الخطبة الأولى
الحمد لله قاصم الجبابرة قهرًا، وكاسر الأكاسرة جبرًا، أحمده وقد أوسع للمذنبين عفوًا، وأجزل للمُطيعين أجرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له آهَت الألسن بحمده شكرًا، ولهَجَت به تسبيحًا وذكرًا، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله وصفيه وخليله، من صلى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً تترَى وسلامًا يبقى.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
خيرُ العطا: الإيمان والتقى، ولا بأس بالغنى لمن اتقى، والصحة لمن اتقى خيرٌ من الغنى، وما قلَّ وكفى خيرٌ مما كثُر وألهى، وما يُغني عن الظالم الثَّرَى، وما يُغني عنه ماله إذا تردَّى؛ ليس الغِنى عن كثرةِ العَرَض، ولكنَّ غنى النفس هو الغنى، ومن اشتدَّ حرص أو شك وقصه، ومن مدَّ عينيه إلى ما ليس في يديه أسرعت الخيبة إليه، وتمكَّنَت الحزونة عليه، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قد أفلح من أسلم ورُزِقَ كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه»؛ أخرجه مسلم.
أيها المسلمون:
من قواعد المعاملات وأسس المعاوضات وأركان التبادلات والبياعات التي تُبْنى عليها جُلُّ الأحكام، ويعتمد عليها كل الحكام: قولُ الملكِ العلَّام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء: 29 ].
وأخو المسلم كنفسه في الحرمة لا يجوز أن يأكل ماله بما حرم في الشرع تعاطيه، أو بباطنٍ لا فائدة فيه؛ لأن أخوة الدين تقتضيه، وشفقة الآدمية تستدعيه؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كلُّ المسلم على المسلم حرامٌ دمه وعِرضُه ومالُه»؛ أخرجه مسلم.
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين باع العدَّاء عبدًا أو أمةً كتب له: «هذا ما اشترى العدَّاء بن خالد بن هودة من محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشترى منه عبدًا أو أمةً لا داء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم للمسلم»؛ أخرجه البخاري معلقًا، ووصله الترمذي والنسائي وابن ماجه.
لا داء ولا غائلة ولا خِبثة: لا عيب يُكتم، ولا فجور ولا حيلة تتلف مالَ المشتري، ولا خديعة ولا خِلابة، بيع المسلم للمسلم الذي يستشعر الإقساط، ويتقي الإشتاط.
أيها المسلمون:
لقد سلك الجِشاع وأهل الأطماع طرقًا من المكر والغدر والخداع للسيطرة على أموال الضعفاء، والاستحواذ على حقوق الفقراء، واستغلال الرعاع والدهماء الذين أخنَعَتهم الحاجة، واضطرتهم الفاقة، وحملهم حسن الظن، وابتغاء الفضل والرزق للوقوع في الشَّرَك المنصوب، والشبك المضروب، حتى إذا انكشف الغطاء، وانكشط الغشاء ظهرت أمارات الغدر، ولوامح المخاتنة، حرصٌ بلا عِفَّة، ورغبةٌ بلا مخافة، تُروَّج عقود، وتُضرَب وعود، لا تُجارى في العرض والتسويق، ولا تُبارى في التمويه والتشويق، بأساليبَ ماكرة، ومسالكَ فاجرة، لاتعدو أن تكون حُبْلة مُتلفة، ومكيدة مهلكة، وسلبًا ونهبًا باسم المساهمة والاتجار، والعقار والاستثمار، والتوفير والادّخار، ولن يعدمك من اللئيم خلابة، وصدق رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم -: «ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا يبالي المرء بمَ أخذ المال أمِنْ حلالٍ أم من حرام؟»؛ أخرجه البخاري.
وعن كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما ذِئبان جائعان أُرسِلا في غَنَمٍ بأفسدَ لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه»؛ أخرجه أحمد والترمذي.
