالَ: عِشْرُونَ مِنْ الإِبِلِ، قُلْت: فَكَمْ فِي ثَلاثِ أَصَابِعَ؟ قَالَ: ثَلاثُونَ مِنْ الإِبِلِ، قُلْت: فَكَمْ فِي أَرْبَعِ أَصَابِعَ؟ قَالَ: عِشْرُونَ مِنْ الإِبِلِ، قُلْتُ: حِينَ عَظُمَ جُرْحُهَا وَاشْتَدَّتْ مُصِيبَتُهَا نَقَصَ عَقْلُهَا. قَالَ سَعِيدٌ: أَعِرَاقِيٌّ أَنْتَ؟ قُلْت: بَلْ عَالِمٌ مُتَثَبِّتٌ أَوْ جَاهِلٌ مُتَعَلِّمٌ. قَالَ: هِيَ السُّنَّةُ يَا ابْنَ أَخِي. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ عَنْهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «عَقْلُ الْمَرْأَةِ مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ حَتَّى

(2/363)


يَبْلُغَ الثُّلُثَ مِنْ دِيَتَهُ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَرْشَ الْمَرْأَةِ يُسَاوِي أَرْشَ الرَّجُل فِي الْجِرَاحَاتِ الَّتِي لا يَبْلُغُ أَرْشُهَا إلَى ثُلُثِ دِيَةِ الرَّجُلِ وَفِيمَا بَلَغَ أَرْشُهُ إلَى مِقْدَارِ الثُّلُثِ مِنْ الْجِرَاحَاتِ يَكُون أَرْشُهُ فِيهِ كَنِصْفِ أَرْشِ الرَّجُلِ لِحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَرَوَى صَاحِبُ التَّلْخِيصِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ مَالِكٌ يَذْكُرُ أَنَّهُ السُّنَّةُ وَكُنْت أُتَابِعُهُ عَلَيْهِ وَفِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ ثُمَّ عَلِمْت أَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ سُنَّةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَرَجَعْت عَنْهُ قَالَ الشَّارِحُ: فَإِنْ كَانَ مَا أَفْتَى بِهِ سَعِيدٌ مَفْهُومًا مِنْ مِثْل حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَإِنْ كَانَ حَفِظَ ذَلِكَ التَّفْصِيلَ مِنْ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا فَإِنْ أَرَادَ سُنَّةَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ وَإِنْ أَرَادَ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - فَنَعَمْ، وَلَكِنْ مَعَ الِاحْتِمَالِ لا يَنْتَهِضُ إطْلاقُ تِلْكَ السُّنَّةِ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْمُرْسَلُ لا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، فَالأَوْلَى أَنْ يُحْكَمَ فِي الْجِنَايَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ بِمِثْلِ أَرْشِ الرَّجُلِ فِي الثُّلُثِ فَمَا دُونَ، بَعْدَ الْمُجَاوَزَةِ يَحْكُمُ بِتَنْصِيفِ الزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ فَقَطْ لِئَلا يَتَقَحَّمَ الإِنْسَانُ فِي مَضِيقٍ مُخَالِفٍ لِلْعَدْلِ وَالْعَقْلِ وَالْقِيَاسِ بِلا حُجَّةٍ نَيِّرَةٍ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابِ دِيَةِ الْجَنِين ِ 3987- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي لِحْيَانَ - سَقَطَ مَيِّتًا - بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، ثُمَّ إنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا. 3988- وَفِي رِوَايَةٍ: اقْتَتَلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ فَرَمَتْ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ: عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دِيَةَ شِبْهِ الْعَمْدِ تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ. 3989- وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ اسْتَشَارَهُمْ فِي إمْلاصِ

(2/364)


الْمَرْأَةِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: قَضَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ بِالْغُرَّةِ: عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، فَشَهِدَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةُ أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3990- وَعَنْ الْمُغِيرَةِ أَنَّ امْرَأَةً ضَرَبَتْهَا ضَرَّتُهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ، فَقَتَلَتْهَا وَهِيَ حُبْلَى فَأُتِيَ فِيهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَضَى فِيهَا عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ بِالدِّيَةِ وَفِي الْجَنِينِ غُرَّةٌ، فَقَالَ عَصَبَتُهَا: أَنَدِي مَنْ لا طَعِمَ وَلا ضَرِبَ وَلا صَاحَ وَلا اسْتَهَلَّ مِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ؟ فَقَالَ: «سَجْعٌ مِثْلُ سَجْعِ الأَعْرَابِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، وَكَذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ اعْتِرَاضَ الْعَصَبَةِ وَجَوَابَهُ. 3991- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - فِي قِصَّةِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ - قَالَ: فَأَسْقَطَتْ غُلامًا قَدْ نَبَتَ شَعْرُهُ مَيِّتًا وَمَاتَتْ الْمَرْأَةُ فَقَضَى عَلَى الْعَاقِلَةِ بِالدِّيَةِ، فَقَالَ ... عَمُّهَا: إنَّهَا قَدْ أَسْقَطَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ غُلامًا قَدْ نَبَتَ شَعْرُهُ، فَقَالَ أَبُو الْقَاتِلَةِ: إنَّهُ كَاذِبٌ إنَّهُ وَاَللَّهِ مَا اسْتَهَلَّ وَلا شَرِبَ فَمِثْلُهُ يُطَلُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَسَجْعُ الْجَاهِلِيَّةِ وَكِهَانَتُهَا؟ أَدِّ فِي الصَّبِيّ غُرَّةً» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الأَبَ مِنْ الْعَاقِلَةِ. قَوْلُهُ: (فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ) قَالَ الْبَاج: الْجَنِينُ مَا أَلْقَتْهُ الْمَرْأَةُ مِمَّا يُعْرَفُ أَنَّهُ وَلَدٌ سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى مَا لَمْ يَسْتَهِلَّ صَارِخًا. قَوْلُهُ «بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ» قَالَ فِي الْفَتْحِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عَاصِمٍ: «مَا لَهُ عَبْدٌ وَلا أَمَةٌ» قَالَ: عَشْرٌ مِنْ الإِبِلِ، قَالُوا: مَا لَهُ شَيْءٌ إلا أَنْ تُعِينَهُ مِنْ صَدَقَةِ بَنِي لِحْيَانَ، فَأَعَانَهُ قَالَ طَاوُسٌ: الْفَرَسُ غُرَّةٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْهَادَوِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ إلَى أَنَّ فِي جَنِينِ الأَمَةِ عُشْرَ قِيمَةِ أُمِّهِ كَمَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ عُشْرُ قيمَتِهَا. بَابُ مَنْ قَتَلَ فِي الْمُعْتَرَك مَنْ يَظُنُّهُ كَافِرًا فَبَانَ مُسْلِمًا مِنْ أَهْل دَارِ الإِسْلامِ 3992- عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: اخْتَلَفَتْ سُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى

(2/365)


الْيَمَانِ أَبِي حُذَيْفَةَ يَوْمَ أُحُدٍ وَلا يَعْرِفُونَهُ فَقَتَلُوهُ فَأَرَادَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَدِيَهُ فَتَصَدَّقَ حُذَيْفَةُ بِدِيَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3993- وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ - الْيَمَانُ - شَيْخًا كَبِيرًا، فَرُفِعَ فِي الآطَامِ مَعَ النِّسَاءِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَخَرَجَ يَتَعَرَّضُ لِلشَّهَادَةِ فَجَاءَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمُشْرِكِينَ فَابْتَدَرَهُ الْمُسْلِمُونَ فَتَوَشَّقُوهُ بِأَسْيَافِهِمْ وَحُذَيْفَةُ يَقُولُ: أَبِي أَبِي فَلا يَسْمَعُونَهُ مِنْ شَغْلِ الْحَرْبِ حَتَّى قَتَلُوهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَقَضَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِدِيَتِهِ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا ذَكَرَهُ عَلَى الْحُكْم فِيمَنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ فِي الْمَعْرَكَةِ وَهُوَ يَظُنّهُ كَافِرًا ثُمَّ انْكَشَفَ مُسْلِمًا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اخْتُلِفَ عَلَى عُمَرَ وَعَلِيٍّ هَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ أَوْ لا؟ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهُ يُقَالُ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ: اُدْعُ عَلَى مَنْ شِئْتَ وَاحْلِفْ فَإِنْ حَلَفْتَ اسْتَحْقَقْتَ الدِّيَةَ وَإِنْ نَكَلْتَ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى النَّفْيِ وَسَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَرَوَى مُسَددٌ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيد بن مَذكور أَنَّ رَجُلاً زُحِمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَمَاتَ، فَوَدَاهُ عَلِيٌّ - رضي الله عنه - مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. بَابُ مَا جَاءَ فِي مَسْأَلَةِ الزُّبْيَةِ وَالْقَتْلِ بِالسَّبَبِ 3994- عَنْ حَنَشِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى الْيَمَنِ فَانْتَهَيْنَا إلَى قَوْمٍ قَدْ بَنَوْا زُبْيَةً لِلأَسَدِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ يَتَدَافَعُونَ إذْ سَقَطَ رَجُلٌ فَتَعَلَّقَ بِآخَرَ، ثُمَّ تَعَلَّقَ الرَّجُلُ بِآخَرَ حَتَّى صَارُوا فِيهَا أَرْبَعَةً، فَجَرَحَهُمْ الأَسَدُ فَانْتَدَبَ لَهُ رَجُلٌ بِحَرْبَةٍ فَقَتَلَهُ وَمَاتُوا مِنْ جِرَاحَتِهِمْ كُلُّهُمْ، فَقَامَ أَوْلِيَاءُ الأَوَّلِ إلَى أَوْلِيَاءِ الآخِرِ فَأَخْرَجُوا السِّلاحَ لِيَقْتَتِلُوا، فَأَتَاهُمْ عَلِيٌّ - رضي الله عنه - عَلَى تَفِئَةِ ذَلِكَ، فَقَالَ: تُرِيدُونَ أَنْ تَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَيٌّ؟ إنِّي أَقْضِي بَيْنَكُمْ قَضَاءً إنْ رَضِيتُمْ بِهِ فَهُوَ الْقَضَاءُ، وَإِلا حَجَرَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى تَأْتُوا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَيَكُونَ هُوَ الَّذِي يَقْضِي بَيْنَكُمْ، فَمَنْ عَدَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلا حَقَّ لَهُ، اجْمَعُوا مِنْ قَبَائِلِ الَّذِينَ حَضَرُوا الْبِئْرَ رُبُعَ الدِّيَةِ وَثُلُثَ الدِّيَةِ وَنِصْفَ الدِّيَةِ وَالدِّيَةَ كَامِلَةً فَلِلأَوَّلِ رُبُعُ الدِّيَةِ

(2/366)


لأَنَّهُ هَلَكَ مِنْ فَوْقِهِ ثَلاثَةٌ، وَلِلثَّانِي ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَلِلثَّالِثِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَلِلرَّابِعِ الدِّيَةُ كَامِلَةً فَأَبَوْا أَنْ يَرْضَوْا فَأَتَوْا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عِنْدَ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ - فَقَصُّوا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَأَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 3995- وَرَوَاهُ بِلَفْظٍ آخَرَ نَحْوِ هَذَا وَفِيهِ: وَجَعَلَ الدِّيَةَ عَلَى قَبَائِلِ الَّذِينَ ازْدَحَمُوا. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ اللَّخْمِيِّ أَنَّ أَعْمَى كَانَ يُنْشِدُ فِي الْمَوْسِمِ فِي خِلافَةِ عُمَرَ ابْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَقِيتُ مُنْكَرَا ... هَلْ يَعْقِلُ الأَعْمَى الصَّحِيحَ الْمُبْصِرَا خَرَّا مَعًا كِلاهُمَا تَكَسَّرَا وَذَلِكَ أَنَّ أَعْمَى كَانَ يَقُودُهُ بَصِيرٌ فَوَقَعَا فِي بِئْرٍ فَوَقَعَ الأَعْمَى عَلَى الْبَصِيرِ، فَمَاتَ الْبَصِيرُ، فَقَضَى عُمَرُ بِعَقْلِ الْبَصِيرِ عَلَى الأَعْمَى. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَجُلاً أَتَى أَهْلَ أَبْيَاتٍ فَاسْتَسْقَاهُمْ فَلَمْ يَسْقُوهُ حَتَّى مَاتَ فَأَغْرَمَهُمْ عُمَرُ - رضي الله عنه - الدِّيَةَ. حَكَاهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْن مَنْصُورٍ وَقَالَ: أَقُولُ بِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذَا الْقَضَاءِ الَّذِي قَضَى بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَقَرَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْمُتَجَاذِبِينَ فِي الْبِئْرِ تَكُونُ عَلَى الصِّفَة الْمَذْكُورَة إلى أن قَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ كَانَ جَانِيًا عَلَى غَيْرِهِ خَطَأً فَمَا لَزِمَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَمَنْ كَانَ جَانِيًا عَمْدًا فَمِنْ مَالِهِ. انتهى. قَالَ فِي الْمُغْنِي: إِذَا سَقَطَ رَجُلٌّ فِي بِئْرٍ فَسَقَطَ عَلَيْهِ آخَر فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ ضَمَانَهُ لأَنَّهُ قَتَلَهُ فَضَمِنَهُ كَمَا لَوْ رَمَى عَلَيْهِ حَجَرًا، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ عَمْدًا رَمَى نَفْسَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ مِمَّا يَقْتُلُ غَالِبًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لا يَقْتُلُ غَالِبًا فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، وَإِنْ وَقَعَ خَطَأ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ مُخَفَّفَةٌ، وَإِنْ مَاتَ الثَّانِي بِوُقُوعِهِ عَلَى الأَوْلُ فَدَمُهُ هَدَرٌ لأَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِهِ. وَقَدْ رَوَى عَلِيٌّ بن رَبَّاحٍ اللَّخَمِيّ أَنَّ رَجُلاً كَانَ يَقُودُ أَعْمَى فَوَقَعَ فِي بِئْرٍ خَرَّ الْبَصِيرِ وَوَقَعَ الأَعْمَى فَوْقَ الْبَصِيرِ

(2/367)


فَقَتَلَهُ. فَقَضَى عُمَر بِعَقْلِ الْبَصِيرِ عَلَى الأَعْمَى. وَهَذَا قَوْلُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَشريح وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاقِ. وَلَوْ قَالَ قَائِلٍ: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى ضَمَانُ الْبَصِيرِ لإِنَّهُ الَّذي قَادَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي وَقَعَا فِيهِ، وَكَانَ سَبَبُ وُقُوعِهِ عَلَيْهِ. وَلِذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ قَصْدًا لَمْ يَضْمَنْهُ بِغَيْرِ خِلافٍ وَكَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الأَعْمَى، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُ بِقْصَدْهِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، إِلا أَنْ يَكُونَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ فَلا تَجُوزُ مُخَالَفَةِ الإِجْمَاعِ، وَيُحْتَمْل أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَى الْقَائِدِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الأَعْمَى فَلَمْ يضمن مَا تَلَفَ بِهِ كَمَا لَوْ حَفَرَ لَهُ بِئْرًا فِي دَارِهِ بِإِذْنِهِ فَتَلَفَ بِهَا، الثَّانِي أَنَّهُ فعل مَنْدوب إِلَيْهِ مَأْمُور بِهِ فَأَشْبَه مَا لَوْ حَفَر بِئْرًا فِي سَابلة يَنْتَفِعُ بِها الْمُسْلِمُونَ فَإِنَّهُ لا يَضْمَنُ مَا تَلَفَ بِهَا. فَصْلٌ: فَإِنْ سَقَطَ رَجُلٌ فِي بِئْرٍ فَتَعَلَّقَ بِآخَر فَوَقَعَا مَعًا فَدَمُّ الأَوَّلِ هَدَرٌ لأَنَّهُ مَاتَ مِنْ فِعْلِهِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَة الثَّانِي إِنْ مَاتَ لأَنَّهُ قَتَلَهُ بِجَذْبَتِهِ، فَإِنْ تَعَلَّقَ الثَّانِي بِثَالِثٍ فَمَاتُوا جَمِيعًا فَلا شَيْء عَلَى الثَّالِثِ وَعَلَى عَاقِلَةِ الثَّانِي دِيَتِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لأَنَّهُ جَذَبَهُ وَبَاشَرَهُ بِالْجَذْبِ، وَالْمُبَاشَرَة تَقْطَعُ حُكْمُ السَّبَبِ كَالْحَافِرِ مَعَ الدَّافِعِ. إِلَى أَنْ قَالَ: فَصْلٌ: وَإِنْ هَلَكُوا بِأَمْرٍ فِي الْبِئْرِ مِثْل أَسَد كَانَ فِيهِ وَكَانَ الأَوَّلُ جَذَبَ الثَّانِي وَالثَّانِي جَذَبَ الثَّالِثَ وَالثَّالِثُ جَذَبَ الرَّابِعَ فَقَتَلَهُمْ الأَسَدُ فَلا شَيْءٍ عَلى الرَّابِعِ وَدِيَتِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الثَّالِثِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الثَّانِي عَلَى عَوَاقِلِ الثَّلاثَةِ أَثْلاثًا وَدَمُّ الأَوَّلِ هَدَرٌ وَعَلَى عَاقِلَتِه دِيَةُ الثَّانِي، وَأَمَّا دِيَةُ الثَّالِثُ فَعَلَى الثَّانِي فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَفِي الآخَرِ عَلَى الأَوَّلِ وَالثَّانِي نَصْفَيْنِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسَمَّى مَسْأَلَةُ الزّبية. وَقَدْ رَوَى حَنَشُ الصَّنْعَانِي أَنْ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ حَفَرُوا زبية لِلأّسَدِ. فَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى رَأْسِهَا فَهَوَى فِيهَا وَاحِِدٌ فَجَذَبَ ثَانِيًا، فَجَذَبَ الثَّانِي الثَّالِثَ ثُمَّ جَذَبَ الثَّالِثُ رَابِعًا فَقَتَلَهُمْ الأَسَدُ. فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عَلِيٍّ - رضي الله عنه - فَقَالَ: لِلأَوَّلِ رُبْعُ الدِّيَةِ لأَنَّهُ هَلَكَ فَوْقَهُ ثَلاثَةٌ، وّلِلثَّانِي ثُلْثُ الدِّيَةِ لأَنَّهُ هَلَكَ فَوْقَهُ اثْنَان، وَلِلثَّالِثِ نَصْفُ الدِّيَة لأَنَّهُ هَلَكَ فَوْقَهُ وَاحِدٌ، وَلِلرَّابِعِ كَمَال الدِّيَةِ. وَقَالَ: فَإِنِّي أَجْعَلُ الدِّيَةَ عَلَى مَنْ حَضَرَ رَأْسَ الْبِئْرِ، فَرَفَعَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «هُوَ كَمَا قَالَ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ بن مَنْصُورٍ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عوانَة وَأَبُو الأَحْوَصِ عَنْ سماك بن حَرْب عَنْ حَنَشٍ بِنَحْوِ هَذَا الَمَعْنَى. قَالَ أَبُو

(2/368)


الْخطاب: فَذَهَبَ أَحْمَدُ إِلَى ذَلِكَ تَوْقِيفًا عَلَى خِلافِ الْقِيَاسِ، وَالْقِيَاسُ مَا ذَكَرْنَاهُ. انْتَهَى. بَابُ أَجْنَاسِ مَالِ الدِّيَةِ وَأَسْنَانِ إبِلهَا 3996- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى أَنَّ مَنْ قُتِلَ خَطَأً فَدِيَتُهُ مِائَةٌ مِنْ الإِبِلِ، ثَلاثُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَثَلاثُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَثَلاثُونَ حِقَّةً، وَعَشَرَةُ بَنِي لَبُونٍ ذُكُورٍ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. 3997- وَعَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ خِشْفِ بْنِ مَالِكٍ الطَّائِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فِي دِيَةِ الْخَطَأ عِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ ذَكَرًا» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. وَقَالَ ابْنُ مَاجَةْ فِي إسْنَادِهِ عَنْ الْحَجَّاجِ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: الْحَجَّاجُ يُدَلِّسُ عَنْ الضُّعَفَاءِ، فَإِذَا قَالَ: حَدَّثَنَا فُلانٌ فَلا يُرْتَابُ بِهِ. 3998- وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى - وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الإِبِلِ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَيْ شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 3999- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَضَى ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ مَنْ كَانَ عَقْلُهُ فِي الْبَقَرِ عَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَمَنْ كَانَ عَقْلُهُ فِي الشَّاءِ أَلْفَيْ شَاةٍ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. 4000- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ أَوْسٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ - فَقَالَ: «أَلا وَإِنَّ قَتِيلَ خَطَأ الْعَمْدِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا وَالْحَجَرِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ مِائَةٌ مِنْ الإِبِلِ مِنْهَا أَرْبَعُونَ مِنْ ثَنِيَّةٍ إلَى بَازِلِ عَامِهَا كُلُّهُنَّ خَلِفَةٌ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ.

(2/369)


4001- وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - دِيَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا أَحْمَدَ. 4002- وَرَوَى أَحْمَدُ ذَلِكَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُرْسَلاً وَهُوَ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ. قَوْلُهُ: «ثَلاثُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ» الْحَدِيثُ فِي إسْنَادِهِ مُحَمَّدَ بْنَ رَاشِدٍ الْمَكْحُولِيَّ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَالنَّسَائِيُّ وَضَعَّفَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَأَبُو زُرْعَةَ. قَالَ الْخَطَّابِيِّ: هَذَا الْحَدِيثُ لا أَعْرِفُ أَحَدًا قَالَ بِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي دِيَةِ الْخَطَأ مِنْ الإِبِلِ فَذَهَبَ قوم إلَى أَنَّهَا تَكُونُ أَرْبَاعًا: وقوم إلَى أَنَّ الدِّيَةَ تَكُونُ أَخْمَسًا. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: «أَلا وَإِنَّ قَتِيلَ خَطَأ الْعَمْدِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا وَالْحَجَرِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ» قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى تَغْلِيظِ الدِّيَةِ أَيْضًا عَلَى مَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ أَوْ قَتَلَ مُحْرِمًا أَوْ فِي الأَشْهُرِ الْحُرُمِ. إلى أن قَالَ: وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ أَوْ قَتَلَ مُحْرِمًا أَوْ قَتَلَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَثُلُثُ الدِّيَةِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ من طريق مجاهد عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَضَى فيمن قُتِلَ فِي الْحُرُم أو فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ أَوْ وَهَو مُحْرِمً بالدِّيَةِ وَثُلُثٌ الدِّيَةِ. انْتَهَى ملخصًا. بَابُ الْعَاقِلَةِ وَمَا تَحْمِلُهُ 4003- صَحَّ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ الْمَقْتُولَةِ وَدِيَةِ جَنِينِهَا عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ. وَرَوَى جَابِرٌ قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى كُلِّ بَطْنٍ عُقُولَةٌ. ثُمَّ كَتَبَ إنَّهُ لا يَحِلُّ أَنْ يُتَوَالَى مَوْلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 4005- وَعَنْ عُبَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى فِي الْجَنِينِ الْمَقْتُولِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ قَالَ: فَوَرِثَهَا بَعْلُهَا وَبَنُوهَا. قَالَ: وَكَانَ مِنْ امْرَأَتَيْهِ كِلْتَيْهِمَا وَلَدٌ، فَقَالَ أَبُو الْقَاتِلَةِ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لا صَاحَ وَلا اسْتَهَلَّ

(2/370)


وَلا شَرِبَ وَلا أَكَلَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يَطَلَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هَذَا مِنْ الْكُهَّانِ» . رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي الْمُسْنَدِ. 4006- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ قَتَلَتْ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا زَوْجٌ وَوَلَدٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ، وَبَرَّأَ زَوْجَهَا وَوَلَدَهَا. قَالَ: فَقَالَ عَاقِلَةُ الْمَقْتُولَةِ: مِيرَاثُهَا لَنَا. فَقَالَ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا، مِيرَاثُهَا لِزَوْجِهَا وَوَلَدِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَهُوَ حُجَّةٌ فِي أَنَّ ابْنَ الْمَرْأَةِ لَيْسَ مِنْ عَاقِلَتِهَا. 4007- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ غُلامًا لأُنَاسٍ فُقَرَاءَ قَطَعَ أُذُنَ غُلامٍ لأُنَاسٍ أَغْنِيَاءَ فَأَتَى أَهْلُهُ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّا أُنَاسٌ فُقَرَاءُ، فَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِ شَيْئًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. وَفِقْهُهُ أَنَّ مَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ يَسْقُطُ عَنْهُمْ بِفَقْرِهِمْ وَلا يَرْجِعُ عَلَى الْقَاتِلِ. 4008- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الأَحْوَصِ أَنَّهُ شَهِدَ حِجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَجْنِي جَانٍ إلا عَلَى نَفْسِهِ، لا يَجْنِي وَالِدٌ عَلَى وَلَدِهِ، وَلا مَوْلُودٌ عَلَى وَالِدِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4009- وَعَنْ الْخَشْخَاشِ الْعَنْبَرِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعِي ابْنٌ لِي، فَقَالَ: «ابْنُك هَذَا» ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: «لا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلا تَجْنِي عَلَيْهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. 4010- وَعَنْ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ أَبِي حَتَّى أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَرَأَيْتُ بِرَأْسِهِ رَدْعَ حِنَّاءٍ، وَقَالَ لأَبِي: «هَذَا ابْنُكَ» ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: ... «أَمَا إنَّهُ لا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلا تَجْنِي عَلَيْهِ» . وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4011- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُؤْخَذُ الرَّجُلُ بِجَرِيرَةِ أَبِيهِ، وَلا بِجَرِيرَةِ أَخِيهِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 4012- وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي يَرْبُوعٍ قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَقَامَ إلَيْهِ النَّاسُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلاءِ بَنُو فُلانٍ الَّذِينَ قَتَلُوا

(2/371)


فُلانًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَجْنِي نَفْسٌ عَلَى نَفْسٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. وَعَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - قَالَ: الْعَمْدُ وَالْعَبْدُ وَالصُّلْحُ وَالِاعْتِرَافُ لا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَحَكَى أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الْعَاقِلَةَ لا تَحْمِلُ شَيْئًا مِنْ دِيَةِ الْعَمْدِ إلا أَنْ يَشَاءُوا. رَوَاهُ عَنْهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ. وَعَلَى هَذَا وَأَمْثَالِهِ تُحْمَلُ الْعُمُومَاتُ الْمَذْكُورَةُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَعَاقِلَةُ الرَّجُلِ عَشِيرَتُهُ، فَيُبْدَأُ بِفَخِذِهِ الأَدْنَى فَإِنْ عَجَزُوا ضُمَّ إلَيْهِمْ الأَقْرَبُ فَالأَقْرَبُ الْمُكَلَّفُ الذَّكَرُ الْحُرُّ مِنْ عَصَبَةِ النَّسَبِ ثُمَّ السَّبَبِ ثُمَّ فِي بَيْتِ الْمَالِ. قَوْلُهُ: (أَنَّ غُلامًا لأُنَاسٍ فُقَرَاءَ) وَفِي الْحَدِيثِ قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ لا يَضْمَنُ أَرْشَ مَا جَنَاهُ وَلا يَضْمَنُ عَاقِلَتَهُ أَيْضًا ذَلِكَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إنْ كَانَ الْمُرَادُ فِيهِ الْغُلامَ فَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ جِنَايَةَ الْعَبْدِ فِي رَقَبَتِهِ، وَقَدْ حَمَلَهُ الْخَطَّابِيِّ عَلَى أَنَّ الْجَانِيَ كَانَ حُرًّا وَكَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً وَكَانَتْ عَاقِلَتُهُ فُقَرَاءَ، فَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِمْ شَيْئًا إمَّا لِفَقْرِهِمْ وَإِمَّا لأَنَّهُمْ لا يَعْقِلُونَ الْجِنَايَةَ الْوَاقِعَةَ مِنْ الْعَبْدِ عَلَى الْعَبْدِ عَلَى فَرْضِ أَنَّ الْجَانِيَ كَانَ عَبْدًا، وَقَدْ يَكُونُ الْجَانِي غُلامًا حُرًّا وَكَانَتْ الْجِنَايَةُ عَمْدًا فَلَمْ يَجْعَلْ أَرْشَهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ وَكَانَ فَقِيرًا فَلَمْ يَجْعَلْ فِي الْحَالِ عَلَيْهِ شَيْئًا أَوْ رَآهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ فَوَجَدَهُمْ فُقَرَاءَ فَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِمْ شَيْئًا لِفَقْرِهِمْ وَلا عَلَيْهِ لِكَوْنِ جِنَايَتِهِ فِي حُكْمِ الْخَطَأ. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعِتْرَةِ إلَى أَنَّ جِنَايَةَ الْخَطَأ تَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ. قَالُوا: إذَا شُرِعَتْ لِحَقْنِ دَمِ الْخَاطِئِ تَعَمَّ الْوُجُوبُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لا تَلْزَمُ الْفَقِيرَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَلْزَمُ الْفَقِيرَ إذَا كَانَ لَهُ حِرْفَةٌ وَعَمَلٌ. وَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إلَى أَنَّ عَمْدَ الصَّغِيرِ فِي مَالِهِ وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ وَلا يَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ. وَذَهَبَتْ الْعِتْرَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إلَى أَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا وَاسْتَدَلَّ لَهُمْ فِي الْبَحْرِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله

(2/372)


عنه - أَنَّهُ قَالَ: لا عَمْدَ لِلصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينَ، وَلا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِ لَفْظِ: (الْغُلامِ) بِمَا سَلَفَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الإِجْمَاعِ. إلى أن قَالَ: وَأَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْبَيْهَقِيُّ، وَلَفْظُهُ: «لا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلا صُلْحًا وَلا اعْتِرَافًا وَلا مَا جَنَى الْمَمْلُوكُ) ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِمَا فِي الْبَابِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْعَاقِلَةَ لا تَعْقِلُ الْعَمْدَ وَلا الْعَبْدَ وَلا الصُّلْحَ وَلا الِاعْتِرَافَ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إذَا كَانَ عَبْدًا فَذَهَبَ الْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالْعِتْرَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إلَى أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَحْمِلُ الْعَبْدَ كَالْحُرِّ وَذَهَبَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ إلَى أَنَّهَا لا تَحْمِلُهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَابِ مَا يَنْبَغِي إثْبَاتُ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِمِثْلِهِ، فَالْمُتَوَجِّهُ الرُّجُوعُ إلَى الأَحَادِيثِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأ مُؤَجَّلَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ. وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الأَجَلِ، فَذَهَبَ الأَكْثَرُ إلَى أَنَّ الأَجَلَ ثَلاثُ سِنِينَ. وَحُكِيَ فِي الْبَحْرِ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهَا تَكُونُ حَالَّةً إذْ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - تَأْجِيلُهَا. وَرُوِيَ عبد الزاق عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَعَلَ الدِّيَةَ الْكَامِلَةَ فِي ثَلاثِ سِنِينَ، وَجَعَلَ نِصْفَ الدِّيَةِ فِي سَنَتَيْنِ وَمَا دُونَ النِّصْفُ فِي سنة. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وأبو الرَّجُلِ وَابْنِهِ مِنْ عَاقِلَتِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَتُؤْخَذُ الدِّيَةِ مِنْ الْجَانِي خَطَأ عِنْدَ تَعَذَّرَ الْعَاقِلَةَ فِي أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَلا يُؤَجَّلُ عَلَى الْعَاقِلَةَ إذا رَأَى الإِمَامُ الْمَصْلَحَةِ فيِه وَنَصُّ عَلَى ذَلِكَ الإِمَامُ َأَحْمَدُ. انْتَهَى.

(2/373)


 كِتَابُ الْحُدُودِ

بَابُ مَا جَاءَ فِي رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ وَجَلْدِ الْبِكْرِ وَتَغْرِيبِهِ 4013- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُمَا قَالا: إنَّ رَجُلًا مِنْ الأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْشُدُكَ اللَّهَ إلا قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللَّهِ، وَقَالَ الْخَصْمُ الآخَرُ - وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ - نَعَمْ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّه وَائْذَنْ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قُلْ» . قَالَ: إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ وَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسٌ - لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ - إلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» . قَالَ: فَغَدَا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرُجِمَتْ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. قَالَ مَالِكٌ: الْعَسِيفُ: الأَجِيرُ، وَيَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يُثْبِتُ الزِّنَا بِالإِقْرَارِ مَرَّةً وَمَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى الرَّجْمِ. 4014- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ بِنَفْيِ عَامٍ، وَإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ. 4015- وَعَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلام - حِينَ رَجَمَ الْمَرْأَةَ - ضَرَبَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ وَرَجَمَهَا

(2/374)


يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 4016- وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ وَالنَّسَائِيُّ. 4017- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلاً زَنَى بِامْرَأَةٍ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَجُلِدَ الْحَدَّ، ثُمَّ أُخْبِرَ أَنَّهُ مُحْصَنٌ فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4018- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجَمَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ وَلَمْ يَذْكُرْ جَلْدًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَوْلُهُ: «وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ التَّغْرِيبِ وَوُجُوبِهِ عَلَى مَنْ كَانَ غَيْرَ مُحْصَنٍ. وَظَاهِرُ أَحَادِيثِ التَّغْرِيبِ أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي الذَّكَرِ وَالأُنْثَى وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالأَوْزَاعِيُّ: لا تَغْرِيبَ عَلَى الْمَرْأَةِ لأَنَّهَا عَوْرَةٌ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ - رضي الله عنه -. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: «جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ مُعَاذ. وَحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُجْمَعُ لِلْمُحْصَنِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ الْجَلْدُ وَقَدْ ذَهَبَ إلَى إيجَاب الجلد مَعَ الرَّجْمِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ الْعِتْرَةُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُد الظَّاهِرِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ تَمَسُّكًا بِمَا سَلَفَ. وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ لا يُجْلَدُ الْمُحْصَنُ بَلْ يُرْجَمُ فَقَطْ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَتَمَسَّكُوا بِحَدِيثِ سَمُرَةَ فِي أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَجْلِدْ مَاعِزًا بَلْ اقْتَصَرَ عَلَى رَجْمِهِ، قَالُوا: وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ أَحَادِيثِ الْجَلْدِ فَيَكُونُ نَاسِخًا لِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الْمَذْكُورِ وَيُجَابُ بِمَنْعِ التَّأَخُّرِ. إلى أن قَالَ: وَعَلَى فَرْضِ تَأَخُّرِهِ غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَلْدَ لِمَنْ اسْتَحَقَّ الرَّجْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ. بَابُ رَجْمِ الْمُحْصَنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَنَّ الإِسْلامَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الإِحْصَانِ 4019- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوْا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -

(2/375)


بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْهُمْ قَدْ زَنَيَا، فَقَالَ: «مَا تَجِدُونَ فِي كِتَابِكُمْ» ؟ فَقَالُوا: تُسَخَّمُ وُجُوهُهُمَا وَيُخْزَيَانِ، قَالَ: «كَذَبْتُمْ إنَّ فِيهَا الرَّجْمَ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» . فَجَاءُوا بِالتَّوْرَاةِ وَجَاءُوا بِقَارِئٍ لَهُمْ فَقَرَأَ حَتَّى إذَا انْتَهَى إلَى مَوْضِعٍ مِنْهَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ تَلُوحُ، فَقَالَ أَوْ فقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إنَّ فِيهَا الرَّجْمَ وَلَكِنَّا كُنَّا نَتَكَاتَمُهُ بَيْنَنَا، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرُجِمَا، قَالَ: رَأَيْتُهُ يَجْنَأُ عَلَيْهَا يَقِيهَا الْحِجَارَةَ بِنَفْسِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4020- وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بِقَارئ لَهُمْ أَعْوَرَ يُقَالُ لَهُ ابْنُ صُورِيَا. 4021- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَجَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ وَرَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ وَامْرَأَةً. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4022- وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِيَهُودِيٍّ مُحَمَّمٍ مَجْلُودٍ فَدَعَاهُمْ فَقَالَ: «أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزِّنَا فِي كِتَابِكُمْ» ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَدَعَا رَجُلًا مِنْ عُلَمَائِهِمْ، فَقَالَ: «أَنْشُدُكَ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ» ؟ قَالَ: لا، وَلَوْلا أَنَّك نَشَدْتَنِي بِهَذَا لَمْ أُخْبِرْكَ بِحَدِّ الرَّجْمِ، وَلَكِنْ كَثُرَ فِي أَشْرَافِنَا وَكُنَّا إذَا أَخَذْنَا الشَّرِيفَ تَرَكْنَاهُ، وَإِذَا أَخَذْنَا الضَّعِيفَ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَقُلْنَا: تَعَالَوْا فَلْنَجْتَمِعْ عَلَى شَيْءٍ نُقِيمُهُ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ فَجَعَلْنَا التَّحْمِيمَ وَالْجَلْدَ مَكَانَ الرَّجْمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ إنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَك إذْ أَمَاتُوهُ» . فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ} إلَى قَوْلِهِ: {إنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} ، يَقُولُونَ: ائْتُوا مُحَمَّدًا فَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالتَّحْمِيمِ وَالْجَلْدِ فَخُذُوهُ، وَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالرَّجْمِ فَاحْذَرُوا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} . قَالَ: هِيَ فِي الْكُفَّارِ كُلُّهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وأحاديث الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَدَّ الزِّنَا

(2/376)


يُقَامُ عَلَى الْكَافِرِ كَمَا يُقَامُ عَلَى الْمُسْلِمِ. بَابُ اعْتِبَارِ تَكْرَارِ الإِقْرَارِ بِالزِّنَا أَرْبَعًا 4023- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ - فَنَادَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي زَنَيْتُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى رَدَّدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «أَبِكَ جُنُونٌ» ؟ قَالَ: لا. قَالَ: «فَهَلْ أُحْصِنْتَ» ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ» . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ فَأَدْرَكْنَاهُ فَرَجَمْنَاهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الإِحْصَانَ يَثْبُتُ بِالإِقْرَارِ مَرَّةً، وَأَنَّ الْجَوَابَ بِنَعَمْ إقْرَارٌ. 4024- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: رَأَيْتُ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ جِيءَ بِهِ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ رَجُلٌ قَصِيرٌ أَعْضَلُ لَيْسَ عَلَيْهِ رِدَاءٌ، فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَنَّهُ زَنَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «فَلَعَلَّكَ» ؟ قَالَ: لا وَاَللَّهِ إنَّهُ قَدْ زَنَى الآخِرُ فَرَجَمَهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 4025- وَلأَحْمَدَ: أَنَّ مَاعِزًا جَاءَ فَأَقَرَّ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ. 4026- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ: «أَحَقٌّ مَا بَلَغَنِي عَنْك» ؟ قَالَ: وَمَا بَلَغَكَ عَنِّي؟ قَالَ: «بَلَغَنِي أَنَّكَ وَقَعَتْ بِجَارِيَةِ آلِ فُلانٍ» . قَالَ: نَعَمْ. فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4027- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَاعْتَرَفَ بِالزِّنَا مَرَّتَيْنِ فَطَرَدَهُ، ثُمَّ جَاءَ فَاعْتَرَفَ بِالزِّنَا مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ: «شَهِدْتَ عَلَى نَفْسِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

(2/377)


4028- وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسًا فَجَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ فَاعْتَرَفَ عِنْدَهُ مَرَّةً فَرَدَّهُ، ثُمَّ جَاءَ فَاعْتَرَفَ عِنْدَهُ الثَّانِيَةَ فَرَدَّهُ، ثُمَّ جَاءَ فَاعْتَرَفَ عِنْدَهُ الثَّالِثَةَ فَرَدَّهُ، فَقُلْت لَهُ: إنَّك إنْ اعْتَرَفْتَ الرَّابِعَةَ رَجَمَكَ، قَالَ: فَاعْتَرَفَ الرَّابِعَةَ فَحَبَسَهُ، ثُمَّ سَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُ إلا خَيْرًا قَالَ: فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ. 4029- وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ لَوْ جَلَسَ فِي رَحْلِهِ بَعْدَ اعْتِرَافِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ لَمْ يَرْجُمْهُ، وَإِنَّمَا رَجَمَهُ عِنْدَ الرَّابِعَةِ. رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. 4030- وَعَنْ بُرَيْدَةَ أَيْضًا قَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَتَحَدَّثُ أَنَّ الْغَامِدِيَّةَ وَمَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ، لَوْ رَجَعَا بَعْدَ اعْتِرَافِهِمَا، أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ يَرْجِعَا بَعْدَ اعْتِرَافِهِمَا لَمْ يَطْلُبْهُمَا، وَإِنَّمَا رَجَمَهُمَا بَعْدَ الرَّابِعَةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «أَبِكَ جُنُونٌ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الإِمَامِ الاسْتِفْصَالُ وَالْبَحْثُ عَنْ حَقِيقَةِ الْحَال. قَوْلُهُ: «فَهَلْ أَحْصَنْتَ» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ تَزَوَّجْتَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ زِيَادَاتٌ فِي الِاسْتِفْصَالِ، مِنْهَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: ... «لَعَلَّك قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ» . قَوْلُهُ: (إنَّهُ قَدْ زَنَى الآخِرُ) هُوَ مَقْصُورٌ بِوَزْنِ الْكَبِدِ أَيْ الأَبْعَدِ وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الإِقْرَار بِالزِّنَا أَنْ يَكُون أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَإِنْ نَقَصَ عَنْهَا لَمْ يَثْبُت الْحَدُّ وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ يَكْفِي وُقُوعُ الإِقْرَارِ مَرَّةً بِحَدِيثِ الْعَسِيفِ وَغَيْرِهِ إلى أن قَالَ: ومَا وَقَعَ مِنْ التَّكْرَارِ فِي الْحَدِيثِ فلِقَصْدِ الِاسْتِثْبَاتِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ اسْتِفْسَارِ الْمُقِرِّ بِالزِّنَا وَاعْتِبَارِ تَصْرِيحه بِمَا لا تَرَدُّدَ فِيهِ 4031- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ... «لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْت» ؟ قَالَ: لا يَا رَسُولَ اللَّه، قَالَ: ... «أَنِكْتَهَا» - لا يكني - قَالَ: نَعَمْ. فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد.

(2/378)


4032- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ الأَسْلَمِيُّ إلَى نَبِيِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ أَصَابَ امْرَأَةً حَرَامًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ فِي الْخَامِسَةِ، فَقَالَ: «أَنِكْتَهَا» . قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ» ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَهَلْ تَدْرِي مَا الزِّنَا» ؟ قَالَ: نَعَمْ أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنْ امْرَأَتِهِ حَلالًا، قَالَ: «فَمَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ» ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (لا يَكْنِي) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْكَافِ مِنْ الْكِنَايَة: أَيْ أَنَّهُ ذَكَرَ هَذَا اللَّفْظَ صَرِيحًا وَلَمْ يَكْنِ عَنْهُ بِلَفْظٍ آخَرَ كَالْجِمَاعِ. بَابُ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِحَدٍّ وَلَمْ يُسَمِّهِ لا يُحَدُّ 4033- عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ وَلَمْ يَسْأَلْهُ، قَالَ وَحَضَرَتْ الصَّلاةُ فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ إلَيْهِ الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْ فِي كِتَابَ اللَّهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا» ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ» . أَوْ «حَدَّكَ» . أَخْرَجَاهُ. 4034- وَلأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ نَحْوُهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَديث مَعْنَاهُ مَعْصِيَةٌ مِنْ الْمَعَاصِي الْمُوجِبَةِ لِلتَّعْزِيرِ، وَهِيَ هُنَا مِنْ الصَّغَائِرِ لأَنَّهَا كَفَّرَتْهَا الصَّلاةُ. وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ الْحَدُّ الْمَعْرُوفُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَحُدَّهُ لأَنَّهُ لَمْ يُفَسِّرْ مُوجِبَ الْحَدِّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَلا رَيْبَ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِحَدٍّ مِنْ الْحُدُودِ وَلَمْ يُفَسِّرْهُ لا يُطَالَبُ بِالتَّفْسِيرِ وَلا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. انْتَهَى. قَالَ َفِي الاختيارات: وَالْعُقُوبَاتُ الَّتِي تُقَامُ مِنْ حَدٍّ أَو تَعْزِيزٍ إِذَا ثَبَتَتْ بِالْبَيِّنَةِ فَإِذَا أَظْهَرَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدَّ لَمْ يُوثَقْ مِنْهُ بِهَا فَيُقَامُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ تَائِبًا فِي الْبَاطِنِ كَانَ الْحَدُّ مُكَفِّرًا وَكَانَ مَأْجُورًا عَلَى صَبْرِهِ وَإِنْ جَاءَ تَائِبًا

(2/379)


بنَفْسِهِ فَاعْتَرَفَ فَلا يُقَامُ عَلَيْهِِ فِي ظَّاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَدٍ. وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ الأَصْحَابُ وَغَيْرِهِمْ فِي الْمُحَارِبِينَ. وَإِنْ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا شَهِدَ بِهِ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ وَاخْتَارَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ أُقِيمَ وَإِلا لا. انْتَهَى. بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي الرُّجُوعِ عَنْ الإِقْرَارِ 4035- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ مَاعِزٌ الأَسْلَمِيُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنَّهُ قَدْ زَنَى، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ جَاءَهُ مِنْ شِقِّهِ الآخَرِ فَقَالَ: إنَّهُ قَدْ زَنَى، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ جَاءَهُ مِنْ شِقِّهِ الآخَرِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ قَدْ زَنَى، فَأَمَرَ بِهِ فِي الرَّابِعَةِ، فَأُخْرِجَ إلَى الْحَرَّةِ فَرُجِمَ بِالْحِجَارَةِ، فَلَمَّا وَجَدَ مَسَّ الْحِجَارَةِ فَرَّ يَشْتَدُّ حَتَّى مَرَّ بِرَجُلٍ مَعَهُ لَحْيُ جَمَلٍ فَضَرَبَهُ بِهِ وَضَرَبَهُ النَّاسُ حَتَّى مَاتَ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ فَرَّ حِينَ وَجَدَ مَسَّ الْحِجَارَةِ وَمَسَّ الْمَوْتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هَلا تَرَكْتُمُوهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. 4036- وَعَنْ جَابِرٍ - فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ - قَالَ: كُنْت فِيمَنْ رَجَمَ الرَّجُلَ، إنَّا لَمَّا خَرَجْنَا بِهِ فَرَجَمْنَاهُ فَوَجَدَ مَسَّ الْحِجَارَةِ صَرَخَ بِنَا: يَا قَوْمُ رُدُّونِي ... إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّ قَوْمِي قَتَلُونِي وَغَرُّونِي مِنْ نَفْسِي وَأَخْبَرُونِي أَنَّ ... رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غَيْرُ قَاتِلِي، فَلَمْ نَنْزِعْ عَنْهُ حَتَّى قَتَلْنَاهُ فَلَمَّا رَجَعْنَا إلَى ... رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَخْبَرْنَاهُ قَالَ: «فَهَلا تَرَكْتُمُوهُ وَجِئْتُمُونِي بِهِ» ؟ لِيَسْتَثْبِتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُ، فَأَمَّا تَرْكُ حَدٍّ فَلا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «هَلا تَرَكْتُمُوهُ» . اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَل مِنْ الْمُقِرِّ الرُّجُوعُ عَنْ الإِقْرَارِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْعِتْرَةُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْلٍ لَهُ. وَذَهَبَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْبَتِّيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ وَقَالَ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لا يُقْبَل مِنْهُ الرُّجُوعُ عَنْ الإِقْرَارِ بَعْدَ كَمَالِهِ كَغَيْرِهِ مِنْ الإِقْرَارَاتِ. قَالَ فِي الْبَحْرِ: مَسْأَلَةُ إذَا هَرَبَ الْمَرْجُومُ بِالْبَيِّنَةِ أُتْبِعَ الرَّجْمَ حَتَّى يَمُوتَ لا بِالإِقْرَارِ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَاعِزٍ: «هَلا خَلَّيْتُمُوهُ» . انْتَهَى.

(2/380)


بَابُ أَنَّ الْحَدَّ لا يَجِبُ بِالتُّهَمِ وَأَنَّهُ يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ 4037- عَنْ ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لاعَنَ بَيْنَ الْعَجْلانِيُّ وَامْرَأَتِهِ، فَقَالَ شَدَّادُ بْنُ الْهَادِ: هِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُهَا» . قَالَ: لا، تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ قَدْ أَعْلَنَتْ فِي الإِسْلامِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4038- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُ فُلانَةَ فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهَا الرِّيبَةُ فِي مَنْطِقِهَا وَهَيْئَتِهَا وَمَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهَا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ لَمْ يَحُدَّ الْمَرْأَةَ بِنُكُولِهَا عَنْ اللِّعَانِ. 4039- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ادْفَعُوا الْحُدُودَ مَا وَجَدْتُمْ لَهَا مَدْفَعًا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. 4040- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ الإِمَامَ إنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا، وَأَنَّ الْوَقْفَ أَصَحُّ. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ. 4041- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةُ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا، وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: وَاَللَّهِ مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إذَا أُحْصِنَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا النَّسَائِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (كَانَتْ قَدْ أَعْلَنَتْ فِي الإِسْلامِ) . أَيْ: كَانَتْ تُعْلِنُ بِالْفَاحِشَةِ وَلَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهَا ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ وَلا اعْتِرَافٍ. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَإِنْ حَمَلَتْ امْرَأَةٌ لا زَوْجَ لَهَا وَلا سَيِّدٌ حُدَّتْ إِنْ لَمْ تَدْعُ

(2/381)


شُبْهَة وَكَذَا مَنْ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ. وَهُو رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدٍ فِيهِمَا. انْتَهَى. بَابُ مَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَجَحَدَتْ 4042- عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنَّهُ قَدْ زَنَى بِامْرَأَةٍ سَمَّاهَا فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلَى الْمَرْأَةِ فَدَعَاهَا فَسَأَلَهَا عَمَّا قَالَ فَأَنْكَرَتْ، فَحَدَّهُ وَتَرَكَهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقد اسْتَدَلَّ بِالحَدِيثِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فَقَالا: يُحَدُّ مَنْ أَقَرَّ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ مُعَيَّنَةً لِلزِّنَا لا لِلْقَذْفِ. وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُحَدُّ لِلْقَذْفِ فَقَطْ، وقَدْ َذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَمُحَمَّدٌ وَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهُ يُحَدُّ لِلزِّنَا وَالْقَذْفِ. هُوَ الظَّاهِرُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ الْحَثِّ عَلَى إقَامَةِ الْحَدِّ إذَا ثَبَتَ وَالنَّهْيِ عَنْ الشَّفَاعَةِ فِيهِ 4043- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الأَرْضِ خَيْرٌ لأَهْلِ الأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَالنَّسَائِيُّ وقَالَ: «ثَلاثِينَ» . وَأَحْمَدُ بِالشَّكِّ فِيهِمَا. 4044- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَهُوَ مُضَادُّ اللَّهِ فِي أَمْرِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيهِ التَّرْغِيبُ فِي إقَامَةِ الْحُدُودِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَنْفِيذِ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَدَمِ الرَّأْفَةِ بِالْعُصَاةِ وَرَدْعِهِمْ عَنْ هَتْكِ حُرُمِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِهَذَا ثَبَتَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا الْحَدَّ عَلَيْهِ» . وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ وَالتَّرْهِيبِ لِفَاعِلِهَا بِمَا هُوَ غَايَةٌ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ وَصْفُهُ بِمُضَادَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَمْرِهِ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: لَقِيَ الزُّبَيْرُ سَارِقًا فَشَفَعَ فِيهِ، فَقِيلَ لَهُ: حَتَّى يَبْلُغَ الإِمَامَ. قَالَ: إذَا بَلَغَ الإِمَامَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفِّعَ. وَأَخْرَجَ أَبُو

(2/382)


دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَفَعَهُ: «تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ الزُّبَيْرَ وَعَمَّارًا وَابْنَ عَبَّاسٍ أَخَذُوا سَارِقًا فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ. فَقَالَ عِكْرِمَةُ: فَقُلْت: بِئْسَ مَا صَنَعْتُمْ حِينَ خَلَّيْتُمْ سَبِيلَهُ. فَقَالُوا: لا أُمَّ لَك، أَمَا لَوْ كُنْت أَنْتَ لَسَرَّك أَنْ يُخَلَّى سَبِيلُك. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ أَنَّ السُّنَّةَ بُدَاءَةُ الشَّاهِدِ بِالرَّجْمِ وَبُدَاءَةُ الإِمَامِ بِهِ إذَا ثَبَتَ بِالإِقْرَارِ 4045- عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ لِشُرَاحَةَ زَوْجٌ غَائِبٌ بِالشَّامِ وَأَنَّهَا حَمَلَتْ فَجَاءَ بِهَا مَوْلاهَا إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ زَنَتْ وَاعْتَرَفَتْ فَجَلَدَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ مِائَةً، وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَحَفَرَ لَهَا إلَى السُّرَّةِ وَأَنَا شَاهِدٌ ثُمَّ قَالَ: إنَّ الرَّجْمَ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَلَوْ كَانَ شَهِدَ عَلَى هَذِهِ أَحَدٌ لَكَانَ أَوَّلَ مَنْ يَرْمِي الشَّاهِدُ، يَشْهَدُ ثُمَّ يُتْبِعُ شَهَادَتَهُ حَجَرَهُ، وَلَكِنَّهَا أَقَرَّتْ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ رَمَاهَا، فَرَمَاهَا بِحَجَرٍ ثُمَّ رَمَى النَّاسُ وَأَنَا فِيهِمْ، فَكُنْتُ وَاَللَّهِ فِيمَنْ قَتَلَهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: حَكَى ابْنُ دَقِيقٍ الْعِيدِ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اسْتَحَبُّوا أَنْ يَبْدَأَ الإِمَامُ بِالرَّجْمِ إذَا ثَبَتَ الزِّنَا بِالإِقْرَارِ وَتَبْدَأُ الشُّهُودُ بِهِ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ. بَابُ مَا فِي الْحَفْرِ لِلْمَرْجُومِ 4046- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: لَمَّا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَرْجُمَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ خَرَجْنَا بِهِ إلَى الْبَقِيعِ فَوَاَللَّهِ مَا حَفَرْنَا لَهُ، وَلا أَوْثَقْنَاهُ، وَلَكِنْ قَامَ لَنَا فَرَمَيْنَاهُ بِالْعِظَامِ وَالْخَزَفِ، فَاشْتَكَى فَخَرَجَ يَشْتَدُّ حَتَّى انْتَصَبَ لَنَا فِي عُرْضِ الْحَرَّةِ فَرَمَيْنَاهُ بِجَلامِيدِ الْجَنْدَلِ حَتَّى سَكَتَ. 4047- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَتْ الْغَامِدِيَّةُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي، وَإِنَّهُ رَدَّهَا، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ تَرُدُّنِي لَعَلَّك تَرُدُّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا، فَوَاَللَّهِ إنِّي لَحُبْلَى، قَالَ: «إمَّا لا فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي» . فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي خِرْقَةٍ

(2/383)


قَالَتْ: هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ، قَالَ: «اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ» . فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ، فَقَالَتْ: هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْتُهُ وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إلَى صَدْرِهَا، وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا، فَيُقْبِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا فَنَضَخَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ فَسَبَّهَا، فَسَمِعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَبَّهُ إيَّاهَا، فَقَالَ: «مَهْلاً يَا خَالِدُ، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ» . ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصُلِّيَ عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ. رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 4048- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ الأَسْلَمِيَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي زَنَيْتُ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي فَرَدَّهُ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَتَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي قَدْ زَنَيْت، فَرَدَّهُ الثَّانِيَةَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى قَوْمِهِ: هَلْ تَعْلَمُونَ بِعَقْلِهِ بَأْسًا تُنْكِرُونَ مِنْهُ شَيْئًا؟ فقَالُوا: مَا نَعْلَمُهُ إلا وَفِي الْعَقْلِ مِنْ صَالِحِينَا فِيمَا نَرَى، فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ أَيْضًا فَسَأَلَ عَنْهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ لا بَأْسَ بِهِ، وَلا بِعَقْلِهِ، فَلَمَّا كَانَ الرَّابِعَةُ حَفَرَ لَهُ حُفْرَةً، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 4049- وَأَحْمَدُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَحُفِرَ لَهُ حُفْرَةٌ فَجُعِلَ فِيهَا إلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ بِرَجْمِهِ. 4050- وَعَنْ خَالِدِ بْنِ اللَّجْلاجِ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ - فَذَكَرَ قِصَّةَ رَجُلٍ اعْتَرَفَ بِالزِّنَا - قَالَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أُحْصِنْتَ» ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ، فَذَهَبْنَا فَحَفَرْنَا لَهُ حَتَّى أَمْكَنَنَا وَرَمَيْنَاهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى هَدَأَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «إمَّا لا» قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ (إمَّا) وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَبِالإِمَالَةِ، وَمَعْنَاهُ: إذَا أَبَيْت أَنْ تَسْتُرِي نَفْسَك وَتَتُوبِي عَنْ قَوْلِكِ فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي فَتُرْجَمِينَ بَعْدَ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: «صَاحِبُ مَكْسٍ» : هُوَ مَنْ يَتَوَلَّى الضَّرَائِبَ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالْمَكْسُ: النَّقْصُ وَالظُّلْمُ، وَدَرَاهِمُ كَانَتْ تُؤْخَذُ مِنْ بَائِعِي السِّلَعِ فِي الأَسْوَاقِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.

(2/384)


قَالَ الشَّارِحُ: وَهَذِهِ الأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلامَ عَلَى فِقْهِهَا، وَإِنَّمَا سَاقَهَا الْمُصَنِّفُ هَا هُنَا لِلاسْتِدْلالِ بِهَا عَلَى مَا تَرْجَمَ الْبَابَ بِهِ وَهُوَ الْحَفْرُ لِلْمَرْجُومِ. وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ الْمَنْفِيَّ حَفِيرَةٌ لا يُمْكِنُهُ الْوُثُوبُ مِنْهَا وَالْمُثْبَتُ عَكْسُهُ. إلى أن قَالَ: وَعَلَى فَرْضِ عَدَمِ إمْكَانِ الْجَمْعِ فَالْوَاجِبُ تَقْدِيمُ رِوَايَةِ الإِثْبَاتِ عَلَى النَّفْيِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ تَأْخِيرِ الرَّجْمِ عَنْ الْحُبْلَى حَتَّى تَضَعَ وَتَأْخِيرِ الْجَلْدِ عَنْ ذِي الْمَرَضِ الْمَرْجُوِّ زَوَالُهُ 4051- وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ مِنْ الأَزْدِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي، فَقَالَ: «وَيْحَكِ ارْجِعِي فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إلَيْهِ» . فَقَالَتْ: أَرَاك تُرِيدُ أَنْ تُرَدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزَ ابْنَ مَالِكٍ، قَالَ: «وَمَا ذَاكَ» ؟ قَالَتْ: إنَّهَا حُبْلَى مِنْ الزِّنَا. قَالَ: «أَنْتِ» ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهَا: «حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِكِ» . قَالَ: فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ. قَالَ: فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: قَدْ وَضَعَتْ الْغَامِدِيَّةُ، فَقَالَ: «إذًا لا نَرْجُمُهَا وَتَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ» . فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ: إلَيَّ رَضَاعُهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ: «فَرَجَمَهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ والدراقطني، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. 4052- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهِيَ حُبْلَى مِنْ الزِّنَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْت حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلِيَّهَا، فَقَالَ: «أَحْسِنْ إلَيْهَا، فَإِذَا وَضَعَتْ فَأْتِنِي» . فَفَعَلَ فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَشُدَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: نُصَلِّي عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ زَنَتْ؟ فَقَالَ: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدَتْ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ» ؟ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَةْ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَحْدُودَ مُحْتَرَزٌ تُحْفَظُ عَوْرَتُهُ مِنْ الْكَشْفِ.

(2/385)


4053- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إنَّ أَمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَنَتْ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا، فَأَتَيْتُهَا فَإِذَا هِيَ حَدِيثَةُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ فَخَشِيتُ إنْ أَجْلِدْهَا أَنْ أَقْتُلَهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «أَحْسَنْت اُتْرُكْهَا حَتَّى تَمَاثَلَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ الْغَامِدِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَأْخِيرُ الْحَدِّ عَنْ الْحَامِلِ حَتَّى تَضَعَ ثُمَّ حَتَّى تُرْضِعَ وَتَفْطِمَ، وَعِنْدَ الْهَادَوِيَّةِ أَنَّهَا لا تُؤَخَّرُ إلَى الْفِطَامِ إلا إذَا عُدِمَ مِثْلُهَا لِلرَّضَاعِ وَالْحَضَانَةِ، فَإِنْ وُجِدَ مَنْ يَقُومُ بِذَلِكَ لَمْ تُؤَخَّرْ، وَتَمَسَّكُوا بِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ. قَوْلُهُ: «اُتْرُكْهَا حَتَّى تَمَاثَلَ» بِالْمُثَلَّثَةِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: تَمَاثَلَ الْعَلِيلُ: قَارَبَ الْبُرْءَ، وَفِي رِوَايَةٍ لأَبِي دَاوُد: «حَتَّى يَنْقَطِعَ عَنْهَا الدَّمُ» وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ يُمْهَلُ حَتَّى يَبْرَأَ أَوْ يُقَارِبَ الْبُرْءَ. بَابُ صِفَةِ سَوْطِ الْجَلْدِ وَكَيْفَ يُجْلَدُ مَنْ بِهِ مَرَضٌ لا يُرْجَى بُرْؤُهُ 4054- عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ رَجُلًا اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِسَوْطٍ فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ، فَقَالَ: «فَوْقَ هَذَا» . فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ لَمْ تُقْطَعْ ثَمَرَتُهُ، فَقَالَ: «بَيْنَ هَذَيْنِ» . فَأُتِيَ بِسَوْطٍ قَدْ لانَ وَرُكِبَ بِهِ فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ عَنْهُ. 4055- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: كَانَ بَيْنَ أَبْيَاتِنَا رُوَيْجِلٌ ضَعِيفٌ مُخْدَجٌ فَلَمْ يُرَعْ الْحَيُّ إلا وَهُوَ عَلَى أَمَةٍ مِنْ إمَائِهِمْ يَخْبُثُ بِهَا، فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُسْلِمًا فَقَالَ: «اضْرِبُوهُ حَدَّهُ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ أَضْعَفُ مِمَّا تَحْسَبُ، لَوْ ضَرَبْنَاهُ مِائَةً قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ: «خُذُوا لَهُ عِثْكَالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ، ثُمَّ اضْرِبُوهُ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً» . قَالَ: فَفَعَلُوا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. 4056- وَلأَبِي دَاوُد مَعْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مِنْ الأَنْصَارِ. وَفِيهِ وَلَوْ حَمَلْنَاهُ إلَيْك لَتَفَسَّخَتْ عِظَامُهُ مَا هُوَ إلا جِلْدٌ عَلَى عَظْمٍ.

(2/386)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ السَّوْطُ الَّذِي يُجْلَدُ بِهِ الزَّانِي مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْجَدِيدِ وَالْعَتِيقِ وَهَكَذَا إذَا كَانَ الْجَلْدُ بِعُودٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ وَبَيْنَ الْجَدِيدِ وَالْعَتِيقِ. وَحَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا لَمْ يَحْتَمِلْ الْجَلْدَ ضُرِبَ بِعُثْكُولٍ أَوْ مَا يُشَابِهُهُ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ. بَابُ مَنْ وَقَعَ عَلَى ذَاتِ مَحْرَمٍ أَوْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ أَوْ أَتَى بَهِيمَةً 4057- عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: لَقِيت خَالِي وَمَعَهُ الرَّايَةُ، فَقُلْت: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ وَآخُذَ مَالَهُ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ أَخْذَ الْمَالِ. 4058- وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْبِكْرِ يُوجَدُ عَلَى اللُّوطِيَّةِ يُرْجَمُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4059- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: لا نَعْرِفُهُ إلا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَلا حَدَّ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ أَنَّهُ أَصَحُّ. قَوْلُهُ: (بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلإِمَامِ أَنْ يَأْمُرَ بِقَتْلِ مَنْ خَالَفَ قَطْعِيًّا مِنْ قَطْعِيَّاتِ الشَّرِيعَةِ كَهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء} وَلَكِنَّهُ لا

(2/387)


بُدَّ مِنْ حَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي أَمَرَ - صلى الله عليه وسلم - بِقَتْلِهِ عَالِمٌ بِالتَّحْرِيمِ وَفَعَلَهُ مُسْتَحِلًّا وَذَلِكَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْكُفْرِ. انْتَهَى. قال في المقنع: وإن وطئ في نكاح مجمع على بطلانه كنكاح المزوجة والمعتدة والخامسة وذوات المحارم من النسب والرضاع أو استأجر امْرَأَةَ للزنا أو لغيره وزنى بها أو زنى بامرأة له عليها القصاص أو بصغيرة أو مجنونة أو بامرأة ثم تزوجها أو بأمة ثم اشتراها أو أمكنت العاقلة من نفسها مجنونًا أو صغيرًا فوطئها فعليهم الحد. انْتَهَى. قَوْلُهُ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» قَالَ ابْنُ الطَّلاعِ فِي أَحْكَامِهِ: لَمْ يَثْبُتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ رَجَمَ فِي اللِّوَاطِ وَلا أَنَّهُ حَكَمَ فِيهِ. وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «اُقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ الشَّارِحُ: وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - أَنَّهُ رَجَمَ لُوطِيًّا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ برْجَم اللُّوطِيُّ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّهُ جَمَعَ النَّاسَ فِي حَقِّ رَجُلٍ يُنْكَحُ كَمَا يُنْكَحُ النِّسَاءُ، فَسَأَلَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ فَكَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ يَوْمَئِذٍ قَوْلًا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: هَذَا ذَنْبٌ لَمْ تَعْصِ بِهِ أُمَّةٌ مِنْ الأُمَمِ إلا أُمَّةً وَاحِدَةً صَنَعَ اللَّهُ بِهَا مَا قَدْ عَلِمْتُمْ، نَرَى أَنْ نُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ، فَاجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَنْ يُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ. وَفِي إسْنَادِهِ إرْسَالٌ. وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: يُرْجَمُ وَيُحَرَّقُ بِالنَّارِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِّ اللُّوطِيِّ فَقَالَ: يُنْظَرُ أَعْلَى بِنَاءٍ فِي الْقَرْيَةِ فَيُرْمَى بِهِ مُنَكَّسًا ثُمَّ يُتْبَعُ الْحِجَارَةَ. وَقَدْ حَكَى صَاحِبُ الشِّفَاءِ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى الْقَتْلِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَمَا أَحَقَّ مُرْتَكِبَ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ وَمُقترِفَ هَذِهِ الرَّذِيلَةِ الذَّمِيمَةِ بِأَنْ يُعَاقَبَ عُقُوبَةً يَصِيرُ بِهَا عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ وَيُعَذَّبَ تَعْذِيبًا يَكْسِرُ شَهْوَةَ الْفَسَقَةِ الْمُتَمَرِّدِينَ، فَحَقِيقٌ بِمَنْ أَتَى بِفَاحِشَةِ قَوْمٍ مَا سَبَقَهُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ أَنْ يَصْلَى مِنْ الْعُقُوبَةِ بِمَا يَكُونُ فِي الشِّدَّةِ وَالشَّنَاعَةِ مُشَابِهًا لِعُقُوبَتِهِمْ. وَقَدْ خَسَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ وَاسْتَأْصَلَ بِذَلِكَ الْعَذَابِ بِكْرَهُمْ وَثَيِّبَهُمْ. قَوْلُهُ: «مَنْ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ» قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ

(2/388)


اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فمَنْ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ فَقِيلَ يُقْتَلُ. وَقِيل: يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَا. وَقِيل: يُعَزَّرُ. قَالَ الْحَاكِمُ: أرى أن يُجْلَدُ ولا يبلغ به الحد. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ الشَّارِحُ: وَفِي الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُا تُقْتَلُ الْبَهِيمَةَ والعلة فِي ذَلِكَ مَا َرَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَنَّهُ قِيل لابْنِ عَبَّاسٍ مَا شأن الْبَهِيمَةَ؟ قَالَ: مَا أراه قَالَ ذَلِكَ إلا أَنَّهُ يكره أن يؤكل لحمها وقد عُمِلَ بِهَا ذَلِكَ الْعَمَلُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْعِلَّة أن يُقَالُ: هَذِهِ الَّتِي فُعِلَ بِهَا كَذَا وَكَذَا. بَابُ فِيمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ 4060- عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُ رُفِعَ إلَيْهِ رَجُلٌ غَشِيَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: لَأَقْضِيَنَّ فِيهَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، إنْ كَانَتْ أَحَلَّتْهَا لَك جَلَدْتُكَ مِائَةً، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُحِلَّهَا لَك رَجَمْتُك. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. 4061- وَفِي رِوَايَةٍ: عَنْ النُّعْمَانِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّجُلِ يَأْتِي جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: «إنْ كَانَتْ أَحَلَّتْهَا لَهُ جَلَدْتُهُ مِائَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَلَّتْهَا لَهُ رَجَمْته» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الرَّجُلِ يَقَعُ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ، فَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ أَنَّ عَلَيْهِ الرَّجْمُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَيْسَ عَلَيْهِ حَدٌّ وَلَكِنْ يُعَزَّرُ. وَذَهَبَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ إلَى مَا رَوَاهُ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ. قَالَ الشَّارِحُ: وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ لأَنَّ الْحَدِيثَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَقَال فَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً يُدْرَأُ بِهَا الْحَدُّ. زَادَ أَبُو دَاوُد: فَوَجَدُوهُ أَحَلَّتْهَا لَهُ فَجَلَدَهُ مِائَةً. بَابُ حَدِّ زِنَا الرَّقِيقِ خَمْسُونَ جَلْدَةً 4062- عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى أَمَةٍ سَوْدَاءَ زَنَتْ لأَجْلِدَهَا الْحَدَّ، قَالَ: فَوَجَدْتهَا فِي دَمِهَا، فَأَتَيْت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ لِي: «إذَا تَعَالَتْ مِنْ نِفَاسِهَا فَاجْلِدْهَا خَمْسِينَ» . رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ أَحْمَدَ فِي الْمُسْنَدِ.

(2/389)


وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ قَالَ: أَمَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - فِي فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ - فَجَلَدْنَا وَلائِدَ مِنْ وَلائِدِ الإِمَارَةِ خَمْسِينَ خَمْسِينَ فِي الزِّنَا. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} وَلا قَائِلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الأَمَةِ وَالْعَبْدِ. قَوْلُهُ: «إذَا تَعَالَتْ مِنْ نِفَاسِهَا» بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ: أَيْ خَرَجَتْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُمْهَلُ مَنْ كَانَ مَرِيضًا حَتَّى يَصِحَّ مِنْ مَرَضِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. بَابُ السَّيِّدِ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى رَقِيقِهِ 4063- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ الثَّالِثَةَ فَلْيَبِعْهَا، وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4064- وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَأَبُو دَاوُد وَذَكَرَا فِيهِ: «فِي الرَّابِعَةِ الْحَدَّ وَالْبَيْعَ» . قَالَ الْخَطَّابِيِّ: مَعْنَى لا يُثَرِّبْ: لا يَقْتَصِرْ عَلَى التَّثْرِيبِ. 4065- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالا: سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الأَمَةِ إذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ، قَالَ: «إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ» . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لا أَدْرِي أَبَعْدَ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4066- وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّ خَادِمًا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَحْدَثَتْ، فَأَمَرَنِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدَّ، فَأَتَيْتهَا فَوَجَدْتهَا لَمْ تَجِفَّ مِنْ دَمِهَا، فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: «إذَا جَفَّتْ مِنْ دَمِهَا فَأَقِمْ عَلَيْهَا الْحَدَّ، أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «وَلا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا» وفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ النَّسَائِيّ «وَلا يُعَنِّفْهَا» وَالْمُرَادُ أَنَّ اللازِمَ لَهَا شَرْعًا هُوَ الْحَدُّ فَقَطْ فَلا يَضُمُّ إلَيْهِ

(2/390)


سَيِّدُهَا مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ شَرْعًا وَهُوَ التَّثْرِيبُ. وَقِيلَ: إنَّ الْمُرَادَ نَهْيُ السَّيِّدِ عَلَى أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى التَّثْرِيبِ دُونَ الْحَدِّ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا يُفْهِمُهُ السِّيَاقُ. وأحاديث الْبَابِ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى مَمْلُوكِهِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى أَنَّ الأَمَةَ إنْ كَانَتْ مُزَوَّجَةً كَانَ أَمْرُ حَدِّهَا إلَى الإِمَامِ إلا أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا عَبْدًا لِسَيِّدِهَا فَأَمْرُ حَدِّهَا إلَى السَّيِّدِ، وَاسْتَثْنَى أَيْضًا الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ وَظَاهِرُ أَحَادِيثِ الْبَابِ أَنَّ الأَمَةَ وَالْعَبْدَ يُجْلَدَانِ سَوَاءٌ كَانَا مُحْصَنَيْنِ أَمْ لا وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُور وَرُوِيَ عَن ابن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ: لا حَدَّ عَلَى مَمْلُوك حتى يتزوج تمسكًا بقوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} وأجاب عنه في البحر بأن لفظ الإحصان حتمل لأنه بمعنى أسلمن وبلغن وتزوجن. قال: ولو سلم فخلاف ابن عباس منقوض. والأولى الجواب بحديث أبي هريرة وزيد بن خالد وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي كم حديث أبي عبد الرحمن السلمي أن أمير المؤمنين عليًا - رضي الله عنه - خطب فقال: يا أيها الناس أقيموا الحدود على أرقائكم من أحصن منهم ومن لم يحصن. انتهى مُلَخَّصًا.

(2/391)


 كِتَابُ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ

بَابُ مَا جَاءَ فِي كَمْ يُقْطَعُ السَّارِقُ؟ 4067- عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلاثَةُ دَرَاهِمَ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 4068- وَفِي لَفْظِ بَعْضِهِمْ: قِيمَتُهُ ثَلاثَةُ دَرَاهِمَ. 3141 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْطَعُ يَدَ السَّارِقِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا ابْنَ مَاجَةْ. 4070- وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إلا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. 4071- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 4072- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 4073- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «اقْطَعُوا فِي رُبُعِ دِينَارٍ، وَلا تَقْطَعُوا فِيمَا هُوَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ» . وَكَانَ رُبُعُ الدِّينَارِ يَوْمَئِذٍ ثَلاثَةَ دَرَاهِمَ، وَالدِّينَارُ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4074- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِيمَا

(2/392)


دُونَ ثَمَنِ الْمِجَنِّ» . قِيلَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا مَا ثَمَنُ الْمِجَنِّ؟ قَالَتْ: رُبُعُ دِينَارٍ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 4075- وَعَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ» . قَالَ الأَعْمَشُ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ بَيْضُ الْحَدِيدِ، وَالْحَبْلُ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ مِنْهَا مَا يُسَاوِي دَرَاهِمَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ لِمُسْلِمٍ فِيهِ زِيَادَةُ قَوْلِ الأَعْمَشِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ ذَهَبَ إلَى مَا تَقْتَضِيهِ أَحَادِيثُ الْبَابِ مِنْ ثُبُوتِ الْقَطْعِ فِي ثَلاثَةِ دَرَاهِمَ أَوْ رُبُعِ دِينَارٍ الْجُمْهُورُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَمِنْهُمْ الْخُلَفَاءُ الأَرْبَعَةُ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يُقَوَّمُ بِهِ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. فَذَهَبَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ إلَى أَنَّهُ يَكُونُ التَّقْوِيمُ بِالدَّرَاهِمِ لا بِرُبُعِ الدِّينَارِ إذَا كَانَ الصَّرْفُ مُخْتَلِفًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الأَصْلُ فِي تَقْوِيمِ الأَشْيَاءِ هُوَ الذَّهَبُ لأَنَّهُ الأَصْلُ فِي جَوَاهِرِ الأَرْضِ كُلِّهَا. وَذَكَرَ بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهُ يُنْظَرُ فِي تَقْوِيمِ الْعُرُوضِ بِمَا كَانَ غَالِبًا فِي نُقُودِ أَهْلِ الْبَلَدِ. إلى أن قَالَ: الْمَذْهَبُ الْعَاشِرُ: أَنَّهُ يَثْبُتُ الْقَطْعُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، حَكَاهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَدَاوُد وَالْخَوَارِجِ، وَاسْتَدَلُّوا بِإِطْلاقِ قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} . وَيُجَابُ بِأَنَّ إطْلاقَ الآيَةِ مُقَيَّدٌ بِالأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنَّ فِيهِ: «يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ» وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ تَحْقِيرُ شَأْنِ السَّارِقِ وَخَسَارِ مَا رَبِحَهُ، وَأَنَّهُ إذَا جَعَلَ السَّرَقَة عَادَةً لَهُ جَرَّأَهُ ذَلِكَ عَلَى سَرِقَةِ مَا فَوْقَ الْبَيْضَةِ وَالْحَبْلِ حَتَّى يَبْلُغَ إلَى الْمِقْدَارِ الَّذِي تُقْطَعُ بِهِ الأَيْدِي، هَكَذَا قَالَ الْخَطَّابِيِّ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَفِيهِ تَعَسُّفٌ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّنْفِيرِ عَنْ السَّرِقَةِ وَجَعْلُ مَا لا قَطْعَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ مَا فِيهِ الْقَطْعُ كَمَا فِي حَدِيثِ: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ» مَعَ أَنَّ مَفْحَصَ الْقَطَاةِ لا يَكُونُ مَسْجِدًا، وَلَكِنَّ مَقَامَ التَّرْغِيبِ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالصَّدَقَةِ اقْتَضَى ذَلِكَ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيْضَةِ بَيْضَةُ الْحَدِيدِ كَمَا وَقَعَ فِي الْبَابِ عَنْ الأَعْمَشِ، وَلا شَكَّ أَنَّ لَهَا قِيمَةً. وَكَذَلِكَ الْحَبْلُ فَإِنَّ فِي الْحِبَالِ مَا تَزِيدُ

(2/393)


قِيمَتُهُ عَلَى ثَلاثَةِ دَرَاهِمَ كَحِبَالِ السُّفُنِ، وَلَكِنَّ مَقَامَ الْمُبَالَغَةِ لا يُنَاسِبُ ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا - رضي الله عنه - قَطَعَ فِي بَيْضَةِ حَدِيدٍ ثَمَنُهَا رُبُعُ دِينَارٍ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ اعْتِبَارِ الْحِرْزِ وَالْقَطْعِ فِيمَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ 4076- عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ، وَلا كَثَرٍ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. 4077- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ، فَقَالَ: «مَنْ أَصَابَ مِنْهُ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ، وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد. 4078- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: سَمِعْت رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةُ يَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْحَرِيسَةِ الَّتِي تُوجَدُ فِي مَرَاتِعِهَا قَالَ: «فِيهَا ثَمَنُهَا مَرَّتَيْنِ وَضَرْبُ نَكَالٍ، وَمَا أُخِذَ مِنْ عَطَنِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ إذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ» . قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالثِّمَارُ وَمَا أُخِذَ مِنْهَا فِي أَكْمَامِهَا؟ قَالَ: «مَنْ أَخَذَ بِفَمِّهِ وَلَمْ يَتَّخِذْ خُبْنَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَمَنْ احْتَمَلَ فَعَلَيْهِ ثَمَنُهُ مَرَّتَيْنِ وَضَرْبُ نَكَالٍ، وَمَا أُخِذَ مِنْ أَجْرَانِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ إذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 4079- وَلِابْنِ مَاجَةْ مَعْنَاهُ. 4080- وَزَادَ النَّسَائِيّ فِي آخِرِهِ: «وَمَا لَمْ يَبْلُغْ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ» . وَعَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ سَارِقًا سَرَقَ أُتْرُجَّةً فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَأَمَرَ بِهَا عُثْمَانُ أَنْ تُقَوَّمَ فَقُوِّمَتْ ثَلاثَةَ دَرَاهِمَ مِنْ صَرْفِ اثْنَيْ عَشَرَ بِدِينَارٍ فَقَطَعَ عُثْمَانُ يَدَهُ. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ.

