تراجم لتسعة من الأعلام ()

محمد بن إبراهيم الحمد

هذا الكتاب يحتوي على ترجمة لكل واحد من التالية أسماؤهم: 1- العلامة أحمد بن فارس اللغوي. 2- نور الدين محمود الشهيد. 3- شيخ الإسلام أحمد بن تيمية. 4- الشيخ العلامة محمد الخضر حسين. 5- الشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور. 6- الشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي. 7- سماحة الشيخ العلامة عبدالرحمن السعدي. 8- سماحة الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ. 9- سماحة الشيخ العلامة عبدالعزيز بن باز رحمهم الله.

|

تراجم لتسعة من الأعلام

 المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فإن الهممَ لَتَخْمُدُ, وإن الرياح لَتَسْكُنُ, وإن النفوس ليعتريها الملل, وينتابها الفتور.

وإن سِيَرَ العظماء لمن أعظم ما يُذكي الأُوار, ويبعث الهمم, ويرتقي بالعقول, ويوحي بالاقتداء.

وكم من الناس من أقبل على الجد, وتداعى إلى العمل, وانبعث إلى معالي الأمور, وترقى في مدارج الكمالات _ بسبب حكاية قرأها, أو حادثة رُويت له.

ولقد يسر الله لي أن كتبت عدداً من التراجم القصيرة لبعض العظماء والعلماء.

ولم تكن تلك الكتابة مقصودة بعينها, وإنما أُنشئت في ثنايا بعض الكتب أو الموضوعات, أو كتبت جواباً لسؤال عن عالم من العلماء, أو كتبت بعد وفاة بعض الشخصيات المؤثرة وهكذا...

فصارت تلك التراجم متناثرة هنا وهناك؛ فنشأت فكرة جمعها في كتاب واحد.

وكانت الأمنية تراودني في الكتابة عن كثير من الشخصيات, وأن يكون لكل واحد من هؤلاء ترجمة مفردة خاصة به, غير أني خشيت تراكم الأعمال, وألا يسعفني الوقت والعمر.

ومن هنا استقر الأمر على إعادة النظر في بعض التراجم, وإضافة ما يمكن إضافته؛ فما لا يدرك كله لا يترك كله, ولعل هذه التراجم تكون نواة للتوسع ومزيدٍ من البسط والإفراد، واستخلاص العبر، واستجلاء الفوائد من تلك التراجم.

هذا وإن من أعظم المقاصد لكتابة تلك التراجم بيانَ الجوانب المشرقة _وما أكثرها_ من سير عظمائنا, والتنويهَ بما لهم من أعمال جليلة, وأياد بيضاء, وإيقاظ الهمم وحفزها, والارتقاء بالأخلاق وتقويم عوجها, وتزويدَ القارئ بشيء من خلاصات التجارب, وقرائح الأفهام.

ولهذا فإنك لن تظفر بهذه التراجم بنقد, ولا محاكمة, ولا إيراد غميزة.

لا زهداً في النقد؛ فهو حياة الأمم إذا كان بانياً, ولا اعتقاداً بعلمائنا وعظمائنا العصمة حاشا وكلاَّ؛ فماهم إلا بشر, وما كان لبشر أن تُدَّعى له العصمة, أو أنه لم ولن يقول إلا صواباً؛ فليس ذلك إلا للأنبياء _عليهم السلام_ فيما يبلغون به عن ربهم _جلا وعلا_ .

وإنما المقصود من ذلك نشر الفضائل, ومعرفة أقدار الرجال, وما جرى مجرى ذلك مما مر ذكره.

ثم إن الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث؛ فكيف إذا كان بحراً لا تكدره الدلاء؟

ثم إننا نرى الأمم الأخرى تحتفل بعظمائها, بل تبالغ في ذلك أشد المبالغة.

ونحن أولى بهذه المزية؛ إذ منبع عظمائنا ما يحملونه من دين وعزة, وكرامة, وخُلُق، وآثار.

وإنك لتعجب ممن يطعن بسلفه الصالح, ويزري بأكابر أهل ملته من علماء وفضلاء سواء كانوا أحياءاً أو أمواتاً.

يقول الأستاذ العلامة محمد كُرْد علي × في مذكراته 1/ 274 : =دخل عليَّ مستشار المعارف, وأنا في مكتبي بالوزارة ظاهر الغضب على محرر جريدتنا المقتبس؛ لنشره في الجريدة تعريضاً ببعض رصفائي الوزراء؛ خدمة لأعراض من يخدمهم من حزبه؛ فسألني المستشار عن غضبي على خلاف عادتي, فذكرت له السبب, فقال: لا أعرف كيف أعلل هذه الأخلاق فيكم تسقطون أبداً رجالَكم من الأعين, ورجالُكُم قليلون مهما بلغ عددهم لا يتجاوز المائة؛ فإذا أسقطتموهم كلهم فمن يبقى يخدمكم في السراء والضراء, وينفعكم باسمه ومكانته؟!+.

وقال الأستاذ محمد كرد علي _أيضاً_ : =كان أستاذنا الشيخ طاهر الجزائري وهو على سرير الموت يقول لمن حوله من أصحابه: اذكروا مَنْ عندكم من الرجال الذين ينفعونكم في الشدائد, ودوِّنوا أسماءهم في جريدة؛ لئلا تنسوهم, ونوِّهوا بهم عند كل سانحة, واحرصوا عليهم حرصَكم على أعزِّ عزيز.

وأظنهم على كثرة ماكدَّوا حافظتهم وذاكرتهم لم يعدوا أكثر من خمسين رجلاً.

وكان يقول لنا _أي الشيخ طاهر_ تجاوزوا عن سيئاتهم, وانتفعوا بحسناتهم.

وشيخنا هذا قضى عمره في السعي إلى الإصلاح والتجدد+.

وبعد فهذه مقدمة وتوطئة بين يدي هذه التراجم لتسعة من العظماء من فضلاء علمائنا وأكابرنا.

وهذه التراجم ليست على وتيرة واحدة؛ لأنها كتبت في فترات متباعدة, وفي مناسبات مختلفة؛ فربما يبسط القول في بعضها وربما يختزل.

وهذا الكتاب يحتوي على ترجمة لكل واحد من التالية أسماؤهم:

1_ العلامة أحمد بن فارس اللغوي.

2_ نور الدين محمود الشهيد.

3_ شيخ الإسلام أحمد بن تيمية.

4_ الشيخ العلامة محمد الخضر حسين.

5_ الشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور.

6_ الشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي.

7_ سماحة الشيخ العلامة عبدالرحمن السعدي.

8_ سماحة الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ.

9_ سماحة الشيخ العلامة عبدالعزيز بن باز.

فإلى تلك التراجم، والله المستعان، وعليه التكلان.

محمد بن إبراهيم الحمد

الزلفي: ص.ب: 460

5/2/1427هـ

www.toislam.net

[email protected]

 أحمد بن فارس اللغوي

معالم بارزة في حياته

مولده ونشأته: هو أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا بن محمد بن حبيب القزويني، المعروف بالرازي، والمشهور بابن فارس.

ولد في أوائل القرن الرابع الهجري، ولم يذكر أحد من أصحاب التراجم الأقدمين تاريخاً محدداً لميلاده، لكنه _ كما ذكر بعض الباحثين المحدثين _ يدور حول عام 312هـ.

أما وفاته فكانت سنة 395هـ على الرأي الصحيح كما رجح ذلك العلامة عبدالسلام هارون × وغيره.

وقد ولد بقزوين، ونشأ بهمذان، وكان أكثر مقامه في الري، لكنه رحل إلى بلاد كثيرة؛ لتلقي العلم.

وقد أخذ عن كثيرين، منهم والده فارس بن زكريا، وأبو بكر أحمد بن الحسن الخطيب راوية ثعلب، وأبو الحسن علي بن إبراهيم القطان، وأبو عبدالله أحمد ابن طاهر المنجم، وغيرهم كثير.

علومه: أما علومه فكانت متنوعة شاملة لا سيما اللغة التي أتقنها، وأكثر من التأليف في فروعها، وشهر بها؛ ودعي بـ: اللغوي.

ويرجع ذلك إلى مؤلفاته القيمة التي كان لها أثر كبير في الدراسات اللغوية.

وكان صاحب عقلية جبارة، وموهبة فذة مبتكرة، وقد شهد له بذلك الكثير من القدامى والمحدثين، كالثعالبي، وابن خلكان، والصاحب بن عباد، وعبدالسلام هارون وغيرهم.

وكان فقيهاً شافعياً، ويناصر مذهب مالك بن أنس.

أما طريقته في النحو فطريقة الكوفيين.

ولم يكن ابن فارس من العلماء المنزوين على أنفسهم، مكتفين، بمجالس العلم والتعليم، بل كان مُتَّصلاً بالحياة أكمل اتصال، مادَّاً بسبب إلى نواحٍ شتى.

شعْرُه: وقد أحسن صنعة الشعر، وكان نقادةً فيه، وله شعره الذي ينم عن ظرف، ورقة، وحسن تأتٍّ.

وهو مُلِحٌّ في التهكم والسخرية، ومن شعره في ذلك قوله:

مرت بنا هيفاءُ مقدودةٌ

                   تركية تُنْمى لتركيِّ

ترنو بطرفٍ فاتن فاتر

                   كأنه حُجَّةُ نحويِّ

فيجعل من حجة النحوي في ضعفها على ما يراه _ شبهاً للطرف الفاتن الفاتر.

وهو يتبرم بَهَمَذَانَ والعيشَ فيها؛ فيرسم حياته فيها على هذا النحو البديع، فيقول:

سقى همذان الغيثُ لستُ بقائل

                   سوى ذا وفي الأحشاءِ نارٌ تَضَرَّمُ

وماليَ لا أصفيْ الدعاءَ لبلدة

                   أَفَدْتُ بها نسيانَ ما كنتُ أعلم

نسيتُ الذي أَحْسَنْتُهُ غير أنني

                   مَدِينٌ وما في جوفِ بيتيَ درهمُ

  وهو صاحب حملة على من يزهِّدون في الدينار والدرهم؛ بحجة أنهم يطلبون المجد في العلم، والأدب، فيقول على سبيل التهكم:

قد قال في ما مضى حكيم:

                   ما المرء إلا بأصغريه

فقلت قول امرئ لبيب:

                   ما المرء إلا بدرهميه

من لم يكن مَعْهُ دِرْهماه

                   لم تلتفت عِرْسُه( ) إليه

وكان من ذُلِّه حقيراً

                   تبول سَنّوره عليه

ولابن فارس التفاتٌ عجيب إلى السَّنور، وقد سجل في غير هذا الموضع من شعره أنه كان يصطفي لنفسه هِرَّةً تلازمه، وتنفي عنه هموم قلبه، ووساوس نفسه، فقال:

وقالوا: كيف أنت فقلت: خيرٌ

                   تَقَضَّى حاجةٌ وتفوت حاجُ

إذا ازدحمت هموم القلب قلنا

                   عسى يوماً يكون لها انفراج

نديمي هرتي وسرورُ قلبي

                   دفاتِرُ ليْ ومعشوقيْ السراج

وهو بصير ذو خبرة بطبائع الناس، واستئثارهم بالمال، وخضوعهم له، يقول في ذلك:

إذا كنت في حاجة مُرْسِلاً

                   وأنت بها كَلِفٌ مغرمُ

فأرسل حكيماً ولا توصه

                   وذاك الحكيم هو الدرهم

ويقول:

عتبتُ عليه حين ساءَ صنيعُُه

                   وآليتُ( ) لا أمسيتُ طوعَ يديه

فلما خبرتُ الناس خُبْرَ مُجَرِّبٍ

                   ولم أرَ خيراً منه عُدْتُ إليه

ويقول لمن يتكاسل في طِلاب العلم:

إذا كان يؤذيك حرُّ المصيف

                   ويُبْسُ الخريف وبردُ الشتا

ويلهيك حسنُ زمانِ الربيع

                   فأخذُك للعلم قل لي: متى؟( )

ولعل ابن فارس من أقدم من استعمل أسلوب الشعر في تقييد مسائل اللغة والعربية.

يقول ياقوت الحموي: =قرأت بخط الشيخ أبي الحسن علي بن عبدالرحيم السلمي: وجدت بخط ابن فارس على وجه المجمل، والأبيات له، ثم قرأتها على سعد الخير الأنصاري، وأخبرني أنه سمعها من ابن شيخه أبي زكريا، عن سليمان بن أيوب، عن ابن فارس:

يا دارَ سُعدى بذات الضَّالِ( ) من إضَمٍ

                   سقاكِ صوبُ حَياً من واكف العينِ

العين: سحاب ينشأ من قِبَل القبلة.

إني لأذكر أياماً بها ولنا

                   في كل إصباح يومٍ قرَّةُ العينِ

العين ههنا: عين الإنسان وغيره.

تُدني مُعَشَّقَة منَّا معتَّقة

                   تَشُجُّها عذبة من نابع العين

إذا تَمَزَّزَها شيخٌ به طَرَقٌ

                   سرت بقُوَّتها في الساق والعينِ

العين ههنا: عين الركبة، والطرق: ضعف الركبتين.

والزِّقُّ ملآنُ من ماء السرور فلا

                   تخشى تولُّهَ ما فيه من العينِ

العين ههنا: ثقب يكون في المزادة، وتولُّه الماءِ: أن يتسرب.

وغاب عُذَّالنا عنا فلا كدرٌ

                   في عيشنا من رقيب السوء والعينِ

العين ههنا: الرقيب.

يقسِّم الودَّ فيما بيننا قِسَماً

                   ميزانُ صدقٍ بلا بَخْسٍ ولا عينِ

العين ههنا: العين في الميزان.

وفائض المال يغنينا بحاضره

                   فنكتفي من ثقيل الدَّين بالعينِ

العين ههنا: المال الناضّ( ).

والمجمل المجتبى تغني فوائده

                   حفاظَه عن كتاب الجيم والعينِ+( )

أخلاقه: امتاز ابن فارس بأخلاق العلماء حقاً، فقد كان × ورعاً تقياً شديد التواضع، وفياً لأساتذته، براً بهم، أميناً في النقل عنهم.

وكان جواداً كريماً لا يكاد يرد سائلاً، حتى إنه كان يهب ثياب جسمه، وفرش بيته.

قال ابن الأنباري: =وكان له صاحب يقال له أبو العباس أحمد بن محمد الرازي المعروف بالغضبان، وسبب تسميته بذلك أنه كان يخدمه ويتصرف في بعض أموره، قال: فكنت ربما دخلت فأجد فرش البيت أو بعضه قد وهبه، فأعاتبه على ذلك، وأضجر منه؛ فيضحك من ذلك، ولا يزول عن عادته.

فكنت متى دخلت عليه ووجدت شيئاً من البيت قد ذهب علمت أنه قد وهبه؛ فأعبس، وتظهر الكآبة في وجهي؛ فيبسطني ويقول: ما شأن الغضبان؟ حتى لحق بي هذا اللقب منه، وإنما كان يمازحني به+( ).

تلاميذه: تتلمذ على ابن فارس الصاحبُ بن عباد، وبديع الزمان الهمذاني، وأبو الفتح بن العميد وغيرهم.

وفاته: توفي _ على القول الصحيح كما مر _ سنة 395هـ، وروى أكثر من ترجم له أنه قال قبل وفاته بيومين:

يا رب إن ذنوبي قد أحَطتَ بها

                   علماً وبيْ وبإعلاني وإسراري

أنا الموحد لكنيْ المُقِرُّ بها

                   فهب ذنوبي لتوحيدي وإقراري( )

مؤلفاته: ولابن فارس مؤلفات كثيرة تزيد على الستين، منها المجمل، والمقاييس، والصاحبي، وأصول الفقه، وأخلاق النبي"، وجامع التأويل في تفسير القرآن، ونقد الشعر، وكتاب اللامات، وحلية الفقهاء، وغيرها كثير.

ابن فارس وأثره في فقه اللغة: هذا وإن لابن فارس اليد الطولى في علم فقة اللغة؛ فلقد كانت البداية الحقيقية لهذا العلم، وظهوره كعلم مستقل على يد ابن فارس وابن جني _ رحمهما الله _ فلقد كان لهما أبلغ الأثر في التأليف في فقه اللغة، وعلى وجه الخصوص ابن فارس الذي ألف مجموعة من الكتب اللغة، في هذا الشأن، خصوصاً كتابه: (الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها).

وترجع أهميةُ هذا الكتاب إلى أمور عديدة لعل أهمها كونه أول كتاب في العربية يحمل اصطلاح (فقه اللغة).

وبه تأثر المؤلفون من بعده، واتخذوا هذا الاصطلاح فناً لغوياً مستقلاً.

وقد عالج ابن فارس × في كتابه (الصاحبي) عدداً من الموضوعات التي تعد من صميم فقه اللغة، وجمع في كتابه ما تفرق في كتب من سبقه.

قال × في مقدمة كتابه: =والذي جمعناه في مؤلفنا هذا مفرق في أصناف العلماء المتقدمين _ رضي الله عنهم وجزاهم عنا أفضل الجزاء _.

وإنما لنا فيه اختصار مبسوط، أو بسط مختصر، أو شرح مشكل، أو جمع متفرق+( ).

ثم بعد ذلك شرع × في أبواب الكتاب التي تعد النواة الأولى في فقه اللغة، وذلك كحديثه عن نشأة اللغة، والخط العربي، وعن خصائص اللغة، ومزاياها.

وكحديثه عن اختلاف اللغات، وأقسام الكلام، ومعاني الحروف.

وكحديثه عن الخطاب المطلق والمقيد، وعن الحقيقة والمجاز، والقلب، والإبدال، والعموم، والخصوص، والحذف والاختصار، والإتْبَاع، والنحت، والإشباع، وغيرها.

وبالجملة فإن الكتاب يحتوي على 207 من الأبواب.

كل ذلك مع أن الكتاب في مجلد واحد، ويقع بعد التحقيق في 238 صفحة.

وقد طبع عدة طبعات، ولعل من آخرها طبعة دار الكتاب العلمية 1418هـ _1998م.

وقد علق عليه ووضع حواشيه أحمد حسن بسج.

كتابه (معجم مقاييس اللغة): منهجه فيه، وثناء العلماء عليه: لقد أثرى ابن فارس × المكتبة العربية بمعجم سماه (مقاييس اللغة).

وهو من أضخم المعاجم العربية وأعظمها.

وله معجم آخر اسمه (مجمل اللغة).

وقد اتبع في تنظيمه لمواد المجمل وكذلك معجم المقاييس طريقة لم يسبق إليها، يقول الأستاذ عبدالسلام هارون × في مقدمة كتاب معجم مقاييس اللغة مبيناً نظام ابن فارس في معجميه المجمل والمقاييس: =جرى ابن فارس على طريقة فاذة بين مؤلفي المعاجم، في وضع معجميه: المجمل والمقاييس.

فهو لم يرتب موادهما على أوائل الحروف وتقليباتها كما صنع ابن دريد في الجمهرة، ولم يطردها على أبواب أواخر الكلمات كما ابتدع الجوهري في الصحاح، وكما فعل ابن منظور والفيروز أبادي في معجميهما، ولم يَنْسُقها على أوائل الحروف فقط كما صنع الزمخشري في أساس البلاغة، والفيومي في المصباح المنير.

ولكنه سلك طريقاً خاصاً به لم يفطن إليه أحد من العلماء، ولا نبه عليه.

وكنت قد ظننت أنه لم يلتزم نظاماً في إيراد المواد على أوائل الحروف، وأنه ساقها في أبوابها هملاً على غير نظام، ولكني بتتبع المجمل والمقاييس ألفيته يلتزم النظام الدقيق التالي:

1_ فهو قد قسم مواد اللغة أولاً إلى كتب، تبدأ بكتاب الهمزة وتنتتهي بكتاب الياء.

2_ ثم قسم كل كتاب إلى أبواب ثلاثة أولها باب الثنائي المضاعف والمطابق، وثانيها أبواب الثلاثي الأصول من المواد، وثالثها باب ما جاء على أكثر من ثلاثة أحرف أصلية.

3_ والأمر الدقيق في هذا التقسيم أن كل قسم من القسمين الأولين قد التُزم فيه ترتيب خاص، وهو ألا يبدأ بعد الحرف الأول إلا بالذي يليه؛ ولذا جاء باب المضاعف في كتاب الهمزة، وباب الثلاثي مما أوله همزة وباء ترتيباً طبيعياً على نسق حروف الهجاء.

ولكن في (باب الهمزة والتاء وما يثلثهما) يتوقع القارئ أن يأتي المؤلف بالمواد على هذا الترتيب: (أتب، أتل، أتم، أتن، أته، أتو، أتى)، ولكن الباء في (أتب) لا تلي التاء بل تسبقها، ولذلك أخرها في الترتيب إلى آخر الباب فجعلها بعد مادة (أتى).

وفي باب التاء من المضاعف يذكر أولاً (تخ) ثم (تر) إلى أن تنتهي الحروف، ثم يرجع إلى التاء والباء (تب) لأن أقرب ما يلي التاء من الحروف في المواد المستعملة هو الخاء.

وفي أبواب الثلاثي من التاء لا يذكر أولاً التاء والهمزة وما يثلثهما، بل يؤخر هذا إلى أواخر الأبواب، ويبدأ بباب التاء والجيم وما يثلثهما، ثم باب التاء والحاء وما يثلثهما، وهكذا إلى أن ينتهي من الحروف، ثم يرجع أدراجه ويستأنف الترتيب من باب التاء والهمزة وما يثلثهما.

وذلك لأن أقرب ما يلي التاء من الحروف في المواد المستعملة هو الجيم.

وتجد _ أيضاً _ أن الحرف الثالث يراعى فيه هذا الترتيب، ففي باب التاء والواو وما يثلثهما يبدأ بـ (توى) ثم (توب) ثم (توت) إلى آخره، وذلك لأن أقرب الحروف التي تلي الواو هو الياء.

وفي باب الثاء من المضاعف لا يبدأ بالثاء والهمزة ثم بالثاء والباء، بل يرجئ ذلك إلى أواخر الأبواب، ويبدأ بالثاء والجيم (ثج) ثم بالثاء والراء (ثر) إلى أن تنتهي الحروف، ثم يستأنف الترتيب بالثاء والهمزة (ثا) ثم بالثاء والباء (ثب).

وفي أبواب الثلاثي من الثاء لا يبدأ بالثاء والهمزة وما يثلثهما ثم يعقب بالثاء والباء وما يثلثهما، بل يدع ذلك إلى أواخر الأبواب، فيبدأ بالثاء والجيم وما يثلثهما إلى أن تنتهي الحروف، ثم يرجع إلى الأبواب التي تركها.

وتجد _ أيضاً _ أن الحرف الثالث يراعى فيه الترتيب.

ففي باب الثاء واللام وما يثلثهما يكون هذا الترتيب (ثلم، ثلب، ثلث، ثلج). . . إلخ.

وفي باب الجيم من المضاعف يبدأ بالجيم والحاء (جح) إلى أن تنتهي الحروف (جو) ثم ينسق بعد ذلك (جأ، جب).

وفي أبواب الثلاثي من الجيم يبدأ بباب الجيم والحاء وما يثلثهما إلى أن تنتهي الحروف، ثم يذكر باب الجيم والهمزة وما يثلثهما، ثم باب الجيم والباء، ثم الجيم والثاء، مع مراعاة الترتيب في الحرف الثالث، ففي الجيم والنون وما يثلثهما يبدأ أولاً بـ (جنه) ثم (جنى) ويعود بعد ذلك إلى (جناً، جنب، جنث) إلخ.

هذا هو الترتيب الذي التزمه ابن فارس في كتابيه (المجمل) و (المقاييس) وهو بِدْع كما ترى+( ).

هذا الكتاب يكاد يكون أعظم كتب ابن فارس إلا يكن أعظمها، بل يكاد يكون أعظم معجم فيما ألف في اللغة العربية.

وهو منهج جديد في التأليف المعجمي يشبه إلى حدٍّ ما منهجه في كتاب المجمل، ولكن المقاييس يحمل أفكاراً جديدة على المعجم العربي كله، ولذلك قال عنه ياقوت الحموي ×: =كتاب جليل لم يصنف مثله+( ).

وقال عنه الأستاذ عبدالسلام هارون ×: =فإنَّ كِتَابَنا هذا لا يختلف اثنان بعد النظر فيه أنه فذ في بابه، وأنه مفخرة من مفاخر التأليف العربي، ولا إخال لغةً في العالم ظفرت بمثل هذا الضرب من التأليف.