فيا مَنْ باع دينَه بحفنة من المال، يا مَنْ أكل أموال الناس بالباطل وطرقِ المكر والاحتيال! تذكَّرْ يومَ العرض والأهوال، تذكَّر يوم الوقوف بين يدي الكبيرِ المُتعال، تذكَّر يوم لا ينفع الثرى ولا الأموال، تذكَّر يوم تُصفَّد بالسلاسل والأغلال، ولكلِّ غادرٍ لواءٌ يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان، فيا حسرةَ من اشترى النار وغضبَ الجبار بمتاع رخيص يضمحل، ويزول ويحول.
فعن كعب بن عُجْرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يربو لحمٌ نبَتَ من سُحْت إلا كانت النارُ أولى به»؛ أخرجه الترمذي.
فيا من رَبَى لحمه على عظمه بمكاسبِ الميسر والقمار، وحلوان الكهنة والسحرة، والعرافين والمشعوذين، وكسب البغايا والقَيْنات، وأثمانِ ما حرم بيعه من الدخان والشيشة، والخمور والمخدرات، وأطباق القنوات والسرقة والخلسة والغصوب، وجحد الحقوق وكتمان العيوب، والتلاعُب بأثمان السلع والغِشّ والنَّجْش، والتطفيف في المكاييل والموازين، وصفقات الربا الخاسرة بزياداته الظالمة، ومضاعفاته الفاحشة، وأكل أموال اليتامى، والتعدِّي على أموال الأوقاف والوصايا، وما يُدْفع في دروب المُراشاة والمُحاباة، عالَم مشحون بالجشع والطمع، والمكر والخدع، والأنانية وروح النفعية، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فو اللهِ ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُبْسَط الدنيا عليكم كما بُسِطت على من قبلكم، فتنافَسُوها كما تنافَسُوها، فتُهلِكَكم كما أهلكتهم»؛ متفق عليه.
أيها المسلمون:
آكلُ الحرام مطرودٌ ودعاؤه مردود؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ذكر الرجل يطيل السفر، أشعثَ أغبرَ، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعَمُه حرام، ومشرَبُه حرام، وملبَسُه حرام، وغُذِي بالحرام فأنَّى يُستجابُ لذلك؟»؛ أخرجه مسلم.
يا مَن أمِنتمُ الحسابَ والعقاب! إنَّ من ورائكم قضاءً وقصاصًا، وتدقيقًا وحسابًا، وتكريرًا وسؤالًا وعقابًا؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتدرون من المُفلِس؟». قالوا: المُفلِس فينا من لا درهمَ له ولا متاع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن المُفلِس من أمتي مَنْ يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دم هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيتْ حسناتُه قبل أن يُقضى ما عليه أُخِذ من خطاياهم فطُرِحَت عليه، ثم طُرِح في النار»؛ أخرجه مسلم.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفَعَني وإياكم بما فيهما من البيِّنات والحكمة، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله وراقِبوه، وأطيعوه ولا تعصوه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102 ].
يا مَنْ حَلَفَ اليمين الغموس، يا مَنْ أقسَمَ بالمحرجة العموس، قد حلَّت بك الخيبة والخسار، والذلة والقلة والبوار، يا من ضيَّعتم الحقوق بشهادة الزور، وأدلَيتُم بأقوال كذبٍ وفجور، ويلكم يوم يُنفخ في الصور، ويلكم يوم يُبعثَر ما في القبور، ويلكم يوم يحصَّل ما في الصدور، فعن أبي بَكْرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عيه وسلم -: «ألا أُنبِّئُكم بأكبر الكبائر؟». قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراكُ بالله، وعقوق الوالدين - وكان مُتكئًا فجلس فقال -: ألا وقول الزور»، فما زال يُكرِّرها حتى قلنا: ليته سكت؛ متفق عليه.