(2/394)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «وَلا كَثُرَ» بِفَتْحِ الْكَافِ والثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَهُوَا الْجُمَّار. قَوْلُهُ «الْجَرِينُ» قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هُوَ مَوْضِعُ تَجْفِيفِ التَّمْرِ وَهُوَ لَهُ كَالْبَيْدَرِ لِلْحِنْطَةِ. قَوْلُهُ: (عَنْ الْحَرِيسَةِ) قِيلَ: هِيَ الَّتِي تَرْعَى وَعَلَيْهَا حَرَسٌ. وَقِيلَ: هِيَ السَّيَّارَةُ الَّتِي يُدْرِكُهَا اللَّيْلُ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إلَى مَأْوَاهَا. وَفِي الْقَامُوسِ: وَالْحَرِيسَةُ الْمَسْرُوقَةُ، وَجِدَارٌ مِنْ حِجَارَةٍ يُعْمَلُ لِلْغَنَمِ. انْتَهَى. قَوْلُهُ: «فِيهَا ثَمَنُهَا مَرَّتَيْنِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّأْدِيبِ بِالْمَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ. وَقَوْلُهُ: «وَضَرْبُ نَكَالٍ» فِيهِ جَوَازُ الْجَمْعِ بَيْنَ عُقُوبَةِ الْمَالِ وَالْبَدَنِ. قَوْلُهُ: (فِي أَكْمَامِهَا) جَمْعُ كِمٍّ بِكَسْرِ الْكَافِ: وَهُوَ وِعَاءُ الطَّلْعِ. وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ رَافِعٍ عَلَى أَنَّهُ لا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ الثَّمَرَ وَالْكَثَرَ سَوَاءٌ كَانَا بَاقِيَيْنِ فِي مَنْبَتِهِمَا أَوْ قَدْ أُخِذَا مِنْهُ وَجُعِلا فِي غَيْرِهِ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ: وَلا قَطْعَ فِي الطَّعَامِ وَلا فِيمَا أَصْلُهُ مُبَاحٌ كَالصَّيْدِ وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ. وَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لا قَطْعَ فِي الثَّمَرِ وَالْكَثَرِ وَالطَّبَائِخِ وَالشِّوَاءِ وَالْهَرَائِسِ إذَا لَمْ تُحْرَزْ، وَأَمَّا إذَا أُحْرِزَتْ وَجَبَ فِيهَا الْقَطْعُ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ الْجُمْهُورِ. وَقَدْ حَكَى صَاحِبُ الْبَحْرِ عَنْ الأَكْثَرِ أَنَّ شَرْطَ الْقَطْعِ الْحِرْزُ. وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى عَدَمِ الْقَطْعِ فِي الثَّمَرِ إذَا كَانَ غَيْرَ مُحْرَزٍ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، فَإِنَّ فِيهِ: «إنَّ مَنْ أَصَابَ مِنْ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ بِفِيهِ وَلَمْ يَتَّخِذْ خُبْنَةً فَلا قَطْعَ عَلَيْهِ وَلا ضَمَانَ إنْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ، وَإِنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ كَانَ عَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ يُحْرَزَ فِي الْجَرِينِ قُطِعَ إذَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ» . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْحِرْزِ أَيْضًا رِوَايَةُ النَّسَائِيّ وَأَحْمَدَ فِي سَارِقِ الْحَرِيسَةِ وَالثِّمَارِ. وَأَمَّا أَثَرُ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَطَعَ فِي أُتْرُجَّةٍ فَلا يُعَارِضُ مَا وَرَدَ فِي اعْتِبَارِ الْحِرْزِ؛ لأَنَّ غَايَةَ مَا فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِالْحِرْزِ فِيمَنْ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الأُتْرُجَّةَ كَانَتْ قَدْ أُحْرِزَتْ وَهَكَذَا حَدِيثُ رَافِعٍ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ لا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلا كَثَرٍ مُطْلَقًا وَلَكِنَّهُ مُطْلَقٌ مُقَيَّدٌ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الْمَذْكُورِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/395)


بَابُ تَفْسِيرِ الْحِرْزِ وَأَنَّ الْمَرْجِعَ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ 4081- عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: كُنْت نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ عَلَى خَمِيصَةٍ لِي فَسُرِقَتْ فَأَخَذْنَا السَّارِقَ فَرَفَعْنَاهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفِي خَمِيصَةٍ ثَمَنُ ثَلاثِينَ دِرْهَمًا؟ أَنَا أَهَبُهَا لَهُ أَوْ أَبِيعُهَا لَهُ قَالَ: «فَهَلا كَانَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. 4082- وَفِي رِوَايَةٍ لأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ: فَقَطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. 4082- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَطَعَ يَدَ سَارِقٍ سَرَقَ بُرْنُسًا مِنْ صُفَّةِ النِّسَاءِ ثَمَنُهُ ثَلاثَةُ دَرَاهِمَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (بُرْنُسًا) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: هُوَ قَلَنْسُوَةٌ طَوِيلَةٌ أَوْ كُلُّ ثَوْبٍ رَأْسُهُ مِنْهُ، دُرَّاعَةً كَانَ أَوْ جُبَّةً. قَوْلُهُ: (صُفَّةِ النِّسَاءِ) : أَيْ الْمَوْضِعِ الْمُخْتَصِّ بِهِنَّ مِنْ الْمَسْجِدِ وصفة الْمَسْجِد مَوْضِعٌ مُظَلَّلٌ مِنْهُ. وَحَدِيثُ صَفْوَانَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَفْوَ بَعْدَ الرَّفْعِ إلَى الإِمَامِ لا يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُُّ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ قَبْلَ الرَّفْعِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثَيْ الْبَابِ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الْحِرْزِ. وَيُرَدُّ بِأَنَّ الْمَسْجِدَ حِرْزٌ لِمَا دَاخِلَهُ مِنْ آلَةٍ وَغَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَلاسِيَّمَا بَعْدَ أَنْ جَعَلَ صَفْوَانُ خميصة تَحْتَ رَأْسِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي الرِّوَايَاتِ. مَا جَاءَ فِي الْمُخْتَلِسِ وَالْمُنْتَهِبِ وَالْخَائِنِ وَجَاحِدِ الْعَارِيَّةِ 4084- عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلا مُنْتَهِبٍ، وَلا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 4085- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَتْ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِقَطْعِ يَدِهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 4086- وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ: فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُطِعَتْ يَدُهَا. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ عُبَيْدٍ، قَالَ فِيهِ: فَشُهِدَ عَلَيْهَا. 4087- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ امْرَأَةٌ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ

(2/396)


وَتَجْحَدُهُ فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِقَطْعِ يَدِهَا، فَأَتَى أَهْلُهَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَكَلَّمُوهُ، فَكَلَّمَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أُسَامَةُ لا أَرَاك تَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - خَطِيبًا فَقَالَ: «إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِأَنَّهُ إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْت يَدَهَا» . فَقَطَعَ يَدَ الْمَخْزُومِيَّةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 4088- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: اسْتَعَارَتْ امْرَأَةٌ - يَعْنِي حُلِيًّا - عَلَى أَلْسِنَةِ نَاسٍ يُعْرَفُونَ وَلا تُعْرَفُ هِيَ، فَبَاعَتْهُ، فَأُخِذَتْ فَأُتِيَ بِهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهَا، وَهِيَ الَّتِي شَفَعَ فِيهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَقَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا قَالَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ) فِي رِوَايَةٍ لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ فَقَالَتْ: إنَّ فُلانَةَ تَسْتَعِيرُ حُلِيًّا فَأَعَارَتْهَا فَمَكَثَتْ لا تَرَاهَا، فَجَاءَتْ إلَى الَّتِي اسْتَعَارَتْ لَهَا تَسْأَلُهَا، فَقَالَتْ: مَا اسْتَعَرْتُك شَيْئًا، فَرَجَعَتْ إلَى الأُخْرَى فَأَنْكَرَتْ، فَجَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَدَعَاهَا فَسَأَلَهَا، فَقَالَتْ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا اسْتَعَرْت مِنْهَا شَيْئًا، فَقَالَ: «اذْهَبُوا إلَى بَيْتِهَا تَجِدُوهُ تَحْتَ فِرَاشِهَا» . فَأَتَوْهُ وَأَخَذُوهُ، فَأَمَرَ بِهَا فَقُطِعَتْ. قَوْلُهُ: (فَقَطَعَ يَدَ الْمَخْزُومِيَّةِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُقْطَعُ جَاحِدُ الْعَارِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْقَطْعِ أَنْ يَكُونَ مِنْ حِرْزٍ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْقَطْعِ لِمَنْ جَحَدَ الْعَارِيَّةَ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ أَوْجَبَا الْقَطْعَ عَلَى السَّارِقِ، وَالْجَاحِدُ لِلْوَدِيعَةِ لَيْسَ بِسَارِقٍ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْجَحْدَ دَاخِلٌ فِي اسْمِ السَّرِقَةِ؛ وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ الْمَذْكُورَةِ قَدْ وَقَعَ مِنْهَا السَّرَقُ، فَذِكْرُ جَحْدِ الْعَارِيَّةِ لا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ كَانَ لَهُ فَقَطْ. وَلا يَخْفَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ لأَجْلِ ذَلِكَ الْجَحْدِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/397)


بَابُ الْقَطْعِ بِالإِقْرَارِ وَأَنَّهُ لا يُكْتَفَى فِيهِ بِالْمَرَّةِ 4089- عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بِلِصٍّ فَاعْتَرَفَ اعْتِرَافًا وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ الْمَتَاعُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أخَالُكَ سَرَقْتَ» ؟ قَالَ: بَلَى. مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اقْطَعُوهُ ثُمَّ جِيئُوا بِهِ» . قَالَ: فَقَطَعُوهُ ثُمَّ جَاءُوا بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قُلْ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ» . فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4090- وَكَذَلِكَ النَّسَائِيّ وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ: مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا. 4091- وَابْنُ مَاجَةْ وَذَكَرَ مَرَّةً ثَانِيَةً فِيهِ قَالَ: «مَا أخَالُكَ سَرَقْت» ؟ قَالَ: بَلَى. وَعَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لا يُقْطَعُ السَّارِقُ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ مَرَّتَيْنِ. حَكَاهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا وَاحْتَجَّ بِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «مَا أَخَالُكَ سَرَقْت» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا: أَيْ مَا أَظُنُّكَ سَرَقْت، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَلْقِينُ مَا يُسْقِطُ الْحَدَّ. قَوْلُهُ: (مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا) اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إنَّ الإِقْرَارَ بِالسَّرِقَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً لا يَكْفِي، وَيُجَابُ أَنَّهُ لا يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ الإِقْرَارِ مَرَّتَيْنِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لَهُ تَلْقِينُ الْمُسْقِطِ لِلْحَدِّ عَنْهُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الِاسْتِثْبَاتِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ حَسْمِ يَدِ السَّارِقِ إذَا قُطِعَتْ وَاسْتِحْبَابِ تَعْلِيقِهَا فِي عُنُقِهِ 4092- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بِسَارِقٍ قَدْ سَرَقَ شَمْلَةً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا قَدْ سَرَقَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أخَالَهُ سَرَقَ» . فَقَالَ السَّارِقُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: «اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ، ثُمَّ احْسِمُوهُ، ثُمَّ ائْتُونِي بِهِ» . فَقُطِعَ فَأُتِيَ بِهِ فَقَالَ: «تُبْ إلَى اللَّهِ» . قَالَ: قَدْ تُبْتُ إلَى اللَّهِ، فَقَالَ: «تَابَ اللَّهُ عَلَيْك» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ.

(2/398)


4093- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَيْرِيزٍ قَالَ: سَأَلْنَا فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ عَنْ تَعْلِيقِ الْيَدِ فِي عُنُقِ السَّارِقِ أَمِنَ السُّنَّةِ؟ ، قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِسَارِقٍ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُلِّقَتْ فِي عُنُقِهِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا أَحْمَدَ وَفِي إسْنَادِهِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: «ثُمَّ احْسِمُوهُ» ظَاهِرُهُ أَنَّ الْحَسْمَ وَاجِبٌ، أَيْ يُكْوَى مَحَلُّ الْقَطْعِ لِيَنْقَطِعَ الدَّمُ. قَالَ فِي الْبَحْرِ: وَثَمَنُ الدُّهْنِ وَأُجْرَةُ الْقَطْعِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ثُمَّ مِنْ مَالِ السَّارِقِ. قَوْلُهُ: (فَعُلِّقَتْ فِي عُنُقِهِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَعْلِيقِ يَدِ السَّارِقِ فِي عُنُقِهِ لأَنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ الزَّجْرِ مَا لا مَزِيدَ عَلَيْهِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي السَّارِقِ يُوهَبُ السَّرِقَةُ بَعْدَ وُجُوبِ الْقَطْعِ وَالشَّفْعِ فِيهِ 4094- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرُو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «تَعَافَوْا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد. 4095- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إلا الْحُدُودَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ - رضي الله عنه - لَقِيَ رَجُلًا قَدْ أَخَذَ سَارِقًا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِهِ إلَى السُّلْطَانِ فَشَفَعَ لَهُ الزُّبَيْرُ لِيُرْسِلَهُ، فَقَالَ: لا، حَتَّى أَبْلُغَ بِهِ السُّلْطَانَ. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: إذَا بَلَغْت بِهِ السُّلْطَانَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفَّعَ. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ. 4096- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّتْهُمْ الْمَخْزُومِيَّةُ الَّتِي سَرَقَتْ. قَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إلا أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» . ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا ضَلَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَاَيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(2/399)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِي حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُعَافَاةِ فِي الْحُدُودِ قَبْلَ الرَّفْعِ إلَى الإِمَامِ لا بَعْدَهُ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ إقَالَةَ أَرْبَابِ الْهَيْئَاتِ إنْ وَقَعَتْ مِنْهُمْ الزَّلَّةُ نَادِرًا. قَالَ الشَّارِحُ: وَذَوِي الْهَيْئَاتِ الَّذِينَ يُقَالُونَ عَثَرَاتِهِمْ الَّذِينَ لَيْسُوا يُعْرَفُونَ بِالشَّرِّ فَيَزِلَّ أَحَدُهُمْ الزَّلَّةَ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «إلا الْحُدُودَ» أَيْ فَإِنَّهَا لا تُقَالُ بَلْ تُقَامُ عَلَى ذِي الْهَيْئَةِ وَغَيْرِهِ بَعْدَ الرَّفْعِ إلَى الإِمَامِ وَأَمَّا قَبْلَهُ فَيُسْتَحَبُّ السَّتْرُ مُطْلَقًا لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» . انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ تَفْسِيرِ الْحِرْزِ قَالَ: كُنْت نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ عَلَى خَمِيصَةٍ لِي فَسُرِقَتْ فَأَخَذْنَا السَّارِقَ فَرَفَعْنَاهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفِي خَمِيصَةٍ ثَمَنُ ثَلاثِينَ دِرْهَمًا؟ أَنَا أَهَبُهَا لَهُ أَوْ أَبِيعُهَا لَهُ قَالَ: «فَهَلا كَانَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ» ؟ فَقَطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. بَابٌ فِي حَدِّ الْقَطْعِ وَغَيْرِهِ هَلْ يُسْتَوْفَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَمْ لا؟ 4097- عَنْ بُسْرِ بْنِ أَرْطَاةَ: أَنَّهُ وَجَدَ رَجُلًا يَسْرِقُ فِي الْغَزْوِ فَجَلَدَهُ وَلَمْ يَقْطَعْ يَدَهُ وَقَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْقَطْعِ فِي الْغَزْوِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْهُ الْمَرْفُوعُ. 4098- وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «جَاهِدُوا النَّاسَ فِي اللَّهِ، الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ، وَلا تُبَالُوا فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ، وَأَقِيمُوا حُدُودَ اللَّهِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ» . رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَحَدِيثُ عُبَادَةَ يَشْهَدُ لِصِحَّتِهِ عُمُومَاتُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِطْلاقَاتُهُمَا لِعَدَمِ الْفَرْقِ فِيهَا بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ وَالْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ، وَلا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ لأَنَّ حَدِيثَ بُسْرٍ أَخَصُّ مُطْلَقًا مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ، فَيُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ، وَبَيَانُهُ أَنَّ السَّفَرَ الْمَذْكُورَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ أَعَمُّ مُطْلَقًا مِنْ الْغَزْوِ، وَأَيْضًا حَدِيثُ بُسْرٍ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ، وَحَدِيثُ عُبَادَةَ فِي عُمُومِ الْحَدِّ. انْتَهَى.

(2/400)


 كِتَابُ حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ

4099- عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجُلِدَ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ، ... قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4100- وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ضَرَبَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - أَرْبَعِينَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4101- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: جِيءَ بِالنُّعْمَانِ أَوْ ابْنِ النُّعْمَانِ شَارِبًا فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ أَنْ يَضْرِبُوهُ فَكُنْت فِيمَنْ ضَرَبَهُ فَضَرَبْنَاهُ بِالنِّعَالِ وَالْجَرِيدِ. 4102- وَعَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنَّا نُؤْتَى بِالشَّارِبِ فِي عَهْدِ ... رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَفِي إمْرَةِ أَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنه - وَصَدْرًا مِنْ إمْرَةِ عُمَرَ فَنَقُومُ إلَيْهِ فَنَضْرِبُهُ بِأَيْدِينَا وَنِعَالِنَا، وَأَرْدِيَتِنَا، حَتَّى كَانَ صَدْرًا مِنْ إمْرَةِ عُمَرَ فَجَلَدَ فِيهَا أَرْبَعِينَ، حَتَّى إذَا عَتَوْا فِيهَا وَفَسَقُوا جَلَدَ ثَمَانِينَ. رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 4103- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ، فَقَالَ: ... «اضْرِبُوهُ» . فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ، وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَخْزَاكَ اللهُ. قَالَ: «لا تَقُولُوا هَكَذَا لا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد.

(2/401)


4104- وَعَنْ حُصَيْنِ بْنِ الْمُنْذِرِ قَالَ: شَهِدْت عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أُتِيَ بِالْوَلِيدِ قَدْ صَلَّى الصُّبْحَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: أَزِيدُكُمْ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلانِ أَحَدُهُمَا حُمْرَانُ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّؤهَا، فَقَالَ عُثْمَانُ: إنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْ حَتَّى شَرِبَهَا، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ قُمْ فَاجْلِدْهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: قُمْ يَا حَسَنُ فَاجْلِدْهُ، فَقَالَ الْحَسَنُ: وَلِّ حَارَّهَا مَنْ تَوَلَّى قَارَّهَا، فَكَأَنَّهُ وَجَدَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا ... عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قُمْ فَاجْلِدْهُ، فَجَلَدَهُ وَعَلِيٌّ يَعُدُّ حَتَّى بَلَغَ أَرْبَعِينَ فَقَالَ: أَمْسِكْ، ثُمَّ قَالَ: جَلَدَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَرْبَعِينَ وَأَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ وَعُمَرُ ثَمَانِينَ وَكُلٌّ سُنَّةٌ وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ أَنَّ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ وَأَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى شَيْئَيْنِ إذَا آلَ مَعْنَاهُمَا إلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ جُمَعًا جَائِزَةٌ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْبَيْعِ وَالإِقْرَارِ بِهِ، أَوْ عَلَى الْقَتْلِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَا كُنْت لِأُقِيمَ حَدًّا عَلَى أَحَدٍ فَيَمُوتَ وَأَجِدَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْئًا إلَّا صَاحِبَ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ وَدَيْتُهُ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَسُنَّهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهُوَ لِأَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَةْ وَقَالا فِيهِ: لَمْ يَسُنَّ فِيهِ شَيْئًا إنَّمَا قُلْنَاهُ نَحْنُ. قُلْت: وَمَعْنَى قوله: لَمْ يَسُنَّهُ يَعْنِي لَمْ يُقَدِّرْهُ وَيُوَقِّتْهُ بِلَفْظِهِ وَنُطْقِهِ. 4105- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: جُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْخَمْرِ بِنَعْلَيْنِ أَرْبَعِينَ، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عُمَرَ جَعَلَ بَدَلَ كُلِّ نَعْلٍ سَوْطًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ بْنِ الْخِيَارِ: أَنَّهُ قَالَ لِعُثْمَانَ: قَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي الْوَلِيدِ، فَقَالَ: سَنَأْخُذُ مِنْهُ بِالْحَقِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ دَعَا عَلِيًّا فَأَمَرَهُ أَنْ يَجْلِدَهُ، فَجَلَدَهُ ثَمَانِينَ. مُخْتَصَر مِنْ الْبُخَارِيِّ. وَفِي رِوَايَةٍ لهُ: أَرْبَعِينَ. وَيَتَوَجَّهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمَا رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ - مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ - أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَلَدَ الْوَلِيدَ بِسَوْطٍ لَهُ طَرَفَانِ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ. 4106- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِرَجُلٍ نَشْوَانَ، فَقَالَ:

(2/402)


إنِّي لَمْ أَشْرَبْ خَمْرًا، إنَّمَا شَرِبْت زَبِيبًا وَتَمْرًا فِي دُبَّاءَةٍ، قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ فَنُهِزَ بِالْأَيْدِي وَخُفِقَ بِالنِّعَالِ، وَنَهَى عَنْ الدُّبَّاءِ، وَنَهَى عَنْ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ، يَعْنِي أَنْ يُخْلَطَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَعَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ: أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: إنِّي وَجَدْت مِنْ فُلَانٍ رِيحَ شَرَابٍ، فَزَعَمَ أَنَّهُ شَرِبَ الطِّلاءَ، وَإِنِّي سَائِلٌ عَمَّا شَرِبَ، فَإِنْ كَانَ مُسْكِرًا جَلَدْتُهُ، فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ تَامًّا. رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - وَكَرَّمَ اللهُ وَجْهه فِي شُرْبِ الْخَمْرِ قَالَ: إنَّهُ إذَا شَرِبَ سَكِرَ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَعَلَى الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ جَلْدَةً. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَمَالِكٌ بِمَعْنَاهُ. وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِّ الْعَبْدِ فِي الْخَمْرِ فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عَلَيْهِ نِصْفَ حَدِّ الْحُرِّ فِي الْخَمْرِ وَأَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ جَلَدُوا عَبِيدَهُمْ نِصْفَ الْحَدِّ فِي الْخَمْرِ. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَدِّ الشُّرْبِ، وَقَالَ فِي الْبَحْرِ: وَلَا يَنْقُصُ عَنْ الْأَرْبَعِينَ إجْمَاعًا قَالَ الشَّارِح: وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الِاقْتِصَارُ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ بَلْ جَلَدَ تَارَةً بِالْجَرِيدِ وَتَارَةً بِالنِّعَالِ وَتَارَةً بِهِمَا فَقَطْ وَتَارَةً بِهِمَا مَعَ الثِّيَابِ وَتَارَةً بِالأَيْدِي وَالنِّعَالِ. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَالصَحِيحٌ فِي حَدِّ الْخَمْر إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ الْمُوَافَقَةِ لمذَهَبَ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ الزِّيَادَةِ عَلَى الأَرْبَعِينَ إلَى الثَمَانِينَ لَيْسَتْ وَاجِبَةٌ عَلَى الإِطْلَاقِ. بَلْ يَرْجِعُ فِيهَا إلَى اجْتِهَادَ الْإِمَامِ كَمَا جوزنا لَهُ الاجْتِهَادِ فِي صفة الضَّرْبِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَأَطْرَافُ وَالثِّيَاب. بِخِلافِ بَقِيَّةٌ الْحُدُودِ. انْتَهَى. قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ وَدَيْتُهُ) فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا مَاتَ رَجُلٌ بِحَدٍّ مِنْ الْحُدُودِ لَمْ يَلْزَمْ الإِمَامُ وَلا نَائِبُهُ الأَرْشَ وَلا الْقِصَاصَ إلا حَدَّ الشُّرْبِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ إلى أن قَالَ: وَأَمَّا مَنْ مَاتَ بِتَعْزِيرٍ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ يَضْمَنُهُ الْإِمَامُ.

(2/403)


قَوْلُهُ: (بَلَغَنِي أَنَّ عَلَيْهِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ) قَدْ ذَهَبَ إلَى التَّنْصِيفِ لِلْعَبْدِ فِي حَدِّ الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَالشُّرْبِ الْأَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. بَابُ مَا وَرَدَ فِي قَتْلِ الشَّارِبِ فِي الرَّابِعَةِ وَبَيَانِ نَسْخِهِ 4107- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْتُلُوهُ» . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ائْتُونِي بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الرَّابِعَةِ فَلَكُمْ عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4108- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّ نبِيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا شَرِبُوا الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُمْ، ثُمَّ إذَا شَرِبُوا فَاجْلِدُوهُمْ، ثُمَّ إذَا شَرِبُوا الرَّابِعَةَ فَاقْتُلُوهُمْ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إنَّمَا كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الأَمْرِ ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ، هَكَذَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ. 4109- عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ الرَّابِعَةَ فَاقْتُلُوهُ» . قَالَ ثُمَّ أُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فِي الرَّابِعَةِ فَضَرَبَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ. 4110- وَعَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ» . فَأُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فَجَلَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فَجَلَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فَجَلَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فَجَلَدَهُ وَرَفَعَ الْقَتْلَ وَكَانَتْ رُخْصَةً. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ بِمَعْنَاهُ. 4111- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنْ سَكِرَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إنْ سَكِرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فِي الرَّابِعَةِ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ. 4112- وَزَادَ أَحْمَدُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِسَكْرَانَ فِي الرَّابِعَةِ فَخَلَّى سَبِيلَهُ.

(2/404)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ يُقْتَلُ الشَّارِبُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ أَوْ لا؟ فَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ إلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ لا يُقْتَلُ الشَّارِبُ وَأَنَّ الْقَتْلَ مَنْسُوخٌ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: فَمَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ فِعْل الْفَسَادَ وَلَمْ يَرْتَدِعِ الْحُدُودَ الْمُقَدَّرَةُ بَلْ اسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ الْفَسَادَ فَهُوَ كالصائل لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِالْقَتْلِ فَيُقْتَلُ قِيلَ: وَيُمْكِنُ أن يَخْرُجُ شَارِبِ الْخَمْرِ فِي الرَّابِعَةِ عَلَى هَذَا. انْتَهَى. بَابُ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ سُكْرٌ أَوْ رِيحُ خَمْرٍ وَلَمْ يَعْتَرِفْ 4113- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَقِتْ فِي الْخَمْرِ حَدًّا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَرِبَ رَجُلٌ فَسَكِرَ، فَلُقِيَ يَمِيلُ فِي الْفَجِّ، فَانْطُلِقَ بِهِ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا حَاذَى بِدَارِ الْعَبَّاسِ انْفَلَتَ فَدَخَلَ عَلَى الْعَبَّاسِ فَالْتَزَمَهُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَضَحِكَ وَقَالَ: «أَفَعَلَهَا» ؟ وَلَمْ يَأْمُرْ فِيهِ بِشَيْءٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ: هَذَا مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ. 4114- وَعَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: كُنْت بِحِمْصَ، فَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ سُورَةَ يُوسُفَ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَاَللَّهِ لَقَرَأْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «أَحْسَنْت» . فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إذْ وَجَدَ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ، فَقَالَ: أَتَشْرَبُ الْخَمْرَ وَتُكَذِّبُ بِالْكِتَابِ؟ فَضَرَبَهُ الْحَدَّ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَوْلُهُ: (لَمْ يَقِتْ) مِنْ التَّوْقِيتِ أَيْ لَمْ يُقَدِّرْهُ بِقَدْرٍ وَلَا حَدَّهُ بِحَدٍّ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ: إنَّ حَدَّ السُّكْرِ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَإِنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْزِيرٌ فَقَطْ. وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الإِجْمَاعُ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى وُجُوبِهِ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَدْ قِيلَ: إنَّهُ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُشْرَعَ الْجَلْدُ ثُمَّ شُرِعَ الْجَلْدُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّمَا لَمْ يُقِمْ الْحَدَّ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ لِكَوْنِهِ لَمْ يُقِرَّ لَدَيْهِ وَلَا قَامَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الشَّهَادَةُ عِنْدُهُ، وَعَلَى هَذَا بَوَّبَ الْمُصَنِّفُ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَجِبُ عَلَى الإِمَامِ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ عَلَى شَخْصٍ بِمُجَرَّدِ إخْبَارِ النَّاسِ لَهُ أَنَّهُ فَعَلَ مَا يُوجِبُهُ، وَلا يَلْزَمُهُ الْبَحْثُ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ السَّتْرِ وَأَوْلَوِيَّةِ مَا يَدْرَأُ الْحَدَّ عَلَى مَا يُوجِبُهُ.

(2/405)


وَأَثَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ لِمَنْ يُجَوِّزُ لِلإِمَامِ وَالْحَاكِمِ وَمَنْ صَلُحَ أَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ إذَا عَلِمَ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْ فَاعِلِ مَا يُوجِبُهَا إقْرَارٌ وَلَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِهِ. إلى أن قَالَ: وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَوْ رَأَيْت رَجُلاً عَلَى حَدٍّ؟ فَقَالَ: أَرَى شَهَادَتَكَ شَهَادَةَ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: أَصَبْت وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: «لَوْ كُنْت رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتهَا» . انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَا جَاءَ فِي قَدْرِ التَّعْزِيرِ وَالْحَبْسِ فِي التُّهَمِ 4115- عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ: أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا النَّسَائِيّ. 4116- وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ ثُمَّ خَلَّى عَنْهُ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَةْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «إلَّا فِي حَدٍّ» الْمُرَادُ بِهِ مَا وَرَدَ عَنْ الشَّارِعِ مُقَدَّرًا بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ كَحَدِّ الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَنَحْوِهِمَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَدِّ هُنَا عُقُوبَةُ الْمَعْصِيَةِ مُطْلَقًا. وَقَدْ ذَهَبَ إلَى الْعَمَلِ بِحَدِيثِ الْبَابِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، وَلِكنْ لَا يَبْلُغُ إلَى أَدْنَى الْحُدُودِ. وَقَال بَعْضُهُمْ َ يَكُونُ فِي كُلِّ مُوجِبٍ لِلتَّعْزِيرِ دُونَ حَدِّ جِنْسِهِ، وَالْحَقُّ الْعَمَلُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: (فِي تُهْمَةٍ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَبْسَ كَمَا يَكُونُ حَبْسَ عُقُوبَةٍ يَكُونُ حَبْسَ اسْتِظْهَارٍ. بَابُ الْمُحَارِبِينَ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ 4117- عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَاسًا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَتَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ فَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِذَوْدٍ وَرَاعٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فَلْيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إذَا كَانُوا بِنَاحِيَةِ الْحَرَّةِ كَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ وَقَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ،

(2/406)


فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَسَمَرُوا أَعْيُنَهُمْ وَقَطَّعُوا أَيْدِيَهُمْ وَتُرِكُوا فِي نَاحِيَةِ الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا عَلَى حَالِهِمْ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 4118- وَزَادَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ يَحُثُّ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَيَنْهَى عَنْ الْمُثْلَةِ. 4119- وَفِي رِوَايَةٍ لأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُد، قَالَ قَتَادَةُ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ سِيرِينَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ. 4120- وَلِلْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُد فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَأَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَأُحْمِيَتْ فَكَحَلَهُمْ وَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَمَا حَسَمَهُمْ، ثُمَّ أُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَمَا سُقُوا حَتَّى مَاتُوا. 4121- وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ: فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ وَصَلَبَهُمْ. 4122- وَعَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: إنَّمَا سَمَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَعْيُنَ أُولَئِكَ لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرُّعَاةِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ. 4123- وَعَنْ أَبِي الزِّنَادِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا قَطَعَ الَّذِينَ سَرَقُوا لِقَاحَهُ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ بِالنَّارِ عَاتَبَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} الْآيَةَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ: إذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَصُلِبُوا، وَإِذَا قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَلَمْ يُصْلَبُوا، وَإِذَا أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ وَإِذَا أَخَافُوا السَّبِيلَ وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا نُفُوا مِنْ الْأَرْضِ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (لأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرُّعَاةِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ اقْتِصَاصًا. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَالْمُحَاربونَ حُكْمَهُمْ فِي الْمِصْرِ وَالصَّحَرَاءِ وَاحِدٌ،

(2/407)


وَهُو قَوْلِ َمَالِكٍ فِي الْمَشْهُورُ عَنْهُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابُنَا، قَالَ الْقَاضِي: الْمَذْهَب عَلَى مَا قَالَ أَبُو بَكْرِ فِي عَدَمَ التَّفْرِقَةِ وَنَصُّ فِي الْخِلافِ بِأَنَّهُمْ فِي البنيان أَحَقَّ بالْعُقُوبَةُ والردء كالْمُبَاشَرَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَكَذَا فِي السَّرِقَةِ وَالْمَرْأَةِ التي تَحْضُرَ النِّسَاءِ لِلْقَتْلِ تَقْتُلْ. انْتَهَى. بَابُ قِتَالِ الْخَوَارِجِ وَأَهْلِ الْبَغْيِ 4124-عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ حِدَاثُ الأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ، لا يُجَاوِزُ إيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4125- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ كَانَ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَلِيٍّ الَّذِينَ سَارُوا إلَى الْخَوَارِجِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَيّهَا النَّاسُ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلا صَلاتُكُمْ إلَى صَلاتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلا صِيَامُكُمْ إلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ، لا تُجَاوِزُ صَلاتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الإِسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا قَضَى لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ - صلى الله عليه وسلم - لَنَكَلُوا عَنْ الْعَمَلِ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا لَهُ عَضُدٌ لَيْسَ لَهُ ذِرَاعٌ، عَلَى عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ، عَلَيْهِ شُعَيْرَاتٌ بِيضٌ قَالَ: فَتَذْهَبُونَ إلَى مُعَاوِيَةَ وَأَهْلِ الشَّامِ، وَتَتْرُكُونَ هَؤُلَاءِ يَخْلُفُونَكُمْ فِي ذَرَارِيِّكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونُوا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ فَإِنَّهُمْ قَدْ سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ وَأَغَارُوا فِي سَرْحِ النَّاسِ فَسِيرُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ» . قَالَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ: فَنَزَّلَنِي زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ مَنْزِلًا مَنْزِلًا حَتَّى قَالَ: مَرَرْنَا عَلَى قَنْطَرَةٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا وَعَلَى الْخَوَارِجِ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ الرَّاسِبِيُّ فَقَالَ لَهُمْ: «أَلْقُوا الرِّمَاحَ وَسُلُّوا سُيُوفَكُمْ مِنْ جُفُونِهَا، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُنَاشِدُوكُمْ كَمَا نَاشَدُوكُمْ يَوْمَ حَرُورَاءَ» . فَرَجَعُوا فَوَحَشُوا بِرِمَاحِهِمْ وَسَلُّوا السُّيُوفَ وَشَجَرَهُمْ النَّاسُ بِرِمَاحِهِمْ قَالَ: وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَمَا

(2/408)


أُصِيبَ مِنْ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ إلَّا رَجُلَانِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: الْتَمِسُوا فِيهِمْ الْمُخْدَجَ، فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَقَامَ عَلِيٌّ بِنَفْسِهِ حَتَّى أَتَى نَاسًا قَدْ قُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، قَالَ: أَخِّرُوهُمْ فَوَجَدُوهُ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ فَكَبَّرَ، ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَبَلَّغَ رَسُولُهُ، قَالَ: فَقَامَ إلَيْهِ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَسَمِعْت هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: إي وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ حَتَّى اسْتَحْلَفَهُ ثَلَاثًا وَهُوَ يَحْلِفُ لَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4126- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا، أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ، فَقَالَ: «وَيْلَك فَمَنْ يَعْدِلُ إذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ قَدْ خِبْت وَخَسِرْت إنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ» . فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَأْذَنُ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ: ... «دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، يَنْظُرُ إلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى رِصَافِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى نَضِيِّهِ - وَهُوَ قِدْحُهُ - فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ» . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْت هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْت إلَيْهِ عَلَى نَعْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي نَعَتَهُ. 4127- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: بَعَثَ عَلِيٌّ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِذُهَيْبَةٍ فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةٍ: الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيُّ ثُمَّ الْمُجَاشِعِيُّ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ الْفَزَارِيّ، وَزَيْدٌ الطَّائِيُّ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي نَبْهَانَ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلاثَةَ الْعَامِرِيُّ ثُمَّ أَحَدُ بَنِي كِلَابٍ فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ، قَالُوا: يُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا؟ فَقَالَ: «إنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ» . فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ نَاتِئُ الْجَبِينِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقٌ، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: «مَنْ يُطِعْ اللَّهَ إذَا عَصَيْتُ؟ أَيَأْمَنُنِي الله عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَلَا تَأْمَنُونِي» ؟ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ

(2/409)


قَتْلَهُ - أَحْسَبُهُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ - فَمَنَعَهُ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ: «إنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا - أَوْ فِي عَقِبِ هَذَا - قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتهمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ تَعْزِيرٌ لِحَقِّ اللَّهِ جَازَ لِلْإِمَامِ تَرْكُهُ، وَأَنَّ قَوْمًا لَوْ أَظْهَرُوا رَأْيَ الْخَوَارِجِ لَمْ يَحِلَّ قَتْلُهُمْ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَحِلُّ إذَا كَثُرُوا وَامْتَنَعُوا بِالسِّلَاحِ وَاسْتَعْرَضُوا النَّاسَ. 4128- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تَكُونُ أُمَّتِي فِرْقَتَيْنِ، فَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ يَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَاهُمَا بِالْحَقِّ» . 4129- وَفِي لَفْظٍ: «تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: صَرَخَ صَارِخٌ لِعَلِيٍّ يَوْمَ الْجَمَلِ: لا يُقْتَلَنَّ مُدْبِرٌ، وَلا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلاحَ فَهُوَ آمِنٌ. رَوَاهُ سَعِيدُ. وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: هَاجَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَوَافِرُونَ، فَأَجْمَعُوا أَنْ لا يُقَادَ أَحَدٌ، وَلا يُؤْخَذَ مَالٌ عَلَى تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ إلا مَا وُجِدَ بِعَيْنِهِ. ذَكَرَهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَاحْتَجَّ بِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِي أَحَادِيثِ الْبَابِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّة الْكَفِّ عَنْ قُتِلَ مَنْ يُعْقَدُ الْخُرُوجِ عَلَى الإِمَامُ مَا لَم يُنْصَبُ لِذَلِكَ حربًا أوَ يستعد لُهُ وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَكْفِيرِ الْخَوَارِجِ. قَالَ الْخَطَّابِيِّ: أَجْمَعَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْخَوَارِجَ - مَعَ ضلالتهم - فُرْقَةٍ مِنْ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَجَازُوا مناكحاتهم وَأَكَلَ ذَبَائِحِهِمْ وَأَنَّهُمْ لا يُكَفِّرُونَ مَا دَامُوا متمسكين بِأَصْلِ الإِسْلامِ. قَوْلُهُ: (وَلا يُؤْخَذُ مَالٌ عَلَى تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ إلَّا مَا وُجِدَ بِعَيْنِهِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ أَخْذُ أَمْوَالِ الْبُغَاةِ إلَّا مَا كَانَ مِنْهَا مَوْجُودًا عِنْدَ الْقِتَالِ.

(2/410)


بَابُ الصَّبْرِ عَلَى جَوْرِ الأَئِمَّةِ وَتَرْكِ قِتَالِهِمْ وَالْكَفِّ عَنْ إقَامَةِ السَّيْفِ 4130- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ» . 4131- وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ خَرَجَ مِنْ السُّلْطَانِ شِبْرًا فَمَاتَ عَلَيْهِ إلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» . 4132- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي وَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَتكْثر» . قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ، ثُمَّ أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ. 4133- وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ» . قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلاةَ إلا مَنْ وُلِّيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ» . 4134- وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لا يَهْتَدُونَ بِهَدْيِي، وَلا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيكُمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إنْسٍ» . قَالَ: قُلْت: كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَدْرَكْت ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَسْمَعُ وَتُطِيعُ، وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُك وَأُخِذَ مَالُك فَاسْمَعْ وَأَطِعْ» . 4135- وَعَنْ عَرْفَجَةَ الأَشْجَعِيِّ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ» . رَوَاهُنَّ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4136- وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: بَايَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى

(2/411)


السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ إلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ فِيهِ مِنْ اللَّهِ بُرْهَانٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4137- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ كَيْفَ بِك عِنْدَ وُلاةٍ يَسْتَأْثِرُونَ عَلَيْك بِهَذَا الْفَيْءِ» ؟ ، قَالَ: «وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ أَضَعُ سَيْفِي عَلَى عَاتِقِي وَأَضْرِبُ حَتَّى أَلْحَقك. قَالَ: «أَفَلا أَدُلُّك عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَك مِنْ ذَلِكَ؟ تَصْبِرُ حَتَّى تَلْحَقَنِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا» كِنَايَةً عَنْ مَعْصِيَةِ السُّلْطَانِ وَمُحَارِبَتِهِ. قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: الْمُرَادُ بِالْمُفَارَقَةِ السَّعْيُ فِي حَلِّ عَقْدِ الْبَيْعَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لِذَلِكَ الأَمِيرِ وَلَوْ بِأَدْنَى شَيْءٍ، فَكَنَّى عَنْهَا بِمِقْدَارِ الشِّبْرِ لأَنَّ الأَخْذَ فِي ذَلِكَ يَئُولُ إلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقٍّ. قَوْلُهُ: «لا، مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلاةَ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ مُنَابَذَةُ الْأَئِمَّةِ بِالسَّيْفِ مَا كَانُوا مُقِيمِينَ لِلصَّلاةِ، وَيَدُلُّ ذَلِكَ بِمَفْهُومِهِ عَلَى جَوَازِ الْمُنَابَذَةِ عِنْدَ تَرْكِهِمْ لِلصَّلاةِ. وَحَدِيثُ عُبَادَةَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجُوزُ الْمُنَابَذَةُ إلَّا عِنْدَ ظُهُورِ الْكُفْرِ الْبَوَاحِ. قَوْلُهُ: «عِنْدَكُمْ فِيهِ مِنْ اللَّهِ بُرْهَانٌ» أَيْ نَصُّ آيَةٍ أَوْ خَبَرٌ صَرِيحٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِمْ مَا دَامَ فِعْلُهُمْ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ السُّلْطَانِ الْمُتَغَلِّبِ وَالْجِهَادِ مَعَهُ، وَأَنَّ طَاعَتَهُ خَيْرٌ مِنْ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَقْنِ الدِّمَاءِ وَتَسْكِينِ الدَّهْمَاءِ، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا مِنْ ذَلِكَ إلا إذَا وَقَعَ مِنْ السُّلْطَانِ الْكُفْرُ الصَّرِيحُ فَلَا تَجُوزُ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ بَلْ تَجِبُ مُجَاهَدَتُهُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي حَدِّ السَّاحِرِ وَذَمِّ السِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ 4138- عَنْ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَضَعَّفَ التِّرْمِذِيُّ إسْنَادَهُ، وَقَالَ: الصَّحِيحُ عَنْ جُنْدُبٍ مَوْقُوفٌ.

(2/412)


وعَنْ بَجَالَةَ بْنِ عَبْدَةَ قَالَ: كُنْت كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ فَأَتَانا كِتَابُ عُمَرَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ: أَنْ اُقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْمَجُوسِ وَانْهَوْهُمْ عَنْ الزَّمْزَمَةِ، فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ، وَجَعَلْنَا نُفَرِّقُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَحَرِيمِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْهُ: التَّفْرِيقُ بَيْنَ ذَوِي الْمَحَارِمِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ حَفْصَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَتَلَتْ جَارِيَةً لَهَا سَحَرَتْهَا وَكَانَتْ قَدْ دَبَّرَتْهَا فَأَمَرَتْ بِهَا فَقُتِلَتْ. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ عَنْهُ. 4139- وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ سُئِلَ: أَعَلَى مَنْ سَحَرَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ قَتْلٌ؟ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ صُنِعَ لَهُ ذَلِكَ فَلَمْ يَقْتُلْ مَنْ صَنَعَهُ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. 4140- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُحِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى إنَّهُ لَيُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ، حَتَّى إذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ - وَهُوَ عِنْدِي - دَعَا اللَّهَ وَدَعَا ثُمَّ قَالَ: «أَشْعَرْت يَا عَائِشَةُ إنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْته» . قُلْت: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «جَاءَ رَجُلانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ. قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ الْيَهُودِيُّ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ، قَالَ: فَبِمَاذَا؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، وَجُفِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ، قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ» . فَذَهَبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إلَى الْبِئْرِ فَنَظَرَ إلَيْهَا وَعَلَيْهَا نَخْلٌ ثُمَّ رَجَعَ إلَى عَائِشَةَ، فَقَالَ: «وَاَللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ، وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ» . قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَأَخْرَجْته؟ قَالَ: «لَا أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِي اللَّهُ وَشَفَانِي، وَخَشِيت أَنْ أَثُورَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُ شَرًّا فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4141- وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: قَالَتْ: فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أَخْرَجْته؟ قَالَ: «لا» . 4142- وَعَنْ أَبِي مُوسَى: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: قَالَ «ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ:

(2/413)


مُدْمِنُ خَمْرٍ، وَقَاطِعُ رَحِمٍ، وَمُصَدِّقٌ بِالسِّحْرِ» . 4143- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. 4144- وَعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4145- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَاسٌ عَنْ الْكِهَانَةِ فَقَالَ: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ» . فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا بِشَيْءٍ فَيَكُونُ حَقًّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ يَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ لأَبِي بَكْرٍ غُلامٌ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: تَدْرِي مِمَّا هَذَا؟ ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْت تَكَهَّنْت لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ إلَّا أَنِّي خَدَعْته، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَإِذَا الَّذِي أَكَلْت مِنْهُ، فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. 4146- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنْ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. 4147- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيُّ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ فَإِنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ، قَالَ: «فَلَا تَأْتِهِمْ» . قَالَ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَطَّيَّرُونَ؟ قَالَ: «ذَلِكَ شَيْءٍ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ فَلَا يَصُدَّنكُمْ» . قَالَ: قُلْت: وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ، قَالَ: «كَانَ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ، فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. قَوْلُهُ: «حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا

(2/414)


عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّمَا يُقْتَلُ السَّاحِرُ إذَا كَانَ يَعْمَلُ فِي سِحْرِهِ مَا يَبْلُغُ الْكُفْرَ، فَإِذَا عَمِلَ عَمَلًا دُونَ الْكُفْرِ فَلَمْ نَرَ عَلَيْهِ قَتْلًا. انْتَهَى. قَوْلُهُ: (عَنْ الزَّمْزَمَةِ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الزَّمْزَمَةُ: الصَّوْتُ الْبَعِيدُ لَهُ دَوِيٌّ، وَتَتَابُعُ وَتَرَاطُنُ الْعُلُوجِ عَلَى أَكْلِهِمْ وَهُمْ صُمُوتٌ لا يَسْتَعْمِلُونَ لِسَانًا وَلَا شَفَةً، لَكِنَّهُ صَوْتٌ تُدِيرُهُ فِي خَيَاشِيمِهَا وَحُلُوقِهَا فَيَفْهَمُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ. قَوْلُهُ: (حَتَّى إنَّهُ لَيُخَيَّلُ إلَيْهِ) إلَى آخْره: قَالَ الإِمَامُ الْمَازِرِيُّ: مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَجُمْهُورِ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ: إثْبَاتُ السِّحْرِ وَأَنَّ لَهُ حَقِيقَةً كَحَقِيقَةِ غَيْرِهِ مِنْ الأَشْيَاءِ خِلافًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: (دَعَا اللَّهَ وَدَعَا) فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ عِنْدَ حُصُولِ الأَمْرِ الْمَكْرُوهِ وَتَكْرِيرِهِ وَحُسْنِ الِالْتِجَاءِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. قَوْلُهُ: (أَفَأَخْرَجْته) وَفِي رِوَايَةٍ: (أَفَلَا أَحْرَقْته) قَالَ النَّوَوِيُّ: كِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَالَ: طَلَبَتْ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُخْرِجَهُ ثُمَّ يُحَرِّقَهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَافَاهُ وَأَنَّهُ يَخَافُ مِنْ إِخْرَاجِهِ وَإحْرَاقِهِ وَإِشَاعَةِ هَذَا ضَرَرًا وَشَرًّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إلى أن قَالَ: وَهَذَا مِنْ بَابِ تَرْكِ مَصْلَحَةٍ لِخَوْفِ مَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ مِنْهَا. وَذَلِكَ مِنْ أَهَمِّ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ. قَوْلُهُ: «ثَّلَاثَة لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» قَالَ الشَّارِح: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَهُمْ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى مَعْصِيَةٍ صَرَّحَ الشَّارِعُ بِأَنَّ فَاعِلَهَا لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ كَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ، وَمَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُصَاةِ الْفَاعِلِينَ لِمَعْصِيَةٍ، وَرَدَ النَّصُّ بِأَنَّهَا مَانِعَةٌ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ فَيَكُونُ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْمَذْكُورُ وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْقَاضِيَةِ بِخُرُوجِ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ النَّارِ وَدُخُولِهِمْ الْجَنَّةَ. قَوْلُهُ: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا» قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: كَانَتْ الْكِهَانَةُ فِي الْعَرَبِ ثَلَاثَةَ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: يَكُونُ لِلْإِنْسَانِ وَلِيٌّ مِنْ الْجِنِّ يُخْبِرُهُ بِمَا يَسْتَرِقُهُ مِنْ السَّمْعِ مِنْ السَّمَاءِ، وَهَذَا الْقِسْمُ بَطَلَ مِنْ حِينَ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّنَا - صلى الله عليه وسلم -.

(2/415)


الثَّانِي: أَنْ يُخْبِرَهُ بِمَا يَطْرَأُ أَوْ يَكُونُ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَمَا خَفِيَ عَنْهُ مِمَّا قَرُبَ أَوْ بَعُدَ. الثَّالِثُ: الْمُنَجِّمُونَ، وَقَدْ أَكْذَبَهُمْ كُلَّهُمْ الشَّرْعُ وَنَهَى عَنْ تَصْدِيقِهِمْ وَإِتْيَانِهِمْ. قَوْلُهُ: «مَنْ اقْتَبَس عِلْمًا مِنْ النُّجُومِ َ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ» قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ: وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَا يَدَّعِيهِ أَهْلُ التَّنْجِيمِ مِنْ عِلْمِ الْحَوَادِثِ وَالْكَوَائِنِ الَّتِي لَمْ تَقَعْ وَسَتَقَعُ فِي مُسْتَقْبِلِ الزَّمَانِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُدْرِكُونَ مَعْرِفَتَهَا بِسَيْرِ الْكَوَاكِبِ فِي مَجَارِيهَا وَاجْتِمَاعِهَا وَافْتِرَاقِهَا، وَهَذَا تَعَاطٍ لِعِلْمٍ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ. قَالَ: وَأَمَّا عِلْمُ النُّجُومِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ الزَّوَالُ وَجِهَةُ الْقِبْلَةِ وَكَمْ مَضَى وَكَمْ بَقِيَ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ. وَمِنْ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ التَّحَدُّثُ بِمَجِيءِ الْمَطَرِ وَوُقُوعِ الثَّلْجِ وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ وَتَغَيُّرِ الأَسْعَارِ. انْتَهَى. قَوْلُهُ: «فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ» . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: فَذَاكَ الَّذِي تَجِدُونَ إصَابَتَهُ لا أَنَّهُ يُرِيدُ إبَاحَةَ ذَلِكَ لِفَاعِلِهِ. قَالَ الْخَطَّابِيِّ: هَذَا يَحْتَمِلُ الزَّجْرَ عَنْهُ إذْ كَانَ عَلَمًا لِنُبُوَّتِهِ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ فَنُهِينَا عَنْ التَّعَاطِي لِذَلِكَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. والله أعلم. بَابُ قَتْلِ مَنْ صَرَّحَ بِسَبِّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - دُونَ مَنْ عَرَّضَ 4148- عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه -: أَنَّ يَهُودِيَّةً كَانَتْ تَشْتُمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَتَقَعُ فِيهِ، فَخَنَقَهَا رَجُلٌ حَتَّى مَاتَتْ، فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذِمَّتَهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4149- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَتَقَعُ فِيهِ، فَيَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وَيَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ جَعَلَتْ تَقَعُ فِي النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَتَشْتُمُهُ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَوَضَعَهُ فِي بَطْنِهَا، وَاتَّكَأَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَمَعَ النَّاسَ فَقَالَ: «أَنْشُدُ اللهَ رَجُلاً فَعَلَ مَا فَعَلَ لِي عَلَيْهِ حَقٌّ إلَّا قَامَ» . فَقَامَ الْأَعْمَى يَتَخَطَّى النَّاسَ وَهُوَ يَتَدَلْدَلُ حَتَّى قَعَدَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا صَاحِبُهَا كَانَتْ تَشْتُمُك وَتَقَعُ فِيك، فَأَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وَأَزْجُرُهَا فَلا

(2/416)


تَنْزَجِرُ، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، وَكَانَتْ بِي رَفِيقَةً، فَلَمَّا كَانَ الْبَارِحَةُ جَعَلَتْ تَشْتُمُك وَتَقَعُ فِيك، فَأَخَذْت الْمِعْوَلَ فَوَضَعْته فِي بَطْنِهَا، وَاتَّكَأْت عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلْتهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنهِ عَبْدِ اللَّهِ. 4150- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَرَّ يَهُودِيٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: السَّامُّ عَلَيْك، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَعَلَيْك» . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالَ السَّامُّ عَلَيْك» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَقْتُلُهُ؟ قَالَ: «لَا، إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 4151- وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ ذَا الْخُوَيْصِرَةِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اعْدِلْ وَأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ قَتْلِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثِ الشَّعْبِيِّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ مَنْ شَتَمَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَرِيحًا وَجَبَ قَتْلُهُ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ سَبَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَمَّا أَهْلُ الْعَهْدِ وَالذِّمَّةِ كَالْيَهُودِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: يُقْتَلُ مَنْ سَبَّهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُمْ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَيُقْتَلُ بِغَيْرِ اسْتِتَابَةٍ. وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ اللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ مِثْلَهُ فِي حَقِّ الْيَهُودِي وَنَحْوِهِ. وَرُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكٍ فِي الْمُسْلِمِ أَنَّهَا رِدَّةٌ يُسْتَتَابُ مِنْهَا. وَعَنْ الْكُوفِيِّينَ إِنْ كَانَ ذِمِّيًّا عُزِّرَ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَهِيَ رِدَّةٌ. وَحَكَى عِيَاضٌ خِلَافًا هَلْ كَانَ تَرْكُ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ لِعَدَمِ التَّصْرِيحِ أَوْ لِمَصْلَحَةِ التَّأْلِيفِ. إلى أن قال: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ تَرْكَ قَتْلِ الْيَهُودِ إنَّمَا كَانَ لِمَصْلَحَةِ التَّأْلِيفِ أَوْ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يُعْلِنُوا بِهِ أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا وَهُوَ أَوْلَى كَمَا قَالَ الْحَافِظُ. انْتَهَى. والله أعلم.

(2/417)


أَبْوَابُ أَحْكَامِ الرِّدَّةِ وَالْإِسْلَامِ بَابُ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ 4152- عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ - رضي الله عنه - بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: لَوْ كُنْت أَنَا لَمْ أَحْرِقْهُمْ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ» . وَلَقَتَلْتهمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا. 4153- وَلَيْسَ لِابْنِ مَاجَةْ فِيهِ سِوَى: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» . 4154- وَفِي حَدِيثٍ لِأَبِي مُوسَى - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ: «اذْهَبْ إلَى الْيَمَنِ» ثُمَّ أَتْبَعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَلْقَى لَهُ وِسَادَةً وَقَالَ: انْزِلْ، وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ مُوثَقٌ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ، قَالَ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4155- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَنَّ «مَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ فَاقْتُلُوهُ» . 4156- وَلِأَبِي دَاوُد فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَأُتِيَ أَبُو مُوسَى بِرَجُلٍ قَدْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ، فَدَعَاهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، فَجَاءَه مُعَاذٌ فَدَعَاهُ فَأَبَى، فَضَرَبَ عُنُقَهُ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِي قَالَ: قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى فَسَأَلَهُ عَنْ النَّاسِ فَأَخْبَرَهُ، ثُمَّ قَالَ: هَلْ

(2/418)


مِنْ مُغْرِبَةِ خَبَرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، كَفَرَ رَجُلٌ بَعْدَ إسْلَامِهِ، قَالَ: فَمَا فَعَلْتُمْ بِهِ؟ قَالَ: قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: فهَلا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا وَاسْتَتَبْتُمُوهُ؛ لَعَلَّهُ يَتُوبُ وَيُرَاجِعُ أَمْرَ اللَّهِ! اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَحْضُرْ وَلَمْ أَرْضَ إذْ بَلَغَنِي. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَوْلُهُ: (بِزَنَادِقَةٍ) جَمْعُ زِنْدِيقٍ. قَالَ ثَعْلَبٌ: لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ زِنْدِيقٌ، وَإِنَّمَا يُقَالُ زندقي لِمَنْ يَكُونُ شَدِيدَ التحيلِ، وَإِذَا أَرَادُوا مَا تُرِيدُ الْعَامَّةُ قَالُوا: مُلْحِدٌ وَدَهْرِيٌّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الزِّنْدِيقُ: الَّذِي لَا يَنْتَحِلُ دِينًا. وَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ يُسْتَتَابُ الزِّنْدِيقُ كَمَا يُسْتَتَابُ غَيْرُهُ. وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ الزِّنْدِيقُ مِنْ غَيْرِ اسْتِتَابَةٍ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا - رضي الله عنه - اسْتَتَابَهُمْ كَمَا فِي الْفَتْحِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ الْعَامِرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قِيلَ لِعَلِيٍّ: إنَّ هُنَا قَوْمًا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يَزْعُمُونَ أَنَّك رَبُّهُمْ، فَدَعَاهُمْ فَقَالَ لَهُمْ: وَيْلَكُمْ مَا تَقُولُونَ؟ قَالُوا: أَنْتَ رَبُّنَا وَخَالِقُنَا وَرَازِقُنَا. قَالَ: وَيْلَكُمْ إنَّمَا أَنَا عَبْدٌ مِثْلُكُمْ آكُلُ الطَّعَامَ كَمَا تَأْكُلُونَ، وَأَشْرَبُ كَمَا تَشْرَبُونَ، إنْ أَطَعْت اللَّهَ أَثَابَنِي إنْ شَاءَ، وَإِنْ عَصَيْته خَشِيت أَنْ يُعَذِّبَنِي، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَارْجِعُوا، فَأَبَوْا، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ غَدَوْا عَلَيْهِ فَجَاءَ قَنْبَرٌ فَقَالَ: قَدْ وَاَللَّهِ رَجَعُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ الْكَلَامَ، فَقَالَ: أَدْخِلْهُمْ، فَقَالُوا كَذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ الثَّالِثُ قَالَ لَئِنْ قُلْتُمْ ذَلِكَ لَأَقْتُلَنَّكُمْ بِأَخْبَثِ قِتْلَةٍ، فَأَبَوْا إلَّا ذَلِكَ فَأَمَرَ عَلِيٌّ أَنْ يُخَدَّ لَهُمْ أُخْدُودٌ بَيْنَ بَابِ الْمَسْجِدِ وَالْقَصْرِ وَأَمَرَ بِالْحَطَبِ أَنْ يُطْرَحَ فِي الْأُخْدُودِ وَيُضْرَمَ بِالنَّارِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إنِّي طَارِحُكُمْ فِيهَا أَوْ تَرْجِعُوا، فَأَبَوْا أَنْ يَرْجِعُوا، فَقَذَفَ بِهِمْ حَتَّى إذَا احْتَرَقُوا قَالَ: إنِّي إذَا أُرِيت أَمْرًا مُنْكَرَا ... أَوْقَدْت نَارِي وَدَعَوْت قَنْبَرَا قَالَ الْحَافِظُ: إنَّ إسْنَادَ هَذَا صَحِيحٌ. وَزَعَمَ أَبُو مُظَفَّرٍ الأسْفَرايِينِيّ فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ أَنَّ الَّذِينَ أَحْرَقَهُمْ عَلِيٌّ - رضي الله عنه - طَائِفَةٌ مِنْ الرَّوَافِضِ ادَّعَوْا فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ وَهُمْ السَّبَئِيَّةُ وَكَانَ كَبِيرُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبَإٍ يَهُودِيًّا ثُمَّ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَابْتَدَعَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَعَنْ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا: لَا يُسْتَتَابُ، وَالْأُخْرَى: إنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ وَإِسْحَاقَ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ

(2/419)


وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ: إنْ كَانَ دَاعِيَةً لَمْ يُقْبَلْ وَإِلَّا قُبِلَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَالْمُرْتَدُّ مَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ تَعَالَى أَوْ كَانَ مُبْغِضًا لِلرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَلِمَا جَاءَ بِهِ، أَوْ تَرَكَ إِنْكَار مُنْكَرٍ بِقَلْبِهِ أَوْ تَوَهَّمَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ أَوْ تَابِعِيهِمْ قَاتَلَ مَعَ الْكُفَّارِ أَوْ أَجَازَ ذَلِكَ أَوْ أَنْكَرَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ إِجْمَاعًا قَطْعِيًا، أَوْ جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْن اللهِ وَسَائِطَ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِمْ وَيَدْعُوهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ، وَمَا مِنْ شَكٍّ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَمِثْلِهِ لا يَجْهَلُهُ فِي فَمُرْتَدٍّ. انْتَهَى. بَابُ مَا يَصِيرُ بِهِ الْكَافِرُ مُسْلِمًا 4157- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ابْتَعَثَ نَبِيَّهُ لِإِدْخَالِ رَجُلٍ الْجَنَّةَ فَدَخَلَ الْكَنِيسَةَ فَإِذَا هو بيَهُودُ، وَإِذَا يَهُودِيٌّ يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ التَّوْرَاةَ، فَلَمَّا أَتَوْا عَلَى صِفَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَمْسَكُوا وَفِي نَاحِيَتِهَا رَجُلٌ مَرِيضٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا لَكُمْ أَمْسَكْتُمْ» ؟ فَقَالَ الْمَرِيضُ: إنَّهُمْ أَتَوْا عَلَى صِفَةِ نَبِيٍّ فَأَمْسَكُوا، ثُمَّ جَاءَ الْمَرِيضُ يَحْبُو حَتَّى أَخَذَ التَّوْرَاةَ فَقَرَأَ حَتَّى أَتَى عَلَى صِفَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأُمَّتِهِ، فَقَالَ: هَذِهِ صِفَتُك وَصِفَةُ أُمَّتِك، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّك رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِأَصْحَابِهِ: «لُوا أَخَاكُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4158- وَعَنْ أَبِي صَخْرٍ الْعُقَيْلِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ الْأَعْرَابِ قَالَ: جَلَبْت جَلُوبَةً إلَى الْمَدِينَةِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا فَرَغْت مِنْ بَيْعَتِي قُلْت: لَأَلْقَيَنَّ هَذَا الرَّجُلَ وَلَأَسْمَعَنَّ مِنْهُ، قَالَ: فَتَلَقَّانِي بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشُونَ فَتَبِعْتُهُمْ فِي أَقْفَائِهِمْ حَتَّى أَتَوْا عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ نَاشِرًا التَّوْرَاةَ يَقْرَؤُهَا يُعَزِّي بِهَا نَفْسَهُ عَلَى ابْنٍ لَهُ فِي الْمَوْتِ كَأَحْسَنِ الْفِتْيَانِ وَأَجْمَلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَنْشُدُك بِاَلَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ هَلْ تَجِدُ فِي كِتَابِك هَذَا صِفَتِي وَمَخْرَجِي» ؟ فَقَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا: أَيْ لَا، فَقَالَ ابْنُهُ: وَاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ إنَّا لَنَجِدُ فِي كِتَابِنَا صِفَتَك وَمَخْرَجَك، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّك رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: «أَقِيمُوا الْيَهُودِيَّ عَنْ أَخِيكُمْ» . ثُمَّ وَلِيَ دَفْنَهُ وَجَنَنَهُ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

(2/420)


4159- وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ يَهُودِيًّا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَشْهَدُ أَنَّك ... رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ مَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» . ذكره رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا مُحْتَجًّا بِهِ. 4160- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إلَى بَنِي جَذِيمَةَ فَدَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا. فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ، وَدَفَعَ إلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، حَتَّى إذَا أَصْبَحَ أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، فَقُلْت: وَاَللَّهِ لَا أَقْتُلُ أَسِيرِي، وَلَا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ» . مَرَّتَيْنِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكِنَايَةَ مَعَ النِّيَّةِ كَصَرِيحِ لَفْظِ الْإِسْلَامِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَوْلُهُ: (ابْتَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ) أَيْ بَعَثَهُ اللَّهُ مِنْ بَيْتِهِ لِيَحْصُلَ بِذَلِكَ إدْخَالُ رَجُلٍ الْجَنَّةَ وَهُوَ الرَّجُلُ الْمَرِيضُ فِي الْكَنِيسَةِ. قَوْلُهُ: (وَجَنَنَهُ) الْجَنَنُ بِالْجِيمِ وَنُونَيْنِ الْقَبْرُ ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ. قَوْلُهُ: «مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ» تَبَرَّأَ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ صُنْعِ خَالِدٍ وَلَمْ يَتَبَرَّأْ مِنْهُ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ لِمَنْ فَعَلَ مَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ وَلاسِيَّمَا إذَا كَانَ خَطَأً. وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّهُ يَصِيرُ الْكَافِرُ مُسْلِمًا بِالتَّكَلُّمِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ بِدُونِ تَصْرِيحٍ. قَالَ الْبَغَوِيّ: الْكَافِرُ إذَا كَانَ وَثَنِيًّا أَوْ ثَنَوِيًّا لَا يُقِرُّ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، فَإِذَا قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ثُمَّ يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَيَبْرَأُ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُقِرًّا بِالْوَحْدَانِيَّةِ مُنْكِرًا لِلنُّبُوَّةِ فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ حَتَّى يَقُولَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. فَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الرِّسَالَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ إلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ إلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، فَإِنْ كَانَ كُفْرُهُ بِجُحُودِ وَاجِبٍ أَوْ اسْتِبَاحَةِ مُحَرَّمٍ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَرْجِعَ عَنْ اعْتِقَادِهِ. انتهى.

(2/421)


بَابُ صِحَّةِ الْإِسْلَامِ مَعَ الشَّرْطِ الْفَاسِد 4161- عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ اللَّيْثِيِّ عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَسْلَمَ عَلَى أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاتَيْنِ فَقَبِلَ مِنْهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4162- وَفِي لَفْظٍ آخَرَ لَهُ: عَلَى أَنْ لَا يُصَلِّيَ إلَّا صَلَاةً فَقَبِلَ مِنْهُ. 4163- وَعَنْ وَهْبٍ قَالَ: سَأَلْت جَابِرًا عَنْ شَأْنِ ثَقِيفٍ إذْ بَايَعَتْ، قَالَ اشْتَرَطَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ لَا صَدَقَةَ عَلَيْهَا وَلَا جِهَادَ، وَأَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: «سَيَتَصَدَّقُونَ وَيُجَاهِدُونَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4164- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِرَجُلٍ: «أَسْلِمْ» . قَالَ: أَجِدُنِي كَارِهًا، قَالَ: «أَسْلِمْ وَإِنْ كُنْت كَارِهًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ مُبَايَعَةُ الْكَافِرِ وَقَبُولُ الْإِسْلَامِ مِنْهُ وَإِنْ شَرَطَ شَرْطًا بَاطِلاً، وَأَنَّهُ يَصِحُّ إسْلَامُ مَنْ كَانَ كَارِهًا. بَابُ تَبَعِ الطِّفْلِ لِأَبَوَيْهِ فِي الْكُفْرِ وَلِمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمَا فِي الْإِسْلَامِ وَصِحَّةِ إسْلَامِ الْمُمَيِّزِ 4165- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ» ؟ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الْآيَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4166- وَفِي رِوَايَةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا أَيْضًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْت مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ وَهُوَ صَغِيرٌ؟ فَقَالَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» . 4167- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا أَرَادَ قَتْلَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، قَالَ: مَنْ لِلصِّبْيَةِ؟ قَالَ: «النَّارُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي الْإِفْرَادِ، وَقَالَ فِيهِ: «النَّارُ لَهُمْ وَلِأَبِيهِمْ» .

(2/422)


4168- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ النَّاس مُسْلِمٍ يَمُوتُ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إيَّاهُمْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 4169- وَأَحْمَدُ، وَقَالَ فِيهِ: «مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ» . وَهُوَ عَامٌّ فِيمَا إذَا كَانُوا مِنْ مُسْلِمَةٍ أَوْ كَافِرَةٍ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ أمه مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ أَبِيهِ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ. 4170- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ، فَإِذَا أَعْرَبَ عَنْهُ لِسَانُهُ، فَإِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4171- وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلام أَنَّهُ عَرَضَ الْإِسْلَامَ عَلَى ابْنِ صَيَّادٍ صَغِيرًا. فَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ انْطَلَقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِهِ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ حَتَّى وَجَدَهُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ، وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ يَوْمَئِذٍ الْحُلُمَ فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ظَهْرَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِابْنِ صَيَّادٍ: «أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ» ؟ فَنَظَرَ إلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّك رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ، فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَرَفَصَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ: ... «آمَنْت بِاَللَّهِ وَبِرُسُلِهِ» . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ عُرْوَةَ قَالَ: أَسْلَمَ عَلِيٌّ - رضي الله عنه - وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُتِلَ عَلِيٌّ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. قُلْت: وَهَذَا يُبَيِّنُ إسْلَامَهُ صَغِيرًا لِأَنَّهُ أَسْلَمَ فِي أَوَائِلِ الْمَبْعَثِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ النَّاسِ بَعْدَ خَدِيجَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَفِي لَفْظٍ: أَوَّلُ مَنْ صَلَّى عَلِيٌّ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

(2/423)


وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ قَالَ: سَمِعْت زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ عَلِيٌّ. قَالَ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ، فَقَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4172- وَقَدْ صَحَّ أَنَّ مِنْ مَبْعَثِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلَى وَفَاتِهِ نَحْوَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَأَنَّ عَلِيًّا عَاشَ بَعْدَهُ نَحْوَ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَيَكُونُ قَدْ عَمَّرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَوْقَ الْخَمْسِينَ وَقَدْ مَاتَ وَلَمْ يَبْلُغْ السِّتِّينَ، فَعُلِمَ أَنَّهُ أَسْلَمَ صَغِيرًا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَوْلَادَ الْكُفَّارِ يُحْكَمُ لَهُمْ عِنْدَ الْوِلَادَةِ بِالْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ إذَا وُجِدَ الصَّبِيُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ دُونَ أَبَوَيْهِ كَانَ مُسْلِمًا، لِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ مَجُوسِيًّا بِسَبَبِ أَبَوَيْهِ، فَإِذَا عَدِمَا فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مَا وُلِدَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ. قَوْلُهُ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ أَوْلاد الْكُفَّارِ عِنْدَ اللَّهِ إذَا مَاتُوا صِغَارًا غَيْرُ مُتَعَيِّنَةٍ بَلْ مَنُوطَةً بِعَمَلِهِ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ لَوْ عَاشَ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لِقَوْلِهِ فِيهِ: «النَّارُ لَهُمْ وَلِأَبِيهِمْ» . وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَسْأَلَةَ أَطْفَالِ الْكُفَّارِ بِاعْتِبَارِ أَمْرِ الْآخِرَةِ مِنْ الْمَعَارِكِ الشَّدِيدَةِ وَفِي الْوَقْفِ عَنْ الْجَزْمِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ سَلَامَةٌ مِنْ الْوُقُوعِ فِي مَضِيقٍ لَمْ تَدْعُ إلَيْهِ حَاجَةٌ وَلَا أَلْجَأَتْ إلَيْهِ ضَرُورَةٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَمَحَلُّهُ كِتَابُ الْجَنَائِزِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَا هُنَا لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى: أَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاختيارات وَغَيْرِ الْمُكَلَّفِ يمتحن وَيَسْأَلَ وَهُوَ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدُ قَالَهُ أَبُو حَكِيمُ وَغَيْرُهُ وقَالَ أَيْضًا: وَالطِّفْلِ إذَا سبيَ يُتَّبَعَ سابيه فِي الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ مَعَ أَبَوَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيُّ وَلِأَحْمَدَ نَصِّ يُوَافِقُهُ وَيَتْبَعُهُ أَيْضًا إذَا اشْتَرَاهُ وَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الطِّفْلِ إذَا مَاتَ أَبَوَاهُ أوَ كَانَ نَسَبَهُ مُنْقَطِعًا مِثْلِ كَوْنِهِ وَلَدُ زِنًا أوَ منفيًا بلِّعَانِ وَقَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءُ. انْتَهَى. قَوْلُهُ: (أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ عَلِيٌّ) قَالَ الشَّارِح: وَالْأَوْلَى الْجَمْعُ بِأَنْ يُقَالَ:

(2/424)


عَلِيٌّ كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الصِّبْيَانِ، وَأَبُو بَكْرٍ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الرِّجَالِ، وَخَدِيجَةُ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ النِّسَاءِ. قَوْلُهُ: «حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ لِلصَّبِيِّ مَا دَامَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ إلَّا بِدِينِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا أَعْرَبَ عَنْهُ لِسَانُهُ بَعْدَ تَمْيِيزِهِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْمِلَّةِ الَّتِي يَخْتَارُهَا. قَوْلُهُ: «أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ *) اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى صِحَّةِ إسْلَامِ الْمُمَيِّزِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بَقِيَّةُ الْأَحَادِيثِ فِي إسْلَامِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: قِصَّةُ ابْنِ صَيَّادٍ مُشْكِلَةٌ وَأَمْرُهُ مُشْتَبِهٌ، وَلَكِنْ لا شَكَّ أَنَّهُ دَجَّالٌ مِنْ الدَّجَاجِلَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يُوحَ إلَيْهِ فِي أَمْرِهِ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا أُوحِيَ إلَيْهِ بِصِفَاتِ الدَّجَّالِ، وَكَانَ فِي ابْنِ صَيَّادٍ قَرَائِنُ مُحْتَمِلَةٌ. فَلِذَلِكَ كَانَ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَقْطَعُ فِي أَمْرِهِ بِشَيْءٍ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ حُكْمِ أَمْوَالِ الْمُرْتَدِّينَ وَجِنَايَاتِهِمْ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: جَاءَ وَفْدُ بُزَاخَةَ مِنْ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ إلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلُونَهُ الصُّلْحَ فَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ الْحَرْبِ الْمُجْلِيَةِ، وَالسِّلْمِ الْمُخْزِيَةِ، فَقَالُوا: هَذِهِ الْمُجْلِيَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا، فَمَا الْمُخْزِيَةُ؟ قَالَ: نَنْزِعُ مِنْكُمْ الْحَلْقَةَ وَالْكُرَاعَ وَنَغْنَمُ مَا أَصَبْنَا مِنْكُمْ وَتَرُدُّونَ عَلَيْنَا مَا أَصَبْتُمْ مِنَّا، وَتَدُونَ قَتْلَانَا وَتَكُونُ قَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ، وَتَتْرُكُونَ أَقْوَامًا يَتْبَعُونَ أَذْنَابَ الْإِبِلِ حَتَّى يُرِيَ اللَّهُ خَلِيفَةَ رَسُولِهِ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ أَمْرًا يَعْذِرُونَكُمْ بِهِ، فَعَرَضَ أَبُو بَكْرٍ مَا قَالَ عَلَى الْقَوْمِ، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: قَدْ رَأَيْت رَأْيًا وَسَنُشِيرُ عَلَيْك، أَمَّا مَا ذَكَرْت مِنْ الْحَرْبِ الْمُجْلِيَةِ، وَالسِّلْمِ الْمُخْزِيَةِ فَنِعْمَ مَا ذَكَرْت، وَأَمَّا مَا ذَكَرْت أَنْ نَغْنَمَ مَا أَصَبْنَا مِنْكُمْ وَتَرُدُّونَ مَا أَصَبْتُمْ مِنَّا فَنِعْمَ مَا ذَكَرْت، وَأَمَّا مَا ذَكَرْت تَدُونَ قَتْلَانَا وَتَكُونُ قَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ فَإِنَّ قَتْلَانَا قَاتَلَتْ فَقُتِلَتْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، أُجُورُهَا عَلَى اللَّهِ لَيْسَ لَهَا دِيَاتٌ، فَتَبَايَعَ الْقَوْمُ عَلَى مَا قَالَ عُمَرُ. رَوَاهُ الْبَرْقَانِيُّ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.

(2/425)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِالْأَثَرِ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ مُصَالَحَةُ الْكُفَّارِ الْمُرْتَدِّينَ عَلَى أَخْذِ أَسْلِحَتِهِمْ وَخَيْلِهِمْ، وَرَدِّ مَا أَصَابُوهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.

(2/426)


 كِتَابُ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ

بَابُ الْحَثِّ عَلَى الْجِهَاد وَفَضْل الشَّهَادَة وَالرِّبَاط وَالْحَرَس 4173- عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَغَدْوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّه خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . مُتَّفَق عَلَيْهِ. 4174- وَعَنْ أَبِي عَبْسٍ الْحَارِثِيِّ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ... «مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللهِ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ. 4175- وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «غَدْوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرُبَتْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 4176- وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ. 4177- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. 4178- وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ. 4179- وَعَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 4180- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي

(2/427)


سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ أَوْ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4181- وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ فُوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ جُرِحَ جُرْحًا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ نُكِبَ نَكْبَةً، فَإِنَّهَا تَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَغْزَرِ مَا كَانَتْ لَوْنُهَا الزَّعْفَرَانُ وَرِيحُهَا كالْمِسْكُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4182- وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَلِابْنِ مَاجَةْ مَعْنَاهُ. 4183- وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 4184- وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ... «حَرْسُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ لَيْلَةٍ يُقَامِ لَيْلِهَا وَيُصَامِ نَهَارِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4185- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «عَيْنَانِ لا تَمَسَّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. 4186- وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: إنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ لَمَّا نَصَرَ اللهُ نَبِيَّهُ عليه الصلاة والسلام وَأَظْهَرَ الإِسْلامَ، قُلْنَا هَلْ نُقِيمُ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحُهَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {أَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . فَالإِلْقَاءُ بِأَيْدِينَا إلَى التَّهْلُكَة أَنْ نُقِيمَ فِي أَمْوَالنَا وَنُصْلِحَهَا وَنَدَعَ الْجِهَادَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4187- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «جَاهِدُوا

(2/428)


الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فُوَاقَ نَاقَةٍ» هُوَ قَدْرُ مَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ مِنْ الِاسْتِرَاحَةِ. قَوْلُهُ: (الإِلْقَاءُ بِأَيْدِينَا إلَى التَّهْلُكَة أَنْ نُقِيمَ فِي أَمْوَالنَا) إلى آخره، هَذَا فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ مَا تَصْدُقُ عَلَيْهِ الآيَةُ لأنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ لِلنَّهْيِ لِكُلِّ أَحَدٍ مَنْ كُلِّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الإِلْقَاءِ بِالنَّفْسِ إلَى التَّهْلُكَةِ وَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ الصُّورَةُ الَّتِي قَالَ النَّاسُ إنَّهَا مِنْ بَابِ الإِلْقَاءِ مِنْ صُوَرِ الإِلْقَاءِ لُغَةً أَوْ شَرْعًا فَلا شَكَّ أَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ عُمُومِ الآيَةِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قال الحافظ: حمل الواحد على العدد الكثير إن كان لفرط شجاعته فهو حسن، ومتى كان مجرد تهور فممنوع. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَاب أَنَّ الْجِهَاد فَرْض كِفَايَة وَأَنَّهُ شُرِعَ مَعَ كُلّ بَرٍّ وَفَاجِر 4188- عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْن عَبَّاسٍ قَالَ: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} و {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} إلَى قَوْلِهِ: {يَعْمَلُونَ} ، نَسَخَتْهَا الآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4189- وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ الْبَارِقِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ الأجْرُ وَالْمَغْنَمُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ. 4190- وَلأحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ مِثْلُهُ. وَفِيهِ مُسْتَدَلٌّ بِعُمُومِهِ عَلَى الإِسْهَامِ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْخَيْلِ وَبِمَفْهُومِهِ عَلَى عَدَمِ الإِسْهَامِ لِبَقِيَّةِ الدَّوَابِّ. 4191- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلاثٌ مِنْ أَصْلِ الإِيمَانِ: الْكَفُّ عَمَّنْ قَالَ لا إلَهَ إِلا اللهُ لا نُكَفِّرُهُ بِذَنْبٍ وَلا نُخْرِجُهُ مِنْ الإِسْلامِ بِعَمَلٍ، وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنذ بَعَثَنِي اللهُ إلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ لا يُبْطِلُهُ جَوْرُ جَائِرٍ، وَلا عَدْلُ عَادِلٍ، وَالإِيمَانُ بِالأقْدَارِ» .

