معنى «لا إلـٰه إلا الله»، وذكر شروطها ونواقضها (⮫)


 معنى «لا إلـٰه إلا الله»، وذكر شروطها ونواقضها

بسم الله الرحمـٰن الرحيم

قال الشيخ سليمان بن سحمان[1] رحمه الله تعالى في بـيان معنى كلمـة الإخلاص «لا إلـٰه إلا الله»:

اعلم رحمك الله أن كلمة الإخلاص «لا إلـٰه إلا الله» هي الكلمة التي قامت بها الأرض والسماوات ، وفطر الله عليها جميع المخلوقات ، وعليها أُسِّست الملة ، ونُصبت القبلة ، ولأجلها جُرِّدت سيوف الجهاد ، وبها أَمر الله جميع العباد ، فهي فطرة الله التي فطر الناس عليها ، ومفتاح عبوديته التي دعا الأمم على ألسُنِ رسله إليها ، وهي كلمة الإسلام ، ومفتاح دار السـلام ، وأساس الفرض والسـنة ، فإذا عرفت هذا ؛ فاعلم أن «لا إلـٰه إلا الله» لا تنفع قائلها إلا بعد معرفة معناها ، والعمل بمقتضاها ، وأنها لا تنفعه إلا بعد الصدق والإخلاص واليقين ، لأن كثيراً ممن يقولها في الدرك الأسفل من النار.

فلابد في شهادة «ألا إلـٰه إلا الله» من اعتقاد بالجنان ، ونطق باللسان ، وعمل بالأركان ، فإن اختل نوع من هذه الأنواع لم يكن الرجل مسلماً ، فإذا كان الرجل مسلماً وعاملاً بالأركان ثم حدث منه قول أو فعل أو اعتقاد يناقض ذلك ؛ لم ينفعه قول «لا إلـٰه إلا الله» ، وأدلة ذلك في الكتاب والسنـة وكلام أئمة الإسلام أكثر من أن تحصر.

وقد أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن قتادة قال: حدثنا أنس بن مالك أن النبي ﷺ‬ - ومعاذ رضي الله عنه رديفه[2] على الرحل - قال: يا معاذ.

قال: لبيك يا رسول الله وسعديك.

قال: يا معاذ.

قال: لبيك يا رسول الله وسعديك ، ثلاثاً.

قال: ما من أحد يشهد «ألا إلـٰه إلا الله ، وأن محمداً رسول الله» صِدقاً من قلبه إلا حرم الله تعالى عليه النار.

قال: يا رسول الله ، أفلا أخبر الناس فيستبشروا؟

قال: إذًا يتكلوا.

فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً.[3]

{قال شيخ الإسلام وغيره في هذا الحديث ونحوه[4] إنها فيمن قالها ومات عليها ، كما جاءت مقيدةً بقوله (خالصاً من قلبه) ، غير شاك فيها ، بصدق ويقين ، فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله تعالى جملةً ، فمن شـهد أن «لا إلـٰه إلا الله» خالصاً من قلبه دخل الجنة ، لأن الإخلاص هو انجـذاب القلب إلى الله تعالى ، بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحاً ، فإذا مات على تـلك الحالة نال ذلك.

فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال «لا إلـٰه إلا الله» وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ، وما يزن خردلة ، وما يزن ذرة.[5]

وتواترت بأن كثيراً ممن يقول «لا إلـٰه إلا الله» يدخل النار ثم يخرج منها ، وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم ، فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون لله ، وتواترت بأن الله يحرم على النار من قال «لا إلـٰه إلا الله» وشهد «ألا إلـٰه إلا الله ، وأن محمداً رسول الله»[6] ، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال[7] ، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص ، وأكثر من يقولها إنما يقولها تقليداً وعادةً ولم يخالط الإيمان بشاشة قلبه ، وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء ، كما في الحديث: (سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته)[8] ، وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليد واقـــتــداء  بأمثالـهم ، وهم من أقرب الناس من قوله تعالى ]إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون[[9].

وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث ، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذا الحال مُصِرًّا على ذنب أصلاً ، فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء ، فإذاً لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله ، ولا كراهة لما أمر الله ، وهذا هو الذي يحرُم على النار ، وإن كانت له ذنوب قبل ذلك فإن هذا الإيمان وهذا الإخلاص وهذه التوبة وهذه المحبة وهذا اليقين لا تترك له ذنبًا إلا محي عنه كما يمحوا الليل النهار.

فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر فهذا غير مصر على ذنب أصلاً ، فيغفر له ويُحرَّم على النار ، وإن قالها على وجه خَلُصَ به من الشرك الأكبر دون الأصغر ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك ؛ فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات ، فيرجَح بها ميزان الحسنات ،

كما في حديث البطاقة[10] ، فيُحرَّم على النار ، ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه ، وهذا بخلاف من رجحت سيئاته بحسناته ، ومات مصراً علـى ذلك ، فإنه يستوجب النار وإن قال «لا إلـٰه إلا الله» وخلص بها من الشرك الأكبر ، لكنـه لم يمت على ذلك ، بل أتى بعد ذلك بسيئات رجحت على حسنة توحيده ، فإنه في حال قولها كان مخلصاً ، لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعـــفته ، وقوِيت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك ، بخلاف الـمخلص المـستيقن ؛ فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته ، ولا يكون مصراً على سـيئات ، فإن مات على ذلك دخل الجنة.

وإنما يُخاف على المخلص أن يأتي بسيئة راجحة فيضعف إيمانه فلا يقولها بإخلاصٍ ويقينٍ مانعٍ من جميع السـيئات ، ويُخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر ، فإن سلم من الأكبر بقي معه من الأصغر ، فيضيف إلى ذلك سيئات تنضم إلى هذا الشرك ، فيرجَح جانب السيئات ، فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين ، فيضعف قول «لا إلـٰه إلا الله» ، فيمتنع الإخلاص بالقلب ، فيصير المتكلم بها كالهاذي أو النائم ، أو من يُحسِّن صوته بآية من القرآن من غير ذوق وحلاوةٍ ، فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصدق واليقين ، بل يأتون بعدها بسيئات تنقص ذلك ، بل يقولونها من غير يقين وصدق ، ويموتون على ذلك ولهم سيئات كثيرة تمنعهم من دخول الجنة ، وإذا كثرت الذنوب ثقل على اللسان قولها ، وقسا القلب عن قولها ، وكرِه العمل الصالح ، وثَــقُلَ عليه سماعُ القرآن ، واستبشر بذكر غيره ، واطمـأن إلى الباطل ، واستحلى الرفث ومخالطة أهـل الباطل ، وكره مخالطة أهل الحق.

فمثل هذا إذا قالها قال بلسانه ما ليس في قلبه ، وبفيه ما لا يُصدِّقه عمله ، قال الحسن: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ، ولكـن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال ، فمن قال خيراً وعمل خيرا قُبِل منه ، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه).[11]

وقال بكر بن عبد الله الـمُزني: ما سبقهم أبو بكر رضي الله عنه بكثرة صيام ولا صلاة ، ولكن بشيء وقر في قلبه.[12]

فمـن قال «لا إلـٰه إلا الله» ولم يقم بموجبها ، بل اكتسب مع ذلك ذنوباً ، وكان صادقاً في قولها ، موقناً بها ، لكن له ذنوب أضعفت صدقه ويقينه ، وانضاف إلى ذلك الشرك الأصغر العملي ؛ رجَحت هذه السيئات على هذه الحسنة ، ومات مصراً على الذنوب ، بخلاف من يقولها بيقين وصدق ، فإنه إما ألا يكون مصراً على سيئة أصلاً ، أو يكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته.