ولقد أضفى ابن فارس عليه من جمال العبارة وحسن الذوق، وروح الأديب، ما يبعد به عن جفوة المؤلفات اللغوية، وعنف ممارستها.

فأنت تستطيع أن تتخذ من هذا الكتاب متاعاً لك إذْ تبغي المتاع، وسنداً حين تطلب التحقق والوثوق.

والكتاب بعد كل أولئك يضم في أعطافه وثناياه ما يَهَب القارئ ملكة التفهم لهذه اللغة الكريمة، والظهور على أسرارها+( ).

وقال في موضع آخر عن الكتاب: =مفخرة من مفاخر التأليف العربي، بل يكاد يكون الفذَّ من نوعه من بين المؤلفات اللغوية في المحيط العربي، إن لم يكن المحيط اللغوي العالمي؛ فنحن لم نعلم إلى الآن أن مؤلفاً لغوياً آخر حاول أن يدرس مواد اللغة في ظل القياس المطرد في تلك المواد.

ولا غرو؛ فإن مؤلِّفَه أحمدَ بنَ فارس يعد في طليعة العلماء الذين أخذوا من كل فن بسهم وافر+( ).

ولعل من توفيق الله لابن فارس ولكتابه المقاييس أن قيض الله لتحقيقه وضبطه العلامة المحقق البحاثة عبدالسلام هارون ×؛ حيث قام بهذا العمل الجليل خير قيام، وصدَّره بمقدمة أورد فيها حياة ابن فارس، وتحدث عن سيرته وخلقه، وتلقيه العلم، وتعليمه إياه، وعن أبرز شيوخه وطلابه كما تحدث عن الجانب الأدبي، والجانب اللغوي عند ابن فارس.

كما أنه × وازن بين كتاب المقاييس والمجمل، وتوصَّل من خلال ذلك إلى أن المقاييس من أواخر مؤلفات ابن فارس، وأن النضج اللغوي الذي يتجلى فيه من دلائل ذلك( ).

نظرات ابن فارس في النقد والأدب: هذا وإن لابن فارس نظراتٍ في النقد والأدب، ولم يكن كأمثال من ينصرفون عن إنتاج معاصريهم، ولم يكن ممن يحتقر الفائدة، أو التأليف، أو الشعر إذا صدر من معاصر.

ولم يكن من اللغويين الجامدين الذين لا يقيمون لمعاصريهم وزناً، بل هو يُصْغي إلى شعر معاصريه، ويروي لكثير منهم، وينتصر للمحسن، وينتصف من المتعصبين.

وإليك شيئاً من رسالة له كتبها لأبي عمرو محمد بن سعيد الكاتب؛ لتستبين مذهبه ذلك، وتلمس أسلوبه الأدبي، تلك الرسالة التي يتناقلها بعض المؤلفين إلى يومنا هذا، ويرون فيها عزاءاً لمن لا يقدرون الإنتاج العلمي والأدبي قدره، ولا يرون التميز إلا للقديم؛ فابن فارس يبين فيها أن الحسن الجيد لا يختص به أحد دون أحد، أو زمان دون زمان، وينكر تلك المقولة التي وقفت سداً منيعاً أمام كثير من المبدعين، ألا وهي قولهم: (ما ترك الأول للآخر شيئاً).

ويرشد إلى أن يوضع مكانها: (كم ترك الأول للآخر).

يقول × في رسالته: =ألهمك الله الرشاد، وأصحبك السداد، وجنبك الخلاف، وحبَّب إليك الإنصاف.

وسبب دعائي بهذا لك إنكارُك على أبي الحسن محمد بن علي العِجْلي تأليفه كتاباً في الحماسة، وإعظامك ذلك.

ولعله لو فعل حتى يصيب الغرض الذي يريده، وَيَرِد المنهل الذي يؤمه، لاستدرك من جيد الشعر وَنقِيِّه، ومختاره ورضيِّه كثيراً مما فات المؤلف الأول؛ فماذا الإنكار؟ ولمه هذا الاعتراض؟ ومن ذا حظر على المتأخر مضادةَ المتقدم؟ ولمه تأخذ بقول من قال: ما ترك الأول للآخر شيئاً، وتدع قول الآخر:

كم ترك الأول للآخر؟

وهل الدنيا إلا أزمان، ولكل زمان رجال؟ وهل العلوم بعد الأصول المحفوظة إلا خطرات الأوهام، ونتائج العقول؟!

ومَنْ قَصَر الآداب على زمانٍ معلوم، ووقفها على وقت محدود؟ ولمه لا ينظر الآخر مثلما نظر الأول حتى يؤلف مثل تأليفه، ويجمع مثل جمعه، ويرى في كل مثل رأيه.

وما تقول للفقهاء زماننا إذا نزلت بهم من نوادر الأحكام نازلة لم تخطر على بال من كان قبلهم؟ أَوَ ما علمت أن لكل قلب خاطراً، ولكل خاطر نتيجةً، ولِمَهْ جاز أن يقال بعد أبي تمام مثل شعره، ولم يَجُزْ أن يؤلف مثل تأليفه؟

ولمه حجَّرت واسعاً وَحَظَرتَ مباحاً، وحرمت حلالاً، وسددت طريقاً مسلوكاً؟

وهل حبيب( ) إلا واحد من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم؟ ولمه جاز أن يعارض الفقهاء من مؤلفاتهم، وأهل النحو في مصنفاتهم، والنُّظَّار في موضوعاتهم، وأرباب الصناعات في جميع صناعاتهم، ولم يجز معارضة أبي تمام في كتاب شذَّ عنه في الأبواب التي شرعها فيه أمر لا يُدْرَكُ ولا يدرى قدره؟

ولو اقتصر الناس على كتب القدماء لضاع علم كثير، ولذهب أدب غزير، ولضلت أفهام ثاقبة، ولَكَلَّت أَلْسُنٌ لسِنَةٌ، ولما توشَّى أحد بالخطابة، ولا سلك شِعْباً من شعاب البلاغة، وَلَمَجَّتِ الأسماع كل مردود مكرر، ولَلَفظت القلوب كل مُرَجَّع مُمَضَّغ، وحتَّام لا يُسْأَم:

 لو كنت من مازن لم تستبح إبلي( )

وإلى متى:                           صَفَحْنا عن بني ذهل( )

ولِمَه أنكرت على العِجْليِّ معروفاً؟ واعترفت لحمزة بن الحسين ما أنكره على أبي تمام في زعمه أن في كتابه تكريراً وتصحيفاً، وإيطاءاً وإقواءاً، ونقلاً لأبيات عن أبوابها إلى أبوابٍ لا تليق بها ولا تصلح لها إلى ما سوى ذلك من روايات مدخولة، وأمور عليلة؟ ولمه رضيت لنا بغير الرضى؟ وهلا  حثثت على إثارة ما غَيَّبَتْهُ الدهور، وتجديد ما أخلقته الأيام، وتدوين ما نَتَجَتْهُ خواطرُ هذا الدهر، وأفكار هذا العصر، على أن ذلك لو رامه رائمٌ لأتعبه، ولو فعله لقرأت ما لم ينحط عن درجة مَنْ قَبْلَه: مِنْ جدٍّ يروعك، وهزل يروقك، واستنباط يعجبك، ومزاحٍ يلهيك.

وكان بقزوين رجل معروف بأي حامد الضرير القزويني، حضر طعاماً وإلى جنبه رجل أكول، فأحس أبو حامد بجودة أكله فقال:

وصاحب لي بطنه كالهاوية

                   كأن في أمعائه معاويه( )

فانظر إلى وجازة هذا اللفظ، وجودة وقوع الأمعاء إلى جنب معاوية، وهل ضر ذلك أن لم يقله حماد عَجْرَد وأبو الشمقمق؟ وهل في إثبات ذلك عار على مثبته، وفي تدوينه وصمه على مدوِّنه؟

وبقزوين رجل يعرف بابن الرياشي القزويني، نظر إلى حاكم من حكامها من أهل طبرستان مقبلاً، عليه عمامةٌ سوداءُ وطيلسان أزرقُ، وقميصٌ شديدُ البياض، وخفٌّ أحمرُ، وهو مع ذلك كله قصير على بِرَذَون أبلقَ هزيلِ الخَلْق، طويل الحلق، فقال حين نظر إليه:

وحاكم جاء على أبلق

                   كعقعقٍ جاء على لقلقِ

فلو شهدت هذا الحاكم على فرسه لشهدت للشاعر بصحة التشبيه، وجودة التمثيل، ولعلمت أنه لم يَقْصُرْ عن قول بشار:

كأن مثار النقع فوق رؤوسهم

                   وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

فما تقول لهذا، وهل يحسن ظلمه في إنكار إحسانه، وجحود تجويده؟

وأنشدني الأستاذ أبو علي محمد بن أحمد بن الفضل، لرجل بشيراز يعرف بالهمذاني وهو اليوم حي يرزق، وقد عاتب( ) بعض كتابها على حضوره طعاماً مرض منه:

وُقِيتَ الردى وصروفَ العلل

                   ولا عَرَفَتْ قدماك العلل

شكا المرض المجد لمَاَّ مَرِضْـ

                   ـتَ فلما نهضت سليماً أبلّ

لك الذنب لا عتب إلا عليك

                   لماذا أكلت طعام السِّفل

وأنشدني له في شاعر هو اليوم هناك يعرف بابن عمرو الأسدي، وقد رأيته فرأيت صفة وافقت الموصوف:

وأصفر اللون أزرق الحدقه

                   في كل ما يدعيه غير ثقه

كأنه مالك الحزين إذا

                   همَّ بزرق وقد لوى عنقه

إن قمت في هجوه بقافيةٍ

                    فكل شعر أقوله صدقه

وأنشدني عبدالله بن شاذان القاري، ليوسف بن حمويه من أهل قزوين؛ ويعرف بابن المنادى:

إذا ما جئت أحمد مُسْتميحاً

                   فلا يَغْرُرْكَ منظرُه الأنيقُ

له لطفٌ وليس لديه عرفٌ

                   كبارقة تروقُ ولا تُريق

فما يخشى العدوُّ له وعيداً

                   كما بالوعد لا يثق الصديق

ومدح رجلٌ بعض أمراء البصرة، ثم قال بعد ذلك وقد رأى توانياً في أمره قصيدةً يقول فيها كأنه يجيب سائلاً:

جوَّدت شعرَك في الأميـ

                   ـرِ فكيفَ أمْرُك قلتُ فاترْ

فيكفَ تقول لهذا؟ ومن أي وجه تأتي فتظلمه؟ وبأي شيء تعانده فتدفعه عن الإيجاز والدلالة على المراد بأقصر لفظٍ وأوجز كلام؟ وأنت الذي أنشدتني:

سَدَّ الطريق على الزما

                   نِ وقام في وجه القطوب

كما أنشدتني لبعض شُعراء الموصل:

فدَيتك ما شِبْتُ عن كُبرةٍ

                   وهذي سِنِيٌّ وهذا الحسابُ

ولكن هُجِرتُ فحَلَّ المشيبُ

                   ولو قد وُصِلتُ لعاد الشبابُ

فلِمَ لم تخاصم هذين الرجلين في مزاحمتهما فحولة الشعراء وشياطين الإنس، ومَرَدة العالمَ في الشعر؟

وأنشدني أبو عبدالله المغلسي المراغي لنفسه:

غداةَ تولت عِيسُهم فترحلوا

                   بكيت على ترحالهم فعميتُ

فلا مُقلتِي أدّت حقوقَ وِدادهم

                   ولا أنا عن عيني بذاك رضيتُ

وسمعت أبا الحسين السروجي يقول: كان عندنا طبيب يسمى النعمان، ويكنى أبا المنذر، فقال فيه صديقٌ لي:

أقول لنعمانٍ وقد ساق طبُّه

                   نفوساً نفيساتٍ إلى باطن الأرضِ

أبا منذر أفنيتَ فاستبقِ بعضَنا

                   حنانيك بعضُ الشرِّ أهون من بعض( )

إلى آخر ما قاله في رسالته الماتعة( ).

رحم الله ابن فارس، وأجزل مثوبته، وجزاه خير الجزاء كِفاءَ ما قدم للعلم والعربية.

 نور الدين محمود الشهيد

أولاً: نشأته: هو صاحب الشام، الملك العادل، نور الدين ناصر أمير المؤمنين تقي الملوك، ليث الإسلام، أبو القاسم محمود ابن الأتابك قسيم الدولة أبي سعيد عماد الدين زنكي  ابن الأمير الكبير آقسنقر التركي السلطاني الملكشاهي( ).

قال عنه ابن كثير ×: =ولد وقت طلوع الشمس من يوم الأحد السابع عشر من شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة بحلب، ونشأ في كفالة والده صاحب حلب، والموصل، وغيرها من البلدان الكثيرة الكبيرة.

تعلم القرآن، والفروسية، والرمي، وكان شهماً، شجاعاً، ذا همة عالية، وقصد صالح، وحرمة وافرة، وديانة بينة+( ).

لقد خرج هذا الرجل في فترة حرجة من تاريخ الأمة الإسلامية؛ فلقد كانت الأمة تعاني من التفكك، والانحلال، وتسلط الأعداء، وانتشار البدع.

فالأمراء والملوك _ آنذاك _ كل واحد منهم يقبع في أمارة أو دويلة صغيرة, وبينهم ما بينهم من التفرق والتنافر والخلاف.

والصليبيون يعيثون في بلاد الشام فساداً بعد أن استولوا على كثير من الحصون والقلاع والمدن.

والعبيديون الباطنيون كانوا مستولين على مصر؛ فكانت أعلام البدعة مرفوعة، وأعلام السنة موضوعة، مما جعل الحاجة _ بل الضرورة _ ماسة إلى من يوحد كلمة الأمة، ويلم شعثها، ويصد فلول الأعداء عنها؛ فكان أن خرج نور الدين الذي كان أبرز أبطال الحروب الصليبية، والذي كان بروزه نقطة تحول في تاريخ تلك الحروب؛  فإن له × من اسمه نصيباً؛ فلقد أوقد في دياجير الظلمة جذوة الدين، وأنزل الهزائم الساحقة بالصليبين، وامتشق حماسه منذ نعومة أظفاره، فلم يغمده حتى أتاه اليقين، وبعد أن قرت عينيه بتألق نجم تلميذه صلاح الدين  حتى قام على تراث الشهيد بالرعاية والصيانة والتمكين( ).

وإن مما يقوي الرغبة في دراسة سيرة هذا الرجل أعني _ نور الدين _ هو ذلك التشابه بين الأوضاع القاسية التي مرت بها أمة الإسلام في الماضي، وبين الأوضاع التي نعيشها حاليا؛ فكأن التاريخ يعيد نفسه؛ فكان  من مسوغات الحديث عن سيرته _ الاستفادة من هموم الماضي لعلاج الحاضر( ).

فإلى ما يلي من أسطر تكشف لنا شيئاً من تلك السيرة العطرة لذلك المجاهد العظيم، تلك السيرة التي تنبي عن همة عالية ونفس كبيرة، وتُبِيْنُ عن شجاعة متناهية وبطولة وسؤدد.

ثانياً: صفاته ومناقبه:

لقد جمع الله لنور الدين الشيء الكثير، ولقد آتاه من مهيئات النبوغ، ومقومات الألمعية _ ما جعله يتبوأ تلك المكانة العلية من تاريخ الأمة الإسلامية.

فمن تلك الصفات التي اتصف بها نور الدين ما يلي:

أ _ التقوى والصلاح: فلقد كان نور الدين تقيَّاً، صالحاً، ورعاً، زاهداً، يخاف الله _ تبارك وتعالى _.

وكان ذا تأله وعبادة، وأوراد، وقيام بالليل، وكان كثير التضرع، والدعاء واللجوء إلى _ الله عز وجل _.

قال ابن الأثير × متحدثاً عن صفات نور الدين: =فمن ذلك زهده، وعبادته، وعلمه؛ فإنه كان لا يأكل ، ولا يلبس، ولا يتصرف إلا في الذي يخصه من ملك كان له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة، ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين.

ولقد شكت إليه زوجته من الضائقة، فأعطاها ثلاثة دكاكين في حمص، كانت له يحصل له منها في السنة نحو العشرين ديناراً.

فلما اسْتَقَلَّتْها قال: ليس لي إلا هذا، وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين فيه، ولا أخوض نار جهنم لأجلك.

وكان يصلي كثيراً بالليل، وله أوراد حسنة، وكان كما قيل:

جمع الشجاعةَ والخشوعَ لربه

                   ما أحسن المحرابَ في المحراب( )

 وكذلك كانت زوجته عصمت الدين خاتون بنت الأتابك معين _  تكثر القيام في الليل، فنامت ذات ليلة عن وردها، فأصبحت وهي غضبى، فسألها نور الدين عن أمرها، فذكرت نومها الذي فَوَّت عليها وردها، فأمر نور الدين عند ذلك بضرب طلبخانة( ) في القلعة وقت السحر؛ لتوقظ النائم ذلك الوقت لقيام الليل، وأعطى الضارب على الطلبخانة أجراً جزيلاً، وجراية كثيرة.

فألبس الله هاتيك العظام وإن

                   بَلِيْنَ تحت الثرى عفواً وغفرانا

سقى ثرىً أوْدَعُوه رحمة ملأت

                   مثوى قبورهم روحاً وريحانا( )

=وقال الفقيه أبو الفتح الأشري معيد النظامية ببغداد _  وكان قد جمع سيرة مختصرة لنور الدين _ قال: وكان نور الدين محافظاً على الصلوات في أوقاتها في جماعة بتمام شروطها، والقيام بها بأركانها، والطمأنينة في ركوعها وسجودها.

وكان كثير الصلاة بالليل، كثير الابتهال والتضرع إلى الله _ عز وجل_ في أموره كلها.

قال: وبلغنا عن جماعة من الصوفية ممن يعتمد قولهم أنهم دخلوا بلاد القدس للزيارة أيام أخذ القدس الفرنج، فسمعتهم يقولون: إن القسيم ابن القسيم _ يعنون بذلك نور الدين _ له مع الله سر فإنه لم يظفرْ وينصر علينا بكثرة جنده وجيشه، وإنما يظفر علينا، وينصر بالدعاء وصلاة الليل؛ فإنه يصلي بالليل، ويرفع يده إلى الله، ويدعوه؛ فإنه يستجيب له، ويعطيه سؤله؛ فيظفر علينا.

قال: فهذا كلام الكفار في حقه+( ).

وقال ابن كثير ×: =وقد كان × حسن الخط، كثير المطالعة للكتب الدينية، متبعاً للآثار النبوية، محافظاً على الصلوات في أوقاتها مع الجماعات، كثير التلاوة، مُحِبَّاً لفعل الخيرات، عفيف البطن والفرج، مقتصداً في الإنفاق على نفسه وعياله في المطعم والملبس حتى قيل: إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلا نفقة منه، من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا.

ولم يسمع منه كلمة فحش قط في غضب ولا رضىً، صموتاً وقوراً+( ).

وقال الذهبي ×: =وكان نور الدين مليح الخط، كثير المطالعة، يصلي في جماعة، ويصوم، ويتلو، ويسبح، ويتحرى في القوت، ويتجنب الكبر، ويتشبه بالعلماء و الأخيار، ذكر هذا ونحوه الحافظ ابن عساكر+( ).

وقال الموفق عبد اللطيف: =وكان يأكل من عمل يده، ينسخ تارة، ويعمل أغلافاً تارة ويلبس الصوف، ويلازم السجادة والمصحف+( ).

وقال سبط بن الجوزي: =كان له عجائز، فكان يخيط الكوافي، ويعمل السكاكر، فيَبِعْنَها سراً، ويفطر على ثمنها+( ).

وقال _ أيضاً _: =حكى لي نجم الدين بن سلام عن والده أن الفرنج لما نزلت على دمياط مازال نور الدين عشرين يوماً يصوم ولا يفطر إلاّ على الماء، فضعف حاله وكاد يتلف، وكان مهيباً ما يجسر أحداً أن يخاطبه في ذلك.

فقال إمامه _ يحيى: إنه رأى النبي " في النوم يقول يا يحيى، بَشِّر نور الدين برحيل الفرنج عن دمياط.

فقلت: يا رسول الله، ربما لا يصدقني، فقال: قل له: بعلامة يوم حارم( ).

وانتبه يحيى، فلما صلى نور الدين الصبح، وشرع يدعو هابه يحيى، فقال له: يا يحيى، تحدثني أو أحدثك، فارتعد يحيى، وخرس، فقال: أنا أحدثك: رأيت النبي " هذه الليلة، وقال: كذا وكذا، قال: نعم.

قال: فبالله يا مولانا، ما معنى قوله: بعلامة يوم حارم؟

فقال: لما التقينا العدو خفت على الإسلام فانفردت، ونزلت، ومرَّغت وجهي على التراب، وقلت: يا سيدي، مَنْ محمودُ في البَيْن؟ الدين دينك، والجند جندك، وهذا اليوم افعل ما يليق بكرمك.

قال: فنصرنا الله عليهم+( ).

ب: العدل: كان نور الدين × عادلاً متحرياً للعدل في كافة أموره، حتى إنه أصبح مضرباً للمثل في العدل، بل إنه يسمى الملك العادل.

قال ابن الأثير: =وقد طبق الأرض بحسن سيرته، وعدله، وقد طالعت سير الملوك المتقدمين فلم أَرَ بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبدالعزيز أحسن من سيرته، ولا أكثر تحرياً منه للعدل+( ).

وقال _ أيضاً _: =وأما عدله فإنه لم يترك في بلاده على سعتها مَكْساً ولا عشراً، بل أطلقا جميعاً في مصر، والشام، والجزيرة، والموصل.

وكان يعظم الشريعة، ويقف عند أحكامها.

وأحضره إنسان الى مجلس الحكم، فمضى معه إليه، وأرسل إلى القاضي كمال الدين بن الشهرزوري يقول: قد جئت محاكماً؛ فاسلك معي ما تسلك مع الخصوم، وظهر الحق له، فوهبه الخصم الذي أحضره، وقال: أردت أن أترك ما يدعيه، وإنما خفت أن يكون الباعث لي على ذلك الكبر والأنفة من الحضور إلى مجلس الشريعة، فحضرت، ثم وهبته ما يدّعيه.

وبنى دار العدل في بلاده، وكان  يجلس هو والقاضي فيها ينصف المظلوم ولو أنه يهودي من الظالم ولو أنه ولده أو أكبر أمير عنده+( ).

وقال _ أيضاً _ في كتابه التاريخ الباهر: =كان عارفاً بالفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة، ليس عنده فيه تعصب، بل الإنصاف سجيته في كل شيء+( ).

وقال الذهبي: =صاحب الشام الملك العادل نور الدين+( ).

وقال: =وكان نور الدين حامل رايتي العدل والجهاد، قلّ أن ترى العيون مثله+( ).

وقال ابن كثير: =وكان يقوم بأحكامه بالمعدلة الحسنة، واتباع الشرع المطهر، ويعقد مجالس العدل، ويتولاها بنفسه، ويجتمع إليه في ذلك القاضي، والفقهاء، والمفتيون من سائر المذاهب.

ويجلس يوم الثلاثاء بالمسجد المعلق الذي بالكشك؛ ليصل إليه كل واحد من المسلمين وأهل الذمة حتى يساويهم+( ).

ج _ الغيرة الصادقة: لقد كان × ذا غيرة صادقة على دين الله، ومحارم المسلمين، فلقد تفتَّحت عيناه على أحوال المسلمين المتردية، وعلى هزائمهم المتلاحقة، وكان ذلك يؤلمه أشد الألم.

ومما يذكر في هذا الصدد أن نور الدين كان قليل الابتسام جدا، فلما وعظه إمامه بأن الابتسام من وصايا النبوة قال له نورالدين: لا تؤاخذني أيها الشيخ،  كيف أبتسم وآلاف المسلمات سبايا عند كفار لا يتقون، ولا يرحمون؟ وكيف أبتسم والمسجد الأقصى يدنسه العدو؟!( ).

 د_ الهمة العالية: لقد كان × ذا همة عالية، ونفس كبيرة طماحة، فمع أنه نشأ وهو يرى ما حل بالمسلمين من ضعف وتفرق ومهانة _ إلاّ أن ذلك لم يفت من عضده، ولم يثن من عزمته، بل كان ذلك دافعاً له أن يسعى في رفع البلاء عن الأمة، وفي استعادة ما سلب منها من عز ومجد.

ولقد كانت أمنيته وهاجسه وشغله الشاغل _ فتحَ بيت المقدس، وتطهيره من رجس الصليب.