(2/429)


رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَحَكَاهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللهِ. قَوْلُهُ: (نَسَخَتْهَا الآيَةُ) {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} قَالَ الْحَافِظُ: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ قَالَ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لا نَسْخَ بَلْ الْمَرْجِعُ إلَى يقين الإِمَامِ وَإِلَى الْحَاجَةِ. بَاب مَا جَاءَ فِي إخْلاص النِّيَّة فِي الْجِهَاد وَأَخْذ الأجْرَة عَلَيْهِ وَالإِعَانَة 4192- عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شُجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 4193- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَا مِنْ غَازِيَةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُصِيبُونَ غَنِيمَةً إِلا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمْ فِي الآخِرَةِ وَيَبْقَى لَهُمْ الثُّلُثُ، وَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَةً تَمَّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ. 4194- عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ رَجُلاً غَزَا يَلْتَمِسُ الأجْرَ وَالذِّكْرَ مَا لَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا شَيْءَ لَهُ» فَأَعَادَهَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا شَيْءَ لَهُ» . ثُمَّ قَالَ: «إنَّ اللهَ لا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 4195- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اُسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلَتْ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اُسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنْ قَاتَلْتَ لأنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى يُلْقَى فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: مَا عَمِلْت فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّك تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى أُلْقِيَ فِي

(2/430)


النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ فَمَا عَمِلْت فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَك، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْت لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ فَأُلْقِيَ فِي النَّارِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4196- وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ الأمْصَارُ، وَسَتَكُونُونَ جُنُودًا مُجَنَّدَةً يُقْطَعُ عَلَيْكُمْ بُعُوثٌ فَيَكْرَهُ الرَّجُلُ مِنْكُمْ الْبَعْثَ فِيهَا فَيَتَخَلَّصُ مِنْ قَوْمِهِ، ثُمَّ يَتَصَفَّحُ الْقَبَائِلَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ يَقُولُ: مَنْ أَكْفِيهِ بَعْثَ كَذَا، مَنْ أَكْفِيهِ بَعْثَ كَذَا، أَلا وَذَلِكَ الأجِيرُ إلَى آخِرِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4197- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لِلْغَازِي أَجْرُهُ وَلِلْجَاعِلِ أَجْرُهُ وَأَجْرُ الْغَازِي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4198- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ» قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ ذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ الْبَاعِثُ الأوَّلُ قَصْدَ إعْلاءِ كَلِمَةِ اللهِ لَمْ يَضُرَّهُ مَا يَنْضَافُ إلَيْهِ. قَوْلُهُ: «إنَّ أَوَّلَ النَّاسِ» . إلى آخره، قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الطَّاعَاتِ الْعَظِيمَةِ مَعَ سُوءِ النِّيَّةِ مِنْ أَعْظَمِ الْوَبَالِ عَلَى فَاعِلِهِ، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ صَلاحَ النِّيَّةِ وَخُلُوصَ الطَّوِيَّةِ. قَوْلُهُ: «أَلا وَذَلِكَ الأجِيرُ إلَى آخِرِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ» قَالَ الشَّارِح: أَيْ لا يَكُونُ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ دَمِهِ شَيْءٌ، بَلْ فِي سَبِيلِ مَا أَخَذَهُ مِنْ الأجْرَةِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْغَزْوِ مَعَ قَوْمِهِ ثُمَّ يَذْهَبُ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى غَيْرِ قَوْمِهِ مِمَّنْ طُلِبُوا إلَى الْغَزْوِ لِيَكُونَ عِوَضًا عَنْ أَحَدِهِمْ بِالأجْرَةِ. قَوْلُهُ: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا» قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي

(2/431)


الأجْرِ. ثُمَّ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ: «كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ» . بَاب اسْتِئْذَان الأبَوَيْنِ فِي الْجِهَاد 4199- بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللهِ؟ قَالَ: «الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا» . قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟، قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» . قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ» . حَدَّثَنِي بِهِنَّ، وَلَوْ اسْتَزَدْته لَزَادَنِي. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4200- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ: «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ» ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4201- وَفِي رِوَايَةٍ: أَتَى رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنِّي جِئْت أُرِيدُ الْجِهَادَ مَعَكَ، وَلَقَدْ أَتَيْت وَإِنَّ وَالِدَيَّ يَبْكِيَانِ، قَالَ: «فَارْجِعْ إلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. 4202- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلاً هَاجَرَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْيَمَنِ. فَقَالَ: «هَلْ لَك أَحَدٌ بِالْيَمَنِ» ؟ فَقَالَ أَبَوَايَ فَقَالَ: «أَذِنَا لَك» ؟ قَالَ: لا قَالَ: «ارْجِعْ إلَيْهِمَا فَاسْتَأْذِنْهُمَا فَإِنْ أَذِنَا لَك فَجَاهِدْ وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4203- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السُّلَمِيُّ أَنَّ جَاهِمَةَ السُّلَمِيُّ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَدْتُ الْغَزْوَ وَجِئْتُك أَسْتَشِيرُكَ، فَقَالَ: «هَلْ لَك مِنْ أُمٍّ» ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: «الْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلَيْهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. وَهَذَا كُلُّهُ إنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، فَإِذَا تَعَيَّنَ فَتَرْكُهُ مَعْصِيَةٌ. 4204- وَ: «لا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَإِنْ أَذِنَا فَجَاهِدْ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ

(2/432)


يَجِبُ اسْتِئْذَانُ الأبَوَيْنِ فِي الْجِهَادِ، وَبِذَلِكَ قَالَ الْجُمْهُور، وَجَزَمُوا بِتَحْرِيمِ الْجِهَادِ إذَا مَنَعَ مِنْهُ الأبَوَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا، لأنَّ بِرَّهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ وَالْجِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِذَا تَعَيَّنَ الْجِهَادُ فَلا إذْنَ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَاسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى تَحْرِيمِ السَّفَرِ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا، نَعَمْ إنْ كَانَ سَفَرُهُ لِتَعَلُّمِ فَرْضِ عَيْنٍ فَلا مَنْعَ، وَإِنْ كَانَ فَرْضَ كِفَايَةٍ فَفِيهِ خِلافٌ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَاب لا يُجَاهِد مَنْ عَلَيْهِ دَيْن إِلا بِرِضَا غَرِيمه 4205- عَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهُ قَامَ فِيهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالإِيمَانَ بِاَللَّهِ أَفْضَلُ الأعْمَالِ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْت إنْ قُتِلْت فِي سَبِيلِ اللهِ تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «نَعَمْ إنْ قُتِلْت فِي سَبِيلِ اللهِ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ» . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كَيْفَ قُلْت» ؟ قَالَ: أَرَأَيْت إنْ قُتِلْت فِي سَبِيلِ اللَّه تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «نَعَمْ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ إِلا الدَّيْنَ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِي ذَلِكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4206- وَلأحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ. 4207- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَغْفِرُ لِلشَّهِيدِ كُلَّ ذَنْبٍ إِلا الدَّيْنَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4208- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللهِ يُكَفِّرُ كُلَّ خَطِيئَةٍ» . فَقَالَ جِبْرِيلُ: إِلا الدَّيْنَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِلا الدَّيْنَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَاب عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ لِمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْجِهَادِ إِلا بِإِذْنِ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ.

(2/433)


بَاب مَا جَاءَ فِي الِاسْتِعَانَة بِالْمُشْرِكِينَ 4209- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قِبَلَ بَدْرٍ فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ، فَفَرِحَ بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ رَأَوْهُ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ: جِئْت لأتْبَعَك وَأُصِيبَ مَعَك فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ» ؟ قَالَ: لا، قَالَ: ... «فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ» . قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى حَتَّى إذَا كَانَ بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ: لا، قَالَ: «فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ» . قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ: «تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ» ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ: «فَانْطَلِقْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4210- وَعَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: أَتَيْت ... النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُرِيدُ غَزْوًا - أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ قَوْمِي وَلَمْ نُسْلِمْ، فَقُلْنَا: إنَّا نَسْتَحِي أَنْ يَشْهَدَ قَوْمُنَا مَشْهَدًا لا نَشْهَدُهُ مَعَهُمْ، فَقَالَ: «أَسْلَمْتُمَا» ؟ فَقُلْنَا: لا، قَالَ: «فَإنَّا لا نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ» . فَأَسْلَمْنَا وَشَهِدْنَا مَعَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4211- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ، وَلا تَنْقُشُوا عَلَى خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبِيًّا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 4212- وَعَنْ ذِي مِخْبَرٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا تَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4213- وَعَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَعَانَ بِنَاسٍ مِنْ الْيَهُودِ فِي خَيْبَرَ فِي حَرْبِهِ فَأَسْهَمَ لَهُمْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ. قَوْلُهُ: «وَلا تَنْقُشُوا عَلَى خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبِيًّا» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَالَ فِي الْقَامُوسِ: أَيْ لا تَنْقُشُوا (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) كَأَنَّهُ قَالَ: نَبِيًّا عَرَبِيًّا، يَعْنِي نَفْسَهُ.

(2/434)


قَوْلُهُ: «اسْتَعَانَ بِنَاسٍ مِنْ الْيَهُودِ» إلى آخره. قال البيهقي: وَالصَّحِيحُ مَا أَخْبَرَنَا الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللهِ. فَسَاقَ بِسَنَدِهِ إلَى أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى إذَا خَلَفَ ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ إذَا كَتِيبَةٌ، قَالَ: «مَنْ هَؤُلاءِ» ؟ قَالُوا: بَنُو قَيْنُقَاعِ رَهْطُ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلامٍ، قَالَ: «أَوْ تُسْلِمُوا» ؟ قَالُوا: لا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا. وَقَالَ: «إنَّا لا نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ» . فَأَسْلَمُوا. قَالَ الْحَافِظُ أَقْرَب الأوجه أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ كَانَتْ مَمْنُوعَةً ثُمَّ رُخِّصَ فِيهَا. بَاب مَا جَاءَ فِي مُشَاوَرَة الإِمَام الْجَيْش وَنُصْحه لَهُمْ وَرِفْقه بِهِمْ وَأَخْذهمْ بِمَا عَلَيْهِمْ 4214- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - شَاوَرَ - حِينَ بَلَغَهُ إقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ - فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: إيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبَحْرَ لأخَضْنَاهَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إلَى بِرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا. قَالَ: فَنَدَبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ فَانْطَلَقُوا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4215- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا رَأَيْت أَحَدًا قَطُّ كَانَ أَكْثَرَ مَشُورَةً لأصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ. 4216- وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4217- وَفِي لَفْظٍ: «مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ لا يَجْتَهِدُ لَهُمْ وَلا يَنْصَحُ لَهُمْ إِلا لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 4218- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4219- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَلَّفُ فِي الْمَسِيرِ فَيُزْجِي الضَّعِيفَ وَيُرْدِفُ وَيَدْعُو لَهُمْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

(2/435)


4220- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - غَزْوَةَ كَذَا وَكَذَا، فَضَيَّقَ النَّاسُ الطَّرِيقَ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُنَادِيًا فَنَادَى: «مَنْ ضَيَّقَ مَنْزِلًا، أَوْ قَطَعَ طَرِيقًا فَلا جِهَادَ لَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «مَا رَأَيْت أَحَدًا قَطُّ» إلى آخره. فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ لِلإِمَامِ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ اسْتِشَارَةِ أَصْحَابِهِ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ دِينًا وَعَقْلاً. قَوْلُهُ: «مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ لا يَجْتَهِدُ لَهُمْ وَلا يَنْصَحُ لَهُمْ إِلا لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ» قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ عَلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ، فَمَنْ ضَيَّعَ مَنْ اسْتَرْعَاهُ اللهُ أَوْ خَانَهُمْ أَوْ ظَلَمَهُمْ فَقَدْ تَوَجَّهَ إلَيْهِ الطَّلَبُ بِمَظَالِمِ الْعِبَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَكَيْفَ يَقْدِرُ عَلَى التَّحَلُّلِ مِنْ ظُلْمِ أُمَّةٍ عَظِيمَةٍ. قَوْلُهُ: «مَنْ ضَيَّقَ مَنْزِلًا، أَوْ قَطَعَ طَرِيقًا فَلا جِهَادَ لَهُ» . فِيهِ أَنَّهُ لا يَجُوزُ لأحَدٍ تَضْيِيقُ الطَّرِيقِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا النَّاسُ، وَكَذَلِكَ لا يَجُوزُ تَضْيِيقُ الْمَنَازِل. بَاب لُزُوم طَاعَة الْجَيْش لأمِيرِهِمْ مَا لَمْ يَأْمُر بِمَعْصِيَة 4221- عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْغَزْوُ غَزْوَانٍ: فَأَمَّا مَنْ ابْتَغَى وَجْهَ اللهِ، وَأَطَاعَ الإِمَامَ، وَأَنْفَقَ الْكَرِيمَةَ، وَيَاسَرَ الشَّرِيكَ، وَاجْتَنَبَ الْفَسَادَ، فَإِنَّ نَوْمَهُ وَنَبْهَهُ أَجْرٌ كُلُّهُ، وَأَمَّا مَنْ غَزَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَسُمْعَةً وَعَصَى الإِمَامَ، وَأَفْسَدَ فِي الأرْضِ فَإِنَّهُ لَنْ يَرْجِعَ بِالْكَفَافِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 4222- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِعْ الأمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الأمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4223- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ} . قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ، بَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَرِيَّةٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.

(2/436)


4224- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ سَرِيَّةً وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلاً مِنْ الأنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْمَعُوا لَهُ وَيُطِيعُوا فَعَصَوْهُ فِي شَيْءٍ: فَقَالَ: اجْمَعُوا ... لِي حَطَبًا فَجَمَعُوا، ثُمَّ قَالَ: أَوْقِدُوا نَارًا فَأَوْقَدُوا، ثُمَّ قَالَ: أَلَمْ يَأْمُرْكُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تَسْمَعُوا وَتُطِيعُوا؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَادْخُلُوهَا، فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ وَقَالُوا: إنَّمَا فَرَرْنَا إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ النَّارِ، فَكَانُوا كَذَلِكَ حَتَّى سَكَنَ غَضَبُهُ وَطُفِئَتْ النَّارُ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «لَوْ دَخَلُوهَا لَمْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أَبَدًا» وَقَالَ: «لا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ» أَيْ لا تَجِبُ، بَلْ تَحْرُمُ عَلَى مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الِامْتِنَاعِ. وَقَوْلُهُ: «إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» فِيهِ بَيَانُ مَا يُطَاعُ فِيهِ مَنْ كَانَ مِنْ أُولِي الأمْرِ، وَهُوَ الأمْرُ الْمَعْرُوفُ لا مَا كَانَ مُنْكَرًا. بَاب الدَّعْوَة قَبْلَ الْقِتَال 4225- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَا قَاتَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَوْمًا قَطُّ إِلا دَعَاهُمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4226- وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: «اُغْزُوا بِسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ، اُغْزُوا وَلا تَغُلُّوا وَلا تَغْدِرُوا، وَلا تُمَثِّلُوا، وَلا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيت عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى ثَلاثِ خِصَالٍ - أَوْ خِلالٍ - فَأَيَّتَهُنَّ مَا أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، اُدْعُهُمْ إلَى الإِسْلامِ، فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ شَيْءٌ إِلا أَنْ

(2/437)


يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ عَلَيْهِمْ وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوك أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، فَلا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّه وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَك وَذِمَّةَ أَصْحَابِك، فَإِنَّكُمْ إنْ تُخْفِرُوا ذِمَّتَكُمْ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَإِذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ وَأَرَادُوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ فَلا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك، فَإِنَّك لا تَدْرِي أَتُصِيبُ فِيهِمْ حُكْمَ اللَّه أَمْ لا» ؟ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَهُوَ حُجَّةٌ فِي أَنَّ قَبُولَ الْجِزْيَةِ لا يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَنْ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، بَلْ الْحَقُّ عِنْدَ اللهِ وَاحِدٌ، وَفِيهِ الْمَنْعُ مِنْ قَتْلِ الْوِلْدَانِ وَمِنْ التَّمْثِيلِ. 4227- وَعَنْ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ أُقَاتِلُ بِمُقْبِلِ قَوْمِي وَمُدْبِرِهِمْ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . فَلَمَّا وَلَّيْت دَعَانِي، فَقَالَ: «لا تُقَاتِلْهُمْ حَتَّى تَدْعُوَهُمْ إلَى الإِسْلامِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4228- وَعَنْ ابْنِ عَوْفٍ قَالَ: كَتَبْت إلَى نَافِعٍ أَسْأَلُهُ عَنْ الدُّعَاءِ قَبْلَ الْقِتَالِ، فَكَتَبَ إلَيَّ إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الإِسْلامِ، وَقَدْ أَغَارَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ، وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جَوَيْرِيَةَ ابْنَةَ الْحَارِثِ، حَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِرْقَاقِ الْعَرَبِ. 4229- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ خَيْبَرَ، فَقَالَ: «أَيْنَ عَلِيٌّ» ؟ فَقِيلَ: إنَّهُ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، فَأَمَرَ فَدُعِيَ لَهُ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ فَبَرَأَ مَكَانَهُ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ شَيْءٌ، فَقَالَ: نُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا، فَقَالَ: «عَلَى رِسْلِك حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى الإِسْلامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَوَاَللَّهِ لأنْ يَهْتَدِيَ بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَك مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(2/438)


4230- وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَهْطًا مِنْ الأنْصَارِ إلَى أَبِي رَافِعٍ فَدَخَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَتِيكٍ بَيْتَهُ لَيْلًا فَقَتَلَهُ وَهُوَ نَائِمٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَادْعُهُمْ إلَى الإِسْلامِ» وَقَعَ فِي نُسَخِ مُسْلِمٍ: «ثُمَّ اُدْعُهُمْ» قَالَ عِيَاضٌ: الصَّوَابُ إسْقَاطُ (ثُمَّ) ، وَقَدْ أَسْقَطَهَا أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِهِ وَأَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ وَغَيْرُهُمَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ دُعَاءِ الْكُفَّارِ إلَى الإِسْلامِ قَبْلَ الْمُقَاتَلَةِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ ثَلاثَةُ مَذَاهِبَ، إلى أنْ قَالَ: الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجِبُ لِمَنْ لَمْ تَبْلُغهُمْ الدَّعْوَةُ وَلا يَجِبُ إنْ بَلَغَتْهُمْ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الأحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَلَى مَعْنَاهُ، وَبِهِ يُجْمَعُ بَيْنَ مَا ظَاهِرُهُ اخْتِلافُ مِنْ الأحَادِيثِ. قَوْلُهُ: «ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى التَّحَوُّلِ» فِيهِ تَرْغِيبُ الْكُفَّارِ بَعْدَ إجَابَتِهِمْ وَإِسْلامِهِمْ إلَى الْهِجْرَةِ إلَى دِيَارِ الْمُسْلِمِينَ، لأنَّ الْوُقُوفَ بِالْبَادِيَةِ رُبَّمَا كَانَ سَبَبًا لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ الشَّرِيعَةِ لِقِلَّةِ مَنْ فِيهَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَوْلُهُ: «وَلا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ» ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لا يَسْتَحِقُّ مَنْ كَانَ بِالْبَادِيَةِ وَلَمْ يُهَاجِرْ نَصِيبًا فِي الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ إذَا لَمْ يُجَاهِدْ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. قَوْلُهُ: «فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ» ظَاهِرُهُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْعَجَمِيِّ وَالْعَرَبِيِّ وَالْكِتَابِيِّ وَغَيْرِ الْكِتَابِيِّ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالأوْزَاعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَخَالَفَهُمْ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: لا تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ إِلا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْمَجُوس عَرَبًا كَانُوا أَوْ عَجَمًا. قَوْلُهُ: «فَلا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ» . إلَى آخره هَذَا النَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْزِيهِ وَالِاحْتِيَاطِ، وَكَذَلِكَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ: إنَّ الْحَقَّ مَعَ وَاحِدٍ، وَأَنْ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، وَالْخِلافُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَشْهُورٌ، وَالْحَقُّ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ مِنْ الصَّوَابِ لا مِنْ الإِصَابَةِ.

(2/439)


بَاب مَا يَفْعَلهُ الإِمَام إذَا أَرَادَ الْغَزْو مِنْ كِتْمَان حَاله وَالتَّطَلُّع إلَى حَالَ عَدُوِّهِ 4231- عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهُ كَانَ إذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4232- وَهُوَ لأبِي دَاوُد، وَزَادَ «وَالْحَرْبُ خُدْعَةٌ» . 4233- وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» . 4234- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: الْحَرْبَ خُدْعَةً. 4235- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ» ؟ - يَوْمَ الأحْزَابِ - قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ» ؟ قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ. 4236- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بُسْبَسًا عَيْنًا يَنْظُرُ مَا صَنَعَتْ عِيرُ أَبِي سُفْيَانَ. فجاء فَحَدَّثَهُ الْحَدِيثَ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَكَلَّمَ فَقَالَ: «إنَّ لَنَا طَلِبَةً فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا فَلْيَرْكَبْ مَعَنَا» . فَجَعَلَ رِجَالٌ يَسْتَأْذِنُونَهُ فِي ظَهْرِهِمْ فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: «لا، إِلا مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا» فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إلَى بَدْرٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «خُدْعَةٌ» بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّهَا مَعَ سُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَبِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَانِيهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الأولَى أَفْصَحُ قَالَ: وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ خِدَاعِ الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ كَيْفَ مَا أَمْكَنَ، إِلا أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَقْضُ عَهْدٍ أَوْ أَمَانٍ فَلا يَجُوزُ. قَوْلُهُ: فَقَالَ: «إنَّ لَنَا طَلِبَةً» بِكَسْرِ اللَّامِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الطِّلَبَةُ: الْحَاجَةُ، هَذَا فِيهِ إبْهَامٌ لِلْمَقْصُودِ.

(2/440)


بَاب تَرْتِيب السَّرَايَا وَالْجُيُوش وَاِتِّخَاذ الرَّايَات وَأَلْوَانهَا 4237- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُمِائَةٍ، وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلافٍ، وَلا تُغْلَبُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَذَكَرَ أَنَّهُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُرْسَلًا. وَتَمَسَّكَ بِهِ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْجَيْشَ إذَا كَانَ اثْنيْ عَشَرَ أَلْفًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَفِرَّ مِنْ أَمْثَالِهِ وَأَضْعَافِهِ وَإِنْ كَثُرُوا. 4238- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ رَايَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَوْدَاءَ وَلِوَاؤُهُ أَبْيَضَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. 4239- وَعَنْ سِمَاكٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ عَنْ آخَرَ مِنْهُمْ قَالَ: رَأَيْتُ رَايَةَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - صَفْرَاءَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4240- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ مَكَّةَ وَلِوَاؤُهُ أَبْيَضُ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا أَحْمَدَ. 4241- وَعَنْ الْحَارِثِ بْنِ حَسَّانٍ الْبَكْرِيِّ قَالَ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَإِذَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ وَبِلالٌ قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَقَلِّدٌ بِالسَّيْفِ، وَإِذَا رَايَاتٌ سُودٌ، فَسَأَلْت: مَا هَذِهِ الرَّايَاتُ؟ فَقَالُوا: عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ قَدِمَ مِنْ غَزَاةٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. 4242- وَفِي لَفْظٍ: قَدِمْت الْمَدِينَةَ فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ غَاصٌّ بِالنَّاسِ، وَإِذَا رَايَاتٌ سُودٌ، وَإِذَا بِلالٌ مُتَقَلِّدٌ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قُلْت: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ قَالُوا: يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَجْهًا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. 4243- وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَايَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا كَانَتْ؟ قَالَ: كَانَتْ سَوْدَاءَ مُرَبَّعَةً مِنْ نَمِرَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. قَوْلُهُ: (كَانَتْ رَايَةُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - سَوْدَاءُ) وَعِنْدَ أَبِي الشَّيْخِ: كَانَ مَكْتُوبًا عَلَى رَايَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا إلَهَ إلا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ.

(2/441)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: اللِّوَاءُ بِكَسْرِ اللامِ وَالْمَدِّ هُوَ الرَّايَةُ وَيُسَمَّى أَيْضًا الْعَلَمَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: اللِّوَاءُ غَيْرُ الرَّايَةِ، فَاللِّوَاءُ مَا يُعْقَدُ فِي طَرَفِ الرُّمْحِ وَيُلْوَى عَلَيْهِ، وَالرَّايَةُ مَا يُعْقَدُ فِيهِ وَيُتْرَكُ حَتَّى تُصَفِّقَهُ الرِّيَاحُ. وَقِيلَ: اللِّوَاءُ دُونَ الرَّايَةِ. بَاب مَا جَاءَ فِي تَشْيِيع الْغَازِي وَاسْتِقْبَاله 4244- عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «لأنْ أُشَيِّعَ غَازِيًا فَأَكْفِيَهُ فِي رَحْلَهُ غَدْوَةً أَوْ رَوْحَةً أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. 4245- وَعَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ خَرَجَ النَّاسُ يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، قَالَ السَّائِبُ: فَخَرَجْت مَعَ النَّاسِ وَأَنَا غُلامٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَلِلْبُخَارِيِّ نَحْوَهُ. 4246- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَشَى مَعَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ ثُمَّ وَجَّهَهُمْ ثُمَّ قَالَ: «انْطَلِقُوا عَلَى اسْمِ اللهِ» . وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَعِنْهُمْ» . يَعْنِي النَّفَرَ الَّذِينَ وَجَّهَهُمْ إلَى كَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (التَّشْيِيعُ) : الْخُرُوجُ مَعَ الْمُسَافِرِ لِتَوْدِيعِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ الآخر دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَلَقِّي الْغَازِي إلَى خَارِجِ الْبَلَدِ لِمَا فِي الِاتِّصَال بِهِ مِنْ الْبَرَكَةِ. انْتَهَى ملخصًا. بَاب اسْتِصْحَاب النِّسَاء لِمَصْلَحَةِ الْمَرْضَى وَالْجَرْحَى وَالْخِدْمَة 4247- عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَسْقِي الْقَوْمَ وَنَخْدُمُهُمْ وَنَرُدُّ الْقَتْلَى وَالْجَرْحَى إلَى الْمَدِينَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 4248- وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأنْصَارِيَّةِ قَالَتْ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَبْعَ غَزَوَاتٍ أَخْلُفُهُمْ فِي رِحَالِهِمْ وَأَصْنَعُ لَهُمْ الطَّعَامَ وَأُدَاوِي

(2/442)


الْجَرْحَى وَأَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَةْ. 4249- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَغْزُو بِأُمِّ سُلَيْمٍ وَنِسْوَةٍ مَعَهَا مِنْ الأنْصَارِ يَسْقِينَ الْمَاءَ وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4250- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: «لَكِنْ أَفْضَلُ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُا: (وَأُدَاوِي الْجَرْحَى) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الأجْنَبِيَّةِ مُعَالَجَةُ الرَّجُلِ الأجْنَبِيِّ لِلضَّرُورَةِ. بَاب الأوْقَات الَّتِي يُسْتَحَبّ فِيهَا الْخُرُوج إلَى الْغَزْو وَالنُّهُوض إلَى الْقِتَال 4251- عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4252- وَعَنْ صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: - صلى الله عليه وسلم - «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا» . قَالَ: فَكَانَ إذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا بَعَثَهُمْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَكَانَ صَخْرٌ رَجُلاً تَاجِرًا، وَكَانَ يَبْعَثُ تِجَارَتَهُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَأَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا النَّسَائِيّ. 4253- وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ أَخَّرَ الْقِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ وَيَنْزِلَ النَّصْرُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمذي وَصَحَّحَهُ. 4254- وَالْبُخَارِيُّ وَقَالَ: انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الأرْوَاحُ وَتَحْضُرَ الصَّلَوَاتُ. 4255- وَعَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّ أَنْ يَنْهَضَ إلَى عَدُوِّهِ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

(2/443)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ) قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَكَوْنُهُ - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّ الْخُرُوجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لا يَسْتَلْزِمُ الْمُوَاظَبَةَ عَلَيْهِ لِقِيَامِ مَانِعٍ مِنْهُ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ لِحَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ السَّبْتِ قَالَ الشَّارِح: وَحَدِيثُ صَخْرٍ الْمَذْكُورُ فِيهِ التَّبْكِيرِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِيَوْمٍ مَخْصُوصٍ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي سَفَرِ جِهَادٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ فِي الْخُرُوجِ إلَى عَمَلٍ مِنْ الأعْمَالِ وَلَوْ فِي الْحَضَرِ. بَابُ تَرْتِيبِ الصُّفُوفِ وَجَعْلِ سِيمَاهُ وَشِعَارٍ يُعْرَفُ وَكَرَاهَةِ رَفْعِ الصَّوْتِ 4256- عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: صَفَفْنَا يَوْمَ بَدْرٍ، فَبَدَرَتْ مِنَّا بَادِرَةٌ أَمَامَ الصَّفِّ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «مَعِي مَعِي» . 4257- وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَسْتَحِبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُقَاتِلَ تَحْتَ رَايَةِ قَوْمِهِ. رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. 4258- وَعَنْ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ عَمَّنْ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إنْ بَيَّتَكُمْ الْعَدُوُّ فَقُولُوا: حم لا يُنْصَرُونَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 4259- وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ الْعَدُوَّ غَدًا فَإِنَّ شِعَارَكُمْ حم لا يُنْصَرُونَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4260- وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ أَبِي بَكْرٍ - زَمَنَ ... رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَكَانَ شِعَارُنَا: أَمِتْ أَمِتْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4261- وَعَنْ الْحَسَنِ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يَكْرَهُونَ الصَّوْتَ عِنْدَ الْقِتَالِ. 4262- وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِ ذَلِكَ. رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «حم لا يُنْصَرُونَ» هَذَا اللَّفْظُ فِيهِ التَّفَاؤُلُ بِعَدَمِ انْتِصَارِ الْخَصْمِ مَعَ حُصُولِ الْغَرَضِ بِالشِّعَارِ وَهُوَ الْعَلامَةُ فِي الْحَرْبِ.

(2/444)


قَوْلُهُ: (أَمِتْ أَمِتْ) أَمْرٌ بِالْمَوْتِ، وَفِيهِ التَّفَاؤُلُ بِمَوْتِ الْخَصْمِ. وَفِي لَفْظٍ: (يَا مَنْصُورُ أَمِتْ أَمِتْ) . قَوْلُهُ: (يَكْرَهُونَ الصَّوْتَ عِنْدَ الْقِتَالِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ حَالَ الْقِتَالِ وَكَثْرَةَ اللَّغَطِ وَالصُّرَاخِ مَكْرُوهَةٌ، وَلَعَلَّ وَجْهَ كَرَاهَتِهِمْ لِذَلِكَ أَنَّ التَّصْوِيتَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ رُبَّمَا كَانَ مُشْعِرًا بِالْفَزَعِ وَالْفَشَلِ بِخِلافِ الصَّمْتِ فَإِنَّهُ دَلِيلُ الثَّبَاتِ وَرِبَاطِ الْجَأْشِ. بَابُ اسْتِحْبَابِ الْخُيَلاءِ فِي الْحَرْبِ 4263- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ مِنْ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ اللهُ، وَمِنْ الْغَيْرَةِ مَا يَبْغُضُ اللهُ، وَإِنَّ مِنْ الْخُيَلاءِ مَا يُحِبُّ اللهُ، وَمِنْهَا مَا يَبْغُضُ اللهُ فَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُحِبُّهَا اللهُ فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ وَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُبْغِضُ اللهُ فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ الرِّيبَةِ، وَالْخُيَلاءُ الَّتِي يُحِبُّ اللهُ فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الْقِتَالِ وَاخْتِيَالُهُ عِنْدَ الصَّدَقَةِ، وَالْخُيَلاءُ الَّتِي يُبْغِضُ اللهُ فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ فِي الْفَخْرِ وَالْبَغْيِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. قَوْلُهُ: «فَالْغَيْرَة فِي الرِّيبَةِ» نَحْوُ أَنْ يغار الرَّجُلُ عَلَى مَحَارِمِهِ إذَا رَأَى مِنْهُمْ فِعْلاً مُحَرَّمًا. وَأَمَّا الْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ الرِّيبَةِ فَنَحْوُ أَنْ يَغْتَارَ الرَّجُلُ عَلَى أُمِّهِ أَنْ يَنْكِحَهَا زَوْجُهَا وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَحَارِمِهِ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَبْغُضُهُ اللهُ تَعَالَى، لأنَّ مَا أَحَلَّهُ اللهُ تَعَالَى فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا الرِّضَا بِهِ، فَإِنْ لَمْ نَرْضَ بِهِ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ إيثَارِ حَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى مَا شَرَعَهُ اللهُ لَنَا. بَابُ الْكَفِّ وَقْتَ الإِغَارَةِ عَمَّنْ عِنْدَهُ شِعَارُ الإِسْلامِ 4264- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ يَغْزُ حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِن سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ، وَإِذَا لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ بَعْدَ مَا يُصْبِحُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ.

(2/445)


4265- وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ يُغِيرُ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ، وَكَانَ يَسْتَمِعُ الأذَانَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ وَإِلَّا أَغَارَ، وَسَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَى الْفِطْرَةِ» . ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إِلا اللهُ فَقَالَ: «خَرَجْتَ مِنْ النَّارِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4266- وَعَنْ عِصَامٍ الْمُزَنِيّ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا بَعَثَ السَّرِيَّةَ يَقُولُ: «إذَا رَأَيْتُمْ مَسْجِدًا أَوْ سَمِعْتُمْ مُنَادِيًا فَلا تَقْتُلُوا أَحَدًا» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا النَّسَائِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَإِذَا لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قِتَالِ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْحُكْمِ بِالدَّلِيلِ لِكَوْنِهِ - صلى الله عليه وسلم - كَفَّ عَنْ الْقِتَالِ بِمُجَرَّدِ سَمَاعِ الأذَانِ. وَفِيهِ الأخْذُ بِالأحْوَطِ فِي أَمْرِ الدِّمَاءِ لأنَّهُ كَفَّ عَنْهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ لا يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى الْحَقِيقَةِ. قَوْلُهُ: «خَرَجْتَ مِنْ النَّارِ» هُوَ نَحْوُ الأدِلَّةِ الْقَاضِيَةِ بِأَنَّ مَنْ قَالَ: لا إلَهَ إلا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهِيَ مُطْلَقَةٌ مقيدة بِعَدَمِ الْمَانِعِ جَمْعًا بَيْنَ الأدِلَّةِ. بَابُ جَوَازِ تَبْيِيتِ الْكُفَّارِ وَرَمْيِهِمْ بِالْمَنْجَنِيقِ وَإِنْ أَدَّى إلَى قَتْلِ ذَرَارِيِّهِمْ تَبَعًا 4267- عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُبَيَّتُونَ فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، ثُمَّ قَالَ: «هُمْ مِنْهُمْ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا النَّسَائِيّ. 4268- وَزَادَ أَبُو دَاوُد قَالَ الزُّهْرِيُّ: ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. 4269- وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ قَالَ: بَيَّتْنَا هَوَازِنَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَكَانَ أَمَّرَهُ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4270- وَعَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ

(2/446)


الطَّائِفِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ هَكَذَا مُرْسَلاً. بَابُ الْكَفِّ عَنْ قَصْدِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالرُّهْبَانِ وَالشَّيْخِ الْفَانِي بِالْقَتْلِ 4271- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: وُجِدَتْ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةٌ فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَنَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا النَّسَائِيّ. 4272- وَعَنْ رِيَاحِ بْنِ رَبِيعٍ: أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَمَرَّ رِيَاحٌ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ مِمَّا أَصَابَتْ الْمُقَدِّمَةُ، فَوَقَفُوا يَنْظُرُونَ إلَيْهَا - يَعْنِي وَهُمْ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ خَلْقِهَا - حَتَّى لَحِقَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَاحِلَتِهِ فَأَفْرَجُوا عَنْهَا، فَوَقَفَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ» . فَقَالَ لأحَدِهِمْ: «الْحَقْ خَالِدًا فَقُلْ لَهُ: لا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً وَلا عَسِيفًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4273- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللهِ وَبِاَللهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا، وَلا طِفْلاً صَغِيرًا، وَلا امْرَأَةً، وَلا تَغُلُّوا، وَضُمُّوا غَنَائِمَكُمْ وَأَصْلِحُوا وَأَحْسِنُوا إنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4274- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا بَعَثَ جُيُوشَهُ قَالَ: «اُخْرُجُوا بِاسْمِ اللهِ تَعَالَى، تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ مَنْ كَفَرَ بِاَللهِ، لا تَغْدِرُوا، وَلا تَغُلُّوا، وَلا تُمَثِّلُوا، وَلا تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ، وَلا أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ» . 4275- وَعَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ بَعَثَ إلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ بِخَيْبَرَ - نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. 4276- وَعَنْ الأسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَقْتُلُوا الذُّرِّيَّةَ فِي الْحَرْبِ» . فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَوَلَيْسَ هُمْ أَوْلادَ الْمُشْرِكِينَ؟ ، قَالَ: «أَوَلَيْسَ خِيَارُكُمْ أَوْلادَ الْمُشْرِكِينَ» . رَوَاهُنَّ أَحْمَدُ.

(2/447)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «وَلا أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ قَتْلُ مَنْ كَانَ مُتَخَلِّيًا لِلْعِبَادَةِ مِنْ الْكُفَّارِ كَالرُّهْبَانِ لإِعْرَاضِهِ عَنْ ضَرِّ الْمُسْلِمِينَ، وَيُقَاسُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ كَانَ مُقْعَدًا أَوْ أَعْمَى أَوْ نَحْوَهُمَا مِمَّنْ كَانَ لا يُرْجَى نَفْعُهُ وَلا ضَرُّهُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَاب الْكَفّ عَنْ الْمُثْلَةِ وَالتَّحْرِيقِ وَقَطْعِ الشَّجَرِ وَهَدْمِ الْعُمْرَانِ إِلا لِحَاجَةٍ وَمَصْلَحَةٍ 4277- عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَرِيَّةٍ فَقَالَ: «سِيرُوا بِاسْمِ اللهِ وَفِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللهِ، وَلا تُمَثِّلُوا، وَلا تَغْدِرُوا، وَلا تَقْتُلُوا وَلَيَدًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. 4278- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَعْثٍ فَقَالَ: «إنْ وَجَدْتُمْ فُلانًا وَفُلانًا - لِرَجُلَيْنِ - فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ» . ثُمَّ قَالَ حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ: «إنِّي كُنْت أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحَرِّقُوا فُلانًا وَفُلانًا، وَإِنَّ النَّارَ لا يُعَذِّبُ بِهَا إلا اللهُ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيق - رضي الله عنه - بَعَثَ جُيُوشًا إلَى الشَّامِ، فَخَرَجَ يَمْشِي مَعَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَ يَزِيدُ أَمِيرَ رُبُعٍ مِنْ تِلْكَ الأرْبَاعِ، فَقَالَ: إنِّي مُوصِيكَ بِعَشْرِ خِلالٍ: لا تَقْتُلْ امْرَأَةً، وَلا صَبِيًّا، وَلا كَبِيرًا هَرِمًا، وَلا تَقْطَعْ شَجَرًا مُثْمِرًا، وَلا تُخَرِّبْ عَامِرًا، وَلا تَعْقِرَنَّ شَاةً، وَلا بَعِيرًا إلا لِمَأْكَلَةٍ، وَلا تَعْقِرَنَّ نَخْلاً وَلا تُحَرِّقْهُ وَلا تَغْلُلْ، وَلا تَجْبُنْ. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ عَنْهُ. 4279- وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَلا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ» ؟ قَالَ: فَانْطَلَقْت فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ، وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ، وَكَانَ ذُو الْخَلَصَةِ بَيْتًا فِي الْيَمَنِ لِخَثْعَمَ وَبَجِيلَةَ فِيهِ نُصُبٌ يُعْبَدُ يُقَالُ لَهُ كَعْبَةُ الْيَمَانِيَةِ، قَالَ: فَأَتَاهَا فَحَرَّقَهَا بِالنَّارِ وَكَسَرَهَا، ثُمَّ بَعَثَ رَجُلاً مِنْ أَحْمَسَ يُكَنَّى أَبَا أَرْطَاةَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يُبَشِّرُهُ

(2/448)


بِذَلِكَ، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْت حَتَّى تَرَكْتُهَا كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْرَبُ، قَالَ: فَبَرَّكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4280- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَطَعَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَحَرَّقَ. وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانٌ: وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا} الآيَةُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَحْمَدُ الشِّعْرَ. 4281- وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا أُبْنَى فَقَالَ: «ائْتِهَا صَبَاحًا ثُمَّ حَرِّقْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. وَفِي إسْنَادِه صَالِحِ بْنِ أَبِي الأخْضَرِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: هُوَ لَيِّنٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالأحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّحْرِيقِ فِي بِلادِ الْعَدُوِّ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: ذَهَبَ الْجُمْهُورِ إلَى جَوَازِ التَّحْرِيقِ وَالتَّخْرِيبِ فِي بِلادِ الْعَدُوِّ، وَكَرِهَهُ الأوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَاحْتَجُّوا بِوَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ. وَأَجَابَ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَصْدِ لِذَلِكَ بِخِلافِ مَا إذَا أَصَابُوا ذَلِكَ فِي حَالِ الْقِتَالِ وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. بَابُ تَحْرِيمِ الْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ إذَا لَمْ يَزِدْ الْعَدُوُّ عَلَى ضِعْفِ الْمُسْلِمِينَ إِلا الْمُتَحَيِّزَ إلَى فِئَةٍ وَإِنْ بَعُدَتْ 4282- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ» . قَالُوا: وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4283- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا نَزَلَتْ: {إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} ، فَكَتَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ لا يَفِرَّ عِشْرُونَ مِنْ مِائَتَيْنِ ثُمَّ نَزَلَتْ:

(2/449)


.. {الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ} الآيَةَ، فَكَتَبَ أَنْ لا تَفِرَّ مِائَةٌ مِنْ مِائَتَيْنِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 4284- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ فِي سَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةً، وَكُنْتُ فِيمَنْ حَاصَ، فَقُلْنَا: كَيْفَ نَصْنَعُ وَقَدْ فَرَرْنَا مِنْ الزَّحْفِ، وَبُؤْنَا بِالْغَضَبِ، ثُمَّ قُلْنَا لَوْ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ فَبِتْنَا، ثُمَّ قُلْنَا لَوْ عَرَضْنَا نُفُوسَنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَإِنْ كَانَتْ لَنَا تَوْبَةٌ، وَإِلا ذَهَبْنَا، فَأَتَيْنَاهُ قَبْلَ صَلاةِ الْغَدَاةِ، فَخَرَجَ فَقَالَ: «مَنْ الْفَرَّارُونَ» ؟ فَقُلْنَا: نَحْنُ، قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ الْعَكَّارُونَ، أَنَا فِئَتُكُمْ وَفِئَةُ الْمُسْلِمِينَ» . قَالَ فَأَتَيْنَاهُ حَتَّى قَبَّلْنَا يَدَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ: (حَاصُوا) أَيْ حَادُوا حَيْدَةً، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} وَيُرْوَى جَاضُوا جَيْضَةً بِالْجِيمِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَهُوَ بِمَعْنَى حَادُوا أيضًا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَالَ فِي الْبَحْرِ: مَسْأَلَةٌ: وَمَهْمَا حُرِّمَتْ الْهَزِيمَةُ فُسِّقَ الْمُنْهَزِمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللهِ} وَقَوْلِهِ: «الْكَبَائِرُ سَبْعٌ» {إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ} وَهُوَ أَنْ يَرَى الْقِتَالَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ أَصْلَحَ وَأَنْفَعَ فَيَنْتَقِلُ إلَيْهِ. {أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ} وَإِنْ بَعُدَتْ إذْ لَمْ تُفَصِّلْ الآيَةُ، وَلِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - لأهْلِ غَزْوَةِ مُؤْتَةَ: «أَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ» . بَابُ مَنْ خَشِيَ الأسْرَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَأْسِرَ وَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَ حَتَّى يُقْتَلَ 4285- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَشَرَةَ رَهْطٍ عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الأنْصَارِيَّ فَانْطَلَقُوا حَتَّى إذَا كَانُوا بِالْهَدْأَةِ - وَهُوَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ - ذُكِرُوا لِبَنِي لِحْيَانَ فَنَفَرُوا لَهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتَيْ رَجُلٍ كُلُّهُمْ رَامٍ فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُمْ فَلَمَّا رَآهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إلَى فَدْفَدٍ وَأَحَاطَ بِهِمْ الْقَوْمُ، فَقَالُوا لَهُمْ: انْزِلُوا وَأَعْطُوا بِأَيْدِيكُمْ وَلَكُمْ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ أَنْ لا نَقْتُلَ مِنْكُمْ أَحَدًا، قَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ: أَمَّا أَنَا

(2/450)


فَوَاَللَّهِ لا أَنْزِلُ الْيَوْمَ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللَّهُمَّ خَبِّرْ عَنَّا نَبِيَّكَ، فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةٍ، فَنَزَلَ إلَيْهِمْ ثَلاثَةُ رَهْطٍ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ مِنْهُمْ، خُبَيْبِ الأنْصَارِيُّ، وَابْنُ دَثِنَةَ وَرَجُلٌ آخَرُ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فَأَوْثَقُوهُمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَاَللَّهِ لا أَصْحَبُكُمْ إنَّ لِي فِي هَؤُلاءِ لأُسْوَةً - يُرِيدُ الْقَتْلَى - فَجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَأَبَى فَقَتَلُوهُ وَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ دَثِنَةَ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ - وَذَكَرَ قِصَّةَ خُبَيْبِ - إلَى أَنْ قَالَ: اسْتَجَابَ اللهُ لِعَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ يَوْمَ أُصِيبَ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ وَمَا أُصِيبُوا. مُخْتَصَرٌ لأحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمُدَافَعَةِ وَلا أَمْكَنَهُ الْهَرَبُ أَنْ يَسْتَأْسِرَ، وَهَكَذَا تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: بَابُ هَلْ يَسْتَأْسِرُ الرَّجُلُ وَمَنْ لَمْ يَسْتَأْسِرْ. بَاب الْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ 4286- عَنْ جَابِرٍ بن عَبْدِ اللهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ وَرَسُولَهُ» . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةُ: أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . قَالَ: فَأْذَنْ لِي فَأَقُولَ قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، قَالَ: فَأَتَاهُ فَقَالَ: إنَّ هَذَا - يَعْنِي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ عَنَّانَا وَسَأَلَنَا الصَّدَقَةَ، قَالَ: وَأَيْضًا وَاَللَّهِ قَالَ: فَإِنَّا قَدْ اتَّبَعْنَاهُ، فَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُهُ، قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُهُ حَتَّى اسْتَمْكَنَ مِنْهُ فَقَتَلَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4287- وَعَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ قَالَتْ: لَمْ أَسْمَعْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكَذِبِ مِمَّا تَقُولُ النَّاسُ، إِلا فِي الْحَرْبِ وَالإِصْلاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَحَدِيثِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ قَدْ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْكَذِبِ

(2/451)


فِي الْحَرْبِ وَكَذَلِكَ بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ بَابَ الْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الظَّاهِرُ إبَاحَةُ الْكَذِبِ فِي الأمُورِ الثَّلاثَةِ لَكِنَّ التَّعْرِيضَ أَوْلَى. قَالَ الْحَافِظُ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَذِبِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا لا يُسْقِطُ حَقًّا عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهَا أَوْ أَخْذِ مَا لَيْسَ لَهُ أَوْ لَهَا. بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمُبَارَزَةِ 4288- عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: تَقَدَّمَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَمَعَهُ ابْنُهُ وَأَخُوهُ فَنَادَى مَنْ يُبَارِزُ؟ فَانْتُدِبَ لَهُ شَبَابٌ مِنْ الأنْصَارِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ لا حَاجَةَ لَنَا فِيكُمْ إنَّا أَرَدْنَا بَنِي عَمِّنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قُمْ يَا حَمْزَةُ قُمْ يَا عَلِيُّ، قُمْ يَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ» . فَأَقْبَلَ حَمْزَةُ إلَى عُتْبَةُ، وَأَقْبَلْتُ إلَى شَيْبَةَ، وَاخْتَلَفَ بَيْنَ عُبَيْدَةَ وَالْوَلِيدِ ضَرْبَتَانِ، فَأَثْخَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا صَاحِبَهُ ثُمَّ مِلْنَا إلَى الْوَلِيدِ فَقَتَلْنَاهُ وَاحْتَمَلْنَا عُبَيْدَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4289- وَعَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو لِلْخُصُومَةِ بَيْنَ يَدَيْ الرَّحْمَنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ قَيْسٌ: فِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} قَالَ: هُمْ الَّذِينَ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ عَلِيٌّ وَحَمْزَةُ وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةُ. 4290- وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، وَفِي مُبَارَزَتِنَا يَوْمَ بَدْرٍ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} . رَوَاهُمَا وَالْبُخَارِيُّ. 4291- وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ قَالَ: بَارَزَ عَمِّي يَوْمَ خَيْبَرَ مَرْحَبٌ الْيَهُودِيُّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَمَعْنَاهُ لِمُسْلِمٍ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِي الأحَادِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا تَجُوزُ الْمُبَارَزَةُ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَشَرَطَ الأوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ إذْنَ الإمِام. بَابُ مَنْ أَحَبَّ الإِقَامَةَ بِمَوْضِعِ النَّصْرِ ثَلاثًا 4292- عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ إذَا ظَهَرَ عَلَى

(2/452)


قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلاثَ لَيَالٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4293- وَفِي لَفْظٍ لأحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ: بِعَرْصَتِهِمْ. 4294- وَفِي رِوَايَةٍ لأحْمَدَ: لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلاثًا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا تُشْرَعُ الإِقَامَةُ بِالْمَكَانِ الَّذِي ظَهَرَ بِهِ حِزْبُ الْحَقِّ عَلَى حِزْبِ الْبَاطِل ثَلاثَ لَيَالٍ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: حِكْمَةُ الإِقَامَةِ إِرَاحَةِ الظَّهْرِ وَالأنْفُسِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِإِظْهَارِ تَأْثِيرِ الْغَلَبَةِ وَتَنْفِيذِ الأحْكَامِ وَقِلَّةِ الِاحْتِفَالِ بِالْعَدُوِّ وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: مَنْ كَانَتْ فِيهِ قُوَّةٌ مِنْكُمْ فَلْيَرْجِعْ إلَيْنَا. قَالَ الْحَافِظُ: وَلا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّهُ إذَا كَانَ فِي أَمْنٍ مِنْ عَدُوٍّ طَارِقٍ. بَابُ أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لِلْغَانِمِينَ وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - 4295- عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلَى بَعِيرٍ مِنْ الْمَغْنَمِ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَخَذَ وَبَرَةً مِنْ جَنْبِ الْبَعِيرِ، ثُمَّ قَالَ: «وَلا يَحِلُّ لِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ مِثْلُ هَذَا إلا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِمَعْنَاهُ. 4296- وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِهِمْ فِي غَزْوَتِهِمْ إلَى بَعِيرٍ مِنْ الْمَقْسِمِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ إلَى الْبَعِيرِ مِنْ الْمَقْسِمِ فَتَنَاوَلَ وَبَرَةً بَيْنَ أُنْمُلَتَيْهِ، فَقَالَ: «إنَّ هَذَا مِنْ غَنَائِمِكُمْ، وَإِنَّهُ لَيْسَ لِي فِيهَا إِلا نَصِيبِي مَعَكُمْ إِلا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ فَأَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ وَأَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ وَأَصْغَرَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ. 4297- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ - فِي قِصَّةِ هَوَازِنَ - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَنَا مِنْ بَعِيرٍ فَأَخَذَ وَبَرَةً مِنْ سَنَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ لَيْسَ لِي مِنْ هَذَا الْفَيْءُ شَيْءٌ - وَلا هَذِهِ - إلا الْخُمُسَ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ فَأَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَلَمْ يَذْكُرُوا: ... «أَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ» .

(2/453)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وأحاديث الْبَابِ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَأْخُذُ الإِمَامُ مِنْ الْغَنِيمَةِ إلا الْخُمُسَ وَيَقْسِمُ الْبَاقِيَ مِنْهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَالْخُمُسُ الَّذِي يَأْخُذُهُ أَيْضًا لَيْسَ هُوَ لَهُ وَحْدَهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَسَبِ مَا فَصَّلَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} . بَابُ أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَخْمُوسٍ 428- عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عام يَوْمَ حُنَيْنٌ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ. قَالَ: فَرَأَيْت رَجُلاً مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلا رَجُلاً مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَدَرْت إلَيْهِ حَتَّى أَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ فَضَرَبْتُهُ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ وَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَرْسَلَنِي، فَلَحِقْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: مَا لِلنَّاسِ؟ فَقُلْت: أَمْرُ اللهِ، ثُمَّ إنَّ النَّاسَ رَجَعُوا، وَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ» . قَالَ: فَقُمْت فَقُلْت: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَ: فَقُمْت فَقُلْت: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمَّ جَلَسْت، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الثَّالِثَةَ، فَقُمْت، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا لَك يَا أَبَا قَتَادَةَ» ؟ فَقَصَصْت عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللهِ، سَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنْ حَقِّهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: لاهَا اللهِ إذًا لا يَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللهِ وَعَنْ رَسُولِهِ فَيُعْطِيَكَ سَلَبَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «صَدَقَ فَأَعْطِهِ» . إيَّاهُ فَأَعْطَانِي، قَالَ: فَبِعْت الدِّرْعَ فَابْتَعْت بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلِمَةَ، فَإِنَّهُ لأوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الإِسْلامِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4299- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَوْمَ حُنَيْنٌ: «مَنْ قَتَلَ رَجُلاً فَلَهُ سَلَبُهُ» . فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ عِشْرِينَ رَجُلاً وَأَخَذَ أَسْلابَهُمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4300- وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ تَفَرَّدَ بِدَمِ رَجُلٍ فَقَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبُهُ» . قَالَ: فَجَاءَ أَبُو طَلْحَةَ بِسَلْبِ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ رَجُلاً. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

(2/454)


4301- وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ؟ قَالَ: بَلَى. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 4302- وَعَنْ عَوْفٍ وَخَالِدٍ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يُخَمِّسْ السَّلَبَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4303- عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: تَلَ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ رَجُلاً مِنَ الْعَدُوِّ فَأَرَادَ سَلَبَهُ فَمَنَعَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَكَانَ وَالِيًا عَلَيْهِمْ فَأَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لِخَالِدٍ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُعْطِيَهُ سَلَبَهُ» . قَالَ: اسْتَكْثَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «ادْفَعْهُ إِلَيْهِ» . فَمَرَّ خَالِدٌ بِعَوْفٍ فَجَرَّ بِرِدَائِهِ ثُمَّ قَالَ: هَلْ أَنْجَزْتُ لَكَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتُغْضِبَ فَقَالَ: «لا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ لا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِى أُمَرَائِى إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتُرْعِىَ إِبِلاً أَوْ غَنَمًا فَرَعَاهَا؛ ثُمَّ تَحَيَّنَ سَقْيَهَا فَأَوْرَدَهَا حَوْضًا فَشَرَعَتْ فِيهِ فَشَرِبَتْ صَفْوَهُ وَتَرَكَتْ كَدَرَهُ، فَصَفْوُهُ لَكُمْ وَكَدَرُهُ عَلَيْهِمْ» . 4304- وَفِي رِوَايَةْ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فِى غَزْوَةِ مُؤْتَةَ وَرَافَقَنِي مَدَدِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ وَمَضَيْنَا فَلَقِينَا جُمُوعَ الرُّومِ وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ لَهُ أَشْقَرَ عَلَيْهِ سَرْجٌ مُذْهَبٌ وَسِلاحٌ مُذْهَبٌ فَجَعَلَ الرُّومِىُّ يُفْرِي بِالْمُسْلِمِينَ فَقَعَدَ لَهُ الْمَدَدِيُّ خَلْفَ صَخْرَةٍ فَمَرَّ بِهِ الرُّومِيُّ فَعَرْقَبَ فَرَسَهُ فَخَرَّ وَعَلأهُ فَقَتَلَهُ وَحَازَ فَرَسَهُ وَسِلاحَهُ فَلَمَّا فَتَحَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُسْلِمِينَ بَعَثَ إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَأَخَذَ السَّلَبِ قَالَ عَوْفٌ: فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا خَالِدُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّى اسْتَكْثَرْتُهُ. قُلْتُ: لَتَرُدَّنَّهُ إِلَيْهِ أَوْ لأُعَرِّفَنَّكَهَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَبَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ قَالَ عَوْفٌ فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قِصَّةَ الْمَدَدِيِّ وَمَا فَعَلَ خَالِدٌ. وضكر بقية الحديث بمعنى ما تقدم. رواه أحمد وأبو داود. وفيه حجة لمن جعا تاسلب االمسكثر إلى الإمام وأن الدابة من السلب.

(2/455)


4305- وَعَنْ سَلَمَةُ بْنُ الأكْوَعِ قَالَ غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هَوَازِنَ فَبَيْنَا نَحْنُ نَتَضَحَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ فَأَنَاخَهُ ثُمَّ انْتَزَعَ طَلَقًا مِنْ حَقَبِهِ فَقَيَّدَ بِهِ الْجَمَلَ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَتَغَدَّى مَعَ الْقَوْمِ وَجَعَلَ يَنْظُرُ وَفِينَا ضَعْفَةٌ وَرِقَّةٌ فِى الظَّهْرِ وَبَعْضُنَا مُشَاةٌ إِذْ خَرَجَ يَشْتَدُّ فَأَتَى جَمَلَهُ فَأَطْلَقَ قَيْدَهُ ثُمَّ أَنَاخَهُ وَقَعَدَ عَلَيْهِ فَأَثَارَهُ فَاشْتَدَّ بِهِ الْجَمَلُ فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ عَلَى نَاقَةٍ وَرْقَاءَ. قَالَ سَلَمَةُ: وَخَرَجْتُ أَشْتَدُّ فَكُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ النَّاقَةِ. ثُمَّ تَقَدَّمْتُ حَتَّى كُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ الْجَمَلِ ثُمَّ تَقَدَّمْتُ حَتَّى أَخَذْتُ بِخِطَامِ الْجَمَلِ فَأَنَخْتُهُ فَلَمَّا وَضَعَ رُكْبَتَهُ فِي الأرْضِ اخْتَرَطْتُ سَيْفِي فَضَرَبْتُ رَأْسَ الرَّجُلِ فَنَدَرَ ثُمَّ جِئْتُ بِالْجَمَلِ أَقُودُهُ عَلَيْهِ رَحْلُهُ وَسِلاحُهُ فَاسْتَقْبَلَنِى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالنَّاسُ مَعَهُ فَقَالَ: «مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ» . فَقَالُوا: ابْنُ الأكْوَعِ. قَالَ: «لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ» . 4306- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ - يَوْمَ بَدْرٍ - فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَإِذَا أَنَا بِغُلامَيْنِ مِنَ الأنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأعْجَلُ مِنَّا. فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَهَا فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِى جَهْلٍ يَزُولُ فِي النَّاسِ، قُلْتُ: أَلا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي. قَالَ: فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللهُ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ: «أَيُّكُمَا قَتَلَهُ» . قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ. فَقَالَ: «هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا» . قَالا: لا. فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَالَ: «كِلاكُمَا قَتَلَهُ» . وقضى بسَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ. والرجلان مُعَاذَ ابْنَ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَمُعَاذَ ابْنَ عَفْرَاءَ. متفق عليه. 4307- وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: نَفَّلَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ بَدْرٍ سَيْفَ أَبِي جَهْلٍ كَانَ قَتَلَهُ. رواه أبو داود ولأحمد معناه.

(2/456)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَلَهُ سَلَبُهُ» السَّلَبُ هُوَ مَا يُوجَدُ مَعَ الْمُحَارِبِ مِنْ مَلْبُوسٍ وَغَيْرِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَعَنْ أَحْمَدَ: لا تَدْخُلُ الدَّابَّةُ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ يَخْتَصُّ بِأَدَاةِ الْحَرْبِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا إلَى أَنَّ الْقَاتِلَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ، سَوَاءٌ قَالَ أَمِيرُ الْجَيْشِ قَبْلَ ذَلِكَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ أَمْ لا. قوله: «لا تعطه يا خالد» . فيه دليل على أن للإمام أن يعطي السلب غير القاتل لأمر يعرض فيه مصلحة من تأديب أو غيره. قوله: «هل أنتم تاركون لي أمرائي» فيه الزجر عن معارضة الأمراء ومغاضبتهم والشماتة بهم لما تقدم من الأدلة على وجوب طاعتهم في غير معصية الله. قوله: (نفلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر سيف أبي جهل) قال الشارح: ولفظ أحمد الذي أشار إليه المصنف عن أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود أنه وجد أبا جهل يوم بدر وقد ضربت رجله وهو صريع يذب الناس عنه بسيف له فأخذه عبد الله بن مسعود فقتله به فنفله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبلبه. وعنده ابن إسحاق: فمر عبد الله بن مسعود بأبي جهل لعنه الله فوجده بآخر رمق. قوله: (فنظر في السيفين) قال المهلب: نظره - صلى الله عليه وسلم - في السيفين واستلاله لهما ليرى ما بلغ الدم من سيفيهما ومقدار عمل دخولهما في جسم المقتول ليحكم بالسلي لمن كان في ذلك أبلغ وإنما قال: «كلاكما قتله» لتطيب نفس الآخر. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَاب التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ وَمَنْ قَاتَلَ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ 4308- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ بَدْرٍ -: «مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا فَلَهُ مِنْ النَّفَلِ كَذَا وَكَذَا» . قَالَ فَتَقَدَّمَ الْفِتْيَانُ وَلَزِمَ الْمَشْيَخَةُ الرَّايَاتِ فَلَمْ يَبْرَحُوا بِهَا، فَلَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَالَ الْمَشْيَخَةُ: كُنَّا رِدْءًا لَكُمْ لَوْ انْهَزَمْتُمْ لَفِئْتُمْ إلَيْنَا فَلا تَذْهَبُوا بِالْمَغْنَمِ وَنَبْقَى فَأَبَى الْفِتْيَانُ وَقَالُوا: جَعَلَهُ ... رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَنَا، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ

(2/457)


الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} - إلَى قَوْلِهِ -: {كَمَا أَخْرَجَكَ رُبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} . يَقُولُ فَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُمْ، فَكَذَلِكَ هَذَا أَيْضًا، فَأَطِيعُونِي فَإِنِّي أَعْلَمُ بِعَاقِبَةِ هَذَا مِنْكُمْ فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالسَّوَاءِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4309- وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجْت مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَشَهِدْتُ مَعَهُ بَدْرًا فَالْتَقَى النَّاسُ فَهَزَمَ اللهُ تعالى الْعَدُوَّ، فَانْطَلَقَتْ طَائِفَةٌ فِي أَثَرِهِمْ يَهْزِمُونَ وَيَقْتُلُونَ، وَأَكَبَّتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْغَنَائِمِ يَحْوُونَهُ وَيَجْمَعُونَهُ، وَأَحْدَقَتْ طَائِفَةٌ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لا يُصِيبُ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً حَتَّى إذَا كَانَ اللَّيْلُ وَفَاءَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ، قَالَ الَّذِينَ جَمَعُوا الْغَنَائِمَ، نَحْنُ حَوَيْنَاهَا وَجَمَعْنَاهَا، فَلَيْسَ لأحَدٍ فِيهَا نَصِيبٌ، وَقَالَ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ: لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهَا مِنَّا نَحْنُ نَفَيْنَا عَنْهَا الْعَدُوَّ وَهَزَمْنَاهُمْ، وَقَالَ الَّذِينَ أَحْدَقُوا بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: لَسْتُمْ بِأَحَقَّ مِنَّا نَحْنُ أَحْدَقْنَا بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَخِفْنَا أَنْ يُصِيبَ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً فَاشْتَغَلْنَا بِهِ، فَنَزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} . فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى فُوَاقٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. 4310- وَفِي لَفْظٍ مُخْتَصَرٍ: فِينَا أَصْحَابَ بَدْرٍ نَزَلَتْ حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفَلِ وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلاقُنَا فَنَزَعَهُ اللهُ مِنْ أَيْدِينَا فَجَعَلَهُ إِلَى رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَسَمَهُ فِينَا عَلَى بَوَاءٍ يَقُولُ عَلَى السَّوَاءِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4311- وَعَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللهِ الرَّجُلُ يَكُونُ حَامِيَةَ الْقَوْمِ، أَيَكُونُ سَهْمُهُ وَسَهْمُ غَيْرِهِ سَوَاءً؟ قَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ ابْنَ أُمِّ سَعْدٍ، وَهَلْ تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ إِلا بِضُعَفَائِكُمْ» ؟ رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4312- وَعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: رَأَى سَعْدٌ أَنَّ لَهُ فَضْلاً عَلَى مَنْ دُونَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «هَلْ تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ إِلا بِضُعَفَائِكُمْ» ؟ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. 4313- وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «أَبْغُونِي ضُعَفَاءَكُمْ فَإِنَّكُمْ إنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

(2/458)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالسَّوَاءِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا إذَا انْفَرَدَتْ عَنْ الْجَيْشِ قِطْعَةٌ فَغَنِمَتْ شَيْئًا كَانَتْ الْغَنِيمَةُ لِلْجَمِيعِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْجَيْشَ الْقَاعِدَ فِي بِلادِ الإِسْلامِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَإِنَّمَا قَالُوا: هُوَ بِمُشَارَكَةِ الْجَيْشِ لَهُمْ إذَا كَانُوا قَرِيبًا مِنْهُمْ يَلْحَقُهُمْ عَوْنُهُ وَغَوْثُهُ لَوْ احْتَاجُوا. انْتَهَى ملخصًا. قَوْلُهُ: (فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى فُوَاقٍ) أَيْ قَسَمَهَا بِسُرْعَةٍ فِي قَدْرِ مَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ. قَوْلُهُ: «هَلْ تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ إِلا بِضُعَفَائِكُمْ» قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّ الضُّعَفَاءَ أَشَدُّ إخْلاصًا فِي الدُّعَاءِ وَأَكْثَرُ خُشُوعًا فِي الْعِبَادَةِ لِخَلاءِ قُلُوبِهِمْ عَنْ التَّعَلُّقِ بِزُخْرُفِ الدُّنْيَا. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: أَرَادَ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ حَضَّ سَعْدٍ عَلَى التَّوَاضُعِ وَنَفْيِ الزَّهْوِ عَلَى غَيْرِهِ. بَابُ جَوَازِ تَنْفِيلِ بَعْضِ الْجَيْشِ لِبَأْسِهِ وَغِنَائِهِ أَوْ تَحَمُّلِهِ مَكْرُوهًا دُونَهُمْ 4314- عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ - وَذَكَرَ قِصَّةَ إغَارَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفَزَارِيِّ عَلَى سَرْحِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَاسْتِنْقَاذَهُ مِنْهُ- قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كَانَ خَيْرَ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ، وَخَيْرَ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ» . قَالَ: ثُمَّ أَعْطَانِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَهْمَ الْفَارِسِ وَسَهْمَ الرَّاجِلِ فَجَعَلَهُمَا لِي جَمِيعًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِم وَأَبُو دَاوُد. 4315- وَعَنْ سَعْدِ بْن أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: جِئْت إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ بَدْرٍ - بِسَيْفٍ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ اللهَ قَدْ شَفَى صَدْرِي الْيَوْمَ مِنْ الْعَدُوِّ، فَهَبْ لِي هَذَا السَّيْفَ، فَقَالَ: «إنَّ هَذَا السَّيْفَ لَيْسَ لِي وَلا لَكَ» . فَذَهَبْتُ وَأَنَا أَقُولُ: يُعْطَاهُ الْيَوْمَ مَنْ لَمْ يُبْلِ بَلائِي، فَبَيْنَا أَنَا إذْ جَاءَنِي رَسُولُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَجِبْ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ نَزَلَ فِي شَيْءٌ بِكَلامِي فَجِئْتُ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّكَ سَأَلْتَنِي هَذَا السَّيْفَ وَلَيْسَ هُوَ لِي وَلا لَكَ، وَإِنَّ اللهَ قَدْ جَعَلَهُ لِي فَهُوَ لَكَ، ثُمَّ قَرَأَ: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} » . إلَى آخِرِ الآيَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد.

(2/459)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَعْطَانِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -) إلَى آخْره فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ بَعْضَ الْجَيْشِ بِبَعْضِ الْغَنِيمَةِ إذَا كَانَ لَهُ مِنْ الْعِنَايَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ مَا لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ. بَابُ تَنْفِيل سَرِيَّةِ الْجَيْشِ عَلَيْهِ وَاشْتِرَاكهمَا فِي الْغَنَائِم 4316- عَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَفَّلَ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي بَدْأَتِهِ، وَنَفَّلَ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي رَجْعَتِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4317- وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُنَفِّلُ فِي الْبَدْأَةِ الرُّبُعَ، وَفِي الرَّجْعَةِ الثُّلُثَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ. 4318- وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ إذَا أَغَارَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ نَفَّلَ الرُّبُعَ، وَإِذَا أَقْبَلَ رَاجِعًا وَكُلُّ النَّاسِ نَفَّلَ الثُّلُثَ، وَكَانَ يَكْرَهُ الأَنْفَالَ وَيَقُولُ: «لِيَرُدَّ قَوِيُّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ضَعِيفِهِمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4319- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنْ السَّرَايَا لأنْفُسِهِمْ خَاصَّةً سِوَى قَسْمِ عَامَّةِ الْجَيْشِ وَالْخُمُسُ فِي ذَلِكَ كُلُّهُ وَاجِبٌ. 4320- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ سَرِيَّةً قِبَلَ نَجْدٍ، فَخَرَجْت فِيهَا فَبَلَغَتْ سُهْمَانُنَا اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنَفَّلَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعِيرًا بَعِيرًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 4321- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَرِيَّةً قِبَلَ نَجْدٍ فَأَصَبْنَا نَعَمًا كَثِيرًا، فَنَفَّلَنَا أَمِيرُنَا بَعِيرًا بَعِيرًا لِكُلِّ إنْسَانٍ، ثُمَّ قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَسَمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَنَا غَنِيمَتَنَا، فَأَصَابَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا بَعْدَ الْخُمُسِ وَمَا حَاسَبَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِاَلَّذِي أَعْطَانَا صَاحِبُنَا، وَلا عَابَ عَلَيْهِ مَا صَنَعَ، فَكَانَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنَّا ثَلاثَةَ عَشَرَ بَعِيرًا بِنَفَلِهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4322- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ

(2/460)


أَقْصَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يَرُدُّ مُشِدُّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ، وَمُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4323- وَقَالَ أَحْمَدُ: - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ - قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «السَّرِيَّةُ تَرُدُّ عَلَى الْعَسْكَرِ، وَالْعَسْكَرُ يَرُدُّ عَلَى السَّرِيَّةِ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَالْخُمُسُ فِي ذَلِكَ كُلُّهُ وَاجِبٌ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَخْمِيسُ النَّفْل. قَالَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: إنْ أَرَادَ الإِمَامُ تَفْضِيلَ بَعْضِ الْجَيْشِ لِمَعْنًى فِيهِ، فَذَلِكَ مِنْ الْخُمُسِ، وَإِنْ انْفَرَدَتْ قِطْعَةٌ فَأَرَادَ أَنْ يُنَفِّلَهَا مِمَّا غَنِمَتْ فَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْخُمُسِ بِشَرْطِ أَنْ لا يَزِيدَ عَلَى الثُّلُثِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا الشَّرْطُ قَالَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لا يَتَحَدَّدُ. بَابُ بَيَانِ الصَّفِيِّ الَّذِي كَانَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَسَهْمُهُ مَعَ غَيْبَتِه 4324- عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: كُنَّا بِالْمِرْبَدِ إذْ دَخَلَ رَجُلٌ مَعَهُ قِطْعَةُ أَدِيمٍ، فَقَرَأْنَاهَا فَإِذَا فِيهَا: (مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى بَنِي زُهَيْرِ بْنِ قَيْسٍ: إنَّكُمْ إنْ شَهِدْتُمْ أَنْ لا إلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَأَقَمْتُمْ ... الصَّلاةَ، وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ، وَأَدَّيْتُمْ الْخُمُسَ مِنْ الْمَغْنَمِ، وَسَهْمَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَسَهْمَ الصَّفِيِّ، أَنْتُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَقُلْنَا: مَنْ كَتَبَ لَكَ هَذَا؟ قَالَ: رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 4325- وَعَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَهْمٌ يُدْعَى الصَّفِيَّ إنْ شَاءَ عَبْدًا، وَإِنْ شَاءَ أَمَةً، وَإِنْ شَاءَ فَرَسًا يَخْتَارُهُ قَبْلَ الْخُمُسِ. 4326- وَعَنْ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ: سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ سَهْمِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالصَّفِيِّ فَقَالَ: كَانَ يُضْرَبُ لَهُ سَهْمٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ، وَالصَّفِيُّ يُؤْخَذُ لَهُ رَأْسٌ مِنْ الْخُمُسِ، قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ. رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَهُمَا مُرْسَلانِ. 4327- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ صَفِيَّةُ مِنْ الصَّفِيِّ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4328- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَنَفَّلَ سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ يَوْمَ بَدْرٍ

(2/461)


وَهُوَ الَّذِي رَأَى فِيهِ الرُّؤْيَا يَوْمَ أُحُدٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالأحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلإِمَامِ أَنْ يَخْتَصَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ بِشَيْءٍ لا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ (الصَّفِيُّ) ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْخِلافَ فِي ذَلِكَ فِي بَابِ أن أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لِلْغَانِمِينَ. قال: وقد ذهب إلى أن الإمام يستحق الصفي العترة، وخالفهم. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَنْ يُرْضَخُ لَهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ 4329- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَغْزُو بِالنِّسَاءِ، فَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى، وَيُحْذَيْنَ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَأَمَّا بِسَهْمٍ فَلَمْ يَضْرِبْ لَهُنَّ. 4330- وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ كَتَبَ إلَى نَجْدَةَ الْحَرُورِيِّ سَأَلْت عَنْ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ هَلْ كَانَ لَهُمَا سَهْمٌ مَعْلُومٌ إذَا حَضَرَا النَّاسَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا سَهْمٌ مَعْلُومٌ، إِلا أَنْ يُحْذَيَا مِنْ غَنَائِمِ الْقَوْمِ. رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4331- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعْطِي الْمَرْأَةَ وَالْمَمْلُوكَ مِنْ الْغَنَائِمِ دُونَ مَا يُصِيبُ الْجَيْشُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4332- وَعَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ: شَهِدَتْ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي، فَكَلَّمُوا فِي رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَمَرَنِي فَقُلِّدْتُ سَيْفًا فَإِذَا أَنَا أَجُرُّهُ، فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ، فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4333- وَعَنْ حَشْرَجِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ أَبِيهِ أَنَّهَا خَرَجَتْ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - غَزْوَةَ خَيْبَرَ سَادِسَ سِتِّ نِسْوَةٍ، فَبَلَغَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبَعَثَ إلَيْنَا فَجِئْنَا فَرَأَيْنَا فِيهِ الْغَضَبَ، فَقَالَ: «مَعَ مَنْ خَرَجْتُنَّ، وَبِإِذْنِ مَنْ خَرَجْتُنَّ» ؟ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ خَرَجْنَا نَغْزِلُ الشَّعْرَ، وَنُعِينُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَعَنَا دَوَاءٌ لِلْجَرْحَى، وَنُنَاوِلُ السِّهَامَ، وَنَسْقِي السَّوِيقَ، فَقَالَ: «قُمْنَ فَانْصَرِفْنَ» . حَتَّى إذَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ خَيْبَرَ أَسْهَمَ لَنَا كَمَا أَسْهَمَ لِلرِّجَالِ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهَا: يَا جَدَّةُ وَمَا كَانَ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: تَمْرًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد.

(2/462)


4334- وَعَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَسْهَمَ لِقَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ قَاتَلُوا مَعَهُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ. 4335- وَعَنْ الأوْزَاعِيِّ قَالَ: أَسْهَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِلصِّبْيَانِ بِخَيْبَرَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَيُحْمَلُ الإِسْهَامُ فِيهِ وَفِيمَا قَبْلَهُ عَلَى الرَّضْخِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ يُسْهَمُ لِلنِّسَاءِ إذَا حَضَرْنَ؟ فَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: إنَّهُ لا يُسْهَمُ لَهُنَّ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ الشَّارِح: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لا يُسْهَمُ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَبِيدِ وَالذِّمِّيِّينَ، وَمَا وَرَدَ مِنْ الأحَادِيثِ فَيَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى الرَّضْخِ وَهُوَ الْعَطِيَّةُ الْقَلِيلَةُ جَمْعًا بَيْنَ الأحَادِيثِ. انْتَهَى ملخصًا. بَابُ الإِسْهَامِ لِلْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ 4336- عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَسْهَمَ لِلرَّجُلِ وَلِفَرَسِهِ ثَلاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لَهُ وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4337- وَفِي لَفْظٍ: أَسْهَمَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّجُلِ سَهْمًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4338- وَفِي لَفْظٍ: أَسْهَمَ يَوْمَ حُنَيْنٌ لِلْفَارِسِ ثَلاثَةَ أَسْهُمٍ لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّجُلِ سَهْمٌ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. 4339- وَعَنْ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَعْطَى الزُّبَيْرَ سَهْمًا وَأُمَّهُ سَهْمًا وَفَرَسَهُ سَهْمَيْنِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4340- وَفِي لَفْظٍ قَالَ: ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ خَيْبَرَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ سَهْمًا لِلزُّبَيْرِ وَسَهْمًا لِذِي الْقُرْبَى لِصَفِيَّةَ أُمِّ الزُّبَيْرِ وَسَهْمَيْنِ لِلْفَرَسِ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 4341- عَنْ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَمَعَنَا فَرَسٌ، فَأَعْطَى كُلَّ إنْسَانٍ مِنَّا سَهْمًا، وَأَعْطَى الْفَرَسَ سَهْمَيْنِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَاسْمُ هَذَا الصَّحَابِيِّ عَمْرُو بْنُ مُحَصِّنٍ.

(2/463)


4342- وَعَنْ أَبِي رُهْمٍ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَا وَأَخِي وَمَعَنَا فَرَسَانِ أَعْطَانَا سِتَّةَ أَسْهُمٍ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ لِفَرَسَيْنَا وَسَهْمَيْنِ لَنَا. 4343- وَعَنْ أَبِي كَبْشَةَ الأنْمَارِيِّ قَالَ: لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ كَانَ الزُّبَيْرُ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُسْرَى، وَكَانَ الْمِقْدَادُ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُمْنَى، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ وَهَدَأَ النَّاسُ جَاءَا بِفَرَسَيْهِمَا، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ الْغُبَارَ عَنْهُمَا وَقَالَ: «إنِّي قد جَعَلْتُ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلْفَارِسِ سَهْمًا، فَمَنْ نَقَصَهُمَا نَقَصَهُ اللهُ» . رَوَاهُمَا الدَّارَقُطْنِيّ. 4344- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَسَمَ لِمِائَتَيْ فَرَسٍ بِخَيْبَرَ سَهْمَيْنِ سَهْمَيْنِ. 4345- وَعَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ قَالَ: لا يُخْتَلَفُ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لِلْفَارِسِ ثَلاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ» . رَوَاهُمَا الدَّارَقُطْنِيّ. 4346- وَعَنْ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ الأنْصَارِيِّ قَالَ: قُسِمَتْ خَيْبَرُ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَكَانَ الْجَيْشُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فِيهِمْ ثَلاثُمِائَةِ فَارِسٍ، فَأَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ، وَالرَّاجِلَ سَهْمًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَذَكَرَ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ أَصَحُّ. قَالَ: وَأَتَى الْوَهْمُ فِي حَدِيثِ مُجَمِّعٍ أَنَّهُ قَالَ ثَلاثُمِائَةِ فَارِسٍ إنَّمَا كَانُوا مِائَتَيْ فَارِسٍ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيمَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ بِفَرَسَيْنِ فَصَاعِدًا هَلْ يُسْهَمُ لِكُلِّ فَرَسٍ أَمْ لِفَرَسٍ وَاحِدَةٍ؟ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُ يُسْهَمُ لأكْثَرِ مِنْ فَرَسَيْنِ إِلا مَا رُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ الإِسْهَامِ لِمَنْ غَيَّبَهُ الأمِيرُ فِي مَصْلَحَةٍ 4347- عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ - يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ - فَقَالَ: «إنَّ عُثْمَانَ انْطَلَقَ فِي حَاجَةِ اللهِ وَحَاجَةِ رَسُولِهِ، وَأَنَا أُبَايِعُ لَهُ» . فَضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِسَهْمٍ وَلَمْ يَضْرِبْ لأحَدٍ غَابَ غَيْرَهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4348- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا تَغَيَّبَ عُثْمَانُ عَنْ بَدْرٍ - فَإِنَّهُ كَانَ تَحْتَهُ

(2/464)


بِنْتُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَتْ مَرِيضَةً - فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ وَسَهْمَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَوْلُهُ: «وَأَنَا أُبَايِعُ لَهُ» الظاهر أن هذه المبايعة كانت يوم الحديبية حين بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل مكة. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَكَانَتْ مَرِيضَةً) أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ خَلَّفَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عُثْمَانَ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ عَلَى رُقَيَّةَ فِي مَرَضِهَا لَمَّا خَرَجَ إلَى بَدْرٍ، فَمَاتَتْ رُقَيَّةُ حِينَ وَصَلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بِالْبِشَارَةِ. بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي الإِسْهَامِ لِتُجَّارِ الْعَسْكَرِ وَأُجَرَائِهِمْ 4349- عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلاً سَأَلَ أَبِي عَنْ الرَّجُلِ يَغْزُو وَيَشْتَرِي وَيَبِيعُ وَيَتَّجِرُ فِي غَزْوِهِ، فَقَالَ لَهُ: إنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِتَبُوكَ نَشْتَرِي وَنَبِيعُ وَهُوَ يَرَانَا وَلا يَنْهَانَا. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. 4350- وَعَنْ يَعْلَى بْنِ مُنْيَةَ قَالَ: أَذَنَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْغَزْوِ وَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ لَيْسَ لِي خَادِمٌ، فَالْتَمَسْتُ أَجِيرًا يَكْفِينِي، وَأُجْرِي لَهُ سَهْمَهُ، فَوَجَدْتُ رَجُلاً، فَلَمَّا دَنَا الرَّحِيلُ أَتَانِي، فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا السُّهْمَانُ وَمَا يَبْلُغُ سَهْمِي فَسَمِّ لِي شَيْئًا كَانَ السَّهْمُ أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَسَمَّيْتُ لَهُ ثَلاثَةَ دَنَانِيرَ، فَلَمَّا حَضَرَتْ غَنِيمَةٌ، أَرَدْتُ أَنْ أُجْرِيَ لَهُ سَهْمَهُ، فَذَكَرْتُ الدَّنَانِيرَ فَجِئْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْتُ أَمْرَهُ، فَقَالَ: «مَا أَجِدُ لَهُ فِي غَزْوَتِهِ هَذِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ إِلا دَنَانِيرَهُ الَّتِي سَمَّى» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4351- وَقَدْ صَحَّ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ الأكْوَعِ كَانَ أَجِيرًا لِطَلْحَةَ حِينَ أَدْرَكَه عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُيَيْنَةَ لَمَّا أَغَارَ عَلَى سَرْحِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَهْمَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لأحْمَدَ وَمُسْلِمٍ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ. وَيُحْمَلُ هَذَا عَلَى أَجِيرٍ يَقْصِدُ مَعَ الْخِدْمَةِ الْجِهَادَ، وَاَلَّذِي قَبْلَهُ عَلَى مَنْ لا يَقْصِدُهُ أَصْلًا جَمْعًا بَيْنَهُمَا.