والذي يدخلون النار ممن يقـولها لـم يقولوها بالصدق واليقين التامين المنافيين للسيئات ، أو لرجحانها ، أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت على حسناتهم ، ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم ، ثم لم يقولها بعد ذلك بصدق ويقين تام ، لأن الذنوب قد أضعفت ذلك الصدق واليقين من قلوبهم ، فقولها من مثل هؤلاء لا يقوى على محو السيئات ، فترجح سيئاتهم على حسناتهم. انتهى ملخصاً.[13]

وقال الوزير أبو المظفر في «الإفصاح»:

قـوله: (شهادة أن «لا إلـٰه إلا الله») يقتضى أن يكون الشاهد عالماًُ بأن «لا إلـٰه إلا الله» كما قال تعالى ]فاعلم أنه لا إلـٰه إلا الله[[14].

قال: واسم (الله) مرتفع بعد (إلا) من حيث أنه الواجب له الإلـٰهية ، فلا يستحقها غيره سبحانه.

قال: وجملة الفائدة في ذلك أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ، فإنك لما نفيت الإلـٰهية وأثبت الإيجاب لله تعالى كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله.

وقال في «البدائع» رداً لقول من قال: (إن المستثنى مخرجٌ من المنفي)[15] ، قال:

بل هو مخرجٌ المنفي وحكمه ، فلا يكون داخلاً في المنفي ، إذ لو كان كذلك لم يدخل الرجل في الإسلام بقـوله «لا إلـٰه إلا الله» ، لأنه لم يُثبت الإلـٰهية لله تعالى ، وهذه أعظم كلمة تضمنت نفي الإلـٰهية عما سوى الله ، وإثباتها له بوصف الاختصاص ، فدلالتها على إثبات الإلـٰهية أعظم من دلالة قولنا (الله إلـٰه) ، ولا يستريب أحد في هذا البتة.

انتهى بمعناه.[16]

وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسير «لا إلـٰه إلا الله»:

أي: لا معبود إلا هو.

وقال الزمخشري: الإلـٰه من أسماء الأجناس ، كالرجل والفرس ، اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل ، ثم غلب على المعبود بحق.[17]

قال شيخ الإسلام: فإن الإلـٰه هو المألوه ، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد ، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب ، المخضوع له غاية الخضوع.[18]

قال[19]: (فإن الإلـٰه هو المحبوب المعبـود الذي تألهه القلوب بحبها ، وتخضع له ، وتذل له ، وتخافه ، وترجوه ، وتنيب إليه في شدائدها ، وتدعوه في مُهماتها ، وتتوكل عليه في مصالحها ، وتلجأ إليه ، وتطمئن بذكره ، وتسكن إلى حبه ، وليس ذلك إلا لله وحده.

ولهذا كانت «لا إلـٰه إلا الله» أصدق الكلام ، وكان أهلها أهل الله وحزبه ، والمنكرون لها أعداؤه وأهل غضبه ونقمته.

فهذه المسألة قطب رحى الدين الذي عليه مداره ، وإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق ، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله وأحواله وأقواله).[20]

وقـال ابن القيم: الإلـٰه هو الذي تألهه القلوب محبة وإنابة وإجلالا وإكراما وتعظيما وذلا وخضوعا وخوفا ورجاء وتوكلا.[21]

وقال ابن رجب: الإلـٰه هو الذي يطاع فلا يعصى ، هيبة له وإجلالا ، ومحبة وخوفا ورجاء ، وتوكلا عليه ، وسؤالا منه ودعاء له ، ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل ، فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلـٰهية كان ذلك قدحا في إخلاصه في قول «لا إلـٰه إلا الله» ونقصا في توحيده ، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك.[22]

وقال البِقـاعي: «لا إلـٰه إلا الله» ، أي انتفى انتفاء عظيماً أن يكون معبــوداً بحق غير الـملِكِ الأعظم ، فإن هذا العِـلْم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة ، وإنما يكون عِلْماً إذا كان نافعاً ، وإنما يكون نافعاً إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه ، وإلا فهو جهلٌ صِرف.

وقال الطِّيـبي: الإلـٰه فِعَال بمعنى مفعول ، كالكِتاب بمعنى المكتوب ، مِن ألِه إلـٰهة ، أي عبدَ عبادةً.

قال الشارح[23]: وهذا كثير في كلام العلماء وإجماع منهم.