يا مانعي العمال أجورَهم، ويا باخِسي الأُجراء حقوقَهم، نُزِعت الشفقة من قلوبكم؟ وغارَت الرحمة من صدوركم؟ حتى أكَلتُم حق كسير وحسير، وملهوف وفقير، ومهيض وأجير، أرضَّ التعب منه العرق، له زوجة ترِنّ، وطفلٌ يحِنّ، ومريضٌ يئِنّ؛ فتبًّا لكم أيها الظالمون، تبًّا لكم أيها الظالمون، وسُحْقًا لكم أيها الجائرون، وبُعدًا لكم أيها الماكرون؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: «قال الله - تعالى -: ثلاثةٌ أنا خصمُهم يوم القيامة: رجلٌ أعطَى بي ثم غَدَرَ، ورجل باع حُرًّا فأكل ثَمَنَه، ورجلٌ استأجَر أجيرًا فاستوفَى منه ولم يُعطِه أجرَه»؛ أخرجه البخاري.
فيا عبد الله:
لا تكن ممن ظَلَمَ وألهَدَ، وجارَ وألحَدَ، ولاتَ وألدّ؛ فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أعطوا الأجيرَ أجرَه قبل أن يجِفَّ عرقُه»؛ أخرجه ابن ماجه، «هم إخوانكم وخَوَلكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليُطعِمه مما يأكل، وليُلبِسه مما يلبس، ولا تُكلِّفوهم ما يغلبهم فإن كلَّفتموهم فأعِينوهم»؛ متفق عليه.
أيها المسلمون:
عِفَّةٌ في طعمة واكتساب، قليلٌ من حلة ذخيرةٌ ليس لها نفاد، وبركة تتضاعف وتزداد، فكونوا ممن يسْتَمِعَُ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعَُ أَحْسَنَهُ: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [الزمر: 18 ].
وصلُّوا وسلِّموا على النبي المصطفى، والرسول المُجتَبى، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة أصحاب السنة المُتَّبعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الآل والصحابة أجمعين، وعنَّا معهم بمَنِّك وكرمك وجودك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مُطمئنًا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم وفِّق إمامَنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، ووفِّق جميعَ ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -.
اللهم طهِّر المسجد الأقصى من رجس يهود، اللهم طهِّر المسجد الأقصى من رجس يهود، اللهم طهِّر المسجد الأقصى من رجس يهود، اللهم إن اليهود قد طغَوا وبغَوا، وأسرفوا وأفسدوا واعتدوا، اللهم زلزلِ الأرضَ من تحت أقدامهم، وألقِ الرعب في قلوبهم، اللهم أنزِل عليهم عذابَك ورجزَك وسخطك إله الحق يا رب العالمين.
اللهم اشفِ مرضانا، اللهم اشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وفُكَّ أسرانا، وارحَم موتانا، وانصُرنا على من عادانا يا قويُّ يا عزيز يا ربَّ العالمين.
أيها المسلمون:
لقد أمَرَ إمام المسلمين - خادمُ الحرمين الشريفين - أيَّده الله ونصره بإقامة صلاة الاستسقاء يوم الاثنين القادم؛ فبادِرُوا بالتوبة والصدقة والاستغفار، وأظهِروا الحاجة والافتقار والاضطرار، وتخلَّصوا من المظالم والمآثم والأوزار، وشارِكوا المسلمين في هذه الصلاة؛ اقتداءً بسنة النبي المصطفى المختار.
جعل الله دعاءنا مسموعًا، ونداءنا مرفوعًا، وارفعوا الأكُفّ لله - عز وجل - ضارعين مُنيبين سائلين.
اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أنزِل علينا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك، اللهم إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنع عنَّا بذنوبنا فضلَك يا فالقَ الحبِّ والنوى، يا فالقَ الحبِّ والنوى، يا مُغيث العباد بعد اللَّهف والظما، اللهم سُقيا رحمة لا سُقيا عذاب ولا هدم ولا غرق يا أرحم الراحمين.
عباد الله: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90 ].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.