(2/465)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (يَعْلَى بْنِ مُنْيَةَ) هُوَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ الْمَشْهُورُ وَمُنْيَةُ أُمُّهُ. وَقَدْ يُنْسَبُ تَارَةً إلَيْهَا كَمَا وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمَدَدِ يَلْحَقُ بَعْدَ تَقَضِّي الْحَرْبِ 4352- عَنْ أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه - قَالَ: بَلَغَنَا مَخْرَجُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ فَخَرَجْنَا، مُهَاجِرِينَ إلَيْهِ أَنَا وَأَخَوَانِ لِي، أَحَدُهُمَا أَبُو بُرَيْدَةَ، وَالآخَرُ أَبُو رُهْمٍ، إمَّا قَالَ فِي بِضْعَةٍ، وَإِمَّا قَالَ فِي ثَلاثَةٍ وَخَمْسِينَ، أَوْ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلاً مِنْ قَوْمِي قَالَ: فَرَكِبْنَا سَفِينَةً فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ، فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابَهُ عِنْدَهُ، فَقَالَ جَعْفَرٌ: إنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَنَا هَا هُنَا وَأَمَرَنَا بِالإِقَامَةِ، قَالَ فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا فَوَافَقْنَا ... رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ فَأَسْهَمَ لَنَا، أَوْ قَالَ: أَعْطَانَا مِنْهَا وَمَا قَسَمَ لأحَدٍ غَابَ عَنْ فَتْحِ خَيْبَرَ مِنْهَا شَيْئًا إِلا لِمَنْ شَهِدَ مَعَهُ إِلا لأصْحَابِ سَفِينَتِنَا مَعَ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ قَسَمَ لهم مَعَهُمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4353- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّهُ حَدَّثَ سَعِيدَ بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ أَبَانَ بْنَ سَعِيدِ بْن الْعَاصِ عَلَى سَرِيَّةٍ مِنْ الْمَدِينَةِ قِبَلَ نَجْدٍ، فَقَدِمَ أَبَانُ بْنُ سَعِيدٍ وَأَصْحَابُهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِخَيْبَرَ بَعْدَ أَنْ فَتَحَهَا وَأَنَّ حُزُمَ خَيْلِهِمْ لِيفٌ، فَقَالَ أَبَانُ: اقْسِمْ لَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ: لا تَقْسِمْ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ أَبَانُ: أَنْتَ بِهَا يَا وَبْرُ تَحَدَّرَ عَلَيْنَا مِنْ رَأْسِ ضَالٍّ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اجْلِسْ يَا أَبَانُ» . وَلَمْ يَقْسِمْ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَمَا قَسَمَ لأحَدٍ غَابَ عَنْ فَتْحِ خَيْبَرَ) إلَى آخره. فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلإِمَامِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْغَنِيمَةِ وَيُعْطِيَ بَعْضَ مَنْ حَضَرَ مِنْ الْمَدَدِ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أَعْطَى مَنْ قَدِمَ مَعَ جَعْفَرٍ وَلَمْ يُعْطِ غَيْرَهُمْ.

(2/466)


بَابُ مَا جَاءَ فِي إعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ 4354- عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ قَسَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - تِلْكَ الْغَنَائِمَ فِي قُرَيْشٍ، فَقَالَتْ الأنْصَارُ: إنَّ هَذَا لَهُوَ الْعَجَبُ، إنَّ سُيُوفَنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، وَإِنَّ غَنَائِمَنَا تُرَدُّ عَلَيْهِمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَمَعَهُمْ، فَقَالَ: «مَا الَّذِي بَلَغَنِي عَنْكُمْ» ؟ قَالُوا: هُوَ الَّذِي بَلَغَكَ - وَكَانُوا لا يَكْذِبُونَ- فَقَالَ: «أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَرْجِعَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا إلَى بُيُوتِهِمْ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللهِ إلَى ... بُيُوتِكُمْ» ؟ فَقَالُوا: بَلَى، فَقَالَ: «لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا، وَسَلَكَتْ الأنْصَارُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأنْصَارِ وَشِعْبَ الأنْصَارِ» . 4355- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: قَالَ نَاسٌ مِنْ الأنْصَارِ حِينَ أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مَا أَفَاءَ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ، فَطَفِقَ يُعْطِي رِجَالًا الْمِائَةَ مِنْ الإِبِلِ، فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللهُ لِرَسُولِ اللهِ يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَحُدِّثَ بِمَقَالَتِهِمْ فَجَمَعَهُمْ وَقَالَ: إنِّي أُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالأمْوَالِ، وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ إلَى رِحَالِكُمْ؟ فَوَاَللَّهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ رَضِينَا. 4356- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا آثَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أُنَاسًا فِي الْقِسْمَةِ، فَأَعْطَى الأقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ وَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ، قَالَ رَجُلٌ: وَاَللَّهِ إنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فِيهَا وَمَا أُرِيدَ فِيهَا وَجْهُ اللهِ، فَقُلْتُ: وَاَللَّهِ لأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْته، فَمَنْ يَعْدِلُ إذَا لَمْ يَعْدِلْ اللهُ وَرَسُولُهُ؟ ثُمَّ قَالَ: «رَحِمَ اللهُ مُوسَى فَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ. 4357- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بِمَالٍ أَوْ بِسَبْيٍ فَقَسَمَهُ، فَأَعْطَى قَوْمًا وَمَنَعَ آخَرِينَ، فَكَأَنَّهُمْ عَتَبُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: «إنِّي أُعْطِي قَوْمًا أَخَافُ ضَلَعَهُمْ وَجَزَعَهُمْ، وَأَكِلُ قَوْمًا إلَى مَا جَعَلَ اللهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْخَيْرِ وَالْغِنَى مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ» . فَقَالَ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حُمْرَ النَّعَمِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إعْطَاءَهُمْ كَانَ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ مِنْ الْخُمُسِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ

(2/467)


يَكُونَ نَفَلًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ التَّنْفِيلَ مِنْهَا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «رَحِمَ اللهُ مُوسَى» إلَى آخْره، فِيهِ الإِعْرَاضُ عَنْ الْجَاهِلِ وَالصَّفْحُ عَنْ الأذَى وَالتَّأَسِّي بِمَنْ مَضَى. وَفِي أَحَادِيثِ الْبَابِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلإِمَامِ أَنْ يُؤْثِرَ بِالْغَنَائِمِ أَوْ بِبَعْضِهَا مَنْ كَانَ مَائِلاً مِنْ أَتْبَاعِهِ إلَى الدُّنْيَا تَأْلِيفًا لَهُ وَاسْتِجْلابًا لِطَاعَتِهِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَجْنَادِهِ، قَوِيَّ الإِيمَانِ، مُؤْثِرًا لِلآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا. بَابُ حُكْمُ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ إذَا أَخَذَهَا الْكُفَّارُ ثُمَّ أُخِذَتْ مِنْهُمْ 4358- عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: أُسِرَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الأنْصَارِ وَأُصِيبَتْ الْعَضْبَاءُ فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي الْوَثَاقِ وَكَانَ الْقَوْمُ يُرِيحُونَ نَعَمَهُمْ بَيْنَ يَدَيْ بُيُوتِهِمْ، فَانْفَلَتَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنْ الْوَثَاقِ، فَأَتَتْ الإِبِلَ فَجَعَلَتْ إذَا دَنَتْ مِنْ الْبَعِيرِ رَغَا، فَتَتْرُكُهُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَى الْعَضْبَاءِ فَلَمْ تَرْغُ، قَالَ: وَهِيَ نَاقَةٌ مُنَوَّقَةٌ - وَفِي رِوَايَةٍ: مُدَرَّبَةٌ - فَقَعَدَتْ فِي عَجُزِهَا ثُمَّ زَجَرَتْهَا فَانْطَلَقَتْ، وَنُذِرُوا بِهَا فَأَعْجَزَتْهُمْ، قَالَ: وَنَذَرَتْ لِلَّهِ إنْ نَجَّاهَا اللهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَلَمَّا قَدِمَتْ الْمَدِينَةَ رَآهَا النَّاسُ، فَقَالُوا: الْعَضْبَاءُ نَاقَةُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: إنَّهَا نَذَرَتْ لِلَّهِ إنْ نَجَّاهَا اللهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرُوا ذَلِكَ، فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللهِ! بِئْسَمَا جَزَتْهَا نَذَرَتْ إنْ نَجَّاهَا اللهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا؟ لا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلا فِيمَا لا يَمْلِكُ الْعَبْدُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِم. 4359- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ ذَهَبَ فَرَسٌ لَهُ، فَأَخَذَهُ الْعَدُوُّ فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ، فَرُدَّ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، وَأَبَقَ عَبْدٌ لَهُ فَلَحِقَ بِأَرْضِ الرُّومِ، وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بَعْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. 4360- وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ غُلامًا لابْنِ عُمَرَ أَبَقَ إلَى الْعَدُوِّ فَظَهَرَ عَلَيْهِم الْمُسْلِمُونَ، فَرَدَّهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى ابْنِ عُمَرَ وَلَمْ يُقْسَمْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ: لا يَمْلِكُ أَهْلُ الْحَرْبِ بِالْغَلَبَةِ شَيْئًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلِصَاحِبِهِ

(2/468)


أَخْذُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا. وَعَنْ عَلِيٍّ وَالزُّهْرِيِّ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَالْحَسَنِ لا يُرَدُّ أَصْلاً، وَيَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الْمَغَانِمِ. وَقَالَ عُمَرُ وَسُلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ وَعَطَاءٌ وَاللَّيْثُ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَآخَرُونَ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ الْحَسَنِ أَيْضًا، وَنَقَلَهَا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ: إنْ وَجَدَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَلا يَأْخُذُهُ إِلا بِالْقِيمَةِ، وَإِلَى هَذَا التَّفْصِيلِ ذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَاب مَا يَجُوزُ أَخْذُهُ مِنْ نَحْوِ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ بِغَيْرِ قِسْمَةٍ 4361- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا نُصِيبُ فِي مَغَازِينَا الْعَسَلَ وَالْعِنَبَ فَنَأْكُلُهُ وَلا نَرْفَعُهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 4362- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ جَيْشًا غَنِمُوا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - طَعَامًا وَعَسَلًا، فَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ الْخُمُسُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4363- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ قَالَ: أَصَبْتُ جِرَابًا مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ ... خَيْبَرَ فَالْتَزَمْتُهُ، فَقُلْتُ: لا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَبَسِّمًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 4364- وَعَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: أَصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَجِيءُ فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا يَكْفِيهِ ثُمَّ يَنْطَلِقُ. 4365- وَعَنْ الْقَاسِمِ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: كُنَّا نَأْكُلُ الْجَزَرَ فِي الْغَزْوِ وَلا نَقْسِمُهُ حَتَّى إنْ كُنَّا لَنَرْجِعُ إلَى رِحَالِنَا وَأَخْرِجَتُنَا مَمْلُوءَةٌ مِنْهُ. رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (الْجَزَرَ) بِفَتْحِ الْجِيمِ جَمْعُ جَزُورٍ: وَهِيَ الشَّاةُ الَّتِي تُجْزَرُ: أَيْ تُذْبَحُ كَذَا قِيلَ. إلى أن قَالَ: وأحاديث الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الطَّعَامِ - وَيُقَاسُ عَلَيْهِ الْعَلَفُ لِلدَّوَابِّ - بِغَيْرِ قِسْمَةٍ، وَلَكِنَّهُ يَقْتَصِرُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مِقْدَارِ الْكِفَايَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى. وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ سَوَاءٌ أَذِنَ الإِمَامُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ.

(2/469)


بَاب أَنَّ الْغَنَمَ تُقْسَمُ بِخِلافِ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ 4366- عَنْ رَجُلٍ مِنْ الأنْصَارِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ النَّاسَ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ وَجَهْدٌ وَأَصَابُوا غَنَمًا فَانْتَهَبُوهَا فَإِنَّ قُدُورَنَا لَتَغْلِي إذْ جَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْشِي عَلَى قَوْسِهِ فَأَكْفَأَ قُدُورَنَا بِقَوْسِهِ ثُمَّ جَعَلَ يُرَمِّلُ اللَّحْمَ بِالتُّرَابِ ثُمَّ قَالَ: «إنَّ النُّهْبَةَ لَيْسَتْ بِأَحَلَّ مِنْ الْمَيْتَةِ» . أو «إِنَّ الْمَيْتَةَ لَيْسَتْ بِأَحَلَّ مِنْ النُّهْبَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4367- وَعَنْ مُعَاذٍ - رضي الله عنه - قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْبَرَ فَأَصَبْنَا فِيهَا غَنَمًا فَقَسَمَ فِينَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طَائِفَةً وَجَعَلَ بَقِيَّتَهَا فِي الْمَغْنَمِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَوْلُهُ: (فَقَسَمَ فِينَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طَائِفَةً) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الإِمَامَ يَقْسِمُ بَيْنَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْ الْغَنَمِ وَنَحْوِهَا مِنْ الأنْعَامِ مَا يَحْتَاجُونَهُ حَالَ قِيَامِ الْحَرْبِ وَيَتْرُكُ الْبَاقِيَ فِي جُمْلَةِ الْغُنْمِ. بَابُ النَّهْي عَنْ الِانْتِفَاعِ بِمَا يَغْنَمُهُ الْغَانِمُ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ إِلا حَالَة الْحَرْبِ 4368- عَنْ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ - يَوْمَ حُنَيْنٌ -: «لا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَبْتَاعَ مَغْنَمًا حَتَّى يُقْسَمَ، وَلا يَلْبَسَ ثَوْبًا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إذَا أَخْلَقَهُ رَدَّهُ فِيهِ، وَلا أَنْ يَرْكَبَ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا فِيهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4369- وَعَنْ ابْن مَسْعُودٍ قَالَ: انْتَهَيْتُ إلَى أَبِي جَهْلٍ - يَوْمَ بَدْرٍ - وَهُوَ صَرِيعٌ وَهُوَ يَذُبُّ النَّاسَ عَنْهُ بِسَيْفٍ لَهُ، فَجَعَلْتُ أَتَنَاوَلُهُ بِسَيْفٍ لِي غَيْرِ طَائِلٍ، فَأَصَبْتُ يَدَهُ فَنَدَرَ سَيْفُهُ، فَأَخَذْتُهُ فَضَرَبْتُهُ حَتَّى قَتَلْتُهُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ فَنَفَّلَنِي بِسَلَبِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ رُكُوبِ دَوَابِّهِمْ - يَعْنِي أَهْلَ الْحَرْبِ - وَلُبْسِ ثِيَابِهِمْ وَاسْتِعْمَالِ سِلاحِهِمْ حَالَ الْحَرْبِ، وَرَدِّ ذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ.

(2/470)


بَاب مَا يُهْدَى لِلأمِيرِ وَالْعَامِلِ أَوْ يُؤْخَذُ مِنْ مُبَاحَاتِ دَارِ الْحَرْبِ 4370- عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4371- وَعَنْ أَبِي الْجُوَيْرِيَةِ قَالَ: أَصَبْتُ جَرَّةً حَمْرَاءَ فِيهَا دَنَانِيرُ فِي إمَارَةِ مُعَاوِيَةَ فِي أَرْضِ الرُّومِ، قَالَ: وَعَلَيْنَا رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ يُقَالُ لَهُ: مَعْنُ بْنُ يَزِيدَ فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَسَمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْطَانِي مِثْلَ مَا أَعْطَى رَجُلاً مِنْهُمْ ثُمَّ قَالَ: لَوْلا أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لا نَفَلَ إِلا بَعْدَ الْخُمُسِ» . لأعْطَيْتُكَ. قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ يَعْرِضُ عَلَيَّ مِنْ نَصِيبِهِ فَأَبَيْتُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَعَنْ أَبِي الْجُوَيْرِيَةِ) اسْمُهُ حِطَّانَ ابْنُ خَفَّافٍ. إلى أنْ ... قَالَ: وَالْحَدِيثُ الثَّانِي بَوَّبَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد: بَابُ النَّفَلِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَمِنْ أَوَّلِ مَغْنَمٍ: أَيْ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لا؟ وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ عَلَى حُكْمِ مَا يُؤْخَذُ مِنْ مُبَاحَاتِ دَارِ الْحَرْبِ وَأَنَّهَا تَكُونُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ لا يُخْتَصُّ بِهَا. بَابُ التَّشْدِيدِ فِي الْغُلُولِ وَتَحْرِيقِ رَحْلِ الْغَالِّ 4372- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى خَيْبَرَ، فَفَتَحَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا، فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلا وَرِقًا، غَنِمْنَا الْمَتَاعَ وَالطَّعَامَ وَالثِّيَابَ، ثُمَّ انْطَلَقْنَا إلَى الْوَادِي وَمَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَبْدٌ لَهُ وَهَبَهُ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُذَامَ يُسَمَّى رِفَاعَةَ بْنَ يَزِيدَ مِنْ بَنِي الضَّبِيبِ، فَلَمَّا نَزَلْنَا الْوَادِيَ قَامَ عَبْدُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَحُلُّ رَحْلَهُ، فَرُمِيَ بِسَهْمٍ فَكَانَ فِيهِ حَتْفُهُ فَقُلْنَا: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: «كَلًّا وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إنَّ الشَّمْلَةَ لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَارًا أَخَذَهَا مِنْ الْغَنَائِمِ يَوْمَ خَيْبَرَ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ» . قَالَ: فَفَزِعَ النَّاسُ، فَجَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَصَبْتُ هَذَا يَوْمَ خَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(2/471)


4373- وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: فُلانٌ شَهِيدٌ وَفُلانٌ شَهِيدٌ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا: فُلانٌ شَهِيدٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كَلًّا إنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ» . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا ابْنَ الْخَطَّابِ اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ إنَّهُ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلا الْمُؤْمِنُونَ» . قَالَ: فَخَرَجْت فَنَادَيْتُ: «إنَّهُ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلا الْمُؤْمِنُونَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4374- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: كَرْكَرَةُ فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هُوَ فِي النَّارِ» . فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إلَيْهِ، فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 4375- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَصَابَ غَنِيمَةً أَمَرَ بِلالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ فَيَجِيئُونَ بِغَنَائِمِهِمْ فَيُخَمِّسُهُ وَيَقْسِمُهُ، فَجَاءَ رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِزِمَامٍ مِنْ شَعْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا فِيمَا كُنَّا أَصَبْنَا مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَقَالَ: «أَسَمِعْت بِلالًا نَادَى ثَلاثًا» ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَجِيءَ بِهِ» ؟ فَاعْتَذَرَ إلَيْهِ فَقَالَ: «كُنْ أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَنْ أَقْبَلَهُ مِنْكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4376- قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَدْ رُوِيَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْغَالِّ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِحَرْقِ مَتَاعِهِ. 4377- وَعَنْ صَالِحِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَائِدَةَ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ مَسْلَمَةُ أَرْضَ الرُّومِ فَأُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ غَلَّ فَسَأَلَ سَالِمًا عَنْهُ، فَقَالَ: سَمِعْت أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا وَجَدْتُمْ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فَأَحْرِقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ» . قَالَ: فَوَجَدَ فِي مَتَاعِهِ مُصْحَفًا، فَسَأَلَ سَالِمًا عَنْهُ، قَالَ: بِعْهُ وَتَصَدَّقْ بِثَمَنِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4378- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ حَرَّقُوا مَتَاعَ الْغَالِّ وَضَرَبُوهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4379- وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا تَعْلِيقًا: وَمَنَعُوهُ سَهْمَهُ.

(2/472)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وأحاديث الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْغُلُولِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ مِنْهُ وَالْكَثِيرِ. إلى أن قَالَ: وَقَدْ ذَهَبَ إلَى الأخْذِ بِظَاهِرِ حَدِيثِ الإِحْرَاقِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَكْحُولٍ وَالأوْزَاعِيِّ، وَعَنْ الْحَسَنِ يُحَرَّقُ مَتَاعُهُ كُلُّهُ إِلا الْحَيَوَانَ وَالْمُصْحَفَ. انتهى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَتَحْرِيقُ رَحْلِ الْغَالِّ مِنْ بَابَ التَّعْزِيرِ لا الْحَدّ الْوَاجِب، فَيَجْتَهِدُ الإِمَامُ فِيهِ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَمِنْ الْعُقُوبَةِ الْمَالِيَّةِ حِرْمَانَهُ عَلَيْهِ السَّلام السَّلْب لِلْمددي لِمَا كَانَ فِي أَخْذِه عُدْوَانًا عَلَى وَلِيِّ الأَمْرِ. بَابُ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ فِي حَقِّ الأسَارَى 4380- عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ ثَمَانِينَ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ هَبَطُوا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ مِنْ جِبَالِ التَّنْعِيمِ عِنْدَ صَلاةِ الْفَجْرِ لِيَقْتُلُوهُمْ، فَأَخَذَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَلَمًا فَأَعْتَقَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} إلَى آخِر الآيَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 4381- وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: «لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 4382- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ» ؟ قَالَ: عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ، إنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى

(2/473)


شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ، فَقَالَ: «مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ» ؟ قَالَ: عِنْدِي مَا قُلْت لَكَ؛ إنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: حَتَّى كَانَ الْغَدُ، فَقَالَ: «مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ» ؟ قَالَ: عِنْدِي مَا قُلْت لَكَ؛ إنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ» . فَانْطَلَقَ إلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إِلا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، يَا مُحَمَّدُ وَاَللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأرْضِ أَبْغَضُ إلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إلَيَّ، وَاَللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إلَيَّ مِنْ دِينِكَ فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إلَيَّ، وَاَللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلادِ كُلِّهَا إلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: صَبَوْتَ؟ فَقَالَ: لا، وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَلا وَاَللَّهِ لا تَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةَ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4383- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا أَسَرُوا الأسَارَى - يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ - قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: «مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلاءِ الأسَارَى» ؟ . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونَ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ، وَعَسَى اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلإِسْلامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ» ؟ فَقَالَ: لا وَاَللَّهِ مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَنَا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ؛ فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَنِي مِنْ فُلانٍ - نَسِيبًا لِعُمَرَ - فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَمَكِّنْ فُلانًا مِنْ فُلانٍ - قَرَابَتِهِ - فَإِنَّ هَؤُلاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا، فَهَوَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْت، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ جِئْت فَإِذَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ، قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمْ الْفِدَاءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ» . - شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْهُ - وَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ} إلَى قَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا} فَأَحَلَّ اللهُ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.

(2/474)


4384- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ فِدَاءَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعَمِائَةٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4385- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ بَعَثَتْ زَيْنَبُ فِي فِدَاءِ أَبِي الْعَاصِ بِمَالٍ، وَبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلادَةٍ كَانَتْ لَهَا عِنْدَ خَدِيجَةَ، أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ قَالَتْ: فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً، فَقَالَ: «إنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا لَهَا الَّذِي لَهَا» ؟ قَالُوا: نَعَمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4386- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَدَى رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِرَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ: مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ. 4387- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنْ الأسْرَى - يَوْمَ بَدْرٍ - لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِدَاءٌ، فَجَعَلَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِدَاءَهُمْ أَنْ يُعَلِّمُوا أَوْلادَ الأنْصَارِ الْكِتَابَةَ، قَالَ: فَجَاءَ يَوْمًا غُلامٌ يَبْكِي إلَى أَبِيهِ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ قَالَ: ضَرَبَنِي مُعَلِّمِي، قَالَ: الْخَبِيثُ يَطْلُبُ بِذَحْلِ بَدْرٍ، وَاَللَّهِ لا تَأْتِيهِ أَبَدًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فِي قِصَّةِ ثُمَامَةَ مِنْ الْفَوَائِدِ رَبْطُ الْكَافِرِ فِي الْمَسْجِدِ وَالْمَنُّ عَلَى الأسِيرِ الْكَافِرِ والاغْتِسَالُ عِنْدَ الإِسْلامِ، وَأَنَّ الإِحْسَانَ يُزِيلُ الْبُغْضَ وَيُثَبِّتُ الْحُبَّ. انْتَهَى مُلَخَّصًا إلى أن قَالَ: وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِالأحَادِيثِ عَلَى مَا تَرْجَمَ الْبَابَ بِهِ مِنْ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ فِي حَقِّ الأسَارَى، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الأمْرَ فِي الأسَارَى الْكَفَرَةِ مِنْ الرِّجَالِ إلَى الإِمَامِ يَفْعَلُ مَا هُوَ الأحْظَ لِلإِسْلامِ وَالْمُسْلِمِينَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: وَالْعَمَلَ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَر أَهْلِ الْعِلْم مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَغَيْرِهِمْ أَنَّ لِلإِمَامِ أَنْ يَمُنّ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْ الأسَارَى وَيَقْتُلَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ وَيَفْدِيَ مَنْ شَاءَ. بَابُ أَنَّ الأسِيرَ إذَا أَسْلَمَ لَمْ يَزُلْ مِلْكُ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُ 4388- عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: كَانَتْ ثَقِيفُ حُلَفَاءَ لِبَنِي عُقَيْلٍ

(2/475)


فَأَسَرَتْ ثَقِيفُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَسَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ وَأَصَابُوا مَعَهُ الْعَضْبَاءَ، فَأَتَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي الْوَثَاقِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: «مَا شَأْنُكَ» ؟ فَقَالَ: بِمَ أَخَذْتَنِي وَأَخَذْتَ سَابِقَةَ الْحَاجِّ؟ يَعْنِي الْعَضْبَاءَ، فَقَالَ: «أَخَذْتُكَ بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِكَ ثَقِيفَ» . ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَادَاهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: «مَا ... شَأْنُكَ» ؟ قَالَ: إنِّي مُسْلِمٌ، قَالَ: «لَوْ قُلْتَهَا وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَك أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلاحِ» . ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ فَنَادَاهُ: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ فَأَتَاهُ فَقَالَ: «مَا شَأْنُكَ» ؟ فَقَالَ: إنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي، وَظَمْآنُ فَاسْقِنِي، قَالَ: «هَذِهِ حَاجَتُكَ» . فَفُدِيَ بَعْدُ بِالرَّجُلَيْنِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِكَ» الْجَرِيرَةُ: الْجِنَايَةُ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ ثَقِيفًا لَمَّا نَقَضُوا الْمُوَادَعَةَ الَّتِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ بَنُو عُقَيْلٍ صَارُوا مِثْلَهُمْ فِي نَقْض الْعَهْدِ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى مَا تَرْجَمَ الْمُصَنِّفُ الْبَابَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ لا يَزُولُ مِلْكُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ الأسِيرِ بِمُجَرَّدِ إسْلامِهِ، لأنَّ هَذَا الرَّجُلَ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ مُسْلِمٌ وَهُوَ فِي الأسْرِ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَفُكَّهُ مِنْ أَسْرِهِ وَلَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ مِلْكِ مَنْ أَسَرَهُ. وَفِيهِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلإِمَامِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِ إسْلامِ مَنْ عَرَفَ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَرْغَبْ فِي الإِسْلامِ وَإِنَّمَا دَعَتْهُ إلَى ذَلِكَ الضَّرُورَةُ وَلاسِيَّمَا إذَا كَانَ فِي عَدَمِ الْقَبُولِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ. بَابُ الأسِيرِ يَدَّعِي الإِسْلامَ قَبْلَ الأسْرِ وَلَهُ شَاهِدٌ 4389- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَجِيءَ بِالأسَارَى، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَنْفَلِتَنَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبِ عُنُقٍ» . قَالَ ... عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ إِلا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ، فَإِنِّي قَدْ سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ الإِسْلامَ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَمَا رَأَيْتُنِي فِي ... يَوْمٍ أَخْوَفَ أَنْ يَقَعَ عَلَيَّ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ مِنِّي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِلا سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ» . قَالَ: وَنَزَلَ الْقُرْآنُ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} إلَى آخِرِ الآيَاتِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

(2/476)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَا تَرْجَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ الْبَابَ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ فَكُّ الأسِيرِ مِنْ الأسْرِ بِغَيْرِ فِدَاءٍ إذَا ادَّعَى الإِسْلامَ قَبْلَ الأسرِ ثُمَّ شَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ شَاهِدٌ، بَابُ جَوَازِ اسْتِرْقَاقِ الْعَرَبِ 4390- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لا أَزَالُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ بَعْدَ ثَلاثٍ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُهَا فِيهِمْ، سَمِعْت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِي عَلَى الدَّجَّالِ» . قَالَ: وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِنَا» . قَالَ: وَكَانَتْ سَبِيَّةٌ مِنْهُمْ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَعْتِقِيهَا فَإِنَّهَا مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4391- وَفِي رِوَايَةٍ: ثَلاثُ خِصَالٍ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَنِي تَمِيمٍ لا أَزَالُ أُحِبُّهُمْ بَعْدَهُ كَانَ عَلَى عَائِشَةَ مُحَرَّرٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَعْتِقِي مِنْ هَؤُلاءِ» . وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ فَقَالَ: «هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِي» . قَالَ: ... «وَهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ قِتَالًا فِي الْمَلاحِمَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 4392- وَعَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ - حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ - فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَحَبُّ الْحَدِيثِ إلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إمَّا السَّبْيَ، وَإِمَّا الْمَالَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِكُمْ» . وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنْ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - غَيْرُ رَادٍّ إلَيْهِمْ إِلا إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمُسْلِمِينَ، فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ إخْوَانَكُمْ هَؤُلاءِ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَيِّبَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَفِيءُ اللهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ» . فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ لَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّا لا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى تَرْفَعَ إلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ» . فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ

(2/477)


طَيَّبُوا وَأَذِنُوا، فَهَذَا الَّذِي بَلَغْنَا عَنْ سَبْيِ هَوَازِنَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 4393- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَقَعَتْ جَوَيْرِيَةَ بِنْتُ الْحَارِثِ فِي السَّبْيِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ أَوْ لِابْنِ عَمٍّ لَهُ، فَكَاتَبَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا وَكَانَتْ امْرَأَةً حُلْوَةً مُلَّاحَةً، فَأَتَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي جَوَيْرِيَةَ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ سَيِّدِ قَوْمِهِ وَقَدْ أَصَابَنِي مِنْ الْبَلاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ، فَجِئْتُك أَسْتَعِينُكَ عَلَى كِتَابَتِي، قَالَ: «فَهَلْ لَكِ فِي خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ» ؟ قَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «أَقْضِي كِتَابَتَكِ وَأَتَزَوَّجُكَ» . قَالَتْ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «قَدْ فَعَلْتُ» . قَالَتْ: وَخَرَجَ الْخَبَرُ إلَى النَّاسِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَ جَوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ، فَقَالَ النَّاسُ أَصْهَارُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَرْسَلُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ، قَالَتْ: فَلَقَدْ أَعْتَقَ بِتَزْوِيجِهِ إيَّاهَا مِائَةَ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَمَا أَعْلَمُ امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَاحْتَجَّ بِهِ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ وَقَالَ: لا أَذْهَبُ إلَى قَوْلِ عُمَرَ: لَيْسَ عَلَى عَرَبِيٍّ مِلْكٌ، قَدْ سَبَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْعَرَبَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ حِينَ سَبَى بَنِي نَاجِيَةَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى جَوَازِ اسْتِرْقَاقِ الْعَرَبِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَحَكَى فِي الْبَحْرِ عَنْ الْعِتْرَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لا يُقْبَلُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إِلا الإِسْلامُ أَوْ السَّيْفُ، وَاسْتَدَلَّ لَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآيَةَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ قَتْلِ الْجَاسُوسِ إذَا كَانَ مُسْتَأْمَنًا أَوْ ذِمِّيًّا 4394- عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَيْنٌ وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَجَلَسَ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ، ثُمَّ انْسَلَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اُطْلُبُوهُ فَاقْتُلُوهُ» . فَسَبَقْتُهُمْ إلَيْهِ فَقَتَلْتُهُ، فَنَفَّلَنِي سَلَبَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 4395- وَعَنْ فُرَاتِ بْنِ حَيَّانَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِقَتْلِهِ، وَكَانَ ذِمِّيًّا، وَكَانَ

(2/478)


عَيْنًا لأبِي سُفْيَانَ وَحَلِيفًا لِرَجُلٍ مِنْ الأنْصَارِ، فَمَرَّ بِحَلْقَةٍ مِنْ الأنْصَارِ فَقَالَ: إنِّي مُسْلِمٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّهُ يَقُولُ إنَّهُ مُسْلِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ مِنْكُمْ رِجَالًا نَكِلُهُمْ إلَى إيمَانِهِمْ، مِنْهُمْ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَتَرْجَمَهُ بِحُكْمِ الْجَاسُوسِ الذِّمِّيِّ. 4396- وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأسْوَدِ فقَالَ: «انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً وَمَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا» . فَانْطَلَقْنَا تَتَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا، حَتَّى انْتَهَيْنَا إلَى الرَّوْضَةِ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ، أَوْ لَتُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إلَى نَاسٍ ... مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ ... رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا حَاطِبُ مَا هَذَا» ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لا تَعْجَلْ عَلَيَّ، إنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ كُفْرًا وَلا ارْتِدَادًا وَلا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَقَدْ صَدَقَكُمْ» . فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ: «إنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَيْنٌ) فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَةِ هَوَازِنَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ قَتْلُ الْجَاسُوسِ الْحَرْبِيِّ الْكَافِرِ وَهُوَ بِاتِّفَاقٍ. قَالَ الشَّارِح: وَحَدِيثُ فُرَاتٍ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ الْجَاسُوسِ الذِّمِّيِّ. قَوْلُهُ: «إنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا» ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَرْكِ قَتْلِهِ كَوْنُهُ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، وَلَوْلا ذَلِكَ لَكَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْقَتْلِ فَفِيهِ مُتَمَسَّكٌ لِمَنْ قَالَ: إنَّهُ يُقْتَلُ الْجَاسُوسُ وَلَوْ كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.

(2/479)


قَوْلُهُ: «وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ» إلى آخره. هَذِهِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ لأهْلِ بَدْرٍ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ لَمْ تَقَعْ لِغَيْرِهِمْ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَاتَّفَقُوا أَنَّ الْبِشَارَةَ الْمَذْكُورَةَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الآخِرَةِ لا بِأَحْكَامِ الدُّنْيَا مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ أَنَّ عَبْدَ الْكَافِرِ إذَا خَرَجَ إلَيْنَا مُسْلِمًا فَهُوَ حُرٌّ 4397- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَعْتَقَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الطَّائِفِ مَنْ خَرَجَ إلَيْهِ مِنْ عَبِيدِ الْمُشْرِكِينَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4398- وَعَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ قَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَرُدَّ إلَيْنَا أَبَا بَكْرَةَ - وَكَانَ مَمْلُوكَنَا فَأَسْلَمَ قَبْلَنَا - فَقَالَ: «لا، هُوَ طَلِيقُ اللهِ، ثُمَّ طَلِيقُ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4399- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجَ عُبْدَانُ إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْنِي يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ الصُّلْحِ - فَكَتَبَ إلَيْهِ مَوَالِيهِمْ فَقَالُوا: وَاَللَّهِ يَا مُحَمَّدُ مَا خَرَجُوا إلَيْكَ رَغْبَةً فِي دِينِكِ، وَإِنَّمَا خَرَجُوا هَرَبًا مِنْ الرِّقِّ، فَقَالَ نَاسٌ: صَدَقُوا يَا رَسُولَ اللهِ رُدَّهُمْ إلَيْهِمْ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ: «مَا أُرَاكُمْ تَنْتَهُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ حَتَّى يَبْعَثَ اللهُ عَلَيْكُمْ مَنْ يَضْرِبُ رِقَابَكُمْ عَلَى هَذَا» . وَأَبَى أَنْ يَرُدَّهُمْ وَقَالَ: «هُمْ عُتَقَاءُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِي أَحَادِيثِ الْبَابِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ هَرَبَ مِنْ عَبِيدِ الْكُفَّارِ إلَى الْمُسْلِمِينَ صَارَ حُرًّا لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هُمْ عُتَقَاءُ اللهِ» وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلإِمَامِ أَنْ يُنَجِّزَ عِتْقَهُمْ كَمَا وَقَعَ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي عَبِيدِ الطَّائِفِ. بَابُ أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا أَسْلَمَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ أَحْرَزَ أَمْوَالَه 4400- قَدْ سَبَقَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّهَا» . 4401- وَعَنْ صَخْرِ ابْنِ عَيْلَةَ: أَنَّ قَوْمًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ فَرُّوا عَنْ أَرْضِهِمْ

(2/480)


حِينَ جَاءَ الإِسْلامُ فَأَخَذْتهَا فَأَسْلَمُوا، فَخَاصَمُونِي فِيهَا إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَرَدَّهَا عَلَيْهِمْ وَقَالَ: «إذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ فَهُوَ أَحَقُّ بِأَرْضِهِ وَمَالِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ 4402- وَأَبُو دَاوُد بِمَعْنَاهُ وَقَالَ فِيهِ، فَقَالَ: «يَا صَخْرُ إنَّ الْقَوْمَ إذَا أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا أَمْوَالَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ» . 4403- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الأعْشَمِ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْعَبْدِ إذَا جَاءَ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ جَاءَ مَوْلاهُ فَأَسْلَمَ أَنَّهُ حُرٌّ، وَإِذَا جَاءَ الْمَوْلَى ثُمَّ جَاءَ الْعَبْدُ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ مَوْلاهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ: «اذْهَبْ إلَيْهِ» قُلْت: وَهُوَ مُرْسَلٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» الظَّاهِرُ أَنَّ الأمْوَالَ تَشْمَلُ الْمَنْقُولَ وَغَيْرَ الْمَنْقُولِ، فَيَكُونُ الْمُسْلِمُ طَوْعًا أَحَقَّ بِجَمِيعِ أَمْوَالِهِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا أَسْلَمَ طَوْعًا كَانَتْ جَمِيعُ أَمْوَالِهِ فِي مِلْكِهِ، وَلا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ إسْلامُهُ فِي دَارِ الإِسْلامِ أَوْ دَارِ الْكُفْرِ عَلَى ظَاهِرِ الدَّلِيلِ. إلى أن قَالَ: وأحاديث الْبَابِ الأوَّلِ تَدُلُّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَذْكُورُ مِنْ أَنَّ عَبْدَ الْحَرْبِيِّ إذَا أَسْلَمَ صَارَ حُرًّا بِإِسْلامِهِ، فَقَدْ دَلَّ عَلَى جَمِيعِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ التَّفْصِيلِ غَيْرُهُ مِنْ الأحَادِيثِ فَلا يَضُرُّ إرْسَالُهُ. بَابُ حُكْمِ الأرْضِينَ الْمَغْنُومَةِ 4404- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَيُّمَا قَرْيَةٍ أَتَيْتُمُوهَا فَأَقَمْتُمْ فِيهَا فَسَهْمُكُمْ فِيهَا، وَأَيُّمَا قَرْيَةٍ عَصَتْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ خُمُسَهَا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ هِيَ لَكُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4405- وَعَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه -: أَمَا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلا أَنْ أَتْرُكَ آخِرَ النَّاسِ بَبَانًا لَيْسَ لَهُمْ مِنْ شَيْءٍ مَا فُتِحَتْ عَلَيَّ قَرْيَةٌ إِلا قَسَمْتُهَا كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْبَرَ وَلَكِنْ أَتْرُكُهَا خِزَانَةً لَهُمْ يَقْتَسِمُونَهَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 4406- وَفِي لَفْظٍ قَالَ: لَئِنْ عِشْت إلَى هَذَا الْعَامِ الْمُقْبِلِ لا تُفْتَحُ لِلنَّاسِ

(2/481)


قَرْيَةٌ إِلا قَسَمْتُهَا بَيْنَهُمْ كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْبَرَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4407- وَعَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَدْرَكَهُمْ يَذْكُرُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ قَسَمَهَا عَلَى سِتَّةً وَثَلاثِينَ سَهْمًا جَمَعَ كُلُّ سَهْمٍ مِائَةَ سَهْمٍ، فَجَعَلَ نِصْفَ ذَلِكَ كُلِّهِ لِلْمُسْلِمِينَ فَكَانَ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ وَسَهْمُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَهَا، وَجَعَلَ النِّصْفَ الآخَرَ لِمَنْ يَنْزِلُ بِهِ مِنْ الْوُفُودِ وَالأمُورِ وَنَوَائِبِ النَّاسِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4408- وَعَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: قَسَمَ ... رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْبَرَ نِصْفَيْنِ: نِصْفًا لِنَوَائِبِهِ وَحَوَائِجِهِ، وَنِصْفًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَسَمَهَا عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4409- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - افْتَتَحَ بَعْضَ خَيْبَرَ عَنْوَةً. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4410- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَنَعَتْ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا، وَمَنَعَتْ الشَّامُ مُدَيْهَا وَدِينَارهَا، وَمَنَعَتْ مِصْرُ إرْدَبَّهَا وَدِينَارَهَا، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ» . شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ لَحْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَدَمُهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «أَيُّمَا قَرْيَةٍ» إلَى آخْره، فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الأرْضَ الْمَغْنُومَةَ تَكُونُ لِلْغَانِمِينَ، قَالَ الْخَطَّابِيِّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَرْضَ الْعَنْوَةِ حُكْمُهَا حُكْمُ سَائِرِ الأمْوَالِ الَّتِي تُغْنَمُ وَأَنَّ خُمُسَهَا لأهْلِ الْخُمُسِ وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا لِلْغَانِمِينَ. قَوْلُهُ: «وَقَفِيزَهَا» الْقَفِيزُ: مِكْيَالٌ ثَمَانِيَةُ مَكَاكِيكُ، الْمُدْيُ: مِائَةٌ مد وَاثْنَانِ وَتِسْعُونَ مُدًّا، وَالإِرْدَبُّ أَرْبَعَةً وَعِشْرونَ صَاعًا. قَوْلُهُ: «وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ» أَيْ رَجَعْتُمْ إلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلامِ،

(2/482)


وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَعْلامِ النُّبُوَّةِ، لِإِخْبَارِهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَا سَيَكُونُ مِنْ مُلْكِ الْمُسْلِمِينَ هَذِهِ الأقَالِيمَ وَوَضْعِهِمْ الْجِزْيَةَ وَالْخَرَاجَ، ثُمَّ بُطْلانِ ذَلِكَ. وَوَجْهُ اسْتِدْلالِ الْمُصَنِّفِ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ عَلِمَ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ يَضَعُونَ الْخَرَاجَ عَلَى الأرْضِ وَلَمْ يُرْشِدْهُمْ إلَى خِلافِ ذَلِكَ بَلْ قَرَّرَهُ وَحَكَاهُ لَهُمْ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَا جَاءَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ هَلْ هُوَ عَنْوَةٌ أَوْ صُلْحٌ؟ 4411- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّهُ ذَكَرَ فَتْحَ مَكَّةَ فَقَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَدَخَلَ مَكَّةَ فَبَعَثَ الزُّبَيْرَ عَلَى إحْدَى الْمُجَنَّبَتَيْنِ وَبَعَثَ خَالِدًا عَلَى الْمُجَنَّبَةِ الأخْرَى، وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْحُسَّرِ فَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي، وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي كَتِيبَتِهِ، قَالَ: وَقَدْ وَبَّشَتْ قُرَيْشٌ أَوْبَاشَهَا، وَقَالُوا: نُقَدِّمُ هَؤُلاءِ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ كُنَّا مَعَهُمْ، وَإِنْ أُصِيبُوا أَعْطَيْنَا الَّذِي سُئِلْنَا، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَفَطِنَ فَقَالَ لِي: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ» . قُلْت: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «اهْتِفْ لِي بِالأنْصَارِ وَلا يَأْتِينِي إِلا أَنْصَارِيٌّ» . فَهَتَفَ بِهِمْ فَجَاءُوا فَطَافُوا بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «تَرَوْنَ إلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهِمْ» ؟ ثُمَّ قَالَ بِيَدَيْهِ إحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى: «اُحْصُدُوهُمْ حَصَدًا حَتَّى تُوَافُونِي بِالصَّفَا» . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَانْطَلَقْنَا فَمَا يَشَاءُ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ مِنْهُمْ مَا شَاءَ إِلا قَتَلَهُ، وَمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ يُوَجِّهُ إلَيْنَا شَيْئًا، فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أُبِيدَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ لا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ» . فَأَغْلَقَ النَّاسُ أَبْوَابَهُمْ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى الْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ وَفِي يَدِهِ قَوْسٌ وَهُوَ آخِذٌ بِسِيَةِ الْقَوْسِ فَأَتَى فِي طَوَافِهِ عَلَى صَنَمٍ إلَى جَنْبِ الْبَيْتِ يَعْبُدُونَهُ، فَجَعَلَ يَطْعَنُ بِهِ فِي عَيْنِهِ وَيَقُولُ: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} ثُمَّ أَتَى الصَّفَا فَعَلا حَيْثُ يَنْظُرُ إلَى الْبَيْتِ، فَرَفَعَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَذْكُرُ اللهَ بِمَا شَاءَ أَنْ يَذْكُرَهُ وَيَدْعُوَهُ وَالأنْصَارُ تَحْتَهُ، قَالَ: يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَجَاءَ الْوَحْيُ وَكَانَ إذَا جَاءَ لَمْ يَخْفَ عَلَيْنَا فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ يَرْفَعُ طَرَفَهُ إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يُقْضَى، فَلَمَّا قُضِيَ الْوَحْيُ رَفَعَ

(2/483)


رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ أَقُلْتُمْ: أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ» ؟ قَالُوا: قُلْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «فَمَا اسْمِي إذَنْ؟ كَلًّا إنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ هَاجَرْتُ إلَى اللهِ وَإِلَيْكُمْ فَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ» . فَأَقْبَلُوا إلَيْهِ يَبْكُونَ وَيَقُولُونَ: وَاَللَّهِ مَا قُلْنَا الَّذِي قُلْنَا إِلا الضِّنَّ بِرَسُولِ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَإِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذُرَانِكُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4412- وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: ذَهَبْت إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الْفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبٍ فَسَلَّمْت عَلَيْهِ، فَقَالَ: «مَنْ هَذِهِ» ؟ فَقُلْت: أَنَا أُمُّ هَانِئِ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: «مَرْحَبًا يَا أُمَّ هَانِئٍ» . فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زَعَمَ ابْنُ أُمِّي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلاً قَدْ أَجَرْتُهُ - فُلانَ بْنَ هُبَيْرَةَ - فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ» . قَالَتْ: وَذَلِكَ ضُحًى. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4413- وَفِي لَفْظٍ لأحْمَدَ قَالَتْ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَجَرْتُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَحْمَائِي، فَأْدْخَلْتُهُمَا بَيْتًا وَأَغْلَقْتُ عَلَيْهِمَا بَابًا، فَجَاءَ ابْنُ أُمِّي عَلِيٌّ، فَتَفَلَّتَ عَلَيْهِمَا بِالسَّيْفِ. وَذَكَرَتْ حَدِيثَ أَمَانِهِمَا. 4414- وَعَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا سَارَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الْفَتْحِ فَبَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا، خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ يَلْتَمِسُونَ الْخَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَتَوْا مَرَّ الظَّهْرَانِ، فَرَآهُمْ نَاسٌ مِنْ حَرَسِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخَذُوهُمْ، فَأَتَوْا بِهِمْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ، فَلَمَّا سَارَ قَالَ لِلْعَبَّاسِ: «احْبِسْ أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ خَطْمِ الْجَبلِ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ» . فَحَبَسَهُ الْعَبَّاسُ، فَجَعَلَتِ الْقَبَائِلُ تَمُرُّ كَتِيبَةً كَتِيبَةً عَلَى أَبِي سُفْيَانَ، حَتَّى أَقْبَلَتْ كَتِيبَةٌ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا، قَالَ: يَا عَبَّاسُ مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: هَؤُلاءِ الأنْصَارُ عَلَيْهِمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ مَعَهُ الرَّايَةُ. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا ... أَبَا سُفْيَانَ الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا عَبَّاسُ حَبَّذَا يَوْمُ الذِّمَارِ. ثُمَّ جَاءَتْ كَتِيبَةٌ، وَهْىَ أَقَلُّ الْكَتَائِبِ،

(2/484)


فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ، وَرَايَةُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَبِي سُفْيَانَ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟ قَالَ: «وَمَا قَالَ» ؟ قَالَ: قَالَ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: «كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ» . قَالَ: وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تُرْكَزَ رَايَتُهُ بِالْحَجُونِ. قَالَ عُرْوَةُ: وَأَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ يَقُولُ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ هَا هُنَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تَرْكُزَ الرَّايَةَ؟ قَالَ: نعم. وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَئِذٍ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ، وَدَخَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ كدي. رواه البخاري. 4415- وَعَنْ سَعْدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ إِلا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَسَمَّاهُمْ. رواه النسائي وأبو داود. 4416- وَعَنْ أُبَيِّ بن كَعْب قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُد قُتِلَ مِنَ الأنْصَارِ سِتُّونَ رَجُلاً. وَمِن الْمُهَاجِرِينَ سِتَّة فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: لَئِنْ كَانَ لَنَا يَوْمٌ مِثْلَ هَذَا مِنَ الْمُشرِكِينَ لنربين عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ قَالَ رَجُلٌ لا يعرف: لا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ. فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَمِنَ الأسْوَدُ وَالأبْيَضُ إِلا فُلانًا وَفُلانًا نَاس سَمَّاهُمْ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «نَصْبِرْ وَلا نُعَاقبْ» . رَوَاهُ عَبْدُ اللهِ بن أَحْمَدْ فِي الْمُسْنَدْ. 4417، 4418- وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةُ وَأَبِي شُرَيْح إِلا أَنَّ فِيهِمَا: «وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةٌ مِنْ نَهَار» . وَأَكْثَرُ هَذِهِ الأحَأدِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَتْحَ عُنْوَةْ. 4419- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ أَلا تَبْنِي لَنَا بَيْتًا بِمِنَى يَظلك؟ قَالَ: «لا منى مناخ لِمَنْ سَبَق» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا النِّسَائِي. وَقَالَ التِّرْمِذيُّ: حَدِيث حسنْ. 4420- وَعَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ قَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا تُدْعَى رِبَاعُ مَكَّةَ إِلا السَّوَائِبَ مَنِ احْتَاجَ سَكَنَ وَمَنِ اسْتَغْنَى أَسْكَنَ. رَوَاهُ ابن ماجة.

(2/485)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (عَلَى إِحْدَى الْمُجَنِّبتين) بِضَمِّ الْجِيم وَكَسْرِ النُّون الْمُشَدَّدَةْ. قَالَ فِي الْقَامُوس: والْمجنبة بِفَتْحِ النُّونِ الْمُقدمة والْمجنبتان بالكسر الميمة والميسرة. قَوْلُهُ: (بِسِيَةِ قُوسِه) سِيَةُ الْقَوْسِ: مَا تعَطَفَ مِنْ الطَّرَفَيْنِ لأنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ وَهِيَ بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ مُخَفَّفَةٌ. قَوْلُهُ: (يَوْمَ الذَّمَارِ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةْ وَتَخْفِيف الْمِيمْ أي الْهَلاكِ. قَالَ الْخَطَّابِي: تَمَنَّى أَبُو سُفْيَان أَنْ يَكُونَ لَهُ يَدُ فَيحمِي قَوْمَهُ وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ. وَقِيلَ: الْمُرادُ هَذَا يَوْمَ الْغَضَبِ لِلْحَرِيم وَالأهْلِ. وَقِيلَ: الْمُراد هَذَا يَوْم يلزمك فيهِ حِفْظِي وِحِمَايَتِي مِنْ أَنْ يَنَالَنِي فِيهِ مَكْرُوه. وَقَدْ تَمَسَّكَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة وَحَدِيث أُمُّ هَانِئ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَكَّةَ فتحت عَنْوَة. وَفِي حَدِيثِ سَعْد وَحَدِيث أُبَي بن كَعْب عَلَى أَنَّ مَكَّة فُتِحَتْ صلْحًا. وَقَدْ اختلف أَهْلِ الْعِلْم فِي ذَلِك فَذَهَبَ الأكْثَر إِلَى أَنَّهَا فتحت عُنْوة. وَعَنْ الشَّافِعي وَرِوَايَة أَحْمَد أَنَّهَا فُتِحَتْ عُنْوة قَوْلهُ - صلى الله عليه وسلم -: «وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعةٌ مِنْ نَهَار» . قَالَ الْحَافِظْ: وَالْحَقَّ أَنَّ صُورَة فتحها كان عُنْوَةْ وَمُعَامَلة أَهْلِهَا مُعَامَلة مَنْ دَخَلَتْ بِأَمَانْ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ بَقَاءِ الْهِجْرَةِ من دار الحرب إلَى دَارِ الإِسْلامِ وَأَنْ لا هِجْرَةَ مِنْ دَارٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا 4421- عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4422- وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ سَرِيَّةً إلَى خَثْعَمَ فَاعْتَصَمَ نَاسٌ بِالسُّجُودِ فَأَسْرَعَ فِيهِمْ الْقَتْلَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ وَقَالَ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَلِمَ؟ قَالَ: «لا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ.

(2/486)


4423- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4424- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ السَّعْدِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْعَدُوُّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 4425- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا ابْنَ مَاجَةْ. 4426- لَكِنْ لَهُ مِنْهُ «إذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» . 4427- وَرَوَتْ عَائِشَةُ مِثْلَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4428- وَعَنْ عَائِشَةَ - وَسُئِلَتْ عَنْ الْهِجْرَةِ - فَقَالَتْ: لا هِجْرَةَ الْيَوْمَ، كَانَ الْمُؤْمِنُ يَفِرُّ بِدِينِهِ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ مَخَافَةَ أَنْ يُفْتَنَ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَظْهَرَ اللهُ الإِسْلامَ، وَالْمُؤْمِنُ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَيْثُ شَاءَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 4429- وَعَنْ مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ جَاءَ بِأَخِيهِ مُجَالِدِ بْنِ مَسْعُودٍ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: هَذَا مُجَالِدٌ جَاءَ يُبَايِعُك عَلَى الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: «لا هِجْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلَكِنْ أُبَايِعُهُ عَلَى الإِسْلامِ وَالإِيمَانِ وَالْجِهَادِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَهُوَ مِثْلُهُ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيم مُسَاكَنَة الْكُفَّار وَوُجُوب مُفَارَقَتْهِمْ. وَالْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَقَال لَكِن يَشْهَدْ لِصِحَّتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ} . قَوْلُهُ «لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» أَصْلُ الْهِجْرَةِ هَجْرُ الْوَطَنِ، وَأَكْثَرُ مَا تُطْلَقُ عَلَى مَنْ رَحَلَ مِنْ الْبَادِيَةِ إلَى الْقَرْيَةِ. قَوْلُهُ: «وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» . قَالَ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ: هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ يَقْتَضِي مُخَالَفَةَ حُكْمِ مَا بَعْدَهُ لِمَا قَبْلَهُ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْهِجْرَةَ الَّتِي هِيَ مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ الَّتِي كَانَتْ مَطْلُوبَةً عَلَى الأعْيَانِ إلَى الْمَدِينَةِ انْقَطَعَتْ إِلا أَنَّ الْمُفَارَقَةَ بِسَبَبِ الْجِهَادِ بَاقِيَةٌ، وَكَذَلِكَ الْمُفَارَقَةُ بِسَبَبِ نِيَّةٍ صَالِحَةٍ كَالْفِرَارِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ

(2/487)


وَالْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْفِرَارِ بِالدِّينِ مِنْ الْفِتَنِ وَالنِّيَّةِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْهِجْرَةُ هِيَ الْخُرُوجُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الإِسْلامِ، وَكَانَتْ فَرْضًا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَاسْتَمَرَّتْ بَعْدَهُ لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ وَاَلَّتِي انْقَطَعَتْ أَصْلًا هِيَ الْقَصْدُ إلَى حَيْثُ كَانَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/488)


أَبْوَابُ الأمَانِ وَالصُّلْحِ وَالْمُهَادَنَةِ بَابُ تَحْرِيمِ الدَّمِ بِالأمَانِ وَصِحَّتِهِ مِنْ الْوَاحِدِ 4430- عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4431- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غُدْرَتِهِ، أَلا وَلا غَادِرَ أَعْظَمَ غَدْرًا مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4432- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4433- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ الْمَرْأَةَ لَتَأْخُذُ لِلْقَوْمِ» يَعْنِي تُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِي حَدِيث أَنَس وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيد دَلِيل عَلَى تَحْرِيم الْغَدْرِ وَغِلَظه لاسِيَّمَا من صَاحِب الْولاية الْعَامَةُ لأنْ غَدْرُهُ يَتَعَدَّى ضَرَرَهُ إِلَى خَلْق كَثِير. قَوْلُهُ: «يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ» أَيْ: أَقَلُّهُمْ، فَدَخَلَ كُلُّ وَضِيعٍ بِالنَّصِّ، وَكُلُّ شَرِيفٍ بِالْفَحْوَى، وَدَخَلَ فِي الأدْنَى الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ أَمَانَ الصَّبِيِّ غَيْرُ جَائِزٍ. قَالَ الْحَافِظُ: وَكَلامُ غَيْرِهِ يُشْعِرُ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمُرَاهِقِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَا الْمُمَيِّزُ الَّذِي يَعْقِلُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/489)


بَاب ثُبُوت الأمَانِ لِلْكَافِرِ إذَا كَانَ رَسُولاً 4434- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: جَاءَ ابْنُ النَّوَّاحَةِ وَابْنُ أُثَالٍ - رَسُولا مُسَيْلِمَةَ - إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُمَا: «أَتَشْهَدَانِ أَنِّي رَسُولُ اللهِ» ؟ قَالا: نَشْهَدُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «آمَنْتُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَوْ كُنْتُ قَاتِلًا رَسُولًا لَقَتَلْتُكُمَا» . قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَمَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الرُّسُلَ لا تُقْتَلُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4435- وَعَنْ نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ الأشْجَعِيِّ قَالَ: سَمِعْت - حِينَ قرأ كِتَابُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ - قَالَ لِلرَّسُولَيْنِ: «فَمَا تَقُولانِ أَنْتُمَا» ؟ قَالا: نَقُولُ كَمَا قَالَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَاَللَّهِ لَوْلا أَنَّ الرُّسُلَ لا تُقْتَلُ لَضَرَبْت أَعْنَاقَكُمَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4436- وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ -مَوْلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا رَأَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَعَ فِي قَلْبِي الإِسْلامُ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ لا أَرْجِعُ إلَيْهِمْ، قَالَ: «إنِّي لا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ، وَلا أَحْبِسُ الْبُرُدَ، وَلَكِنْ ارْجِعْ إلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِك الَّذِي فِيهِ الآنَ فَارْجِعْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَقَالَ: هَذَا كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ الْيَوْمَ لا يَصْلُحُ. وَمَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَرَّةِ الَّتِي شَرَطَ لَهُمْ فِيهَا أَنْ يَرُدَّ مَنْ جَاءَهُ مِنْهُمْ مُسْلِمًا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (ابْنَ النَّوَّاحَةِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَبَعْدَ الألِفِ مُهْمَلَةٌ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ طَرِيقِ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ أَنَّهُ أَتَى عَبْدَ اللهِ، يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: مَا بَيْنِي وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ حِنَةٌ، وَإِنِّي مَرَرْت بِمَسْجِدٍ لِبَنِي حَنِيفَةَ فَإِذَا هُمْ يُؤْمِنُونَ بِمُسَيْلِمَةَ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ عَبْدَ اللهِ فَجِيءَ بِهِمْ فَاسْتَتَابَهُمْ غَيْرَ ابْنِ النَّوَّاحَةِ قَالَ لَهُ: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَوْلا أَنَّك رَسُولٌ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ، فَأَنْتَ الْيَوْمَ لَسْت بِرَسُولٍ» . فَأَمَرَ قَرَظَةَ بْنَ كَعْبٍ فَضَرَبَ عُنُقَهُ فِي السُّوقِ ثُمَّ قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى ابْنِ النَّوَّاحَةِ قَتِيلاً فِي السُّوقِ. وَالْحَدِيثَانِ الأوَّلانِ يَدُلَّانِ عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ الرُّسُلِ الْوَاصِلِينَ مِنْ الْكُفَّارِ إنْ تَكَلَّمُوا بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ فِي حَضْرَةِ الإِمَامِ. وَالْحَدِيثُ الثَّالِثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ لِلْكُفَّارِ كَمَا يَجِبُ لِلْمُسْلِمِينَ لأنَّ الرِّسَالَةَ تَقْتَضِي جَوَابًا يَصِلُ عَلَى يَدِ

(2/490)


الرَّسُولِ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ عَقْدِ الْعَهْدِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ الشُّرُوطِ مَعَ الْكُفَّارِ وَمُدَّةِ الْمُهَادَنَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ 4437- عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ - رضي الله عنه - قَالَ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا، إِلا أَنِّي خَرَجْت أَنَا وَأَبِي الْحُسَيْلِ، قَالَ: فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا: إنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا؟ فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ وَمَا نُرِيدُ إِلا الْمَدِينَةَ، قَالَ: فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ لِنَنْطَلِقَ إلَى الْمَدِينَةِ وَلا نُقَاتِلُ مَعَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: «انْصَرِفَا، نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ. وَنَسْتَعِينُ اللهَ عَلَيْهِمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. وَتَمَسَّكَ بِهِ مَنْ رَأَى يَمِينَ الْمُكْرَهِ مُنْعَقِدَةً. 4438- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ قُرَيْشًا صَالَحُوا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لا نَرُدُّهُ عَلَيْكُمْ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَكْتُبُ هَذَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، إنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، وَمَنْ جَاءَ مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4439- وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ الْمِسْوَرِ وَمَرْوَانَ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ، قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، حَتَّى إذَا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً، فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ» . فَوَاَللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إذَا هُمْ بِقَتَرَةٍ الْجَيْش، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَسَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى إذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يَهْبِطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَته، فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا: خَلأتْ الْقَصْوَاءُ خَلأتْ الْقَصْوَاءُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا خَلأتْ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ» . قَالَ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللهِ إِلا أَعْطَيْتُهُمْ إيَّاهَا» . ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ، قَالَ: فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمْدٍ قَلِيلٍ الْمَاءِ

(2/491)


يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا، فَلَمْ يَلْبَثْ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ وَشُكِيَ إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعَطَشُ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ، فَوَاَللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إذْ جَاءَهُمْ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ، فَقَالَ: إنِّي تَرَكْت كَعْبَ بْنِ لُؤَيٍّ وَعَامِرَ بْنِ لُؤَيٍّ، نَزَلُوا إعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، وَهُمْ مُقَاتِلُوك وَصَادُّوك عَنْ الْبَيْتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنْ جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمْ الْحَرْبُ وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي، أَوْ لَيُنْفِذَنَّ اللهُ أَمْرَهُ» . فَقَالَ بُدَيْلُ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ، فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا، فَقَالَ: إنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ عِنْدِ هَذَا الرَّجُلِ، وَقَدْ سَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلًا، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: لا حَاجَةَ لَنَا إلَى أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ، وَقَالَ ذُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ. قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: كَذَا وَكَذَا، فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَيْ قَوْمُ أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَوْ لَسْت بِالْوَلَدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَهَلْ تَتَّهِمُونِي؟ قَالُوا: لا، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْت أَهْلَ عُكَاظٍ فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ اقْبَلُوهَا وَذَرُونِي آتِهِ، قَالُوا: ائْتِهِ، فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: أَيْ مُحَمَّدُ أَرَأَيْتَ إنْ اسْتَأْصَلْت أَمْرَ قَوْمِك هَلْ سَمِعْت بِأَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَصْلَهُ قَبْلَك؟ وَإِنْ تَكُنْ الأخْرَى فَإِنِّي وَاَللَّهِ لأرَى وُجُوهًا، أَوْ إنِّي لأرَى أَشْوَابًا مِنْ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوك، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: اُمْصُصْ بِبَظْرِ اللَّاتِ إنْ نَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ، فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ قَالُوا: أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: أَمَا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلا يَدٌ كَانَتْ لَك عِنْدِي وَلَمْ أَجْزِك بِهَا لأجَبْتُكَ. قَالَ: وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَكُلَّمَا كَلَّمَهُ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَهُ

(2/492)


السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ ... إلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ وَقَالَ: أَخِّرْ يَدَك عَنْ لِحْيَةِ ... رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، قَالَ: أَيْ غُدَرُ أَلَسْت أَسْعَى فِي غَدْرَتِك؟ وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَّا الإِسْلامُ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا الْمَالُ فَلَسْت مِنْهُ فِي شَيْءٍ» . ثُمَّ إنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِعَيْنِهِ، قَالَ: فَوَاَللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نُخَامَةً إِلا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَّك بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ بِأَمْرٍ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَيْ قَوْمُ، وَاَللَّهِ لَقَدْ وَفَدْت عَلَى الْمُلُوكِ، وَوَفَدْت عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاَللَّهِ إنْ رَأَيْت مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا، وَاَللَّهِ إنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَّك بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ. دَعُونِي آتِهِ. فَقَالُوا: ائْتِهِ. فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «هَذَا فُلانٌ وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ» . فَبَعَثُوهَا لَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْتِ، فَلَمَّا رَجَعَ إلَى أَصْحَابِهِ قَالَ: رَأَيْت الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْتِ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ فَقَالَ: دَعُونِي آتِهِ. فَقَالُوا: ائْتِهِ. فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «هَذَا مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ» . فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَبَيْنَا هُوَ يُكَلِّمُهُ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْلٌ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «قَدْ سَهَّلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ» . قَالَ: مَعْمَرٌ قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَجَاءَ سُهَيْلُ ابْنُ عَمْرِو فَقَالَ: هَاتِ اُكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا، فَدَعَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اُكْتُبْ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» . فَقَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاَللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَلَكِنْ اُكْتُبْ:

(2/493)


بِاسْمِك اللَّهُمَّ كَمَا كُنْت تَكْتُبُ. فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاَللَّهِ لا نَكْتُبُهَا إِلا بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اُكْتُبْ: بِاسْمِك اللَّهُمَّ» . ثُمَّ قَالَ: «هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -» . فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاَللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّك رَسُولُ اللهِ مَا صَدَدْنَاك عَنْ الْبَيْتِ وَلا قَاتَلْنَاك وَلَكِنْ اُكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَاَللَّهِ إنِّي لَرَسُولُ اللَّه وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اُكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ» . - قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: «لا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللهِ إِلا أَعْطَيْتُهُمْ إيَّاهَا» . قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفُ بِهِ» . فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاَللَّهِ لا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضَغْطَةً، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَكَتَبَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنْ لا يَأْتِيَكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلا رَدَدْتَهُ إلَيْنَا، قَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللهِ كَيْفَ يُرَدُّ إلَى الْمُشْرِكِينَ مَنْ جَاءَ مُسْلِمًا؟ فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إلَيَّ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ» . قَالَ: فَوَاَللَّهِ إذَنْ لا أُصَالِحُك عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «فَأَجِزْهُ لِي» . فَقَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ، فَقَالَ: «بَلَى فَافْعَلْ» . قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، قَالَ مِكْرَزٌ: بَلَى قَدْ أَجَرْنَاهُ لَك، قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ: أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أُرَدُّ إلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا، أَلا تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ؟ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِي اللهِ قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: أَلَسْت نَبِيَّ اللهِ حَقًّا؟ قَالَ: «بَلَى» . قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: «بَلَى» . قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إذَنْ؟ قَالَ: «إنِّي رَسُولُ اللهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي» . قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: «بَلَى» . فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قُلْت: لا، قَالَ: فَإِنَّك آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ، قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِيُّ اللهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى. قُلْت: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إذَنْ؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إنَّهُ رَسُولُ اللهِ وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ وَهُوَ نَاصِرُهُ فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاَللَّهِ إنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ

(2/494)


يُحَدِّثُنَا أَنَا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، أَفَأَخْبَرَك أَنَّك تَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَإِنَّك إذَنْ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ، قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالاً، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأصْحَابِهِ: ... «قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا» . فَوَاَللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ أَحَدٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّه أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اُخْرُجْ وَلا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقًا فَيَحْلِقَك، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بدنه. وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا، ثُمَّ جَاءَ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} - حَتَّى بَلَغَ - {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِي الشِّرْكِ، فَتَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَالأخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلَى الْمَدِينَةِ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ - رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ - وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَقَالُوا: الْعَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا، فَدَفَعَهُ إلَى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ تَمْر لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لأحَدِ الرَّجُلَيْنِ: وَاَللَّهِ إنِّي لأرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلانُ جَيِّدًا، فَاسْتَلَّهُ الآخَرُ، فَقَالَ: أَجَلْ وَاَللَّهِ إنَّهُ لَجَيِّدٌ، لَقَدْ جَرَّبْت بِهِ ثُمَّ جَرَّبْت، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: أَرِنِي أَنْظُرْ إلَيْهِ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ، فَضَرَبَهُ بِهِ حَتَّى بَرَدَ، وَفَرَّ الآخَرُ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حِينَ رَآهُ: «لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا» . فَلَمَّا انْتَهَى إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: قُتِلَ وَاَللَّهِ صَاحِبِي وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ قَدْ أَوْفَى اللهُ ذِمَّتَك، قَدْ رَدَدْتَنِي إلَيْهِمْ ثُمَّ أَنْجَانِي اللهُ مِنْهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرُ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ» . فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سيف الْبَحْرَ، قَالَ: وَتَفَلَّتَ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلٍ فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، فَجَعَلَ لا يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلا لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَوَاَللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إلَى الشَّامِ إِلا اعْتَرَضُوا لَهَا، فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تُنَاشِدُهُ اللهَ

(2/495)


وَالرَّحِمَ لَمَا أَرْسَلَ إلَيْهِمْ، فَمَنْ أَتَاهُ مِنْهُمْ فَهُوَ آمِنٌ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلَيْهِمْ، وَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} - حَتَّى بَلَغَ - ... {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} وَكَانَ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَحَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 4440- وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بِلَفْظٍ آخَرَ وَفِيهِ: وَكَانَتْ خُزَاعَةُ عَيْبَةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُشْرِكُهَا وَمُسْلِمُهَا. وَفِيهِ: «هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَسُهَيْلُ ابْنُ عَمْرٍو عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ» . وَفِيهِ: «وَإِنَّ بَيْنَنَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً، وَإِنَّهُ لا إغْلالَ وَلا إسْلالَ» . وَكَانَ فِي شَرْطِهِمْ حِينَ كَتَبُوا الْكِتَابَ «أَنَّهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ مُحَمَّدٍ وَعَهْدِهِ دَخَلَ فِيهِ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ فِيهِ» . فَتَوَاثَبَتْ خُزَاعَةُ فَقَالُوا: نَحْنُ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَهْدِهِ، وَتَوَاثَبَتْ بَنُو بَكْرٍ فَقَالُوا: نَحْنُ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ. وَفِيهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَبَا جَنْدَلٍ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّ اللهَ جَاعِلٌ لَك وَلِمَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا» . وَفِيهِ: فَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فِي الْحَرَمِ وَهُوَ مُضْطَرِبٌ فِي الْحِلِّ. 4441- وَعَنْ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرِ قَالا: لَمَّا كَاتَبَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو يَوْمَئِذٍ كَانَ فِيمَا اشْتَرَطَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ لا يَأْتِيك أَحَدٌ مِنَّا - وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِك - إلا رَدَدْتَهُ إلَيْنَا وَخَلَّيْت بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَكَرِهَ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ وَامْتَعَضُوا مِنْهُ، وَأَبَى سُهَيْلٌ إِلا ذَلِكَ، فَكَاتَبَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى ذَلِكَ، فَرَدَّ يَوْمَئِذٍ أَبَا جَنْدَلٍ إلَى أَبِيهِ سُهَيْلٍ، وَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ إِلا رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَجَاءَ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ، وَكَانَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مِمَّنْ خَرَجَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَئِذٍ وَهِيَ عَاتِقٌ، فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُرْجِعُهَا إلَيْهِمْ فَلَمْ يُرْجِعْهَا إلَيْهِمْ لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِنَّ: {إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} إلَى {وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 4442- وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ: فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -

(2/496)


كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ، وَبَلَغَنَا أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ أَنْ يَرُدُّوا إلَى الْمُشْرِكِينَ مَا أَنْفَقُوا عَلَى مَنْ هَاجَرَ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، وَحَكَمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ لا يُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ أَنَّ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَيْنِ قُرَيْبَةَ بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ، وَابْنَةَ جَرْوَلٍ الْخُزَاعِيُّ، فَتَزَوَّجَ قُرَيْبَةَ مُعَاوِيَةُ، وَتَزَوَّجَ الأخْرَى أَبُو جَهْمٍ، فَلَمَّا أَبَى الْكُفَّارُ أَنْ يُقِرُّوا بِأَدَاءِ مَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} وَالْعِقَابُ: مَا يُؤَدِّي الْمُسْلِمُونَ إلَى مَنْ هَاجَرَتْ امْرَأَتُهُ مِنْ الْكُفَّارِ، فَأَمَرَ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ ذَهَبَ لَهُ زَوْجٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَا أَنْفَقَ مِنْ صَدَاقِ نِسَاءِ الْكُفَّارِ اللَّاتِي هَاجَرْنَ وَمَا يُعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ ارْتَدَّتْ بَعْدَ إيمَانِهَا. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. قَوْلُهُ: (الأحَابِيشُ) : أَيْ الْجَمَاعَاتُ الْمُجْتَمِعَةُ مِنْ قَبَائِلَ. وَالتَّحَبُّشُ: التَّجَمُّعُ، وَالْجَنْبُ: الأمْرُ، يُقَالُ: مَا فَعَلْت كَذَا فِي جَنْبِ حَاجَتِي، وَهُوَ أَيْضًا الْقِطْعَةُ مِنْ الشَّيْءِ تَكُونُ مُعْظَمَهُ أَوْ كَثِيرًا مِنْهُ وَمَحْرُوبِينَ: أَيْ مَسْلُوبِينَ قَدْ أُصِيبُوا بِحَرْبٍ وَمُصِيبَةٍ، وَيُرْوَى (مَوْتُورِينَ) وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقَوْلُهُ: الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، يَعْنِي: النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ. وَالْعَائِذُ: النَّاقَةُ الْقَرِيبُ عَهْدُهَا بِالْوِلادَةِ. وَالْمُطْفِلُ: الَّتِي مَعَهَا فَصِيلُهَا. وَحَلْ حَلْ: زَجْرٌ لِلنَّاقَةِ. وَأَلَحَّتْ: أَيْ لَزِمَتْ مَكَانَهَا. وَخَلأتْ: أَيْ حَرِنَتْ. وَالثَّمَدُ: الْمَاءُ الْقَلِيلُ وَالتَّبَرُّضُ: أَخْذُهُ قَلِيلًا قَلِيلًا. وَالْبَرَضُ: الْقَلِيلُ. وَالأعْدَادُ جَمْعُ عِدٍّ: وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي لا انْقِطَاعَ لِمَادَّتِهِ. وَجَاشَتْ بِالري: أَيْ فَارَتْ بِهِ. وَعَيْبَةُ نُصْحِهِ: أَيْ مَوْضِعُ سِرِّهِ؛ لأنَّ الرَّجُلَ إنَّمَا يَضَعُ فِي عَيْبَتِهِ حُرَّ مَتَاعِهِ. وَجَمُّوا: أَيْ اسْتَرَاحُوا. وَالسَّالِفَةُ صَفْحَةُ الْعُنُقِ. وَالْخِطَّةُ: الأمْرُ وَالشَّأْنُ. وَالأوْشَابُ: الأخْلاطُ مِنْ النَّاسِ، مَقْلُوبُ الأوْبَاشِ وَالضُّغْطَةُ - بِالضَّمِّ - الشِّدَّةُ وَالتَّضْيِيقُ. وَالرَّسْفُ: الشَّيْءُ الْمُقَيَّدُ. وَالْغَرْزُ لِلرَّحْلِ بِمَنْزِلَةِ الرِّكَابِ مِنْ السَّرْجِ. وَقَوْلُهُ: حَتَّى بَرَدَ: أَيْ مَاتَ. وَمِسْعَرُ حَرْبٍ: أَيْ مُوقِدُ حَرْبٍ، وَالْمِسْعَرُ وَالْمِسْعَارُ مَا تحْمَى بِهِ النَّارُ مِنْ خَشَبٍ وَنَحْوِهِ. وَسِيفُ الْبَحْرِ: سَاحِلُهُ. وَامْتَعَضُوا مِنْهُ: كَرِهُوا وَشَقَّ عَلَيْهِمْ، وَالْعَاتِقُ: الْجَارِيَةُ حِينَ تُدْرِكُ. وَالْعَيْبَةُ: الْمَكْفُوفَةُ الْمُشْرِجَةُ، وَكَنَّى بِذَلِكَ عَنْ الْقُلُوبِ وَنَقَائِهَا مِنْ الْغِلِّ وَالْخِدَاعِ. وَالإِغْلالُ: الْخِيَانَةُ. وَالإِسْلالُ مِنْ السِّلَّةِ وَهِيَ السَّرِقَةُ.