ومما يدل على علو همته، وكبر نفسه أنه عندما كان في حلب، وقت تسلط الصليبيين وسيطرتهم _ قام بعمل منبر عظيم، وبالغ في تحسينه وإتقانه، وقال: هذا عملناه؛ لينصب ببيت المقدس.

وكان الناس _ آنذاك يسخرون منه، ويستبعدون تحقيق أمنيته؛ إلاّ أنه لم يلتفت إلى ذلك، واستمر في إصلاح ذلك المنبر، وحاله تلك كحال نبي الله نوح _عليه السلام_ عندما كان يصنع الفلك، وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه.

ولقد أراد نور الدين من هذا الصنيع أن يبث الروح، وأن يبعث الهمم, وأن يبدد اليأس الذي خيم على كثير من القلوب.

ولقد حقق الله له أمنيته، ففتحت بيت المقدس، ونصب فيها المنبر على يد تلميذه صلاح الدين، وذلك بعد وفاة نور الدين ×.

يقول ابن الأثير بعد أن تحدث عن بيت المقدس: =ولما كان الجمعة الأخرى رابع شعبان صلى المسلمون فيه الجمعة،ومعهم صلاح الدين، وصلى في قبة الصخرة، وكان الخطيب والإمام محيي الدين بن الزكي قاضي دمشق.

ثم رتب صلاح الدين خطيباً وإماماً برسم الصلوات الخمس، وأمر أن يعمل له منبر، فقيل له: إن نور الدين محموداً كان قد عمل بحلب منبراً أمر الصناع بالمبالغة في تحسينه وإتقانه، وقال: هذا عملناه؛ لينصب بالبيت المقدس، فعمله النجارون عدة سنين لم يعمل في الإسلام مثله؛ فأمر بإحضاره، فحمل من حلب ونصب بالقدس.

وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة، وكان هذا من كرامات  نور الدين وحسن مقاصده+( ).

هـ _ الشجاعة المتناهية: قال ابن الأثير؛ =وأما شجاعته فإليها النهاية، وكان في الحرب يأخذ قوسين وتركشين( )؛ ليقاتل بها.

فقال القطب النيسابوري الفقيه: بالله عليك لا تخاطر بنفسك وبالإسلام؛ فإن أصبت في معركة لا يبقى من المسلمين أحد إلا أخذه السيف.

فقال له نور الدين: ومن محمود حتى يقال له هذا؟ من قبلي حفظ الله البلاد والإسلام، ذلك الله الذي لا إله إلاّ هو+( ).

وقال ابن قسيم الحموي يصف شجاعته:

تبدو الشجاعةُ في طلاقة وجهه

                   كالرمح دل على القساوةِ لينُه

ووراء يَقْظَتِه أناةُ مجربٍ

                   لله سطوةُ بأسِهِ وسكونُه( )

وقال الذهبي: =وكان بطلاً شجاعاً، وافر الهيبة، حسن الرمي، مليح الشكل، ذا تعبد وخوف وورع، وكان يتعرض للشهادة.

سمعه كاتبه أبو اليسر يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير+( ).

وقال: =قال ابن واصل: كان من أقوى الناس قلباً وبدناً، ولم ير على ظهر فرس أَحَدٌ أشد منه، كأنما خلق عليه لا يتحرك+( ).

وقال الذهبي: =وكان يقول: طالما تعرضت للشهادة فلم أدركها.

قلت _ أي الذهبي _: قد أدركها على فراشه، وعلى ألسنة الناس: نور الدين الشهيد+( ).

وتتجلى شجاعته في كثرة حروبه وفتوحاته التي تنم عن شجاعة نادرة، وتبدو _أيضاً_ من كثرة تعرضه للشهادة ورغبته فيها.

ومع ذلك مات × على فراشه بعلة الخوانيق التي ألمت بحلقه وذلك سنة 569هـ.

فحبُّ الجبان النفسَ أورده التقى

                   وحبُّ الشجاعِ النفسَ أورده الحربا( )

هذا  وسيمر قريباً ذكر لشجاعته من خلال وصف الشعراء له.

و_ الهيبة الوافرة، والتواضع الجم: كان × مهيباً وقوراً، وفي الوقت نفسه كان جمَّ التواضع لطيف المعشر، وتلك هي أخلاق العظماء.

ولقد اشتهر عنه ذلك الأمر، قال ابن الأثير: =وكان وقوراً مهيباً مع تواضعه.

وبالجملة فحسناته كثيرة، ومناقبه غزيرة لا يحتملها هذا الكتاب+( ).

وقال الذهبي عن ابن عساكر: =وكان من رآه شاهد من جلال السلطنة وهيبته ما يبهره، فإذا فاوضه رأى من لطافته ما يحيره.

حكى من صَحِبه حضراً وسفراً أنه ما سمع منه كلمة فُحش في رضاه ولا في ضجره+( ).

وقال ابن كثير: =وقد كان مهيباً وقوراً شديد الهيبة في قلوب الأمراء، لا يتجاسر أحد أن يجلس بين يديه إلا بإذنه.

  ولم يكن أحد من الأمراء يجلس بلا إذن سوى الأمير نجم الدين أيوب.

وأما أسد الدين شيركوه، ومجد الدين بن الداية نائب حلب، وغيرهما من الأكابر فكانوا يقفون بين يديه.

ومع هذا كان إذا دخل عليه أحد من الفقهاء أو الفقراء قام له، ومشى خطوات، وأجلسه معه على سجادته في وقار وسكون.

وإذا أعطى أحداً منهم شيئاً مستكثراً يقول: هؤلاء جند الله، وبدعائهم ننصر على الأعداء، ولهم في بيت المال حق أضعاف ما أعطيتهم، فإذا رضوا منا ببعض حقهم فلهم المنة علينا+( ).

ز _ الحرص على اتباع السنة: كان حريصا على اتباع السنة ونشرها، والعمل بها, وقد مر بنا أنه كان كثير المطالعة للكتب الدينية، متبعاً للآثار النبوية.

ومما يؤكد ذلك أنه =أظهر ببلاده السنة، وأمات  البدعة، وأمر بالتأذين بحي على الصلاة حي على الفلاح، ولم يكن يؤذن بهما في دولتي أبيه وجده، وإنما كان يؤذن بحي على خير العمل؛ لأن شعار الرفض كان ظاهراً بها+( ).

ومن شدة حرصه على اتباع السنة أنه =قد سُمِّع عليه جزء الحديث وفيه (فخرج رسول الله "متقلداً السيف) فجعل يتعجب من تغير عادات الناس لما ثبت عنه _ عليه السلام _ وكيف كان يربط الأجناد والأمراء على أوساطهم، ولا يفعلون كما فعل رسول الله "؟

ثم أمر الجند بأن لا يحملوا السيوف إلاّ متقلديها، ثم خرج هو في اليوم الثاني الى الموكب، وهو متقلد السيف، وجميع الجيش كذلك؛ يريد بذلك الاقتداء برسول الله "+( ).

ح _ محبة العلم والعلماء والصالحين: كان×محباً للعلم والعلماء والصالحين، وكان حريصاً على التشبه بهم، وتقريبهم، ومؤاخاتهم وزيارتهم( ).

 قال ابن الأثير: =وكان يكرم العلماء، وأهل الدين، ويعظمهم، ويقوم إليهم، ويجلس معهم، وينبسط معهم، ولا يرد لهم قولاً، ويكاتبهم بخط يده+( ).

وكان يجزل بهم العطايا _ كما مر _ وكان حريصاً على العلم، ويظهر ذلك من كثرة اطلاعه على الكتب، وحرصه على سماع الحديث.

قال ابن عساكر: =روى الحديث، وأسمعه بالإجازة+( ).

ط _ الرحمة بالمساكين: مر بنا شيء من ذلك، ومن مظاهر تلك الرحمة أنه إذا احتلم مماليكه أعتقهم وزوجهم بجواريه، ومتى تشكى الناس من ولاته عَزَلَهم( ).

هذه بعض صفاته ومناقبه، فما أحرى بمن اتصف بها أن ينال كل خير ومجد وسؤدد.

ثانياً: جهاده، وفتوحاته، وإصلاحاته:

لقد أخذ بقلبه، وغدا بلبه حب الجهاد، ولقد كانت نفسه تتوق إلى الشهادة في سبيل الله _  كما مر _.

=قال الموفق عبداللطيف: كان نورالدين لم ينشف له لِبَدٌ من الجهاد+( ).

 ويشهد لذلك ويصدقه أنه قضى جل عمره في الجهاد في سبيل الله، وفي فتح الحصون، والمدن، والقلاع.

ولقد اتسع ملكه، وكثرت فتوحاته مع أنه لم يكن تحت يده حين قُتِلَ والدُه إلا ملك حلب.

قال ابن الأثير: =وكان قد اتسع ملكه جداً، وخطب له بالحرمين الشريفين، وباليمن+( ).

وقال ابن الجوزي: =جاهد، وانتزع من الكفار نيفاً وخمسين حصناً+( ).

وقال ابن كثير: =أقام الحدود، وفتح الحصون، وكسر الفرنج مراراً عديدة، واستنقذ من أيديهم معاقل كثيرة من الحصون المنيعة، التي كانوا قد استحوذوا عليها من معاقل المسلمين+( ).

وقال الذهبي: =وبنى دار العدل، وأنصف الرعية، ووقف على الضعفاء، والأيتام، والمجاورين، وأمر بتكميل سور المدينة النبوية، واستخراج العين بِأُحُد دفنها السيل، وفتح درب الحجاز، وعمر الخوانق، والرِّبَط، والجسور، والخانات بدمشق وغيرها.

وكذا فعل إذ ملكَ حرَّان، وسنجار، والرُّها، والرقة، وَمنْبِج، وَشيْزَر، وحِمْص، وحماة، وَصرْخد، وبعلبك، وَتدْمُر.

ووقف كتباً كثيرة مثمنة، وكسر الفرنج، والأرمن على حارم، وكانوا ثلاثين ألفاً؛ فقلَّ من نجا+( ).

قال: =وبنى المدارس بحلب، وحمص، وبعلبك، والجوامع، والمساجد+( ).

ثالثاً:_ نور الدين في الأدب:

لقد كان لنور الدين مكانة وأثر في أدب الحروب الصليبية؛ فلقد اصطبغ أدب تلك الفترة بالصبغة الجهادية، فجاء شعراً حياً، مصوراً مآسي الأمة، خالياً من الملق والرياء.

ولقد وجد الأدباء في شخصية نور الدين مادة عظيمة، ورافداً كبيراً لأدبهم؛ فانطلقت ألسنتهم بالثناء عليه، وتصوير بطولته، ووصف معاركه وانتصاراته؛ فأحيوا بذلك مآثره، وخلدوا ذكره.

كل ذلك مع أنه كان لا يأبه بالمديح، ولم يكن يجازي الشعراء على ذلك.

قال الذهبي: =كان تقياً لا يرى بذل الأموال إلا في نفع، وما للشعراء عنده من نَفَاق+( ).

يقول أسامة بن منقذ مبيناً حال نور الدين مع الشعراء:

سلطاننا زاهدٌ والناسُ قد زهدوا

                   له فكل على الخيرات منكمشُ

أيامُه مثل شهر الصوم طاهرة

                   من المعاصي وفيها الجوع والعطش( )

وفيما يلي نماذج مما قيل في نور الدين من شعر.

قال ابن القيسراني يصف شجاعة نور الدين وزهده:

يغشى الوغى أفرس فرسانها

                   وفي التقى أزهد زهادها( )

وقال في وصف عِفَّته، وتجافيه عن الدنيا:

ثنى يدَه عن الدنيا عفافٌ

                   ومال بها عن الأموال زهد( )

وقال مهنئاً له بالظفر في إحدى المعارك:

هذي العزائمُ لا ما تَدَّعي القضبُ

                    وذي المكارم لا ما قالت الكتب

وهذه الهِمَمُ اللاتي متى خطبت

                   تَعَثَّرتْ خلفها الأشعار والخطب

صافحت يابنَ عمادِ الدين ذروتَها

                   براحة للمساعي دونها تعب

مازال جدُّك يبني كلَّ شاهقةٍ

                   حتى بنى قُبَّةً أوتادها الشهبُ

أغْرَتْ سيوفُك بالأفرنج راجفةً

                   فؤادُ روميةَ الكبرى لها يَجِبُ( )

ضربت كبشهم( ) منها بقاصمة

                   أودى بها الصلب وانحطت بها الصُّلَب

طهَّرت أرض الأعادي في دمائهم

                   طهارةً كلُّ سيف عندها جنب( )

وقال بعض الشعراء فيه عندما حاصر قلعة حارم:

ألبست دينَ محمدٍ يا نورَه

                   عِزَّاً له فوق السُّها آساد

مازلت تشمله بميَّاد القنا

                   حتى تثقف عودُه الميادُ

لم يَبْقَ مذ أرهفت عزمك دونه

                   عدد يراع به ولا استعداد

إن المنابر لو تطيق تكلماً

                   حمدتك عن خطبائها الأعواد( )

وقال العماد الأصفهاني في مدح نور الدين وذكر محامده ومآثره:

آثاره حميدةٌ وإنما

                   للمرء من آثاره حميدُها

إن الورى بحبِّه وبغضه

                   يعرف مِن شقيِّها سعيدُها

جلا ظلامَ الظلمِ نورُ الدين عن

                   أرض الشآم فله تحميدُها

إن الرعايا منه في رعايةٍ

                   ونعمة مستوجبٌ مزيدُها

لِنَومِها يسهر بل لأمنها

                   يخاف بل بخصبها يجودها

إلى أن يقول:

يا دولة نورية من الورى

                    وخصبها وَجُودها وجُودُها

فابق لنا يا ملكاً بقاؤه

                   في كل عام للرعايا عيدها

في نعمة جديدة سعودها

                   ودولة سعيدة جدودها( )

   وقال ابن منير الطرابلسي في نور الدين:

رآك الصليبُ صليبَ القناة

                   أمينَ العثارِ مَتينَ العمدْ

تهم فتسلبه ما اقتنى

                   وتدأى فتثكله ما احتشد

زبنتهمُ أمسِ عن صرخد( )

                   فَفَضُّوا كأن نعاماً شرد( )

وقال ابن القيسراني فيه بعد هزيمة الفرنج بموقعة بغري، وبغري مكانٌ من أرض الشام، يقول في مطلع القصيدة:

يا ليت أن الصدَّ مصدود

                   أوْ لا فليت النوم مردودُ

  إلى أن قال:

وكيف لا يُثْنَى على عيشنا الـ

                   محمودِ والسلطانُ محمودُ

وصارم الإسلام لا ينثني

                   إلا وشِلوُ الكفرِ مقدودُ

مكارمُ لم تكُ موجودةً

                   إلا ونور الدين موجود

وكم له من وقفة يومها

                   عند الملوك الكفر مشهود( )

  وعندما توفي نور الدين رثاه الشعراء، وبينوا عظم المصيبة التي حلت بالإسلام والمسلمين بسبب فقده.

 وممن رثاه العماد الصفهاني، حيث رثاه بقصيدة طويلة قال فيها:

الدين في ظُلَمٍ لغيبة نوره

                   والدهر  في غمٍّ لفقد أميره

مَنْ ينصر الإسلام في  غزواته

                   فلقد أصيب بركنه وظهيره

مَنْ للفرنج ومن لأسر ملوكها

                   من للهدى يبغي فِكَاكَ أسيره

من للبلاد ومن لنصر جيوشها

                   من للجهاد ومن لحفظ أموره

من للفتوح محاولاً أبكارها

                   برواحه في غُدْوِهِ وبكوره

ثم قال معدداً مناقب نور الدين:

أنت الذي أحييت شرع محمد

                   وقضيت بعد وفاته بنشوره

كم قد أمرت بفتح خندق  معقل

                   حتى سكنت اللحد في محفوره

كم قيصرٍ للروم رمتَ  بقسره

                   إرواء بيض الهند من تاموره( )

أوتيت فتح حصونه وملكت عقـ

                   ـر بلاده وسبيت أهل قصوره

 ثم قال:

من للكريم ومن لنعش عثاره

                   من لليتيم ومن لجبر كسيره

لهفي على تلك الأنامل إنها

                   مُذْ غُيِّبت غاضَ الندى ببحوره

 إلى أن قال:

يا حاملين سريره مهلاً فَمِنْ

                   عجبٍ نهوضكم بحمل ثبيره

نزلت ملائكة السماء لدفنه

                   مستجمعين على شفير حفيره

حياك مُعْتَلُّ الصَّبا بنسيمه

                   وسقاك مُنْهَلُّ الحيا بدروره

وسكنت عِلِّيينَ في فردوسه

                   حلف المسرة ظافراً بأجوره( )

 رحم الله نور الدين، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير ما جزى به عباده الصالحين الصادقين.

 شيخ الإسلام أحمد بن تيمية

=نبذة عن نشأته وأخباره في صباه+

هو تقي الدين، أبو العباس، أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية الحراني، ولد سنة 661هـ، وتوفي سنة 728هـ.

ذلك الإمام الحبر، والعلامة البحر، الذي دنت له قطوف العلوم، ودانت له نواصي الحكمة، والذي طبقت شهرته الخافقين، وسار بحديثه الركبان، فهو أُمَّةٌ في الخير، وقدوة في الهدى والتقوى.

والحديث عن جوانب النبوغ والألمعية في سيرة هذا الإمام يطول، والمقام لا يتسع للإسهاب والإطناب؛ لأن جوانب العظمة في شخصيته كثيرة جداً، يصعب حصرها، والوقوف عليها.

وإليك فيما يأتي نبذة عن نشأته وبعض أخباره في صباه:

قال العلامة محمد بن عبدالهادي في كتابه الماتع العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية: =قيل: إن جده محمد بن الخضر حج على درب تيماء، فرأى هناك طفلة، فلما رجع وجد امرأته قد ولدت له بنتاً، فقال: يا تيمية يا تيمية؛ فلقب بذلك.

قال ابن النجار ذكر لنا أن جده محمداً كانت أمه تسمى تيمية، وكانت واعظة؛ فنسب إليها، وعرف بها.

ولد شيخنا أبو العباس بـ: حران يوم الاثنين عاشر، وقيل: ثاني عشر شهر ربيع الأول سنة 661 هـ إحدى وستين وستمائة، وسافر والداه به، وبإخوته إلى الشام عند جور التتار؛ فساروا بالليل ومعهم الكتب على عجلة؛ لعدم الدواب، فكاد العدو يلحقهم، ووقفت العجلة؛ فابتهلوا إلى الله، واستغاثوا به؛ فنجوا وسلموا.

وقدموا دمشق في أثناء سنة سبع وستين وستمائة؛ فسمعوا من الشيخ زين الدين أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي جزء ابن عرفة كله، ثم سمع شيخنا الكثير من ابن أبي اليسر، والكمال ابن عبد، والمجد بن عساكر، وأصحاب الخشوعي، ومن الجمال يحيى بن الصيرفى، وأحمد بن أبي الخير، والقاسم الأربلي، والشيخ فخر الدين بن البخاري، والكمال عبدالرحيم، وأبي القاسم بن علان، وأحمد بن شيبان، وخلق كثير+( ).

ثم قال ابن عبدالهادي متحدثاً عن شيوخ ابن تيمية، والكتب التي سمعها وقرأها والعلوم التي برع فيها في بداية طلبه، وعن فرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته: =وشيوخه الذين سمع منهم أكثر من مائتي شيخ.

وسمع مسند الإمام أحمد بن حنبل مرات، وسمع الكتب الستة الكبار، والأجزاء، ومن مسموعاته: معجم الطبراني الكبير، وعني بالحديث، وقرأ، ونسخ، وتعلم الخط، والحساب في المكتب، وحفظ القرآن، وأقبل على الفقه، وقرأ العربية على ابن عبدالقوي، ثم فهمها، وأخذ يتأمل كتاب سيبويه؛ حتى فهم في النحو، وأقبل على التفسير إقبالاً كلياً؛ حتى حاز فيه قصب السبق، وأحكم أصول الفقه وغير ذلك.

هذا كله وهو بعد ابن بضع عشرة سنة؛ فانبهر أهل دمشق من فرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه.

واتفق أن بعض مشايخ العلماء بحلب قدم إلى دمشق، وقال: سمعت في البلاد بصبي يقال له أحمد بن تيمية، وأنه سريع الحفظ، وقد جئت قاصداً لعلي أراه، فقال له خياط: هذه طريق كُتَّابه، وهو إلى الآن ما جاء؛ فاقعد عندنا الساعة يجيء يعبر علينا ذاهباً إلى الكتاب، فجلس الشيخ الحلبي قليلاً، فمر صبيان، فقال الخياط للحلبي: هذاك الصبي الذي معه اللوح الكبير هو أحمد بن تيمية، فناداه الشيخ، فجاء إليه، فتناول الشيخ اللوح، فنظر فيه، ثم قال: يا ولدي امسح هذا؛ حتى أملي عليك شيئاً تكتبه، ففعل، فأملى عليه من متون الأحاديث أحد عشر أو ثلاثة عشر حديثاً، وقال له: اقرأ هذا، فلم يزد على أن تأمله مرة بعد كتابته إياه، ثم دفعه إليه، وقال: اسمعه علي، فقرأه عليه عرضاً كأحسن ما أنت سامع، فقال له يا ولدي: امسح هذا، ففعل فأملى عليه عدة أسانيد انتخبها، ثم قال: اقرأ هذا، فنظر فيه كما فعل أول مرة، فقام الشيخ وهو يقول: إن عاش هذا الصبي؛ ليكونن له شأن عظيم؛ فإن هذا لم ير مثله أو كما قال+( ).

وأورد ابن ناصر الدين الدمشقي قول أبي المظفر السرمري في المجلس السابع والستين من أماليه في الذكر والحفظ: =ومن عجائب ما وقع في الحفظ في أهل زماننا شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن تيمية؛ فإنه كان يمر بالكتاب، فيطالعه مرة، فينتقش في ذهنه، فيذاكر به، وينقله في مصنفاته بلفظه ومعناه.

ومن أعجب ما سمعته عنه ما حدثني به بعض أصحابه: أنه لما كان صبياً في بداية أمره أراد والده أن يخرج بأولاده يوماً إلى البستان على سبيل التنزه، فقال له: يا أحمد تخرج مع إخوتك تستريح؛ فاعتلَّ عليه، فألحَّ عليه والده؛ فامتنع أشد الامتناع، فقال: أشتهي أن تعفيني من الخروج، فتركه وخرج بإخوته، فظلوا يومهم في البستان، ورجعوا آخر النهار، فقال: يا أحمد أوحشت إخوتك اليوم، وتكدّر عليهم بسبب غيبتك عنهم؛ فما هذا؟

فقال: يا سيدي! إنني اليوم حفظت هذا الكتاب؛ لكتاب معه، فقال: حفظته؟! كالمنكر المتعجب من قوله.

فقال له: استعرضه عليَّ، فاستعرضه؛ فإذا به قد حفظه جميعه، فأخذه وقبَّله بين عينيه، وقال: يا بني لا تخبر أحداً بما قد فعلت؛ خوفاً عليه من العين، أو كما قال+( ).

وقال الحافظ الذهبي × _ متحدثاً عن نشأة ابن تيمية _: =نشأ في تصوِّن تام، وعفاف، وتألُّه، وتعبد، واقتصاد في الملبس والمأكل، وكان يحضر المدارس، والمحافل في صغره، ويناظر، ويفحم الكبار، ويأتي بما يتحير منه أعيان البلد في العلم؛ فأفتى وله تسع عشرة سنة، بل أقلّ، وشرع في الجمع، والتأليف من ذلك الوقت، وأكب على الاشتغال ومات والده، وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم، فدرس بعده بوظائفه وله إحدى وعشرون سنة، واشتهر أمره، وبَعُدَ صيتُه في العالم، وأخذ في تفسير الكتاب العزيز في الجُمَعِ على كرسي من حفظه، فكان يورد المجلس، ولا يتلعثم، وكذا كان الدرس بتؤدة، وصوت جهوري فصيح+( ).

وقال ابن عبدالهادي × متحدثاً عن نشأة ابن تيمية: =وقال بعض قدماء أصحاب شيخنا _ وقد ذكر نبذة من سيرته _: أما مبدأ أمره ونشأته فقد نشأ من حين نشأ في حجور العلماء راشفاً كؤوس الفهم، راتعاً في رياض التفقه، ودوحات الكتب الجامعة لكل فن من الفنون، لا يلوي إلى غير المطالعة، والاشتغال، والأخذ بمعالي الأمور خصوصاً علم الكتاب العزيز، والسنة النبوية ولوازمها.