فدلَّت «لا إلـٰه إلا الله» على نفي العبادة عن كل ما سوى الله تعالى كائنا من كان ، وإثبات الإلـٰهية لله وحده دون ما سواه ، وهذا هو التوحيد الذي دعــت إليه الرســل ، ودل عليــه القرآن من أولــه إلى آخره ، كما قال تعالى عن الجن ]قل أوحي إلى أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجباً * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا[[24].

فــــ «لا إلـٰه إلا الله» لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفياً وإثباتاً ، واعتقد ذلك وقبِله وعمل به ، وأما من قالها عن غير علم واعتقاد وعمل فقد تقدم كلام العلماء أن هذا جهل صِرف ، فهو حجة عليه بلا ريب.

فقوله في الحديث: (وحده لا شريك له) ؛ تأكيد وبيان لمضمون معناها ، وقد أوضح الله عن ذلك وبينه في قصص الأنبياء والمرسلين في كتابه المبين.

فما أجهل عباد القبور بحالهم ، وما أعظم ما وقعوا فيه (من الشرك المنافي لكلمة الإخـلاص «لا إلـٰه إلا الله»)[25] ، فإن مـشركي العرب ونحوهم جـحدوا «لا إلـٰه إلا الله» لفظاً ومعنى ، وهؤلاء المشركون أقروا بها لفظاً وجـحدوها معنى ، فتجد أحدهم يقولها وهو يأله غير الله بأنواع العبادة ، كالحب والتعظيم والخوف والرجاء والتوكل والدعاء وغير ذلك من أنواع العبادة.

بل زاد شركهم على شرك العرب بمراتب ، فإن أكثرهم إذا وقع في شدة أخـلص الدعاء لغير الله تعالى ، ويعتقدون أنه أسرع فرجاً لهم ، بخلاف حال المشركين الأولين ؛ فإنهم يشركون في الرخاء ، وأما في الشدائد فإنهم[26] يخلصون لله وحده ، كما قال تعالى ]فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون[ الآية[27].

فبهذا تبين أن مشركي أهل هذه الأزمان أجهل بالله وبتوحيده من مشركي العرب ومن قبلهم}.

انتهى من «فتح المجيد».[28]

فهذا بعض ما ذكره بعض العلماء في معنى «لا إلـٰه إلا الله» ، وفيه كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

 فصل

 وأما شروطها التي ذكر شيخنا الشيخ عبد الرحمـٰن بن حسن أنه لابد منها في شهادة «ألاَّ إلـٰه إلا الله» ؛ فقال رحمه الله:

لابد في شهادة «ألاّ إلـٰه إلا الله» من سبعة شروط ، لا تنفع قائلها إلا باجتماعها:

 الأول: العلم المنافي للجهل ، فمن لم يعرف المعنى فهو جاهل بمدلولها.

 الثاني: اليقين المنافي للشك ، لأن من الناس من يقولها وهو شاك فيما دلت عليه من معناها.

 الثالث: الإخلاص المنافي للشرك ، فإن لم يخلص أعماله كلها لله فهو مشرك شركاً ينافى الإخلاص.

 الرابع: الصدق المنافي للنفاق ، لأن المنافقين يقولونها ، ولكنه لم يطابق ما قالوه لما يعتقدونه ، فصار قولهم كذباً لمخالفة الظاهر للباطن.

 الخامس: القَبول المنافي للرد ، لأن من الناس من يقولها مع معرفته معناها ، لكن لا يـقـبـل ممن دعاه إليه ، إما كبراً أو حسداً أو غير ذلك من الأسباب المانعة من القبول ، فتجده يعادي أهل الإخلاص ويوالي أهل الشرك ويحبهم.

 السادس: الانقياد المنافي للشرك ، لأن من الناس من يقولها وهو يعرف معناها ، لكنه لا ينقاد للإتيان بحقوقـها ولوازمها من الولاء والبراء والعمل بشرائع الإسلام ، ولا يلائـمه إلا ما وافـق هـواه أو تـحصيل دنياه ، وهذه حال كثير من الناس.