(2/497)


وَقَدْ جَمَعَ هَذَا الْحَدِيثُ فَوَائِدَ كَثِيرَةً فَنُشِيرُ إلَى بَعْضِهَا إشَارَةً تُنَبِّهُ مَنْ يَتَدَبَّرُهُ عَلَى بَقِيَّتِهَا. فِيهِ أَنَّ ذَا الْحُلَيْفَةِ مِيقَاتٌ لِلْعُمْرَةِ كَالْحَجِّ، وَأَنَّ تَقْلِيدَ الْهَدْيِ سُنَّةٌ فِي نَفْلِ النُّسُكِ وَوَاجِبِهِ. وَأَنَّ الإِشْعَارَ سُنَّةٌ وَلَيْسَ مِنْ الْمُثْلَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَأَنَّ أَمِيرَ الْجَيْشِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبْعَثَ الْعُيُونَ أَمَامَهُ نَحْوَ الْعَدُوِّ، وَأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِالْمُشْرِكِ الْمَوْثُوقِ بِهِ فِي أَمْرِ الْجِهَادِ جَائِزَةٌ لِلْحَاجَةِ؛ لأنَّ عُيَيْنَةَ الْخُزَاعِيَّ كَانَ كَافِرًا، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ مَعَ كُفْرِهَا عَيْبَةَ نُصْحِهِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ مَشُورَةِ الْجَيْشِ، إمَّا لِاسْتِطَابَةِ نُفُوسِهِمْ أَوْ اسْتِعْلامِ مَصْلَحَةٍ، وَفِيهِ جَوَازُ سَبْيِ ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ بِانْفِرَادِهِمْ قَبْلَ التَّعَرُّضِ لِرِجَالِهِمْ. وَفِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ جَوَازُ التَّصْرِيحِ بِاسْمِ الْعَوْرَةِ لِحَاجَةٍ وَمَصْلَحَةٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِفُحْشٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَفِي قِيَامِ الْمُغِيرَةِ عَلَى رَأْسِهِ بِالسَّيْفِ اسْتِحْبَابُ الْفَخْرِ وَالْخُيَلاءِ فِي الْحَرْبِ لِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي ذَمِّهِ لِمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ النَّاسُ قِيَامًا. وَفِيهِ أَنَّ مَالَ الْمُشْرِكِ الْمُعَاهَدِ لا يُمْلَكُ بِغَنِيمَةٍ بَلْ يُرَدُّ عَلَيْهِ. وَفِيهِ بَيَانُ طَهَارَةِ النُّخَامَةِ وَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّفَاؤُلِ، وَأَنَّ الْمَكْرُوهَ الطِّيَرَةُ وَهِيَ التَّشَاؤُمُ. وَفِيهِ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ إذَا عُرِفَ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ أَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْجَدِّ. وَفِيهِ أَنَّ مُصَالَحَةَ الْعَدُوِّ بِبَعْضِ مَا فِيهِ ضَيْمٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَائِزَةٌ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ دَفْعًا لِمَحْذُورٍ أَعْظَمَ مِنْهُ. وَفِيهِ أَنَّ مَنْ وَعَدَ أَوْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا وَلَمْ يُسَمِّ وَقْتًا فَإِنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي. وَفِيهِ أَنَّ الْحَلاق نُسُكٌ عَلَى الْمُحْصَرِ، وَأَنَّ لَهُ نَحْرَ هَدْيِهِ بِالْحِلِّ لأنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي نَحَرُوا فِيهِ بِالْحُدَيْبِيَةِ مِنْ الْحِلِّ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} وَفِيهِ أَنَّ مُطْلَقَ أَمْرِهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْفَوْرِ، وَأَنَّ الأصْلَ مُشَارَكَةُ أُمَّتِهِ لَهُ فِي الأحْكَامِ. وَفِيهِ أَنَّ شَرْطَ الرَّدِّ لا يَتَنَاوَلَ مَنْ خَرَجَ مُسْلِمًا إِلَى غَيْرِ بَلَدِ الإِمَامِ. وَفِيهِ أَنَّ النِّسَاءَ لا يَجُوزُ شَرْطُ رَدِّهِنَّ لِلآيةِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي دُخُولِهِنَّ فِي الصُّلْحِ، فَقِيلَ: لَمْ يَدْخُلْنّ فِيهِ لِقَوْلِهِ: عَلَى أَنْ لا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ إِلا رَدَدْتَهُ. وَقِيلَ: دَخَلْنَ فِيهِ لِقَوْلِهِ فِي رِوَايةٍ أُخْرَى: لا يَأْتِيكَ مِنَّا أَحَدٌ لَكِن نُسِخَ ذَلِكَ، أَوْ بُيِّنَ فَسَادُهُ بِالآيةِ. وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ تَنْبِيه عَلَى غَيْرِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيل» . مُنَاسَبَةٌ ذَكَرَهَا أَنَّ الصَّحَابَةَ لَوْ دَخَلُوا مَكَّة عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ وَصَدَّهُمْ قُرْيش عَنْ ذَلِكَ لَوَقَعَ

(2/498)


بَيْنَهُمْ قِتَالٌ قَدْ يُفْضِي إِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ وَنَهْبِ الأَمْوَالِ كَمَا لَوْ قُدِّرَ دُخُولُ الْفِيل وَأَصْحَابه مَكَّةَ، لَكِن سَبَقَ فِي عَلْمِ اللهِ تَعَالَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّهُ سَيَدْخُلُ فَي الإِسْلامِ خَلْقٌ مِنْهُمْ وَسَيُخْرِجُ مِنْ أَصْلابِهِمْ نَاسٌ يُسْلِمُونَ وَيُجَاهِدُونَ. وَكَانَ بِمَكَّة جَمْعٌ كَثِيرٌ مُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَفِي هَذِهِ الْقِصَّة جَوَازُ التَّشْبِيه مِنْ الْجِهَةِ الْعَامَّةِ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْجِهَةُ الْخَاصَّةُ لأَنَّ أَصْحَابَ الْفِيلِ كَانُوا عَلَى بَاطِلٍ مَحْضٍ وَأَصْحَابَ هَذِهِ النَّاقَة كَانُوا عَلَى حَقٍّ مَحْضٍ، وَلَكِن جَاءَ التَّشْبِيه مِنْ جِهَةِ إِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى مَنْع الْحَرَمِ مُطْلَقًا. وَقَالَ الْخَطابِيُّ: مَعْنَى تَعْظِيم حُرُمَاتِ اللهِ فِي هَذِهِ تَرْك الْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ وَالْجُنُوحِ إِلَى الْمُسَالَمَةِ وَالْكّفِّ عَنْ إِرَادَةِ سَفْكِ الدِّمَاءِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقٍ: يَسْأَلُونَنِي فِيهَا صِلَةُ الرَّحِمِ وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ حُرُمَاتِ اللهِ. بَابُ جَوَازِ مُصَالَحَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمَالِ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولاً 4443- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَهْلَ خَيْبَرَ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى أَلْجَأَهُمْ إلَى قَصْرِهِمْ وَغَلَبَهُمْ عَلَى الأرْضِ وَالزَّرْعِ وَالنَّخْلِ، فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يُجْلُوا مِنْهَا وَلَهُمْ مَا حَمَلَتْ رِكَابُهُمْ وَلِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ وَالْحَلْقَةُ وَهِيَ السِّلاحُ وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لا يَكْتُمُوا وَلا يُغَيِّبُوا شَيْئًا، فَإِنْ فَعَلُوا فَلا ذِمَّةَ لَهُمْ وَلا عَهْدَ، فَغَيَّبُوا مَسْكًا فِيهِ مَالٌ وَحُلِيٌّ لِحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ كَانَ احْتَمَلَهُ مَعَهُ إلَى خَيْبَرَ حِينَ أُجْلِيَتْ النَّضِيرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعَمِّ حُيَيِّ وَاسْمُهُ سَعْيَةُ: «مَا فَعَلَ مَسْكُ حُيَيِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ النَّضِيرِ» ؟ قَالَ: أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ، فَقَالَ: «الْعَهْدُ قَرِيبٌ وَالْمَالُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ» . وَقَدْ كَانَ حُيَيِّ قُتِلَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَعْيَةَ إلَى الزُّبَيْرِ فَمَسَّهُ بِعَذَابٍ، فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ حُيَيًّا يَطُوفُ فِي خَرِبَةٍ هَا هُنَا. فَذَهَبُوا فَطَافُوا فَوَجَدُوا الْمَسْكَ فِي الْخَرِبَةِ، فَقَتَلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابْنَيْ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَأَحَدُهُمَا زَوْجُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَسَبَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ، وَقَسَمَ أَمْوَالَهُمْ بِالنَّكْثِ الَّذِي نَكَثُوا، وَأَرَادَ أَنْ يُجْلِيَهُمْ مِنْهَا، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ دَعْنَا نَكُونُ فِي هَذِهِ الأرْضِ نُصْلِحُهَا وَنَقُومُ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلا لأصْحَابِهِ غِلْمَانٌ يَقُومُونَ عَلَيْهَا وَكَانُوا لا يَفْرُغُونَ أَنْ

(2/499)


يَقُومُوا عَلَيْهَا فَأَعْطَاهُمْ خَيْبَرَ عَلَى أَنَّ لَهُمْ الشَّطْرَ مِنْ كُلِّ زَرْعٍ وَشَيْءٍ مَا بَدَا لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَأْتِيهِمْ فِي كُلِّ عَامٍ فَيَخْرُصُهَا عَلَيْهِمْ ثُمَّ يُضَمِّنُهُمْ الشَّطْرَ، فَشَكَّوْا إلَى ... رَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - شِدَّةَ خَرْصِهِ وَأَرَادُوا أَنْ يَرْشُوهُ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: تُطْعِمُونِي السُّحْتَ، وَاَللَّهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَحَبِّ النَّاسِ إلَيَّ، وَلأنْتُمْ أَبْغَضُ إلَيَّ مِنْ عِدَّتِكُمْ مِنْ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَلا يَحْمِلُنِي بُغْضِي إيَّاكُمْ، وَحُبِّي إيَّاهُ عَلَى أَنْ لا أَعْدِلَ عَلَيْكُمْ. فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعْطِي كُلَّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ ثَمَانِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ كُلَّ عَامٍ وَعِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ شَعِيرٍ، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عُمَرَ غَشُّوا، فَأَلْقَوْا ابْنَ عُمَرَ مِنْ فَوْقِ بَيْتٍ فَفَدَعُوا يَدَيْهِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَنْ كَانَ لَهُ سَهْمٌ بِخَيْبَرَ فَلْيَحْضُرْ حَتَّى نَقْسِمَهَا بَيْنَهُمْ، فَقَسَمَهَا عُمَرُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ رَئِيسُهُمْ: لا تُخْرِجْنَا دَعْنَا نَكُونُ فِيهَا كَمَا أَقَرَّنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ عُمَرُ لِرَئِيسِهِمْ: أَتُرَاهُ سَقَطَ عَلَى قَوْلِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ «كَيْفَ بِكَ إذَا رَقَصَتْ بِكَ رَاحِلَتُكَ نَحْوَ الشَّامِ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا» . وَقَسَمَهَا عُمَرُ بَيْنَ مَنْ كَانَ شَهِدَ خَيْبَرَ مِنْ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ: أَنَّ تَبَيُّنَ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِالشَّرْطِ الْمَشْرُوطِ يُفْسِدُ الصُّلْحَ حَتَّى فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَأَنَّ قِسْمَةَ الثِّمَارِ خَرْصًا مِنْ غَيْرِ تَقَابُضٍ جَائِزَةٌ، وَأَنَّ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ مُدَّةٍ جَائِزٌ، وَأَنَّ مُعَاقَبَةَ مَنْ يَكْتُمُ مَالًا جَائِزَةٌ، وَأَنَّ مَا فُتِحَ عَنْوَةً يَجُوزُ قِسْمَتُهُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْفَوَائِدِ. 4444- وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ جُهَيْنَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَعَلَّكُمْ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا فَتَظْهَرُونَ عَلَيْهُمْ فَيَتَّقُونَكُمْ بِأَمْوَالِهِمْ دُونَ أَنْفُسِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، فَتُصَالِحُونَهُمْ عَلَى صُلْحٍ فَلا تُصِيبُوا مِنْهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لا يَصْلُحُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (الصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ وَالْحَلْقَةُ) فِيهِ مُصَالَحَةُ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَالِ الْمَجْهُولِ. قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَئِيسُهُمْ: لا تُخْرِجْنَا، دعنا نكون فيها كما أقرنا رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -) الذي فِي الْبُخَارِيِّ: (وقد أقرنا محمد) قَالَ الحافظ: تنبيه، وقع للْحُمَيْدِيِّ

(2/500)


نِسْبَةِ رواية حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ مطولة جدًا إلَى الْبُخَارِيِّ، وَكَأَنَّهُ نَقَلَ السِّيَاقَ مِنْ مُسْتَخْرَجِ الْبَرْقَانِيّ كعادته، وذَهِلَ عَنْ عَزْوِ إليه، ِوَقَدْ نَسبهَ الإِسْمَاعِيلِيُّ عَلَى أَنَّ حَمَّادًا كَانَ يُطَوِّلُهُ تَارَةً وَيَرْوِيهِ تَارَةً مُخْتَصَرًا. قَالَ الشَّارِح: وَقَدْ وَهِمَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ فِي نِسْبَةِ جَمِيعِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ إلَى الْبُخَارِيِّ، وَلَعَلَّهُ نَقَلَ لَفْظَ الْحُمَيْدِيِّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ وَالْحُمَيْدِيِّ كَأَنَّهُ نَقَلَ السِّيَاقَ مِنْ مُسْتَخْرَجِ الْبَرْقَانِيِّ إلى أنْ قَالَ: وذَهِلَ عَنْ عَزْوِ إلَى الْبَرْقَانِيِّ وَعَزَاهُ إلَى الْبُخَارِيِّ فَتَبِعَهُ الْمُصَنِّفُ فِي ذَلِكَ. قَوْلُهُ: «فَلا تُصِيبُوا مِنْهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لا يَصْلُحُ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ وُقُوعِ الصُّلْحِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ عَلَى شَيْءٍ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُمْ زِيَادَةً عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ تَرْكِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَنَقْضِ الْعَقْدِ وَهُمَا مُحَرَّمَانِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. بَابُ مَا جَاءَ فِيمَنْ سَارَ نَحْوَ الْعَدُوِّ فِي آخِرِ مَدَّةِ الصُّلْحِ بَغْتَةً 4445- عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: كَانَ مُعَاوِيَةُ يَسِيرُ بِأَرْضِ الرُّومِ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَمَدٌ، فَأَرَادَ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهُمْ، فَإِذَا انْقَضَى الأمَدُ غَزَاهُمْ، فَإِذَا شَيْخٌ عَلَى دَابَّةٍ يَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، وَفَاءٌ لا غَدْرٌ، إنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلا يَحِلَّنَّ عُقْدَةً وَلا يَشُدَّنَّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا أَوْ يَنْبُذَ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ» . فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَرَجَعَ فَإِذَا الشَّيْخُ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى مَا تَرْجَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ الْبَابَ مِنْ أَنَّهُ لا يَجُوزُ الْمَسِيرُ إلَى الْعَدُوِّ فِي آخِرِ مُدَّةِ الصُّلْحِ بَغْتَةً، بَلْ الْوَاجِبُ الِانْتِظَارُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ أَوْ النَّبْذُ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ. بَابٌ الْكُفَّارُ يُحَاصَرُونَ فَيَنْزِلُونَ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ 4446- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ أَهْلَ قُرَيْظَةَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى سَعْدٍ فَأَتَاهُ عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا قَرِيبًا مِنْ الْمَسْجِدِ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ - أَوْ - خَيْرِكُمْ» . فَقَعَدَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -

(2/501)


فَقَالَ: «إنَّ هَؤُلاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ» . قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ، فَقَالَ: «لَقَدْ حَكَمْتَ بِمَا حَكَمَ بِهِ الْمَلِكُ» . 4447- وَفِي لَفْظٍ قَضَيْتَ بِحُكْمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ نُزُولُ الْعَدُوِّ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَيَلْزَمُهُمْ مَا حُكِمَ بِهِ عَلَيْهِمْ. بَابُ أَخْذِ الْجِزْيَةِ وَعَقْدِ الذِّمَّةِ 4448- عَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 4449- وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ عُمَرَ ذَكَرَ الْمَجُوسَ فَقَالَ: مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. 4450- وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ قَالَ لِعَامِلِ كِسْرَى: أَمَرَنَا نَبِيُّنَا - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 4451- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ فَجَاءَتْهُ قُرَيْشٌ وَجَاءَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَشَكَوْهُ إلَى أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي مَا تُرِيدُ مِنْ قَوْمِكَ؟ قَالَ: «أُرِيدُ مِنْهُمْ كَلِمَةً تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي إلَيْهِمْ بِهَا الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ» . قَالَ: كَلِمَةً وَاحِدَةً؟ قَالَ: «كَلِمَةً وَاحِدَةً قُولُوا: لا إلَهَ إِلا اللهُ» . قَالُوا: إلَهًا وَاحِدًا مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ، قَالَ: فَنَزَلَ فِيهِمْ الْقُرْآنُ {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} إلَى قَوْلِهِ: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. 4452- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ: «إنَّ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ مِنْكُمْ دِينَارًا كُلَّ سَنَةٍ أَوْ قِيمَتَهُ مِنْ الْمَعَافِرِ» . يَعْنِي أَهْلَ

(2/502)


الذِّمَّةِ مِنْهُمْ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ. 4453- وَقَدْ سَبَقَ هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فِي حَدِيثٍ لِمُعَاذٍ. 4454- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الأنْصَارِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4455- وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَبِلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ وَكَانُوا مَجُوسًا. رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الأمْوَالِ. 4456- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إلَى أُكَيْدِرِ دَوْمَةَ، فَأَخَذُوهُ فَأَتَوْا بِهِ فَحَقَنَ دَمَهُ وَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لا تَخْتَصُّ بِالْعَجَمِ؛ لأنَّ أُكَيْدِرَ دَوْمَةَ عَرَبِيٌّ مِنْ غَسَّانَ. 4457- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: صَالَحَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ النِّصْفُ فِي صَفَرٍ، وَالْبَقِيَّةُ فِي رَجَبٍ يُؤَدُّونَهَا إلَى الْمُسْلِمِينَ، وَعَارِيَّةٍ ثَلاثِينَ دِرْعًا وَثَلاثِينَ فَرَسًا وَثَلاثِينَ بَعِيرًا وَثَلاثِينَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ السِّلاحِ يَغْزُونَ بِهَا، وَالْمُسْلِمُونَ ضَامِنُونَ لَهَا حَتَّى يَرُدُّوهَا عَلَيْهِمْ إنْ كَانَ بِالْيَمَنِ كَيْدٌ ذَاتُ غَدْرٍ عَلَى أَنْ لا يُهْدَمَ لَهُمْ بِيَعَةٌ، وَلا يُخْرَجَ لَهُمْ قَسٌّ، وَلا يُفْتَنُوا عَنْ دِينِهِمْ مَا لَمْ يُحْدِثُوا حَدَثًا، أَوْ يَأْكُلُوا الرِّبَا. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. 4458- وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَهْلُ نَجْرَانَ وَكَانُوا نَصَارَى. رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الأمْوَالِ. 4459- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَكُونُ مِقْلاةً، فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ، فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الأنْصَارِ فَقَالُوا: لا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} . الآية رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

(2/503)


وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَثَنِيَّ إذَا تَهَوَّدَ يُقَرُّ وَيَكُونُ كَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَعَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ قَالَ: قُلْتُ لَمُجَاهِدٍ: مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّامِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَأَهْلِ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ؟ قَالَ: جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْيَسَارِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. 4460- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَصْلُحُ قِبْلَتَانِ فِي أَرْضٍ، وَلَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ عَلَى سُقُوطِ الْجِزْيَةِ بِالإِسْلامِ وَعَلَى الْمَنْعِ مِنْ إحْدَاثِ بَيْعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ. 4461- وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عُشُورٌ، إنَّمَا الْعُشُورُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4462- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: أَرَدْت أَنْ أَقْتُلَكَ، فَقَالَ: «مَا كَانَ اللهُ لِيُسَلِّطكِ عَلَى ذَلِكَ» . قَالَ: فَقَالُوا: أَلا نَقْتُلُهَا؟ قَالَ: «لا» . فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَهْدَ لا يَنْتَقِضُ بِمِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ. قَوْلُهُ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا مِنْ الْكَلامِ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ؛ لأنَّ الْمُرَادَ سُنَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ فَقَطْ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَيْسَ تَحْرِيمُ نِكَاحِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ الأكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَيْهِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحِكْمَةُ فِي وَضْعِ الْجِزْيَةِ أَنَّ الَّذِي يَلْحَقُهُمْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى الدُّخُولِ فِي الإِسْلامِ مَعَ مَا فِي مُخَالَطَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الِاطِّلاعِ عَلَى مَحَاسِنِ الإِسْلامِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: (فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا اخْتَارَ الْوَثَنِيُّ الدُّخُولَ فِي الْيَهُودِيَّةِ أَوْ النَّصْرَانِيَّةِ جَازَ تَقْرِيرُهُ عَلَى ذَلِكَ.

(2/504)


قَوْلُهُ: «وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عُشُورٌ» أَيْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ غَيْرُ الزَّكَاةِ مِنْ الضَّرَائِبِ. وَالْمَكْسِ وَنَحْوهِمَا. وَقَالَ الْخَطَّابِيِّ: يُرِيدُ عُشُورَ التِّجَارَاتِ دُونَ عُشُورِ الصَّدَقَاتِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ قَالَ: اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى الْعُشُورِ فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الْحَرْبِ الْعُشْرَ، وَمِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفَ الْعُشْرِ، وَمِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ رُبْعَ الْعُشْرِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أنه سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لا يدخل صاحب مكس الجنة» . قال يزيد بن هرون: يعني العشار. رواه أَبُو دَاوُد وابن خزيمة في صحيحه. قال البغوي: يريد بصاحب المكس الذي يأخذ من التجار إذا مروا عليه مكسًا باسم العشر: قال الحافظ الْمُنْذِرِيُّ: أما الآن فإنهم يأخذون مكسًا باسم العشر ومكوسًا أخر ليس لها اسم بل شيئًا يأخذونه حرامًا وسحتًا ويأكلون في بطونهم نارًا حجتهم فيه داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد. بَابُ مَنْعِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ سُكْنَى الْحِجَازِ 4463- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَعُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلاثٍ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ، وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالشَّكُّ مِنْ سُلَيْمَانَ الأحْوَلِ. 4464- وَعَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لا أَدَعَ فِيهَا إِلا مُسْلِمًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4465- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: آخِرُ مَا عَهِدَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «لا يُتْرَكُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ» . 4466- وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ قَالَ: آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَخْرِجُوا يَهُودَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ.

(2/505)


وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ وَذَكَرَ حرب يَهُودَ خَيْبَرَ إلَى أَنْ قَالَ: أَجْلاهُمْ عُمَرُ إلَى تَيْمَاءَ وَأَرِيحَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» . قَالَ الأصْمَعِيُّ: جَزِيرَةُ الْعَرَبِ مَا بَيْنَ أَقْصَى عَدَنَ أَبْيَنَ إلَى رِيفِ الْعِرَاقِ طُولاً، وَمِنْ جُدَّةَ وَمَا وَالاهَا مِنْ أَطْرَافِ الشَّامِ عَرْضًا. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَجَزِيرَةُ الْعَرَبِ مَا أَحَاطَ بِهَا بَحْرُ الْهِنْدِ وَبَحْرُ الشَّامِ ثُمَّ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ، أَوْ مَا بَيْنَ عَدَنَ إلَى أَطْرَافِ الشَّامِ طُولًا، وَمِنْ جُدَّةَ إلَى رِيفِ الْعِرَاقِ عَرْضًا قَالَ الشَّارِح: وَظَاهِرُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يَجِبُ إخْرَاجُ كُلِّ مُشْرِكٍ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ سَوَاءٌ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ مَجُوسِيًّا. وَحَكَى الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ عَنْ الْجُمْهُورِ أَنَّ الَّذِي يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ هُوَ الْحِجَازُ خَاصَّةً، قَالَ: وَهُوَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَمَا وَالاهَا لا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْيَمَنَ لا يُمْنَعُونَ مِنْهَا مَعَ أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ قَالَ: وَعَنْ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ مُطْلَقًا إِلا الْمَسْجِدَ. وَعَنْ مَالِكٍ يَجُوزُ دُخُولُهُمْ الْحَرَمَ لِلتِّجَارَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لا يَدْخُلُونَ الْحَرَمَ أَصْلًا إِلا بِإِذْنِ الإِمَامِ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ. بَابُ مَا جَاءَ فِي بُدَاءَتِهِمْ بِالتَّحِيَّةِ وَعِيَادَتِهِمْ 4467- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلامِ، وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُمْ إلَى أَضْيَقِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4468- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4469- وَفِي رِوَايَةٍ لأحْمَدَ «فَقُولُوا: عَلَيْكُمْ» بِغَيْرِ وَاوٍ. 4470- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الْيَهُودَ إذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمْ إنَّمَا يَقُولُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقُلْ: عَلَيْكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(2/506)


4471- وَفِي رِوَايَةٍ لأحْمَدَ وَمُسْلِمٍ «وَعَلَيْكَ» . بِالْوَاوِ. 4472- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَفَهِمْتُهَا، فَقُلْتُ: عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، إنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأمْرِ كُلِّهِ» . فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ فَقَالَ: «قَدْ قُلْت: وَعَلَيْكُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ: «عَلَيْكُمْ» . أَخْرَجَاهُ. 4473- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنِّي رَاكِبٌ غَدًا إلَى يَهُودَ فَلا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلامِ، وَإِذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4474- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ غُلامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ» . فَنَظَرَ إلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ، فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَقُولُ: ... «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنْ النَّارِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 4475- وَفِي رِوَايَةٍ لأحْمَدَ أَنَّ غُلامًا يَهُودِيًّا كَانَ يَضَعُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَضُوءَهُ وَيُنَاوِلُهُ نَعْلَيْهِ فَمَرِضَ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ» . إلَى آخْره فِيهِ تَحْرِيمُ ابْتِدَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِالسَّلامِ، وَقَدْ حَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ عَامَّةِ السَّلَفِ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّهُ يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُمْ بِهِ لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ. قَوْلُهُ: «إنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأمْرِ كُلِّهِ» . هذا من عظيم خلقه - صلى الله عليه وسلم - وكمال حلمه وفيه حث على الرفق والصبر والحلم وملاطفة الناس ما لم تدع حاجة إلى المخاشنة. وفي الحديث استحباب تغافل أهل الفضل عن سفه المبطلين إذا لم يترتب عليه مفسده قَالَ: الشَّافِعِيِّ: الكيس العاقل هو الفطن المتغافل. قَوْلُهُ: (كَانَ غُلامٌ يَهُودِيٌّ) زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ اسْمُهُ عَبْدُ الْقُدُّوسِ. وَفِي

(2/507)


الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ زِيَارَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا كَانَ الزَّائِرُ يَرْجُو بِذَلِكَ حُصُولَ مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ بَابُ قِسْمَةِ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ وَمَصْرِفِ الْفَيْءِ 4476- عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْنَا: أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ مِنْ خُمْسِ خَيْبَرَ وَتَرَكَتْنَا قَالَ: «إنَّمَا بَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ» . قَالَ جُبَيْرٌ: وَلَمْ يَقْسِمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَلا لِبَنِي نَوْفَلٍ شَيْئًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. 4477- وَفِي رِوَايَةٍ: لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى مِنْ خَيْبَرَ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ جِئْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ هَؤُلاءِ بَنُو هَاشِمٍ لا يُنْكَرُ فَضْلُهُمْ لِمَكَانِكَ الَّذِي وَضَعَكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُمْ، أَرَأَيْتَ إخْوَانَنَا مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ: «إنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلا إسْلامٍ، وَإِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ» . قَالَ: ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالْبَرْقَانِيُّ، وَذَكَرَ أَنَّهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. 4478- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: اجْتَمَعْتُ أَنَا وَالْعَبَّاسُ وَفَاطِمَةُ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إنْ رَأَيْتَ أَنْ تُوَلِّيَنِي حَقَّنَا مِنْ هَذَا الْخُمُسِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى فَأَقْسِمَهُ فِي حَيَاتِكَ كَيْ لا يُنَازِعَنِي أَحَدٌ بَعْدَكَ فَافْعَلْ، قَالَ: فَفَعَلَ ذَلِكَ فَقَسَمْتُهُ حَيَاةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ وَلَّانِيهِ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى كَانَتْ آخِرُ سَنَةٍ مِنْ سِنِي عُمَرَ، فَإِنَّهُ أَتَاهُ مَالٌ كَثِيرٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4479- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: وَلانِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خُمُسَ الْخُمُسِ فَوَضَعْتُهُ مَوَاضِعَهُ حَيَاةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَحَيَاةَ أَبِي بَكْرٍ وَحَيَاةَ عُمَرَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَصَارِفَ الْخُمُسِ خَمْسَةٌ. 4480- وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزٍ: أَنَّ نَجْدَةَ كَتَبَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ

(2/508)


الْخُمُسِ لِمَنْ هُوَ؟ فَكَتَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ الْخُمُسِ لِمَنْ هُوَ؟ فَإِنَّا نَقُولُ: هُوَ لَنَا، فَأَبَى عَلَيْنَا قَوْمُنَا ذَلِكَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4481- وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ نَجْدَةَ الْحَرُورِيَّ - حِينَ خَرَجَ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ - أَرْسَلَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى لِمَنْ يَرَاهُ، فَقَالَ: هُوَ لَنَا لِقُرْبَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَسَمَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَهُمْ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ عَرَضَ عَلَيْنَا شَيْئًا مِنْهُ رَأَيْنَاهُ دُونَ حَقِّنَا فَرَدَدْنَاهُ عَلََيْهِ وَأَبَيْنَا أَنْ نَقْبَلَهُ، وَكَانَ الَّذِي عَرَضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُعِينَ نَاكِحَهُمْ، وَأَنْ يَقْضِيَ عَنْ غَارِمِهِمْ، وَأَنْ يُعْطِيَ فَقِيرَهُمْ وَأَبَى أَنْ يَزِيدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 4482- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلا رِكَابٍ فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ. - وَفِي لَفْظٍ -: يَحْبِسُ لأهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ، وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي السِّلاحِ وَالْكُرَاعِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4483- وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا أَتَاهُ الْفَيْءُ قَسَمَهُ فِي يَوْمِهِ، فَأَعْطَى الآهِلَ حَظَّيْنِ، وَأَعْطَى الْعَزَبَ حَظًّا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَذَكَرَهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. 4484- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا أُعْطِيكُمْ وَلا أَمْنَعُكُمْ، أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَيَحْتَجُّ بِهِ مَنْ لَمْ يَرَ الْفَيْءَ مُلْكًا لَهُ. 4485- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: حَاجَتُكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَقَالَ: عَطَاءُ الْمُحَرَّرِينَ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوَّلَ مَا جَاءَهُ شَيْءٌ بَدَأَ بِالْمُحَرَّرِينَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4486- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ قَدْ جَاءَنِي مَالُ الْبَحْرَيْنِ لَقَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» . فَلَمْ يَجِئْ حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ مُنَادِيًا فَنَادَى: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ ... رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دَيْنٌ أَوْ عِدَّةٌ فَلْيَأْتِنَا، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْت: إنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ

(2/509)


لِي كَذَا وَكَذَا، فَحَثَى لِي حَثْيَةً وَقَالَ: عُدَّهَا، فَإِذَا هِيَ خَمْسُمِائَةٍ، فَقَالَ: خُذْ مِثْلَيْهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4487- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنَّهُ كَتَبَ أَنَّ مَنْ سَأَلَ عَنْ مَوَاضِعِ الْفَيْءِ فَهُوَ مَا حَكَمَ فِيهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَرَآهُ الْمُؤْمِنُونَ عَدْلًا، مُوَافِقًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «جَعَلَ اللهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ» . فَرَضَ الأعْطِيَةَ وَعَقَدَ لأهْلِ الأدْيَانِ ذِمَّةً بِمَا فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْجِزْيَةِ، وَلَمْ يَضْرِبْ فِيهَا بِخُمْسٍ وَلا مَغْنَمٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4488- وَعَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَحْلِفُ عَلَى أَيْمَانٍ ثَلاثٍ: وَاَللَّهِ مَا أَحَدٌ أَحَقُّ بِهَذَا الْمَالِ مِنْ أَحَدٍ، وَمَا أَنَا أَحَقُّ بِهِ مِنْ أَحَدٍ، وَوَاللهِ مَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ إِلا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ نَصِيبٌ إِلا عَبْدًا مَمْلُوكًا، وَلَكِنَّا عَلَى مَنَازِلِنَا مِنْ كِتَابِ اللهِ، وَقَسْمِنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَالرَّجُلُ وَبَلاؤُهُ فِي الإِسْلامِ، وَالرَّجُلُ وَقِدَمُهُ فِي الإِسْلامِ، وَالرَّجُلُ وَغَنَاؤُهُ فِي الإِسْلامِ، وَالرَّجُلُ وَحَاجَتُهُ، وَوَاللهِ لَئِنْ بَقِيتُ لَهُمْ لأُوتَيَنَّ الرَّاعِيَ بِجَبَلِ صَنْعَاءَ حَظَّهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَهُوَ يَرْعَى مَكَانَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ. 4489- وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ - يَوْمَ الْجَابِيَةِ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ -: إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَنِي خَازِنًا لِهَذَا الْمَالِ وَقَاسِمًا لَهُ، ثُمَّ قَالَ: بَلْ اللهُ قَاسِمُهُ. وَأَنَا بَادِئٌ بِأَهْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ أَشْرَفِهِمْ، فَفَرَضَ لأزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَشْرَةَ آلافٍ إِلا جَوَيْرِيَةَ وَصْفِيَّةَ وَمَيْمُونَةَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَعْدِلُ بَيْنَنَا، فَعَدَلَ بَيْنَهُنَّ عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ: إنِّي بَادِئٌ بِأَصْحَابِي الْمُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ، فَإِنَّا أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا ظُلْمًا وَعُدْوَانًا ثُمَّ أَشْرَفِهِمْ، فَفَرَضَ لأصْحَابِ بَدْرٍ مِنْهُمْ خَمْسَةَ آلافٍ، وَلِمَنْ كَانَ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الأنْصَارِ أَرْبَعَةَ آلافٍ، وَفَرَضَ لِمَنْ شَهِدَ أُحُدًا ثَلاثَةَ آلافٍ، قَالَ: وَمَنْ أَسْرَعَ فِي الْهِجْرَةِ أُسْرِعَ بِهِ فِي الْعَطَاءِ، وَمَنْ أَبْطَأَ فِي الْهِجْرَةِ أُبْطِئَ بِهِ فِي الْعَطَاءِ، فَلا يَلُومَنَّ رَجُلٌ إِلا مُنَاخَ رَاحِلَتِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: كَانَ عَطَاءُ الْبَدْرِيِّينَ خَمْسَةَ آلافٍ خَمْسَةَ آلافٍ، وَقَالَ عُمَرُ: لأُفَضِّلَنَّهُمْ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ.

(2/510)


وَعَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ - رضي الله عنه - كَانَ فَرَضَ لِلْمُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ أَرْبَعَةَ آلافٍ، وَفَرَضَ لِابْنِ عُمَرَ ثَلاثَةَ آلافٍ وَخَمْسَمِائَةٍ، فَقِيلَ لَهُ: هُوَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَلِمَ نَقَصْتَهُ مِنْ أَرْبَعَةِ آلافٍ؟ قَالَ: إنَّمَا هَاجَرَ بِهِ أَبُوهُ، يَقُولُ: هُوَ لَيْسَ كَمَنْ هَاجَرَ بِنَفْسِهِ. وَعَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إلَى السُّوقِ، فَلَحِقَتْ عُمَرَ امْرَأَةٌ شَابَّةٌ، فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلَكَ زَوْجِي وَتَرَكَ صِبْيَةً صِغَارًا، وَاَللَّهِ مَا يُنْضِجُونَ كُرَاعًا وَلا لَهُمْ زَرْعٌ وَلا ضَرْعٌ، وَخَشِيتُ أَنْ تَأْكُلَهُمْ الضَّبُعُ وَأَنَا ابْنَةُ خُفَافِ بْنِ إيمَاءٍ الْغِفَارِيِّ، وَقَدْ شَهِدَ أَبِي الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَوَقَفَ مَعَهَا عَمَرُ وَلَمْ يَمْضِ وَقَالَ: مَرْحَبًا بِنَسَبٍ قَرِيبٍ، ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى بَعِيرٍ ظَهِيرٍ كَانَ مَرْبُوطًا فِي الدَّارِ فَحَمَلَ عَلَيْهِ غَرَارَتَيْنِ مَلأهُمَا طَعَامًا، وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا نَفَقَةً وَثِيَابًا، ثُمَّ نَاوَلَهَا خِطَامَهُ، فَقَالَ: اقْتَادِيهِ فَلَنْ يَفْنَى هَذَا حَتَّى يَأْتِيَكُمْ اللهُ بِخَيْرٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَكْثَرْتَ لَهَا، فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، فَوَاَللَّهِ إنِّي لأرَى أَبَا هَذِهِ وَأَخَاهَا قَدْ حَاصَرَا حِصْنًا زَمَانًا فَافْتَتَحَاهُ وَأَصْبَحْنَا نَسْتَفِيءُ سُهْمَانَهُمَا فِيهِ. أَخْرَجَهُنَّ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ قَالَ: بِمَنْ تَرَوْنَ أَبْدَأُ؟ فَقِيلَ لَهُ: ابْدَأْ بِالأقْرَبِ فَالأقْرَبِ بِكَ، قَالَ: بَلْ أَبْدَأُ بِالأقْرَبِ فَالأقْرَبِ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. قَوْلُهُ: «إنَّمَا بَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ» قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِلشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى لِبَنِي هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ خَاصَّةً دُونَ بَقِيَّةِ قَرَابَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ قُرَيْشٍ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ هُمْ بَنُو هَاشِمٍ خَاصَّةً، وَبِهِ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْكُوفِيِّينَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمِيعُ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةً لأهْلِ الْقَوْلِ الأوَّلِ. قَوْلُهُ: (حَتَّى كَانَ سَنَةٍ مِنْ سِنِي عُمَرَ، فَإِنَّهُ أَتَاهُ مَالٌ كَثِيرٌ) قَالَ الشَّارِح: وَزَادَ أَبُو دَاوُد بَعْدَ قَوْلِهِ: فَعَزَلَ حَقَّنَا ثُمَّ أَرْسَلَ إلَيَّ فَقُلْت: بِنَا عَنْهُ الْعَامَ غِنًى وَبِالْمُسْلِمِينَ إلَيْهِ حَاجَةٌ فَارْدُدْهُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ لَمْ يَدْعُنِي إلَيْهِ أَحَدٌ بَعْدَ عُمَرَ، فَلَقِيتُ الْعَبَّاسَ

(2/511)


بَعْدَمَا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ حَرَمْتَنَا الْغَدَاةَ شَيْئًا لا يُرَدُّ عَلَيْنَا أَبَدًا، وَكَانَ رَجُلاً داهية. وَالأحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِنْ مَصَارِفِ الْخُمُسِ قُرْبَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: إنَّ الإِمَامَ يَقْسِمُ الْخُمُسَ حَيْثُ شَاءَ بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ قَالَتْ: أَصَابَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَبْيًا، فَذَهَبْتُ أَنَا وَأُخْتِي فَاطِمَةُ نَسْأَلُهُ، فَقَالَ: «سَبَقَتْكُمَا يَتَامَى بَدْرٍ» . قَالَ الْحَافِظُ فِي الاسْتِدْلالِ: بِذَلِكَ نَظَرٌ، لأنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ الْفَيْءِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: (وَلَكِنَّا عَلَى مَنَازِلِنَا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَقَسْمِنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -) فِيهِ إشْعَارٌ بِأَنَّ التَّفْضِيلَ لَمْ يَقَعْ مِنْ عُمَرَ بِمُجَرَّدِ الِاجْتِهَادِ، وَأَنَّهُ فَهِمَ ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ. قَوْلُهُا: (وَخَشِيتُ أَنْ تَأْكُلَهُمْ الضَّبُعُ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالضَّبُعُ السَّنَةُ الْمُجْدِبَةُ، قَالَ الشَّارِح: وَالْمُرَادُ بِالنَّسَبِ الْقَرِيبِ: الَّذِي يَعْرِفُهُ السَّامِعُ بِلا سَرْدٍ لِكَثِيرٍ مِنْ الآبَاءِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الأشْرَافِ الْمَشَاهِير. قَوْلُهُ: (بَلْ أَبْدَأُ بِالأقْرَبِ فَالأقْرَبِ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -) فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْبُدَاءَةِ بِقَرَابَةِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَقْدِيمِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ.

(2/512)


أَبْوَابُ السَّبَقِ وَالرَّمْيِ بَابُ مَا يَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ 4490- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا سَبَقَ إِلا فِي خُفٍّ أَوْ نَصْلٍ أَوْ حَافِرٍ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ ابْنُ مَاجَةْ «أَوْ نَصْلٍ» . 4491- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَابَقَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ الْخَيْلِ فَأُرْسِلَتْ الَّتِي ضَمُرَتْ مِنْهَا، وَأَمَدُهَا الْحَفْيَاءُ إلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَاَلَّتِي لَمْ تَضْمُرْ أَمَدُهَا ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ، إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّ بَيْنَ الْحَفْيَاءِ إلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ سِتَّةَ أَمْيَالٍ أَوْ سَبْعَةً. وَلِلْبُخَارِيِّ قَالَ سُفْيَانُ: مِنْ الْحَفْيَاءِ إلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ خَمْسَةُ أَمْيَالٍ أَوْ سِتَّةٌ، وَمِنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ مِيلٌ. 4492- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَبَّقَ بِالْخَيْلِ وَرَاهَنَ. 4493- وَفِي لَفْظٍ: سَبَّقَ بَيْنَ الْخَيْلِ وَأَعْطَى السَّابِقَ. رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. 4494- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَبَّقَ بَيْنَ الْخَيْلِ وَفَضَّلَ الْقُرَّحَ فِي الْغَايَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4495- وَعَنْ أَنَسٍ وَقِيلَ لَهُ: أَكُنْتُمْ تُرَاهِنُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟

(2/513)


أَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرَاهِنُ؟ قَالَ: نَعَمْ وَاَللَّهِ لَقَدْ رَاهَنَ عَلَى فَرَسٍ يُقَالُ لَهُ سَبْحَةٌ، فَسَبَقَ النَّاسَ فَبَهَشَ لِذَلِكَ وَأَعْجَبَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4496- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَتْ لِلْنَبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَاقَةٌ تُسَمَّى الْعَضْبَاءَ، وَكَانَتْ لا تُسْبَقُ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ فَسَبَقَهَا فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: سُبِقَتْ الْعَضْبَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ لا يَرْفَعَ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا إِلا وَضَعَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. قَوْلُهُ: «لا سَبَقَ إلا فِي خُفٍّ أَوْ نَصْلٍ أَوْ حَافِرٍ» قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ السِّبَاقِ عَلَى جَعْلٍ، فَإِنْ كَانَ الْجُعْلُ مِنْ غَيْرِ الْمُتَسَابِقِينَ كَالإِمَامِ يَجْعَلُهُ لِلسَّابِقِ فَهُوَ جَائِزٌ بِلا خِلافٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَحَدِ الْمُتَسَابِقِينَ جَازَ ذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَذَا إذَا كَانَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ مُحَلِّلٌ بِشَرْطِ أَنْ لا يُخْرِجَ مِنْ عِنْدِهِ شَيْئًا لِيَخْرُجَ الْعَقْدُ عَنْ صُورَةِ الْقِمَارِ، وَهُوَ أَنْ يُخْرِجَ كُلٌّ مِنْهُمَا سَبَقًا، فَمَنْ غَلَبَ أَخَذَ السَّبَقَيْنِ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى مَنْعِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ فِي الْمُحَلِّلِ أَنْ لا يَكُونَ يَتَحَقَّقُ السَّبَقُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: (زُرَيْقٌ) بِتَقْدِيمِ الزَّايِ. وَالْحَدِيثُ فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْمُسَابَقَةِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْعَبَثِ بَلْ مِنْ الرِّيَاضَةِ الْمَحْمُودَةِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى تَحْصِيلِ الْمَقَاصِدِ فِي الْغَزْوِ وَالانْتِفَاعِ بِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَهِيَ دَائِرَةٌ بَيْنَ الاسْتِحْبَابِ وَالإِبَاحَةِ بِحَسَبِ الْبَاعِثِ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لا خِلافَ فِي جَوَازِ الْمُسَابَقَةِ عَلَى الْخَيْلِ وَغَيْرِهَا مِنْ الدَّوَابِّ وَعَلَى الأقْدَامِ، وَكَذَا الرَّمْيُ بِالسِّهَامِ وَاسْتِعْمَالُ الأسْلِحَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّدَرُّبِ عَلَى الْجَرْيِ، وَفِيهِ جَوَازُ تَضْمِيرِ الْخَيْلِ. قَوْلُهُ: «إنَّ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ لا يَرْفَعَ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا إلا وَضَعَهُ» . قَالَ الشَّارِح: وَفِي الْحَدِيثِ التَّزْهِيدُ فِي الدُّنْيَا لِلإِشَارَةِ إلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا لا يَرْتَفِعُ إلا اتَّضَعَ، وَفِيهِ حُسْنُ خُلُقِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَتَوَاضُعُهُ. بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمُحَلِّلِ وَآدَابِ السَّبَقَ 4497- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لا يَأْمَنُ أَنْ

(2/514)


يَسْبِقَ فَلا بَأْسَ، وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ آمِنٌ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. 4498- وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ الأنْصَارِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْخَيْلُ ثَلاثَةٌ: فَرَسٌ يَرْبِطُهُ الرَّجُلُ فِي سَبِيلِ اللهِ فَثَمَنُهُ أَجْرٌ، وَرُكُوبُهُ أَجْرٌ، وَعَارِيَّتُهُ أَجْرٌ، وَعَلَفُهُ أَجْرٌ. وَفَرَسٌ يُغَالِقُ فِيهِ الرَّجُلُ وَيُرَاهِنُ فَثَمَنُهُ وِزْرٌ وَعَلَفُهُ وِزْرٌ وَرُكُوبُهُ وِزْرٌ. وَفَرَسٌ لِلْبَطْنَةِ فَعَسَى أَنْ يَكُونَ سَدَادًا مِنْ الْفَقْرِ إنْ شَاءَ اللهُ» . 4499- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْخَيْلُ ثَلاثَةٌ: فَرَسٌ لِلرَّحْمَنِ، وَفَرَسٌ لِلإِنْسَانِ، وَفَرَسٌ لِلشَّيْطَانِ، فَأَمَّا فَرَسُ الرَّحْمَنِ فَاَلَّذِي يَرْتَبِطُ فِي سَبِيلِ اللهِ فَعَلَفُهُ وَرَوْثُهُ وَبَوْلُهُ وَذَكَرَ مَا شَاءَ اللهُ، وَأَمَّا فَرَسُ الشَّيْطَانِ فَاَلَّذِي يُقَامِرُ، أَوْ يُرَاهِنُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا فَرَسُ الإِنْسَانِ فَالْفَرَسُ يَرْتَبِطُهُ الإِنْسَانُ يَلْتَمِسُ بَطْنَهَا فَهِيَ سِتْرُ فَقْرٍ» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. وَيُحْمَلانِ عَلَى الْمُرَاهَنَةِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ. 4500- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا جَلَبَ وَلا جَنَبَ يَوْمَ الرِّهَانِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4501- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا جَلَبَ وَلا جَنَبَ وَلا شِغَارَ فِي الإِسْلامِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4502- وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَا عَلِيُّ قَدْ جَعَلْتُ إلَيْكَ هَذِهِ السُّبْقَةَ بَيْنَ النَّاسِ» . فَخَرَجَ عَلِيٌّ فَدَعَا سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ إنِّي قَدْ جَعَلْتُ إلَيْكَ مَا جَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي عُنُقِي مِنْ هَذِهِ السُّبْقَةِ فِي عُنُقِك، فَإِذَا أَتَيْتَ الْمِيطَانَ - قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَالْمِيطَانُ مُرْسِلُهَا مِنْ الْغَايَةِ - فَصُفَّ الْخَيْلَ ثُمَّ نَادِ هَلْ مِنْ مُصْلِحٍ لِلِجَامٍ أَوْ حَامِلٍ لِغُلامٍ أَوْ طَارِحٍ لِجُلٍّ فَإِذَا لَمْ يُجِبْكَ أَحَدٌ فَكَبِّرْ ثَلاثًا ثُمَّ خَلِّهَا عِنْدَ الثَّالِثَةِ يُسْعِدُ اللهُ بِسَبْقِهِ مَنْ يشَاءَ مِنْ خَلْقِهِ. وَكَانَ عَلِيٌّ يَقْعُدُ عِنْدَ مُنْتَهَى الْغَايَةِ، وَيَخُطُّ خَطًّا وَيُقِيمُ رَجُلَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ عِنْدَ طَرَفِ الْخَطِّ طَرَفُهُ بَيْنَ إبْهَامَيْ أَرْجُلِهِمَا، وَتَمُرُّ الْخَيْلُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ وَيَقُولُ: إذَا خَرَجَ أَحَدُ الْفَرَسَيْنِ عَلَى صَاحِبهِ بِطَرَفِ أُذُنَيْهِ أَوْ أُذُنٍ أَوْ عِذَارٍ فَاجْعَلُوا السُّبْقَةَ لَهُ، فَإِنْ شَكَكْتُمَا فَاجْعَلا سَبْقَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَإِذَا قَرَنْتُمْ ثِنْتَيْنِ

(2/515)


فَاجْعَلُوا الْغَايَةَ مِنْ غَايَةِ أَصْغَرِ الثِّنْتَيْنِ وَلا جَلَبَ وَلا جَنَبَ وَلا شِغَارَ فِي الإِسْلامِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «وَهُوَ لا يَأْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ» اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَلِّلِ أَنْ لا يَكُونَ مُتَحَقِّقَ السَّبَقِ وَإِلَّا كَانَ قِمَارًا. وَقِيلَ إنَّ الْغَرَضَ الَّذِي شُرِعَ لَهُ السِّبَاقُ هُوَ مَعْرِفَةُ الْخَيْلِ السَّابِقِ مِنْهَا وَالْمَسْبُوقِ، فَإِذَا كَانَ السَّابِقُ مَعْلُومًا فَاتَ الْغَرَضُ الَّذِي شُرِعَ لأجْلِهِ. قَوْلُهُ: «وَيُحْمَلانِ عَلَى الْمُرَاهَنَةِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ» أَيْ بِأَنْ يَكُونَ الْجَعْلُ لِلسَّابِقِ مِنْ الْمَسْبُوقِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ. قَوْلُهُ: «وَلا جَلَبَ وَلا جَنَبَ» قَالَ الشَّارِح: وَالْمُرَادُ بِالْجَلَبِ فِي الرِّهَانِ أَنْ يَأْتِيَ بِرَجُلٍ يَجْلُبُ عَلَى فَرَسِهِ: أَيْ يَصِيحُ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْبِقَ وَالْجَنَبُ: أَنْ يَجْنُبَ فَرَسًا إلَى فَرَسِهِ حَتَّى إذَا فَتَرَ الْمَرْكُوبُ تَحَوَّلَ إلَى الْمَجْنُوبِ. قَوْلُهُ: «هَذِهِ السُّبْقَةُ» هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَجْعَلُهُ الْمُتَسَابِقَانِ بَيْنَهُمَا يَأْخُذُهُ مَنْ سَبَقَ مِنْهُمَا. بَابُ الْحَثِّ عَلَى الرَّمْيِ 4503- عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ بِالسُّوقِ، فَقَالَ: «ارْمُوا يَا بَنِي إسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، ارْمُوا وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلانٍ» . قَالَ: فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا لَكُمْ لا تَرْمُونَ» ؟ قَالُوا: كَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهُمْ؟ فَقَالَ: «ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 4504- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ... «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} «أَلا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» . 4505- وَعَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ.

(2/516)


4506- وَعَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ اللهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلاثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ: صَانِعَهُ الَّذِي يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، وَاَلَّذِي يُجَهِّزُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَاَلَّذِي يَرْمِي بِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ» وَقَالَ: «ارْمُوا وَارْكَبُوا، وَأنْ تَرْمُوا خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا» . وَقَالَ: «كُلُّ شَيْءٍ يَلْهُو بِهِ ابْنُ آدَمَ فَهُوَ بَاطِلٌ إِلا ثَلاثًا: رَمْيَهُ عَنْ قَوْسِهِ، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ، وَمُلاعَبَتَهُ أَهْلَهُ فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. 4507- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَوْسٌ عَرَبِيَّةٌ، فَرَأَى رَجُلاً بِيَدِهِ قَوْسٌ فَارِسِيَّةٌ، فَقَالَ: «مَا هَذِهِ؟ أَلْقِهَا وَعَلَيْك بِهَذِهِ وَأَشْبَاهِهَا وَرِمَاحِ الْقَنَا، فَإِنَّهُمَا يُؤَيِّدُه اللهُ بِهِمَا فِي الدِّينِ، وَيُمَكِّنُ لَكُمْ فِي الْبِلادِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. 4508- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ عَدْلٌ مُحَرَّرٌ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 4509- وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد: «مَنْ بَلَغَ الْعَدُوَّ بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَهُ دَرَجَةٌ» . 4510- وَفِي لَفْظٍ لِلنَّسَائِيِّ «مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ بَلَغَ الْعَدُوَّ أَوْ لَمْ يَبْلُغْ كَانَ لَهُ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ» بِكَسْرِ اللَّامُ وَفِي الْحَدِيثِ النَّدْبُ إلَى اتِّبَاعِ خِصَالِ الآبَاءِ الْمَحْمُودَةِ وَالْعَمَلِ بِمِثْلِهَا، وَفِيهِ أَيْضًا حُسْنُ أَدَبِ الصَّحَابَةِ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَحُسْنُ خُلُقِهِ وَالتَّنْوِيهُ بِفَضِيلَةِ الرَّمْيِ. قَوْلُهُ: «أَلا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إنَّمَا فَسَّرَ الْقُوَّةَ بِالرَّمْيِ وَإِنْ كَانَتْ الْقُوَّةُ تَظْهَرُ بِإِعْدَادِ غَيْرِهِ مِنْ آلاتِ الْحَرْبِ لِكَوْنِ الرَّمْيِ أَشَدَّ نِكَايَةً فِي الْعَدُوِّ وَأَسْهَلَ مُؤْنَةً. قَالَ الشَّارِح: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِية الاشْتِغَالِ بِتَعَلُّمِ آلاتِ الْجِهَادِ والتَّمَرُّنِ فِيهَا فِي إِعْدَادهَا. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/517)


بَابُ النَّهْيُ عَنْ صَبْرِ الْبَهَائِمِ وَإِخْصَائِهَا وَالتَّحْرِيشِ بَيْنَهَا وَوَسْمِهَا فِي الْوَجْهِ 4511- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ مَنْ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا. 4512- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّهُ دَخَلَ دَارَ الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ فَإِذَا قَوْمٌ قَدْ نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا، فَقَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تُصَبَّرَ الْبَهَائِمُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 4513- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا الْبُخَارِيَّ. 4514- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ إخْصَاءِ الْخَيْلِ وَالْبَهَائِمِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فِيهَا نَمَاءُ الْخَلْقِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4515- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ التَّحْرِيشِ بَيْنَ الْبَهَائِمِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 4516- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ضَرْبِ الْوَجْهِ، وَعَنْ وَسْمِ الْوَجْهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4517- وَفِي لَفْظٍ: مُرَّ عَلَيْهِ بِحِمَارٍ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ: «لَعَنَ اللهُ الَّذِي وَسَمَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4518- وَفِي لَفْظٍ: مُرَّ عَلَيْهِ بِحِمَارٍ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ: «أَمَا بَلَغَكُمْ أَنِّي لَعَنْتُ مَنْ وَسَمَ الْبَهِيمَةَ فِي وَجْهِهَا أَوْ ضَرَبَهَا فِي وَجْهِهَا» وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4519- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَأَى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - حِمَارًا مَوْسُومَ الْوَجْهِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، قَالَ: «فَوَاَللَّهِ لا أَسِمُهُ إِلا فِي أَقْصَى شَيْءٍ مِنْ الْوَجْهِ، وَأَمَرَ بِحِمَارِهِ فَكُوِيَ فِي جَاعِرَتَيْهِ» . فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كَوَى الْجَاعِرَتَيْنِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (عَنْ إخْصَاءِ الْخَيْلِ) الإِخْصَاءُ: سَلُّ الْخُصْيَةِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَخَصَاهُ خَصْيًا: سَلَّ

(2/518)


خُصْيَتَهُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ خَصْيِ الْحَيَوَانَاتِ، انتهى. قال القرطبي: الخصاء في غير بني آدم ممنوع في الحيوان إلا لمنفعة حاصلة في ذلك كتطيب اللحم أو قطع ضرر عنه. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: والنهى عن الخصاء نهي تحريم في بني آدم بلا خلاف. بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ وَيُكْرَهُ مِنْ الْخَيْلِ وَاخْتِيَارِ تَكْثِيرِ نَسْلِهَا 4520- عَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «خَيْرُ الْخَيْلِ الأدْهَمُ الأقْرَحُ الأرْثَمُ، ثُمَّ الْمُحَجَّلُ طُلُقُ الْيَمِينِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدْهَمَ فَكُمَيْتٌ عَلَى هَذِهِ ... الشِّيَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4521- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يُمْنُ الْخَيْلِ فِي شُقْرِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 4522- وَعَنْ أَبِي وَهْبٍ الْجُشَمِيَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - «عَلَيْكُمْ بِكُلِّ كُمَيْتٍ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ، أَوْ أَشْقَرَ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ، أَوْ أَدْهَمَ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 4523- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَكْرَهُ الشِّكَالَ مِنْ الْخَيْلِ، وَالشِّكَالُ أَنْ يَكُونَ الْفَرَسُ فِي رِجْلِهِ الْيُمْنَى بَيَاضٌ، وَفِي يَدِهِ الْيُسْرَى، أَوْ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى وَفِي رِجْلِهِ الْيُسْرَى. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 4524- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَبْدًا مَأْمُورًا مَا اخْتَصَّنَا بِشَيْءٍ دُونَ النَّاسِ إِلا بِثَلاثٍ: أَمَرَنَا أَنْ نُسْبِغَ الْوُضُوءَ، وَأَنْ لا نَأْكُلَ الصَّدَقَةَ، وَأَنْ لا نُنْزِيَ حِمَارًا عَلَى فَرَسٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4525- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أُهْدِيَتْ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَغْلَةٌ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ أَنْزَيْنَا الْحُمُرَ عَلَى خَيْلِنَا فَجَاءَتْنَا بِمِثْلِ هَذِهِ، فَقَالَ: «إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4526- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا عَلِيُّ أَسْبِغْ

(2/519)


الْوُضُوءَ وَإِنْ شَقَّ عَلَيْكَ، وَلا تَأْكُلْ الصَّدَقَةَ، وَلا تُنْزِ الْحُمُرَ عَلَى الإِبِلِ، وَلا تُجَالِسْ أَصْحَابَ النُّجُومِ» . رَوَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي الْمُسْنَدِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (الأدْهَمُ) هُوَ شَدِيدُ السَّوَادِ. ... وَ (الأقْرَحُ) هُوَ الَّذِي فِي جَبْهَتِهِ قُرْحَةٌ: وَهِيَ بَيَاضٌ يَسِيرٌ. وَ (الأرْثَمُ) هُوَ الَّذِي فِي شَفَتِهِ الْعُلْيَا بَيَاضٌ. وَ (الْكُمَيْتَ) هُوَ الَّذِي لَوْنُهُ أَحْمَرُ يُخَالِطُهُ سَوَادٌ وَيُقَالُ: هُوَ أَشَدُّ الْخَيْلِ جُلُودًا وَأَصْلَبُهَا حَوَافِرَ وَ (الشِّيَةِ) كُلُّ لَوْنٍ يُخَالِفُ مُعْظَمَ لَوْنِ الْفَرَسِ وَغَيْرِهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: «يُمْنُ الْخَيْلِ فِي شُقْرِهَا» الْيُمْنُ: الْبَرَكَةُ. قَوْلَهُ: (يَكْرَهُ الشِّكَالَ مِنْ الْخَيْلِ) قَالَ الْقَاضِي: قَالَ الْعُلَمَاءُ: كُرِهَ لأنَّهُ عَلَى صُورَةِ الْمَشْكُولِ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ جَرَّبَ ذَلِكَ الْجِنْسَ فَلَمْ تَكُنْ فِيهِ نَجَابَةٌ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إذَا كَانَ مَعَ ذَلِكَ أَغَرَّ زَالَتْ الْكَرَاهَةُ لِزَوَالِ شَبَهِهِ لِلشِّكَالِ. قَوْلُهُ: (وَأَنْ لا نُنْزِيَ حِمَارًا عَلَى فَرَسٍ) قَالَ الْخَطَّابِيِّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْحُمُرَ إذَا حُمِلَتْ عَلَى الْخَيْلِ قَلَّ عَدَدُهَا وَانْقَطَعَ نَمَاؤُهَا وَتَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهَا، وَالْخَيْلُ يُحْتَاجُ إلَيْهَا لِلرُّكُوبِ وَالرَّكْضِ وَالطَّلَبِ وَالْجِهَادِ وَإِحْرَازِ الْغَنَائِمِ وَلَحْمُهَا مَأْكُولٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَنَافِعِ، وَلَيْسَ لِلْبَغْلِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ فَأَحَر أَنْ يُكْثِرَ نَسْلَهَا لِيَكْثُرَ الِانْتِفَاعُ بِهَا. بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمُسَابَقَةِ عَلَى الأقْدَامِ وَالْمُصَارَعَةِ وَاللَّعِبِ بِالْحِرَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ 4527- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَابَقَنِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَبَقْتُهُ، فَلَبِثْنَا حَتَّى إذَا أَرْهَقَنِي اللَّحْمُ سَابَقَنِي فَسَبَقَنِي، فَقَالَ: «هَذِهِ بِتِلْكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4528- وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ، وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ الأنْصَارِ لا يُسْبَقُ شَدًّا فَجَعَلَ يَقُولُ: أَلا مُسَابِقٌ إلَى الْمَدِينَةِ؟ هَلْ مِنْ مُسَابِقٍ، فَقُلْتُ: أَمَا تُكْرِمُ كَرِيمًا، وَلا تَهَابُ شَرِيفًا؟ قَالَ: لا إِلا أَنْ يَكُونَ رَسُولَ اللهِ

(2/520)


- صلى الله عليه وسلم - قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّه بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ذَرْنِي فَلأسَابِقْ الرَّجُلَ، قَالَ: «إنْ شِئْتَ» . قَالَ: فَسَبَقْتُهُ إلَى الْمَدِينَةِ. مُخْتَصَرًا مِنْ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ. 4529- وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ رُكَانَةُ: أَنَّ رُكَانَةُ صَارَعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4530- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَا الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِحِرَابِهِمْ دَخَلَ عُمَرُ فَأَهْوَى إلَى الْحَصْبَاءِ فَحَصَبَهُمْ بِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْهُمْ يَا عُمَرُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4531- وَلِلْبُخَارِيِّ فِي رِوَايَةٍ: فِي الْمَسْجِدِ. 4532- وَعَنْ أَنَسٍ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ لَعِبَتْ الْحَبَشَةُ لِقُدُومِهِ بِحِرَابِهِمْ فَرَحًا بِذَلِكَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4533- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلاً يَتْبَعُ حَمَامَةً، فَقَالَ: «شَيْطَانٌ يَتْبَعُ شَيْطَانَةً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ، وَقَالَ: «يَتْبَعُ شَيْطَانًا» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَوْلُهُ: (أَنَّ رُكَانَةُ صَارَعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْمُصَارَعَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَهَكَذَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلاسِيَّمَا إذَا كَانَ مَطْلُوبًا لا طَالِبًا، وَكَانَ يَرْجُو حُصُولَ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ بِذَلِكَ أَوْ كَسْرَ سُورَةِ كِبْرِ مُتَكَبِّرٍ أَوْ وَضْعَ مُتَرَفِّعٍ بِإِظْهَارِ الْغَلَبِ لَهُ. قَوْلُهُ: (يَلْعَبُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِحِرَابِهِمْ) فِيهِ جَوَازُ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ الْمُهَلَّبُ: الْمَسْجِدُ مَوْضُوعٌ لأمْرِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَمَا كَانَ مِنْ الأعْمَالِ يَجْمَعُ مَنْفَعَةَ الدِّينِ وَأَهْلِهِ جَازَ فِيهِ. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ النَّظَرِ إلَى اللَّهْوِ الْمُبَاحِ. قَوْلُهُ: فَقَالَ: «شَيْطَانٌ» إلَى آخْره، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهَةِ اللَّعِبِ بِالْحَمَامِ وَأَنَّهُ مِنْ اللَّهْوِ الَّذِي لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ بِكَرَاهَتِهِ جَمْعٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ.

(2/521)


بَابُ تَحْرِيمِ الْقِمَارِ وَاللَّعِبِ بِالنَّرْدِ وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ 4534- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ: لا إلَهَ إِلا اللهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4535- وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 4536- وَعَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ وَمَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ. 4537- وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ لَعِبَ بِالْكِعَابِ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4538- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخِطْمِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَثَلُ الَّذِي يَلْعَبُ بِالنَّرْدِ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي مَثَلُ الَّذِي يَتَوَضَّأُ بِالْقَيْحِ وَدَمِ الْخِنْزِيرِ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَلْيَتَصَدَّقْ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْمُقَامَرَةِ، لأنَّ الصَّدَقَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا كَفَّارَةٌ عَنْ الذَّنْبِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَقَامَرَهُ مُقَامَرَةً وَقِمَارًا فَقَمَرَهُ رَاهَنَهُ فَغَلَبَهُ. قَالَ الشَّارِح: فَالْمُرَادُ بِالْقِمَارِ الْمَذْكُورِ هُنَا الْمَيْسِرُ وَنَحْوُهُ مِمَّا كَانَتْ تَفْعَلُهُ الْعَرَبُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} وَكُلُّ مَا لا يَخْلُو اللاعِبُ فِيهِ مِنْ غَنَمٍ أَوْ غُرْمٍ فَهُوَ مَيْسِرٌ. قَوْلُهُ: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ» قَالَ النَّوَوِيُّ: النَّرْدَشِيرُ هُوَ النَّرْدُ عَجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَشِيرُ مَعْنَاهُ حُلْوٌ. وَقِيلَ: هُوَ خَشَبَةٌ قَصِيرَةٌ ذَاتُ فُصُوصٍ يُلْعَبُ بِهَا وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ فِي تَحْرِيمِ اللَّعِبِ بِالنَّرْدِ. قَوْلُهُ: «مَنْ لَعِبَ بِالْكِعَابِ» . هِيَ فُصُوصُ النَّرْدِ، وَاخْتُلِفَ فِي الشِّطْرَنْجِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ. وَلَيْسَ بِحَرَامٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ

(2/522)


التَّابِعِينَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: هُوَ حَرَامٌ. قَالَ مَالِكٌ: هُوَ شَرٌّ مِنْ النَّرْدِ وَأَلْهَى. وَرَوَى الْبَيْهَقِي أَنَّ عَلِيًّا قَالَ فِي الشِّطْرَنْجِ: هُوَ مِنْ الْمَيْسِرِ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ قَالَ: لا يُسَلَّمُ عَلَى أَصْحَابِ النَّرْدَشِيرِ وَالشِّطْرَنْجِ. وَإِذَا كَانَ بِحَيْثُ لا يَخْلُو أَحَدُ اللاعِبَيْنِ مِنْ غُنْمٍ أَوْ غُرْمٍ فَهُوَ مِنْ الْقِمَارِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا قَالَ عَلِيٌّ أَنَّهُ مِنْ. الْمَيْسِرِ وَالْمُجَوِّزُونَ لَهُ قَالُوا: إنَّه يَشْبَهَ السَّبْقَ وَالرَّمْيَ. وَلا نِزَاعَ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ اللَّهْوِ الَّذِي نَهَى اللهُ عَنْهُ، وَلا رَيْبَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إيغَارُ الصُّدُورِ وَتَنتَج عَنْهُ الْعَدَاوَاتُ، وَتَنْشَأُ مِنْهُ الْمُخَاصَمَاتُ، فَطَالِبُ النَّجَاةِ لِنَفْسِهِ لا يَشْتَغِلُ بِمَا هَذَا شَأْنُهُ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُشْتَبِهَاتِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَا جَاءَ فِي آلَةِ اللَّهْوِ 4539- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ - أَوْ أَبُو مَالِكٍ - الأشْعَرِيُّ سَمِعَ نبِيّ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. 4540- وَفِي لَفْظٍ: «لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا يُعْزَفُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْمُغَنِّيَاتِ يَخْسِفُ اللهُ بِهِمْ الأرْضَ وَيَجْعَلُ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَقَالَ: عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأشْعَرِيِّ وَلَمْ يَشُكَّ وَالْمَعَازِفُ: الْمَلاهِي، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ. 4541- وَعَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَمِعَ صَوْتَ زَمَّارَةِ رَاعٍ، فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَعَدَلَ رَاحِلَتَهُ عَنْ الطَّرِيقِ وَهُوَ يَقُولُ: يَا نَافِعُ أَتَسْمَعُ؟ فَأَقُولُ: نَعَمْ، فَيَمْضِي حَتَّى قُلْتُ: لا، فَرَفَعَ يَدَهُ وَعَدَلَ رَاحِلَتَهُ إلَى الطَّرِيقِ وَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ زَمَّارَةَ رَاعٍ فَصَنَعَ مِثْلَ هَذَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. 4542- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إنَّ اللهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَالْكُوبَةَ وَالْغُبَيْرَاءَ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4543- وَفِي لَفْظٍ: «إنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى أُمَّتِي الْخَمْرَ، وَالْمَيْسِرَ، وَالْمِزْرَ، وَالْكُوبَةَ، وَالْقِنِّينَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

(2/523)


4544- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَالْكُوبَةَ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَالْكُوبَةُ: الطَّبْلُ، قَالَهُ سُفْيَانُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ. وَقَالَ ابْنُ الأعْرَابِيِّ: الْكُوبَةُ: النَّرْدُ، وَقِيلَ الْبَرْبَطُ، وَالْقَنِينُ: هُوَ الطُّنْبُورُ بِالْحَبَشِيَّةِ، وَالتَّقْنِينُ الضَّرْبُ بِهِ. قَالَهُ ابْنُ الأعْرَابِيِّ. 4545- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «فِي هَذِهِ الأمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ» . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَتَى ذَلِكَ؟ قَالَ: «إذَا ظَهَرَتْ الْقِيَانُ وَالْمَعَازِفُ وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. 4546- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: - صلى الله عليه وسلم - «إذَا اتُّخِذَ الْفَيْءُ دُوَلًا، وَالأمَانَةُ مَغْنَمًا، وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا، وَتُعَلِّمَ لِغَيْرِ الدِّينِ، وَأَطَاعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، وَعَقَّ أُمَّهُ، وَأَدْنَى صَدِيقَهُ، وَأَقْصَى أَبَاهُ، وَظَهَرَتْ الأصْوَاتُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَسَادَ الْقَبِيلَةَ فَاسِقُهُمْ، وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ، وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخَافَةَ شَرِّهِ، وَظَهَرَتْ الْقِيَانُ وَالْمَعَازِفُ، وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الأمَّةِ أَوَّلَهَا، فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ وَزَلْزَلَةً وَخَسْفًا وَمَسْخًا وَقَذْفًا وَآيَاتٍ تَتَابَعُ كَنِظَامٍ بَالٍ قُطِعَ سِلْكُهُ فَتَتَابَعَ بَعْضُهُ بَعْضًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ... وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. 4547- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «تَبِيتُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَلَهْوٍ وَلَعِبٍ، ثُمَّ يُصْبِحُونَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَتُبْعَثُ عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَائِهِمْ رِيحٌ فَتَنْسِفُهُمْ كَمَا نُسِفَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِاسْتِحْلالِهِمْ الْخَمْرَ وَضَرْبِهِمْ بِالدُّفُوفِ وَاِتِّخَاذِهِمْ الْقَيْنَاتِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَفِي إسْنَادِهِ فَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ، قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ بِقَوِيٍّ. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: هُوَ ثِقَةٌ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: تَكَلَّمَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ. وَقَدْ رَوَى عَنْهُ النَّاسُ. 4548- وَعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زَحْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ اللهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، وَأَمَرَنِي

(2/524)


أَنْ أَمْحَقَ الْمَزَامِيرَ وَالْكَبَارَاتِ - يَعْنِي الْبَرَابِطَ وَالْمَعَازِفَ - وَالأوْثَانَ الَّتِي كَانَتْ تُعْبَدُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زَحْرٍ ثِقَةٌ، وَعَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ ضَعِيفٌ، وَالْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثِقَةٌ. 4549- وَبِهَذَا الإِسْنَادِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تَبِيعُوا الْقَيْنَاتِ، وَلا تَشْتَرُوهُنَّ، وَلا تُعَلِّمُوهُنَّ، وَلا خَيْرَ فِي تِجَارَةٍ فِيهِنَّ، وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ» . فِي مِثْلِ هَذَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إلَى آخِرِ الآيَةِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. 4550- وَلأحْمَدَ مَعْنَاهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ نُزُولَ الآيَةِ فِيهِ. 4551- وَرَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَلَفْظُهُ: «لا يَحِلُّ ثَمَنُ الْمُغَنِّيَةِ وَلا بَيْعُهَا وَلا شِرَاؤُهَا وَلا الِاسْتِمَاعُ إلَيْهَا» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ» ضَبَطَهُ ابْنُ نَاصِرٍ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمَكْسُورَةِ وَالرَّاءِ الْخَفِيفَةِ: وَهُوَ الْفَرْجُ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هُوَ بِالْمُعْجَمَتَيْنِ تَصْحِيفٌ، وَالْمَعْنَى يَسْتَحِلُّونَ الزِّنَا. قَوْلُهُ: «زَمَّارَةَ» قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الزَّمَّارَةُ كَجَبَّانَةٍ: مَا بِهِ كَالْمِزْمَارِ. قَوْلُهُ: «فَصَنَعَ مِثْلَ هَذَا» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ لِمَنْ سَمِعَ الزَّمَّارَةَ أَنْ يَصْنَعَ كَذَلِكَ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْغِنَاءِ مَعَ آلَةٍ مِنْ آلاتِ الْمَلاهِي وَبِدُونِهَا. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى التَّحْرِيمِ، وَذَهَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الظَّاهِرِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ إلَى التَّرْخِيصِ فِي السَّمَاعِ وَلَوْ مَعَ الْعُودِ وَالْيَرَاعِ. وَأَمَّا مُجَرَّدُ الْغِنَاءِ مِنْ غَيْرِ آلَةٍ فَقَالَ فِي الإِمْتَاعِ: إنَّ الْغَزَالِيَّ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَلَى حِلِّهِ. وَاخْتَلَفَ هَؤُلاءِ الْمُجَوِّزُونَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِكَرَاهَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِاسْتِحْبَابِهِ. قَالُوا: لِكَوْنِهِ يُرِقُّ الْقَلْبَ وَيُهَيِّجُ الأحْزَانَ وَالشَّوْقَ إلَى اللهِ. إلى أنْ قَالَ: فَلا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ أَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ إذَا خَرَجَ عَنْ دَائِرَةِ الْحَرَامِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ دَائِرَةِ الاشْتِبَاهِ وَالْمُؤْمِنُونَ وَقَّافُونَ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ وَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ

(2/525)


اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعَرْضِهِ، وَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ. وَلاسِيَّمَا إذَا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى ذِكْرِ الْقُدُودِ وَالْخُدُودِ، فَإِنَّ سَامِعَ مَا كَانَ كَذَلِكَ لا يَخْلُو عَنْ بَلِيَّةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ التَّصَلُّبِ فِي ذَاتِ اللهِ عَلَى حَدٍّ يَقْصُرُ عَنْهُ الْوَصْفُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ ضَرْبِ النِّسَاءِ بِالدُّفِّ لِقُدُومِ الْغَائِبِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ 4552- عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ جَاءَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إنْ رَدَّك اللهُ صَالِحًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنِ يَدَيْكَ بِالدُّفِّ وَأَتَغَنَّى فَقَالَ لَهَا: «إنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي وَإِلَّا فَلا» فَجَعَلَتْ تَضْرِبُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَأَلْقَتْ الدُّفَّ تَحْتَ اسْتِهَا ثُمَّ قَعَدَتْ عَلَيْهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْكَ يَا عُمَرُ. إنِّي كُنْتُ جَالِسًا وَهِيَ تَضْرِبُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ، فَلَمَّا دَخَلْتَ أَنْتَ يَا عُمَرُ أَلْقَتْ الدُّفَّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِحَدِيثِ الْبَابِ عَلَى جَوَازِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ عِنْدَ الْقُدُومِ مِنْ الْغَيْبَةِ. وَالْقَائِلُونَ بِالتَّحْرِيمِ يَخُصُّونَ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ عُمُومِ الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَنْعِ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَوَاطِنِ التَّخْصِيصِ اللَّهْوِ فِي الْعُرْسِ، وَالأعْيَادِ. وَرَوَى الْمُبَرِّدُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ إذَا كَانَ دَاخِلًا فِيهِ بَيْتُهُ تَرَنَّمَ بِالْبَيْتِ وَالْبَيْتَيْنِ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ: «حَرِّكْ بِالْقَوْمِ» . فَانْدَفَعَ يَرْتَجِزُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. والله أعلم.

(2/526)


 كِتَابُ الأطْعِمَةِ وَالصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ

بَابٌ فِي أَنَّ الأصْلَ فِي الأعْيَانِ وَالأشْيَاءِ الإِبَاحَةُ إلَى أَنْ يَرِدْ مَنْعٌ أَوْ إلْزَامٌ 4553- عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ مِنْ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا، مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى النَّاسِ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» . 4554- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «ذَرُونِي مَا تَرَكَتْكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَاذَا أَمَرَتْكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 4555- وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ السَّمْنِ وَالْجُبْنِ وَالْفَرَاءِ، فَقَالَ: «الْحَلالُ مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا لَكُمْ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ. 4556- وَعَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ فِي كُلِّ عَامٍ؟ فَسَكَتَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ فِي كُلِّ عَامٍ؟ قَالَ: «لا. وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ» ، فَأَنْزَلَ اللهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

(2/527)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ» هَذَا النَّهْيُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمَنَاهِي، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا يُكْرَهُ الْمُكَلَّفُ عَلَى فِعْلِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. قَوْلُهُ: «وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» أَيْ اجْعَلُوهُ قَدْرَ اسْتَطَاعَتِكُمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ وَقَوَاعِدِ الإِسْلامِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الأحْكَامِ. قَوْلُهُ: «الْحَلالُ مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ» إلَى آخْره، الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَأَمْثَالِهَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى حَصْرِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ عَلَى الْكِتَابِ الْعَزِيزِ هُوَ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى جَمِيعِ الأحْكَامِ وَلَوْ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ أَوْ الإِشَارَةِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ الأغْلَبِ لِحَدِيثِ: «إنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» . بَابُ مَا يُبَاحُ مِنْ الْحَيَوَانِ الإِنْسِيِّ 4557- عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى - يَوْمَ خَيْبَرَ - عَنْ: لُحُومِ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ لِلنَّسَائِيِّ وَأَبِي دَاوُد. 4558- وَفِي لَفْظِ: أَطْعَمَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لُحُومَ الْخَيْلِ، وَنَهَانَا عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4559- وَفِي لَفْظِ: سَافَرْنَا، يَعْنِي مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَكُنَّا نَأْكُلُ لُحُومَ الْخَيْلِ وَنَشْرَبُ أَلْبَانَهَا. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. 4560- وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: ذَبَحْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَسًا وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ فَأَكَلْنَاهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4561- وَلَفْظُ أَحْمَدَ: ذَبَحْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَكَلْنَاهُ نَحْنُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ. 4562- وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَأْكُلُ لَحْمَ دَجَاجٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(2/528)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهَا. قَوْلُهُ: (وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ) اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِحِلِّ أَكْلِهَا. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى كَرَاهَةِ أَكْلِ الْخَيْلِ وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ وَغَيْرُهُمَا. وَاحْتَجُّوا بِالأخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي حِلِّهَا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ لَمَا كَانَ بَيْنَ الْخَيْلِ وَالْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ فَرْقٌ، وَلَكِنَّ الآثَارَ إذَا صَحَّتْ عَنْ ... رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْلَى أَنْ نَقُولَ بِهَا مِمَّا يُوجِبُهُ النَّظَرُ وَلاسِيَّمَا وَقَدْ أَخْبَرَ جَابِرٌ ... أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - (أَبَاحَ لَهُمْ لُحُومَ الْخَيْلِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي مَنَعَهُمْ فِيهِ مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ) . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلافِ حُكْمِهِمَا. بَابُ النَّهْيِ عَنْ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ 4563- عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ قَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لُحُومَ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ. مُتَّفَقُ عَلَيْهِ. 4564- وَزَادَ أَحْمَدُ: (وَلَحْمَ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ) . 4565- وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ خَيْبَرَ - عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ نَضِيجًا وَنَيْئًا. 4566- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 4567- وَعَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 4568- وَعَنْ زَاهِرٍ الأسْلَمِيِّ - وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الشَّجَرَةَ - قَالَ: إنِّي لأُوقِدُ تَحْتَ الْقُدُورِ بِلُحُومِ الْحُمُرِ إذْ نَادَى مُنَادٍ: إنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَاكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ. 4569- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ الْحَكَمُ بْنُ

(2/529)


عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ عِنْدَنَا بِالْبَصْرَةِ، وَلَكِنْ أَبَى ذَلِكَ الْبَحْرُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَرَأَ: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ. 4570- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَرَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَالْمُجَثَّمَةَ وَالْحِمَارَ الإِنْسِيَّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4571- وَعَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ - لَيَالِيَ خَيْبَرَ - فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَقَعْنَا فِي الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ فَانْتَحَرْنَاهَا، فَلَمَّا غَلَتْ بِهَا الْقُدُورُ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَكْفِئُوا الْقُدُورَ لا تَأْكُلُوا مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ شَيْئًا، فَقَالَ نَاسٌ: إنَّمَا نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ، وَقَالَ آخَرُونَ: نَهَى عَنْهَا أَلْبَتَّةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4572، 4573- وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيٍّ وَأَنَسٍ وَقَدْ ذَكَرَا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: وَقَرَأَ {قُل لاَّ أَجِدُ} الآيَةَ، هَذَا الاسْتِدْلال إنَّمَا يَتِمُّ فِي الأشْيَاءِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ النَّصُّ بِتَحْرِيمِهَا. وَأَمَّا الْحُمُرُ الإِنْسِيَّةُ فَقَدْ تَوَاتَرَتْ النُّصُوصُ عَلَى ذَلِكَ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى التَّحْرِيمِ مُقَدَّمُ عَلَى عُمُومِ التَّحْلِيلِ وَعَلَى الْقِيَاسِ. وَأَيْضًا الآيَةُ مَكِّيَّةٌ. وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ تَرَدَّدَ هَلْ كَانَ النَّهْيُ لِمَعْنًى خَاصٍّ أَوْ لِلتَّأْبِيدِ؟ وَعَنْ بَعْضِهِمْ: إنَّمَا نَهَى عَنْهَا ... النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ. قَالَ الْحَافِظُ: وَقَدْ أَزَالَ هَذِهِ الاحْتِمَالاتِ حَدِيثُ أَنَسٍ حَيْثُ جَاءَ فِيهِ «فَإِنَّهَا رِجْسٌ» وَكَذَلِكَ الأمْرُ بِغَسْلِ الإِنَاءِ فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ انْتَهَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ بِتَحْرِيمِ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ وَلَمْ نَجِدْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ خِلافًا إِلا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِنْدَ مَالِكٍ ثَلاثُ رِوَايَاتٍ ثَالِثُهَا الْكَرَاهَةُ. قَوْلُهُ: (الْمُجَثَّمَةَ) عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَهِيَ كُلُّ حَيَوَانٍ يُنْصَبُ وَيُقْتَلُ. بَابُ تَحْرِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ 4574- عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نهي عَنْ أكل كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.