ولم يزل على ذلك خلفاً صالحاً سلفياً متألهاً عن الدنيا صَيِّناً تقياً، براً بأمه، ورعاً عفيفاً، عابداً ناسكاً، صواماً قواماً، ذاكراً لله _ تعالى _ في كل أمر، وعلى كل حال، رجاعاً إلى الله _ تعالى _ في سائر الأحوال والقضايا، وقافاً عند حدود الله _ تعالى _ وأوامره ونواهيه، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر بالمعروف، لا تكاد نفسه تشبع من العلم؛ فلا تروى من المطالعة، ولا تمل من الاشتغال، ولا تكل من البحث، وقَلَّ أن يدخل في علم من العلوم من باب من أبوابه إلا ويفتح له من ذلك الباب أبواب، ويستدرك مستدركات في ذلك العلم على حذاق أهله، مقصودُه الكتاب والسنة.

ولقد سمعته في مبادىء أمره يقول: إنه ليقف خاطري في المسألة والشيء، أو الحالة التي تشكل عليَّ، فأستغفر الله _تعالى _ ألف مرة أوأكثر أو أقل؛ حتى ينشرح الصدر، وينحل إشكال ما أشكل.

قال: وأكون إذ ذاك في السوق، أو المسجد، أو الدرب، أو المدرسة لا يمنعني ذلك من الذكر، والاستغفار إلى أن أنال مطلوبي.

قال هذا الصاحب: ولقد كنت في تلك المدة، وأول النشأة إذا اجتمعت به في ختم، أو مجلس ذكر خاص مع أحد المشايخ المذكورين، وتذاكروا، وتكلم مع حداثة سنه أجد لكلامه صولة على القلوب، وتأثيراً في النفوس، وهيبة مقبولة، ونفعاً يظهر أثره، وتنفعل له النفوس التي سمعته أياماً كثيرة بعقبه حتى كان مقالُه بلسان حالِه وحالُه ظاهر له في مقاله شهدت ذلك منه غير مرة.

قلت: ثم لم يبرح شيخنا × في ازدياد من العلوم، وملازمة الاشتغال، والإشغال، وبث العلم ونشره، والاجتهاد في سبل الخير حتى انتهت إليه الإمامة في العلم، والعمل، والزهد، والورع، والشجاعة، والكرم، والتواضع، والحلم، والإنابة، والجلالة، والمهابة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر أنواع الجهاد مع الصدق، والعفة، والصيانة، وحسن القصد، والإخلاص، والابتهال إلى الله، وكثرة الخوف منه، وكثرة المراقبة له، وشدة التمسك بالأثر، والدعاء إلى الله، وحسن الأخلاق، ونفع الخلق، والإحسان إليهم، والصبر على من آذاه، والصفح عنه، والدعاء له، وسائر أنواع الخير.

وكان × سيفاً مسلولاً على المخالفين، وشجى في حلوق أهل الأهواء المبتدعين، وإماماً قائماً ببيان الحق، ونصرة الدين، وكان بحراً لا تكدره الدلاء، وحبراً يقتدي به الأخيار الألباء، طنت بذكره الأمصار، وضنت بمثله الأعصار+( ).

 =علم ابن تيمية+

فإذا أتيت إلى العلم وجدت العباب الزاخر، والبحر المتلاطم، وذلك لما وهبه الله من سعة العلم وغزارته، وقد مر شيء من ذلك.

قال عنه الإمام الحافظ الذهبي ×: =قرأ القرآن، والفقه، وناظر، واستدل وهو دون البلوغ، وبرع في العلم والتفسير، وأفتى، ودرس وله نحو العشرين سنة، وصنف التصانيف، وصار من كبار العلماء في حياة شيوخه، وله من المصنفات الكبار التي سارت بها الركبان، ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراس وأكثر، وفسر كتاب الله _ تعالى _ مدة سنتين من صدره أيام الجمع، وكان يتوقد ذكاءاً، وسماعاته من الحديث كثيرة، وشيوخه أكثر من مائتي شيخ، ومعرفته بالتفسير إليها المنتهى، وحفظه للحديث ورجاله وصحته وسقمه، فما يلحق فيه، وأما نقله للفقه، ومذاهب الصحابة والتابعين فضلاً عن المذاهب الأربعة، فليس له فيه نظير، وأما معرفته بالملل، والنحل، والأصول، والكلام، فلا أعلم له فيه نظيراً، ويدري جملة صالحة من اللغة، وعربيته قوية جداً، ومعرفته بالتاريخ والسير فعجب عجيب+( ).

وقال في موضع آخر: =كان آية في الذكاء، وسرعة الإدراك، رأساً في معرفة الكتاب والسنة والاختلاف، بحراً في النقليات، هو في زمانه فريد عصره، علماً وزهداً، وشجاعة وسخاء، وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وكثرة تصانيف.

وقرأ وحصل وبرع في الحديث، والفقه، وتأهل للتدريس، والفتوى وهو ابن سبع عشرة سنة، وتقدم في علم التفسير، والأصول، وجميع علوم الإسلام أصولها، وفروعها، ودقها، وجلها سوى علم القراءات؛ فإن ذكر التفسير فهو حامل لوائه، وإن عد الفقهاء فهو مجتهدهم المطلق، وإن حضر الحفاظ نطق وخرسوا، وسرد وأبلسوا، واستغنى وأفلسوا، وإن سمي المتكلمون فهو فردهم، وإليه مرجعهم، وإن لاح ابن سينا يقدم الفلاسفة فلَّسهم وتَيَّسهم، وهتك أستارهم، وكشف عوارهم.

وله يد طولى في معرفة العربية، والصرف، واللغة، وهو أعظم من أن يصفه كلمي، أو ينبه على شأوه قلمي؛ فإن سيرته، وعلومه، ومعارفه، ومحنه، وتنقلاته تحتمل أن ترصع في مجلدتين.

وهو بشر من البشر له ذنوب، فالله _ تعالى _ يغفر له، ويسكنه أعلى جنته؛ فإنه كان رباني الأمة، وفريد الزمان، وحامل لواء الشريعة، وصاحب معضلات المسلمين، وكان رأساً في العلم يبالغ في إطراء قيامه في الحق والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مبالغة ما رأيتها ولا شاهدتها من أحد، ولا لحظتها من فقيه+( ).

وقال في مكان آخر: =وله خبرة تامة بالرجال، وجرحهم، وتعديلهم، وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث، وبالعالي والنازل، وبالصحيح والسقيم مع حفظه لمتونه الذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته، ولا يقاربه، وهو عجب في استحضاره، واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة، والمسند بحيث يصدق عليه أن يقال كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث، ولكن الإحاطة لله غير أنه يغترف من بحر، وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي.

وأما التفسير فَمُسَلَّم إليه، وله في استحضار الآيات من القرآن وقت إقامة الدليل بها على المسألة قوة عجيبة، وإذا رآه المقرىء تحير فيه.

ولفرط إمامته في التفسير، وعظمة اطلاعه يبين خطأ كثير من أقوال المفسرين، ويوهي أقوالاً عديدة، وينصر قولاً واحداً موافقاً لما دل عليه القرآن والحديث+( ).

وقال عنه الحافظ البزار ×: =أما غزارة علومه فمنها ذكر معرفته بعلوم القرآن المجيد، واستنباطه لدقائقه، ونقله لأقوال العلماء في تفسيره، واستشهاده بدلائله، وما أودعه الله _ تعالى _ فيه من عجائبه، وفنون حكمه، وغرائب نوادره، وباهر فصاحته، وظاهر ملاحته؛ فإنه فيه الغاية التي ينتهى إليها، والنهاية التي يُعَوّل عليها.

ولقد كان إذا قُرىء في مجلسه آيات من القرآن يشرع في تفسيرها، فينقضي المجلس بجملته، والدرس برُمَّتِه، وهو في تفسير بعض آية منها.

وكان مجلسه مُقَدَّراً بقدر ربع النهار، يفعل ذلك بديهة من غير أن يكون له قارئ معين يقرأ له شيئاً معيناً يبيِّته؛ ليستعد لتفسيره.

بل كان كل من حضر يقرأ ما تيسر له، ويأخذ هو في القول على تفسيره.

وكان غالباً لا يقطع إلا ويفهم السامعون أنه لولا مضي الزمن المعتاد لأورد أشياء أخر في معنى ما هو فيه من التفسير، لكن يقطع نظراً في مصالح الحاضرين.

ولقد أملى في تفسير [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ] الإخلاص: 1، مجلداً كبيراً.

وقوله _تعالى_: [الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى] طه:5 نحو خمس وثلاثين كراساً+( ).

ثم قال البزار ×: =وأما معرفته، وبصره بسنة رسول الله" وأقواله، وأفعاله، وقضاياه، ووقائعه، وغزواته، ومعرفته بصحيح المنقول عنه وسقيمه، وبقية المنقول عن الصحابة _ رضي الله عنهم _ في أقوالهم، وأفعالهم، وفتاويهم، وأحوالهم، وأحوال مجاهداتهم في دين الله، وما خصوا به من بين الأمة؛ فإنه كان÷ من أضبط الناس لذلك، وأعرفهم فيه، وأسرعهم استحضاراً لما يريده منه؛ فإنه قل أن ذكر حديثاً في مصنف أو فتوى، أو استشهد به، أو استدل به إلا وعزاه في أي دواوين الإسلام هو، ومن أي قسم من الصحيح، أو الحسن، أو غيرهما، وذكر اسم راويه من الصحابة.

وقلَّ أن يسأل عن أثر إلا وبيَّن في الحال حاله، وحال أمره، وذاكره+( ).

وقال _ أيضاً _: =ومن أعجب الأشياء في ذلك أنه في محنته الأولى بمصر لما أخذ وسجن، وحيل بينه وبين كتبه صنف عِدَّةَ كتبٍ صغاراً وكباراً، وذكر فيها ما احتاج إلى ذكره من الأحاديث والآثار، وأقوال العلماء، وأسماء المحدثين، والمؤلفين، ومؤلفاتهم، وعزا كل شيء من ذلك إلى ناقليه وقائليه بأسمائهم، وذكر أسماء الكتب التي ذكر فيها، وأي موضع هو منها كل ذلك بديهة من حفظه؛ لأنه لم يكن عنده حينئذ كتاب يطالعه.

ونُقِّبت، واختُبرت، واعتبرت فلم يوجد فيها _ بحمد الله _ خلل ولا تغيير+( ).

وقال البزار _ أيضاً _: =حكى من يوثق بنقله أنه كان يوماً بمجلس، ومحدثٌ يقرأ عليه بعض الكتب الحديثية، وكان سريع القراءة، فعارضه الشيخ في اسم رجل عن سند الحديث، وقد ذكره القارئ بسرعة، فذكر الشيخ أن اسمه فلان بخلاف ما قرأ، فاعتبروه فوجدوه كما قال الشيخ+( ).

 =ولقد سئل يوماً عن الحديث =لعن الله المحلِّل والمحلَّل له+( ) فلم يزل يورد فيه وعليه حتى بلغ كلامه فيه مجلداً كبيراً+( ).

وقال ابن عبدالهادي ×: =وقال العلامة كمال الدين بن الزملكاني كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحداً لا يعرفه مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف، إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك، ولا يعرف أنه ناظر أحداً فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم سواء أكان من علوم الشرع، أم غيرها إلا فاق فيه أهله، والمنسوبين إليه، وكانت له اليد الطولى في حسن التصنيف، وجودة العبارة والترتيب، والتقسيم والتبيين.

ووقعت مسألة فرعية في قسمة جرى فيها اختلاف بين المفتين في العصر، فكتب فيها مجلدة كبيرة.

وكذلك وقعت مسألة في حد من الحدود، فكتب فيها مجلدة كبيرة، ولم يخرج في كل واحدة عن المسألة، ولا طول بتخليط الكلام، والدخول في شيء والخروج من شيء، وأتى في كل واحدة بما لم يكن يجري في الأوهام، والخواطر، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها+( ).

وقال ابن عبدالهادي: =وقال الشيخ الحافظ فتح الدين أبو الفتح بن سيد الناس اليعمري المصري بعد أن ذكر ترجمة شيخنا الحافظ جمال الدين أبي الحجاج المزي، وهو الذي حداني على رؤية الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن الحليم بن عبدالسلام بن تيمية؛ فألفيته ممن أدرك من العلوم حظاً، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظاً، إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر بالحديث فهو صاحب علمه، وذو روايته، أو حاضر بالنِّحل والملل لم يُرَ أوسعَ من نحلته في ذلك، ولا أرفع من درايته، برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تَرَ عَينُ مَنْ رآه مثله، ولا رأت عينه مثل نفسه، كان يتكلم في التفسير فيحضر مجلسه الجم الغفير، ويردون من بحر علمه العذب النمير، ويرتعون من ربيع فضله في روضة وغدير+( ).

وقال عنه الأستاذ محمد كرد علي ×: =ومع ما حاول أعداؤه أن ينغصوا عيشه دَأَبَ في كل زمان على التأليف، فألف ثلاثمائة مجلد، وكلها في الشرع، وفي حل مسائل عويصة من الدين تَقْرأ فيما وصلنا منها مثالاً من علمه النفيس، وعمله الذي عقمت القرون أن يأتي رجل بما يماثله.

كثرت تآليفه؛ لأنه كان يؤلف من صدره، حفظ الكتاب والسنة، وما دون في شروحهما، وما قاله العلماء في تفسيرهما، وقد ساعدته كثرة محفوظه، وفيض خاطره، وسعة بيانه على تدوين حقائق لم يكتب لعالم مثله في موضوعه، ولو لم يكن له إلا منهاج السنة؛ لكفاه على الأيام فخراً لا يبلى؛ ففيه مثال من علمه، وقوة حجته، ومعرفته بالملل والنحل.

وإذا قلنا: إنه لم يؤلف نظيره في الرد على المخالفين لأهل السنة لصدَّقنا كل مُنْصف من أهل القبلة.

وكتاب منهاج السنة من أصح الشهادات على علو كعبه في معرفة الشرع وما تقلب عليه، وما حاول بعض أهل الأهواء من العبث به، وفيما أورده الموافقون والمخالفون من صحيح الآراء وبهرجها، وكان عنوان مداركه الواسعة بتاريخ الإسلام، وتاريخ الملل والنحل.

ولو ادعينا أنه لم يأت عالم( ) يعرف ما طرأ على الدين، ومذاهب أهله فيه ساعة ساعة، ويوماً يوماً ما قدر أحد على ردِّ دعوانا.

رد على المعتزلة، وعلى الجهمية، وعلى الشيعة، وعلى الفلاسفة، وعلى غيرهم، فجاء بالعجيب من الآراء التي استخرجها من روح الشريعة، واستنبطها ببعد نظره، وشدة بحثه، فما كتب لإمام من الأئمة في عصره، وبعد عصره أن يناقضه، ويرد أقواله.

وعلى كثرة ما حرص الشافعية للتفوق على هذا الحنبلي، وإقناع العلماء بفتاويهم، وتزييف فتاويه _ ما كانوا معه إلا كالأطفال أمام الرجال، وفي مقدمتهم المشايخ بنو السبكي، وما كان لهم في دولة مصر، والشام من السلطان، اعتقلوه في القاهرة والإسكندرية أشهراً لم تمنعه عن التأليف، والتدريس، والوعظ، وما حالوا دون إعجاب المنصفين من العلماء به، وقول الحق فيه، ولادون تقديس الأمة له يوم موته، وهي التي عرفته سباقاً إلى كل خير، يقصد منه صلاح دنياها ودينها.

وكان له في انتصار دولة المماليك على التتار اليد الطولى التي لا تنكر، ودل أنه في السياسة كما هو في الدين إمام عظيم، وأن الدين لا ينفصل عن السياسة في نظره+( ).

 =مؤلفات ابن تيمية+

أما مؤلفاته ومصنفاته وفتاويه فيقصر دونها العد والإحصاء، والبحث والاستقصاء، وقد مرت الإشارة إلى كثرة تصانيفه.

ولهذا قلَّ أن تجد باحثاً منذ عصر ابن تيمية إلى عصرنا هذا إلا ويعول على ابن تيمية، ويأخذ بأقواله، سواء كان ذلك في العقائد أو الفقه، أو الحديث، أو الفلسفة، أو المنطق، أو التربية، أو السلوك، أو السياسة، أو الاقتصاد أو غيرها.

قال ابن عبدالهادي نقلاً عن الذهبي: =ويكتب في اليوم والليلة من التفسير، أو من الفقه، أو من الأصولين، أو من الرد على الفلاسفة والأوائل، نحواً من أربعة كراريس، أو أزيد، وما أبعد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلدة، وله في غير المسألة مصنف مفرد في مجلد، ثم ذكر بعض تصانيفه، وقال: ومنها كتاب في الموافقة بين المعقول والمنقول في مجلدين.

قلت( ): هذا الكتاب، وهو كتاب (درء تعارض العقل والنقل) في أربع مجلدات كبار، وبعض النسخ به في أكثر من أربع مجلدات، وهو كتاب حافل عظيم المقدار، رد الشيخ فيه على الفلاسفة والمتكلمين.

وله كتاب في نحو مجلد أجاب فيه عما أورده كمال الدين بن الشريسي على هذا الكتاب.

وللشيخ × من المصنفات، والفتاوى، والقواعد، والأجوبة، والرسائل، وغير ذلك من الفوائد، مالا ينضبط، ولا أعلم أحداً من متقدمي الأمة، ولا متأخريها جمع مثل ما جمع، ولا صنف نحو ما صنف، ولا قريباً من ذلك، مع أن أكثر تصانيفه إنما أملاها من حفظه، وكثير منها صنفه في الحبس، وليس عنده ما يحتاج إليه من الكتب+( ).

وبعد ذلك شرع ابن عبدالهادي في ذكر مصنفات ابن تيمية( ).

وقال ابن عبدالهادي × في أثناء سرده لكتب ابن تيمية: =وله أجوبة في أحاديث يسأل عنها من صحيحٍ شَرَحه، وضعيف بين ضعفه، وباطل بين بطلانه.

وله من الأجوبة والقواعد شيء كثير غير ما تقدم ذكره يشق ضبطه وإحصاؤه، ويعسر حصره واستقصاؤه.

وسأجتهد إن شاء الله _ تعالى _ في ضبط ما يمكنني من ضبط مؤلفاته في موضع آخر غير هذا، وأبين ما صنفه منها بمصر، وما ألفه منها بدمشق، وما جمعه وهو في السجن، وأرتبه ترتيباً حسناً غير هذا الترتيب بعون الله _ تعالى _ وقوته ومشيئته+( ).

إلى أن قال: =قال الشيخ أبو عبدالله( ): لو أراد الشيخ تقي الدين × أو غيره حصرها _ يعني مؤلفات الشيخ _ لما قدروا؛ لأنه ما زال يكتب، وقد من الله عليه بسرعة الكتابة، ويكتب من حفظه من غير نقل.

وأخبرني غير واحد أنه كتب مجلداً لطيفاً في يوم، وكتب غير مرة أربعين ورقة في جلسة وأكثر، وأحصيت ما كتبه وبيَّضه في يوم، فكان ثمان كراريس في مسألة من أشكل المسائل، وكان يكتب على السؤال الواحد مجلداً.

وأما جواب يكتب فيه خمسين ورقة وستين وأربعين وعشرين _ فكثير.

وكان يكتب الجواب؛ فإن حضر من يُبَيِّضه وإلا أخذ السائل خطه وذهب.

ويكتب قواعد كثيرة في فنون من العلم في الأصول، والفروع، والتفسير، وغير ذلك، فإن وجد من نقله من خطه، وإلا لم يشتهر، ولم يعرف، وربما أخذه بعض أصحابه، فلا يقدر على نقله، ولا يرده إليه؛ فيذهب.

وكان كثيراً ما يقول: قد كتبت في كذا وفي كذا.

ويُسأل عن الشيء فيقول: قد كتبت في هذا، فلا يدري أين هو، فيلتفت إلى أصحابه، ويقول: ردوا خطي وأظهروه؛ لينقل، فمن حرصهم عليه لا يردونه، ومن عجزهم لا ينقلونه، فيذهب، ولا يعرف اسمه.

فلهذه الأسباب وغيرها تعذر إحصاء ما كتبه وما صنفه.

وما كفى هذا إلا أنه لما حبس تفرق أتباعه، وتفرقت كتبه، وخوَّفوا أصحابه من أن يظهروا كتبه، ذهب كل أحد بما عنده، وأخفاه، ولم يظهروا كتبه؛ فبقي هذا يهرب بما عنده، وهذا يبيعه أو يهبه، وهذا يخفيه ويودعه، حتى إن منهم من تسرق كتبه أو تجحد؛ فلا يستطيع أن يطلبها، ولا يقدر على تخليصها، فبدون هذا تتمزق الكتب، والتصانيف.

ولولا أن الله _ تعالى _ لطف، وأعان، ومَنَّ، وأنعم، وجرت العادة في حفظ أعيان كتبه، وتصانيفه _ لما أمكن لأحد أن يجمعها.

ولقد رأيت من خرق العادة في حفظ كتبه، وجمعها، وإصلاح ما فسد منها، ورد ما ذهب منها _ ما لو ذكرته لكان عجباً يعلم به كل منصف أن لله عنايةً به وبكلامه؛ لأنه يذب عن سنة نبيه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين+( ).

 =تعبد ابن تيمة+

أما عبادته وأحواله × فكان عجباً من العجاب، وذلك لما آتاه الله من جلد باهر، ورغبة ومحبة للعبادة، وقد مر شيء من ذلك.

قال تلميذه ابن القيم ×: =وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله_ تعالى _ إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغدَّ سقطت قوتي، أو كلاماً قريباً من هذا.

وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها؛ لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر، أو كلاماً هذا معناه+( ).

وقال البزار ×: =أما عن تعبده ÷ فإنه قلَّ أن سُمعَ بمثله؛ لأنه قد قطع جُلَّ وقته وزمانه فيه، حتى إنه لم يجعل لنفسه شاغلة تشغله عن الله _تعالى _ ما يراد له لا من أهل، ولا من مال.

وكان في ليله متفرداً عن الناس كلهم، خالياً بربه _عز وجل_ ضارعاً، مواظباً على تلاوة القرآن العظيم، مكرراً لأنواع التعبدات الليلية والنهارية.

وكان إذا ذهب الليل، وحضر مع الناس بدأ بصلاة الفجر يأتي بسنتها قبل إتيانه إليهم.

وكان إذا أحرم بالصلاة تكاد تنخلع القلوب؛ لهيبة إتيانه بتكبيرة الإحرام.

فإذا دخل في الصلاة ترتعد أعضاؤه، حتى يميله يمنة ويسرة+( ).

وقال الذهبي × في أثناء كلام في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية:

=بل يقول الحق المر الذي أداه إليه اجتهاده، وحدة ذهنه، وسعة دائرته في السنن والأقوال، مع ما اشتهر عنه من الورع، وكمال الفكرة، وسرعة الإدراك، والخوف من الله، والتعظيم لحرمات الله، فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقائع شامية ومصرية، وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة، فينجيه الله؛ فإنه دائم الابتهال، كثير الاستغاثة، قوي التوكل، ثابت الجأش، له أوراد وأذكار يدمنها بكيفية وجمعية.

وله من الطرف الآخر محبون من العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء، وسائر العامة، تحبه؛ لأنه منتصب؛ لنفعهم ليلاً ونهاراً بلسانه، وقلمه+( ).

 =سمته وهديه وخلقه+

أما عن سمته وهديه وحسن خلقه فكان ضرباً من الخيال، وقد مر شيء من ذلك.

قال ابن القيم في معرض حديث له عن حسن الخلق، والعفو، ومقابلة الإساءة بالإحسان: =وما رأيت أحداً أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام _قدَّس الله روحه_.

وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه.

وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم، وجئت يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوةً وأذىً له، فنهرني، وتنكر لي، واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله، فعزَّاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجونه فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا الكلام، فسرُّوا به، ودعوا له، وعظموا هذه الحال منه، فرحمه الله ورضي عنه+( ).

وقال ابن عبدالهادي ×: =وسمعت الشيخ تقي الدين × يذكر أن السلطان لما جلسا بالشباك أخرج من جيبه فتاوى لبعض الحاضرين في قتله، واستفتاه في قتل بعضهم.