 السابع: المحبة المنافية لضدها.

انتهى ما ذكره الشيخ.

فإذا تبين لك هذا وعرفته ، وتحققت أن «لا إلـٰه إلا الله» هي كلمة الإخلاص ، وهى الفارقة بين الكـفر والإسلام ، وهى كلمــة التقوى ، وهى العــروة الوثقى ؛ فاعلم أن هذه الكلمة نفيٌ وإثبات ؛ نفي الإلـٰهية عما سوى الله من المخلوقات ، وإثباتها لله وحده لا شريك له ، وأنها لا تنفع قائلها إلا باجتماع هذه الشروط التي تقدم ذكرها ، فمن عرف معناها وعمل بمقتضاها وتحقق بها علماً وعملاً واعتقاداً فقد استمسك بالإسلام الذي قال الله فيه ]إن الدين عند الله الإسلام[[29]، وقال ]ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين[[30].

فإذا علمت هذا ؛ فقد ذكر أهل العلم نواقض الإسلام ، وذكر بعضهم أنها قريب من أربعمائة ناقض ، ولكن الذي أجمع عليه العلماء هو ما ذكره شيخ الإسلام ، وعَلم الهداة الأعلام ، الشيخ محمـد بن عبد الوهاب من نواقض الإسلام ، وأنها عشرة ، فقال رحمه الله:

 اعلم أن نواقض الإسلام عشرة نواقض:

 الأول: الشرك في عبادة الله تعالى ، قال الله تعالى )إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء([31] ، )إنه من يشرك بالله فقد حرَّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار([32] ، ومنه الـذبح لغير الله ، كمن يذبح للجن أو للقبر.

 الثاني: من جعل بيـنه وبين الله وسائط يدعوهم ، ويسألهم الشفاعة ، ويتوكل عليهم ؛ كفر إجماعا.

 الثالث: من لم يُكفِّر المشركين ، أو شك في كفـرهم ، أو صحح مذهبهم ؛ كَـــفَــرَ.

 الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي ﷺ‬ أكمل من هديه ، أو أن حُكم غيره أحسن من حكمه ، كالذي يفضل حكم الطواغيت على حـكمه ، فهو كافر.

 الخامس: من أبغض شيئاً مما جاء الرسول ﷺ‬ - ولو عمل به - كَـــفَــرَ.

 السادس: من استهزأ بشيء من دين الرسول ﷺ‬ أو ثواب الله أو عقابه كفر ، والدليل قوله تعالى )قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم([33].

 السابع: السِّحر ، ومنه الصرف والعطف ، فمن فعله أو رضي به كفر ، والدليل قوله تعالى )وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر([34].

 الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين ، والدليل قوله تعالى )ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين([35].

 التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يَــسَــعه الخروج عن شريعة محمد ﷺ‬ كما وَسِع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهو كافر.

 العاشر: الإعراض عن دين الله ، لا يتعلَّمه ولا يعمل به ، والدليل قوله تعالى )ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون([36].

ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره ، وكلها من أعظم ما يكون خطراً ومن أكثر ما يكون وقوعًا ، فينبغي للمسلم أن يحذرها ، ويخاف منها على نفسه ، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه. انتهى.[37]



[1] هو الشيخ سليمان بن سحمان بن مصلح من آل عامر من قبيلة خثعم ، ولد في قرية السُّقا من بلدان أبها ، درس على الشيخ عبد الرحمـٰن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ، ودرس كذلك على ابنه عبد اللطيف بن عبد الرحمـٰن بن حسن ، ولازمهما عشر سنوات ، ودرس كذلك على الشيخ حمد بن عتيق سبعة عشر سنة ، كما درس على الشيخ حمد بن فارس ، ألف كتبا كثيرة تقرب من الأربعين كتابا ، وله أشعار كثيرة ، فقد كان أديبا بارعا ، وشاعرا خرِّيتا ، سخر لسانه للدفاع عن عقيدة أهل السنة ، له دواوين في الدفاع عن الإسلام ، رد على قريب من خمسين ضالا بشعره ، فكان بحق «حسَّان السنة» في زمانه.