(2/530)


4575- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا الْبُخَارِيَّ وَأَبَا دَاوُد. 4576- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ. 4577- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ - لُحُومَ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ وَلُحُومَ الْبِغَالِ وَكُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلَّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. 4578- وَعَنْ ْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَرَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ كُلَّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ وَلُحُومَ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ وَالْخُلْسَةَ وَالْمُجَثَّمَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: نَهَى - دَلَ لَفْظِ التَّحْرِيمِ - زَادَ فِي رِوَايَةٍ قَالَ أَبُو عَاصِمٍ: الْمُجَثَّمَةَ أَنْ يُنْصَبَ الطَّيْرُ فَيُرْمَى. وَالْخُلْسَةُ الذِّئْبُ أَوْ السَّبُعُ يُدْرِكُهُ الرَّجُلُ فَيَأْخُذُ مِنْهُ، يَعْنِي الْفَرِيسَةَ، فَتَمُوتُ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يُذَكِّيَهَا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالسَّبُعُ الْمُفْتَرِسُ مِنْ الْحَيَوَانِ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَهُوَ مَا يَفْتَرِسُ الْحَيَوَانَ وَيَأْكُلُ قَسْرًا قَالَ الشَّارِح: وَوَقَعَ الْخِلافُ فِي جِنْسِ السِّبَاعِ الْمُحَرَّمَةِ. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: كُلُّ مَا أَكَلَ اللَّحْمَ فَهُوَ سَبُعٌ حَتَّى الْفِيلِ وَالضَّبُعِ وَالْيَرْبُوعِ وَالسِّنَّوْرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُحَرَّمُ مِنْ السِّبَاعِ مَا يَعْدُو عَلَى النَّاسِ كَالأسَدِ وَالنِّمْرِ وَالذِّئْبِ. وَأَمَّا الضَّبُعُ وَالثَّعْلَبُ فَيَحِلانِ عِنْدَهُ لأنَّهُمَا لا يَعْدُوَانِ. قَوْلُهُ: (وَكُلَّ ذِي مِخْلَبٍ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْمِخْلَبُ لِلطَّيْرِ بِمَنْزِلَةِ الظُّفْرِ لِلإِنْسَانِ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ ذِي النَّابِ مِنْ السِّبَاعِ وَذِي الْمِخْلَبِ مِنْ الطَّيْرِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ مِثْلَ قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْمَشْهُورُ عَنْهُ الْكَرَاهَةُ، قَالَ ابْنُ رَسْلانَ: وَمَشْهُورُ مَذْهَبِهِ عَلَى إبَاحَةِ ذَلِكَ، وَكَذَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ. قَوْلُهُ: (وَلُحُومَ الْبِغَالِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَبِهِ قَالَ الأكْثَرُ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ.

(2/531)


بَابُ مَا جَاءَ فِي الْهِرِّ وَالْقُنْفُذِ 4579- عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ أَكْلِ الْهِرِّ وَأَكْلِ ثَمَنِهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ. 4580- وَعَنْ عِيسَى بْنِ نُمَيْلَةَ الْفَزَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْت عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَسُئِلَ عَنْ أَكْلِ الْقُنْفُذِ، فَتَلا هَذِهِ الآيَةَ {قُل لاَّ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّماً} الآيَةُ، فَقَالَ شَيْخٌ عِنْدَهُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «خَبِيثَةٌ مِنْ الْخَبَائِثِ» . فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إنْ كَانَ قَالَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَهُوَ كَمَا قَالَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ الأوَّلِ عَلَى تَحْرِيمِ أَكَلِ الْهِرِّ وَظَاهِرُهُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَحْشِيِّ وَالأهْلِيِّ. وَيُؤَيِّدُ التَّحْرِيمَ أَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الأنْيَابِ. قَوْلُهُ: (الْقُنْفُذَ) وَهُوَ نَوْعَانِ: قُنْفُذٌ يَكُونُ قَدْرَ الْفَأْرِ الْكَبِيرِ وَآخَرُ فِي قَدْرِ الْكَلْبِ وَقَدْ اسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى تَحْرِيمِ الْقُنْفُذِ لأنَّ الْخَبَائِثَ مُحَرَّمَةٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَهُوَ مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ، قَالَ الْقَفَّالِ: إنْ صَحَّ الْخَبَرُ فَهُوَ حَرَامٌ وَإِلَّا رَجَعْنَا إلَى الْعَرَبِ، وَالْمَنْقُولِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَسْتَطِيبُونَهُ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالرَّاجِحُ أَنَّ الأصْلَ الْحِلُّ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ نَاهِضٌ يَنْقُلُ عَنْهُ أَوْ يَتَقَرَّرَ أَنَّهُ مُسْتَخْبَثٌ فِي غَالِبِ الطِّبَاعِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إنَّ إسْنَادَهُ غَيْرُ قَوِيٍّ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَا جَاءَ فِي الضَّبِّ 4581- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مَيْمُونَةَ - وَهِيَ خَالَتُهُ وَخَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ - فَوَجَدَ عِنْدَهَا ضَبًّا مَحْنُوذًا قَدِمَتْ بِهِ أُخْتُهَا حُفَيْدَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ مِنْ نَجْدٍ، فَقَدَّمَتْ الضَّبَّ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَهْوَى بِيَدِهِ إلَى الضَّبِّ، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ النِّسْوَةِ الْحُضُورِ: أَخْبِرْنَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَا قَدَّمْتُنَّ لَهُ، قُلْنَ هُوَ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللهِ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: أَحَرَامٌ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللهِ؟

(2/532)


قَالَ: «لا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ» . قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْظُرُ فَلَمْ يَنْهَنِي. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا التِّرْمِذِيَّ. 4582- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ الضَّبِّ فَقَالَ: «لا آكُلهُ وَلا أُحَرِّمُهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4583- وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ مَعَهُ نَاسٌ - فِيهِمْ سَعْدٌ - فَأَتَوْا بِلَحْمِ ضَبٍّ، فَنَادَتْ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَائِهِ: إنَّهُ لَحْمُ ضَبٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُوا فَإِنَّهُ حَلالٌ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4584- وَعَنْ جَابِرٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ فِي الضَّبِّ: إنَّ ... رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يُحَرِّمْهُ وَإِنَّ عُمَرَ قَالَ: إنَّ اللهَ لَيَنْفَعُ بِهِ غَيْرَ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا طَعَامُ عَامَّةِ الرِّعَاءِ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ عِنْدِي طَعِمْتُهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَةْ. 4585- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِضَبٍّ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَقَالَ: «لا أَدْرِي لَعَلَّهُ مِنْ الْقُرُونِ الَّتِي مُسِخَتْ» . 4586- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنِّي فِي غَائِطٍ مُضِبَّةٍ وَإِنَّهُ عَامَّةُ طَعَامِ أَهْلِي، قَالَ: فَلَمْ يُجِبْهُ، فَقُلْنَا: عَاوِدْهُ، فَعَاوَدَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ثَلاثًا، ثُمَّ نَادَاهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الثَّالِثَةِ، فَقَالَ: «يَا أَعْرَابِيُّ: إنَّ اللهَ لَعَنَ - أَوْ غَضِبَ - عَلَى سَبْطٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ فَمَسَخَهُمْ دَوَابَّ يَدِبُّونَ فِي الأرْضِ، وَلا أَدْرِي لَعَلَّ هَذَا مِنْهَا فَلَمْ آكُلْهَا، وَلا أَنْهَى عَنْهَا» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ الْمَمْسُوخَ لا نَسْلَ لَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَم ذَلِكَ إِلا بِوَحْيٍ، وَأَنَّ تَرَدُّدَهُ فِي الضَّبِّ كَانَ قَبْلَ الْوَحْيِ بِذَاكَ. 4587- وَالْحَدِيثُ يَرْوِيهِ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ذُكِرَتْ عِنْدَهُ الْقِرَدَةُ - قَالَ مِسْعَرٌ: وَأَرَاهُ ... قَالَ: وَالْخَنَازِيرُ - مِمَّا مُسِخَ، فَقَالَ: «إنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ لِمَسْخٍ نَسْلاً وَلا عَقِبًا» . وَقَدْ كَانَتْ الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ قَبْلَ ذَلِكَ.

(2/533)


4588- وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ هِيَ مِمَّا مَسَخَ اللهُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ: - صلى الله عليه وسلم - «إنَّ اللهَ لَمْ يَهْلِكْ - أَوْ يُعَذِّبْ - قَوْمًا فَيَجْعَلُ لَهُمْ نَسْلاً» . رَوَى ذَلِكَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لا آكُلُهُ وَلا أُحَرِّمُهُ» فِيهِ جَوَازُ أَكْلِ الضَّبِّ. بَابُ مَا جَاءَ فِي الضَّبُعِ وَالأرْنَبِ 4589- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي عُمَارَةَ قَالَ: قَلْتُ لِجَابِرٍ: الضَّبُعُ أَصَيْدٌ هِيَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: آكُلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَقَالَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: نَعَمْ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 4590- وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد عَنْ جَابِرٍ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الضَّبُعِ فَقَالَ: «هِيَ صَيْدٌ وَيُجْعَلُ فِيهِ كَبْشٌ إذَا صَادَهُ الْمُحْرِمُ» . 4591- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغَبُوا، وَأَدْرَكْتُهَا فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ فَذَبَحَهَا وَبَعَثَ إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِوَرِكِهَا وَفَخِذِهَا فَقَبِلَهُ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 4592- وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد: صِدْتُ أَرْنَبًا فَشَوَيْتُهَا، فَبَعَثَ مَعِي أَبُو طَلْحَةَ بِعَجُزِهَا إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَيْتُهُ بِهَا. 4593- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَرْنَبٍ قَدْ شَوَاهَا وَمَعَهَا صِنَابُهَا وَأُدْمُهَا فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَمْسَكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَأْكُلْ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَأْكُلُوا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 4594- وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَفْوَانَ: أَنَّهُ صَادَ أَرْنَبَيْنِ فَذَبَحَهُمَا بِمِرْوَتَيْنِ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهِمَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (قَالَ: نَعَمْ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الضَّبُعِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا زَالَ النَّاسُ يَأْكُلُونَهَا

(2/534)


وَيَبِيعُونَهَا بَيْنَ الصَّفَّا وَالْمَرْوَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَلأنَّ الْعَرَبَ تَسْتَطِيبُهُ وَتَمْدَحُهُ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى التَّحْرِيمِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا تَقَدَّمَ فِي تَحْرِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ. وَيُجَابُ بِأَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ خَاصٌّ فَيُقَدَّمُ عَلَى حَدِيثِ كُلِّ ذِي نَابٍ. قَوْلُهُ: (صِنَابُهَا) بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا نُونٌ. وَالصِّنَابُ يُتَّخَذُ مِنْ الْخَرْدَلِ وَالزَّبِيبِ وَيُؤْتَدَمُ بِهِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي الْجَلَّالَةِ 4595- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ شُرْبِ لَبَنِ الْجَلَّالَةِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا ابْنَ مَاجَةْ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 4596- وَفِي رِوَايَةٍ: نَهَى عَنْ رُكُوبِ الْجَلَّالَةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4597- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ وَأَلْبَانِهَا. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا النَّسَائِيّ. 4598- وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ الْجَلَّالَةِ فِي الإِبِلِ أَنْ يُرْكَبَ عَلَيْهَا أَوْ يُشْرَبَ مِنْ أَلْبَانِهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4599- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ، وَعَنْ الْجَلَّالَةِ عَنْ رُكُوبِهَا وَأَكْلِ لُحُومِهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (عَنْ شُرْبِ لَبَنِ الْجَلَّالَةِ) وَهِيَ الْحَيَوَانُ الَّذِي يَأْكُلُ الْعَذِرَةَ. وَقِيلَ إنْ كَانَ أَكْثَرُ عَلَفِهَا النَّجَاسَةَ فَهِيَ جَلَّالَةٌ، قَالَ الرَّافِعِيِّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لا اعْتِدَادَ بِالْكُثْرِ بَلْ بِالرَّائِحَةِ وَالنَّتِنِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ رِيحُ مَرَقِهَا أَوْ لَحْمِهَا أَوْ طَعْمِهَا أَوْ لَوْنِهَا فَهِيَ جَلَّالَةٌ، وَالنَّهْيُ حَقِيقَةٌ فِي التَّحْرِيمِ، فَأَحَادِيثُ الْبَابِ ظَاهِرُهَا تَحْرِيمُ أَكْلِ لَحْمِ الْجَلَّالَةِ وَشُرْبِ لَبَنِهَا وَرُكُوبِهَا. وَقَدْ ذَهَبَتْ الشَّافِعِيَّةُ إلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ لَحْمِ الْجَلَّالَةِ. وَحَكَاهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَقِيلَ يُكْرَهُ فَقَطْ كَمَا فِي اللَّحْمِ الْمُذَكَّى إذَا أَنْتَنَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/535)


بَابُ مَا اسْتُفِيدَ تَحْرِيمُهُ مِنْ الأمْرِ بِقَتْلِهِ أَوْ النَّهْي عَنْ قَتْلِهِ 4600- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحَيَّةُ، وَالْغُرَابُ الأبْقَعُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْحُدَيَّا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ. 4601- وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ وَسَمَّاهُ فُوَيْسِقًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4603- وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْهُ الأمْرُ بِقَتْلِهِ. 4603- وَعَنْ أُمِّ شَرِيكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِقَتْلِ الأوْزَاغِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4604- زَادَ الْبُخَارِيُّ قَالَ: وَكَانَ يَنْفُخُ عَلَى إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ. 4605- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَتَلَ وَزَغًا فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ دُونَ ذَلِكَ. وَفِي الثَّالِثَةِ دُونَ ذَلِكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4606- وَلابْنِ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ مَعْنَاهُ. 4607- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنْ الدَّوَابِّ: النَّمْلَةِ، وَالنَّحْلَةِ، وَالْهُدْهُدِ، وَالصُّرَدِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. 4608- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: ذَكَرَ طَبِيبٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دَوَاءً، وَذَكَرَ الضُّفْدَعَ يُجْعَلُ فِيهِ، فَنَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 4609- وَعَنْ أَبِي لُبَابَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى عَنْ قَتْلِ الْجِنَّانِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْبُيُوتِ إِلا الأبْتَرَ وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ فَإِنَّهُمَا اللَّذَانِ يَخْطَفَانِ الْبَصَرَ، وَيَتْبَعَانِ مَا فِي بُطُونِ النِّسَاءِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4610- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ

(2/536)


لِبُيُوتِكُمْ عُمَّارًا فَحَرِّجُوا عَلَيْهِنَّ ثَلاثًا، فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ فَاقْتُلُوهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ. 4611- وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «ثَلاثَةَ أَيَّامٍ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ) قَالَ: أَهْلُ اللُّغَةِ: هِيَ مِنْ الْحَشَرَاتِ الْمُؤْذِيَاتِ وَجَمْعُهُ أَوْزَاغٍ وَسَامٌّ أَبْرَصُ جِنْسٌ مِنْهُ وَهُوَ كِبَارُهُ، وَتَسْمِيَتُهُ (فُوَيْسِقًا) كَتَسْمِيَةِ الْخَمْسِ فَوَاسِقَ لخُرُوجُها عَنْ خُلُقِ مُعْظَمِ الْحَشَرَاتِ وَنَحْوِهَا بِزِيَادَةِ الضُّرِّ وَالأذَى. قَوْلُهُ: (وَكَانَ يَنْفُخُ فِي إبْرَاهِيمَ) أَيْ فِي النَّارِ، وَذَلِكَ لَمَّا جُبِلَ عَلَيْهِ طَبْعُهَا مِنْ عَدَاوَةِ نَوْعِ الإِنْسَانِ. قَوْلُهُ: (وَالصُّرَدِ) هُوَ طَائِرٌ فَوْقَ الْعُصْفُورِ، وَأَجَازَ مَالِكٌ أَكْلَهَ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ مِثْلُ مَالِكِ لأنَّهُ أَوْجَبَ فِيهِ الْجَزَاءَ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا قَتَلَهُ. وَأَمَّا النَّمْلُ فَلَعَلَّهُ إجْمَاعٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ قَتْلِهِ. قَالَ الْخَطَّابِيِّ: إنَّ النَّهْيَ الْوَارِدَ فِي قَتْلِ النَّمْلِ الْمُرَادِ بِهِ السُّلَيْمَانِيُّ: أَيْ لانْتِفَاءِ الأذَى مِنْهُ دُونَ الصَّغِيرِ، وَكَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. وَأَمَّا النَّحْلَةُ فَقَدْ رُوِيَ إبَاحَةُ أَكْلُهَا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ. وَأَمَّا الْهُدْهُدُ فَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا حِلُّ أَكْلِهِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُ فِي قَتْلِهِ الْفِدْيَةُ. قَوْلُهُ: (فَنَهَى عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِهَا بَعْدَ تَسْلِيمٍ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْقَتْلِ يَسْتَلْزِمُ تَحْرِيمَ الأكْلِ. قَوْلُهُ: (يَنْهَى عَنْ قَتْلِ الْجِنَّانِ) هُوَ بِجِيمٍ مَكْسُورَةٍ وَنُونٍ مُشَدَّدَةٍ: وَهِيَ الْحَيَّاتُ جَمْعُ جَانٍّ وَهِيَ الْحَيَّةُ الصَّغِيرَةُ، وَقِيلَ: الدَّقِيقَةُ الْخَفِيفَةُ. وَقِيلَ: الدَّقِيقَةُ الْبَيْضَاءُ. قَوْلُهُ: (إِلا الأبْتَرَ) هُوَ قَصِيرُ الذَّنَبِ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ هُوَ صِنْفٌ مِنْ الْحَيَّاتِ أَزْرَقُ مَقْطُوعُ الذَّنَبِ لا تَنْظُرُ إلَيْهِ حَامِلٌ إِلا أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنهَا. وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: «يَتْبَعَانِ مَا فِي بُطُونِ النِّسَاءِ» . أَيْ يُسْقِطَانِ. قَوْلُهُ: «وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ» هُوَ بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ: وَهُمَا الْخَطَّانِ الأبْيَضَانِ عَلَى ظَهْرِ الْحَيَّةِ.

(2/537)


قَوْلُهُ: «يَخْطَفَانِ الْبَصَرَ» أَيْ يَطْمِسَانِهِ بِمُجَرَّدِ نَظَرِهِمَا إلَيْهِ لِخَاصِّيَّةٍ جَعَلَهَا اللهُ تَعَالَى فِي بَصَرِهِمَا إذَا وَقَعَ عَلَى بَصَرِ الإِنْسَانِ. قَوْلُهُ: «فَحَرِّجُوا عَلَيْهِنَّ ثَلاثًا» ، وَالْمُرَادُ بِهِ الإِنْذَارُ. قَالَ الْمَازِرِيُّ وَالْقَاضِي: لا تَقْتُلُوا حَيَّاتِ مَدِينَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلا بِإِنْذَارٍ كَمَا جَاءَ فِي هَذِهِ الأحَادِيثِ، فَإِذَا أَنْذَرَهَا وَلَمْ تَنْصَرِفْ قَتَلَهَا. وَأَمَّا حَيَّاتُ غَيْرِ الْمَدِينَةِ فِي جَمِيعِ الأرْضِ وَالْبُيُوتِ فَيُنْدَبُ قَتْلُهَا مِنْ غَيْرِ إنْذَارٍ لِعُمُومِ الأحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي الأمْرِ بِقَتْلِهَا، إلى أنْ قَال: وَخُصَّتْ الْمَدِينَةُ بِالإِنْذَارِ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهَا. وَسَبَبُهُ مَا صُرِّحَ بِهِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ أَسْلَمَ طَائِفَةٌ مِنْ الْجِنِّ بِهَا. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى عُمُومِ النَّهْيِ فِي حَيَّاتِ الْبُيُوتِ بِكُلِّ بَلَدٍ حَتَّى تُنْذَرَ، وَأَمَّا مَا لَيْسَ فِي الْبُيُوتِ فَيُقْتَلُ مِنْ غَيْرِ إنْذَارٍ. قَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ مَا وُجِدَ مِنْهَا فِي الْمَسَاجِدِ. قَالَ الْقَاضِي: وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الأمْرُ بِقَتْلِ الْحَيَّاتٍ مُطْلَقًا مَخْصُوصٌ بِالنَّهْيِ عَنْ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ إِلا الأبْتَرَ وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا بَعْدَ الإِنْذَارِ. قَالَ الشَّارِح: وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَمَلُ الأصُولِيُّ فِي مِثْلِ أَحَادِيثِ الْبَابِ فَالْمَصِيرُ إلَيْهِ أَرْجَحُ. وَأَمَّا صِفَةُ الاسْتِئْذَانِ فَقَالَ الْقَاضِي: رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ يَقُولُ: «أُنْشِدُكُنَّ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُنَّ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد أَنْ تُؤْذِنَّنَا وَأَنْ تَظْهَرْنَ لَنَا» وَقَالَ مَالِكٌ: يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ: أُحَرِّجُ عَلَيْك بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ لا تَبْدُوَا لَنَا وَلا تُؤْذِيَنَا. وَتَبْوِيبُ الْمُصَنِّفِ فِي الْبَابِ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الأمْرَ بِالْقَتْلِ وَالنَّهْيَ عَنْهُ مِنْ أُصُولِ التَّحْرِيمِ قَالَ الْمَهْدِيُّ فِي الْبَحْرِ: أُصُولُ التَّحْرِيمِ إمَّا نَصُّ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ الأمْرُ بِقَتْلِهِ كَالْخَمْسَةِ وَمَا ضَرَّ مِنْ غَيْرِهَا فَمَقِيسٌ عَلَيْهَا أَوْ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِهِ كَالْهُدْهُدِ وَالْخُطَّافِ وَالنَّحْلَةِ وَالنَّمْلَةِ وَالصُّرَدِ أَوْ اسْتِخْبَاثُ الْعَرَبِ إيَّاهُ كَالْخُنْفِسَاءِ وَالضُّفْدَعِ وَالْعِظَايَةِ وَالْوَزَغِ وَالْحِرْبَاءِ وَالْجِعْلانِ وَكَالذُّبَابِ وَالْبَعُوضِ وَالزُّنْبُورِ وَالْقَمْلِ وَالْكَتَّانِ وَالنَّامِسِ وَالْبَقِّ وَالْبُرْغُوثِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} وَهِيَ مُسْتَخْبَثَةٌ عِنْدَهُمْ وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ، فَكَانَ اسْتِخْبَاثُهُمْ طَرِيقَ تَحْرِيمٍ، فَإِنْ اسْتَخْبَثَهُ الْبَعْضُ اعْتُبِرَ الأكْثَرُ، وَالْعِبْرَةُ بِاسْتِطَابَةِ أَهْلِ السَّعَةِ لا ذَوِي الْفَاقَةِ.

(2/538)


قَالَ الشَّارِح: وَالْحَاصِلُ أَنَّ الآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ وَالأحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الأصْلَ الْحِلُّ، وَأَنَّ التَّحْرِيمَ لا يَثْبُتُ إِلا إذَا ثَبَتَ النَّاقِلُ عَنْ الأصْلِ الْمَعْلُومِ وَهُوَ أَحَدُ الأمُورِ الْمَذْكُورَةِ، فَمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَاقِلٌ صَحِيحٌ فَالْحُكْمُ بِحِلِّهِ هُوَ الْحَقُّ كَائِنًا مَا كَانَ، وَكَذَلِكَ إذَا حَصَلَ التَّرَدُّدُ فَالْمُتَوَجِّهُ الْحُكْمُ بِالْحِلِّ لأنَّ النَّاقِلَ غَيْرُ مَوْجُودٍ مَعَ التَّرَدُّدِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَصَالَةَ الْحِلِّ بِالأدِلَّةِ الْخَاصَّةِ اسْتِصْحَابُ الْبَرَاءَةِ الأصْلِيَّةِ.

(2/539)


أَبْوَابُ الصَّيْدِ بَابُ مَا يَجُوزُ فِيهِ اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ وَقَتْلُ الْكَلْبِ الأسْوَدِ الْبَهِيمِ 4612- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ اتَّخَذَ كَلْبًا إِلا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ مَاشِيَةٍ انْتُقِصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 4613- وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لا يَعْنِي عَنْهُ زَرْعًا وَلا ضَرْعًا نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4614- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلابِ إِلا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ كَلْبَ مَاشِيَةٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4615- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْلا أَنَّ الْكِلابَ أُمَّةٌ مِنْ الأمَمِ لأمَرْتُ بِقَتْلِهَا فَاقْتُلُوا مِنْهَا الأسْوَدَ الْبَهِيمَ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 4616- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقَتْلِ الْكِلابِ حَتَّى إنَّ الْمَرْأَةَ تَقْدُمُ مِنْ الْبَادِيَةِ بِكَلْبِهَا فَنَقْتُلُهُ، ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ قَتْلِهَا، وَقَالَ: «عَلَيْكُمْ بِالأسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي النُّقْطَتَيْنِ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.

(2/540)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِي هَذِهِ الأحَادِيثِ إبَاحَةُ اتِّخَاذِ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ وَالْمَاشِيَةِ وَكَذَلِكَ لِلزَّرْعِ وَكَرَاهَةُ اتِّخَاذِهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ إِلا أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ مِمَّا ذُكِرَ اتِّخَاذُهَا لِجَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ قِيَاسًا فَتَمْحَضُ كَرَاهَةُ اتِّخَاذِهَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْوِيعِ النَّاسِ وَامْتِنَاعِ دُخُولِ الْمَلائِكَةِ إلَى الْبَيْتِ الَّذِي الْكِلابُ فِيهِ. قَالَ الشَّارِح: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَأْذُونَ فِي اتِّخَاذِهِ مَا لَمْ يَحْصُلْ الاتِّفَاقُ عَلَى قَتْلِهِ وَهُوَ الْكَلْبُ الْعَقُورُ. بَابُ مَا جَاءَ فِي صَيْدِ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ وَالْبَازِي وَنَحْوِهِمَا 4617- عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَا بِأَرْضِ صَيْدٍ أَصِيدُ بِقَوْسِي وَبِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ، وَبِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ فَمَا يَصْلُحُ لِي؟ فَقَالَ: «مَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ. فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ» . 4618- وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي أُرْسِلُ الْكِلابَ الْمُعَلَّمَةَ فَيُمْسِكْنَ عَلَيَّ وَأَذْكُرُ اسْمَ اللهِ، قَالَ: «إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ فَكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ» . قُلْت: وَإِنْ قَتَلْنَ قَالَ: «وَإِنْ قَتَلْنَ مَا لَمْ يَشْرَكْهَا كَلْبٌ لَيْسَ مَعَهَا» . قُلْتُ لَهُ: فَإِنِّي أَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ الصَّيْدَ فَأَصِيدُ. فَقَالَ: «إذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ فَخَزَقَ فَكُلْهُ، وَإِنْ أَصَابَهُ بِعَرْضِهِ فَلا تَأْكُلْهُ» . 4619- وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَك فَاذْكُرْ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ، فَإِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الإِبَاحَةِ سَوَاءٌ قَتَلَهُ الْكَلْبُ جَرْحًا أَوْ خَنْقًا. 4620- وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا عَلَّمْتَ مِنْ كَلْبٍ أَوْ بَازٍ ثُمَّ أَرْسَلْتَهُ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ فَكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ» .

(2/541)


قُلْتَ: وَإِنْ قَتَلَ؟ قَالَ: «وَإِنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَإِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَيْكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «وَمَا صِدْت بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ» الْمُرَادُ بِالْمُعَلَّمِ الَّذِي إذَا أَعداهُ صَاحِبُهُ عَلَى الصَّيْدِ طَلَبَهُ، وَإِذَا زَجَرَهُ انْزَجَرَ، وَإِذَا أَخَذَ الصَّيْدَ حَبَسَهُ عَلَى صَاحِبِهِ. قَوْلُهُ: «مَا لَمْ يُشْرِكْهَا كَلْبٌ لَيْسَ مَعَهَا» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَحِلُّ أَكْلُ مَا يُشَارِكُهُ كَلْبٌ آخَرُ فِي اصْطِيَادِهِ وَمَحِلُّهُ مَا إذَا اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ أَوْ أَرْسَلَهُ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ، فَإِنْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ حَلَّ ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ إرْسَالُهُمَا مَعًا فَهُوَ لَهُمَا وَإِلا فَلِلأوَّلِ. قَوْلُهُ: «وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ وَلَوْ كَانَ الْكَلْبُ مُعَلَّمًا. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ فِيهِ. انتهى. قَوْلُهُ: (أَوْ بَازٍ) قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَفَرَّدَ مُجَالِدٌ بِذِكْرِ الْبَازِ فِيهِ وَخَالَفَ الْحُفَّاظَ. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَرْجعَ فِي تَعْلِيمِ الْفَهْدِ إِلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ، فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ مِنْ جِنْسِ تَعْلِيمِ الصَّقْرِ بِالأَكْلِ أُلْحِقَ بِهِ، وَإِنْ قَالُوا إِنَّهُ يعلم بِتَرْكِ الأَكْلِ كَالْكَلْبِ أُلْحِقَ بِهِ، وَإِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ بَعْد تَعَلُّمِهِ لَمْ يَحْرِمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَيْدِهِ وَلَمْ يُبَحْ مَا أَكَلَ مِنْهُ. بَابُ مَا جَاءَ فِيمَا إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ 4621- عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا أَرْسَلْتَ كِلابَكَ الْمُعَلَّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ إِلا أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ فَلا تَأْكُلْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4622- وَعَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ ... رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أَرْسَلْتَ الْكَلْبَ فَأَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ فَلا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا

(2/542)


أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِذَا أَرْسَلْتَهُ فَقَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ فَكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ» . 4623- وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي صَيْدِ الْكَلْبِ: «إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ فَكُلْ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ، وَكُلْ مَا رَدَّتْ عَلَيْكَ يَدُكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4624- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ لِي كِلابًا مُكَلَّبَةً فَأَفْتِنِي فِي صَيْدِهَا، قَالَ: «إنْ كَانَتْ لَك كِلابٌ مُكَلَّبَةٌ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَتْ عَلَيْك» . فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ذَكِيٌّ وَغَيْرُ ذَكِيٍّ؟ قَالَ: «ذَكِيٌّ وَغَيْرُ ذَكِيٍّ» . قَالَ: وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ؟ قَالَ: «وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ» . قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفْتِنِي فِي قَوْسِي، قَالَ: «كُلْ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْك قَوْسُكَ» . قَالَ ذَكِيٌّ وَغَيْرُ ذَكِيٍّ؟ قَالَ: «ذَكِيٌّ وَغَيْرُ ذَكِيٍّ» . قَالَ: فَإِنْ تَغَيَّبَ عَنِّي؟ قَالَ: «وَإِنْ تَغَيَّبَ عَنْك مَا لَمْ يَصِلَّ - يَعْنِي يَتَغَيَّرْ - أَوْ تَجِدْ فِيهِ أَثَرَ غَيْرِ سَهْمِكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ: «وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ» احْتَجَّ بِهِ مَالِكٌ عَلَى حِلِّ مَا أَكل مِنْهُ الْكَلْبُ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَالَ الْحَافِظُ: وَسَلَكَ النَّاسُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ طرقًا: الأوْلَى حَمْلُ حَدِيثُ الأعْرَابِيِّ عَلَى مَا إذَا قَتَلَهُ وخلاه ثُمَّ عَاد فَأَكَلَ مِنْهُ الثَّانِية التَّرْجِيحُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: «كِلابًا مُكَلَّبَةً» يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ الْكَلْبِ بِسُكُونِ اللامِ اسْمُ الْعَيْنِ فَيَكُونُ حُجَّةً لِمَنْ خَصَّ مَا صَادَهُ الْكَلْبُ بِالْحِلِّ إذَا وُجِدَ مَيْتًا دُونَ مَا عَدَاهُ مِنْ الْجَوَارِحِ كَمَا قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {مُكَلِّبِينَ} وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ الْكَلَبِ بِفَتْحِ اللام وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّكْلِيبِ وَهُوَ التَّضْرِيَةُ، وَيُقَوِّي هَذَا عُمُومُ قَوْلِهِ: {مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} فَإِنَّ الْجَوَارِحَ الْمُرَادَ بِهَا الْكَوَاسِبُ عَلَى أَهْلِهَا وَهُوَ عَامٌّ. بَابُ وُجُوبِ التَّسْمِيَةِ 4625- عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّه

(2/543)


إنِّي أُرْسِلُ كَلْبِي وَأُسَمِّي، قَالَ: «إنْ أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَأَخَذَ فَقَتَلَ فَكُلْ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ» . قُلْت: إنِّي أُرْسِلُ كَلْبِي أَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ لا أَدْرِي أَيُّهُمَا أَخَذَهُ؟ قَالَ: «فَلا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِكِ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ» . 4626- وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللهِ، فَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ - وَقَدْ قَتَلَ - فَلا تَأْكُلْ فَإِنَّكَ لا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَوْحَاهُ أَحَدُهُمَا وَعَلِمَ بِعَيْنِهِ فَالْحُكْمُ لَهُ؛ لأنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ قَاتَلَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «وَسَمَّيْت» اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّسْمِيَةِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَى ذَلِكَ، إنَّمَا الْخِلافُ فِي كَوْنِهَا شَرْطًا فِي حِلِّ الأكْلِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَأَحْمَدُ إلَى أَنَّهَا شَرْطٌ. وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَالشَّافِعِيُّ - وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ - إلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ. وَاخْتَلَفُوا إذَا تَرَكَهَا نَاسِيًا، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، أَنَّ الشَّرْطِيَّةَ إنَّمَا هِيَ فِي حَقِّ الذَّاكِرِ، فَيَجُوزُ أَكْلُ مَا تُرِكَتْ التَّسْمِيَةُ عَلَيْهِ سَهْوًا لا عَمْدًا. انْتَهَى مُلَخَّصًا قَوْلُهُ: (أَوْحَاهُ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ بِمَعْنَى أَنْهَاهُ إلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ. بَابُ الصَّيْدِ بِالْقَوْسِ وَحُكْمُ الرَّمْيَةِ إذَا غَابَتْ أَوْ وَقَعَتْ فِي مَاء 4627- عَنْ عَدِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّا قَوْمٌ نَرْمِي فَمَا يَحِلُّ لَنَا؟ قَالَ: «يَحِلُّ لَكُمْ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذَكَرْتُمْ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَخَزَقْتُمْ فَكُلُوا ... مِنْهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا قَتَلَهُ السَّهْمُ بِثِقَلِهِ لا يَحِلُّ. 4628- وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا رَمَيْتَ سَهْمَكَ فَغَابَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَأَدْرَكْتَهُ فَكُلْهُ مَا لَمْ يَنْتَنْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.

(2/544)


4629- وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الصَّيْدِ ... فَقَالَ: «إذَا رَمَيْتَ سَهْمَكَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللهِ فَإِنْ وَجَدْتَهُ قَدْ قَتَلَ فَكُلْ إِلا أَنْ تَجِدَهُ قَدْ وَقَعَ فِي مَاءٍ فَإِنَّك لا تَدْرِي الْمَاءُ قَتَلَهُ أَوْ سَهْمُكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّهْمَ إذَا أَوْحَاهُ أُبِيحَ لأنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ سَهْمَهُ قَتَلَهُ. 4630- وَعَنْ عَدِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا رَمَيْتَ الصَّيْدَ فَوَجَدْتَهُ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَيْسَ بِهِ إِلا أَثَرُ سَهْمِكَ فَكُلْ، وَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ فَلا تَأْكُلْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 4631- وَفِي رِوَايَةٍ: «إذَا رَمَيْتَ سَهْمَكَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللهِ، فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلا أَثَرَ سَهْمِكَ فَكُلْ إنْ شِئْتَ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلا تَأْكُلْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 4632- وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّا نَرْمِي الصَّيْدَ فَنَقْتَفِي أَثَرَهُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاثَةَ ثُمَّ نَجِدُهُ مَيِّتًا وَفِيهِ سَهْمُهُ، قَالَ: «يَأْكُلُ إنْ شَاءَ اللهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 4633- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ: إنَّ أَرْضَنَا أَرْضُ صَيْدٍ فَيَرْمِي أَحَدُنَا الصَّيْدَ فَيَغِيبُ عَنْهُ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ فَيَجِد فِيهِ سَهْمُهُ، قَالَ: ... «إذَا وَجَدْتَ سَهْمَكَ وَلَمْ تَجِدْ فِيهِ أَثَرَ غَيْرِهِ وَعَلِمْتَ أَنَّ سَهْمَكَ قَتَلَهُ فَكُلْهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 4634- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ أَرْمِي الصَّيْدَ فَأَجِدُ فِيهِ سَهْمِي مِنْ الْغَدِ، قَالَ: «إذَا عَلِمْتَ أَنَّ سَهْمَكَ قَتَلَهُ وَلَمْ تَرَ فِيهِ أَثَرَ سَبُعٍ فَكُلْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَكُلْهُ مَا لَمْ يَنْتَنْ» جَعَلَ الْغَايَةَ أَنْ يَنْتَنَ الصَّيْدُ، فَلَوْ وَجَدَهُ فِي دُونِهَا مَثَلاً بَعْدَ ثَلاثٍ وَلَمْ يَنْتَنْ حَلَّ، فَلَوْ وَجَدَهُ دُونَهَا وَقَدْ أَنْتَنَ فَلا، هَذَا ظَاهِرُ الْحَدِيثِ. وَأَجَابَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ أَكْلِهِ إذَا أَنْتَنَ لِلتَّنْزِيهِ. قَوْلُهُ: «إِلا أَنْ تَجِدَهُ قَدْ وَقَعَ فِي مَاءٍ» وَجْهُهُ أَنَّهُ يَحْصُلُ حِينَئِذٍ التَّرَدُّدُ هَلْ

(2/545)


قَتَلَهُ السَّهْمُ أَوْ الْغَرَقُ فِي الْمَاءِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مَحِلَّهُ مَا لَمْ يَنْتَهِ الصَّيْدُ بِتِلْكَ الْجِرَاحَةِ إلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ. قَوْلُهُ: «لَيْسَ بِهِ إِلا أَثَرُ سَهْمِكَ» مَفْهُومُهُ أَنَّهُ إذا وُجِدَ فِيهِ أَثَرٌ غَيْرُ سَهْمِهِ لا يُؤْكَلُ. انْتَهَى ملخصًا. بَابُ النَّهْيِ عَنْ الرَّمْيِ بِالْبُنْدُقِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ 4635- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ الْخَذْفِ وَقَالَ: «إنَّهَا لا تَصِيدُ صَيْدًا وَلا تَنْكَأُ عَدُوًّا وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ ... الْعَيْنَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4636- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا بِغَيْرِ حَقِّهِ سَأَلَهُ اللهُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: «أَنْ تَذْبَحَهُ وَلا تَأْخُذَ بِعُنُقِهِ فَتَقْطَعَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 4637- وَعَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا رَمَيْتَ فَسَمَّيْتَ فَخَزَقْتَ فَكُلْ، وَإِنْ لَمْ تَخْزِقْ فَلا تَأْكُلْ، وَلا تَأْكُلْ مِنْ الْمِعْرَاضِ إِلا مَا ذَكَّيْتَ، وَلا تَأْكُلْ مِنْ الْبُنْدُقَةِ إِلا مَا ذَكَّيْتَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَهُوَ مُرْسَلٌ. إبْرَاهِيمُ لَمْ يَلْقَ عَدِيًّا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَحَدِيثُ عَدِيٍّ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلاً لَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ. قَوْلُهُ: (نَهَى عَنْ الْخَذْفِ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ الرَّمْيُ بِحَصَاةٍ أَوْ نَوَاةٍ بَيْنَ سَبَّابَتَيْهِ أَوْ بَيْنَ الإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ أَوْ عَلَى ظَاهِرِ الْوُسْطَى وَبَاطِنِ الإِبْهَامِ. وَالْمُرَادُ بِالْبُنْدُقَةِ الْمَذْكُورَةِ هِيَ الَّتِي تُتَّخَذُ مِنْ طِينٍ وَتَيْبَسُ فَيُرْمَى بِهَا. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: تِلْكَ الْمَوْقُوذَةُ. قَوْلُهُ: «بِغَيْرِ حَقِّهِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ الْعُصْفُورِ وَمَا شَاكَلَهُ لِمُجَرَّدِ الْعَبَثِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/546)


بَابُ الذَّبْحِ وَمَا يَجِبُ لَهُ وَمَا يُسْتَحَبُّ 4638- عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ تُخُومَ الأرْضِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 4639- وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ لا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ أَمْ لا؟ فَقَالَ: «سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوا» ، قَالَتْ: وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْكُفْرِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ وَالأفْعَالَ تُحْمَلُ عَلَى حَالِ الصِّحَّةِ وَالسَّلامَةِ إلَى أَنْ يَقُومَ دَلِيلُ الْفَسَادِ. 4640- وَعَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ كَانَتْ لَهُمْ غَنَمٌ تَرْعَى بِسَلْعٍ، فَأَبْصَرَتْ جَارِيَةٌ لَنَا بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِنَا مَوْتًا، فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: لا تَأْكُلُوا حَتَّى أَسْأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ أُرْسِلَ إلَيْهِ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ أَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. قَالَ: وَقَالَ عُبَيْدُ اللهِ: يُعْجِبُنِي أَنَّهَا أَمَةٌ وَأَنَّهَا ذَبَحَتْ بِحَجَرٍ. 4641- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ ذِئْبًا نَيَّبَ فِي شَاةٍ فَذَبَحُوهَا بِمَرْوَةِ، فَرَخَّصَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَكْلِهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. 4642- وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّا نَصِيدُ فَلا نَجِدُ سِكِّينًا إِلا الظِّرَارَ وَشِقَّةَ الْعَصَا، فَقَالَ: «أَمِرَّ الدَّمَ بِمَا شِئْتَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّه عَلَيْهِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا التِّرْمِذِيَّ. 4643- وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّا نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا مَا لَمْ يَكُنْ سِنًّا أَوْ ظُفْرًا، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ: أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفْرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 4644- وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ اللهَ كَتَبَ

(2/547)


الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. 4645- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ أَنْ تُحَدَّ الشِّفَارُ وَأَنْ تُوَارَى عَنْ الْبَهَائِمِ، وَقَالَ: «إذَا ذَبَحَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجْهِزْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. 4646- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بُدَيْلُ بْنَ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيَّ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ يَصِيحُ فِي فِجَاجِ مِنًى: أَلا إنَّ الذَّكَاةَ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، وَلا تُعَجِّلُوا الأنْفُسَ أَنْ تَزْهَقَ، وَأَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. 4647- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنهم - قَالا: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ شَرِيطَةِ الشَّيْطَانِ وَهِيَ الَّتِي تُذْبَحُ فَيُقْطَعُ الْجِلْدُ وَلا تُفْرَى الأوْدَاجُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4648- وَعَنْ أَسْمَاءَ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4649- وَعَنْ أَبِي الْعُشَرَاءِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَمَا تَكُونُ الذَّكَاةُ إِلا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ؟ قَالَ: «لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخْذِهَا لأجْزَأَكَ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَهَذَا فِيمَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ. 4650- وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ فَنَدَّ بَعِيرٌ مِنْ إبِلِ الْقَوْمِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ خَيْلٌ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا فَعَلَ مِنْهَا هَذَا فَافْعَلُوا بِهِ هَكَذَا» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ» الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَذْبَحَ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى كَمَنْ ذَبَحَ لِلصَّنَمِ أَوْ الصَّلِيبِ أَوْ لِمُوسَى أَوْ لِعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلامُ أَوْ لِلْكَعْبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَكُلُّ هَذَا حَرَامٌ وَلا تَحِلُّ هَذِهِ الذَّبِيحَةُ

(2/548)


سَوَاءٌ كَانَ الذَّابِحُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ، فَإِنْ قَصَدَ مَعَ ذَلِكَ تَعْظِيمَ الْمَذْبُوحِ لَهُ غَيْرُ اللهِ تَعَالَى وَالْعِبَادَةُ لَهُ كَانَ ذَلِكَ كُفْرًا، فَإِنْ كَانَ الذَّابِحُ مُسْلِمًا قَبْلَ ذَلِكَ صَارَ بِالذَّبْحِ مُرْتَدًّا. وَذَكَرَ الشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ الْمَرْوَزِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَا يُذْبَحُ عِنْدَ اسْتِقْبَالِ السُّلْطَانِ تَقَرُّبًا إلَيْهِ أَفْتَى أَهْلُ بُخَارَى بِتَحْرِيمِهِ لأنَّهُ مِمَّا أُهِّلَ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هَذَا إنَّمَا يَذْبَحُونَهُ اسْتِبْشَارًا بِقُدُومِهِ فَهُوَ كَذَبْحِ الْعَقِيقَةِ لِوِلادَةِ الصبي. قَوْلُهُ: فَقَالَ: «سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ» قَالَ الْمُهَلَّبُ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَيْسَتْ فَرْضًا. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ التَّسْمِيَةُ هُنَا عِنْدَ الأكْلِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ النَّوَوِيُّ. وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ مَا يُوجَدَ فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ، وَكَذَا مَا ذَبَحَهُ أَعْرَابُ الْمُسْلِمِينَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: (فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهَا) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا تَحِلُّ ذَبِيحَةُ الْمَرْأَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. قَوْلُهُ: (إِلا الظِّرَارَ) بِالْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا رَاءَانِ مُهْمَلَتَانِ بَيْنَهُمَا أَلْفٌ جَمْعُ ظُرَرٍ: وَهِيَ الْحِجَارَةُ. قَوْلُهُ: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ» أَيْ أَسَالَهُ وَصَبَّهُ بِكَثْرَةٍ. قَوْلُهُ: «وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّسْمِيَةِ لأنَّهُ عَلَّقَ الإِذْنَ بِمَجْمُوعِ الأمْرَيْنِ. قَوْلُهُ: «أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ» قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: هُوَ قِيَاسٌ حُذِفَتْ مِنْهُ الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ لِشُهْرَتِهَا عِنْدَهُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَكُلُّ عَظْمٍ لا يَحِلُّ الذَّبْحُ بِهِ، وَطَوَى النَّتِيجَةَ لِدَلالَةِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهَا. قَوْلُهُ: «وَأَمَّا الظُّفْرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ» أَيْ وَهُمْ كُفَّارٌ. وَقَدْ نُهِيتُمْ عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ الصَّلاحِ وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ. وَقِيلَ: نَهَى عَنْهُمَا لأنَّ الذَّبْحَ بِهِمَا تَعْذِيبٌ لِلْحَيَوَانِ وَلا يَقَعُ بِهِ غَالِبًا إِلا الْخَنْقُ الَّذِي هُوَ عَلَى صُورَةِ الذَّبْحِ. قَوْلُهُ: «عَنْ شَرِيطَةِ الشَّيْطَانِ» أَيْ ذَبِيحَتِهِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ: شَرِيطَةُ الشَّيْطَانِ قِيلَ هِيَ الذَّبِيحَةُ الَّتِي لا يُقْطَعُ أَوْدَاجُهَا وَلا يُسْتَقْصَى ذَبْحُهَا وَهُوَ

(2/549)


مِنْ شَرْطِ الْحَجَّامِ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقْطَعُونَ بَعْضَ حَلْقِهَا وَيَتْرُكُونَهَا حَتَّى تَمُوتَ، وَإِنَّمَا أَضَافَهَا إلَى الشَّيْطَانِ لأنَّهُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَحَسَّنَ هَذَا الْفِعْلَ لَدَيْهِمْ وَسَوَّلَهُ لَهُمْ. قَوْلُهُ: «لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخِذِهَا» إلَى آخره قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ: هَذَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَالمترَدِّي فِي الْبِئْرِ وَأَشْبَاهِهِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد بَعْدَ إخْرَاجِهِ: هَذَا لا يَصِحُّ إِلا فِي الْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّافِرَةِ وَالْمُتَوَحِّشَةِ. قَوْلُهُ: (نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَسًا) فِيهِ أَنَّ النَّحْرَ يُجْزِئُ فِي الْخَيْلِ كَمَا يُجْزِئُ فِي الإِبِلِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: الأصْلُ فِي الإِبِلِ النَّحْرُ، وَفِي الشَّاةِ وَنَحْوِهَا الذَّبْحُ. وَأَمَّا الْبَقَرُ فَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ ذَبْحِهَا وَفِي السُّنَّة ذِكْرُ نَحْرِهَا. وَاخْتُلِفَ فِي ذَبْحِ مَا يُنْحَرُ وَنَحَرَ مَا يُذْبَحُ، فَأَجَازَهُ الْجُمْهُورُ وَمَنَعَ مِنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ. قَوْلُهُ: «أَوَابِدَ» جَمْعُ آبِدَةٍ وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ أَكْلِ مَا رُمِيَ بِالسَّهْمِ فَجُرِحَ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ جَسَدِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ وَحْشِيَّا أَوْ مُتَوَحِّشَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. بَابُ ذَكَاةِ الْجَنِينِ بذَكَاةِ أُمِّهِ 4651- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ فِي الْجَنِينِ: «ذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. 4652- وَفِي رِوَايَةٍ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ نَنْحَرُ النَّاقَةَ وَنَذْبَحُ الْبَقَرَةَ وَالشَّاةَ فِي بَطْنِهَا الْجَنِينُ أَنُلْقِيهِ أَمْ نَأْكُلُ؟ قَالَ: «كُلُوهُ إنْ شِئْتُمْ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ» مَرْفُوعَان بِالابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَالْمُرَادُ الإِخْبَارُ عَنْ ذَكَاةِ الْجَنِينِ بِأَنَّهَا زَكَاةُ أُمِّهِ فَيَحِلُّ بِهَا كَمَا تَحِلُّ الأمُّ بِهَا وَلا يَحْتَاجُ إلَى تَذْكِيَةٍ.

(2/550)


بَابُ أَنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيْتَةٌ 4653- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا قُطِعَ مِنْ بَهِيمَةٍ وَهِيَ حَيَّةٌ فَمَا قُطِعَ مِنْهَا فَهُوَ مَيْتَةٌ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. 4654- وَعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ وَبِهَا نَاسٌ يَعْمِدُونَ إلَى أَلَيَّاتِ الْغَنَمِ وَأَسْنِمَةِ الإِبِلِ يَجُبُّونَهَا، فَقَالَ: «مَا قُطِعَ مِنْ الْبَهِيمَةِ - وَهِيَ حَيَّةٌ - فَهُوَ مَيْتَةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. 4655- وَلأبِي دَاوُد مِنْهُ الْكَلامُ النَّبَوِيُّ فَقَطْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَهُوَ مَيْتَةٌ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَائِنَ مِنْ الْحَيِّ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَيْتَةِ فِي تَحْرِيمِ أَكْلِهِ وَنَجَاسَتِهِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي السَّمَكِ وَالْجَرَادِ وَحَيَوَانِ الْبَحْرِ 4656- قَدْ سَبَقَ قَوْلُهُ فِي الْبَحْرِ «هُوَ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» . 4657- عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ مَعَهُ الْجَرَادَ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا ابْنَ مَاجَةْ. 4658- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: غَزَوْنَا جَيْشَ الْخَبَطِ وَأَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ فَجُعْنَا جُوعًا شَدِيدًا، فَأَلْقَى الْبَحْرُ حُوتًا مَيْتًا لَمْ نَرَ مِثْلَهُ يُقَالُ لَهُ: الْعَنْبَرُ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ، فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَظْمًا مِنْ عِظَامِهِ فَمَرَّ الرَّاكِبُ تَحْتَهُ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «كُلُوا رِزْقًا أَخْرَجَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكُمْ، أَطْعِمُونَا إنْ كَانَ مَعَكُمْ» . فَأَتَاهُ بَعْضُهُمْ بِشَيْءٍ فَأَكَلَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4659- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ... رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أُحِلَّ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ فَأَمَّا الْمَيِّتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَهُوَ لِلدَّارَقُطْنِيِّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ بِإِسْنَاده قَالَ أَحْمَدُ: وابْنُ الْمَدِينِيِّ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ ضَعِيفٌ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللهِ ثِقَةٌ.

(2/551)


4660- وَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ ذَبَحَ مَا فِي الْبَحْرِ لِبَنِي آدَمَ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ مَوْقُوفًا. وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه - قَالَ: الطَّافِي حَلالٌ. وَعَنْ عُمَرَ فِي قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} قَالَ: صَيْدُهُ مَا اصْطِيدَ وَطَعَامُهُ مَا رَمَى بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَعَامُهُ مَيْتَتُهُ إِلا مَا قَذَرْت مِنْهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ صَيْدِ نَصْرَانِيٍّ، أَوْ يَهُودِيٍّ، أَوْ مَجُوسِيٍّ. وَرَكِبَ الْحَسَنُ عَلَى سَرْجٍ مِنْ جُلُودِ كِلابِ الْمَاءِ ذَكَرَهُنَّ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (نَأْكُلُ مَعَهُ الْجَرَادَ) يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَعِيَّةِ مُجَرَّدُ الْغَزْوِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ مَعَ أَكْلِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى الثَّانِي مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ بِلَفْظٍ وَيَأْكُلُهُ مَعَنَا وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ الإِجْمَاعَ عَلَى حِلِّ أَكْلِ الْجَرَادِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى حِلِّ أَكْلِ الْجَرَادِ وَلَوْ مَاتَ بِغَيْرِ سَبَبٍ، إلى أنْ قَالَ: وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى إبَاحَةِ مَيْتَةِ الْبَحْرِ سَوَاءٌ مَاتَتْ بِنَفْسِهَا أَوْ مَاتَتْ بِالاصْطِيَادِ. وَلا خِلافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي حِلِّ السَّمَكِ عَلَى اخْتِلافِ أَنْوَاعِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا كَانَ عَلَى صُورَةِ حَيَوَانِ الْبَرِّ كَالآدَمِيِّ وَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ - أَنَّهُ يُحَرَّمُ، وَالأصَحُّ عَنْ الشَّافِعِيَّةِ الْحِلُّ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ، إِلا الْخِنْزِيرَ فِي رِوَايَةٍ. وَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا أَنَّهُ يَحِلُّ مَا يُؤْكَلُ نَظِيرُهُ فِي الْبَرِّ، وَمَا لا فَلا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ، وَاسْتَثْنَتْ الشَّافِعِيَّةُ مَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَهُوَ نَوْعَانِ: النَّوْعُ الأوَّلُ مَا وَرَدَ فِي مَنْعِ أَكْلِهِ شَيْءٌ يَخُصُّهُ كَالضُّفْدَعِ، وَكَذَا اسْتَثْنَاهُ أَحْمَدُ وَمِنْ الْمُسْتَثْنَى التِّمْسَاحُ وَالْقِرْشُ وَالثُّعْبَانُ وَالْعَقْرَبُ وَالسَّرَطَانُ وَالسُّلَحْفَاةُ للاسْتِخْبَاثِ وَالضَّرَرِ اللاحِقِ مِنْ السُّمِّ. النَّوْعُ الثَّانِي مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ مَانِعٌ فَيَحِلُّ لَكِنْ بِشَرْطِ التَّذْكِيَةِ كَالْبَطِّ وَطَيْرِ الْمَاءِ.

(2/552)


بَابُ الْمَيْتَةُ لِلْمُضْطَرِّ 4661- عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ إنَّا بِأَرْضٍ تُصِيبُنَا مَخْمَصَةٌ فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ الْمَيْتَةِ؟ فَقَالَ: «إذَا لَمْ تَصْطَبِحُوا وَلَمْ تَعْتَبِقُوا وَلَمْ تَحْتَفِئُوا بِهَا بَقْلاً فَشَأْنُكُمْ بِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4662- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: أَنَّ أَهْلَ بَيْتٍ كَانُوا. بِالْحَرَّةِ مُحْتَاجِينَ قَالَ: فَمَاتَتْ عِنْدَهُمْ نَاقَةٌ لَهُمْ - أَوْ لِغَيْرِهِمْ - فَرَخَّصَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَكْلِهَا، قَالَ: فَعَصَمَتْهُمْ بَقِيَّةَ شِتَائِهِمْ أَوْ سَنَتِهِمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4663- وَفِي لَفْظٍ: أَنَّ رَجُلاً نَزَلَ الْحَرَّةَ وَمَعَهُ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: إنَّ نَاقَةً لِي ضَلَّتْ فَإِنْ وَجَدَتْهَا فَأَمْسِكْهَا، فَوَجَدَهَا فَلَمْ يَجِدْ صَاحِبَهَا فَمَرِضَتْ، فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ: انْحَرْهَا، فَأَبَى فَنَفَقَتْ، فَقَالَتْ: اُسْلُخْهَا حَتَّى نَقْدُرَ شَحْمَهَا وَلَحْمَهَا وَنَأْكُلَهُ، فَقَالَ: حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: «هَلْ عِنْدَكَ غِنًى يُغْنِيكَ» ؟ قَالَ: لا، قَالَ: «فَكُلُوهُ» . قَالَ: فَجَاءَ صَاحِبُهَا فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: هَلا كُنْت نَحَرْتَهَا؟ قَالَ: اسْتَحَيْتُ مِنْكَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى إمْسَاكِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «وَلَمْ تَحْتَفِئُوا بِهَا بَقْلاً» مِنْ الْحَفَاءِ وَهُوَ الْبُرْدِيِّ - بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ - نَوْعٌ مِنْ جَيِّدِ التَّمْرِ. وَضَعَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْبُرْدِيَّ لَيْسَ مِنْ الْبُقُولِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ أَصْلُ الْبُرْدِيِّ الأبْيَضِ الرُّطَبُ وَقَدْ يُؤْكَلُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَصْطَبِحُوا وَتَغْتَبِقُوا وَتَجْمَعُوهُمَا مَعَ الْمَيْتَةِ قَالَ الأزْهَرِيُّ: قَدْ أُنْكِرَ هَذَا عَلَى أَبِي عُبَيْدٍ وَفُسِّرَ أَنَّهُ أَرَادَ إذَا لَمْ تَجِدُوا أَلْبِنَةً تَصْطَبِحُونَهَا أَوْ شَرَابًا تَغْتَبِقُونَهُ وَلَمْ تَجِدُوا بَعْدَ عَدَمِ الصَّبُوحِ وَالْغَبُوقِ بَقْلَةً تَأْكُلُونَهَا حُلَّتْ لَكُمْ الْمَيِّتَةُ، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. قَالَ الشَّارِح: وَقَدْ دَلَّتْ أَحَادِيثُ الْبَابِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ الْمَيْتَةِ مَا يَكْفِيهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَالْمُضْطَرُّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْلُ الْمَيْتَةِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ

(2/553)


الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ لا السُّؤَال. وَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} قَدْ قِيلَ إِنَّهُمَا صِفَةٌ لِلشَّخْصِ مُطْلَقًا، فَالْبَاغِي كَالْبَاغِي عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعَادِي كَالصَّائِلِ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُمَا صِفَة لِضَرُورَتِهِ فَالْبَاغِي الَّذِي يَبْغِي الْمُحَرَّم مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْحَلالِ، وَالْعَادِي الَّذِي يِتَجَاوَزُ قَدْرَ الْحَاجَةِ كَمَا قَالَ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ} . وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَهُوَ الصَّوَابُ بِلا رَيْبٍ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ النَّهْيِ أَنْ يُؤْكَلَ طَعَامُ الإِنْسَانِ بِغَيْرِ إذْنِهِ 4664- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ فَيُنْتَثَلُ طَعَامُهُ وَإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَتَهُمْ، فَلا يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلا ... بِإِذْنِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4665- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ يَثْرِبِيٍّ قَالَ: شَهِدْتُ خُطْبَةَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِنًى، وَكَانَ فِيمَا خَطَبَ، أَنْ قَالَ: «وَلا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ إِلا مَا طَابَتْ بِهِ ... نَفْسُهُ» . قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْتُ ذَلِكَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ لَوْ لَقِيتُ فِي مَوْضِعٍ غَنَمَ ابْنِ عَمِّي فَأَخَذْتُ مِنْهَا شَاةً فَاجْتَزَرْتُهَا هَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؟ قَالَ: «إنْ لَقِيتَهَا نَعْجَةً تَحْمِلُ شَفْرَةً وَأَزْنَادًا فَلا تَمَسَّهَا» . 4666- وَعَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ: أَقْبَلْتُ مَعَ سَادَتِي نُرِيدُ الْهِجْرَةَ حَتَّى إذَا دَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ قَالَ: فَدَخَلُوا وَخَلَّفُونِي فِي ظَهْرِهِمْ، فَأَصَابَتْنِي مَجَاعَةٌ شَدِيدَةٌ، قَالَ: فَمَرَّ بِي بَعْضُ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: لَوْ دَخَلْتَ الْمَدِينَةَ فَأَصَبْتَ مِنْ تَمْرِ حَوَائِطِهَا، قَالَ: فَدَخَلْتُ حَائِطًا فَقَطَعْتُ مِنْهُ قِنْوَيْنِ، فَأَتَانِي صَاحِبُ الْحَائِطِ وَأَتَى بِي إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَخْبَرَهُ خَبَرِي وَعَلَيَّ ثَوْبَانِ، فَقَالَ لِي: «أَيُّهُمَا أَفْضَلُ» ؟ فَأَشَرْتُ إلَى أَحَدِهِمَا، فَقَالَ: «خُذْهُ وَأَعْطِ صَاحِبَ الْحَائِطِ الآخَرَ» . فَخَلَّى سَبِيلِي. رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «مَشْرُبَتُهُ» وَالْمُرَادُ هُنَا الْغُرْفَةُ الَّتِي يُجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامُ، شَبَّهَ - صلى الله عليه وسلم - ضُرُوعَ الْمَوَاشِي فِي حِفْظِهَا مَا فِيهَا مِنْ اللَّبَنِ

(2/554)


بِالْمَشْرُبَةِ فِي حِفْظِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ الطَّعَامِ، فَكَمَا أَنَّ هَذِهِ يَحْفَظُ فِيهَا الإِنْسَانُ طَعَامَهُ فَتِلْكَ تَحْفَظُ لَهُ شَرَابَهُ وَهُوَ لَبَنُ مَاشِيَتِهِ، وَكَمَا أَنَّ الإِنْسَانَ يَكْرَهُ دُخُولَ غَيْرِهِ إلَى مَشْرُبَتِهِ لأخْذِ طَعَامِهِ كَذَلِكَ يَكْرَهُ حَلْبَ غَيْرِهِ مَاشِيَتَهُ فَلا يَحِلُّ الْجَمِيعُ إِلا بِإِذْنِ الْمَالِكِ. قَوْلُهُ: «إنْ لَقِيتَهَا نَعْجَةً تَحْمِلُ شَفْرَةً وَأَزْنَادًا» هَذَا فِيهِ مُبَالَغَةٌ مِنْ الْمَنْعِ فِي أَخْذِ مُلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى حَالٍ مُشْعِرَةٍ بِأَنَّ تِلْكَ الْمَاشِيَةَ مُعَدَّةٌ لِلذَّبْحِ حَامِلَةً لِمَا تَصْلُحُ بِهِ مِنْ آلَةِ الذَّبْحِ وَهِيَ الشَّفْرَةُ، وَآلَةُ الطَّبْخِ وَهُوَ الأزْنَادُ وَهِيَ جَمْعُ زَنْدٍ: وَهُوَ الْعُودُ الَّذِي يُقْدَحُ بِهِ النَّارَ. قَوْلُهُ: «وَأَعْطِ صَاحِبَ الْحَائِطِ الآخَرَ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَغْرِيمِ السَّارِقِ قِيمَةَ مَا أَخَذَهُ مِمَّا لا يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ، وَعَلَى أَنَّ الْحَاجَةَ لا تُبِيحُ الإِقْدَامَ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ مَعَ وُجُودِ مَا يُمْكِنُ الانْتِفَاعُ بِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ وَلَوْ كَانَ مِمَّا تَدْعُو حَاجَةُ الإِنْسَانِ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ هُنَا أَخَذَ أَحَدَ ثَوْبَيْهِ وَدَفَعَهُ إلَى صَاحِبِ النَّخْلِ. بَابُ مَا جَاءَ مِنْ الرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ لِابْنِ السَّبِيلِ إذَا لَمْ يَكُنْ حَائِطٌ وَلَمْ يَتَّخِذْ خُبْنَةً 4667- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ دَخَلَ حَائِطًا فَلْيَأْكُلْ وَلا يَتَّخِذْ خُبْنَةً» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. 4668- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الرَّجُلِ يَدْخُلُ الْحَائِطَ، فَقَالَ: «يَأْكُلُ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4669- وَعَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ عَلَى مَاشِيَةٍ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا صَاحِبُهَا فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فَلْيَحْتَلِبْ وَلْيَشْرَبْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَحَدٌ فَلْيُصَوِّتْ ثَلاثًا، فَإِنْ أَجَابَهُ أَحَدٌ فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ فَلْيَحْتَلِبْ وَلْيَشْرَبْ وَلا يَحْمِلْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: سَمَاعُ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ صَحِيحٌ. 4670- وَعَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ حَائِطًا فَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ فَلْيُنَادِ: يَا صَاحِبَ الْحَائِطِ ثَلاثًا، فَإِنْ أَجَابَهُ

(2/555)


وَإِلا فَلْيَأْكُلْ، وَإِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ بِإِبِلٍ فَأَرَادَ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ أَلْبَانِهَا فَلْيُنَادِ: يَا صَاحِبَ الإِبِلِ أَوْ يَا رَاعِيَ الإِبِلِ، فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلا فَلْيَشْرَبْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: فِي تَرْجَمَةِ الْبَابِ «إذَا لَمْ يَكُنْ حَائِطٌ» . وَظَاهِرُ الأحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ مُخَالِفٌ لِمَا قَيَّدَ بِهِ الْمُصَنِّفُ التَّرْجَمَةَ، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: «إذَا لَمْ يَكُنْ حَائِطٌ» أَيْ جِدَارٌ يَمْنَعُ الدُّخُولَ إلَيْهِ بِحِرْزِهِ طُرُقُهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الإِشْعَارِ بِعَدَمِ الرِّضَا، وَكَأَنَّهُ حَمَلَ الأحَادِيثَ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلا مَلْجَأَ إلَى هَذَا بَلْ الظَّاهِرُ الإِطْلاقُ وَعَدَمُ التَّقْيِيدِ. قَوْلُهُ: «وَلا يَتَّخِذْ خُبْنَةً» بِضَمِّ الْخَاءِ وَهِيَ مَا تَحْمِلُهُ فِي حِضْنِكَ كَمَا فِي الْقَامُوسِ. وَهَذَا الإِطْلاقُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مُقَيَّدٌ بِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِنْ الأمْرِ بِالنِّدَاءِ ثَلاثًا. إلى أنْ قَالَ: وَظَاهِرُ أَحَادِيثِ الْبَابِ جَوَازُ الأكْلِ مِنْ حَائِطِ الْغَيْرِ وَالشُّرْبِ مِنْ مَاشِيَتِهِ بَعْدَ النِّدَاءِ الْمَذْكُورِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُضْطَرًّا إلَى الأكْلِ أَمْ لا. بَابُ مَا جَاءَ فِي الضِّيَافَةِ 4671- عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّك تَبْعَثُنِي فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لا يَقْرُونَا فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَنَا: «إنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ» . 4672- وَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخَرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ» . قَالُوا: وَمَا جَائِزَتُهُ يَا ... رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالضِّيَافَةُ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَلا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 4673- وَعَنْ الْمِقْدَامِ - أَبِي كَرِيمَةَ - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَيْلَةُ الضَّيْفِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَإِنْ أَصْبَحَ بِفِنَائِهِ مَحْرُومًا كَانَ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ، إنْ شَاءَ اقْتَضَاهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ» . 4674- وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ

(2/556)


أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4675- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّمَا ضَيْفٍ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ قِرَاهُ وَلا حَرَجَ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ» إلَى آخره قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ: أَيْ لِلضَّيْفِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَرْضِهِمْ وَزَرْعِهِمْ بِقَدْرِ مَا يَكْفِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ. قَالَ ابْنُ رَسْلانَ: وَالضِّيَافَةُ مِنْ مَكَارِمِ الأخْلاقِ وَمَحَاسِنِ الدِّينِ وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. قَالَ الشَّارِح: وَالْحَقُّ وُجُوبُ الضِّيَافَةِ. بَابُ الأدْهَانُ تُصِيبُهَا النَّجَاسَةُ 4676- عَنْ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَمَاتَتْ، فَقَالَ: «أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. 4677- وَفِي رِوَايَةٍ: سُئِلَ عَنْ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ فَقَالَ: «إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلا تَقْرَبُوهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 4678- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَمَاتَتْ، فَقَالَ: «إنْ كَانَ جَامِدًا فَخُذُوهَا وَمَا حَوْلَهَا ثُمَّ كُلُوا مَا بَقِيَ، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلا تَقْرَبُوهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ مَحْفُوظٌ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ، يَعْنِي الْبُخَارِيَّ يَقُولُ: هَذَا خَطَأٌ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ، يَعْنِي الْحَدِيثَ الَّذِي قَبْلَهُ. قَوْلُهُ: (فَمَاتَتْ) اسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ لاِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْمَائِعَ إذَا حَلَّتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ لا يُنَجَّسُ إِلا بِالتَّغَيُّرِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/557)


بَابُ آدَابِ الأكْلِ 4679- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللهِ، فَإِنْ نَسِيَ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللهِ عَلَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4680- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَأْكُلُ أَحَدُكُمْ بِشِمَالِهِ وَلا يَشْرَبُ بِشِمَالِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4681- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْبَرَكَةُ تَنْزِلُ فِي وَسَطِ الطَّعَامِ، فَكُلُوا مِنْ حَافَّتَيْهِ، وَلا تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4682- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ غُلامًا فِي حِجْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي: «يَا غُلامُ سَمِّ اللهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4683- وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَمَّا أَنَا فَلا آكُلُ مُتَّكِئًا» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا مُسْلِمًا وَالنَّسَائِيُّ. 4684- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا أَكَلَ طَعَامًا لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلاثَ وَقَالَ: «إذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ عَنْهَا الأذَى وَلْيَأْكُلْهَا وَلا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ» . وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْلُتَ الْقَصْعَةَ وَقَالَ: «إنَّكُمْ لا تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمْ الْبَرَكَةُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4685- وَعَنْ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: ضِفْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ فَأَمَرَ بِجَنْبٍ فَشُوِيَ، قَالَ: فَأَخَذَ الشَّفْرَةَ فَجَعَلَ يَحْتَزُّ لِي بِهَا مِنْهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4686- وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَى بَعْضَ حُجَرِ نِسَائِهِ فَدَخَلَ، ثُمَّ أَذِنَ لِي فَدَخَلْتُ، فَقَالَ: «هَلْ مِنْ غَدَاءٍ» ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَأُتِيَ بِثَلاثَةِ أَقْرِصَةٍ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قُرْصًا فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَخَذَ

(2/558)


قُرْصًا آخَرَ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيَّ، ثُمَّ أَخَذَ الثَّالِثَ فَكَسَرَهُ بِاثْنَتَيْنِ، فَجَعَلَ نِصْفَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَنِصْفَهُ بَيْنَ يَدَيَّ، ثُمَّ قَالَ: «هَلْ مِنْ أُدُمٍ» ؟ قَالُوا: لا إِلا شَيْءٌ مِنْ خَلٍّ، قَالَ: «هَاتُوهُ فَنِعْمَ الأدْمُ هُوَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4687- وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنه -: أَنَّ رَجُلاً مِنْ قَوْمِهِ - يُقَالُ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ - صَنَعَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طَعَامًا، فَأَرْسَلَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ائْتِنِي أَنْتَ وَخَمْسَةٌ مَعَكَ، قَالَ: فَبَعَثَ إلَيْهِ: (أَن ائْذَنْ لِي فِي السَّادِسِ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ 4688- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4689- وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ فِيهِ: «بِالْمِنْدِيلِ» . 4690- وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِلَعْقِ الأصَابِعِ وَالصَّحْفَةِ، وَقَالَ: «إنَّكُمْ لا تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمْ الْبَرَكَةُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4691- وَعَنْ نُبَيْشَةَ الْخَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَكَلَ فِي قَصْعَةٍ، ثُمَّ لَحِسَهَا اسْتَغْفَرَتْ لَهُ الْقَصْعَةُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ. 4692- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّت النَّارُ، فَقَالَ: لا، لَقَدْ كُنَّا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا نَجِدُ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ الطَّعَامِ إِلا قَلِيلاً، فَإِذَا نَحْنُ وَجَدْنَاهُ لَمْ يَكُنْ لَنَا مَنَادِيلُ إِلا أَكُفَّنَا وَسَوَاعِدَنَا وَأَقْدَامَنَا ثُمَّ نُصَلِّي وَلا نَتَوَضَّأُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. 4693- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ غَمَرٌ وَلَمْ يَغْسِلْهُ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا النَّسَائِيّ. 4694- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيٍّ، وَلا مُوَدَّعٍ، وَلا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبُّنَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

(2/559)


4695- وَفِي لَفْظٍ: كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانَا وَأَرْوَانَا غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلا مَكْفُورٍ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 4696- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ قَالَ: ... «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. 4697- وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَكَلَ طَعَامًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلا قُوَّةٍ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. 4698- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَطْعَمَهُ اللهُ طَعَامًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ، وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ، وَمَنْ سَقَاهُ اللهُ لَبَنًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ» . وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِي مَكَانَ الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ غَيْرَ اللَّبَنِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا النَّسَائِيّ. قَوْلُهُ: «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللهِ» إلى آخره، قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِيه دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّسْمِيَةِ لِلأكْلِ، وَأَنَّ النَّاسِيَ يَقُولُ فِي أَثْنَائِهِ: بِسْمِ اللهِ عَلَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ. قَوْلُهُ: «لا يَأْكُلُ أَحَدُكُمْ بِشِمَالِهِ» إلى آخره، فِيهِ النَّهْيُ عَنْ الأكْلِ وَالشُّرْبِ بالشِّمَالِ. وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي اجْتِنَابُ الأفْعَالِ الَّتِي تُشْبِهُ أَفْعَالَ الشَّيْطَانِ. قَوْلُهُ: «الْبَرَكَةُ تَنْزِلُ فِي وَسَطِ الطَّعَامِ» وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الأكْلِ مِنْ جَوَانِبِ الطَّعَامِ قَبْلَ وَسَطِهِ. قَوْلُهُ: «أَمَّا أَنَا فَلا آكُلُ مُتَّكِئًا» سَبَبُ هَذَا الْحَدِيثِ قِصَّةُ الأعْرَابِيِّ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَةْ وَالطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ قَالَ: أَهْدَيْتُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - شَاةً فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَأْكُلُ، فَقَالَ لَهُ أَعْرَابِيُّ: مَا هَذِهِ الْجِلْسَةُ؟ فَقَالَ: «إنَّ اللهَ جَعَلَنِي عَبْدًا كَرِيمًا وَلَمْ يَجْعَلنِي جَبَّارًا عَنِيدًا» . قَالَ الْخَطَّابِيِّ: إنَّمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذَلِكَ تَوَاضُعًا لِلَّهِ، قَالَ الشَّارِح: وَاخْتُلِفَ فِي صِفَةِ الاتِّكَاءِ،

(2/560)


فَقِيلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ فِي الْجُلُوسِ لِلأكْلِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ، وَقِيلَ: أَنْ يَمِيلَ عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ، وَقِيلَ: أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى مِنْ الأرْضِ. وَجَزَمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِأَنَّهُ الْمَيْلُ عَلَى أَحَدِ الشِّقَّيْنِ. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي حُكْمِ الأكْلِ مُتَّكِئًا، فَزَعَمَ ابْنُ الْقَاصِّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْخَصَائِصِ النَّبَوِيَّةِ. وَتَعَقَّبَهُ الْبَيْهَقِيُّ فَقَالَ: يُكْرَهُ لِغَيْرِهِ أَيْضًا لأنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْمُتَعَظِّمِينَ وَأَصْلُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ مُلُوكِ الْعَجَمِ، قَالَ الشَّارِح: وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ مَكْرُوهًا أَوْ خِلافَ الأوْلَى فَالْمُسْتَحَبُّ فِي صِفَةِ الْجُلُوسِ لِلأكْلِ أَنْ يَكُونَ جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَظُهُورِ قَدَمَيْهِ أَوْ يَنْصِبَ الرِّجْلَ الْيُمْنَى وَيَجْلِسَ عَلَى الْيُسْرَى. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: «لَعِقَ أَصَابِعَهُ» فِيهِ اسْتِحْبَابُ لَعْقِ الأصَابِعِ مُحَافَظَةً عَلَى بَرَكَةِ الطَّعَامِ وَتَنْظِيفًا. قَوْلُهُ: «فَلْيُمِطْ عَنْهَا الأذَى» فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ أَكْلِ اللُّقْمَةِ السَّاقِطَةِ. قَوْلُهُ: «فَلا يَمْسَحُ يَدَهُ» يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَطْلَقَ الْيَدَ عَلَى الأصَابِعِ الثَّلاثِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يرَادُ بِالْيَدِ الْكَفِّ كُلِّهَا. قَالَ الْحَافِظُ: وَهُوَ الأوْلَى فَيَشْمَلُ الْحُكْمُ مَنْ أَكَلَ بِكَفِّهِ بِكُلِّهَا أَوْ بِأَصَابِعِهِ فَقَطْ أَوْ بِبَعْضِهَا. قَوْلُهُ: (فَبَعَثَ إلَيْهِ أَنْ ائْذَنْ لِي فِي السَّادِسِ) فِيهِ أَنَّ الْمَدْعُوَّ إذَا تَبِعَهُ رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْعَاءٍ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لا يَأْذَنَ لَهُ وَلا يَنْهَاهُ، وَإِذَا بَلَغَ بَابَ دَارِ صَاحِبِ الطَّعَامِ أَعْلَمَهُ بِهِ لِيَأْذَنَ لَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ، وَأَنَّ صَاحِبَ الطَّعَامِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ إنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى حُضُورهِ مَفْسَدَةٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَلَطَّفَ فِي رَدِّهِ. قَوْلُهُ: (غَمَرَ) . بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمِيمِ مَعًا: هُوَ رِيحٌ دَسِمُ اللَّحْمِ وَزُهُومَتُهُ كَالْوَضَرِ مِنْ السَّمْنِ. قَوْلُهُ: (إذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ) . قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَأْكُلْ عَلَى خُوَانٍ قَطُّ قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَقَدْ تُطْلَقُ الْمَائِدَةُ وَيُرَادُ بِهَا نَفْسُ الطَّعَامِ. قَوْلُهُ: «غَيْرَ مَكْفِيٍّ» . قَالَ الْخَطَّابِيِّ: أَيْ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى أَحَدٍ لَكِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُطْعِمُ عِبَادَهُ وَيَكْفِيهِمْ

(2/561)


قَوْلُهُ: «وَلا مُوَدَّعٍ» أَيْ غَيْرَ مَتْرُوكٍ. قَوْلُهُ: «وَلا مَكْفُورٍ» أَيْ مَجْحُودٍ فَضْلُهُ وَنِعْمَتُهُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/562)


 كِتَابُ الأشْرِبَةِ

بَابُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَنَسْخِ إبَاحَتِهَا الْمُتَقَدِّمَةِ 4699- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الآخِرَةِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا التِّرْمِذِيَّ. 4700- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مُدْمِنُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. 4701- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللهَ يَبْغَضُ الْخَمْرَ، وَلَعَلَّ اللهَ سَيُنْزِلُ فِيهَا أَمْرًا، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلْيَبِعْهُ وَلْيَنْتَفِعْ بِهِ» . قَالَ: فَمَا لَبِثْنَا إِلا يَسِيرًا حَتَّى قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلا يَشْرَبُ، وَلا يَبِيعُ» . قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْهَا طُرُقَ الْمَدِينَةِ فَسَفَكُوهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 4702- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَدِيقٌ مِنْ ثَقِيفٍ - أَوْ دَوْسٍ - فَلَقِيَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ بِرَاوِيَةٍ مِنْ خَمْرٍ يُهْدِيهَا إلَيْهِ، فَقَالَ: «يَا فُلانُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَهَا» ؟ فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ عَلَى غُلامِهِ فَقَالَ: اذْهَبْ فَبِعْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا» . فَأَمَرَ بِهَا فَأُفْرِغَتْ فِي الْبَطْحَاءِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ.