قال( ): ففهمت مقصوده، وأن عنده حنقاً شديداً عليهم؛ لما خلعوه وبايعوا الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير؛ فشرعت في مدحهم، والثناء عليهم، وشكرهم، وأن هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك، أما أنا فهم في حل من حقي، ومن جهتي، وسكَّنت ما عنده عليهم.

قال: فكان القاضي زيد الدين ابن مخلوف قاضي المالكية يقول بعد ذلك: ما رأينا أتقى من ابن تيمية؛ لم نُبْقِ ممكناً في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنا.

ثم إن الشيخ بعد اجتماعه بالسلطان نزل إلى القاهرة، وسكن بالقرب من مشهد الحسين، وعاد إلى بث العلم، ونشره، والخلق يشتغلون عليه، ويقرأون، ويستفتونه، ويجيبهم بالكلامِ، والكتابةِ، والأمراءُ، والأكابرُ، والناسُ يترددون إليه، وفيهم من يعتذر إليه ويتنصل مما وقع.

فقال: قد جعلت الكل في حل مما جرى+( ).

وقال البزار عن زهده: =ولقد اتفق كل من رآه خصوصاً من أطال ملازمته أنه ما رأى مثله في الزهد في الدنيا، حتى لقد صار ذلك مشهوراً؛ بحيث قد استقر في قلب القريب والبعيد من كل من سمع بصفاته على وجهها.

بل لو سُئل عامي من أهل بلد بعيد من الشيخ: من كان أزهد أهل هذا العصر، وأكملهم في رفض فضول الدنيا، وأحرصهم على طلب الآخرة؟ لقال: ما سمعت بمثل ابن تيمية _ رحمة الله عليه _+( ).

وقال عن تواضعه: =أما تواضعه فما رأيت ولا سمعت بأحد من أهل عصره مثله في ذلك؛ كان يتواضع للكبير، والصغير، والجليل، والحقير، والغني الصالح، والفقير.

وكان يدني الفقير الصالح، ويكرمه، ويؤنسه، ويباسطه بحديثه المُسْتَحْلَى زيادة على مثله من الأغنياء، حتى إنه ربما خدمه بنفسه، وأعانه بحمل حاجته؛ جبراً لقلبه، وتقرباً بذلك إلى ربه.

وكان لا يسأم ممن يستفتيه، أو يسأله، بل يقبل عليه ببشاشة وجه، ولين عريكة، ويقف معه حتى يكون هو الذي يفارقه كبيراً أو صغيراً، رجلاً أو امرأة، حُرَّاً أو عبداً، عالماً أو عاميَّاً، حاضراً أو بادياً.

ولا يجبهه، ولا يحرجه، ولا ينفره بكلام يوحشه، بل يجيبه، ويفهمه، ويعرفه الخطأ من الصواب بلطف وانبساط+( ).

وقال عن كرمه: =كان × مجبولاً على الكرم، لا يتطبعه ولا يتصنعه؛ بل هو له سجية، وقد ذكرت فيما تقدم أنه ما شد على دينار ولا درهم قط، بل كان مهما قدر على شيء من ذلك يجود به كله.

وكان لا يرد من يسأله شيئاً يقدر عليه من دراهم ولا دنانير، ولا ثياب ولا كتب ولا غير ذلك، بل ربما كان يسأله بعض الفقراء شيئاً من النفقة، فإن كان حينئذ متعذراً لا يَدَعُه يذهب بلا شيء، بل كان يعمد إلى شيء من لباسه فيدفعه إليه، وكان ذلك المشهور عند الناس من حاله+( ).

وقال: =وحدثني من أثق به: أن الشيخ × كان لا يرد أحداً يسأله شيئاً كَتَبَهُ، بل يأمره أن يأخذ هو بنفسه ما يشاء منها.

وأُخْبِرْنا أنه جاءه يوماً إنسان يسأله كتاباً ينتفع به، فأمره أن يأخذ كتاباً يختاره، فرأى ذلك الرجل بين كتب الشيخ مصحفاً قد اشتُري بدراهمَ كثيرةٍ، فأخذه ومضى، فلام بعض الجماعة الشيخ في ذلك، فقال: أيحسن بي أن أمنعه بعدما سأله؟ دعه فلينتفع به.

وكان الشيخ × ينكر إنكاراً شديداً على من يُسأل شيئاً من كتب العلم ويمنعها من السائل، ويقول: ما ينبغي أن يمنع العلم ممن يطلبه+( ).

أما عن خشوعه، ومسكنه، وتذلـله، وافتقاره إلى الله _عز وجل_ فكان يقضى منه العجب، وتقدم شيء من ذلك.

يقول تلميذه العلامة ابن القيم × في معرض حديث له في منزلة الخشوع في كتابه الماتع مدارج السالكين: =فلا شيء أنفع للصادق من التحقق بالمسكنة، والفاقة والذل، وأنه لا شيء، وأنه ممن لم يَصِحَّ له بعدُ الإسلام حتى يدَّعي الشرف فيه.

ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية _ قدس الله روحه _ من ذلك أمراً لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيراً: مالي شيء، ولا مني شيء، ولا فيَّ شيء، وكان كثيراً ما يتمثل بهذا البيت:

أنا المكدِّي وابن المكدي

                   وهكذا كان أبي وجدي

 وكان إذا أُثني عليه في وجهه يقول: والله إني إلى الآن أجدِّد إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعد إسلاماً جيداً.

وبعث إليَّ في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه، وعلى ظهرها أبيات بخطه من نظمه:

أنا الفقير إلى رب البريات

                   أنا المسيكين في مجموع حالاتي

أنا الظلومُ لنفسي وهي ظالمتي

                   والخيرُ إن يأتِنا من عنده ياتي

لا أستطيع لنفسي جَلب منفعةٍ

                   ولا عن النفس لي دفع المضراتِ

وليس لي دونه ربٌّ يدبرني

                   ولا شفيعٌ إذا حاطت خطيئاتي

إلا بإذن من الرحمن خالقِنا

                   إلى الشفيع كما قد جا في الآياتِ

ولست أملك شيئاً دونه أبداً

                   ولا شريكٌ أنا في بعض ذراتِ

ولا ظهير له كي يستيعن به

                   كما يكون لأرباب الولاياتِ

والفقر لي وصفُ ذاتٍ لازمٌ أبداً

                   كما الغنى أبداً وصفٌ له ذاتي

وهذه الحالُ حال الخلقِ أجمعهم

                   وكلهم عنده عبد له آتي

فمن بغى مطلباً من غير خالقه

                   فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي

والحمد لله ملءُ الكون أجمعه

                   ما كان منه وما مِنْ بَعْدُ قد ياتي( )

 =شجاعته+

أما عن شجاعته، وقوة قلبه، ورباطة جأشه فحدث ولا حرج.

قال الحافظ الذهبي × في ترجمته لشيخ الإسلام ابن تيمية × متحدثاً عن شجاعته: =وأما شجاعته فبها تضرب الأمثال، وببعضها يتشبه أكابر الأبطال؛ فلقد أقامه الله في نوبة غازان، والتقى أعباء الأمر بنفسه، وقام وقعد، وطلع وخرج، واجتمع بالملك مرتين، وبخطلوشاه، وببولاي، وكان قبجق يتعجب من إقدامه وجرأته على المغول، وله حدة قوية تعتريه في البحث؛ حتى كأنه ليث حرب، وهو أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته؛ فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله، ولا والله ما رأى هو مثل نفسه في العلم+( ).

قال ابن القيم ×: =وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس، والتهديد، والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسَرِّهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه.

وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض _ أتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمعَ كلامه فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً، وقوة، ويقيناً، وطمأنينة.

فسبحان من أشهد عباده جَنَّتهُ قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من رَوْحها، ونسيمها، وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إليها+( ).

 وقال ابن عبدالهادي ×: =وفي أول شهر رمضان من سنة اثنتين وسبعمائة، كانت وقعة شقحب المشهورة، وحصل للناس شدة عظيمة، وظهر فيها من كرامات الشيخ، وإجابة دعائه، وعظيم جهاده، وقوة إيمانه، وشدة نصحه للإسلام، وفرط شجاعته، ونهاية كرمه، وغير ذلك من صفاته ما يفوق النعت، ويتجاوز الوصف.

ولقد قرأت بخط بعض أصحابه، وقد ذكر هذه الواقعةَ وكثرةَ مَنْ حضرها مِنْ جيوش المسلمين قال: واتفقت كلمة إجماعهم على تعظيم الشيخ تقي الدين ومحبته، وسماع كلامه، ونصيحته، واتعظوا بمواعظه، وسأله بعضهم مسائل في أمر الدين، ولم يبق من ملوك الشام تركي ولا عربي إلا واجتمع بالشيخ في تلك المدة، واعتقد خيره، وصلاحه، ونُصْحَه لله ولرسوله وللمؤمنين+( ).

وقال البزار ×: =كان ÷ من أشجع الناس، وأقواهم قلباً.

ما رأيت أحداً أثبت جأشاً منه، ولا أعظم عناءاً في جهاد العدو منه، كان يجاهد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده، ولا يخاف في الله لومة لائم.

وأخبَرَ غيرُ واحدٍ أن الشيخ ÷ كان إذا حضر مع عسكر المسلمين في جهاد يكون بينهم واقيتَهُم، وقطبَ ثباتهم، إنْ رأى من بعضهم هلعاً، أو رِقَّةً، أو جبانةً _ شَجَّعَه، وثبَّته، وبشره، ووعده بالنصر والظفر والغنيمة، وبيَّن له فضل الجهاد والمجاهدين، وإنزال الله عليهم السكينة.

وكان إذا ركب الخيل يتَحَنَّك( )، ويجول في العدو كأعظم الشجعان، ويقوم كأثبت الفرسان، ويكبر تكبيراً أنكى في العدو من كثير من الفتك بهم، ويخوض فيهم خوض رجل لا يخاف الموت.

وحدثوا أنهم رأوا منه في فتح عكة أموراً عظيمة يعجز الواصف عن وصفها.

قالوا: ولقد كان السبب في تملك المسلمين إياها بفعله، ومشورته، وحسن نظره+( ).

وقال ابن عبدالهادي ×: =ولقد أخبرني حاجب من الحجاب الشاميين _أمير من أمرائهم_ ذو دين متين، وصدق لهجة معروف في الدولة، قال: قال لي الشيخ يوم اللقاء، ونحن بمرج الصفر، وقد تراءى الجمعان: يا فلان، أوقفني موقف الموت، قال: فسقته إلى مقابلة العدو، وهم منحدرون كالسيل تلوح أسلحتهم من تحت الغبار المنعقد عليهم.

ثم قلت له: يا سيدي، هذا موقف الموت، وهذا العدو قد أقبل تحت هذه الغبرة المنعقدة، فدونك وما تريد.

قال: فرفع طرفه إلى السماء،وأشخص بصره، وحرك شفتيه طويلاً، ثم انبعث، وأقدم على القتال، وأما أنا فَخُيِّل إلي أنه دعا عليهم، وأن دعاءه استجيب منه في تلك الساعة.

قال: ثم حال القتال بيننا والالتحام، وما عدت رأيته؛ حتى فتح الله ونصر، وانحاز التتار إلى جبل صغير؛ عصموا نفوسهم به من سيوف المسلمين تلك الساعة، وكان آخر النهار.

قال: وإذا أنا بالشيخ، وأخيه يصيحان بأعلى صوتيهما؛ تحريضاً على القتال، وتخويفاً للناس من الفرار.

فقلت: يا سيدي، لك البشارة بالنصر؛ فإنه قد فتح الله، ونصر، وهاهم التتار محصورون بهذا السفح، وفي غد _ إن شاء الله تعالى _ يؤخذون عن آخرهم.

قال: فحمد الله _ تعالى _ وأثنى عليه بما هو أهله، ودعا لي في ذلك الموطن دعاءاً وجدت بركته في ذلك الوقت وبعده.

هذا كلام الأمير الحاجب+( ).

وكما أنه ضرب أروع الأمثلة في الشجاعة في ميادين الوغى؛ فقد ضرب أروعها في الشجاعة الأدبية، وذلك في إنكار المنكر، والرد على المخالفين بقوة علم وبيان، وسعة صدر وسلامة برهان، وقوة احتمال وصبر على معاناة الأهوال؛ فكان لذلك أبلغ الأثر في تجديد الدين، ونفي ما ألصق به من تحريف الغالين، وزيف المبطلين.

يقول الأستاذ محمد كرد علي × في ترجمته لشيخ الإسلام ابن تيمية: =وما سُمع لأحد علماء الدين في عصره صوت مثل صوته في إحقاق الحق، ونصرة سلطان الإسلام+( ).

وقال: =إن استعانة خصوم ابن تيمية بقوة رجال الدولة في مسألة شد الرحال إلى قبور الأنبياء، والأولياء، والصالحين وفي غير ذلك من البدع التي أقروها، والشريعةُ تنكرها إنكاراً ظاهراً كما يفهم من آي الكتاب العزيز، وهدي الصحابة، والتابعين، والعلماء العاملين، واغتباطهم بما ظنوه ظفراً لهم في تلك المعركة الشديدة _ قد كان من نتائجه مسخ الشريعة عند المتأخرين، وبقيت الأمة على إقرار الخرافات، والبدع إلى يوم الناس هذا في بلاد المسلمين كافة، وكأنهم اخترعوا شريعة أخرى استمالوا بها العوام، ومزجوها بالشريعة الأصلية رغم أنوف الخواص؛ فركبوا عار الأبد، ولعنوا بما بدلوا وحرفوا، هو لم يأت ببدع، وهو سلموا بكل البدع، فكان العالِمُ العاملُ حقاً، وكانوا عَبَدَة أوهام وضلالات.

أراد شرعاً نقياً من الأدران، وهم تساوت عندهم النقاوة والنفاية؛ لأنهم يقصدون بمناقشاتهم الظهور، وكسب قلوب الغوغاء على أي حال.

لو عمت دعوة ابن تيمية _ ولِدعوته ما يماثلها في المذاهب الإسلامية، ولكنها عنده كانت حارة، وعند غيره فاترة _ لسلم هذا الدين من تخريف المخرفين على الدهر، ولما سمعنا أحداً في الديار الإسلامية يدعو لغير الله، ولا ضريحاً تشد إليه الرحال بما يخالف الشرع، ولا يعتقد بالكرامات على ما ينكره دين أتى للتوحيد لا للشرك، ولسلامة العقول لا للخبال والخيال+( ).

 =فراسته الصادقة+

الفراسة هي التأمل، والتثبت، وصحة النظر.

وسببها _ كما يقول ابن القيم _ نور يقذفه الله في قلب عبده، يفرق بين الحق والباطل، والحالي والعاطل، والصادق والكاذب.

وحقيقتها أنها خاطر يهجم على القلب ينفي ما يضاده، يثب على القلب وثوب الأسد على الفريسة.

وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان؛ فمن كان أقوى إيماناً فهو أحدُّ فراسة( ).

ولقد كان لشيخ الإسلام ابن تيمية × قِدْحٌ معلى، ونصيب أوفى من الفراسة، وله أخبار في ذلك يطول ذكرها.

ولندع الكلام لتلميذه العلامة ابن القيم × يتحدث عن ذلك، يقول:

=ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية × أموراً عجيبة، وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم، ووقائع فراسته تستدعي سفراً ضخماً.

أخبر أصحابه بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة، وأن جيوش المسلمين تُكْسَر، وأن دمشق لا يكون بها قَتْلٌ عامّ ولا سَبْي عام، وأن كَلَب الجيش وحدته في الأموال، وهذا قبل أن يَهِمَّ التتار بالحركة.

ثم أخبر الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتار وقصدوا الشام: أن الدَّائرة والهزيمة عليهم، وأن الظفر والنصر للمسلمين، وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يميناً، فيقال له: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً.

وسمعته يقول ذلك، قال: فلما أكثروا علي، قلت: لا تكثروا، كتب الله _تعالى_ في اللوح المحفوظ: أنهم مهزومون في هذه الكَرَّة، وأن النصر لجيوش الإسلام، قال: وأطعمتُ بعض الأمراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو.

وكانت فراسته الجزئية في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر.

ولما طُلبَ إلى الديار المصرية، وأريد قتله _ بعدما أنضجت له القدور، وقُلِّبت له الأمور _ اجتمع أصحابه لوداعه، وقالوا: قد تواترت الكتب بأن القوم عاملون على قتلك، فقال: والله لا يَصِلُون إلى ذلك أبداً، قالوا: أفتحبس؟ قال: نعم، ويطول حَبْسي، ثم أخرج، وأتكلم بالسنة على رؤوس الناس، سمعته يقول ذلك.

ولما تولى عدوه الملقب بالجاشنكير المُلْك أخبروه بذلك، وقالوا: الآن بلغ مراده منك، فسجد لله شكراً وأطال، فقيل له: ما سبب هذه السجدة؟ فقال: هذا بداية ذُله، ومفارقة عزه من الآن، وقرب زوال أمره، فقيل: متى هذا؟ فقال: لا تربط خيول الجند على القرط حتى تُغلب دولته، فوقع الأمر مثل ما أخبر به، سمعت ذلك منه.

وقال مرة: يدخل عليَّ أصحابي وغيرهم، فأرى في وُجُوههم وأعينهم أموراً لا أذكرُها لهم.

فقلت له _ أو غيري _ لو أخبرتهم؟ فقال: أتريدون أن أكون معرّفاً كمعرف الولاة؟

وقلت له يوماً: لو عاملتنا بذلك لكان أدعى إلى الاستقامة والصلاح، فقال: لا تصبرون معي على ذلك جمعة، أو قال: شهراً.

وأخبرني غير مرة بأمور باطنة تختص بي مما عزمت عليه، ولم ينطق به لساني.

وأخبرني ببعض حوادث كبار تجري في المستقبل، ولم يعين أوقاتها، وقد رأيت بعضها، وأنا أنتظر بقيتها.

وما شاهده كبار أصحابه من ذلك أضعاف أضعاف ما شاهدته، والله أعلم+( ).

 =ابن تيمية والشعر+

لم يكن ابن تيمية × متمحمضاً للشعر؛ وإنما كان يستروح له، ويستشهد به، ويقوله إذا احتاج إلى ذلك إما جواباً لسؤال جاء شعراً، أو يبتدئ ذلك في بعض الأحيان.

ومن الأبيات التي كان يستشهد بها قول أبي تمام:

من لم يقد فيطير في خيشومه

                   رهجُ الخميس فلن يقود خميسا

وكذلك قول المتنبي:

يا من ألوذ به فيما أؤمله

                   ومن أعوذ به مما أحاذره

لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره               ولا يهيضون عظماً أنت جابره

وكان _ كما يقول الصفدي _ كثيراً ما ينشد:

تموت النفوس بأوصابها

                   ولم تدر عوادها ما بها

وما أنصفت مهجة تشتكي

                   إلى غير أحبابها ما بها

وأما شعره فله قصائد، وقد مضى ذكر لقصيدته التائية في الافتقار إلى الله _عز وجل_.

ومن أشهر ما يثبت من الشعر الذي قاله ما يلي:

القصيدة الأولى: قصيدته التائية في القدر: وهي التي أجاب بها عن السؤال الذي أُورد على لسان أحد علماء الذمة( )؛ حيث سأل شيخ الإسلام ابن تيمية سؤالاً في القدر على مذهب الجبرية، ونظم ذلك السؤال شعراً في ثمانية أبيات؛ فلما وقف عليها شيخ الإسلام× فكَّر لحظة يسيرة، ثم أنشأ يكتب جوابها نظماً على بحر الأبيات الواردة وقافيتها.

وجوابه هذا من الأمور العظيمة الدالة على ذكاء وفطنة خارقتين للعادة.

ويكْمُنُ حُسْنُ هذه القصيدة في شرف موضوعها، ودقة معانيها، وإصابتها للغرض، واحتوائها على علوم عظيمة.

فكيف إذا كانت من إمام جليل كابن تيمية؟ وكيف إذا كان قد نظمها على البديهة؟

هذا وقد كان مقصدُ السائلِ الطعنَ في الشريعة.

ولما ورد هذا السؤال على علماء الإسلام، واشتهر بين الناس _ انتدب غير واحد من الأعلام غير شيخ الإسلام من أكابر علماء مصر والشام، والأندلس لجواب ذلك السؤال نظماً.( )

قال ابن حجر × في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية: =وكان من أذكياء العالم، وله في ذلك أمور عظيمة، منها أن محمد ابن بكر السكاكيني عمل أبياتاً على لسان ذمي في إنكار القدر وأولها _ فذكر البيتين _ ثم قال:

فوقف عليها ابن تيمية، فثنى إحدى رجليه على الأخرى، وأجاب في مجلسه قبل أن يقوم بمائة وتسعة عشر بيتاً، أولها:

سؤالك يا هذا سؤال معاند

                   يخاصم رب العرش باري البرية( )

وإليك نص السؤال الذي أُورد على شيخ الإسلام ابن تيمية × ثم جواب الشيخ عليه( ).