توفي رحمه الله سنة 1349 هجري ، وله من العمر ثمانين عاما.

ذُكِر أنه لما خرجت روحه شموا من جسده رائحة مسك طيبة لم يعهدوا مثلها.

انظر ترجمته في «تذكرة أولي النهى والعرفان بأيام الله الواحد الديان» ، حوادث سنة 1349 هجري ، للشيخ إبراهيم بن عبيد آل عبد المحسـن رحمه الله ، وكذا كتاب «ابن سحمان ، تاريخ حياته ، وعلمه ، وتحقيق شعره» ، لمحمد بن حمد العقيل ، الناشر: مكتبة الرشد - الرياض.

[2] أي راكب خلفه على الدابة.

[3] رواه البخاري (128).

ومعنى قوله (إذا يتَّكلوا) أي لا تخبرهم فيعتمدوا على مجرد النطق بها دون تحقيق معناها ، ففعل معاذ ذلك ولم يخبر بالحديث ، ولكن لما دنا أجله أخبر بالحديث خشية الوقوع في إثم كتمان العلم.

[4] من هنا نقل صاحب الرسالة كلاما طويلا من «فتح المجيد» إلى حين شروعه في شرح شروط «لا إلـٰه إلا الله» في آخر الرسالة ، وانظر نهاية القوس.

[5] انظر صحيح البخاري (7510) ، وابن حبان (14/400) ، وأبو يعلى (2889 ، 2927 ، 2955) ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

[6] انظر صحيح البخاري (6573) ، وابن حبان (16/450) ، وأحمد (2/275) ، وأبو يعلى (11/241) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[7] وهي المعروفة بشروط «لا إلـٰه إلا الله» وهي العلم والقبول والإخلاص والمحبة والانقياد واليقين والصدق والكفر بما ينافيها ، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله.

[8] رواه البخاري (86) ، ومسلم (905) عن أسماء رضي الله عنها.

[9] سورة الزخرف: 23 .

[10] روى الترمذي (2639) ، واللفظ له ، وابن ماجه (4300) ، وأحمد (2/213) ، وابن حبان (225) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله ﷺ‬ : إن الله سيُـخلِّص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا ، كل سجل مثل مد البصر ، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كــتَــبَــتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب. فيقول: أَفَــلَــكَ عذر؟ فيقول: لا يا رب. فيقول: (بلى ، إن لك عنـدنا حسنة ، فإنه لا ظلم عليك اليوم) ، فتخرج بطاقة فيها «أشهد أن لا إلـٰه إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» ، فيقول: أحضِر وزنك. فيقول: يا رب ، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تظلم. قال: فتوضع السجلات في كفة ، والبطاقة في كفة ، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ، فلا يثقل مع اسم الله شيء.

صححه الألباني كما في «صحيح الترمذي».

[11] روى الإمام أبو بكر البيهقي رحمه الله في «شعب الإيمان» (1/80) بإسناده عن الحسن البصري قال:

ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال. من قال حسنا وعمل غير صالح رده الله على قوله ، ومن قال حسنا وعمل صالحا رفعه العمل ، ذلك بأن الله تعالى قال )إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه(.

ثم قال البيهقي رحمه الله: وقد رُوينا أيضا قولنا في الإيمان عن محمد بن الحنفية وعطاء بن أبي رباح والحسن وبن سيرين وعبيد بن عمير ووهب بن منبه وحبيب بن أبي ثابت وغيرهم من أئمة المسلمين ؛ الأوزاعي ومالك وسفيان بن عيينة والفضيل بن عياض والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي ومحمد بن إسماعيل البخاري وغيرهم رحمهم الله.

ورواه أحمد في «الزهد» (1/263) إلى قوله: بالتمني.

[12] قال الغزالي في «إحياء علوم الدين» (1/23): أخرجه الترمذي الحكيم في «نوادر الأصول» من قول أبي بكر بن عبد الله المزني ، ولم أجده مرفوعا.

وكذا قال العراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» (1/23) رقم (73).