(2/563)


4703- وَفِي رِوَايَةٍ لأحْمَدَ: أَنَّ رَجُلاً خَرَجَ وَالْخَمْرُ حَلالٌ فَأَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَاوِيَةَ خَمْرٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخُمُورَ الْمُحَرَّمَةَ وَغَيْرَهَا تُرَاقُ وَلا تُسْتَصْلَحُ بِتَخْلِيلٍ وَلا غَيْرِهِ. 4704- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلاً كَانَ يُهْدِي لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَاوِيَةَ خَمْرٍ، فَأَهْدَاهَا إلَيْهِ عَامًا وَقَدْ حُرِّمَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّهَا قَدْ حُرِّمَتْ» . فَقَالَ الرَّجُلُ: أَفَلا أَبِيعُهَا؟ فَقَالَ: «إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا» . قَالَ: أَفَلا أُكَارِمُ بِهَا الْيَهُودَ؟ قَالَ: «إنَّ الَّذِي حَرَّمَهَا حَرَّمَ أَنْ يُكَارَمَ بِهَا الْيَهُودُ» . قَالَ: فَكَيْفَ أَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: «شِنَّهَا عَلَى الْبَطْحَاءِ» . رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ. 4705- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَزَلَ فِي الْخَمْرِ ثَلاثُ آيَاتٍ، فَأَوَّلُ شَيْءٍ نَزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآيَةَ فَقِيلَ: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ: نَنْتَفِعُ بِهَا كَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَسَكَتَ عَنْهُمْ، ثُمَّ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فَقِيلَ: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه إنَّا لا نَشْرَبُهَا قُرْبَ الصَّلاةِ، فَسَكَتَ عَنْهُمْ، ثُمَّ نَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمُيَسَّرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} الآيَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ. 4706- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنْ الْخَمْرِ، فَأَخَذَتْ الْخَمْرُ مِنَّا، وَقَدْ حَضَرَتْ الصَّلاةُ فَقَدَّمُونِي، فَقَرَأْتُ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا» قَالَ الْخَطَّابِيِّ وَالْبَغَوِيِّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لأنَّ الْخَمْرَ شَرَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّهُ لا يَدْخُلُهَا وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ فِيهَا إِلا إنْ عَفَا اللهُ عَنْهُ كَمَا

(2/564)


فِي بَقِيَّةِ الْكَبَائِرِ وَهُوَ فِي الْمَشِيئَةِ، قَالَ: وَجَائِزٌ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ بِالْعَفْوِ ثُمَّ لا يَشْرَبُ فِيهَا خَمْرًا وَلا تَشْتَهِيهَا نَفْسُهُ. وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَبِسَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَلَمْ يَلْبَسْهُ» . قَالَ: لظَاهِرُ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُ لا يَشْرَبُ الْخَمْرَ فِي الْجَنَّةِ وَلا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِيهَا لأنَّه استعجل مَا أُمِرَ بِتَأْخِيرِهِ، وَفَصَّلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَيْنَ مَنْ شَرِبَهَا مُسْتَحِلاً فَهُوَ الَّذِي لا يَشْرَبُهَا أَصْلاً، وَمَنْ شَرِبَهَا عَالِمًا بِتَحْرِيمِهَا فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلافِ، وَهُوَ الَّذِي يُحْرَمُ شُرْبُهَا مُدَّةً، أَوْ الْمَعْنَى أَنَّ ذَاكَ جَزَاؤُهُ إنْ جُوزِيَ. قَوْلُهُ: «مُدْمِنُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ» هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ، لأنَّ عَابِدَ الْوَثَنِ أَشَدُّ الْكَافِرِينَ كُفْرًا، فَالتَّشْبِيهُ لِفَاعِلِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ بِفَاعِلِ الْعِبَادَةِ لِلْوَثَنِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُبَالَغَةِ وَالزَّجْرِ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ. قَوْلُهُ: (وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ) إلَى آخْره، هَذَا الْحَدِيثُ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي إسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه -: دَعَانَا رَجُلٌ مِنْ الأنْصَارِ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَحَضَرَتْ صَلاةُ الْمَغْرِبِ فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ فَقَرَأَ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فَأُلْبِسَ عَلَيْهِ، فَنَزَلَتْ ... {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ. بَابُ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ الْخَمْرُ وَأَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ 4707- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ: النَّخْلَةُ، وَالْعِنَبَةُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا الْبُخَارِيَّ. 4708- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: إنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ وَالْخَمْرُ يَوْمَئِذٍ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4709- وَفِي لَفْظٍ قَالَ: حُرِّمَتْ عَلَيْنَا حِينَ حُرِّمَتْ وَمَا نَجِدُ خَمْرَ الأعْنَابِ إِلا قَلِيلاً وَعَامَّةُ خَمْرِنَا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 4710- وَفِي لَفْظٍ: لَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ الَّتِي حَرَّمَ فِيهَا الْخَمْرَ وَمَا فِي الْمَدِينَةِ شَرَابٌ إِلا مِنْ تَمْرٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

(2/565)


4711- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ وَأُبَيُّ بْنَ كَعْبٍ مِنْ فَضِيخِ زَهْوٍ وَتَمْرٍ، فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: قُمْ يَا أَنَسُ فَأَهْرِقْهَا فَأَهْرَقْتُهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4712- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَإِنَّ بِالْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ الْخَمْسَةَ أَشْرِبَةٍ مَا فِيهَا شَرَابُ الْعِنَبِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 4713- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنْ الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4714- وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ مِنْ الْحِنْطَةِ خَمْرًا، وَمِنْ الشَّعِيرِ خَمْرًا، وَمِنْ الزَّبِيبِ خَمْرًا، وَمِنْ التَّمْرِ خَمْرًا، وَمِنْ الْعَسَلِ خَمْرًا» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا النَّسَائِيّ. 4715- زَادَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد «وَأَنَا أَنْهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ» . 4716- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَةْ. 4717- وَفِي رِوَايَةٍ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالدَّارَقُطْنِيّ. 4718- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْبِتْعِ وَهُوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ، وَكَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَشْرَبُونَهُ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» . 4719- وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَفْتِنَا فِي شَرَابَيْنِ كُنَّا نَصْنَعُهُمَا بِالْيَمَنِ: الْبِتْعُ وَهُوَ مِنْ الْعَسَلِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَالْمِزْرُ وَهُوَ مِنْ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ بِخَوَاتِمِهِ، فَقَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 4720- وَعَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَجُلاً مِنْ جَيْشَانَ - وَجَيْشَانُ مِنْ الْيَمَنِ - سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ شَرَابٍ يَشْرَبُونَهُ بِأَرْضِهِمْ مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ: الْمِزْرُ، فَقَالَ: ... «أَمُسْكِرٌ هُوَ» ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إنَّ عَلَى اللهِ عَهْدًا لِمَنْ

(2/566)


يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يُسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: «عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ، أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 4721- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كُلُّ مُخَمَّرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4722- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 4724-، 4723- وَلابْنِ مَاجَةْ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ. 4725- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَا أَسْكَرَ الْفَرَقُ مِنْهُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. 4726- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ ... حَرَامٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَصَحَّحَهُ. 4727- وَلأبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيِّ مِثْلُهُ سَوَاءٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ. 4728- وَكَذَا لأحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنِ مَاجَةْ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ. 4728- وَكَذَلِكَ لِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ حَدِيثِ الإِمَامِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. 4730- وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ. 4731- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَتَاهُ قَوْمٌ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّا نَنْبُذُ النَّبِيذَ فَنَشْرَبَهُ عَلَى غَدَائِنَا وَعَشَائِنَا، فَقَالَ: ... «اشْرَبُوا فَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّا نَكْسِرُهُ بِالْمَاءِ، فَقَالَ: «حَرَامٌ قَلِيلُ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ.

(2/567)


4732- وَعَنْ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «لا تَنْبِذُوا فِي الدُّبَّاءَ، وَلا فِي الْمُزَفَّتِ، وَلا فِي النَّقِيرِ، وَلا فِي الْجِرَارِ» . وَقَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4733- وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِىُّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ وَيُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا» . رواهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد. 4734- وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَشْرَبُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ بِاسْمٍ يُسَمُّونَهَا إِيَّاهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابن مَاجَة وَقَالَ: «تَشْرَب» مَكَان «تَسْتَحِل» . 4735- وَعَنْ أَبِى أُمَامَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ تَذْهَبُ اللَّيَالِي وَالأَيَّامُ حَتَّى تَشْرَبَ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا» . رَوَاهُ ابن مَاجَةْ. 4736- وَعَنْ ابْنَ مُحَيْرِيزٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «يَشْرَبُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا» . رَوَاهُ النِّسَائِي. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ) قَالَ الْحَافِظُ: أَرَادَ عُمَرُ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَمْرِ لَيْسَ خَاصًّا بِالْمُتَّخَذِ مِنْ الْعِنَبِ. قَوْلُهُ: (وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ) أَيْ: غَطَّاهُ قَالَ الْخَطَّابِيِّ: إنَّمَا عَدَّ عُمَرُ الْخَمْسَةَ الْمَذْكُورَةَ لِاشْتِهَارِ أَسْمَائِهَا فِي زَمَانِهِ فَعَدَّ عُمَرُ مَا عُرِفَ مِنْهَا، وَجَعَلَ مَا فِي مَعْنَاهُ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الأرْزِ وَغَيْرِهِ خَمْرًا إنْ كَانَ مِمَّا يُخَامِرُ الْعَقْلَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: (الفرق) بفتح الرار وسكونها والفتح أشهر، وهو مكيال يسع ستة عشر رطلاً، وقيل هو بفتح الراء كذلك فإذا سكنت فهو مائة وعشرون رطلاً. قَوْلُهُ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» قَالَ ابْنُ رَسْلانَ: أَجْمَعُ الْمُسلمون عَلَى وجوب الحد عَلَى شاربها سواء شرب قَلِيلاً أوَ كَثِيرًا. انتهى. قَالَ َفِي الاخْتِيَارَات: وَالْحَشِيشَةُ الْقَنبية نَجِسّةُ فِي الأَصَحِّ، وَهِي حَرَامٌ

(2/568)


سَكِرَ مِنْهَا أَوْ لَمْ يُسْكِرْ، وَالْمُسْكِرُ مِنْهَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَضَرُّرهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ الْخَمْرِ وَلِهَذَا أَوْجَبَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا الْحَدِّ كَالْخَمْرِ. بَابُ الأوْعِيَةُ الْمَنْهِيُّ عَنْ الانْتِبَاذِ فِيهَا وَنَسْخُ تَحْرِيمِ ذَلِكَ 4737- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلُوهُ عَنْ النَّبِيذِ، فَنَهَاهُمْ أَنْ يَنْبِذُوا فِي الدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ وَالْحَنْتَمِ. 4738- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: ... «أَنْهَاكُمْ عَمَّا يُنْبَذُ فِي الدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ» . 4739- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تَنْبِذُوا فِي الدُّبَّاءِ وَلا الْمُزَفَّتِ» . 4740- وَعَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى - رضي الله عنه - قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ الأخْضَرِ. 4741- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تَنْبِذُوا فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ. مُتَّفَقٌ عَلَى خَمْسَتِهِنَّ. 4724- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تَنْبِذُوا فِي الدُّبَّاءِ وَلا فِي الْمُزَفَّتِ» . 4743- وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ الْمُزَفَّتِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ، قِيلَ لأبِي هُرَيْرَةَ: مَا الْحَنْتَمُ؟ قَالَ: الْجِرَارُ الْخُضْرُ. 4744- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَاذَا يَصْلُحُ لَنَا مِنْ الأشْرِبَةِ؟ قَالَ: «لا تَشْرَبُوا فِي النَّقِيرِ» . فَقَالُوا: جَعَلَنَا اللهُ فِدَاكَ، أَوْ تَدْرِي مَا النَّقِيرُ؟ قَالَ: «نَعَمْ، الْجِذْعُ يُنْقَرُ فِي وَسَطِهِ، وَلا فِي الدُّبَّاءِ، وَلا فِي الْحَنْتَمِ، وَعَلَيْكُمْ بِالْمُوكَى» . رَوَاهُنَّ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4745- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهم - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -

(2/569)


نَهَى عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ. 4746- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: ... «أَنْهَاكُمْ عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُقَيَّرِ وَالْمَزَادَةِ الْمَجْبُوبَةِ، وَلَكِنْ اشْرَبْ فِي سِقَائِك وَأَوْكِهِ» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 4747- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالا: حَرَّمَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - نَبِيذَ الْجَرِّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد. 4748- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْحَنْتَمَةِ وَهِيَ ... الْجَرَّةُ، وَنَهَى عَنْ الدُّبَّاءِ: وَهِيَ الْقَرْعَةُ، وَنَهَى عَنْ النَّقِيرِ: وَهُوَ أَصْلُ النَّخْلِ يُنْقَرُ نَقْرًا وَيُنْسَخُ نَسْخًا، وَنَهَى عَنْ الْمُزَفَّتِ: وَهُوَ الْمُقَيَّرُ، وَأَمَرَ أَنْ يُنْبَذَ فِي الأسْقِيَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4749- وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ الأشْرِبَةِ إِلا فِي ظُرُوفِ الأدَمِ فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ غَيْرَ أَنْ لا تَشْرَبُوا ... مُسْكِرًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. 4750- وَفِي رِوَايَةٍ: «نَهَيْتُكُمْ عَنْ الظُّرُوفِ وَإِنَّ ظَرْفًا لا يُحِلُّ شَيْئًا وَلا يُحَرِّمُهُ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا الْبُخَارِيَّ وَأَبَا دَاوُد. 4751- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: لَمَّا نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الأوْعِيَةِ، قِيلَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَجِدُ سِقَاءً فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي الْجَرِّ غَيْرَ الْمُزَفَّتِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4752- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ النَّبِيذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: «أَلا كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ النَّبِيذِ فِي الأوْعِيَةِ فَاشْرَبُوا فِيمَا شِئْتُمْ وَلا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا، مَنْ شَاءَ أَوْكَى سِقَاءَهُ عَلَى إثْمٍ» . 4753- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: أَنَا شَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ نَهَى عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ، وَأَنَا شَهِدَتْهُ حِينَ رَخَّصَ فِيهِ وَقَالَ: «وَاجْتَنِبُوا كُلَّ مُسْكِرٍ» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ.

(2/570)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِ النَّهْيِ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الأوْعِيَةِ الْمَذْكُورَةِ قَالَ الْخَطَّابِيِّ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا كَانَ أَوَّلاً ثُمَّ نُسِخَ، وَالْمَعْنَى فِي النَّهْيِ أَنَّ الْعَهْدَ بِإِبَاحَةِ الْخَمْرِ كَانَ قَرِيبًا، فَلَمَّا اُشْتُهِرَ التَّحْرِيمُ أُبِيحَ لَهُمْ الانْتِبَاذُ فِي كُلِّ وِعَاءٍ بِشَرْطِ تَرْكِ شُرْبِ الْمُسْكِرِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَإِذَا شَكَكْتَ فِي الْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ هَلْ يُسْكِرُ أَمْ لا لَمْ يَحْرُمْ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ، وَلَمْ يُقَمْ الْحَدِّ عَلَى شَارِبِهِ، وَلا يَنْبَغِي إِبَاحَتِهِ لِلنَّاسِ إِذَا كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْكِرًا، لأَنَّ إِبَاحَةَ الْحَرَامِ مِثْلُ تَحْرِيمِ الْحَلالِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي الْخَلِيطَيْنِ 4754- عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُنْبَذَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ جَمِيعًا، وَنَهَى أَنْ يُنْبَذَ الرُّطَبُ وَالْبُسْرُ جَمِيعًا. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 4755- إِلا التِّرْمِذِيَّ، فَإِنَّ لَهُ مِنْهُ فَصْلَ الرُّطَبِ وَالْبُسْرِ. 4756- وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تَنْبِذُوا الزَّهْوَ وَالرُّطَبَ جَمِيعًا، وَلا تَنْبِذُوا الزَّبِيبَ وَالرُّطَبَ جَمِيعًا، وَلَكِنْ انْبِذُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ» . مُتَّفِقٌ عَلَيْهِ، لَكِنْ لِلْبُخَارِيِّ ذِكْرُ التَّمْرِ بَدَلَ الرُّطَبِ. 4757- وَفِي لَفْظٍ: أَنَّ نَبِيَّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ خَلِيطِ التَّمْرِ وَالْبُسْرِ، وَعَنْ خَلِيطِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ، وَعَنْ خَلِيطِ الزَّهْوِ وَالرُّطَبِ وَقَالَ: «انْتَبِذُوا كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 4758- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ أَنْ يُخْلَطَ بَيْنَهُمَا، وَعَنْ التَّمْرِ وَالْبُسْرِ أَنْ يُخْلَطَ بَيْنَهُمَا، يَعْنِي فِي الانْتِبَاذِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ. 4759- وَفِي لَفْظٍ: نَهَانَا أَنْ نَخْلِطَ بُسْرًا بِتَمْرٍ أَوْ زَبِيبًا بِتَمْرٍ أَوْ زَبِيبًا بِبُسْرٍ، وَقَالَ: «مَنْ شَرِبَهُ مِنْكُمْ فَلْيَشْرَبْهُ زَبِيبًا فَرْدًا وَتَمْرًا فَرْدًا وَبُسْرًا فَرْدًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ.

(2/571)


4760- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَنْبِذُوا التَّمْرَ وَالزَّبِيبَ جَمِيعًا، وَلا تَنْبِذُوا التَّمْرَ وَالْبُسْرَ جَمِيعًا، وَانْبِذُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ عَلَى حِدَة» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4761- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: نَهَى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُخْلَطَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ جَمِيعًا، وَأَنْ يُخْلَطَ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ جَمِيعًا. 4762- وَعَنْهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُخْلَطَ الْبَلَحُ بِالزَّهْوِ. رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 4763- وَعَنْ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَجْمَعَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَيُنْبَذَا يَبْغِي أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ الْفَضِيخِ فَنَهَانِي عَنْهُ، قَالَ: وكَانَ يَكْرَهُ الْمُذَنِّبَ مِنْ الْبُسْرِ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ شَيْئَيْنِ فَكُنَّا نَقْطَعُهُ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. 4764- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنَّا نَنْبِذُ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سِقَاءٍ فَنَأْخُذُ قَبْضَةً مِنْ تَمْرٍ وَقَبْضَةً مِنْ زَبِيبٍ فَنَطْرَحُهُمَا، ثُمَّ نَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَنَنْبِذُهُ غُدْوَةً فَيَشْرَبُهُ عَشِيَّةً وَنَنْبِذُهُ عَشِيَّةً فَيَشْرَبُهُ غُدْوَةً. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. قَوْلُهُ: «الْبَلَحُ» قَالَ وَفِي الْقَامُوسِ: هُوَ أَوَّلُ مَا يَرْطُبُ مِنْ الْبُسْرِ وَاحِدُهُ بَلَحَةٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ النَّهْيِ عَنْ الْخَلِيطَيْنِ. فَقَالَ النَّوَوِيُّ: ذَهَبَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ سَبَبَ النَّهْيِ عَنْ الْخَلِيطِ أَنَّ الإِسْكَارَ يُسْرِعُ إلَيْهِ بِسَبَبِ الْخَلْطِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ، فَيَظُنُّ الشَّارِبُ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الإِسْكَارِ وَقَدْ بَلَغَهُ. قَالَ: وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ النَّهْيَ فِي ذَلِكَ لِلتَّنْزِيهِ وَإِنَّمَا يُحَرَّمُ إذَا صَارَ مُسْكِرًا. بَاب النَّهْيِ عَنْ تَخْلِيلِ الْخَمْرِ 3765 - عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ يُتَّخَذُ خَلًّا؟ فَقَالَ:

(2/572)


.. «لا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4766- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا خَمْرًا، قَالَ: «أَهْرِقْهَا» . قَالَ: أَفَلا نَجْعَلُهَا خَلًّا؟ قَالَ: «لا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4767- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قُلْنَا لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا حُرِّمَتْ الْخَمْرُ: إنَّ عِنْدَنَا خَمْرًا لِيَتِيمٍ لَنَا، فَأَمَرَنَا فَأَهْرَقْنَاهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4768- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ يَتِيمًا كَانَ فِي حِجْرِ أَبِي طَلْحَةَ فَاشْتَرَى لَهُ خَمْرًا. فَلَمَّا حُرِّمَتْ سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أَتُتَّخَذُ خَلًّا؟ قَالَ: «لا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: قَالَ: «لا» فِيهِ دَلِيلٌ لِلْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ تَخْلِيلُ الْخَمْرِ وَلا تَطْهُرُ بِالتَّخْلِيلِ. بَابُ شُرْبُ الْعَصِيرِ مَا لَمْ يَغْلِ أَوْ يَأْتِ عَلَيْهِ ثَلاثٌ وَمَا طُبِخَ قَبْلَ غَلَيَانِهِ فَذَهَبَ ثُلُثَاهُ 4769- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنَّا نَنْبِذُ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سِقَاءٍ يُوكَأ أَعْلاهُ وَلَهُ عَزْلاءُ نَنْبِذُهُ غُدْوَةً فَيَشْرَبُهُ عَشِيًّا، وَنَنْبِذُهُ عَشِيًّا فَيَشْرَبُهُ غُدْوَةً. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 4770- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُنْبَذُ لَهُ أَوَّلَ اللَّيْلِ فَيَشْرَبُهُ إذَا أَصْبَحَ يَوْمَهُ ذَلِكَ، وَاللَّيْلَةَ الَّتِي تَجِيءُ وَالْغَدَ وَاللَّيْلَةَ الأخْرَى وَالْغَدَ إلَى الْعَصْرِ، فَإِن بَقِيَ شَيْءٌ سَقَاهُ الْخادم أَوْ أَمَرَ بِهِ فَصُبَّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4471- وَفِي لفظ: كَانَ يُنْقَعُ لَهُ الزَّبِيبُ فَيَشْرَبُهُ الْيَوْمَ وَالْغَدَ وَبَعْدَ الْغَدِ إلَى مَسَاءِ الثَّالِثَةِ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِهِ فَيُسْقَى الْخَادِمُ أَوْ يُهْرَاقُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد، وَقَالَ: مَعْنَى يُسْقَى الْخَادِمُ يُبَادِرُ بِهِ الْفَسَادُ. 4772- وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ يُنْبَذُ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيَشْرَبُهُ يَوْمَهُ ذَلِكَ وَالْغَدَ وَالْيَوْمَ الثَّالِثَ، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُ أَهْرَقَهُ، أَوْ أَمَرَ بِهِ فَأُهْرِيقَ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَةْ.

(2/573)


4773- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَصُومُ فَتَحَيَّنْتُ فِطْرَهُ بِنَبِيذٍ صَنَعْتُهُ فِي دُبَّاءَ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِهِ فَإِذَا هُوَ يَنِشُّ، فَقَالَ: «اضْرِبْ بِهَذَا الْحَائِطَ، فَإِنَّ هَذَا شَرَابُ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي الْعَصِيرِ: اشْرَبْهُ مَا لَمْ يَأْخُذْهُ شَيْطَانُهُ، قِيلَ: وَفِي كَمْ يَأْخُذُهُ شَيْطَانُهُ؟ قَالَ: فِي ثَلاثٍ. حَكَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ مِنْ الطِّلاءِ مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَلَهُ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: رَأَى عُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَمُعَاذٌ - رضي الله عنهم - شُرْبَ الطِّلاءِ عَلَى الثُّلُثِ، وَشَرِبَ الْبَرَاءُ وَأَبُو جُحَيْفَةَ عَلَى النِّصْفِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: وسَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ شُرْبِ الطِّلاءِ إذَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ؟ فَقَالَ: لا بَأْسَ بِهِ، قُلْتُ: إنَّهُمْ يَقُولُونَ يُسْكِرُ؟ قَالَ: لا يُسْكِرُ ولَوْ كَانَ يُسْكِرُ مَا أَحَلَّهُ عُمَرُ - رضي الله عنه -. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجُوزُ شُرْبُ النَّبِيذِ مَا دَامَ حُلْوًا غَيْرَ أَنَّهُ إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ أَسْرَعَ إلَيْهِ التَّغَيُّرُ. قَوْلُهُ: (فِي ثَلاثِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيذَ بَعْدَ الثَّلاثِ قَدْ صَارَ مَظِنَّةً لِكَوْنِهِ مُسْكِرًا فَيَتَوَجَّهُ اجْتِنَابُهُ. قَوْلُهُ: (مِنْ الطِّلاءِ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمَدِّ شُبِّهَ بِطِلاءِ الإِبِلِ وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالِ غَالِبًا لا يُسْكِرُ. بَاب آدَاب الشُّرْب 4774- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الإِنَاءِ ثَلاثًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4775- وَفِي لَفْظٍ: كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الشَّرَابِ ثَلاثًا وَيَقُولُ: «إنَّهُ أَرْوَى وَأَبْرَأُ وَأَمْرَأُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4776- وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلا يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(2/574)


4777- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الإِنَاءِ أَوْ يُنْفَخَ فِيهِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 4778- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ النَّفْخِ فِي الشَّرَابِ، فَقَالَ رَجُلٌ: الْقَذَاةُ أَرَاهَا فِي الإِنَاءِ؟ فَقَالَ: «أَهْرِقْهَا» . فَقَالَ: إنِّي لا أُرْوَى مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ: «فَأَبِنْ الْقَدَحَ إذًا عَنْ ... فِيك» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4779- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ الشُّرْبِ قَائِمًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4780- وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - زَجَرَ عَنْ الشُّرْبِ قَائِمًا، قَالَ قَتَادَةُ: فَقُلْنَا فَالأكْلُ؟ قَالَ: «ذَاكَ شَرٌّ وَأَخْبَثُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ. 4781- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِئْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 4782- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: شَرِبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَائِمًا مِنْ زَمْزَمَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4783- وَعَنْ الإِمَامِ عَلِيٍّ - أَنَّهُ فِي رَحْبَةِ الْكُوفَةِ - شَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ، قَالَ: إنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 4784- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا نَأْكُلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ نَمْشِي وَنَشْرَبُ وَنَحْنُ قِيَامٌ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4785- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ اخْتِنَاثِ الأسْقِيَةِ أَنْ يُشْرَبَ مِنْ أَفْوَاهِهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4786- وَفِي رِوَايَةٍ: وَاخْتِنَاثِهَا أَنْ يُقْلَبَ رَأْسُهَا ثُمَّ يُشْرَبَ مِنْهُ. أَخْرَجَاهُ. 4787- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يُشْرَبَ مِنْ فِي

(2/575)


السِّقَاءِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَحْمَدُ، وَزَادَ: قَالَ أَيُّوبُ: فَأُنْبِئْتُ أَنَّ رَجُلاً شَرِبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَخَرَجَتْ حَيَّةٌ. 4788- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الشُّرْبِ مِنْ فِي السِّقَاءِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا مُسْلِمًا. 4789- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ جَدَّتِهِ كَبْشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَشَرِبَ مِنْ فِي قِرْبَةٍ مُعَلَّقَةٍ قَائِمًا، فَقُمْتُ إلَى فِيهَا فَقَطَعْتُهُ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4790- وَعَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وَفِي الْبَيْتِ قِرْبَةٌ مُعَلَّقَةٌ، فَشَرِبَ مِنْهَا وَهُوَ قَائِمٌ فَقَطَعْتُ فَاهَا فَإِنَّهُ لَعِنْدِي. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4791- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شَرِبَ لَبَنًا فَمَضْمَضَ وَقَالَ: «إنَّ لَهُ دَسَمًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 4792- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بِلَبَنٍ قَدْ شِيبَ بِمَاءٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ وَعَنْ يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَشَرِبَ ثُمَّ أَعْطَى الأعْرَابِيَّ وَقَالَ: «الأيْمَنَ فَالأيْمَنَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا النَّسَائِيّ. 4793- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلامٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الأشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلامِ: «أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلاءِ» ؟ فَقَالَ الْغُلامُ: وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ لا آثَرْتُ بِنَصِيبِي مِنْك أَحَدًا فَتَلَّهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي يَدِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4794- وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «سَاقِي الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَلا يَتَنَفَّسُ فِي الإِنَاءِ» النَّهْيُ عَنْ التَّنَفُّسِ فِي الَّذِي يَشْرَبُ مِنْهُ لِئَلَّا يَخْرُجَ مِنْ الْفَمِ بُزَاقٌ يَسْتَقْذِرُهُ مَنْ شَرِبَ بَعْدَهُ مِنْهُ أَوْ تَحْصُلُ فِيهِ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَاءِ أَوْ بِالإِنَاءِ. قَوْلُهُ: «أَوْ يُنْفَخَ فِيهِ» أَيْ فِي الإِنَاءِ الَّذِي يُشْرَبُ مِنْهُ، وَكَذَا لا يُنْفَخُ فِي الإِنَاءِ لِتَبْرِيدِ الطَّعَامِ، بَلْ يَصْبِرُ إلَى أَنْ يَبْرُدَ وَلا يَأْكُلُهُ حَارًّا فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَذْهَبُ مِنْهُ.

(2/576)


قَوْلُهُ: (نَهَى عَنْ الشُّرْبِ قَائِمًا) ظَاهِرُ النَّهْيِ أَنَّ الشُّرْبَ مِنْ قِيَامٍ حَرَامٌ، وَلَكِنْ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثُ عَلِيٍّ يَدُلانِ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى الْجَوَازِ وَكَرِهَهُ قَوْمٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْزِيهِ وَشُرْبُهُ قَائِمًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ. قَوْلُهُ: (مِنْ فِي السِّقَاءِ) قَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ النَّهْيَ هُنَا لِلتَّنْزِيهِ لا لِلتَّحْرِيمِ وَقَدْ جَزَمَ ابْنُ حَزْمٍ بِالتَّحْرِيمِ قَالَ الْعِرَاقِيُّ: لَوْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا يَكُونُ لِعُذْرٍ كَأَنْ تَكُونَ الْقِرْبَةُ مُعَلَّقَةً وَلَمْ يَجِدْ الْمُحْتَاجُ إلَى الشُّرْبِ إنَاءً وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ التَّنَاوُلِ بِكَفِّهِ فَلا كَرَاهَةَ حِينَئِذٍ، وَبَيْنَ مَا يَكُونُ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَتُحْمَلُ عَلَيْهِ أَحَادِيثُ النَّهْيِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ أَحَادِيثَ الْجَوَازِ كُلَّهَا فِيهَا أَنَّ الْقِرْبَةَ كَانَتْ مُعَلَّقَةً. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/577)


أَبْوَابُ الطِّبِّ بَابُ إبَاحَةُ التَّدَاوِي وَتَرْكُهُ 4795- عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَتَدَاوَى؟ قَالَ: «نَعَمْ، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4796- وَفِي لَفْظٍ: قَالَتْ الأعْرَابُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلا نَتَدَاوَى؟ قَالَ: «نَعَمْ، عِبَادَ اللهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، أَوْ دَوَاءً إِلا دَاءً وَاحِدَا» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هُوَ؟ قَالَ: «الْهَرَمُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4797- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرِئَ بِإِذْنِ اللهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4798- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4799- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ دَاءٍ إِلا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. 4800- وَعَنْ أَبِي خِزَامَةَ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا، وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ، وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ شَيْئًا؟ قَالَ: «هِيَ مِنْ قَدَرِ اللهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ

(2/578)


حَسَنٌ، وَلا يُعْرَفُ لأبِي خِزَامَةَ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ. 4801- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ هُمْ الَّذِينَ لا يَسْتَرِقُّونَ وَلا يَتَطَيَّرُونَ وَلا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» . 4802- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ أَتَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: إنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللهَ لِي، قَالَ: «إنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَك» . فَقَالَتْ: أَصْبِرُ، وَقَالَتْ: إنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللهَ أَنْ لا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِي أَحَادِيثِ الْبَابِ كُلِّهَا إثْبَاتُ الأسْبَابِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لا يُنَافِي التَّوَكُّلَ عَلَى اللهِ لِمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا بِإِذْنِ اللهِ وَبِتَقْدِيرِهِ وَأَنَّهَا لا تَنْجَعُ بِذَوَاتِهَا بَلْ بِمَا قَدَّرَهُ اللهُ فِيهَا، وَأَنَّ الدَّوَاءَ قَدْ يَنْقَلِبُ دَاءً إذَا قَدَّرَ اللهُ ذَلِكَ، وَإِلَيْهِ الإِشَارَةُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ حَيْثُ قَالَ " بِإِذْنِ اللهِ " فَمَدَارُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى تَقْدِيرِ اللهِ وَإِرَادَتِهِ، وَالتَّدَاوِي لا يُنَافِي التَّوَكُّلَ كَمَا لا يُنَافِيهِ دَفْعُ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ بِالأكْلِ وَالشُّرْبِ وَكَذَلِكَ تَجَنُّبُ الْمُهْلِكَاتِ وَالدُّعَاءُ بِالْعَافِيَةِ وَدَفْعُ الْمَضَارِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: جَمِيعُ الرُّقَى جَائِزَةٌ إذَا كَانَتْ بِكِتَابِ اللهِ أَوْ بِذِكْرِهِ، وَمَنْهِيٌّ عَنْهَا إذَا كَانَتْ بِاللُّغَةِ الْعَجَمِيَّةِ أَوْ بِمَا لا يُدْرَى مَعْنَاهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ كُفْرٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَدْحُ فِي تَرْكِ الرُّقَى الْمُرَادِ بِهَا الرُّقَى الَّتِي هِيَ مِنْ كَلامِ الْكُفَّارِ، وَالرُّقَى الْمَجْهُولَةِ وَاَلَّتِي بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَا لا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ فَهَذِهِ مَذْمُومَةٌ لاحْتِمَالِ أَنَّ مَعْنَاهَا كُفْرٌ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ أَوْ مَكْرُوهٌ. وَأَمَّا الرُّقَى بِآيَاتِ الْقُرْآنِ وَبِالأذْكَارِ الْمَعْرُوفَةِ فَلا نَهْيَ فِيهِ بَلْ هُوَ سُنَّةٌ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ إنِّي أُصْرَعُ) الصَّرَعُ - نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ - عِلَّةٌ تَمْنَعُ الأعْضَاءَ الرَّئِيسِيَّةَ عَنْ اسْتِعْمَالِهَا مَنْعًا غَيْرَ تَامٍّ. وَسَبَبُهُ رِيحٌ غَلِيظَةٌ تَنْحَبِسُ فِي مَنَافِذِ الدِّمَاغِ، أَوْ بُخَارٌ رَدِيءٌ يَرْتَفِعُ إلَيْهِ مِنْ بَعْضِ الأعْضَاءِ. وَقَدْ يَتْبَعُهُ تَشَنُّجٌ فِي الأعْضَاءِ، وَيَقْذِفُ الْمَصْرُوعُ بِالزَّبَدِ لِغِلَظِ الرُّطُوبَةِ. وَقَدْ يَكُونُ الصَّرَعُ مِنْ الْجِنِّ وَيَقَعُ مِنْ النُّفُوسِ الْخَبِيثَةِ مِنْهُمْ، إمَّا لاسْتِحْسَانِ بَعْضِ الصُّوَرِ الإِنْسِيَّةِ، وَإِمَّا لإِيقَاعِ

(2/579)


الأذِيَّةِ بِهِ. وَالأوَّلُ هُوَ الَّذِي يُثْبِتُهُ جَمِيعُ الأطِبَّاءِ وَيَذْكُرُونَ عِلاجَهُ. وَالثَّانِي يَجْحَدُهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَبَعْضُهُمْ يُثْبِتهُ، قَالَ بُقْرَاطُ بَعْدَ ذِكْرِ عِلاجِ الْمَصْرُوعِ: إنَّمَا يَنْفَعُ فِي الَّذِي سَبَبُهُ أَخْلاطٌ، وَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ مِنْ الأرْوَاحِ فَلا. انتهى. بَاب مَا جَاءَ فِي التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمَاتِ 4803- عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ: أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْد الْجُعْفِيُّ سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْخَمْرِ، فَنَهَاهُ عَنْهَا، فَقَالَ: إنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، قَالَ: «إنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4804- وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا، وَلا تَتَدَاوَوْا بِحَرَامٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي الْمُسْكِرِ: إنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ. ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. 4805- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ، يَعْنِي السُّمَّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي أَبْوَالِ الإِبِلِ: قَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَدَاوَوْنَ بِهَا فَلا يَرَوْنَ بِهَا بَأْسًا. رَوَاهُ ... الْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ» فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ فَيَحْرُمُ التَّدَاوِي بِهَا كَمَا يَحْرُمُ شُرْبُهَا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الأمُورِ النَّجِسَةِ أَوْ الْمُحَرَّمَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. بَابُ مَا جَاءَ فِي الْكَيِّ 4806- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ طَبِيبًا فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقًا ثُمَّ كَوَاهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4807- وَعَنْ جَابِرٍ أَيْضًا: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَوَى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي أَكْحُلِهِ مَرَّتَيْنِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَمُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ.

(2/580)


4808- وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَوَى أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ مِنْ الشَّوْكَةِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. 4809- وَعَنْ الْمُغِيرَةِ عَنْ شُعْبَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ اكْتَوَى أَوْ اسْتَرْقَى فَقَدْ بَرِئَ مِنْ التَّوَكُّلِ} رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4810- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «الشِّفَاءُ فِي ثَلاثَةٍ: فِي شَرْطَةِ مَحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنْ الْكَيِّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. 4811- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ الْكَيِّ فَاكْتَوَيْنَا فَمَا أَفْلَحْنَ وَلا أَنْجَحْنَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: فَمَا أَفْلَحْنَا، وَلا أَنْجَحْنَا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقًا) اُسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الطَّبِيبَ يُدَاوِي بِمَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ. قَالَ ابْنُ رَسْلانَ: وَقَدْ اتَّفَقَ الأطِبَّاءُ عَلَى أَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ التَّدَاوِي بِالأخَفِّ لا يُنْتَقَلُ إلَى مَا فَوْقَهُ، فَمَتَى أَمْكَنَ التَّدَاوِي بِالْغِذَاءِ لا يُنْتَقَلُ إلَى الدَّوَاءِ، وَمَتَى أَمْكَنَ بِالْبَسِيطِ لا يُعْدَلُ إلَى الْمُرَكَّبِ، وَمَتَى أَمْكَنَ بِالدَّوَاءِ لا يُعْدَلُ إلَى الْحِجَامَةِ، وَمَتَى أَمْكَنَ بِالْحِجَامَةِ لا يُعْدَلُ إلَى قَطْعِ الْعِرْقِ. قَوْلُهُ: (كَوَى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ) وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ الْكَيِّ، وَجَاءَتْ الرُّخْصَةُ فِيهِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّهْيُ حَيْثُ يَقْدِرُ الرَّجُلُ عَلَى أَنْ يُدَاوِيَ الْعِلَّةَ بِدَوَاءٍ آخَرَ لأنَّ الْكَيَّ فِيهِ تَعْذِيبٌ بِالنَّارِ، وَلأنَّ الْكَيَّ يَبْقَى مِنْهُ أَثَرٌ فَاحِشٌ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: (مِنْ الشَّوْكَةِ) ، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هِيَ حُمْرَةٌ تَعْلُو الْوَجْهَ وَالْجَسَدَ، وَكَذَلِكَ إذَا دَخَلَ، فِي جِسْمِهِ شَوْكَةٌ. قَالَ فِي الْهَدْيِ: أَحَادِيثُ الْكَيِّ لا تَعَارُضَ فِيهَا بِحَمْدِ اللهِ فَإِنَّ فِعْلَهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ وَعَدَمِ مَحَبَّتِهِ لا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ، وَالثَّنَاءُ عَلَى تَارِكِيهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَهُ أَفْضَلُ وَالنَّهْيُ عَنْهُ إمَّا عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ مِنْ دُونِ عِلَّةٍ أَوْ عَنْ النَّوْعِ الَّذِي يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى كَيٍّ. قَالَ الشَّارِح: وَقِيلَ: الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الأحَادِيثِ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الاكْتِوَاءُ ابْتِدَاءً قَبْلَ

(2/581)


حُدُوثِ الْعِلَّةِ كَمَا يَفْعَلُهُ الأعَاجِمُ، وَالْمُبَاحُ هُوَ الاكْتِوَاءُ بَعْدَ حُدُوثِ الْعِلَّةِ. انْتَهَى مَلَخَّصًا. قَوْلُهُ: «الشِّفَاء فِي ثلاث» . إلى آخره. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ بَدِيعِ الطِّبِّ عِنْدَ أَهْلِهِ لأنَّ الأمْرَاضَ الِامْتِلائِيَّةَ دَمَوِيَّةٌ أَوْ صَفْرَاوِيَّةٌ أَوْ سَوْدَاوِيَّةٌ أَوْ بَلْغَمِيَّةٌ، فَإِنْ كَانَتْ دَمَوِيَّةً فَشِفَاؤُهَا بِإخْرَاجُ الدَّمِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الثَّلاثَةِ الْبَاقِيَةِ فَشِفَاؤُهَا بِالإِسْهَالِ بِالْمُسَهِّلِ اللائِقِ بِكُلِّ خَلْطٍ مِنْهَا، فَكَأَنَّهُ نَبَّهَ - صلى الله عليه وسلم - بِالْعَسَلِ عَلَى الْمُسَهِّلاتِ وَبِالْحِجَامَةِ عَلَى إخْرَاجِ الدَّمِ بِهَا وَبِالْفَصْدِ وَوَضْعِ الْعَلَقِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَذُكِرَ الْكَيُّ لأنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ عَدَمِ نَفْعِ الأدْوِيَةِ الْمَشْرُوبَةِ وَنَحْوِهَا، فَآخِرُ الطِّبِّ الْكَيُّ. وَالنَّهْيُ عَنْهُ إشَارَةٌ إلَى تَأْخِيرِ الْعِلاجِ بِالْكَيِّ حَتَّى يُضْطَرَّ إلَيْهِ مَا فِيهِ مِنْ اسْتِعْجَالِ الألَمِ الشَّدِيدِ فِي دَفْعِ أَلَمٍ قَدْ يَكُونُ أَضْعَفَ مِنْ أَلَمِ الْكَيِّ. قَوْلُهُ: (نَهَى عَنْ الْكَيِّ فَاكْتَوَيْنَا) قَالَ ابْنُ رَسْلانَ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ فِيهَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يُبَاحُ الْكَيُّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِالابْتِلاءِ بِالأمْرَاضِ الْمُزْمِنَةِ الَّتِي لا يَنْجَعُ فِيهَا إِلا الْكَيُّ وَيُخَافُ الْهَلاكُ عِنْدَ تَرْكِهِ، أَلا تَرَاهُ كَوَى سَعْدًا لَمَّا لَمْ يَنْقَطِعْ الدَّمُ مِنْ جُرْحِهِ، وَنَهَى عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ عَنْ الْكَيِّ لأنَّهُ كَانَ بِهِ بَاسُورٌ وَكَانَ مَوْضِعُهُ خَطَرًا فَنَهَاهُ عَنْ كيه. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْكَيُّ جِنْسَانِ كَيُّ الصَّحِيحِ لِئَلا يَعْتَلَّ فَهَذَا الَّذِي قِيلَ فِيهِ لَمْ يَتَوَكَّلْ مَنْ اكْتَوَى لأنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَدْفَعَ الْقَدَرَ عَنْ نَفْسِهِ. وَالثَّانِي كَيُّ الْجُرْحِ إذَا لَمْ يَنْقَطِعْ دَمُهُ بِإِحْرَاقٍ وَلا غَيْرِهِ، وَالْعُضْوُ إذَا قُطِعَ فَفِي هَذَا الشِّفَاءُ بِتَقْدِيرِ اللهِ تَعَالَى، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْكَيُّ لِلتَّدَاوِي الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَنْجَحَ وَيَجُوزُ أَنْ لا يَنْجَحَ فَإِنَّهُ إلَى الْكَرَاهَةِ أَقْرَبُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَا جَاءَ فِي الْحِجَامَةُ وَأَوْقَاتُهَا 4812- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ لَذْعَة بنَارٍ تُوَافِقُ الدَّاءَ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4813- وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَحْتَجِمُ فِي الأخْدَعَيْنِ

(2/582)


وَالْكَاهِلِ، وَكَانَ يَحْتَجِمُ لِسَبْعَ عَشْرَةَ وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. 4814- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ احْتَجَمَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ كَانَ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4815- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ خَيْرَ مَا تَحْتَجِمُونَ فِيهِ يَوْمُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. 4816- وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ: أَنََّّهُ كَانَ يَنْهَى أَهْلَهُ عَنْ الْحِجَامَةِ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ وَيَزْعُمُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ يَوْمُ الدَّمِ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لا يَرْقَأُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4817- وَرُوِيَ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْحِجَامَةُ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ الشَّهْرِ دَوَاءٌ لِدَاءِ السَّنَةِ» . رَوَاهُ حَرْبُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْكَرْمَانِيُّ صَاحِبُ أَحْمَدَ وَلَيْسَ إسْنَادُهُ بِذَلِكَ. 4818- وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَنْ احْتَجَمَ يَوْمَ السَّبْتِ أَوْ يَوْمَ الأرْبِعَاءِ فَأَصَابَهُ وَضَحٌ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ. ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَاحْتَجَّ بِهِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَقَدْ أُسْنِدَ وَلا يَصِحُّ. وَكَرِهَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ الْحِجَامَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالأرْبِعَاءِ وَالثُّلاثَاءِ، إِلا إذَا كَانَ يَوْمُ الثُّلاثَاءِ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ الشَّهْرِ أَوْ تِسْعَ عَشْرَةَ أَوْ إحْدَى وَعِشْرِينَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فِي الأخْدَعِينَ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الأخْدَعَانِ: عِرْقَانِ فِي جَانِبَيْ الْعُنُقِ يُحْجَمُ مِنْهُ، وَالْكَاهِلُ: مَا بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ وَهُوَ مُقَدَّمُ الظَّهْرِ. وَأََجْمَعَتْ عَلَيْهِ الأطِبَّاءُ أَنَّ الْحِجَامَةَ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ الشَّهْرِ أَنْفَعُ مِمَّا قَبْلَهُ. قَالَ صَاحِبُ الْقَانُونِ: أَوْقَاتُهَا فِي النَّهَارِ السَّاعَةُ الثَّانِيَةُ أَوْ الثَّالِثَةُ، وَتُكْرَهُ عِنْدَهُمْ عَلَى الشِّبَعِ. قَالَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ: إنَّ الْمُخَاطَبَ بِأَحَادِيثِ الْحِجَامَةِ غَيْرُ الشُّيُوخِ لِقِلَّةِ الْحَرَارَةِ فِي أَبْدَانِهِمْ. وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَمْ تَتَعَيَّنْ حَاجَتُهُ إلَيْهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/583)


بَاب مَا جَاءَ فِي الرُّقَى وَالتَّمَائِمُ 4819- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتُّوَلَةَ شِرْكٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. وَالتُّوَلَةُ: ضَرْبٌ مِنْ السِّحْرِ، قَالَ الأصْمَعِيُّ: هُوَ تَحْبِيبُ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا. 4820- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ تَعَلَّقَ بِتَمِيمَةٍ فَلا أَتَمَّ اللهُ لَهُ، وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدَعَةً فَلا وَدَعَ اللهُ لَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4821- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَا أُبَالِي مَا رَكِبْتُ - أَوْ مَا أَتَيْتُ - إذَا أَنَا شَرِبْتُ تِرْيَاقًا أَوْ عَلَّقْتُ تَمِيمَةً، أَوْ قُلْتُ الشِّعْرَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ: هَذَا كَانَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - خَاصَّةً، وَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ قَوْمٌ، يَعْنِي التِّرْيَاقَ. 4822- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الرُّقْيَةِ مِنْ الْعَيْنِ وَالْحُمَةِ وَالنَّمِلَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. وَالنَّمِلَةُ: قُرُوحٌ تَخْرُجُ فِي الْجَنْبِ. 4823- وَعَنْ الشِّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللهِ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةَ فَقَالَ لِي: «أَلا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رُقْيَةَ النَّمِلَةِ كَمَا عَلَّمْتِهَا الْكِتَابَةَ» ؟ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعَلُّمِ النِّسَاءِ الْكِتَابَةَ. 4824- وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا نَرْقِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: «اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. 4825- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الرُّقَى، فَجَاءَ آلُ عَمْرِو ابْنِ حَزْمٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّهَا كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنْ الْعَقْرَبِ وَإِنَّك نَهَيْتَ عَنْ الرُّقَى، قَالَ: فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: «مَا أَرَى بَأْسًا، فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

(2/584)


4826- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ لأنَّهَا أَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ يَدِي. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «وَالتَّمَائِمُ» جَمْعُ تَمِيمَةٍ: وَهِيَ خَرَزَاتٌ كَانَتْ الْعَرَبُ تُعَلِّقُهَا عَلَى أَوْلادِهِمْ يَمْنَعُونَ بِهَا الْعَيْنَ فِي زَعْمِهِمْ فَأَبْطَلَهُ الإِسْلامُ. قَوْلُهُ: «مَا أُبَالِي مَا رَكَبْتَ أَوْ مَا أَتَيْتَ إِذَا أَنَا شَرِبْتُ ترياقًا» إلى آخره أَيْ لا أَكْثَرْتَ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرٍ دِينِيٍّ وَلا أَهْتَمُّ بِمَا فَعَلَتْهُ إنْ أَنَا فَعَلْتُ هَذِهِ الثَّلاثَةَ أَوْ شَيْئًا مِنْهَا، وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ وَتَهْدِيدٌ شَدِيدٌ فِي فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلاثَةِ: أَيْ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْهَا فَهُوَ غَيْرُ مُكْتَرِثٍ بِمَا يَفْعَلُهُ وَلا يُبَالِي بِهِ هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ حَلالٌ، وَهَذَا وَإِنْ أَضَافَه النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلَى نَفْسِهِ فَالْمُرَادُ بِهِ إعْلامُ غَيْرِهِ بِالْحُكْمِ. قَوْلُهُ: «تِرْيَاقًا» وَالْمُرَادُ بِهِ مَا كَانَ مُخْتَلِطًا بِلُحُومِ الأفَاعِي يُطْرَحُ مِنْهَا رَأْسُهَا وَأَذْنَابُهَا وَيُسْتَعْمَلُ أَوْسَاطُهَا فِي التِّرْيَاقِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ لأنَّهُ نَجَسٌ، وَإِنْ اتُّخِذَ التِّرْيَاقُ مِنْ أَشْيَاءَ طَاهِرَةٍ فَهُوَ طَاهِرٌ لا بَأْسَ بِأَكْلِهِ وَشُرْبِهِ. وَرَخَّصَ مَالِكٌ فِيمَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ لُحُومِ الأفَاعِي لأنَّهُ يَرَى إبَاحَةَ لُحُومِ الْحَيَّاتِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ التِّرْيَاقُ نَبَاتًا أَوْ حَجَرًا فَلا مَانِعَ مِنْهُ. قَوْلُهُ: «أَلا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رَقِيَّةُ النَّمْلَةُ» بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ: وَهِيَ قُرُوحٌ تَخْرُجُ مِنْ الْجَنْبِ أَوْ الْجَنْبَيْنِ، وَرُقْيَةُ النَّمِلَةِ كَلامٌ كَانَتْ نِسَاءُ الْعَرَبِ تَسْتَعْمِلُهُ يَعْلَمُ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ أَنَّهُ كَلامٌ لا يَضُرُّ وَلا يَنْفَعُ. وَرُقْيَةُ النَّمِلَةِ الَّتِي كَانَتْ تُعْرَفُ بَيْنَهُنَّ أَنْ يُقَالَ: الْعَرُوسِ تَحْتَفِلُ، وَتَخْتَضِبُ وَتَكْتَحِلُ، وَكُلُّ شَيْءٍ تفْتَعَلُ غَيْرُ أَنْ لا تَعْصِيَ الرَّجُلَ، فَأَرَادَ - صلى الله عليه وسلم - بِهَذَا الْمَقَالِ تَأْنِيبَ حَفْصَةَ وَالتَّأْدِيبُ لَهَا تَعْرِيضًا لأنَّهُ أَلْقَى إلَيْهَا سِرًّا فَأَفْشَتْهُ عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ التَّنْزِيلُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} الآيَةَ. قَوْلُهُ: «كَمَا عَلَّمْتِهَا الْكِتَابَةَ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيمِ النِّسَاءِ الْكِتَابَةَ. وَأَمَّا حَدِيثُ «وَلا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَابَةَ» فَمَحْمُول عَلَى مَنْ يَخْشَى مَنْ تَعْلِيمهَا الْفَسَادَ. قَوْلُهُ: «لا بَأْسَ بالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْك» . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الرُّقَى وَالتَّطَبُّبِ بِمَا لا ضَرَرَ فِيهِ وَلا مَنْعَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَسْمَاءِ اللهِ

(2/585)


وَكَلامِهِ، لَكِنْ إذَا كَانَ مَفْهُومًا لأنَّ مَا لا يُفْهَمُ لا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الشِّرْكِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: الرُّقَى بِالْمُعَوِّذَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى هُوَ الطِّبُّ الرُّوحَانِيُّ إذَا كَانَ عَلَى لِسَانِ الأبْرَارِ مِنْ الْخَلْقِ حَصَلَ الشِّفَاءُ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالى. بَابُ الرُّقْيَةِ مِنْ الْعَيْنِ وَالِاسْتِغْسَالِ مِنْهَا 4827- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرنِي أَنْ أَسَتَرْقِي مِنْ الْعَيْنِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4828- وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ بَنِي جَعْفَرٍ تُصِيبُهُمْ الْعَيْنُ أَفَنَسْتَرقِي لَهُمْ؟ قَالَ: «نَعَمْ، فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَبَقَ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4829- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقُ الْقَدَرِ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4830- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ يُؤْمَرُ الْعَائِنُ فَيَتَوَضَّأُ ثُمَّ يُغْسَلُ مِنْهُ الْمَعِينُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد 4831- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ وَسَارَ مَعَهُ نَحْوَ مَكَّةَ، حَتَّى إذَا كَانُوا بِشِعْبِ الْخِرَارِ مِنْ الْجُحْفَةِ اغْتَسَلَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَكَانَ رَجُلاً أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِسْمِ وَالْجِلْدِ، فَنَظَرَ إلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ أَحَدُ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ - وَهُوَ يَغْتَسِلُ - فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ، فَلُبِطَ سَهْلٌ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ لَك فِي سَهْلٍ؟ وَاَللَّهِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، قَالَ: «هَلْ تَتَّهِمُونَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ» ؟ قَالُوا: نَظَرَ إلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامِرًا فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ وَقَالَ: «عَلامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟ هَلا إذَا رَأَيْتَ مَا يُعْجِبُك بَرَّكْتَ» . ثُمَّ قَالَ لَهُ: «اغْتَسِلْ لَهُ» . فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إزَارِهِ فِي قَدَحٍ ثُمَّ صُبَّ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَيْهِ يَصُبُّهُ رَجُلٌ عَلَى رَأْسِهِ وَظَهْرِهِ مِنْ خَلْفِهِ، ثُمَّ يُكْفَأُ الْقَدَحُ

(2/586)


وَرَاءَهُ فَفُعِلَ بِهِ ذَلِكَ، فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ النَّاسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «الْعَيْنُ حَقٌّ» أَيْ شَيْءٌ ثَابِتٌ مَوْجُودٌ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَحَقَّقَ كَوْنُهُ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْقِصَاصِ بِذَلِكَ. وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلإِمَامِ مَنْعُ الْعَائِنِ إذَا عُرِفَ بِذَلِكَ مِنْ مُدَاخَلَةِ النَّاسِ، وَأَنْ يَلْزَمَ بَيْتَهُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/587)


أَبْوَابُ الأيْمَانِ وَكَفَّارَتِهَا بَابُ الرُّجُوعِ فِي الأيْمَانِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْكَلامِ إلَى النِّيَّةِ 4832- عَنْ سُوَيْد بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ: خَرَجْنَا نُرِيدُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَنَا وَائِلُ ابْنُ حُجْرٌ، فَأَخَذَهُ عَدُوٌّ لَهُ فَتَحَرَّجَ الْقَوْمُ أَنْ يَحْلِفُوا، وَحَلَفْتُ أَنَّهُ أَخِي فَخُلِّيَ عَنْهُ، فَأَتَيْنَا إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «أَنْتَ كُنْتَ أَبَرَّهُمْ وَأَصْدَقَهُمْ صَدَقْتَ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. 4833- وَفِي حَدِيثِ الإِسْرَاءِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: (مَرْحَبًا بِالأخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ) . 4834- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَقْبَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُرْدِفٌ أَبَا بَكْرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ شَيْخٌ يُعْرَفُ وَنَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شَابٌّ لا يُعْرَفُ، قَالَ: فَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَا بَكْرٍ فَيَقُولُ: يَا أَبَا بَكْرٍ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ: هَذَا الرَّجُلُ يَهْدِينِي السَّبِيلَ، فَيَحْسِبُ الْحَاسِبُ أَنَّهُ إنَّمَا يَعْنِي الطَّرِيقَ، وَإِنَّمَا يَعْنِي سَبِيلَ الْخَيْرِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. 4835- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ. 4836- وَفِي لَفْظٍ: «الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَةْ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحْلِفِ الْمَظْلُومِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: كُلَّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يُطْلَقُ بَيْنَهُمَا اسْمُ

(2/588)


الأخُوَّةِ، وَيَشْتَرِكُ فِي ذَلِكَ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ، وَيَبَرُّ الْحَالِفُ إذَا حَلَفَ أَنَّ هَذَا الْمُسْلِمَ أَخُوهُ، وَلاسِيَّمَا إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ قُرْبَةٌ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَلِهَذَا اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْحَالِفِ وَلِهَذَا قِيلَ: إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ذَهَبَ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى يَمِينٍ، إنْ لَمْ يَحْلِفْهَا قُتِلَ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ لا حِنْثَ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: (وَنَبِيُّ اللهِ شَابٌّ) فِيهِ جَوَازُ إطْلاقِ اسْمِ الشَّابِّ عَلَى مَنْ كَانَ فِي نَحْوِ الْخَمْسِينَ السَّنَةِ، وَفِي هَذَا التَّعْرِيضِ الْوَاقِعِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ غَايَةُ اللَّطَافَةِ قَوْلُهُ: «يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُك بِهِ صَاحِبُكَ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الاعْتِبَارَ بِقَصْدِ الْحَلفِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: أَمَّا إذَا حَلَفَ بِغَيْرِ اسْتِحْلافٍ وَوَرَّى فَتَنْفَعُهُ التَّوْرِيَةُ وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ الإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلافٍ وَمِنْ غَيْرِ تَعَلُّقِ حَقٍّ بِيَمِينِهِ لَهُ نِيَّتُهُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَلا يَجُوزُ التَّعْرِيض لِغَيْرِ ظَالِم. بَابُ مَنْ حَلَفَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ 4837- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللهُ، لَمْ يَحْنَثْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. 4838- وَابْنُ مَاجَةْ وَقَالَ: «فَلَهُ ثُنْيَاهُ» . 4839- وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ: «فَقَدْ اسْتَثْنَى» . 4840- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللهُ فَلا حِنْثَ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا أَبَا دَاوُد. 4841- وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «وَاَللَّهِ لأغْزُوَنَّ قُرَيْشًا» . ثُمَّ قَالَ: «إنْ شَاءَ اللهُ» . ثُمَّ قَالَ: «وَاَللَّهِ لأغْزُوَنَّ قُرَيْشًا» . ثُمَّ قَالَ: «إنْ شَاءَ اللهُ» . ثُمَّ قَالَ: «وَاَللَّهِ لأغْزُوَنَّ قُرَيْشًا» . ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ: «إنْ شَاءَ اللهُ» . ثُمَّ لَمْ يَغْزُهُمْ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ (رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا أَبَا دَاوُد) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: هُوَ فِي

(2/589)


سُنَنْ أَبِي دَاوُد فِي الأيْمَانِ والنُّذُور. قَوْلُهُ: «لَمْ يَحْنَثْ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّقْيِيدَ بِمَشِيئَةِ اللهِ مَانِعٌ مِنْ انْعِقَادِ الْيَمِينِ أَوْ يُحِلُّ انْعِقَادَهَا. وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ الْجُمْهُورُ وَلا فَرْقَ بَيْنَ الْحَالِفِ بِاَللَّهِ أَوْ بِالطَّلاقِ أَوْ الْعَتَاقِ وَاسْتَثْنَى أَحْمَدُ الْعَتَاقَ. قَوْلُهُ: ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ: «إنْ شَاءَ اللهُ» لَمْ يُقَيِّدْ هَذَا السُّكُوتَ بِالْعُذْرِ، بَلْ ظَاهِرُهُ السُّكُوتُ اخْتِيَارًا لا اضْطِرَارًا فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَنْ حَلَفَ لا يُهْدِي هَدِيَّةً فَتَصَدَّقَ 4842- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ أَهَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَإِنْ قِيلَ: صَدَقَةٌ قَالَ لأصْحَابِهِ: «كُلُوا» . وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ: هَدِيَّةٌ ضَرَبَ بِيَدِهِ، وَأَكَلَ مَعَهُمْ. 4843- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَهْدَتْ بَرِيرَةُ إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَحْمًا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهَا، فَقَالَ: «هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلامُ عَلَى مَعْنَى الْحَدِيثَيْنِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ إيرَادِهِمَا هَا هُنَا أَنَّ الْحَالِفَ بِأَنَّهُ لا يَهْدِي لا يَحْنَثُ إذَا تَصَدَّقَ فَإِذَا حَلَفَ مِنْ إحْدَاهُمَا لَمْ يَحْنَثْ بِالأخْرَى كَسَائِرِ الْمَفْهُومَاتِ الْمُتَغَايِرَةِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَنْ حَلَفَ لا يَأْكُلُ إدَامًا بِمَاذَا يَحْنَثُ؟ 4844- عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «نِعْمَ الأدْمُ الْخَلُّ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا الْبُخَارِيَّ. 4845- وَلأحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَابْنِ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مِثْلُهُ. 4846- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ائْتَدِمُوا بِالزَّيْتِ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ» . 4847- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «سَيِّدُ إدَامِكُمْ الْمِلْحُ» . رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَةْ.

(2/590)


4848- وَعَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلامٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ كِسْرَةً مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ فَوَضَعَ عَلَيْهَا تَمْرَةً وَقَالَ: «هَذِهِ إدَامُ هَذِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبُخَارِيُّ. 4849- وَعَنْ بُرَيْدَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «سَيِّدُ إدَامِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ اللَّحْمُ» . رَوَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي غَرِيبِهِ وَقَالَ: حَدَّثَنَا الْقُومِسِيُّ، حَدَّثَنَا الأصْمَعِيُّ عَنْ أَبِي هِلالٍ الرَّاسِبِيِّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ فَذَكَرَهُ. 4850- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تَكُونُ الأرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَتَكَفَّأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ نُزُلاً لأهْلِ الْجَنَّةِ» . فَأَتَى رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ: بَارَكَ الرَّحْمَنُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، أَلا أُخْبِرُك بِنُزُلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «بَلَى» . قَالَ: تَكُونُ الأرْضُ خُبْزَةً وَاحِدَةً - كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَظَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلَيْنَا ثُمَّ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَالَ: «أَلا أُخْبِرُكَ بِإِدَامِهِمْ» ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: «إدَامُهُمْ بِلامُ وَنُونٌ» . قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: «ثَوْرٌ وَنُونٌ يَأْكُلُ مِنْ زَائِدَةِ كَبِدِهِمَا سَبْعُونَ أَلْفًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالنُّونُ: الْحُوتُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «سَيِّدُ إدَامِكُمْ الْمِلْحُ» قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الإِدَامَ اسْمٌ لِمَا يُؤْتَدَمُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُصْطَبَغُ بِهِ كَالأمْرَاقِ وَالْمَائِعَاتِ أَوْ مِمَّا لا يُصْطَبَغُ بِهِ كَالْجَامِدَاتِ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبَيْضِ وَالزَّيْتُونِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ رَسْلانَ: هَذَا مَعْنَى الإِدَامِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ انْتَهَى. قَالَ الشَّارِحُ: وَلَعَلَّ تَسْمِيَةَ الْمِلْحِ بِسَيِّدِ الإِدَامِ لِكَوْنِهِ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي كُلِّ طَعَامٍ وَإِطْلاقُ السَّيَّادَة عَلَى اللَّحْمِ لِذَاتِهِ. انتْتَهَى مُلُخَّصًا. بَابُ أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنَّهُ لا مَالَ لَهُ يَتَنَاوَلُ الزَّكَاتِيَّ وَغَيْرَهُ 4851- عَنْ أَبِي الأحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيَّ شَمْلَةٌ أَوْ شَمْلَتَانِ فَقَالَ: «هَلْ لَكَ مِنْ مَالٍ» ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ قَدْ آتَانِي اللهُ مِنْ كُلِّ مَالِهِ، مِنْ خَيْلِهِ وَإِبِلِهِ وَغَنَمِهِ وَرَقِيقِهِ فَقَالَ: «فَإِذَا آتَاكَ اللهُ مَالاً فَلْتُرَ عَلَيْكَ نِعَمُهُ» . فَرُحْت إلَيْهِ فِي حُلَّةٍ.

(2/591)


4852- وَعَنْ سُوَيْد بْنِ هُبَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «خَيْرُ مَالِ امْرِئٍ لَهُ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ أَوْ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. الْمَأْمُورَةُ: الْكَثِيرَةُ النَّسْلِ. وَالسِّكَّةُ: الطَّرِيقُ مِنْ النَّخْلِ الْمُصْطَفَّةِ، وَالْمَأْبُورَةُ: هِيَ الْمُلَقَّحَةُ. 4853- وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ عُمَرَ - رضي الله عنه - قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ. 4854- وَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَحَبُّ أَمْوَالِي إلَيَّ بَيْرُحَاءُ. لِحَائِطٍ لَهُ مُسْتَقْبِلَةُ الْمَسْجِدِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَإِذَا آتَاك اللهُ مَالاً» ذَكَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إتْيَانَ الْمَالِ مَعَ أَمْرِهِ بِإِظْهَارِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِلَّته، إِلَى أَنْ قَالَ: فَمَنْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ بِنِعْمَةٍ فَلْيُبَالِغْ فِي إظْهَارِهَا مَا لَمْ يَصْحَبْ ذَلِكَ رِيَاءٌ أَوْ عُجْبٌ أَوْ مُكَاثَرَةٌ لِلْغَيْرِ. انْتَهَى مُلخَّصًا. بَابُ مَنْ حَلَفَ عِنْدَ رَأْسِ الْهِلالِ لا يَفْعَلُ شَيْئًا شَهْرًا فَكَانَ نَاقِصًا 4855- عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَلَفَ لا يَدْخُلُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ شَهْرًا. وَفِي لَفْظٍ: آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا غَدَا عَلَيْهِمْ أَوْ رَاحَ، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ حَلَفْتَ أَنْ لا تَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا، فَقَالَ: «إنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4856- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: هَجَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نِسَاءَهُ شَهْرًا، فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ أَتَى جِبْرِيلُ فَقَالَ: قَدْ بَرَّتْ يَمِينُك وَقَدْ تَمَّ الشَّهْرُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ حَلَفْتَ) إِلَى آخره فِيهِ تَذْكِيرُ الْحَالِفِ بِيَمِينِهِ إِلَى أَنْ قَالَ: وَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ يَمِينَهُ - صلى الله عليه وسلم - اتَّفَقَ أَنَّه كَانَتْ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ، وَلِهَذَا اقْتَصَرَ عَلَى تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَإِلا فَلَوْ اتَّفَقَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لا يَقَعُ الْبِرُّ إِلا بِثَلاثِينَ.

(2/592)


بَابُ الْحَلِفِ بِأَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى 4857- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ مَا كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَحْلِفُ: لا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا مُسْلِمًا. 4858- وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ اللهُ الْجَنَّةَ أَرْسَلَ جِبْرِيلَ فَقَالَ: اُنْظُرْ إلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْت لأهْلِهَا فِيهَا، فَنَظَرَ إلَيْهَا فَرَجَعَ فَقَالَ: لا وَعِزَّتِك لا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلا دَخَلَهَا» . 4859- وَفِي حَدِيثٍ لأبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنْ النَّارِ، لا وَعِزَّتِكَ لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 4860- وَفِي حَدِيثِ اغْتِسَالِ أَيُّوبَ (بَلَى وَعِزَّتِكَ وَلَكِنْ لا غِنَى لِي عَنْ بَرَكَتِكَ) . 4861- وَعَنْ قُتَيْلَةَ بِنْتِ صَيْفِيٍّ أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنَّكُمْ تُنَدِّدُونَ وَإِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ، تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ، وَتَقُولُونَ الْكَعْبَةِ، فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلِفُوا أَنْ يَقُولُوا: «وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَيَقُولَ أَحَدُهُمْ مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئْتَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. 4862- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ عُمَرَ وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَقَالَ: «إنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4863- وَفِي لَفْظٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلا يَحْلِفْ إِلا بِاَللَّهِ» . وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَحْلِفُ بِآبَائِهَا، فَقَالَ: «لا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. 4864- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَحْلِفُوا إِلا بِاَللَّهِ، وَلا تَحْلِفُوا إِلا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ» لا: نَفْيٌ

(2/593)


لِلْكَلامِ السَّابِقِ، وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ هُوَ الْمُقْسَمُ بِهِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فِيهِ جَوَازُ الْحَلِفِ بِأَفْعَالِ اللهِ تَعَالَى إذَا وُصِفَ بِهَا. قَوْلُهُ: «فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» قَالَ الْعُلَمَاءُ: السِّرُّ فِي النَّهْيِ عَنْ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللهِ أَنَّ الْحَلِفَ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي تَعْظِيمَهُ، وَالْعَظَمَةُ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هِيَ لِلَّهِ وَحْدِهِ، فَلا يَحْلِفُ إِلا بِاَللَّهِ وَذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ وأحاديث الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللهِ لا يَنْعَقِدُ، لأنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَا جَاءَ فِي وَأَيْمُ اللهِ وَلَعَمْرُ اللهِ وَأُقْسِمُ بِاَللَّهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ 4865- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد: لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً كُلُّهَا تَأْتِي بِفَارِسٍ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: قُلْ إنْ شَاءَ اللهُ، فَلَمْ يَقُلْ إنْ شَاءَ اللهُ، فَطَافَ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا، فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ فَجَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ، وَأَيْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إنْ شَاءَ اللهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ» . وَهُوَ حُجَّةٌ فِي أَنَّ إلْحَاقَ الاسْتِثْنَاءِ - مَا لَمْ يَطُلْ الْفَصْلُ - يَنْفَعُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ وَقْتَ الْكَلامِ الأوَّلِ. 4866- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ: «وَأَيْمُ اللهِ إنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلإِمَارَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَفِي حَدِيثٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ لَمَّا وُضِعَ عُمَرُ عَلَى سَرِيرِهِ جَاءَ عَلِيٌّ فَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ: وَأَيْمُ اللهِ إنْ كُنْتُ لأظُنُّ أَنْ يَجْعَلَك اللهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ. 4867- وَقَدْ سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ الْمَخْزُومِيَّةِ: «وَأَيْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا» . وَقَوْلُ عُمَرَ لِغَيْلانَ بْنِ سَلَمَةَ: وَأَيْمُ اللهِ لَتُرَاجِعَنَّ نِسَاءَكَ.

(2/594)


4868- وَفِي حَدِيثِ الإِفْكِ فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَقَامَ. أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: لَعَمْرُ اللهِ لَنَقْتُلَنَّهُ. وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4869- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَفْوَانَ - وَكَانَ صَدِيقًا لِلْعَبَّاسِ - أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ جَاءَ بِأَبِيهِ إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ بَايِعْهُ عَلَى الْهِجْرَةِ، فَأَبَى وَقَالَ: «إنَّهَا لا هِجْرَةَ» . فَانْطَلَقَ إلَى الْعَبَّاسِ فَقَامَ الْعَبَّاسُ مَعَهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ عَرَفْتَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ فُلانٍ وَأَتَاكَ بِأَبِيهِ لِتُبَايِعَهُ عَلَى الْهِجْرَةِ فَأَبَيْتَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا هِجْرَةَ» . فَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَتُبَايِعَنَّهُ، قَالَ فَبَسَطَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ فَقَالَ: «هَاتِ أَبْررْت عَمِّي وَلا هِجْرَةَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. 4870- وَعَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ امْرَأَةً أَهْدَتْ إلَيْهَا تَمْرًا فِي طَبَقٍ، فَأَكَلَتْ بَعْضَهُ وَبَقِيَ بَعْضُهُ، فَقَالَتْ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ إِلا أَكَلْتِ بَقِيَّتَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَبِرِّيهَا فَإِنَّ الإِثْمَ عَلَى الْمُحَنِّثِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4871- وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَفَ بِالأمَانَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَالَ فِي النِّهَايَةِ: يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ الْكَرَاهَةُ فِيهِ لأجْلِ أَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَحْلِفَ بِأَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ، وَالأمَانَةُ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِهِ فَنُهُوا عَنْهَا مِنْ أَجْلِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَسْمَاءِ اللهِ كَمَا نُهُوا أَنْ يَحْلِفُوا بِآبَائِهِمْ. بَابٌ الأمْرُ بِإِبْرَارِ الْقَسَمِ وَالرُّخْصَةُ فِي تَرْكِهِ لِلْعُذْرِ 4872- عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِسَبْعٍ: أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ أَوْ الْمُقْسِمِ، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإِفْشَاءِ السَّلامِ. 4873- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - فِي حَدِيثِ رُؤْيَا قَصَّهَا أَبُو بَكْرٍ - أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: أَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللهِ - بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي - أَصَبْتُ أَمْ

(2/595)


أَخْطَأْتُ؟ قَالَ: «أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا» . قَالَ: فَوَاَللَّهِ لَتُحَدِّثَنِّي بِاَلَّذِي أَخْطَأْتُ؟ قَالَ: «لا تُقْسِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَإِبْرَارُ الْقَسَمِ) أَيْ بِفِعْلِ مَا أَرَادَ الْحَالِفُ وَعَدَمِ إبْرَارِهِ - صلى الله عليه وسلم - لِقَسَمِ أَبِي بَكْرٍ عَدَمِ الْوُجُوبِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَا يُذْكَرُ فِيمَنْ قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا 4874- عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِسْلامِ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا أَبَا دَاوُد. 4875- وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَالَ إنِّي بَرِيءٌ مِنْ دِين الإِسْلامِ، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ: وَإِنْ كَانَ صَادِقًا لَمْ يَعُدْ إلَى الإِسْلامِ سَالِمًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: اخْتُلِفَ فِيمَنْ قَالَ: أَكْفُرُ بِاَللَّهِ وَنَحْوِهِ إنْ فَعَلْتُ ثُمَّ فَعَلَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ وَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ الأمْصَارِ: لا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَلا يَكُونُ كَافِرًا إِلا إنْ أَضْمَرَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ. وَقَالَ الأوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ هُوَ يَمِينٌ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَالأوَّلُ أَصَحُّ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ: لا إلَهَ إِلا اللهَ» . وَلَمْ يَذْكُرْ كَفَّارَةً، زَادَ غَيْرُهُ: وَكَذَا قَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ سِوَى الإِسْلامِ فَهُوَ كَمَا قَالَ» . فَأَرَادَ التَّغْلِيظَ فِي ذَلِكَ حَتَّى لا يَجْتَرِئَ أَحَدٌ عَلَيْهِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَلَغْوِ الْيَمِينِ 4876- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَبَهْتُ مُؤْمِنٍ، وَالْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالاً بِغَيْرِ حَقٍّ» . 4877- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِرَجُلٍ: ... «فَعَلْت كَذَا» ؟ قَالَ: لا وَاَلَّذِي لا إلَهَ إِلا هُوَ مَا فَعَلْتُ، قَالَ: فَقَالَ

(2/596)


جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: قَدْ فَعَلَ، وَلَكِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ غَفَرَ لَهُ بِقَوْلِهِ: لا وَاَلَّذِي لا إلَهَ إِلا هُوَ. 4878- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اخْتَصَمَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلانِ فَوَقَعَتْ الْيَمِينُ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَحَلَفَ بِاَللَّهِ الَّذِي لا إلَهَ إِلا هُوَ مَا لَهُ عِنْدَهُ شَيْءٌ، قَالَ: فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنَّهُ كَاذِبٌ إنَّ لَهُ عِنْدَهُ حَقَّهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ حَقَّهُ، وَكَفَّارَةُ يَمِينِهِ مَعْرِفَتُهُ أَنْ لا إلَهَ إِلا اللهَ أَوْ شَهَادَتُهُ. رَوَاهُنَّ أَحْمَدُ. وَلأبِي دَاوُد الثَّالِثُ بِنَحْوِهِ. 4879- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {لاَّ يُؤَاخِذُكُمْ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: لا وَاَللَّهِ، وَبَلَى وَاَللَّهِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ أَيْضًا النَّسَائِيّ، وَفِي إسْنَادِهِ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ. بَابُ الْيَمِينِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ وَتَكْفِيرُهَا قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ 4880- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا. فَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ» . 4881- وَفِي لَفْظٍ: «فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 4882- وَفِي لَفْظٍ: «إذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكِ ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد. وَهُوَ صَرِيحٌ فِي تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ. 4883- وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْهَا وَلِيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 4884- وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا

(2/597)


فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ. 4885- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَفْعَلْ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4886- وَفِي لَفْظٍ: «فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 4887- وَعَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا» . 4888- وَفِي لَفْظٍ: «إِلا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَفَعَلْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» . 4889- وَفِي لَفْظٍ: «إِلا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ. 4890- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا نَذْرَ وَلا يَمِينَ فِيمَا لا تَمْلِكُ، وَلا فِي مَعْصِيَةٍ، وَلا فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد. وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْوَفَاءِ بِهَا. 4891- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقُوتُ أَهْلَهُ قُوتًا فِي سَعَةٍ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَقُوتُ أَهْلَهُ قُوتًا فِي شِدَّةٍ، فَنَزَلَتْ {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. 4892- وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا قَرَءَا: (فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ) حَكَاهُ أَحْمَدُ وَرَوَاهُ الأثْرَمُ بِإِسْنَادٍ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحِنْثَ فِي الْيَمِينِ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَادِي إذَا كَانَ فِي الْحِنْثِ مَصْلَحَةٌ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ حُكْمِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ. وَقَالَ عِيَاضٌ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ

(2/598)


لا تَجِبُ إِلا بِالْحِنْثِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا بَعْدَ الْحِنْثِ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: لِلْكَفَّارَةِ ثَلاثُ حَالاتٍ: أَحَدُهَا. قَبْلَ الْحَلِفِ فَلا تُجْزِئُ اتِّفَاقًا. ثَانِيهَا: بَعْدَ الْحَلِفِ وَالْحِنْثِ فَتُجْزِئُ اتِّفَاقًا. ثَالِثُهَا: بَعْدَ الْحَلِفِ وَقَبْلَ الْحِنْثِ فَفِيهَا الْخِلافُ. قَوْلُهُ: (كَانَ الرَّجُلُ يَقُوتُ أَهْلَهُ) . إلَى آخره فِيهِ أَنَّ الأوْسَطَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِي الآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ الْمُتَوَسِّطُ مَا بَيْنَ قُوتِ الشِّدَّةِ وَالسَّعَةِ. قَوْلُهُ: (إنَّهُمَا قَرَءَا فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ) قِرَاءَةُ الآحَادِ مُنَزَّلَةٌ مَنْزِلَةَ أَخْبَارِ الآحَادِ صَالِحَةٌ لِتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ وَتَخْصِيصِ الْعَامِّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الأصُولِ.

(2/599)


 كِتَابُ النَّذْرِ

بَابُ نَذْرِ الطَّاعَةِ مُطْلَقًا وَمُعَلَّقًا بِشَرْطٍ 4893- عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلا يَعْصِهِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا مُسْلِمًا. 4894- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ: «إنَّهُ لا يَرُدُّ شَيْئًا وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا التِّرْمِذِيَّ. 4895- وَلِلْجَمَاعَةِ إِلا أَبَا دَاوُد مِثْلُ مَعْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «إنَّهُ لا يَرُدُّ شَيْئًا» فِيهِ إشَارَةٌ إلَى تَعْلِيلِ النَّهْيِ عَنْ النَّذْرِ. قَالَ ابْنُ الأثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: تَكَرَّرَ النَّهْيُ عَنْ النَّذْرِ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ تَأْكِيدٌ لأمْرِهِ وَتَحْذِيرٌ عَنْ التَّهَاوُنِ بِهِ بَعْدَ إيجَابِهِ. قَالَ الْخَطَّابِيِّ: هَذَا بَابٌ مِنْ الْعِلْمِ غَرِيبٌ وَهُوَ أَنْ يُنْهَى عَنْ فِعْلِ شَيْءٍ حَتَّى إذَا فُعِلَ كَانَ وَاجِبًا. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَا جَاءَ فِي نَذْرِ الْمُبَاحِ وَالْمَعْصِيَةِ وَمَا أُخْرِجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ 4896- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ إذْ هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: أَبُو إسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْسِ، وَلا يَقْعُدَ، وَلا يَسْتَظِلَّ، وَلا يَتَكَلَّمَ، وَأَنْ يَصُومَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ وَأَبُو دَاوُد.