قال السائل:

1_ أيا علماءَ الدين ذميُّ دينكم

                   تحيرَّ دلوه بأوضح حجة

2_ إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم

                   ولم يرضه مني فما وجه حيلتي

3_ دعاني وسدَّ البابَ عنيْ فهل إلى

                   دخوليْ سبيلٌ بينوا لي قضيتي

4_ قضى بضلالي ثم قال: ارضَ بالقضا

                   فما أنا راضٍ بالذي فيه شقوتي

5_ فإن كنت بالمقضي _ياقومُ_ راضياً

                   فَرَبيَ لا يرضى بشؤم بليتي

6_ وهل ليْ رضا ما ليس يرضاه سيدي

                   فقد حرت دلوني على كشف حيرتي

7_ إذا شاء ربيْ الكفرَ مني مشيئةً

                   فهل أنا عاصٍ في اتباع المشيئة

8_ وهل ليْ اختيارٌ أن أخالف حُكْمه

                   فبالله فاشفوا بالبراهين غُلتي

فأجابه شيخ الإسلام × على البديهة بهذه الأبيات التي يبلغ عددها 125 بيتاً، فقال:

1_ سؤالك يا هذا سؤال معاند

                   مخاصم ربِّ العرش باري البريةِ

2_ فهذا سؤالٌ خَاصم الملأَ العُلى

                   قديماً به إبليسُ أصلُ البليةِ

3_ ومن يك خصماً للمهيمن يرجعن

                   على أم رأس هاوياً في الحُفيرةِ

4_ ويدعى خصومُ اللهِ يومَ معادهم

                   إلى النار طُرَّاً معشرَ القدريةِ

5_ سواءٌ نفوه أو سعوا ليخاصموا

                   به اللهَ أو ماروا به للشريعةِ

6_ وأصلُ ضلالِ الخلقِ من كل فرقةٍ

                   هو الخوض في فعل الإله بعِلَّةِ

7_ فإنهموا لم يفهموا حكمةً له

                   فصاروا على نوع من الجاهليةِ

8_ فإن جميعَ الكونِ أوجب فِعْلَه

                    مشيئةُ ربِّ الخلق باري الخليقةِ

9_ وذات إله الخلق واجبة بما

                   لها من صفات واجبات قديمةِ

10_ مشيئتُه مَعْ عِلْمِه ثم قدرة

                   لوازم ذات الله قاضي القضيةِ

11_ وإبداعُه ما شاء من مُبدَعاته

                   بها حِكْمَةٌ فيه وأنواعُ رحمةِ

12_ ولسنا وإن قلنا جَرَتْ بمشيئة

                   من المنكري آياتِه المستقيمةِ

13_ بل الحقُّ أن الحكمَ لله وحده

                   له الخلقُ والأمرُ الذي في الشريعةِ

14_ هو المَلِكُ المحمودُ في كلِّ حالةٍ

                   له المُلْكُ من غير انتقاص بِشِركةِ

15_ فما شاء مولانا الإلهُ فإنه

                   يكون وما لا لا يكون بحيلةِ

16_ وقدرتُه لا نقص فيها وحكمه

                   يَعُمُّ فلا تخصيصَ في ذي القضيةِ

17_ أُرِيْدُ بذا أن الحوادثَ كلَّها

                   بقدرته كانت ومحض المشيئةِ

18_ ومالكُنا في كلِّ ما قد أراده

                   له الحمدُ حمداً يعتلي كلَّ مِدْحةِ

19_ فإن له في الخلق من نعم سرت

                   ومن حكم فوق العقول الحكيمةِ

20_ أموراً يحار العقل فيها إذا رأى

                   من الحكم العليا وكل عجيبةِ

21_ فنؤمنُ أن الله عزَّ بقدرةٍ

                   وخلقٍ وإبرامٍ لحكم المشيئةِ

22_ فنثبت هذا كلَّه لإلهنا

                   ونثبت ما في ذاك من كل حكمةِ

23_ وهذا مقام طالما عجز الأُلى

                   نفوه وكروا راجعين بحيرةِ

24_ وتحقيقُ ما فيه بتبيين غوره

                   وتحرير حقِّ الحق في ذي الحقيقة

25_ هو المطلب الأقصى لِوُرَّاد بحره

                   وذا عسِرٌ في نظم هذي القصيدةِ

26_ لحاجته تبيينَ علمٍ مُحقَّقٍ

                   لأوصاف مولانا الإلهِ الكريمةِ

27_ وأسمائه الحسنى وأحكام دينه

                   وأفعاله في كل هذي الخليقة

28_ وهذا _ بحمد الله _ قد بان ظاهراً

                   وإلهامُه للخلق أفضلُ نعمة

29_ وقد قيل في هذا وخُطَّ كتابُه

                   بيانٌ شفاءٌ للنفوس المريضةِ

30_ فقولك: "لِمْ قد شاء؟" مثل سؤالِ مَنْ

                   يقول: فَلِمْ قد كان في الأزليةِ

31_ وذاك سؤال يبطل العقلُ وَجْهَهُ

                   وتحريمُه قد جاء في كل شرعةِ

32_ وفي الكون تخصيصٌ كثيرٌ يدلُّ من

                   له نوعُ عقلٍ أنه بإرادةِ

33_ وإصدارُه عن واحد بعد واحد

                   أو القولُ بالتجويز رميةُ حيرةِ

34_ ولا ريبَ في تعليق كلِّ مُسَبَّبٍ

                   بما قبله من علة مُوجِبيَّةِ

35_ بل الشأنُ في الأسبابِ أسبابِ ما ترى

                   وإصدارها عن حكم محض المشيئة

36_ وقولك: لِمْ شاء الإلهُ هو الذي

                   أزلَّ عقول الخلق في قَعْر حُفْرةِ

37_ فإن المجوسَ القائلين بخالق

                   لنفع وربٍّ مُبدعٍ للمَضرةِ

38_ سؤالُهم عن علة السرِّ أوقعت

                   أوائلَهم في شبهة الثَّنويةِ

39_ وأن ملاحيدَ الفلاسفةِ الأُلى

                   يقولون بالفعل القديمِ بعلةِ

40_ بغوا علة في الكون بعد انعدامه

                   فلم يجدوا ذاكم فضلوا بضلةِ

41_ وإن مبادي الشر في كل أمة

                   ذوي ملة ميمونة نبويةِ

42_ بخوضهموا في ذاكُمُ صار شركهم

                   وجاء دروس البينات بفترةِ

43_ ويكفيك نقضاً أن ما قد سألتَهُ

__

                   من العذر مردودٌ لدى كل فطرةِ

44_ فأنت تعيب الطاعنين جميعهم

                   عليك وترميهم بكل مذمةِ

45_ وتَنْحل من والاك صَفْوَ مودةٍ

                   وتبغض من ناواك من كل فرقة

46_ وحالهم في كل قول وفعلة

                   كحالك _ يا هذا _ بأرجح حجة

47_ وهَبْك كففتَ اللومَ عن كل كافرٍ

                   وكلِّ غويٍّ خارجٍ عن محجة

48_ فيلزمك الإعراضُ عن كل ظالمٍ

                   على الناس في نفس ومالٍ وحرمة

49_ فلا تغضبن يوماً على سافك دماً

                   ولا سارقٍ مالاً لصاحب فاقة

50_ ولا شاتمٍ عِرْضاً مصوناً وإن علا

                   ولا ناكح فرجاً على وجه غية

51_ ولا قاطع للناس نهجَ سبيلِهم

                   ولا مفسد في الأرض من كل وجهة

52_ ولا شاهدٍ بالزور إفكاً وفريةً

                   ولا قاذف للمحصنات بزنية

53_ ولا مهلك للحرث والنسل عامداً

                   ولا حاكمٍ للعالمين برشوةِ

54_ وكُفَّ لسان اللوم عن كل مفسدٍ

                   ولا تأخذنْ ذا جرمةٍ بعقوبةِ

55_ وسهِّل سبيل الكاذبين تعَمُّداً

                   على ربهم مِنْ كلِّ جاءٍ بفريةِ

56_ وإن قصدوا إضلال من يستجيبهم

                   برومِ فسادِ النوع ثم الرياسةِ

57_ وجادل عن الملعونِ فرعونَ إذ طغى

                   فأُغْرِق في اليم انتقاماً بغضبةِ

58_ وكلِّ كفورٍ مشركٍ بإلههِ

                   وآخرَ طاغٍ كافرٍ بنبوةِ

59_ كعادٍ ونمروذ وقومٍ لصالح

                   وقوم لنوح ثم أصحاب الآيكةِ

60_ وخاصم لموسى ثم سائر من أتى

                   من الأنبياء محيياً للشريعة

61_ على كونهم قد جاهدوا الناس إذ بغوا

                   ونالوا من العاصي بليغ العقوبة

62_ وإلا فكلُّ الخلقِ في كلِّ لفظةٍ

                   ولحظةِ عينٍ أو تحرك شعرةِ

63_ وبطشة كفٍّ أو تخطي قُديمةٍ

                   وكلِّ حراكٍ بل وكل سكينةِ

64_ هم تحت أقدار الإلهِ وحكمهِ

                   فما أنت فيما قد أتيت بحجةِ

65_ وَهَبْكَ رفعت اللومَ عن كل فاعلٍ

                   فعالَ ردىً طرداً لهذي المقيسةِ

66_ فهل يُمْكِننْ  رفعُ الملامِ جميعِهِ

                   عن الناس طُرَّاً عند كلِّ قبيحةِ

67_ وتركُ عقوبات الذين قد اعتدوا

                   وتركُ الورى الإنصافَ بين الرعيةِ

68_ فلا تُضمنَنْ نفسٌ ومالٌ بمثلهِ

                    ولا يعقبن عادٍ بمثل الجريمةِ

69_ وهل في عقول الناس أو في طباعهم

                   قبولٌ لقول النذل: ما وجه حيلتي

70_ ويكفيك نقضاً ما بجسمِ ابنِ آدمٍ

                   صبيٍّ ومجنون وكلِّ بهيمةِ

71_ من الألم المقضيِّ من غير حيلةٍ

                   وفيما يشاء الله أكملُ حكمةِ

72_ إذا كان في هذا له حكمةٌ فما

                   يُظن بخلق الفعل ثم العقوبة

73_ فكيف ومِنْ هذا عذاب مُولَّدٌ

                   عن الفعلِ فِعل العبد عند الطبيعة

74_ كآكِلِ سمٍّ أوجب الموتَ أكلُه

                   وكلٌّ بتقديرٍ لرب البرية

75_ فَكُفْرُك يا هذا كسمٍّ أكلْتَهُ

                   وتعذيبُ نارٍ مثل جرعةِ غصةِ

76_ألست ترى في هذه الدار مَنْ جنى

                   يعاقب إما بالقضا أو بشرعة

77_ ولا عُذْرَ للجاني بتقدير خالقٍ

                   كذلك في الأخرى بلا مَثْنَويَّةِ

78_ وتقدير ربِّ الخلق للذنب موجِبٌ

                   لتقدير عقبى الذنب إلا بتوبةِ

79_ وما كان من جنس المتاب لرفعه

                   عواقبَ أفعالِ العبادِ الخبيثةِ

80_ كخيرٍ به تُمحى الذنوبُ ودعوةٍ

                   تُجاب من الجاني ورُبَّ شفاعة

81_ وقولُ حليف الشرِّ: إني مقدرٌ

                   عليَّ كقول الذئب: هذي طبيعتي

82_ وتقديره للفعل يجلب نقمةً

                   كتقديره الأشياءَ طراً بعلةِ

83_ فهل ينفعن عُذْرُ الملوم بأنه

                   كذا طبعه أم هل يقال لعثرةِ

84_ أم الذمُّ والتعذيب أوكد للذي

                   طبيعته فعل الشرور الشنيعة

85_ فإن كنتَ ترجو أن تجاب بما عسى

                   ينجِّيك من نار الإله العظيمةِ

86_ فدونك ربَّ الخلقِ فاقْصُدْه ضارعاً

                   مريداً لأن يهديْك نحو الحقيقةِ

87_ وذلِّل قيادَ النفسِ للحق واسمعن

                   ولا تعرضن عن فكرة مستقيمةِ

88_ وما بان من حق فلا تتركنَّه

                   ولا تعصِِ من يدعو لأقوم شرعةِ

89_ ودَعْ دِينَ ذي العاداتِ لا تتبَعَنَّه

                   وعُجْ عن سبيل الأمةِ الغضبيَّة

90_ ومن ضل عن حقٍّ فلا تقفونَّه

                   وزنْ ما عليه الناس بالمَعْدِليةِ

91_ هنالك تبدو طالعاتٌ من الهدى

                   بتبشير من قد جاء بالحنفية

92_ بملة إبراهيم ذاك إمامنا

                   ودين رسول الله خير البريةِ

93_ فلا يقبل الرحمنُ ديناً سوى الذي

                   به جاءت الرسْلُ الكرامُ السجيةِ

94_ وقد جاء هذا الحاشرُ الخاتَم الذي

                   حوى كلَّ خير في عموم الرسالةِ

95_ وأخبر عن رب العباد بأنَّ مَنْ

                   غدا عنه في الأخرى بأقبحِ خيبةِ

96_ فهذي دلالاتُ العبادِ لحائر

                   وأما هداه فهو فعلُ الربوبةِ

97_ وفَقْدُ الهدى عند الورى لا يفيد مَنْ

                   غدا عنه بل يجري بلا وجه حجةِ

98_ وحجةُ محتجٍّ بتقدير ربِّه

                   تزيد عذاباً كاحتجاج مريضةِ

99_ وأما رضانا بالقضاء فإنما

                   أمرنا بأن نرضى بمثل المصيبةِ

100_ كسقمٍ وفقرٍ ثم ذلٍّ وغُربةٍ

                   وما كان من مؤذٍ بدون جريمةِ

101_ فأما الأفاعيلُ التي كرهت لنا

                   فلا نصَّ يأتي في رضاها بطاعةِ

102_ وقد قال قومٌ من أولي العلم: لا رضاً

                   بفعلِ المعاصيْ والذنوبِ الكبيرةِ

103_ فإن إلهَ الخلق لم يرضَها لنا

                   فلا نرتضي مسخوطةً لمشيئةِ

104_ وقال فريقٌ: نرتضي بقضائه

                   ولا نرتضي المقضيَّ أقبحَ خصلةِ

105_ وقال فريقٌ: نرتضي بإضافةٍ

                   إليه وما فينا فنلقى بسخطةِ

106_ كما أنها للرب خلقٌ وأنها

                   لمخلوقه كسبٌ كفعل الغريزة

107_ فنرضى من الوجه الذي هو خلقه

                   ونسخط من وجه اكتساب الخطيئةِ

108_ ومعصيةُ العبدِ المكلفِ تركُه

                   لما أمر المولى وإن بمشيئةِ

109_ فإن إله الخلقِ حقَّ مقالُه

                   بأن عبادي في جحيم وجنةِ

110_ كما أنهم في هذه الدار هكذا

                   بل البهم في الآلام ــ أيضاً ــ ونعمة

111_ وحكمتُه العليا اقتضت ما اقتضت من الـ

                   ـفروق بعلمٍ ثم أيدٍ ورحمةِ

112_ يسوق أولى التعذيب بالسبب الذي

                   يقدّره نحو العذاب بعزةِ

113_ ويهدي أولي التنعيم نحو نعيمهم

                   بأعمال صدق في رجاءٍ وخشيةِ

114_ وأمرُ إله الخلق بيَّن ما به

                   يسوق أولي التنعيم نحو السعادةِ

115_ فمن كان من أهل السعادة أثَّرت

                   أوامرُه فيه بتيسير صنعةِ

116_ ومن كان من أهل الشقاوة لم يُبَلْ

                   بأمر ولا نهي بتيسير شقوةِ

117_ ولا مخرجٌ للعبد عما به قضى

                   ولكنه مختارُ حُسْنٍ وسوأة

118_ فليس بمجبورٍ عديمٍ إرادةً

                   ولكنه شاءٍ بخلق الإرادة

119_ ومن أعجبِ الأشياءِ خلقُ مشيئةٍ

                   بها صار مختارَ الهدى والضلالة

120_ فقولك: هل أختار تركاً لحكمه

                   كقولك: هل أختار ترك المشيئة

121_ وأختار لا أختار فعل ضلالة

                   ولو نلت هذا الترك فزت بتوبةِ

122_ وذا ممكن لكنه متوقف

                   على ما يشاء الله من ذي المشيئة

123_ فدونك فافهم ما به قد أُجبْتَ مِنْ

                   معانٍ إذا انحلت بفهم غريزة

124_ أشارت إلى أصل يشير إلى الهدى

                   ولله رب الخلق أكمل مدحةِ

125_ وصلى إله الخلق جل جلاله

                   على المصطفى المختار خير البرية

القصيدة الثانية: قصيدته اللامية في العقيدة، قال ×:

يا سَائِلي عَنْ مَذْهَبِي وعَقيدَتِي

                   رُزِقَ الهُدى مَنْ لِلْهِدايةِ يَسْأَل

اسمَعْ كَلامَ مُحَقِّقٍ في قَـولـِه

                   لا يَنْـثَني عَنـهُ ولا يَتَبَـدَّل

حُبُّ الصَّحابَةِ كُلِّهُمْ لي مَذْهَبٌ

                   وَمَوَدَّةُ القُرْبى بِها أَتَوَسّــل

وَلِكُلِّهِمْ قَـدْرٌ وَفَضْلٌ سـاطِعٌ

                   لكِنَّما الصِّديقُ مِنْهُمْ أَفْضَـل

وأُقِـرُّ بالقُرآنِ ما جاءَتْ بِـهً

                   آياتُـهُ فَهُوَ القَديـمُ المُنْـزَلُ

وجميعُ آياتِ الصِّفاتِ أُمِرُّهـا

                   حَقـاً كما نَقَـلَ الطِّرازُ الأَوَّلُ

وأَرُدُّ عُقْبَتَـهـا إلى نُقَّالِهـا

                   وأصونُها عـن كُلِّ ما يُتَخَيَّلُ

قُبْحاً لِمَنْ نَبَذَ الكِّتابَ وراءَهُ

                   وإذا اسْتَدَلَّ يقولُ قالَ الأخطَلُ

والمؤمنون يَـرَوْنَ حقـاً ربَّهُمْ

                   وإلى السَّمـاءِ بِغَيْرِ كَيْفٍ يَنْزِلُ

وأُقِرُ بالميـزانِ والحَوضِ الذي

                   أَرجـو بأنِّي مِنْـهُ رَيّاً أَنْهَـلُ

وكذا الصِّراطُ يُمَدُّ فوقَ جَهَنَّمٍ

                   فَمُوَحِّدٌ نَـاجٍ وآخَـرُ مُهْمِـلُ

والنَّارُ يَصْلاها الشَّقيُّ بِحِكْمَةٍ

                   وكذا التَّقِيُّ إلى الجِنَانِ سَيَدْخُلُ

ولِكُلِّ حَيٍّ عاقـلٍ في قَبـرِهِ

                   عَمَلٌ يُقارِنُـهُ هنـاك وَيُسْـأَلُ

هذا اعتقـادُ الشافِعيِّ ومالكٍ

                   وأبي حنيفـةَ ثم أحـمد يَنْقـلُ

فإِنِ اتَّبَعْتَ سبيلَهُمْ فَمُوَحِّـدٌ

                   وإنِ ابْتَدَعْتَ فَما عَلَيْكَ مُعَـوَّلًًًً

القصيدة الثالثة: وهي القصيدة العينية التي أجاب فيها عن لغز العلامة الفارقي، وكان ابن تيمية في مقتبل عمره.

وهذه القصيدة أوردها الحافظ ابن عبدالهادي في كتابه العقود الدرية.

قال × نقلاً عن الحافظ البرزالي ×: =كان _ يعني ابن تيمية _ قد نظم شيئاً يسيراً في صغره، وكتبت عنه إذ ذاك، ثم إنه ترك ذلك، وأعرض عنه، وسئل عن مسألة القدر بنظم؛ فأجاب فيها بنظم، وقد قرىء عليه، وسمع منه، وحل لغز الرشيد الفارقي بأبيات تشتمل على نحو مائة بيت على وزن اللغز، وذلك في حياة والده _ رحمه الله تعالى _ وله نحو العشرين من العمر، وكان حله في أسرع وقت.

قلت( ): هذا اللغز الذي أشار إليه الشيخ علم الدين نظمه الشيخ الإمام العلامة رشيد الدين أبو حفص عمر بن اسماعيل بن مسعود الفارقي في اسم ألغزه بوصف أبرزه في لفظ أوجزه لفهم أعجزه.

ما اسمٌ ثلاثيُّ الحروفِ فَثُلْثُهُ

                   مِثْلٌ لهُ والثلثُ ضِعْفُ جَمِيعِهِ

والثلثُ الآخرُ جوهرٌ حلت به الـ

                   أعراضُ جمعاً فأعجبوا لبديعه

وهو المُثَلَّثُ جَذْرُهُ مثلٌ له

                   وإذا يُرَبَّعُ بان في تربيعه

جزءٌ من الفلكِ العَلِيِّ وإنما

                   باقيه خوفٌ أو أمانُ مَرَوعِه

حيٌّ جمادٌ ساكنٌ متحركٌ

                   إن كنت ذا نظرٍ إلى تنويعه

وتراه مع خُمْسِيْه عِلَةُ كونِه

                   معلولُه سِرَّاً بغير مذيعه

وبغير خُمْسِيْه جميعُ النحو مو

                   جودٌ ومحمولٌ على موضوعه

وبحاله فِعْلٌ مضى مستقبلاً

                   حُمِدَتْ صناعتُه لحمد صنيعه

قيدٌ لمطلقه خصوصُ عمومِهِ

                   زيدٌ لمفرده على مجموعه

شيءٌ مقيمٌ في الرحيل وممكنٌ

                   كالمستحيل بطيئُه كسريعه

وأهم ما في الشرعِ والدينِ اسمُهُ

                   ومضافُه بأصوله وفروعه

ودقيقُ معناهُ الجليلِ مناسبٌ

                   عِلْمَ الخليل وليس من تقطيعه

وإذا عروضي تطلَّب حلَّهُ

                   ألفاه في المفروق أو مجموعه

وإذا تَرَصَّعه بِدُرِّ فريدِه

                   عِقْداً يزين الدرّ في ترصيعه

للمنطقيِّ وللحكيم نتاجُه

                   وعلاجُه بذهابه ورجوعه

وله شعارٌ أشعريٌّ واعتقا

                   دٌ حنبليٌّ فاعجبوا لوقوعه

وتمامُه في قول شاعر كندةٍ

                   ما حافظٌ للعهد مثلُ مضيعهِ

يُرْويك في ظمأ ندىً بورودهِ

                   ويريك في ظُلَمٍ هدى بطلوعه

ولقد حَلَلت اللغزَ إجمالاً وفي

                   تفصيله تفصيلُ روضِ ربيعه

فاسْتَجْلِ بِكْراً من وليٍّ بالحلى

                   تهدى لَكُفْءِ الفضل بين ربوعه

فأجاب العبد الفقير إلى ربه أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية حلاً لمعضله، وفصلاً لمجمله، وفتحاً لمقفله، وشرحاً لمشكله( ).