وللفائدة فقد روى البيهقي في «شعب الإيمان» (10891) عن الفضيل في عياض قال: لم يدرك عندنا من أدرك بكثرة صيام ولا صلاة ، وإنما أدرك بسخاء الأنفس وسلامة الصدر والنصح للأمة.

وروى عبد الله بن أحمد بن حنبل رحمهما الله في كتاب «السنة» برقم (805) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم.

وحسنه محققه الشيخ أحمد بن علي الرداعي حفظه الله.

ورواه البيهقي في «شعب الإيمان» (36) ، والخلال في «السنة» (1134) ، وصححه السخاوي في «المقاصد الحسنة» (908).

[13] تم ضبط كلام شيخ الإسلام من «فتح المجيد» ، للشيخ عبد الرحمـٰن بن حسن ، باب «فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب».

[14] سورة محمد: 19 .

[15] الكلام على كلمة التوحيد «لا إلـٰه إلا الله» ، ويعني بالمستثنى (الله) ، ويعني بالمنفي (إلـٰه) ، وقائل هذه العبارة يعني أن الله غير مستثنى من الآلهة المعبودة ، وابن القيم رد عليه بأن الله مستثنى منها ، فهو إلـٰه حق ، وغيره آلهة باطلة.

[16] تم ضبطه من «بدائع الفوائد» (3/925-926) ، الناشر: دار عالم الفوائد - مكة.

[17] «الكشاف» (1/36) ، الناشر: دار الفكر - بيروت.

[18] «مجموع الفتاوى» (10/249) ، وقد ضبطت النص منه.

وقال أيضا (13/202): والإلـٰه هو المألوه ، أي المستحق لأن يؤلَه أي يعبد ، ولا يستحق أن يؤله ويعبد إلا الله وحده ، وكل معبود سواه من لدن عرشه إلى قرار أرضه باطل.

[19] القائل هو ابن القيم رحمه الله في «طريق الهجرتين» ، انظر ص 695 ، تحقيق محمد أجمل الإصلاحي ، الناشر: دار عالم الفوائد – مكة.

[20] انتهى.

[21] «إغاثة اللهفان» ، ص 72 ، تحقيق علي بن حسن بن عبد الحميد ، الناشر: دار ابن الجوزي – الدمام.

[22] «كلمة الإخلاص» ص 25 ، الناشر: دار الشريف – الرياض.

ومما قاله رحمه الله في تحقيق كلمة التوحيد:

وتحقيق هذا المعنى وإيضاحه أن قول العبد «لا إلـٰه إلا الله» يقتضي أن لا إلـٰه له غير الله. (ص 25).

تنبيه: أدخل المؤلف رحمه الله – تبعا لمن نقل عنه وهو الشيخ عبد الرحمـٰن بن حسن مؤلف «فتح المجيد» - كلام ابن القيم مع كلام ابن رجب في فقرة واحدة على أنها من كلام ابن القيم ، وقد ضبطت النص وعزوته لكل واحد منهما ، والله أعلم.

[23] يقصد بذلك الشيخ سليمان بن عبد الله ، شارح كتاب «التوحيد».

[24] سورة الجن: 1- 2 .

[25] هذه ساقطة من المطبوع من «فتح المجيد» ، وهو مثبت في «الدرر».

[26] في «فتح المجيد»: إنما ، والمثبت من «الدرر».

[27] سورة العنكبوت: 65 .

[28] ينبغي التنبه إلى أن بداية النقل من «فتح المجيد» كان في أول هذه الرسالة ، بعد حديث معاذ.

[29] سورة آل عمران: 19 .

[30] سورة آل عمران: 85 .

[31] سورة النساء: 48 .

[32] سورة المائدة: 72 .

[33] سورة التوبة: 65 - 66 .

[34] سورة البقرة: 102 .

[35] سورة المائدة: 51 .

[36] سورة السجدة: 22 .

[37] انتهى كلام الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله ، وهو مثبت في «الدرر السنية من الأجوبة النجدية» (2/350-362) ، وقد ضبطت متن «نواقض الإسلام» من «مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب» (1/385 – 387).