(2/600)


4897- وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ نَذْرٌ فِيمَا لا يَمْلِكُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4898- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا نَذْرَ إِلا فِيمَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللهِ تَعَالَى» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4899- وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - نَظَرَ إلَى أَعْرَابِيٍّ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ وَهُوَ يَخْطُبُ، فَقَالَ: «مَا شَأْنُكَ» ؟ قَالَ: نَذَرْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ لا أَزَالَ فِي الشَّمْسِ حَتَّى تَفْرُغَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ هَذَا نَذْرًا، إنَّمَا النَّذْرُ مَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللهِ تَعَالَى» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4900- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ أَخَوَيْنِ مِنْ الأنْصَارِ كَانَ بَيْنَهُمَا مِيرَاثٌ، فَسَأَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ الْقِسْمَةَ، فَقَالَ: إنْ عُدْتَ تَسْأَلُنِي الْقِسْمَةَ فَكُلُّ مَالِي فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إنَّ الْكَعْبَةَ غَنِيَّةٌ عَنْ مَالِكَ كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَكَلِّمْ أَخَاكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لا يَمِينَ عَلَيْكَ، وَلا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ، وَلا فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَلا فِيمَا لا تَمْلِكُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4901- وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ إبِلًا بِبُوَانَةَ، فَقَالَ: «أَكَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ» ؟ فَقَالُوا: لا، قَالَ: «فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ» ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: «أَوْفِ بِنَذْرِك فَإِنَّهُ لا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلا فِيمَا لا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4902- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. 4903- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا فِي مَعْصِيَةٍ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4904- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (أَبُو إسْرَائِيلَ) قَالَ الْخَطِيبُ: هُوَ

(2/601)


رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَلا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي كُنْيَتِهِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَتَأَذَّى بِهِ الإِنْسَانُ مِمَّا لَمْ يَرِد بِمَشْرُوعِيَّتِهِ كِتَابٌ وَلا سُنَّةٌ - كَالْمَشْيِ حَافِيًا وَالْجُلُوسِ فِي الشَّمْسِ - لَيْسَ مِنْ طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى فَلا يَنْعَقِدُ النَّذْرُ بِهِ، فَإِنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ أَبَا إسْرَائِيلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِإِتْمَامِ الصَّوْمِ دُونَ غَيْرِهِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لا يَشُقُّ عَلَيْهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قِصَّةِ أَبِي إسْرَائِيلَ أَعْظَمُ حُجَّةً لِلْجُمْهُورِ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ نَذَرَ مَعْصِيَةً أَوْ مَا لا طَاعَةَ فِيهِ. قَوْلُهُ: «لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ نَذْرٌ فِيمَا لا يَمْلِكُ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ بِمَا لا يَمْلِكُ لا يُنَفَّذُ نَذْرَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ بِمَعْصِيَةٍ كَمَا فِي بَقِيَّةِ أَحَادِيثِ الْبَابِ. وَاخْتُلِفَ فِي النَّذْرِ بِمَعْصِيَةٍ هَلْ تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ أَمْ لا؟ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لا. وَعَنْ أَحْمَدَ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ: نَعَمْ وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَهَا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابٌ مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُسَمِّهِ وَلا يُطِيقُهُ 4905- عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كَفَّارَةُ النَّذْرِ - إذَا لَمْ يُسَمَّ -كَفَّارَةُ يَمِينٍ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4906- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّهِ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُطِقْهُ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4907- وَابْنُ مَاجَةْ وَزَادَ: «وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا أَطَاقَهُ فَلْيَفِ بِهِ» . 4908- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ فَقَالَ: «مَا هَذَا» ؟ قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ. قَالَ: «إنَّ اللهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ» . وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا ابْنَ مَاجَةْ. 4909- وَلِلنَّسَائِيِّ فِي رِوَايَةٍ: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللهِ. 4910- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللهِ

(2/602)


فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَفْتَيْتُهُ فَقَالَ: «لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4911- وَلِمُسْلِمٍ فِيهِ: حَافِيَةً غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ. 4912- وَفِي رِوَايَةٍ: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إلَى الْكَعْبَةِ، فَقَالَ ... رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنْ مَشْيِهَا لِتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ بَدَنَةً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4913- وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ أُخْتَهُ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ حَافِيَةً غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «إنَّ اللهَ لا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا، مُرْهَا فَلْتَخْتَمِرْ وَلْتَرْكَبْ وَلْتَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. 4914- وَعَنْ كُرَيْبٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً، فَقَالَ: «إنَّ اللهَ لا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِك شَيْئًا، لِتَخْرُجْ رَاكِبَةً وَلْتُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4915- وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنَّ أُخْتَهُ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إلَى الْبَيْتِ وَشَكَا إلَيْهِ ضَعْفَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ نَذْرِ أُخْتِكِ فَلْتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ بَدَنَةً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4916- وَفِي لَفْظٍ: إنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إلَى الْبَيْتِ وَإِنَّهَا لا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تَرْكَبَ وَتُهْدِيَ هَدْيًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لَمْ يُسَمَّ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ إنَّمَا تَجِبُ فِيمَا كَانَ مِنْ النُّذُورِ غَيْرَ مُسَمَّى. قَوْلُهُ: «وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُطِقْهُ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» ظَاهِرُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمَنْذُورُ بِهِ طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً أَوْ مُبَاحًا إذَا كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ فَفِيهِ الْكَفَّارَةُ. قَوْلُهُ: «لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ» فِيهِ أَنَّ النَّذْرَ بِالْمَشْيِ وَلَوْ إلَى مَكَانِ الْمَشْيِ إلَيْهِ طَاعَةٌ فَإِنَّهُ لا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ بَلْ يَجُوزُ الرُّكُوبُ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَإِنَّمَا أَمَرَ

(2/603)


النَّاذِرَةَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنْ تَرْكَبَ جَزْمًا، وَأَمَرَ أُخْتَ عُقْبَةَ أَنْ تَمْشِيَ وَأَنْ تَرْكَبَ لأنَّ النَّاذِرَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ كَانَ شَيْخًا ظَاهِرَ الْعَجْزِ وَأُخْتُ عُقْبَةَ لَمْ تُوصَفْ بِالْعَجْزِ، فَكَأَنَّهُ أَمَرَهَا أَنْ تَمْشِيَ إنْ قَدَرَتْ وَتَرْكَبَ إنْ عَجَزَتْ، وَبِهَذَا تَرْجَمَ الْبَيْهَقِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ: وأحاديث الْبَابِ مُصَرِّحَةٌ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ. وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ لا يَصِحُّ فِيهِ الْهَدْيُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: زِيَادَةُ الأمْرِ بِالْهَدْيِ رُوَاتُهَا ثِقَاتٌ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ مَنْ نَذَرَ وَهُوَ مُشْرِكٌ ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ نَذَرَ ذَبْحًا فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ 4917- عَنْ عُمَرَ قَالَ: نَذَرْتُ نَذْرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ مَا أَسْلَمْتُ - فَأَمَرَنِي أَنْ أُوفِيَ بِنَذْرِي. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. 4918- وَعَنْ كَرْدَمِ بْنِ سُفْيَانَ: أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ نَذْرٍ نَذَرَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ: «أَلِوَثَنٍ أَوْ لِنُصُبٍ» ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنْ لِلَّهِ، فَقَالَ: ... «أَوْفِ لِلَّهِ مَا جَعَلْتَ لَهُ، انْحَرْ عَلَى بُوَانَةَ وَأَوْفِ بِنَذْرِكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4919- وَعَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ كَرْدَمٍ قَالَتْ: كُنْت رِدْفَ أَبِي فَسَمِعْتُهُ يَسْأَلُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ بِبُوَانَةَ، فقَالَ: «أَبِهَا وَثَنٌ أَوْ طَاغِيَةٌ» ؟ قَالَ: لا، قَالَ: «أَوْفِ بِنَذْرِك» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. 4920- وَفِي لَفْظٍ لأحْمَدَ: إنِّي نَذَرْت أَنْ أَنْحَرَ عَدَدًا مِنْ الْغَنَمِ وَذَكَرَ مَعْنَاهُ. وَفِيهِ دَلالَةٌ عَلَى جَوَازِ نَحْرِ مَا يُذْبَحُ. 4921- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا - مَكَانٌ كَانَ يَذْبَحُ فِيهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ - قَالَ: «لِصَنَمٍ» ؟ قَالَتْ: لا، قَالَ: «لِوَثَنٍ» ؟ قَالَتْ: لا، قَالَ: «أَوْفِ بِنَذْرِكِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِي حَدِيث عُمَر دَلِيل عَلَى أَنَّهُ يَجِبْ الْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ مِن الْكَافِر مَتَى أَسْلَمَ. قَوْلُهُ: (كَرْدَمٍ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَالدَّالِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ

(2/604)


بِالنَّذْرِ فِي الْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي التَّعْيِينِ مَعْصِيَةٌ وَلا مَفْسَدَةٌ مِنْ اعْتِقَادِ تَعْظِيمِ جَاهِلِيَّةٍ أَوْ نَحْوِهِ. بَابُ مَا يُذْكَرُ فِيمَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِمَالِهِ كُلِّهِ 4922- عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» . قَالَ: قُلْت: إنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4923- وَفِي لَفْظٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ مِنْ تَوْبَتِي إلَى اللهِ أَنْ أُخْرِجَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ صَدَقَةً؟ قَالَ: «لا» . قُلْت: فَنِصْفُهُ؟ قَالَ: «لا» . قُلْت: فَثُلُثُهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . قُلْت: فَإِنِّي سَأُمْسِكُ سَهْمِي مِنْ خَيْبَرَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4924- وَعَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ لَمَّا تَابَ اللهُ عَلَيْهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي وَأُسَاكِنَك، وَأَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ، فَقَالَ ... رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَجْزِي عَنْكَ الثُّلُثُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ عَلَى عَشَرَةِ مَذَاهِبَ: الأوَّلُ: إنَّهُ يَلْزَمُهُ الثُّلُثُ فَقَطْ لِهَذَا الْحَدِيثِ. بَابُ مَا يُجْزِئ مَنْ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ بِنَذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ 4925- عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ الأنْصَارِ: إنَّهُ جَاءَ بِأَمَةٍ سَوْدَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ عَلَيَّ عِتْقَ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، فَإِنْ كُنْتَ تَرَى هَذِهِ مُؤْمِنَةً أَعْتَقْتُهَا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَتَشْهَدِينَ أَنْ لا إلَهَ إِلا اللهُ» ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: «أَتَشْهَدِينَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ» ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: ... «أَتُؤْمِنِينَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ» ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: «فَأَعْتِقْهَا» . 4926- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِجَارِيَةٍ سَوْدَاءَ

(2/605)


أَعْجَمِيَّةٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ عَلَيَّ عِتْقَ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيْنَ اللهُ» ؟ فَأَشَارَتْ إلَى السَّمَاءِ بِأُصْبُعِهَا، فَقَالَ لَهَا: «مَنْ أَنَا» ؟ فَأَشَارَتْ بِأُصْبُعِهَا إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَإِلَى السَّمَاءِ: أَيْ أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، فَقَالَ: ... «أَعْتِقْهَا» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى اسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثَيْنِ عَلَى أَنَّهُ لا يُجْزِئُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إِلا رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ وَإِنْ كَانَتْ الآيَةُ الْوَارِدَةُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لَمْ تَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: حَمَلَ الْجُمْهُورُ الْمُطْلَقْ عَلَى الْمُقَيَّدِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الصَّلاةَ فِي الْمَسْجِدِ الأقْصَى أَجْزَأَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ 4927- عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلاً قَالَ - يَوْمَ الْفَتْحِ -: يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي نَذَرْتُ إنْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ: «صَلِّ هَا هُنَا» . فَسَأَلَهُ فَقَالَ: «صَلِّ هَا هُنَا» . فَسَأَلَهُ فَقَالَ: «شَأْنُكَ إذَنْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4928- وَلَهُمَا عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِهَذَا الْخَبَرِ، وَزَادَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَاَلَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ لَوْ صَلَّيْتَ هَا هُنَا لَقَضَى عَنْك ذَلِكَ كُلَّ صَلاةٍ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ» . 4929- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ امْرَأَةً شَكَتْ شَكْوَى فَقَالَتْ: إنْ شَفَانِي اللهُ فَلأخْرُجَنَّ فَلأُصَلِّيَنَّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَبَرِأَتْ ثُمَّ تَجَهَّزَتْ تُرِيدُ الْخُرُوجَ. فَجَاءَتْ مَيْمُونَةُ تُسَلِّمُ عَلَيْهَا، فَأَخْبَرَتْهَا بِذَلِكَ، فَقَالَتْ: اجْلِسِي فَكُلِي مَا صَنَعْتِ وَصَلِّي فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ... «صَلاةٌ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إِلا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4930- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:

(2/606)


«صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا أَبَا دَاوُد. 4931- وَلأحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مِثْلُهُ، وَزَادَ: «وَصَلاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ» . 4932- وَكَذَلِكَ لأحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَزَادَ: «وَصَلاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلاةٍ فِي هَذَا» . 4933- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلا إلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدُ الأقْصَى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 4934- وَلِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ: «إنَّمَا يُسَافَرُ إلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «صَلِّ هَا هُنَا» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ بِصَلاةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نَحْوَهُمَا فِي مَكَانٍ لَيْسَ بِأَفْضَلَ مِنْ مَكَانِ النَّاذِرِ فَإِنَّهُ لا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِإِيقَاعِ الْمَنْذُورِ بِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ. بَابٌ قَضَاءُ كُلِّ الْمَنْذُورَاتِ عَنْ الْمَيِّتِ 4935- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ - رضي الله عنه - اسْتَفْتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ لَمْ تَقْضِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اقْضِهِ عَنْهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَةً جَعَلَتْ أُمُّهَا عَلَى نَفْسِهَا صَلاةً بِقُبَاءَ يَعْنِي ثُمَّ مَاتَتْ، فَقَالَ: «صَلِّي عَنْهَا» . قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَجَاءَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ خِلافُ ذَلِكَ. فَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: إنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: لا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ. قَالَ الْحَافِظُ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِحَمْلِ الإِثْبَاتِ فِي حَقِّ مَنْ مَاتَ وَالنَّفْيُ فِي حَقِّ الْحَيِّ. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ مَالِيٌّ فَإِنَّهُ يَجِبُ قَضَاؤُهُ مِنْ رَأْسِ

(2/607)


مَالِهِ وَإِنْ لَمْ يُوصِ إِلا إنْ وَقَعَ النَّذْرُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فَيَكُونُ مِنْ الثُّلُثِ. انْتَهَى مُلَخْصًا.

(2/608)


 كِتَابُ الأقْضِيَةِ وَالأحْكَامِ

بَابُ وُجُوبِ نَصْبِ وِلايَةِ الْقَضَاءِ وَالإِمَارَةِ وَغَيْرِهِمَا 4936- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَحِلُّ لِثَلاثَةٍ يَكُونُونَ بِفَلاةٍ مِنْ الأرْضِ إِلا أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4937- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا خَرَجَ ثَلاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4938- وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ لِكُلِّ عَدَدٍ بَلَغَ ثَلاثَةً فَصَاعِدًا أَنْ يُؤَمِّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ لأنَّ فِي ذَلِكَ السَّلامَةَ مِنْ الْخِلافِ، إلَى أن قَالَ: فَشَرْعِيَّتُهُ لِعَدَدٍ أَكْثَرَ يَسْكُنُونَ الْقُرَى وَالأمْصَارَ وَيَحْتَاجُونَ لِدَفْعِ التَّظَالُمِ وَفَصْلِ التَّخَاصُمِ أَوْلَى وَأَحْرَى. بَابُ كَرَاهِيَةِ الْحِرْصِ عَلَى الْوِلايَةِ وَطَلَبِهَا 4939- عَنْ أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه - قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَا وَرَجُلانِ مِنْ بَنِي عَمِّي، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللهِ أَمِّرْنَا عَلَى بَعْضِ مَا وَلاكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: «إنَّا وَاَللَّهِ لا نُوَلِّي هَذَا الْعَمَلَ أَحَدًا يَسْأَلُهُ أَوْ أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ» . 4940- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:

(2/609)


«يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لا تَسْأَلْ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 4941- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَأَلَ الْقَضَاءَ وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ جُبِرَ عَلَيْهِ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا النَّسَائِيّ. 4942- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ، وَبِئْسَت الْفَاطِمَةُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. 4943- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ طَلَبَ قَضَاءَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَنَالَهُ ثُمَّ غَلَبَ عَدْلُهُ جَوْرَهُ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ غَلَبَ جَوْرُهُ عَدْلَهُ فَلَهُ النَّارُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَدْ حُمِلَ عَلَى مَا إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «أَوْ أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ» بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ لا يُوَلِّي مَنْ يَسْأَلُ الْوِلايَةَ أَنَّهُ يُوَكَّلُ إلَيْهَا وَلا يَكُونُ مَعَهُ إعَانَةٌ لأنَّ فِيهِ تُهْمَةً. قَوْلُهُ: «ثُمَّ غَلَبَ عَدْلُهُ جَوْرَهُ» أَيْ كَانَ عَدْلُهُ فِي حُكْمِهِ أَكْثَرَ مِنْ ظُلْمِهِ. إلى أن قال: ولا معارضة َبَيْنَ حَدِيث أَنَسٍ وعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ لأن حَدِيث عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِيهِ أَنَّ مَنْ أُعْطِيَ الإِمَارَةَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِينَ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ فِيهِ نُزُولُ الْمَلَكِ لِلتَّسْدِيدِ. وَحَدِيثُ أَنَسٍ فِيهِ أَنَّ مَنْ أُجْبِرَ نَزَلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ. انْتَهَى ملخصًا. بَابٌ التَّشْدِيدُ فِي الْوِلايَةِ وَمَا يُخْشَى عَلَى مَنْ لَمْ يَقُمْ بِحَقِّهَا دُونَ الْقَائِمِ بِهِ 4944 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ جُعِلَ قَاضِيًا بَيْنَ النَّاسِ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا النَّسَائِيّ. 4945 - وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ حَكَمٍ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ إِلا حُبِسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَلَكٌ آخِذٌ بِقَفَاهُ حَتَّى يَقِفَهُ عَلَى جَهَنَّمَ، ثُمَّ يَرْفَعُ

(2/610)


رَأْسَهُ إلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ قَالَ: أَلْقِهِ، أَلْقَاهُ فِي مَهْوًى فَهَوَى أَرْبَعِينَ خَرِيفًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ بِمَعْنَاهُ. 4946- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «وَيْلٌ لِلأمَرَاءِ، وَيْلٌ لِلْعُرَفَاءِ وَيْلٌ لِلأمَنَاءِ، لَيَتَمَنَّيَنَّ أَقْوَامٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ ذَوَائِبَهُمْ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالثُّرَيَّا يَتَذَبْذَبُونَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَكُونُوا عَمِلُوا عَلَى شَيْءٍ» . 4947 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَتَأْتِيَنَّ عَلَى الْقَاضِي الْعَدْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَاعَةٌ يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي تَمْرَةٍ قَطُّ» . 4948- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَلِيَ أَمْرَ عَشَرَةٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلا أَتَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدُهُ إلَى عُنُقِهِ فَكَّهُ بِرُّهُ، أَوْ أَوْبَقَهُ إثْمُهُ، أَوَّلُهَا مَلامَةٌ، وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ، وَآخِرُهَا خِزْيٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . 4949- وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ أَمِيرِ عَشَرَةٍ إِلا جِيءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولَةٌ يَدُهُ إلَى عُنُقِهِ، حَتَّى يُطْلِقَهُ الْحَقُّ أَوْ يُوبِقَهُ، وَمَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ أَجْذَمُ» . رَوَاهُنَّ أَحْمَدُ. 4950 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يَجُرْ فَإِذَا جَارَ وَكِلَهُ اللهُ إلَى نَفْسِهِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. 4951- وَفِي لَفْظٍ: «إِنَّ اللهُ مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يَجُرْ، فَإِذَا جَارَ تَخَلَّى عَنْهُ وَلَزِمَهُ الشَّيْطَانُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. 4952- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ - وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ - الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» قَالَ ابْنُ الصَّلاحِ: الْمُرَادُ ذُبِحَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لأنَّهُ بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا إنْ رَشَدَ وَبَيْنَ عَذَابِ الآخِرَةِ إنْ فَسَدَ. قال الشارح: والحديث وارد في ترهيب القضاة،

(2/611)


وقد ورد في ترغيب القضاء: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ، وَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ» إلى أن قال: وَلَكِنَّ هَذِهِ التَّرْغِيبَاتِ إنَّمَا هِيَ فِي حَقِّ الْقَاضِي الْعَادِلِ الَّذِي لَمْ يَسْأَل الْقَضَاءَ وَلا اسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِالشُّفَعَاءِ، وَكَانَ لَدَيْهِ مِنْ الْعِلْمِ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مَا يَعْرِفُ بِهِ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ. إلى أن قَالَ: وَقَدْ كَثُرَ التَّتَابُعُ مِنْ الْجَهَلَةِ فِي هَذَا الْمَنْصِبِ الشَّرِيفِ وَاشْتَرَوْهُ بِالأمْوَالِ مِمَّنْ هُوَ أَجْهَلُ مِنْهُمْ حَتَّى عَمَّتْ الْبَلْوَى. قَوْلُهُ: «وَيْلٌ لِلْعُرَفَاءِ» جَمْعُ عَرِيفٍ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَهُوَ الْقَيِّمُ بِأُمُورِ الْقَبِيلَةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ النَّاسِ، يَلِيَ أُمُورَهُمْ وَيَتَعَرَّفُ الأمِيرُ مِنْهُ أَحْوَالَهُمْ. وَسَبَبُ الْوَعِيدِ لَهَذِهِ الطَّوَائِفِ الثَّلاثِ - وَهُمْ الأمَرَاءُ وَالْعُرَفَاءُ وَالأمَنَاءُ - أَنَّهُمْ يَقْبَلُونَ وَيُطَاعُونَ فِيمَا يَأْتُونَ بِهِ فَإِذَا جَارُوا عَلَى الرَّعَايَا جَارُوا وَهُمْ قَادِرُونَ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَشْدِيدِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِمْ؛ لأنَّ حَقَّ شُكْرِ النِّعْمَةِ الَّتِي امْتَازُوا بِهَا عَلَى غَيْرِهِمْ أَنْ يَعْدِلُوا وَيَسْتَعْمِلُوا الشَّفَقَةَ وَالرَّأْفَةَ. انْتَهَى مُلَخْصًا. بَابُ الْمَنْعِ مِنْ وِلايَةِ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ وَمَنْ لا يُحْسِنُ الْقَضَاءَ أَوْ يَضْعُفُ عَنْ الْقِيَامِ بِحَقِّهِ 4953- عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى قَالَ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. 4954- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ رَأْسِ السَّبْعِينَ وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4955- وَعَنْ بُرَيْدَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْقُضَاةُ ثَلاثَةٌ: وَاحِدٌ فِي ... الْجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ وَجَارَ فِي حُكْمِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَأَبُو دَاوُد. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْقَاضِي رَجُلاً. 4956- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَفْتَى بِفُتْيَا غَيْرِ ثَبْتٍ

(2/612)


فَإِنَّمَا إثْمُهُ عَلَى الَّذِي أَفْتَاهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. 4957- وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ أَفْتَى بِفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إثْمُ ذَلِكَ عَلَى الَّذِي أَفْتَاهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4958- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ إنِّي أَرَاك ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ إلَيْكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ» . 4959- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبَيَّ، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ إنَّك ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. 4960- وَعَنْ أُمِّ الْحُصَيْنِ الأحْمَسِيَّةِ أَنَّهَا سَمِعْتَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ... «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا الْبُخَارِيَّ وَأَبَا دَاوُد. 4961 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اُسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. وَهَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ وِلايَةِ الْحُكْمِ أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ عَبْدًا. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ» إلَى آخره فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْوِلايَاتِ وَلا يَحِلُّ لِقَوْمٍ تَوْلِيَتُهَا لأنَّ تَجَنُّبَ الأمْرِ الْمُوجِبِ لِعَدَمِ الْفَلاحِ وَاجِبٌ. قَوْلُهُ: «وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ قَاضِيًا، قَالَ فِي الْبَحْرِ: إجْمَاعًا وَأَمَرَهُ - صلى الله عليه وسلم - بِالتَّعَوُّذِ مِنْ رَأْسِ السَّبْعِينَ لَعَلَّهُ لِمَا ظَهَرَ فِيهَا مِنْ الْفِتَنِ الْعَظِيمَةِ، مِنْهَا قَتْلُ الْحُسَيْنِ - رضي الله عنه - وَوَقْعَةُ الْحَرَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَقَعَ فِي عَشْرِ السَّبْعِينَ. قَوْلُهُ: «الْقُضَاةُ ثَلاثَةٌ» إلَى آخِرُه فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَعْظَمُ وَازِعٍ لِلْجَهَلَةِ

(2/613)


عَنْ الدُّخُولِ فِي هَذَا الْمَنْصِبِ الَّذِي يَنْتَهِي بِالْجَاهِلِ وَالْجَائِرِ إلَى النَّارِ. قَوْلُهُ: «أَرَاك ضَعِيفًا» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ ضَعِيفًا لا يَصْلُحُ لِتَوَلِّي الْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. قَوْلُهُ: «لا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ» إلَى آخِرُهُ فِيهِ إرْشَادٌ لِلْعِبَادِ إلَى تَرْكِ تَحَمُّلِ أَعْبَاءِ الإِمَارَةِ مَعَ الضَّعْفِ عَنْ الْقِيَامِ بِحَقِّهَا مِنْ أَيِّ جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ. بَابُ تَعْلِيقِ الْوِلايَةِ بِالشَّرْطِ 4962- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَمَّرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَقَالَ: «إنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 4963- وَلأحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ نَحْوُهُ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ بِالْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ الْوِلايَاتِ بِالشَّرْطِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَلا أَعْرِفُ الآنَ دَلِيلاً يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ تَعْلِيقِ الْوِلايَةِ بِالشَّرْطِ، فَلَعَلَّ خِلافَ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ مُسْتَنِدٌ إلَى قَاعِدَةٍ فِقْهِيَّةٍ كَمَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ. بَابُ نَهْيِ الْحَاكِمِ عَنْ الرِّشْوَةِ وَاِتِّخَاذِ حَاجِبٍ لِبَابِهِ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ 4964- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. 4965- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. 4966- وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ، يَعْنِي الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 4967- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَا مِنْ

(2/614)


إمَامٍ أَوْ وَالٍ يَغْلِقُ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْخَلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ إِلا أَغْلَقَ اللهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ دُونَ خَلَّتِهِ وَحَاجَتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَالَ ابْنُ رَسْلانَ: وَيَدْخُلُ فِي إطْلاقِ الرِّشْوَةِ، الرِّشْوَةِ لِلْحَاكِمِ وَالْعَامِلِ عَلَى أَخْذِ الصَّدَقَاتِ وَهِيَ حَرَامٌ بِالإِجْمَاعِ. وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ: الْقَاضِي إذَا أَخَذَ الْهَدِيَّةَ فَقَدْ أَكَلَ السُّحْتَ، وَإِذَا أَخَذَ الرِّشْوَةَ بَلَغَتْ بِهِ الْكُفْرَ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْهَدَايَا الَّتِي تُهْدَى لِلْقُضَاةِ وَنَحْوِهِمْ هِيَ نَوْعٌ مِنْ الرِّشْوَةِ؛ لأنَّ الْمُهْدِيَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُعْتَادًا لِلإِهْدَاءِ إلَى الْقَاضِي قَبْلَ وِلايَتِهِ لا يُهْدِي إلَيْهِ إِلا لِغَرَضٍ، وَهُوَ إمَّا التَّقَوِّي بِهِ عَلَى بَاطِلِهِ، أَوْ التَّوَصُّلُ لِهَدِيَّتِهِ لَهُ إلَى حَقِّهِ، وَالْكُلُّ حَرَامٌ وَأَقَلُّ الأحْوَالِ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا لِقُرْبِهِ مِنْ الْحَاكِمِ وَتَعْظِيمِهِ وَنُفُوذِ كَلامِهِ، وَلا غَرَضَ لَهُ بِذَلِكَ إِلا الاسْتِطَالَةَ عَلَى خُصُومِهِ أَوْ الأمْنَ مِنْ مُطَالَبَتِهِمْ لَهُ فَيَحْتَشِمُهُ مَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْهِ وَيَخَافُهُ مَنْ لا يَخَافُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الأغْرَاضُ كُلُّهَا تَئُولُ إلَى مَا آلَتْ إلَيْهِ الرِّشْوَةُ. فَلْيَحْذَرْ الْحَاكِمُ الْمُتَحَفِّظُ لِدِينِهِ الْمُسْتَعِدُّ لِلْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ مِنْ قَبُولِ هَدَايَا مَنْ أَهْدَى إلَيْهِ بَعْدَ تَوَلِّيهِ لِلْقَضَاءِ، فَإِنَّ لِلإِحْسَانِ تَأْثِيرًا فِي طَبْعِ الإِنْسَانِ، وَالْقُلُوبُ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهَا، فَرُبَّمَا مَالَتْ نَفْسُهُ وهو لا يَشْعُرُ بِذَلِكَ. انْتَهَى مُلَخْصًا. قَوْلُهُ: «وَالْخَلَّةُ» فِي النِّهَايَةِ: الْخَلَّةُ بِالْفَتْحِ: الْحَاجَةُ وَالْفَقْرُ فَيَكُونُ الْعَطْفُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَحِلُّ احْتِجَابُ أُولِي الأمْرِ عَنْ أَهْلِ الْحَاجَاتِ، إلَى أن قال: وَمِنْ الْعَدْلِ وَالتَّثَبُّتِ فِي الْحُكْمِ أَنْ لا يُدْخِلَ الْحَاكِمُ جَمِيعَ مَنْ كَانَ بِبَابِهِ مِنْ الْمُتَخَاصِمِينَ إلَى مَجْلِسِ حُكْمِهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً إذَا كَانُوا جَمْعًا كَثِيرًا، بَلْ يَجْعَلُ بِبَابِهِ مَنْ يُرَقِّمُ الْوَاصِلِينَ مِنْ الْخُصُومِ الأوَّلَ فَالأوَّلَ، ثُمَّ يَدْعُوهُمْ إلَى مَجْلِسِ حُكْمِهِ كُلَّ خَصْمَيْنِ عَلَى حِدَةٍ. انْتَهَى مُلَخْصًا. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ الأسْبَقِ فَالأسْبَقِ وَالْمُسَافِرِ عَلَى الْمُقِيمِ، وَلاسِيَّمَا إنْ خَشِيَ فَوَاتَ الرُّفْقَةِ، وَأَنَّ مَنْ اتَّخَذَ بَوَّابًا أَوْ حَاجِبًا أَنْ يَتَّخِذَهُ أَمِينًا ثِقَةً عَفِيفًا عَارِفًا حَسَنَ الأخْلاقِ عَارِفًا بِمَقَادِيرِ النَّاسِ. انْتَهَى والله الْمُوَفِق.

(2/615)


بَابُ مَا يَلْزَمُ اعْتِمَادُهُ فِي أَمَانَةِ الْوُكَلاءِ وَالأعْوَانِ 4968- عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ - وَهُوَ يَعْلَمُ - لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللهِ حَتَّى يَنْزِعَ» . 4969- وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِظُلْمٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللهِ» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. 4970 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: إنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ كَانَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرُطِ مِنْ الأمِيرِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللهِ» هَذَا ذَمٌّ شَدِيدٌ لَهُ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ الْمُخَاصَمَةُ فِي بَاطِلٍ. وَالثَّانِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، فَإِنْ اخْتَلَّ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ فَلا وَعِيدَ، وَإِنْ كَانَ الأوْلَى تَرْكَ الْمُخَاصَمَةِ مَا وَجَدَ إلَيْهِ سَبِيلاً. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ إذَا رَأَى مُخَاصِمًا أَوْ مُعِينًا عَلَى خُصُومَةٍ بِتِلْكَ الصِّفَةِ أَنْ يَزْجُرَهُ وَيَرْدَعَهُ لِيَنْتَهِيَ عَنْ غَيِّهِ. قَوْلُهُ: (بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرُطِ) زَادَ التِّرْمِذِيُّ (لِمَا يَلِي مِنْ أُمُورِهِ) وَقَدْ تَرْجَمَ ابْنُ حِبَّانَ لِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: احْتِرَازُ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْمُشْرِكِينَ فِي مَجْلِسِهِ إذَا دَخَلُوا. وَالشُّرُطُ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ وَالنِّسْبَةُ إلَيْهَا شُرُطِيٌّ بِضَمَّتَيْنِ، وَقَدْ يُفْتَحُ الرَّاءُ فِيهِمَا: أعَوَانُ الأمِيرِ، وَالْمُرَادُ بِصَاحِبِ الشُّرُطِ كَبِيرُهُمْ. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ اتِّخَاذِ الأعْوَانِ لِدَفْعِ مَا يَرِدُ عَلَى الإِمَامِ وَالْحَاكِمِ انْتَهَى مُلَخْصًا. بَابُ النَّهْيِ عَنْ الْحُكْمِ فِي حَالِ الْغَضَبِ إِلا أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا لا يُشْغِلُ 4971- عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لا يَقْضِيَنَّ حَاكِمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانٌ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 4972- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلاً مِنْ الأنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ، فَقَالَ

(2/616)


الأنْصَارِيُّ: سَرِّحْ الْمَاءَ يَمُرُّ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاخْتَصَمَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِلزُّبَيْرِ: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ إلَى جَاركِ» . فَغَضِبَ الأنْصَارِيُّ ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ لِلزُّبَيْرِ: ... «اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الْجَدْرِ» . فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاَللَّهِ إنِّي لا أَحْسِبُ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ إِلا فِي ذَلِكَ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} . الآيَةَ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. 4973- لَكِنَّهُ لِلْخَمْسَةِ إِلا النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَنْ أَبِيهِ. 4974- وَلِلْبُخَارِيِّ فِي رِوَايَةٍ قَالَ: خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلاً وَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَزَادَ: فَاسْتَوْعَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَئِذٍ لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَدْ أَشَارَ عَلَى الزُّبَيْرِ بِرَأْيٍ فِيهِ سَعَةٌ لَهُ وَلَلأنْصَارِيِّ، فَلَمَّا أَحْفَظَ الأنْصَارِيُّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَوْعَى لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ. قَالَ عُرْوَةُ: قَالَ الزُّبَيْرُ: فَوَاَللَّهِ مَا أَحْسَبُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ إِلا فِي ذَلِكَ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} . 4975- رَوَاهُ أَحْمَدُ كَذَلِكَ لَكِنْ قَالَ: عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ الزُّبَيْرَ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّهُ خَاصَمَ رَجُلاً - وَذَكَرَهُ. جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِهِ. 4976- وَزَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَقَدَّرَتْ الأنْصَارُ وَالنَّاسُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الْجَدْرِ» . فَكَانَ ذَلِكَ إلَى الْكَعْبَيْنِ. وَفِي الْخَبَرِ مِنْ الْفِقْهِ جَوَازُ الشَّفَاعَةِ لِلْخَصْمِ وَالْعَفْوِ عَنْ التَّعْزِيرِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لا يَقْضِيَنَّ» إلَى آخِرِه قَالَ الْمُهَلِّبُ: سَبَبُ هَذَا النَّهْيِ أَنَّ الْحُكْمَ حَالَةَ الْغَضَبِ قَدْ يَتَجَاوَزُ بِالْحَاكِمِ إلَى غَيْرِ الْحَقِّ فَمَنَعَ، وَبِذَلِكَ قَالَ فُقَهَاءُ الأمْصَارِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَعَدَاهُ الْفُقَهَاءُ إلَى كُلِّ مَا يَحْصُلُ بِهِ تَغَيُّرُ الْفِكْرِ كَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ الْمُفْرِطَيْنِ، وَغَلَبَةِ النُّعَاسِ وَسَائِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَلْبُ تَعَلُّقًا يَشْغَلُهُ عَنْ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ فَلَوْ خَالَفَ الْحَاكِمُ فَحَكَمَ فِي حَالِ الْغَضَبِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ يَصِحُّ إنْ صَادَفَ الْحَقَّ. انْتَهَى مُلَخْصًا.

(2/617)


قَوْلُهُ: (فِي شِرَاجٍ) بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَهِيَ مَسَايِلُ النَّخْلِ، وَالشَّجَرُ وَاحِدَتُهَا شَرْجَةٌ. قَوْلُهُ: (سَرِّحْ الْمَاءَ) أَيْ أَرْسِلْهُ. قَوْلُهُ: «ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ» كَانَ هَذَا عَلَى سَبِيل الصُّلْح. قَوْلُهُ: «حَتَّى يَرْجِعَ الْمَاءُ إلَى الْجَدْرِ» بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ الْجِدَارُ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَصْلُ الْحَائِطِ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ «حَتَّى يَبْلُغَ الْمَاءُ الْكَعْبَيْنِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ: (فَاسْتَوْعَى) أَيْ اسْتَوْفَى. قَوْلُهُ: (فَكَانَ ذَلِكَ إلَى الْكَعْبَيْنِ) يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْجَدْرَ يَخْتَلِفُ بِالطُّولِ وَالْقِصَرِ قَاسُوا مَا وَقَعَتْ فِيهِ الْقِصَّةُ فَوَجَدُوهُ يَبْلُغُ الْكَعْبَيْنِ فَجَعَلُوا ذَلِكَ مِعْيَارَ الِاسْتِحْقَاقِ الأوَّلَ فَالأوَّلَ، وَالْمُرَادُ بِالأوَّلِ هُنَا مَنْ يَكُونُ مَبْدَأُ الْمَاءِ مِنْ نَاحِيَتِهِ. بَابُ جُلُوسِ الْخَصْمَيْنِ بَيْنَ يَدَيْ الْحَاكِمِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا 4977- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ الْخَصْمَيْنِ يَقْعُدَانِ بَيْنَ يَدَيْ الْحَاكِمِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. 4978- وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَا عَلِيُّ إذَا جَلَسَ إلَيْكَ الْخَصْمَانِ فَلا تَقْضِ بَيْنَهُمَا حَتَّى تَسْمَعَ مِنْ الآخَرِ كَمَا سَمِعْتَ مِنْ الأوَّلِ، فَإِنَّكَ إذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ لَكَ الْقَضَاءُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «أَنَّ الْخَصْمَيْنِ يَقْعُدَانِ» إلى آخِرِه هَذَا فِيهِ دَلِيلٌ لِمَشْرُوعِيَّةِ قُعُودِ الْخَصْمَيْنِ بَيْنَ يَدَيْ الْحَاكِمِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ أَيْضًا مَشْرُوعِيَّةُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ. وَرَوَى أَبُو يَعْلَى وَالدَّارَقُطْنِيّ والطبراني مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ «مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَعْدِلْ بَيْنَهُمْ فِي لَحْظِهِ

(2/618)


وَإِشَارَتِهِ وَمَقْعَدِهِ وَمَجْلِسِهِ. وَلا يَرْفَعْ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَا لا يَرْفَعُ عَلَى الآخَرِ» . وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ جَلَسَ بِجَنْبِ شُرَيْحٍ فِي خُصُومَةٍ لَهُ مَعَ يَهُودِيٍّ فَقَالَ: لَوْ كَانَ خَصْمِي مُسْلِمًا جَلَسْتُ مَعَهُ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لا تُسَاوُوهُمْ فِي الْمَجَالِسِ» . أَخْرَجَهُ الْحَاكِمِ. انْتَهَى مُلَخْصًا. بَابُ مُلازَمَةِ الْغَرِيمِ إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَإِعْدَاءِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ 4979 - عَنْ هِرْمَاسِ بْنِ حَبِيبٍ - رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ - عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِغَرِيمٍ لِي، فَقَالَ لِي: «الْزَمْهُ» . ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا أَخَا بَنِي تَمِيمٍ مَا تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ بِأَسِيرِكَ» ؟ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 4980- وَابْنُ مَاجَةْ وَقَالَ فِيهِ: ثُمَّ مَرَّ بِي آخِرَ النَّهَارِ فَقَالَ: «مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ يَا أَخَا بَنِي تَمِيمٍ» ؟ وَقَالَ فِي سَنَدِهِ: عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ. 4981- وَعَنْ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الأسْلَمِيِّ أَنَّهُ كَانَ لِيَهُودِيٍّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إنَّ لِي عَلَى هَذَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَقَدْ غَلَبَنِي عَلَيْهَا، فَقَالَ: «أَعْطِهِ حَقَّهُ» . قَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا. قَالَ: «أَعْطِهِ حَقَّهُ» . قَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا، قَدْ أَخْبَرْتُهُ أَنَّكَ تَبْعَثُنَا إلَى خَيْبَرَ، فَأَرْجُو أَنْ يُغَنِّمنَا الله شَيْئًا فَأَرْجِعُ فَأَقْضِيَهُ، قَالَ: «أُعْطِهِ حَقَّهُ» . قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَالَ ثَلاثًا لَمْ يُرَاجَعْ، فَخَرَجَ بِهِ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ إلَى السُّوقِ وَعَلَى رَأْسِهِ عِصَابَةٌ وَهُوَ مُتَّزِرٌ بِبُرْدَةٍ، فَنَزَعَ الْعِمَامَةَ عَنْ رَأْسِهِ فَاتَّزَرَ بِهَا، وَنَزَعَ الْبُرْدَةَ ثُمَّ قَالَ: اشْتَرِ مِنِّي هَذِهِ الْبُرْدَةَ، فَبَاعَهَا مِنْهُ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ، فَمَرَّتْ عَجُوزٌ فَقَالَتْ: مَا لَكَ يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَهَا، فَقَالَتْ: هَا دُونَكَ هَذَا الْبُرْدَ عَلَيْهَا طَرَحَتْهُ عَلَيْهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَفِيهِ أَنَّ الْحَاكِمَ يُكَرِّرُ عَلَى النَّاكِلِ وَغَيْرِهِ ثَلاثًا. 4982- وَمِثْلُهُ مَا رَوَى أَنَسٌ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلاثًا، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاثًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

(2/619)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «الْزَمْهُ» بِفَتْحِ الزَّايِ، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مُلازَمَةِ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ بَعْدَ تَقَرُّرِهِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، إلَى أنْ قَالَ: وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمُلازَمَةِ بَلْ فِيهِ التَّشْدِيدُ عَلَى الْمَدْيُونِ بِإِيجَابِ الْقَضَاءِ وَعَدَمِ قَبُولِ دَعْوَاهُ الإِعْسَارَ لِمُجَرَّدِهَا مِنْ دُونِ بَيِّنَةٍ وَعَدَمِ الاعْتِدَادِ بِيَمِينِهِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْمَالِ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا. بَابُ الْحَاكِمِ يَشْفَعُ لِلْخَصْمِ وَيَسْتَوْضِعُ لَهُ 4983- عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهُمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى: «يَا كَعْبُ» . قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا» . وَأَوْمَأَ إلَيْهِ: أَيْ الشَّطْرَ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «قُمْ فَاقْضِهِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا التِّرْمِذِيَّ. وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ جَوَازُ الْحُكْمِ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنَّ مَنْ قِيلَ: لَهُ: بِعْ، أَوْ: هَبْ، أَوْ: أَبِرَّ، فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُ، وَأَنَّ الإِيمَاءَ الْمَفْهُومَ يَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْمُرَادُ بِهَذَا الأمْرِ الْوَاقِعِ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - الإِرْشَادُ إلَى الصُّلْحِ وَالشَّفَاعَةِ فِي تَرْكِ بَعْضِ الدَّيْنِ، وَفِيهِ فَضِيلَةُ الصُّلْحِ وَحُسْنُ التَّوَسُّطِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ. قَوْلُهُ: «قُمْ فَاقْضِهِ» قِيلَ: هَذَا أَمْرٌ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ لأنَّ رَبَّ الدَّيْنِ لَمَّا طَاوَعَ بِوَضْعِ الشَّطْرِ تَعَيَّنَ عَلَى الْمَدْيُونِ أَنْ يُعَجِّلَ إلَيْهِ دَيْنَهُ لِئَلا يَجْمَعَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بَيْنَ الْوَضِيعَةِ وَالْمُطُلِ. بَابُ إنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا لا بَاطِنًا 4984 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي بِنَحْوٍ

(2/620)


مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ مَنْ لَمْ يَرَ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِعِلْمِهِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ» الْبَشَرُ يُطْلَقُ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَالْوَاحِدِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مِنْهُمْ، أَتَى بِهِ رَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَنْ كَانَ رَسُولاً فَإِنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ غَيْبٍ حَتَّى لا يَخْفَى عَلَيْهِ الْمَظْلُومُ مِنْ الظَّالِمِ. قَوْلُهُ: «أَلْحَنَ» : أَيْ أَبْلَغُ. قَوْلُهُ: «فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ» أَيْ لِلَّذِي قَضَيْت لَهُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ إذَا كَانَ فِي الْبَاطِنِ لا يَسْتَحِقُّهُ فَهُوَ عَلَيْهِ حَرَامٌ يَئُولُ بِهِ إلَى أَهْلِ النَّارِ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى إثْمِ مَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ، وَأَنَّ مَنْ احْتَالَ لأمْرٍ بَاطِلٍ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْحِيَلِ حَتَّى يَصِيرَ حَقًّا فِي الظَّاهِرِ وَيُحْكَمُ لَهُ بِهِ أَنَّهُ لا يَحِلُّ لَهُ تَنَاوُلُهُ وَلا يَرْتَفِعُ عَنْهُ الإِثْمُ. وَقَدْ حَكَى الشَّافِعِيُّ الإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لا يُحَلِّلُ الْحَرَامَ. وَفِيهِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا أَخْطَأَ لا يَلْحَقُهُ إثْمٌ بَلْ يُؤْجَرُ أَنَّه - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْضِي بِالاجْتِهَادِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْءٌ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ لا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ. وَسَيَأْتِي الْكَلامُ عَلَى ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. انْتَهَى مُلَخْصًا. بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي تَرْجَمَةِ الْوَاحِدِ 4985 - فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَهُ فَتَعَلَّمَ كِتَابَ الْيَهُودِ وَقَالَ: حَتَّى كَتَبْتُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كُتُبَهُ وَأَقْرَأْتُهُ كُتُبَهُمْ إذَا كَتَبُوا إلَيْهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: مَاذَا تَقُولُ هَذِهِ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَاطِبٍ، فَقُلْتُ: نُخْبِرُكَ بِاَلَّذِي صَنَعَ بِهَا قَالَ: وَقَالَ أَبُو جَمْرَةَ: كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ تَرْجَمَةِ وَاحِدٍ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجَازَ الأكْثَرُ تَرْجَمَةَ وَاحِدٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ كَالْبَيِّنَةِ. وَقَالَ

(2/621)


الْكَرْمَانِيُّ: لا نِزَاعَ لأحَدٍ أَنَّهُ يَكْفِي تُرْجُمَانٌ وَاحِدٌ عِنْدَ الإِخْبَارِ، وَأَنَّهُ لا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ التِّينِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ: لا يُتَرْجِمُ إِلا حُرٌّ عَدْلٌ. وَإِذَا أَقَرَّ الْمُتَرْجِمُ بِشَيْءٍ وَجَبَ أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ مِنْهُ شَاهِدَانِ وَيَرْفَعَانِ ذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ. انْتَهَى مُلَخْصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَيُقْبَلُ فِي التَّرْجَمَةِ وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالتَّعْرِيفِ وَالرِّسَالَةِ قَوْلُ عَدْلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ رُوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدٍ. بَابُ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ 4986- عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. 4987- وَفِي رِوَايَةٍ لأحْمَدَ: إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الأمْوَالِ. 4988- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ. 4989، 4990- وَلأحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عُمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ وَحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ مِثْلُهُ. 4991- وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَيَمِينِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَقَضَى بِهِ عَلِيٌّ - رضي الله عنه - بِالْعِرَاقِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ. 4992- وَعَنْ رَبِيعَةَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَزَادَ: قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسُهَيْلٍ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي رَبِيعَةُ - وَهُوَ عِنْدِي ثِقَةٌ - أَنِّي حَدَّثْتُهُ إيَّاهُ وَلا أَحْفَظُهُ. قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: وَقَدْ كَانَ أَصَابَ سُهَيْلاً عِلَّةٌ أَذْهَبَتْ بَعْضَ عَقْلِهِ وَنَسِيَ بَعْضَ حَدِيثِهِ فَكَانَ سُهَيْلٌ بَعْدُ يُحَدِّثُهُ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ. 4993- وَعَنْ سَرَّقْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَجَازَ شَهَادَةَ الرَّجُلِ، وَيَمِينَ الطَّالِبِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ.

(2/622)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَقَالُوا: يَجُوزُ الْحُكْمُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا «قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ فِي الْحَقِّ بِشَاهِدَيْنِ، فَإِنْ جَاءَ بِشَاهِدَيْنِ أَخَذَ حَقَّهُ وَإِنْ جَاءَ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ لا يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ لأنَّهُ لا يَمْنَعُ أَنْ يَجُوزَ أَقَلُّ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ. انْتَهَى مُلَخْصًا. بَابُ مَا جَاءَ فِي امْتِنَاعِ الْحَاكِمِ مِنْ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ 4994- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ أَبَا جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ مُصَدِّقًا، فَلاحَهُ رَجُلٌ فِي صَدَقَتِهِ، فَضَرَبَهُ أَبُو جَهْمٍ فَشَجَّهُ فَأَتَوْا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: الْقَوَدَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: «لَكُمْ كَذَا وَكَذَا» . فَلَمْ يَرْضَوْا، فَقَالَ: «لَكُمْ كَذَا وَكَذَا» . فَرَضُوا، فَقَالَ: «إنِّي خَاطِبٌ عَلَى النَّاسِ وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ» قَالُوا: نَعَمْ. فَخَطَبَ فَقَالَ: «إنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَتَوْنِي يُرِيدُونَ الْقَوَدَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِمْ كَذَا وَكَذَا فَرَضُوا أَفَرَضِيتُمْ» ؟ قَالُوا: لا، فَهَمَّ الْمُهَاجِرُونَ بِهِمْ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَكُفُّوا عَنْهُمْ فَكَفُّوا، ثُمَّ دَعَاهُمْ فَزَادَهُمْ، فَقَالَ: «أَفَرَضِيتُمْ» ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «إنِّي خَاطِبٌ عَلَى النَّاسِ وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ» ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَخَطَبَ فَقَالَ: «أَرَضِيتُمْ» ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا التِّرْمِذِيَّ. 4995 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ بِالْجِعْرَانَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٌ وَفِي ثَوْبِ بِلالٍ فِضَّةٌ، وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْبِضُ مِنْهَا يُعْطِي النَّاسَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ، فَقَالَ: «وَيْلَكَ فَمَنْ يَعْدِلُ إذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ لَقَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ» . فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللهِ أَقْتُلُ هَذَا الْمُنَافِقَ، فَقَالَ: «مَعَاذَ اللهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي، إنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلاً عَلَى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ مَا أَخَذْتُهُ وَلا دَعَوْتُ لَهُ أَحَدًا حَتَّى يَكُونَ مَعِي غَيْرِي. حَكَاهُ أَحْمَدُ.

(2/623)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي جَوَازِ الْقَضَاءِ مِنْ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْلا قُضَاةُ السُّوءِ لَقُلْت: إنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ. قَالَ الشَّارِحُ: حَدِيثَ عَائِشَةَ لَيْسَ فِيهِ إِلا مُجَرَّدُ وُقُوعِ الإِخْبَارِ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - بِمَا وَقَعَ بِهِ الرِّضَا مِنْ الطَّالِبِينَ لِلْقَوَدِ وَإِنْ كَانَ الاحْتِجَاجُ بِعَدَمِ الْقَضَاءِ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِمْ بِمَا رَضُوا بِهِ الْمَرَّةَ الأولَى فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُطَالِبٌ لَهُ بِالْحُكْمِ عَلَيْهِمْ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ لا يَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ. إلَى أنْ قَالَ: وَلا رَيْبَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ لأنَّ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ لا تَبْلُغُ إلَى مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ عَنْ الْمُشَاهَدَةِ. انْتَهَى مُلَخْصًا. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابِ مَنْ رَأَى لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ في أمر الناسِ إذا لم يخف الظنون والتهمة كما قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِهند «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» . وذلك إذا كان أمر مشهور. قَالَ الْحَافِظُ: أشار إلى قول أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ بأن للقاضي أن يحكم بعلمه في حقوق الناس، وليس له أن يقضي بعلمه في حقوق الله كالحدود، لأنها مبنية على المسامحة، إلى أن قال: وَقَالَ الْكَرَابِيسِيُّ: الذي عندي أن شرط جواز الحكم بالعلم أن يكون الحاكم مشهورًا بالصلاح والعفاف والصدق، ولم يعرف بكبير زلة ولم يؤخذ عليه خربة، بحيث تكون أسباب التقى فيه موجودة وأسباب التهم فيه مفقودة. بَابُ مَنْ لا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ 4996- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلا خَائِنَةٍ وَلا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ، وَلا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَانِعِ لأهْلِ الْبَيْتِ» . وَالْقَانِعُ الَّذِي يُنْفِقُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْبَيْتِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ: «شَهَادَةُ الْخَائِنِ وَالْخَائِنَةِ» . إلَى آخِرِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَفْسِيرَ الْقَانِعِ. 4997- وَلأبِي دَاوُد فِي رِوَايَةٍ: «لا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلا خَائِنَةٍ، وَلا زَانٍ وَلا زَانِيَةٍ، وَلا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ» . 4998 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لا تَجُوزُ شَهَادَةُ بِدَوِيٍّ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ.

(2/624)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلا خَائِنَةٍ» . صرح أبو عبيدة بأن الخيانة تكون في حقوق الله كما تكون في حقوق الناس. قَوْلُهُ: «وَلا ذِي غِمْرٍ» قَالَ أَبُو دَاوُد: الْغِمْرُ: الْحِنَةُ وَالشَّحْنَاءُ، وَالْحِنَةُ: الْحِقْدُ وَالشَّحْنَاءُ: الْعَدَاوَةُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَدَاوَةَ تَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ لأنَّهَا تُوَرِّثُ التُّهْمَةَ. قَالَ فِي الْبَحْرِ: الْعَدَاوَةُ لأجْلِ الدِّينَ لا تَمْنَعُ. قَوْلُهُ: «وَلا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَانِعِ لأهْلِ الْبَيْتِ» هُوَ الْخَادِمُ الْمُنْقَطِعُ إلَى الْخِدْمَةِ فَلا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِلتُّهْمَةِ بِجَلْبِ النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ. قَوْلُهُ: «وَلا زَانٍ وَلا زَانِيَةٍ» الْمَانِعُ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا الْفِسْقُ الصَّرِيحُ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَاخْتُلِفَ فِي شَهَادَةِ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَالْعَكْسُ، وَشَهَادَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لَلآخَرِ، وَلا رَيْبَ أَنَّ الْقَرَابَةَ وَالزَّوْجِيَّةَ مَظِنَّةٌ لَلتُّهْمَةِ لأنَّ الْغَالِبَ فِيهِمَا الْمُحَابَاةُ وَحَدِيثُ «وَلا ظَنِينٍ» يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْمُتَّهَمِ، فَمَنْ كَانَ مَعْرُوفًا مِنْ الْقَرَابَةِ وَنَحْوِهِمْ بِمَتَانَةِ الدِّينِ الْبَالِغَةِ إلَى حَدٍّ لا يُؤَثِّرُ مَعَهَا مَحَبَّةُ الْقَرَابَةِ فَقَدْ زَالَتْ حِينَئِذٍ مَظِنَّةُ التُّهْمَةِ وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَالْوَاجِبُ عَدَمُ الْقَبُولِ لِشَهَادَتِهِ لأنَّهُ مَظِنَّةٌ لِلتُّهْمَةِ. انْتَهَى مُلَخْصًا. قَوْلُهُ: «لا تَجُوزُ شَهَادَةُ بَدَوِيٍّ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ» قَالَ فِي النِّهَايَةِ: إنَّمَا كَرِهَ شَهَادَةَ الْبَدَوِيِّ لَمَا فِيهِ مِنْ الْجَفَاءِ فِي الدِّينِ وَالْجَهَالَةِ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَلأنَّهُمْ فِي الْغَالِبِ لا يَضْبِطُونَ الشَّهَادَةَ عَلَى وَجْهِهَا وَذَهَبَ إلَى الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ جَمَاعَةٌ وَذَهَبَ الأكْثَرُ إلَى الْقَبُولِ. قَالَ ابْنُ رَسْلانَ: وَحَمَلُوا هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى مَنْ لَمْ تُعْرَفْ عَدَالَتُهُ مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ. انْتَهَى مُلَخْصًا. بَابُ مَا جَاءَ فِي شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ 4999- عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلاً مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بِدَقُوقَا هَذِهِ وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُشْهِدُهُ عَلَى وَصِيَّتِهِ، فَأَشْهَدَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَدِمَا الْكُوفَةَ فَأَتَيَا الأشْعَرِيَّ -يَعْنِي أَبَا مُوسَى- فَأَخْبَرَاهُ وَقَدِمَا بِتَرِكَتِهِ وَوَصِيَّتِهِ. فَقَالَ الأشْعَرِيُّ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَحْلِفْهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ مَا خَانَا وَلا كَذَبَا وَلا بَدَّلا وَلا

(2/625)


كَتَمَا وَلا غَيَّرَا، وَإِنَّهَا لَوَصِيَّةُ الرَّجُلِ وَتَرِكَتُهُ فَأَمْضَى شَهَادَتَهُمَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ بِمَعْنَاهُ. وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: دَخَلْت عَلَى عَائِشَةِ فَقَالَتْ: هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ؟ قُلْت: نَعَمْ، قَالَتْ: فَإِنَّهَا آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَلالٍ فَأُحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. 5000- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءَ، فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَلَمَّا قَدِمُوا بِتَرِكَتِهِ فَقَدُوا جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا بِالذَّهَبِ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ وَجَدَ الْجَامَ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: ابْتَعْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءَ، فَقَامَ رَجُلانِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ فَحَلَفَا: لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا، وَأنَّ الْجَامَ لَصَاحِبِهِمْ، قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَقَدُوا جَامًا) بِالْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ: أَيْ إنَاءً وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ وَخَصَّ جَمَاعَةٌ الْقَبُولَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَبِالْوَصِيَّةِ وَبِفَقْدِ الْمُسْلِمِ حِينَئِذٍ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الأئِمَّةِ إلَى أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} وَاحْتَجُّوا بِالإِجْمَاعِ عَلَى رَدِّ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ، وَالْكَافِرُ شَرٌّ مِنْ الْفَاسِقِ وَأَجَابَ الأوَّلُونَ أَنَّ النَّسْخَ لا يَثْبُتُ بِالاحْتِمَالِ وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِنْ إلْغَاءِ أَحَدِهِمَا وَبِأَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَأَنَّهَا مُحْكَمَةٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ أَنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَنْ مَاتَ مُسَافِرًا وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْكَرَ أَحْمَدُ عَلَى مَنْ قَالَ إنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ. وَذَهَبَ الْكَرَابِيسِيُّ وَالطَّبَرِيُّ وَآخَرُونَ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهَادَةِ فِي الآيَةِ الْيَمِينُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكَافِرْ عَلَى الْمُسْلِمْ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُه، وَهُوَ مَذْهَبْ أَحْمَد، وَلا تَعْتَبِرْ عَدَالَتَهُم، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَحْلِفَهُمْ بِسَبَب حَقّ اللهِ، وَلَوْ حَكَمَ حَاكِمْ بِخِلافِ آيَةِ الْوِصَايَةُ لَنَقَضَ حُكْمُه فَإِنَّهُ خَالَفَ نَصُّ الْكِتَاب بِتَأْوِيلات سَمِجَةْ. وَقَوْلُ أَحْمَد: أَقْبَلُ شِهَادَةَ أَهْل

(2/626)


الذِّمَّة إِذَا كَانُوا فِي سَفَر لَيْسَ فِيهِ غَيْرِهِمْ هَذِهِ ضَرُورَة يَقْتَضِي هَذَا التَّحْمِيل قُبُولَهَا فِي كُلِّ ضَرُورة حَضَرًا وَسَفَرًا وَصِيَّةً وَغَيْرَهَا وَهُوَ مُتَّجَهٌ كَمَا تُقْبَلُ شِهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ إِذَا اجْتَمَعْنَ فِي الْعُرْسِ وَالْحمام وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْر بن مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ أَحْمَدُ فِي شَهَادَةِ الْكُفَّارِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ضَرُورَة غَيْرَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ رِوَايَتَانِ لَكِنْ التَّحْلِيف هُنَا لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لا تَحْلِيفَ لأنَّهُمْ إِنَّمَا يَحْلِفُونَ حَيْثُ يَكُونُ شِهَادَتَهُمْ بَدَلاً فِي التَّحْمِيلِ، بِخِلاف مَا إِذَا كَانُوا أُصُولاً قَدْ عَمَلُوا مِنْ غَيْرِ تَحْمِيلِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس فِي مَوْضِع آخر: وَلَوْ قِيلَ: تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ مَعْ إِيمَانِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ عدم فِيهِ الْمُسْلِمُونَ لَكَانَ وَجْهًا وَنُكُونُ شِهَادَتَهُمْ بَدَلاً مُطَلَّقًا وَإِذَا قَبِلْنَا شِهَادَةَ الْكُفَّارِ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ فَلا يَعْتَبِرْ كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآن وَتُقْبَلْ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضْ، وَهُوَ رِوَايَةُ عن أَحْمَد اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابَ فِي انْتِصَارُهُ وَمَذْهَبْ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةَ مِن الْعُلَمَاء وَلَوْ قِيلَ إِنَّهُمْ يَحْلِفُونَ مَعَ شَهَادَتِهِمْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض كَمَا يَحْلِفُونَ فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي وَصِيَّةِ السَّفَرِ كَانَ مُتَوَجِّهًا. بَابُ الثَّنَاءِ عَلَى مَنْ أَعْلَمَ صَاحِبَ الْحَقِّ بِشَهَادَةٍ لَهُ عِنْدَهُ وَذَمِّ مَنْ أَدَّى شَهَادَةً مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ 5001- عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ، الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. 5002- وَفِي لَفْظِ: «الَّذِينَ يَبْدَءُونَ بِشَهَادَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْأَلُوا عَنْهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 5003 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» . قَالَ عِمْرَانُ: فَلا أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاثَةً: «ثُمَّ إنَّ مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلا يَسْتَشْهِدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ، وَيُنْذِرُونَ وَلا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ» . مُتَّفِقٌ عَلَيْهِ.

(2/627)


5004- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خَيْرُ أُمَّتِي الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَذَكَرَ الثَّالِثَ أَمْ لا؟ قَالَ: «ثُمَّ يَخْلُفُ بِقَوْمٍ يَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْمُرَاد بِقَرْنِهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي هَذَا الْحَدِيث هُمْ الصَّحَابَة، وَالْمُرَاد بِالَّذِينَ يَلُونَهُمْ التَّابِعُونَ والَّذِينَ يَلُونَهُمْ تَابِعُو التَّابِعِين. قَوْلُهُ: «وَيَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ» يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّحَمُّلُ بِدُونِ تَحْمِيلٍ، أَوْ الأدَاءُ بِدُونِ طَلَبٍ. قَالَ الْحَافِظُ: وَالثَّانِي أَقْرَبُ. وأحاديث الْبَابِ مُتَعَارِضَةٌ. قَالَ الْحَافِظُ: وَأَحْسَنُ الأجْوِبَةِ أنَّ الْمُرَادَ بِحَدِيثِ زَيْدٍ مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لإِنْسَانٍ بِحَقٍّ لا يَعْلَمُ بِهَا صَاحِبُهَا، فَيَأْتِي إلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ بِهَا أَوْ يَمُوتُ صَاحِبُهَا الْعَالِمُ بِهَا وَيَخْلُفُ وَرَثَةً فَيَأْتِي الشَّاهِدُ إلَى وَرَثَتِهِ فَيُعْلِمُهُمْ بِذَلِكَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَخَبَر «يَشْهَدُ وَلا يَسْتَشْهِدُ» مَحْمُولٌ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ وَإِذَا أَدَّى الآدَمِيُّ شِهَادَة قَبْلَ الطَّلَبِ قَامَ بالْوَاجِبِ وَكَانَ أَفْضَلُ كَمَنْ عِنْدَهُ أَمَانَة أَدَّهَا قَبْلَ الْحَاجَةِ وَالْمَسْأَلَةُ. بَابُ التَّشْدِيدِ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ 5005- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْكَبَائِرَ - أَوْ سُئِلَ عَنْ الْكَبَائِرِ - فَقَالَ: «الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» . وَقَالَ: «أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قَوْلُ الزُّورِ» أَوْ قَالَ: «شَهَادَةُ الزُّورِ» . 5006- وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ» ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» . وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ وَقَالَ: «أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ» . فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. 5007- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَنْ تَزُولَ قَدَمُ شَاهِدِ الزُّورِ حَتَّى يُوجِبَ اللهُ لَهُ النَّارَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ) هَذَا يُشْعِرُ

(2/628)


بِاهْتِمَامِهِ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ وَيُفِيدُ ذَلِكَ تَأْكِيدَ تَحْرِيمِهِ وَعَظِيمَ قُبْحِهِ، وَسَبَبُ الاهْتِمَامِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ كَوْنُهَا أَسْهَلَ وُقُوعًا عَلَى النَّاسِ وَالتَّهَاوُنُ بِهَا أَكْثَرُ، فَإِنَّ الإِشْرَاكَ يَنْبُو عَنْهُ قَلْبُ الْمُسْلِمِ، وَالْعُقُوقُ يَصْرِفُ عَنْهُ الطَّبْعَ، وَأَمَّا الزُّورُ فَالْحَوَامِلُ عَلَيْهِ كَثِيرَةٌ كَالْعَدَاوَةِ وَالْحَسَدِ وَغَيْرِهِمَا فَاحْتِيجَ إلَى الاهْتِمَامِ وَقَوْلُ الزُّورِ أَعَمُّ مِنْ شَهَادَةِ الزُّورِ لأنَّهُ يَشْمَلُ كُلَّ زُورٍ مِنْ شَهَادَةٍ أَوْ غَيْبَةٍ أَوْ بُهْتٍ أَوْ كَذِبٍ. قَوْلُهُ: (حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ) أَيْ شَفَقَةً عَلَيْهِ وَكَرَاهِيَةً لَمَا يُزْعِجُهُ. قَوْلُهُ: «حَتَّى يُوجِبَ اللهُ لَهُ النَّارَ» فِي هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِشَاهِدِ الزُّورِ حَيْثُ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَكَانِهِ. بَابُ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ وَالدَّعْوَتَيْنِ 5008- عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا بَعِيرًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبَعَثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشَاهِدَيْنِ، فَقَسَمَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 5009- وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي دَابَّةٍ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ فَجَعَلَهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا التِّرْمِذِيُّ. 5010- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ، فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ فِي الْيَمِينِ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 5011- وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ رَجُلَيْنِ تَدَارَءَا فِي دَابَّةٍ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَسْتَهِمَا عَلَى الْيَمِينِ أَحَبَّا أَوْ كَرِهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ. 5012- وَفِي رِوَايَةٍ: تَدَارَءَا فِي بَيْعٍ. 5013- وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا كَرِهَ الاثَنَانِ الْيَمِينَ أَوْ اسْتَحَبَّاهَا فَلَيَسْتَهِمَا عَلَيْهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَقَسَمَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ) فِيهِ أَنَّهُ لَوْ تَنَازَعَ رَجُلانِ فِي عَيْنِ دَابَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا مِلْكُهُ دُونَ صَاحِبِهِ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ وَكَانَتْ الْعَيْنُ فِي يَدَيْهِمَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مُدَّعٍ فِي

(2/629)


نِصْفٍ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى دَعْوَاهُ تَسَاقَطَتَا وَصَارَتَا كَالْعَدَمِ وَحَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ نِصْفَيْنِ بَيْنَهُمَا لاسْتِوَائِهِمَا فِي الْيَدِ، وَكَذَا إذَا لَمْ يُقِيمَا بَيِّنَةً كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَكَذَا إذَا حَلَفَا أَوْ نَكَلا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ ادَّعَيَا دَابَّةً وَجَدَاهَا عِنْدَ رَجُلٍ، فَأَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا شَاهِدَيْنِ. قَوْلُهُ: «فَلْيَسْتَهِمَا عَلَيْهَا» وَجْهُ الْقُرْعَةِ أَنَّهُ إذَا تَسَاوَى الْخَصْمَانِ فَتَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا بِدُونِ مُرَجِّحٍ لا يَسُوغُ فَلَمْ يَبْقَ إِلا الْمَصِيرُ إلَى مَا فِيهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ وَهُوَ الْقُرْعَةُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مهنا فِي الرَّجُل يُقِيمُ الشُّهُود أَيَسْتَقِم لِلْحَاكِمْ أَنْ يَقُولَ أحْلِف؟ فَقَالَ: قَد فَعَلَ ذَلِكَ عَليَّ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: لِلْحَاكِمِ أَنْ يَفَعَلْ ذَلِكَ إِذَا أَرَادَ مَصْلَحَة لِظُهُور رِيبة فِي الشُّهُود. وَقَالَ أَيْضًا: وَمَنْ بِيَدِهِ عقار فادَّعَى رجُلٌ بِثَبْوَتِهِ عِنْدَ الْحَاكِمْ أَنَّهُ كَانَ لِجِدِّهِ إلَى مَوته ثُمَّ وَرَثَتْهُ وَلَمْ يَثْبَتْ أَنَّهُ مُخَلَّفْ عَنْ مَوْرُثِهِ لا ينزع مِنْهُ بِذَلِكَ لأن أَصْلَيْنِ تَعَارَضَا وَأَسْبَابُ انْتِقَالِهِ أَكْثَرُ مِن الإِرْثِ وَلَمْ تَجُرَّ الْعَادَةِ بِسُكُوتِهِمْ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةِ، وَلَوْ فَتَحَ هَذَا الْبَابَ لانْتزعَ كَثِير مِنْ عِقَارِ النَّاسِ بِهَذَا الطَّرِيقِ. بَابُ اسْتِحْلافِ الْمُنْكِرِ إذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَلْمُدَّعِي الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا 5014- عَنْ الأشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ» . فَقُلْت: إنَّهُ إذَنْ يَحْلِفُ وَلا يُبَالِي، فَقَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ لَمْ يَرَ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ، وَمَنْ رَأَى الْعَهْدَ يَمِينًا. 5015- وَفِي لَفْظٍ: خَاصَمْتُ ابْنَ عَمٍّ لِي إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بِئْرٍ كَانَتْ لِي فِي يَدِهِ فَجَحَدَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «بَيِّنَتُكَ أَنَّهَا بِئْرُكَ وَإِلَّا فَيَمِينُهُ» . قُلْت: مَا لِي بَيِّنَةٌ وَأَنْ يَجْعَلَهَا يَمِينَهُ تَذْهَبُ بِئْرِي إنَّ خَصْمِي امْرُؤٌ فَاجِرٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. 5016- وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ

(2/630)


مِنْ كِنْدَةَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ كَانَتْ لأبِي. فقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِلْحَضْرَمِيِّ: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ» ؟ قَالَ: لا، قَالَ: «فَلَكَ يَمِينُهُ» . فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ الرَّجُلُ فَاجِرٌ لا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: «لَيْسَ لَك مِنْهُ إِلا ذَلِكَ» . فَانْطَلَقَ لَيَحْلِفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا أَدْبَرَ الرَّجُلُ: «أَمَّا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا لَيَلْقَيَنَّ اللهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى عَدَمِ الْمُلازَمَةِ وَالتَّكْفِيلِ وَعَدَمِ رَدِّ الْيَمِينِ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلا ذَلِكَ» فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَجِبُ لِلْغَرِيمِ عَلَى غَرِيمِهِ الْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ، وَلا يَلْزَمُهُ التَّكْفِيلُ وَلا يَحِلُّ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالْمُلازَمَةِ وَلا بِالْحَبْسِ وَلَكِنَّهُ قَدْ وَرَدَ مَا يُخَصِّصُ هَذِهِ الأمُورَ مِنْ عُمُومِ هَذَا النَّفْيِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَبَسَ رَجُلاً فِي تُهْمَةٍ ثُمَّ خَلَّى عَنْهُ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَبَسَ رَجُلاً فِي تُهْمَةٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً اسْتِظْهَارًا وَطَلَبًا لاِظْهَارِ الْحَقِّ بِالاعْتِرَافِ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ عَبْدًا كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، فَحَبَسَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَاعَ غُنَيْمَةً لَهُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَإِذَا كَانَ الْمُدَّعِي بِهِ مِمَّا يعلمُ الْمُدَّعِي عَلَيْهِ فَقَطْ - مِثْلَ أَن يَدَّعِي الْوَرَثَةُ أَوْ الْوَصِي عَلَى غَريم لِلْمَيِّتِ - قَضَى عَلَيْهِ بالنَّكُول وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَعْلَمُهُ الْمُدعِي كالدَّعْوَى عَلَى وَرَثَةِ مَيِّتٍ حَقًّا عَلَيْه يَتَعَلَّق بِتِرْكَتِهِ وَطَلَبَ مِنْ الْمُدَّعِي الْيَمِن عَلى الْبَتاَت فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ لَمْ يَأَخْذْ، وَإِنْ كَانَ كُلّ مِنْهُمَا يَدَّعِي الْعِلْمَ أَوْ طَلَبُ مِن الْمَطْلُوبِ الْيَمِين عَلَى نَفي الْعِلْمِ فَهَا هُنَا يَتَوَجَّهُ الْقَوْلانُ والْقَوْل بِالرَّدِ أَرْجَحَ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْيَمِنَ تُرَدَّ عَلَى جِهَةٍ أَقْوَى الْمُتَداعِيين الْمتَجَاحِدِين. بَابُ اسْتِحْلافِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الأمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَغَيْرِهِمَا 5017 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(2/631)


5018- وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَاسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ الْجُمْهُورُ وَحَمَلُوهُ عَلَى عُمُومِهِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ سَوَاءٌ كَانَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ اخْتِلاطٌ أَمْ لا. قَوْلُهُ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ» إلَى آخره. هَذَا هُوَ وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي جَعْلِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ بِلَفْظِ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» . وَظَاهِرُ أَحَادِيثِ الْبَابِ أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُنْكِرِ وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَمَنْ كَانَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَكِنَّهُ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَ الْبَيِّعَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ فَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الأشْعَثِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إذَا اخْتَلَفَ الْبَيِّعَانِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ فَهُوَ مَا يَقُولُ رَبُّ السِّلْعَةِ أَوْ يَتَتَارَكَانِ» . وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ لا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ بَلْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَقَطْ سَوَاءٌ كَانَ مُدَّعِيًا أَوْ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِاسْتِحْلافِ الْبَائِعِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةٍ فِي الْبَيْعِ، فَمَادَّةُ التَّعَارُضِ حَيْثُ كَانَ الْبَائِعُ مُدَّعِيًا، وَالْوَاجِبُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الرُّجُوعُ إلَى التَّرْجِيحِ، وأحاديث الْبَابِ أَرْجَحُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ مَا يَقُولُهُ الْبَائِعُ مَا لَمْ يَكُنْ مُدَّعِيًا. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ التَّشْدِيدِ فِي الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ 5019- عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْحَارِثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» . فَقَالَ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا؟ قَالَ: «وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَةْ وَالنَّسَائِيُّ. 5020- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

(2/632)


5021 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٌ الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ مِنْ الْكَبَائِرِ الشِّرْكَ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ، وَالْيَمِينَ الْغَمُوسَ، وَمَا حَلَفَ حَالِفٌ بِاَللَّهِ يَمِينَ صَبْرٍ، فَأَدْخَلَ فِيهَا مِثْلَ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ إِلا جَعَلَهُ اللهُ نُكْتَةً فِي قَلْبِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «يَمِينُ صَبْرٍ» . أَيْ أُلْزِمَ بِهَا وَحُبِسَ عَلَيْهَا وَكَانَتْ لازِمَةً لِصَاحِبِهَا مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ. بَابُ الِاكْتِفَاءِ فِي الْيَمِينِ بِالْحَلِفِ بِاَللَّهِ وَجَوَازِ تَغْلِيظِهَا بِاللَّفْظِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ 5022 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ فَلْيَصْدُقْ، وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاَللَّهِ فَلْيَرْضَ وَمَنْ لَمْ يَرْضَ فَلَيْسَ مِنْ اللهِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ. 5023 - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِرَجُلٍ حَلَّفَهُ: «احْلِفْ بِاَللَّهِ الَّذِي لا إلَهَ إِلا هُوَ مَا لَهُ عِنْدِي شَيْءٌ يَعْنِي الْمُدَّعِيَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 5024 - وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ يَعْنِي ابْنَ صُورِيَّا: «أُذَكِّرُكُمْ بِاَللَّهِ الَّذِي نَجَّاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَأَقْطَعَكُمْ الْبَحْرَ، وَظَلَّلَ عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَتَجِدُونَ فِي كِتَابِكُمْ الرَّجْمَ» ؟ قَالَ: ذَكَّرْتَنِي بِعَظِيمٍ وَلا يَسَعُنِي أَنْ أَكْذِبَكَ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. 5025- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَحْلِفُ عِنْدَ هَذَا الْمِنْبَرِ عَبْدٌ وَلا أَمَةٌ عَلَى يَمِينٍ آثِمَةٍ - وَلَوْ عَلَى سِوَاكٍ رَطْبٍ - إِلا أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ» . 5026 - وَعَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَحْلِفُ أَحَدٌ عَلَى مِنْبَرِي كَاذِبًا إِلا تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ. 5027 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمْ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ

(2/633)


مَاءٍ بِالْفَلاةِ يَمْنَعُهُ مِنْ ابْنِ السَّبِيلِ. وَرَجُلٌ بَايَعَ الإِمَامَ لا يُبَايِعُهُ إِلا لِلدُّنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفِيَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ لَمْ يَفِ لَهُ، وَرَجُلٌ بَاعَ سِلْعَةً بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ بِاَللَّهِ لأخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا التِّرْمِذِيُّ. 5028- وَفِي رِوَايَةٍ: «ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمْ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أُعْطِيَ وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «مَنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي مُجَرَّدُ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ دُونِ أَنْ يُضَمَّ إلَيْهِ وَصْفٌ مِنْ أَوْصَافِهِ، وَمِنْ دُونِ تَغْلِيظٍ بِزَمَانٍ أَوْ مَكَان. قَوْلُهُ: «وَأَنْزَلَ عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى» أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمَنَّ هُوَ التَّرَنْجَبِينُ وَهُوَ شَيْءٌ أَبْيَضُ كَالثَّلْجِ، وَالسَّلْوَى: طَيْرٌ يُقَالُ لَهُ السَّمَّانِيّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَغْلِيظِ الْيَمِينِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ. قَوْلُهُ: «بَعْدَ الْعَصْرِ» خَصَّهُ لِشَرَفِهِ وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى جَوَازِ التَّغْلِيظِ عَلَى الْحَالِفِ بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ كَالْحَرَمِ وَالْمَسْجِدِ وَمِنْبَرِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبِالزَّمَانِ كَبَعْدَ الْعَصْرِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الْجُمْهُورُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. بَابُ ذَمِّ مَنْ حَلَفَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَحْلَفَ 5029 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ - رضي الله عنه - بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَقِيَامِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِينَا، قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلا يُسْتَحْلَفُ، وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلا يُسْتَشْهَدُ أَلا لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ

(2/634)


فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ، مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. قَوْلُهُ: «أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبَ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: رَتَّبَ - صلى الله عليه وسلم - فُشُوَّ الْكَذِبِ عَلَى انْقِرَاضِ الثَّالِثِ. فَالْقَرْنُ الَّذِي بَعْدَهُ ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُ إلَى الْقِيَامَةِ قَدْ فَشَا فِيهِمْ الْكَذِبُ بِهَذَا النَّصِّ فَعَلَى الْمُتَيَقِّظِ مِنْ حَاكِمٍ أَوْ عَالِمٍ أَنْ يُبَالِغَ فِي تَعَرُّفِ أَحْوَالِ الشَّهَادَةِ وَالْمُخْبِرِينَ، وَمِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ لَمْ يُقْبَلْ الْمَجْهُولُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَنْقُولِ. وَفِي الْحَدِيثِ التَّوْصِيَةُ بِخَيْرِ الْقُرُونِ وَهُمْ الصَّحَابَةُ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: «لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ» سَبَبُ ذَلِكَ ما جبلا عَلَيْهِ مِنْ شَهْوَةِ النِّكَاحِ، فَيَجِدُ الشَّيْطَانُ السَّبِيلَ فَتَقَعُ الْمَعْصِيَةُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: «بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ» قَالَ فِي النِّهَايَةِ: بُحْبُوحَةُ الدَّارِ وَسَطُهَا، يُقَالُ بَحْبَحَ: إذَا تَمَكَّنَ وَتَوَسَّطَ الْمَنْزِلَ وَالْمَقَامَ وَالْمُرَادُ أَنَّ لُزُومَ الْجَمَاعَةِ سَبَبُ الْكَوْنِ فِي بُحْبُوحَةِ الْجَنَّةِ لأنَّ يَدَ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ إلَى النَّارِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ. قَوْلُهُ: «مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ» إلَى آخره فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السُّرُورَ لأجْلِ الْحَسَنَةِ وَالْحُزْنَ لأجْلِ السَّيِّئَةِ مِنْ خِصَالِ الإِيمَانِ؛ لأنَّ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ لا يُبَالِي أَحْسَنَ أَمْ أَسَاءَ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ صَحِيحَ الإِيمَانِ خَالِصَ الدِّينِ فَإِنَّهُ لا يَزَالُ مِنْ سَيِّئَتِهِ فِي غَمٍّ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِهَا مُحَاسَبٌ عَلَيْهَا، وَلا يَزَالُ مِنْ حَسَنَتِهِ فِي سُرُورٍ لأنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهَا مُدَّخَرَةٌ لَهُ فِي صَحَائِفِهِ فَلا يَزَالُ حَرِيصًا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يُوَفِّقَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ. انْتَهَى وَاللهُ أَعْلَمُ. وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَسْأَلُ اللهَ تَعَالى أَنْ يَجْعَل أَحْسَنَ أَعْمَالِنَا خَواتِيمَهَا وأَبْرَكَ أَيَامِنَا يَوْمَ لِقَائِهِ.

(2/635)


الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِي لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله، لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ. تَمَّ كِتاب بُسْتَانِ الأحْبَار وللهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّة

(2/636)