يا عالماً قد فاق أهل زمانه

                   بفنونه وبيانه وبديعه

وَغَدا لأعلام العلوم منارَهم

                    يهدي الهداةَ إلى منير ربوعه

وأجاد نظماً عِقْدَ جيدِ عَقيلةٍ

                   مِنْ دُرِّ بحرِ العلم في ترصيعه

وجلا المعارف في عوارف لفظه

                   أخذاً لعرف العلم من ينبوعه

وأبان عَمَّا قد حوى من كل فَنْــ

                   نٍ قد أحاط بأصله وفروعه

ببيانه السحرِ الحلالِ ولفظِه

                   العذبِ الزلالِ ولفظِ حسنِ صنيعه

بغزيرِ علمٍ وافتنان واسعٍ

                   ألغزت علما في فنون وسيعه

حليته بدقيق وصفٍ صُنْتَه

                   بجليل لفظ ناء عن موضوعه

ووصفته بحلى العلوم وأهلها

                   ونعتَّه بضروبه وضروعه

وجمعتَ في أوصافه الأضداد حتَّـ

                   ى استيأس الطلاب من تتبيعه

والعبدُ لما أن تأمل نَظْمَكم

                   بنظامه أُلْقِيْ له في روعه

أن الذي ألغزتم عِلْمٌ ولما

                   يجعل المظنون من مقطوعه

لكنه أمسى يُحَلِّيه بما

                   حلَّيْتَهُ ويغوص في توقيعه

حتى تجلى الحقُّ من ظلمائه

                   في ليلة من قبل وقت هجوعه

فإذا الذي قد عَنَّ أولَ مرةٍ

                   حق تبلَّج فجرُه بطلوعه

ورأيتُ فيه الوصفَ إما بادياً

                   أو خافياً معناه في مسموعه

لدقيقِ مغزاهُ ولطفِ إشارةٍ

                   فيه وبُعْدُ حُلاه عن موضوعه

فغدوت أكشف عنه كشفاً موجزاً

                   باشإرة تهدي لشطر بقيعه

فاسمَعْ لحلِّ حُلاَهُ في تفصيله

                   واشهد بِقَلْبٍ مقبل بهطوعه

العلم لفظ ذو ثلاثة أحرفٍ

                   وهجاء كُلٍّ مثلُ ما مجموعِه

فإذا يكون مركباً من تسعة

                   جذراً لها فانظر إلى تربيعه

ومُرَبَّعاً ساواه جَذْرُ حسابِه

                   ومثلثاً بحدوده وضلوعه

ويكون أثلاثاً فَثُلْثٌ مثلُه

                   هو لامه إن خُضْتَ في توزيعه

والميم في الجُمَلِ الكبيرِ حسابُه

                   هو أربعون بقول أهل ربيعه

والعلم في الجمل الصغير حسابه

                   عشرون هذا الثلث ضعف جميعه

والثلث عينٌ عينُ كلٍّ ذاتُه

                   هو جوهر والوصف في موضوعه

إذ كانت الأعيان قائمة بها الـ

                   أعراضُ جمعاً فافطنوا لجموعه

حكمٌ يخص العين حرفاً واحداً

                   من بين جنس الحرف في تنويعه

هو تسعةٌ في أصله والعالمُ العلـ

                   ويُّ منه تسعةٌ برقيعه

العرش والكرسي والسبع السمـ

                   وات الطباق فالاسم جزء رفيعه

من عالم الملكوت أعني الغيب إذ

                   عنه كنى لعلو شأن ضليعه

لم يبق إلا جنةٌ أو جاحمٌ

                   فيه المخافةُ أو أمانُ مَرُوعه

بالعلم يحيى اللهُ قلباً ميتاً

                   يسريْ كنورِ ضاءَ حين سطوعِهِ

فلأنه يحيى اسمه حي إذ الـ

                   أحياء فرع حياةِ ربِّ صنيعه

ولأنه يسري اسمه متحرك

                   لوحاً تَنَقَّلَهُ بذهن قريعه

ذا الوصفُ عقليٌّ وفي حسِّيِّه

                   هو جامدٌ هو ساكنٌ بربوعه

إذ كان نوعُ العلمِ معنى جنسهِ

                   عَرَضٌ يقوم بمستوى موضوعه

والحيُّ والمتحركُ الوصفان يخـ

                   تصان شخصاً جوهراً ببقيعه

إذ كان في المحسوس ليس بقائم

                   عرضٌ بآخرَ مِثْلِهِ وتبيعه

أما إذا ما جُرِّد المعقولُ فالـ

                   وصفان في المعنى له بربيعه

ثلثاه حرفا العينِ والميمِ هما

                   في اللفظ من عدم وفي تنويعه

لو إذ جمعت حسابه في أكثر

                   وأضفت خُمْسَيه إلى مجموعه

فمربعاً يضحى ويضحى جذرُه

                   مع أربع عشراً لذي تربيعه

فالجذرُ عِلَّتُه ومعلولُ له

                   من حيث ما هو علةٌ لوقوعه

فالجذر معلولٌ لجذر كائن

                   معلوله فافهم مدارَ رجيعه

فلكونه معلولُ معلولٍ له

                   قد صار معلولاً له برجوعه

ويقول إن العلم منه النحو هـ

                   ذا إن ترد حملاً على موضوعه

فإذا يكون الضمُ علةَ كون هـ

                   ـذا الجمع علة نفسه وجميعه

وبغير خُمْسيْه يعود لأصله

                   علماً وعلمُ النحو بعضُ فروعه

وإذا اعتبرت حروفَه ألفيتَه

                   فعلاً مضى لغةً وفي موضوعه

حكمٌ على المسْتَقْبلات وغيرها

                   لعمومه متعلقاً وذيوعه

إذ من خصائصه تعلقه بكـ

                   لِّ محققٍ مع سبقه لوقوعه

أكرم به أمراً عظيماً نفعُه

                   حُمِدَتْ صناعته بحمد صنيعه

والفعل فيه مصدرٌ وزمانُه

                   وضعاً وملزومٌ لرب صنيعه

فلذاك كان مقيداً ومخصصاً

                   لعموم جنس العلم في تنويعه

هو مفرداً نوعٌ حوى أشخاصه

                   فإذا تركب خَصَّ في تجميعه

فيصح حينئذ مقالةُ قائلٍ

                   قد زاد مفرده على مجموعه

هو ثابتٌ في كلّ حالٍ ممكن

                   ذو عزة صَعْبٌ على مُسْطيعه

حتى يُنالَ فيحمد القوم السُّرى

                   وإذا يقال بطيئه كسريعه

فالبطءُ والإسراع ليس بنفسه

                   بل في الطريق وفي اقتناص منيعه

والعلمُ بالرحمن أولُ صاحبٍ

                   وأهمُّ فرض الله في مشروعه

وأخو الديانةِ طالبٌ لمزيده

                   أبداً ولما يُنْهِهِ بقطوعه

والمرء فاقتُه إليه أشد من

                   فقر الغذاء لعلم حكم صنيعه

في كل وقت والطعام فإنما

                   يحتاجه في وقت شدة جوعه

وهو السبيل إلى المحاسن كلها

                   والصالحات فَسَوأةٌ لمضيعه

وإليه يسند كلُّ فنٍّ نافع

                   بل فارعٌ بأصوله وفروعه

لجلالة المعلوم واللطف الذي

                   للعلم كان مناسباً لبديعه

فالعلمُ ميزانُ الحقائق والعَرَو

                   ضُ كذاك ميزانٌ لدى تقطيعه

والإسمُ بالتحريك من مفروقه

                   والفعل بالتسكين من مجموعه

هو واسطٌ عِقْدَ الفضائلِ كلِّها

                   وبه يزان الحَلْيُ في ترصيعه

وعلاجه بالجد في تحصيله

                   بمقدمات نتاجه ويُنُوعه

ولكل قومٍ منه حظٌّ وافرٌ

                   وحقائقٌ التحقيق في مشروعه

بشعائرٍ لمشاعرِ وقواعدٍ

                   لعقائدِ المعقولِ في مسموعه

وجميعُه متفرقٌ في قوله

                   ما حافظٌ للعهد مثلُ مضيعه

فَلِعَيْنِه ولِلامه ولميمه

                   من ذا الكلام الحظُّ في تبضيعه

يُروى بماء حياته في ورده

                   ظمآنُ تحقيقٍ إلى ينبوعه

ويرى بنور هداه في تبيينه

                   حيرانُ تدقيقٍ طلوع سطيعه

بطلوعه لما أبان بنوره

                   قصد السبيل لحل عقد بديعه

جلى المجلي بَعْدَ بُعْدِ بُدُوِّه

                   مع قرب مقفله وقُربِ مسوعه

وأبان مُجَمْلَه وفَصَّل عِقْده

                   ولروضة الأُنُفِ ارتعى برتوعه

وحَلَى جمالَ البِكر في حَلْي الحُلى

                   فافتضها كفؤُ ثَوَتْ بربوعه

فخذ الجواب مخلصاً فيه اللبا

                   ب ملخصاً في نظمه لسميعه

مع أن نظم الشعر غيرُ محصِّل

                   لكمال مغزاه وشرحِ جميعه

من خاطرٍ مستعجلٍ مُسْتَوفز

                   لم يمعنِ التفكيرَ في مرجوعه

لم يجعلِ التحليل من مصنوعه

                   كلا ولا الفضلات من مصنوعه

إذ كان مخلوقاً لأكبر غاية

                   دار القرار جميلِه وقطيعِه

وعليه من أمر الإله ونهيه

                   ما يلفتُ المعقولَ عن تضييعه

لكنه لا بدَّ للمصدور من

                   نَفْثٍ يريح فؤاده بنخوعه

مع أنه مُزَجى البضاعة نظمُه

                   غِرٌّ بحكم اللفظ في تسجيعه

عبدٌ ذليل عاجز متضعِّف

                   في حال مبداه وحال رجوعه

لكنه لما استعان بربه

                   ثم استكان له بذل خضوعه

فأعانه يسر الجواب فإن يكن

                   حقاً برفق الوصف في توقيعه

فالحمد والفضل العظيم لربنا

                   شكراً على محمودِ حُسْنِ صنيعه

إذ ما بنا من نعمة فَبِمَنِّه

                   والخيرُ منه جميعه بهموعه

أو إن يكن خطأً فمني حيث إن

                   لم أستطع متناولاً لرفيعه

فالنقصُ للإنسان وصف لازم

                   إن كان يعرف نفسه بنخوعه

والحمد لله الرحيم بخلقه الـبـ

                   ــرِّ الودود بعبده ومطيعه

وميسر الخطب العسير بلطفه

                   من بَعْد منعته وبُعْدِ منيعه

ثم الصلاة على النبي وآله

                   والمصطفين من الأنام جميعه

وعليهم التسليم منا دائماً

                   ما اهتز  وجه الأرض بعد خشوعه( )

 =نموذجان من مكاتبات ابن تيمية في سجنه+

لما كان شيخ الإسلام ابن تيمية × في السجن كان يكتب ويؤلف، ويجيب عن الأسئلة.

ومن ضمن ما أنشأه مكاتباتٌ كتبها إلى والدته، وإخوانه، وأحبابه.

وهذه المكاتبات تكشف عن جوانب البر، والمحبة، والصلة، والعفو، والصفح، والرضا، والحرص على تأليف القلوب، وجمع الكلمة إلى غير ذلك من المعاني السامية التي تنم عن نفس راضية، وهمة عالية، وديانة صادقة.

وفيما يلي نموذجان لتلك المكاتبات.

الأول: كتاب من الشيخ إلى والدته وغيرها:

يقول الحافظ ابن عبدالهادي ×: =وقد وقفت على عدة كتب بخط الشيخ، بعثها من مصر إلى والدته، وإلى أخيه لأمه: بدر الدين، وإلى غيرهما.

منها كتاب إلى والدته يقول فيه:

من أحمد بن تيمية إلى الوالدة السعيدة، أقر الله عينها بنعمه، وأسبغ عليها جزيل كرمه، وجعلها من خيار إمائه وخدمه.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين، وإمام المتقين محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً.

كتابي إليكم عن نعم من الله عظيمة، ومنن كريمة، وآلاء جسيمة نشكر الله عليها، ونسأله المزيد من فضله، ونعم الله كلما جاءت في نمو وازدياد، وأياديه جلت عن التعداد.

وتعلمون أن مقامنا الساعةَ في هذه البلاد إنما هو لأمور ضرورية متى أهملناها فسد علينا أمر الدين والدنيا، ولسنا _ والله _ مختارين للبعد عنكم، ولو حملتنا الطيور لسرنا إليكم، ولكن الغائب عذره معه، وأنتم لو اطلعتم على باطن الأمور فإنكم _ ولله الحمد _ ما تختارون الساعة إلا ذلك، ولم نعزم على المقام والاستيطان شهراً واحداً، بل كل يوم نستخير الله لنا ولكم، وادعوا لنا بالخيرة، فنسأل الله العظيم أن يخير لنا ولكم وللمسلمين ما فيه الخيرة في خير وعافية.

ومع هذا فقد فتح الله من أبواب الخير والرحمة والهداية والبركة، ما لم يكن يخطر بالبال، ولا يدور في الخيال، ونحن في كل وقت مهمومون بالسفر، مستخيرون الله _ سبحانه وتعالى _ فلا يظن الظان أنا نُؤْثِرُ على قربكم شيئاً من أمور الدنيا قط، بل ولا نؤثر من أمور الدين ما يكون قربكم أرجح منه، ولكن ثَمَّ أمورٌ كبار نخاف الضرر الخاص والعام من إهمالها، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب.

والمطلوب كثرة الدعاء بالخيرة، فإن الله يعلم ولا نعلم، ويقدر ولا نقدر، وهو علام الغيوب، وقد قال النبي ": =من سعادة ابن آدم استخارته الله، ورضاه بما يقسم الله، ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارة الله، وسخطه بما يقسم الله له+.

والتاجر يكون مسافراً؛ فيخاف ضياع بعض ماله، فيحتاج أن يقيم حتى يستوفيه، وما نحن فيه أمر يَجِلُّ عن الوصف، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كثيراً كثيراً، وعلى سائر من في البيت من الكبار والصغار، وسائر الجيران، والأهل والأصحاب واحداً، واحداً.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً+( ).

الثاني: كتاب بعثه الشيخ من مصر إلى دمشق:

قال فيه: = بعد حمد الله _ تعالى _ والصلاة على نبيه ".

أما بعد: فإن الله _ وله الحمد _ قد أنعم عليَّ من نعمه العظيمة، ومننه الجسيمة، وآلائه الكريمة، ما هو مستوجب لعظيم الشكر، والثبات على الطاعة، واعتياد حسن الصبر على فعل المأمور، والعبد مأمور بالصبر في السراء أعظم من الصبر في الضراء، قال _ تعالى _: [وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)] هود.

وتعلمون أن الله _ سبحانه _ منَّ في هذه القضية من المنن التي فيها من أسباب نصر دينه، وعلو كلمته، ونصر جنده، وعزة أوليائه، وقوة أهل السنة والجماعة، وذل أهل البدعة والفرقة، وتقرير ما قرر عندكم من السنة، وزيادات على ذلك بانفتاح أبواب من الهدى والنصر، والدلائل، وظهور الحق لأمم لا يحصي عددهم إلا الله _ تعالى _ وإقبال الخلائق إلى سبيل السنة والجماعة، وغير ذلك من المنن ما لا بدَّ معه من عظيم الشكر، ومن الصبر وإن كان صبراً في سراء.

وتعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين: تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البين؛ فإن الله _ تعالى _ يقول: [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ] الأنفال:1، ويقول: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا] آل عمران: 103،  ويقول:  [وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] آل عمران: 105.

وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة، والائتلاف وتنهى عن الفرقة والاختلاف.

وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة.

وجماع السنة: طاعة الرسول، ولهذا قال النبي" في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة: =إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أموركم+.

وفي السنن من حديث زيد بن ثابت، وابن مسعود _ فقيهي الصحابة _ عن النبي"أنه قال: =نضَّر الله امرءاً سمع منا حديثاً فبلغه إلى من لم يسمعه، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم تحيط من وراءهم+.

وقوله: =لايغل+: أي لا يحقد عليهن، فلا يبغض هذه الخصال قلب المسلم، بل يحبهن ويرضاهن.

وأول ما أبدأ به من هذا الأصل: ما يتعلق بي، فتعلمون _رضي الله عنكم_ أني لا أحب أن يُؤذَى أحد من عموم المسلمين _ فضلاً  عن أصحابنا _ بشيء أصلاً، لا باطناً ولا ظاهراً، ولا عندي عتب على أحد منهم، ولا لوم أصلاً، بل لهم عندي من الكرامة، والإجلال والمحبة، والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان، كل بحسبه، ولا يخلو لرجل إما أن يكون مجتهداً مصيباً، أو مخطئاً، أو مذنباً، فالأول: مأجور مشكور، والثاني: مع أجره على الاجتهاد: فمعفو عنه، مغفور له، والثالث: فالله يغفر لنا وله، ولسائر المؤمنين؛ فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الأصل.

كقول القائل: فلان قصَّر، فلان ما عمل، فلان أوذي الشيخ بسببه، فلان كان سبب هذه القضية، فلان كان يتكلم في كيد فلان، ونحو هذه الكلمات التي فيها مذمة لبعض الأصحاب، والإخوان؛ فإني لا أسامح من آذاهم من هذا الباب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

بل مثل هذا يعود على قائله بالملام، إلا أن يكون له من حسنة، وممن يغفر الله له إن شاء، وقد عفا الله عما سلف.

وتعلمون _أيضاً_: أن ما يجري من نوع تغليظ، أو تخشين على بعض الأصحاب والإخوان ما كان يجري بدمشق، ومما جرى الآن بمصر، فليس ذلك غضاضة ولا نقصاً في حق صاحبه، ولا حصل بسبب ذلك تَغَيُّرٌ منا، ولا بغض، بل هو بعد ما عومل به من ا لتغليظ والتخشين أرفع قدراً، وأنبه ذكراً، وأحب وأعظم، وإنما هذه الأمور هي من مصالح المؤمنين، التي يصلح الله بها بعضهم ببعض؛ فإن المؤمن للمؤمن كاليدين، تغسل إحداهما الأخرى، وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة، لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة، ما نحمد معه ذلك التخشين.

وتعلمون أنا جميعاً متعاونون على البر والتقوى، واجب علينا نصر بعضنا بعضاً أعظم مما كان وأشد؛ فمن رام أن يؤذي بضع الأصحاب، أو الإخوان؛ لما قد يظنه من نوع تخشين عومل به بدمشق، أو بمصر الساعة، أو غير ذلك _ فهو الغالط.

وكذلك من ظن أن المؤمنين يبخلون عما أمروا به من التعاون والتناصر _ فقد ظن سوءاً و[إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً].

وما غاب عنا أحد من الجماعة، أو قدم إلينا الساعة، إلا ومنزلته عندنا اليوم أعظم مما كانت، وأجل، وأرفع.

وتعلمون _ رضي الله عنكم _ أن ما دون هذه القضية من الحوادث يقع فيها من اجتهاد الآراء، واختلاف الأهواء، وتنوع أحوال أهل الإيمان، وما لا بد منه من نزغات الشيطان _ مالا يتصور أن يعتري عنه نوع الإنسان، وقد قال _تعالى_: [وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)] الأحزاب.

بل أنا أقول ما هو أبلغ من ذلك؛ تنبيهاً بالأدنى على الأعلى، وبالأقصى على الأدنى فأقول:

تعلمون كثرة ما وقع في هذه القضية من الأكاذيب المفتراة، والأغاليط المظنونة، والأهواء الفاسدة، وأن ذلك أمر يجل عن الوصف، وكل ما قيل: من كذب وزور فهو في حقنا خير ونعمة، قال _ تعالى _: [إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)] النور.

وقد أظهر الله من نور الحق وبرهانه ما رد به إفك الكاذب وبهتانه.

فلا أحب أن يُنْتَصر من أحد بسبب كذبه علي، أو ظلمه وعدوانه؛ فإني قد أحللت كل مسلم، وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد بكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي.

والذين كذبوا وظلموا فهم في حل من جهتي.

وأما ما يتعلق بحقوق الله فإن تابوا تاب الله عليهم، وإلا فحكم الله نافذ فيهم؛ فلو كان الرجل مشكوراً على سوء عمله لكنت أشكر كل من كان سبباً في هذه القضية؛ لما يترتب عليه من خير الدنيا والآخرة، لكن الله هو المشكور على حسن نعمه، وآلائه، وأياديه التي لا يقضى للمؤمن قضاءاً إلا كان خيراً له.

وأهل القصد الصالح يشكرون على قصدهم، وأهل العمل الصالح يشكرون على عملهم، وأهل السيئات نسأل الله أن يتوب عليهم.

وأنتم تعلمون هذا من خلقي، والأمر أزيد مما كان، وأوكد لكن حقوق الناس بعضهم مع بعض، وحقوق الله عليهم هم فيها تحت حكم الله.

وأنتم تعلمون أن الصديق الأكبر في قضية الإفك التي أنزل الله فيها القرآن، حلف لا يصل مسطح بن أثاثة؛ لأنه كان من الخائضين في الإفك، فأنزل الله _تعالى_: [وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)] النور، فلما نزلت، قال أبو بكر: بلى،أحب أن يغفر الله لي، فأعاد إلى مسطح النفقة التي كان ينفق.

ومع ما ذكر من العفو والإحسان، وأمثاله، وأضعافه، والجهاد على ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة أمر لا بد منه، [فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ (56)] المائدة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً+( ).

 =وفاة شيخ الإسلام ابن تيمية+

قال ابن عبدالهادي × في معرض حديثه عن وفاة شيخ الإسلام ابن تيمية×: =ثم إن الشيخ _ رحمه الله تعالى _ بقي مقيماً بالقلعة سنتين وثلاثة أشهر وأياماً، ثم توفي إلى رحمة الله ورضوانه، وما برح في هذه المدة مكباً على العبادة، والتلاوة، وتصنيف الكتب، والرد على المخالفين.

وكتب على تفسير القرآن العظيم جملة كثيرة، تشتمل نفائس جليلة، ونكت دقيقة، ومعان لطيفة، وبين في ذلك مواضع كثيرة أشكلت على خلق من علماء أهل التفسير.

وكتب في المسألة التي حُبس بسببها عدة مجلدات:

منها: كتاب في الرد على ابن الإخنائي قاضي المالكية بمصر، تُعْرَف بالإخنائية، ومنها كتاب كبير حافل في الرد على بعض قضاة الشافعية، وأشياء كثيرة في هذا المعنى أيضاً+( ).

إلى أن قال ابن عبدالهادي: =وما زال الشيخ تقي الدين × في هذه المدة معظماً مكرماً، يكرمه نقيب القلعة، ونائبها إكراماً كثيراً، ويستعرضان حوائجه، ويبالغان في قضائها.

وكان ما صنفه في هذه المدة قد خرج بعضه من عنده، وكتبه بعض أصحابه، واشتهر، وظهر.

فلما كان قبل وفاته بأشهر ورد مرسوم السلطان بإخراج ما عنده كله، ولم يبق عنده كتاب، ولا ورقة، ولا دواة، ولا قلم، وكان بعد ذلك إذا كتب ورقة إلى بعض أصحابه يكتبها بفحم، وقد رأيت أوراقاً عدة بعثها إلى أصحابه، وبعضها مكتوب بفحم+( ).

ثم أورد ابن عبدالهادي بعض هذه الأوراق التي كتبها ابن تيمية وفيها: =ونحن ولله الحمد والشكر في نعم عظيمة، تتزايد كل يوم، ويجدد الله _ تعالى _ من نعمه نعماً أخرى، وخروج الكتب كان من أعظم النعم؛ فإني كنت حريصاً على خروج شيء منها؛ لتقفوا عليه، وهم كرهوا خروج الإخنائية؛ فاستعملهم الله _تعالى_ في إخراج الجميع، وإلزام المنازعين بالوقوف عليه، وبهذا يظهر ما أرسل الله به رسوله من الهدى ودين الحق؛ فإن هذه المسائل كانت خفية على أكثر الناس، فإذا ظهرت فمن كان قصده الحق هداه الله، ومن كان قصده الباطل قامت عليه حجة الله، واستحق أن يذله الله ويخزيه.

وما كتبت شيئاً من هذا؛ ليكتم عن أحد، ولو كان مبغضاً، والأوراق التي فيها جواباتكم غسلت.

وأنا طيب، وعيناي طيبتان أطيب ما كانتا.

ونحن في نعم عظيمة لا تحصى ولا تعد، والحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه+.

ثم ذكر كلاماً وقال:

=كل ما يقضيه الله _ تعالى _ فيه الخير والرحمة والحكمة، إن ربي لطيف لما يشاء، إنه هو القوي العزيز العليم الحكيم، ولا يدخل على أحد ضرر إلا من ذنوبه، [مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ] النساء:79،  فالعبد عليه أن يشكر الله ويحمده دائماً على كل حال، ويستغفر من ذنوبه، فالشكر يوجب المزيد من النعم، والاستغفار يدفع النقم، ولا يقضي الله للمؤمن قضاءاً إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له+.

وهذه الورقة كتبها الشيخ وأرسلها بعد خروج الكتب من عنده بأكثر من ثلاثة أشهر: في شهر شوال، قبل وفاته بنحو شهر ونصف.

ولما أخرج ما عنده من الكتب والأوراق، حمل إلى القاضي علاء الدين القونوي، وجعل تحت يده في المدرسة العادلية.

وأقبل الشيخ بعد إخراجها على العبادة، والتلاوة، والتذكر، والتهجد؛ حتى أتاه اليقين.

وختم القرآن مدة إقامته بالقلعة ثمانين، أو إحدى وثمانين ختمة، انتهى في آخر ختمة إلى آخر اقتربت الساعة [إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)] القمر، ثم كملت عليه بعد وفاته، وهو مسجى.

كان كل يوم يقرأ ثلاثة أجزاء، يختم في عشرة أيام، هكذا أخبرني أخوه زين الدين.

وكانت مدة مرضه بضعة وعشرين يوماً، وأكثر الناس ما علموا بمرضه، فلم يفجأ الخلق إلا نعيه، فاشتد التأسف عليه، وكثر البكاء والحزن، ودخل إليه أقاربه، وأصحابه، وازدحم الخلق على باب القلعة، والطرقات، وامتلأ جامع دمشق، وصلوا عليه، وحمل على الرؤوس، رحمه الله ورضي عنه+( ).

وبعد وفاته رثي بقصائد كثيرة قالها جمع من أكابر علماء عصره وأدبائه، فرحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

 الشيخ العلامة محمد الخضر حسين

=معالم موجزة في سيرة الشيخ محمد الخضر حسين+

فيما يلي معالم موجزة تبين سيرة الشيخ محمد الخضر حسين ×، وقد استخلصت من كثير من الكتب التي ترجمت له.

1_ ولد  × في بلدة ( نفطة ) بتونس عام 1293هـ _ 1873م من أسرة علم، وصلاح، وتقوى.

2_ يتصل نسبه بالنبي " وجده للأب علي بن عمر، وجده لأمه مصطفى ابن عزوز، وخاله العلامة الشيخ محمد المكي بن عزوز، وشقيقاه العلامة اللغوي محمد المكي بن الحسين، والعلامة زين العابدين بن الحسين.

3_ لما بلغ الثانية عشرة من عمره انتقل مع والده إلى العاصمة تونس، والتحق بطلاب العلم بجامعة الزيتونة أرقى المعاهد الدينية وأعظمها شأناً في المغرب، وحصل منها على الشهادة العالمية في العلوم الدينية والعربية.

4_ أوتي بياناً ساحراً، وقلماً سيالاً قلما يوجد له نظير في العصور المتأخرة، بل إنه يضارع أرباب البيان الأوائل.

5_ كان ذا قريحة وقادة، وخيال واسع يتبين ذلك من خلال شعره الذي تضمنه ديوانه (خواطر الحياة) .

6_ كان ذا همة عالية، ونفس كريمة، وغيرة إسلامية صادقة.

7_ كان هادئ الطبع، حسن المعشر، لَيِّن العريكة، جم التواضع، ذا زهد وقناعة.

8_ كان متفنناً في علوم الشريعة من أصول، وتفسير، وفقه، ونحو ذلك.

9_ كان إماماً من أئمة العربية في العصور المتأخرة، وفذاً من أفذاذ علماء الإسلام كما قال عنه العلامة محمد الطاهر بن عاشور _ رحمهما الله _ .

10_ أصدر مجلة ( السعادة العظمى ) عام 1321 هـ، وهي أول مجلة ظهرت في المغرب، ثم أغلقتها سلطات الاستعمار الفرنسي.

11_ تولى القضاء في مدينة بنزرت عام 1906م، ولم يرقْهُ ميدان القضاء؛ إذ حال بينه وبين الدعوة إلى الإصلاح والجهاد، فتركه إلى التدريس في جامع الزيتونة أستاذاً للعلوم الشرعية والعربية، كما تولى التدريس في مدرسة الصادقية بتونس.

12_ حكم عليه بالإعدام _ إبان الاستعمار الفرنسي لتونس _ لاشتغاله بالسياسة ودعوته إلى التحرير، فهاجر إلى دمشق مع أسرته عام 1331هـ، وأقام فيها مدة طويلة تولى في مطلعها التدريس، وأعاض الله به أهل الشام بعد رحيل علامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي  ×  فكان الخضر من أسباب النهضة العلمية في بلاد الشام.

13_ رحل رحلات عديدة، حيث رحل إلى الآستانة، وألمانيا، وقد أتقن اللغة الألمانية وكتب عن مشاهداته في برلين.

وبعد ذلك عاد إلى دمشق، فلحقته سلطات الاحتلال الفرنسي، فرحل إلى مصر لاجئاً سياسياً عام 1920م، والتقى كبار علمائها ورجالها.

14_ قام بتأسيس جمعية الهداية الإسلامية، وأصدر مجلة تحمل نفس الاسم، واشترك في تأسيس جمعية الشبان المسلمين، واستلم رئاسة تحرير مجلة ( نور الإسلام ) التي يصدرها الأزهر، والمعروفة اليوم باسم مجلة (الأزهر ).

15_ انضم إلى علماء الأزهر، وعين مدرساً للفقه في كلية أصول الدين، ثم أستاذاً في التخصص.

16_ عين عضواً في مجمع اللغة العربية في القاهرة أول إنشائه، كما عين عضواً في المجمع العلمي بدمشق، واختير عضواً في جماعة كبار العلماء بعد أن قدم رسالته العلمية ( القياس في اللغة العربية ).

17_ استلم رئاسة تحرير مجلة ( لواء الإسلام ) كما ترأس جمعية ( جبهة الدفاع عن أفريقيا الشمالية ).

18_ اختير عام 1952م إماماً لمشيخة الأزهر، فقام بالأزهر خير قيام، وهو آخر عالم تولى الأزهر بترشيح العلماء، ثم أصبح بعد ذلك يعين من قبل الدولة.

19_ توفي عام 1377هـ، 1958م، ودفن في المقبرة التيمورية إلى جانب صديقه العلامة أحمد تيمور باشا _ رحمهما الله _ بناءً على وصيته.

20_ خلف آثاراً علمية عديدةً منها الحرية في الإسلام، ورسائل الإصلاح، والسعادة العظمى، والهداية الإسلامية، ومحاضرات إسلامية، والدعوة إلى الإصلاح، ونقض كتاب الشعر الجاهلي، ونقض كتاب الإسلام وأصول الحكم، والرحلات، وتراجم الرجال، وأسرار التنزيل، والخيال في الشعر، ودراسات في الشريعة الإسلامية، وبلاغة القران، وله ديوان شعر جمعه بعض محبيه واسمه (خواطر الحياة).

وقد اعتنى ابن أخيه الأستاذ علي الرضا الحسيني بتلك الكتب، وبالترجمة للشيخ الخضر.

21_ لقد كان لتلك الآثار أثرها البالغ في حياة الشيخ، وبعد وفاته، ولا زال الناس يفيدون منها، ويقبسون من نورها.

ولا زالت حياته، وآراؤه، ومؤلفاته، موضع الدراسة، والتحليل.

ولازال العلماء يتلقون كتبه بالعناية، والقبول، والثناء.

وإليك بعض ما قاله الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي × في بيان رأيه في كتب ستة قرأها للشيخ الخضر، وهي: تونس وجامعة الزيتونة، وبلاغة القرآن، ورسائل الإصلاح، والشريعة صالحة لكل زمان ومكان، ومحمد رسول الله" خاتم النبيين، والخيال في الشعر الجاهلي.

قال الشيخ عبد الرزاق ×:

=بيان عن هذه الكتب جملة في أمور مشتركة بينها:

أ_ تشترك هذه الكتب الستة في قوة الأسلوب، وعلوه، مع سلاسة العبارة، ووضوحها، وسمو المعاني، ودقتها، وإصابة الهدف من قرب بلا تكلف فيها، ولا غموض، ولا حشو، ولا تكرار.

ب_ تشترك في الدلالة على سعة علم المؤلف، وتضلعه في العلوم العربية، والاجتماعية، والدينية، واستقصائه في بحثه، وفي نقاشه لآراء مخالفيه، وأدلتهم، واعتداله في حكمه، وفتاويه.

ج_ يتمثل فيها نزاهة قلم المؤلف، وحسن أدبه، ونبل أخلاقه.

لكن لم يمنعه ذلك أن ينقد الملحدين، ومَنْ انحرفَ به هواه عن الجادة، والصراط المستقيم نقداً لاذعاً لا يخرج به عن الإنصاف، ولا يتجاوز حد الأدب في المناقشة؛ رعاية لحق مخالفيه، وصيانة لعلمه ولسانه عما يشينه، وسيراً مع الكتاب والسنة وآدابهما في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فلا جهل، ولا سفاهة، إنما يقابل سيئةَ خَصْمِه وسبَّه بالحسنة، وغض الطرف عنها.

د_ ويتمثل فيها الصدع بالحق، والكفاح عنه بحسن البيان، وقوة الحجة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، لا يخشى في ذلك لَومة لائم، عماده في ذلك كتاب الله، وسنة رسوله، ودليل العقل، وشاهد الحس، والواقع مع ذكر الشواهد من اللغة، والقضايا التي جرت في العالم+( ).

ثم شرع الشيخ عبدالرزاق × في الأمر الثاني، وهو بيان ما جاء في تلك الكتب على وجه التفصيل.

وقال عنه تلميذه علامة الشام الشيخ محمد بهجة البيطار ×:

=أستاذنا الجليل الشيخ محمد الخضر حسين، عَلَمٌ من أعلام الإسلام هاجر إلى دمشق في عهد علامتي الشام المرحومين: جدي عبدالرزاق البيطار، وأستاذي الشيخ جمال الدين القاسمي؛ فاغتبطا بلقائه، واغتبط بلقائهما، وكنا نلقاه، ونزوره معهما، ونحضر مجالسه عندهما، فَأُحْكِمَتْ بيننا روابط الصحبة والألفة والود من ذلك العهد.

ولما توفي شيخنا القاسمي _ تغمده المولى برضوانه _ أوائل سنة 1332هـ لم نجد نحن معشر تلاميذه مَنْ نقرأ عليه أحب إلينا ولا آثر عندنا من الأستاذ الخضر؛ لما هو متصف به من الرسوخ في العلم، والتواضع في الخلق، واللطف في الحديث، والرقة في الطبع، والإخلاص في المحبة، والبر بالإخوان، والإحسان إلى الناس، فكان مصداق قول الشاعر:

كأنك من كل الطباع مركبٌ

                   فأنت إلى كلِّ النفوس محبَّبُ

 وأخذنا من ذلك الحين نقتطف ثمار العلوم والآداب من تلكم الروضة الأُنُف، ونرتشف كؤوس الأخلاق من سلسبيل الهدى والتقوى، ولم يكن طلاب المدارس العالية في دمشق بأقل رغبة في دروسه، وإجلالاً لمقامه، وإعجاباً بأخلاقه من إخوانهم طلاب العلوم الشرعية، بل كانوا كلهم مغتبطين في هذه المحبة والصحبة، مجتمعين حول هذا البدر المنير.

وقد قرأنا عليه في المعقول والمنقول، والفروع والأصول، طائفة من أفضل ما صنف في موضوعه، وهي لعمر الحق دالة على حسن اختياره، وسلامة ذوقه، وقوة علمه، وشدة حرصه على النهوض بطلابه، وإعدادهم للنهوض بأمتهم.

وقد كنت نظمت أبياتاً جمعت فيها بين ذكر هذه الكتب، ووصف دروس الأستاذ، وجعلتها ذكرى لنفسي ولمن شاركوني في الطلب والتحصيل، عند أستاذنا الجليل، فقلت:

يا سائلي عَنْ درسِ ر

                   بِّ الفضْل مولانا الإمام

ابن الحسين التونسيِّ

                   محمد الخضر الهمام

سَلْ عنهُ مُسْتصفى الأصـ

                   ـول لليث معترك الزحام

أعني الغزاليَّ الحكيـ

                   ـم رئيس أعلام الكلام

وكذاك في فن الخلا

                   ف بداية العالي المقام

أعني ابنَ رُشْدٍ مَنْ غدا

                   بطل الفلاسفة العظام

وكذا صحيح أبي حسيـ

                   ـنٍ مسلمٍ حَبْرِ الأنام

وكذلك المغني إلى

                   شيخ النحاة ابن الهشام

وكذا كتاب أبي يزيـ

                   ـد ابن المبرّد في الختام

تلك الدروس كما الشمو

                   س تنير أفلاك الظلام

يدني إليك بها حقا

                   ئق كل علم بانسجام

فتكون منك دقائق الـ

                   ـمعنى على طرف الثمام

فالحق عوضنا به

                   من شيخنا شيخ الشآم

أبقى الله _ تعالى _ أستاذنا الخضر الجليل للدين والعلم والأدب ركناً ركيناً، وحصناً حصيناً+( ).

=نماذج من كتابات الشيخ محمد الخضر+

إليك فيما يلي نماذج من نثر الشيخ × لتقف على مدى تمكنه، وجزالة أسلوبه، وذلك من خلال إيراد بعض المقاطع من كتاباته:

أولاً: مقاطع من كتابه: (الحرية في الإسلام): الذي ألفه في مقتبل عمره؛ حيث كان أصل هذا الكتاب محاضرة ألقاها الشيخ في 17 / 4 / 1324 هـ وكان يومئذٍ القاضي بمدينة بنزرت بتونس.

وهذا الكتاب قل أن تظفر بمثله في بابه.

وإليك مقاطع مما قاله في كتابه المذكور:

1_ وإذا علمت نفسٌ طاب عنصرها، وشرف وجدانها أن مطمح الهمم إنما هي غاية، وحياة وراء حياتها الطبيعية _ لم تقف بسعيها عند حد غذاء يقوتها، وكساء يسترها، ومسكن تأوي إليه.

بل لا تستفيق جهدها، ويطمئن بها قرارها إلا إذا بلغت مجداً شامخاً يصعد بها إلى أن تختلط بكواكب الجوزاء. ص10

2_ يقوم فسطاط الحرية على قاعدتين عظيمتين هما: المشورة، والمساواة؛ فبالمشورة تتميز الحقوق، وبالمساواة ينتظم إجراؤها، ويطرد نفاذها.

وكل واحدة من هاتين القاعدتين رفع الإسلام سمكها، وسواها. ص 18

3_ وهكذا ما ساد الأدب، وانتشرت الفضيلة بين أمة إلا اتبعوا شرعة الإنصاف من عند أنفسهم، والتحفوا برداء الصدق والأمانة بمجرد بث النصيحة، والموعظة الحسنة، فيخفت ضجيج الضارعين، وصخب المبطلين، ولا تكاد تسمع لهما في أجواف المحاكم حسيساً. ص20

4_ أذن الله له " بالاستشارة وهو غني عنها بما يأتيه من وحي السماء؛ تطييباً لنفوس أصحابه، وتقريراً لسنة المشاورة للأمة من بعده. ص21

5_ وكان أبو بكر الصديق ÷من العلم بقوانين الشريعة، والخبرة بوجوه السياسة في منزلة لا تطاولها سماء. ( )

ومع هذا لا يبرم حكماً في حادثة إلا بعد أن تتداولها آراء جماعة من الصحابة.

وإذا نَقَل له أحدُهم نصاً صريحاً ينطبق على الحادثة قال: =الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا+. ص21

6_ لا تكون قاعدة الشورى من نواصر الحرية وأعوانها إلا إذا وضع حجرها الأول على قصد الحنان والرأفة بالرعية.

وأما المشاركة في الرأي وحدها _ ولا سيما رأي من لا يطاع _ فلا تكفي في قطع دابر الاستبداد. ص25

7_ وأهم فوائد المشورة تخليص الحق من احتمالات الآراء.

وذهب الحكماء من الأدباء في تصوير هذا المغزى وتمثيله في النفوس إلى مذاهب شتى، قال بعضهم:

إذا عنّ أمر فاستشر فيه صاحباً

                   وإن كنت ذا رأي تشير على الصحب

فإني رأيت العين تجهل نفسهـا

                   وتدرك ما قد حلَّ في موضع الشهب

وقال آخر:

اقرن برأيك رأي غيرك واستشر

                   فالحق لا يخفى على الآثنيـن

والمرءُ مرآةٌ تريهِ وجهــه

                   ويرى قفاه بجمع مرآتيــن

وقال آخر:

الرأي كالليل مسوداً جوانبــه

                   والليل لا ينجلي إلا بإصباح

فاضمم مصابيحَ آراءِ الرجال إلى

                   مصباحِ رأيك تزددْ ضوءَ مصباحِ

ص25

8_ ومن فوائد الشورى استطلاع أفكار الرجال، ومعرفة مقاديرها؛ فإن الرأي يمثِّل لك عقل صاحبه كما تمثل لك المرآةُ صورةَ شخصه إذا استقبلها. ص26

9_ الحرية في الأموال هي إطلاق التصرف لأصحابها يذهبون في اكتسابها، والتمتع بها على الطريق الوسط دون أن تلم بها فاجعة الاغتصاب، أو تخطفها خائنة كيد واحتيال.ص31

10_ فلا حرج في جمع الدنيا من الوجوه المباحة ما لم يكن صاحبها عن الواجبات في شغل شاغل.

وقد ذكر الله _تعالى _ التجارة في معرض الحط من شأنها حيث شغلت عن طاعة في قوله _ تعالى _: [وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(11)]. الجمعة: ص11

ولما رجعوا عن صنيعهم، وأخذوا بأدب الشريعة في إيثار الواجبات الدينية، وعدم الانقطاع عنها إلى الاشتغال بالتجارة ونحوها _ ذكرها، ولم يهضم من حقها شيئاً، فقال _ تعالى _: [رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ]. النور: 37.

فأثبت لهؤلاء الكُمَّل أنهم تجار وباعة، ولكنهم لم يشتغلوا بضروب منافع التجارة عن فرائض الله، وهذا قول المحققين في الآية. ص32

11_ بيد أن الشريعة أمرت العامل بأن يكون قلبه حال عمله مطوياً على سراج من التوكل والتفويض؛ فإن اعتماد القلب على قدرة الله وكرمه يستأصل جراثيم اليأس، ومنابت الكسل، ويشد ظهر الأمل الذي يلج به الساعي أغوار البحار العميقة، ويقارع به السباع الضارية في فلواتها. ص33

12_ لم تغادر الشريعة صغيرة ولا كبيرة من وجوه التصرفات في الأموال إلا أحصتها، وعلقت عليها حكماً عادلاً. ص34

13_ كما أَذِنَ الإسلام في اكتساب الأموال، واستثمار أرباحها من وجوهها المعتدلة أذن في الاستمتاع بها، وترويح الخاطر بنعيمها؛ شريطة الاقتصاد. ص37

14_ وأما الآيات الواردة في سياق التزهيد، والحط من متاع الحياة الدنيا فلا يقصد منها ترغيب الإنسان؛ ليعيش مجانباً للزينة، ميت الإرادة عن التعلق بشهواته على الإطلاق.

وإنما يقصد منها _ فيما نفهمه _ حكم أخرى كتسلية الفقراء الذين لا يستطيعون ضرباً في الأرض، ومَنْ قَصُرَتْ أيديهم عن تناولها؛ لئلا تضيق صدورُهم على آثارها أسفاً.

ومنها تعديل الأنفس الشاردة، وانتزاعُ ما في طبيعتها من الشَّرَهِ، والطمع؛ لئلا يخرجا بها عن قصد السبيل، ويتَطَوَّحا بها في الاكتساب إلى طرق غير لائقة.

فاستصغارُ متاع الدنيا، وتحقيرُ لذائذها في نفوس الناس يرفعهم عن الاستغراق فيها، ويُكْبِرُ بهممهم عن جعلها قبلةً يولون وجوههم شطرها حيثما كانوا.

وقد بين لنا العيان أن الإنسان متى عكف على ملاذِّ الحياة، ولم يَصْحُ فؤاده عن اللهو بزخارفها ماتت عواطفه، ونسي، أوتناسى من أين تؤتى المكارم، والمروءة، ودخل مع الأنعام في حياتهم السافلة. ص38

15_ وأما ما ثبت عن بعض السلف من نبذ الزينة، والإعراض عن العيش الناعم عند القدرة عليه، أو في حال وجوده _ فلا يريدونه قربة بنفسه، ولكن يبتغون به الوسيلة إلى رياضة النفس، وتدريبها على مخالفة الشهوات؛ لتستقر تحت طوع العقل بسهولة، وتتمكن من طرح أهوائها الزائغة بدون كلفة؛ فلو وثق الإنسان من نفسه بحسن الطاعة لم تكن في مجانبته للطيبات مزية ولا مؤاخذة. ص39

16_ ولا ننسى أن كثيراً من الشعراء قد طغى بهم الإبداع في المقال إلى أن نسقوا في مديح الخمر صفات الجمال، وضربوا للتنويه بشأنها الأمثال؛ فاستهووا لمعاقرتها عبيد الخيال، والشعراء يتبعهم الغاوون. ص41

17_ فالإسلام _ وإن عني بتزكية الأرواح، وترقيتها في مراقي الفلاح _ لم يبخس الحواس حقها، وقضى لبانتها من الزينة، واللذة بالقسطاس المستقيم. ص41

18_ وروي أن عبد الله بن أبي السمط أنشد بين يدي المأمون أبياتاً يمتدحه بها، فلما انتهى عند قوله:

أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلاً

                   بالدين والناس بالدنيا مشـاغيل

قال له المأمون: ما زدت على أن جعلتني عجوزاً في محراب، وبيدها سبحة! !

أعجزت أن تقول كما قال جرير في عمر بن عبد العزيز:

فلا هو في الدنيا مُضِيـعٌ نصيبَه

                   ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله

 ص41

19_ هذا الباعث _حب المال_ يقذفه الله في نفوس قوم؛ فيدعوهم إلى تسوية طرائق العمران، وتشييد أركانه، ويسلكه في قلوب آخرين فيترامى بهم إلى بث الفساد على وجه البسيطة، وإثارة غبار التوحش في أرجائها. ص43

20_ حب المال هو الذي ينزع من فؤاد الرجلِ الرأفةَ، ويجعل مكانها القسوة والفظاظة، حتى إذا أظلم الأفق، واسودّ جناح الليل( ) تأبط خنجراً، أو تقلد سيفاً، وذهب يخطو خطاً خفافاً؛ ليأتي البيوت من ظهورها، ويمد بسبب إلى أمتعتها، فإذا دافعه صاحبها أذاقه طعم المنون، وانصرف ثملاً بلذة الانتصار. ص43 _ 44

21_ ولهذا افتقرت داعية حب المال إلى وازع يسدد طيشها، ويكسر من كعوبها إلى أن تستقيم قناتها. ( )

والوازع ما ورد في مجمل الشريعة ومُفصَّلها من الأصول القابضة على أيدي الهداجين حول اختلاسها، والعاملين على اغتصابها، أو التصرف فيها بغير ما يأذن به صاحبها. ص44

22_ الرشوة أخت السرقة، وابنة عم الاغتصاب، وإن شئت فقل: تزوج الاغتصاب بالسرقة، فتولدت بينهما الرشوة؛ لأنها عبارة عن أخذ مال معصوم خفية، ولكنه بسلطة على حين علم من صاحبه. ص45

23_ ولما كانت الرشوة عقبة كؤوداً في سبيل الحرية _ أخذت الشريعة في تحريمها بالتي هي أحوط؛ فلا يسوغ للقاضي قبول الهدية إلا من خواص قرابته؛ لئلا تزل به مدرجاتها إلى أكل الرشوة، أو يتخذ اسم الهدية غطاءًا للرشوة يسترها به عن أعين المراقبين لأحواله السرية. ص45

24_ فمن تحيز عن أمته، وطفق يرمي في وجوههم بعبارات الازدراء، وينفث في كأس حياتهم سماً ناقعاً _ لا نَصِفُه بصفة الغيرة، والوطنية، وإن شُغِفَ بحب ديارهم، وقبَّلها جداراً بعد جدار. ( ) ص49

25_ يريد كل امرئ أومضت فيه بارقةٌ من العقل أن يكون عِرْضُه محلَّ التمجيدِ والثناء، وحرماً مصوناً لا يرتع حوله اللامزون.

وهاته الإرادة هي التي تبعثه على أن يبدد فريقاً من ماله في حل عقال ألسنة؛ لتكسوه من نسج آدابها حلة المديح، أو يسد بها أفواهاً يخشى أن تصب عليه مرائر أحدوثتها علقماً، قال أحدهم:

أصون عرضي بمالي لا أدنسه

                   لا بارك الله بعد العرض بالمال

وقد تتقوى هذه الداعية فتبلغ به أن يخاطر بحياته، وينصب جنبه لسهام الرزايا عندما يرجم بشتيمة تلوث وجه كرامته، ويتجهم بها منظر حياته، يقول أبو الطيب المتنبي:

يهون علينا أن تصاب جسومنا

                   وتسلم أعراض لنا وعقـول

ولا يتفاضل الناس في مراقي الشرف والمجادة، أو تتسفل هممهم إلى هاوية الرذالة إلا بمقدار ما تجد بينهم من التفاوت في عقد هذه الإرادة قوة وانحلالاً؛ فبقوة هذه الإرادة يتجلى لنا في مظاهر الإنسانية مطبوعاً على أجمل صورة من الكمال، وبسبب ضعفها تنزل به شهواته من سماء الإنسانية إلى أن يكون حيواناً مهملاً. ص53

26_ لا يحق للطاعن أن يتخطى المصائب التي يجهر بها صاحبها إلى النقائص التي يحرزها بغطاء الستر والكتمان. ص54

27_ في قوله _ تعالى _: [وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ] الحجرات: 12.

وفي هذا التشبيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كَدَمِهِ ولحمه، وهو من باب القياس الظاهر؛ لأن عرض المرء أشرف من بدنه؛ فإذا قبح من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض أعراضهم بالطريق الأولى؛ فالمذام التي تلتصق بالشخص خُفْيَةً لا يسوغ لآخر تَكَشَّف عليها أن يحرك بها لسانه، ويتمضمض بإذاعتها في المجامع إلا في مواضع يدور حكم الاستباحة فيها على درء مفسدة تنشأ عن عدم التعريف بها. 54

28_ ولما تجاسر كثير من أهل الأهواء على اختلاق أحاديث يفترونها كذباً، ويسندونها إلى رسول الله " ليؤيدوا بها مزاعمهم، أو يقضوا بها حاجة في نفوسهم _ قام العلماء بحق الوراثة المنوطة بعهدتهم من قبل صاحب الشريعة، وأخذوا في نقد ما يروى من الأحاديث؛ حتى يتميز الخبيثُ من الطيب، والصحيح من غير الصحيح؛ فاحتاجوا إلى التعرض لحالة الرواة، وإذا علموا من أحد سوءاً بادروا إلى الجهر به، وتعيين اسمه؛ ليحذِّروا الناس، ولا يتلقون روايته بالقبول. ص55

29_ وقد دارت هذه الكلمة _ كلمة الحرية _ على أفواه الخطباء، ولهجت بها أقلام الكاتبين ينشدون ضالتها عند أبواب الحكومات، ويقفون عند مكانها، وتمكين الراحة من مصافحتها _ وقوفَ شحيحٍ ضاع في الترب خاتمه. ( ) ص16

ثانياً: خواطر كتبها الشيخ × وقد نشرت هذه الخواطر على حلقتين في مجلة =البدر+الصادرة باسم =العرب+ الجزء الرابع من المجلد الثالث في شهر ربيع الثاني عام 1342، والجزء السابع من المجلد الثالث الصادر في شهر رجب 1343هـ.

يقول ×:

1_     إن كبر عقلك، فأصبح يعلمك ما لم تعلم، واتسع خيالك، فبات يلقي عليك من الصور البديعة ما يلذه ذوقك، فأنت ما بين أستاذ يمحض نصيحته، ونديم لا تمل صحبته.

2_     يعلمك الأستاذ كيف تغوص في عميق البحار، ويريك نموذجاً من الدر يتميز بينه وبين الأحجار، وهمتك تخلد بك إلى الإملاق، أو تجعلك المجلّي في حلبة السباق.

3_     سميت الاستخفاف بالشرع حرية، فقلت: برع في فن المجاز، وتهكم بمن أصبح عبداً للهوى، وسميت النفاق كياسة، فقلت: خان الفضيلة في اسمها، أو خانه النظر في فهمها.

4_     تنظر النفس في سيرة الرجل العظيم كما تنظر العين في الزجاجة النقية، فتدرك مساويها، أفلا تصنع بمآثرك الحميدة مرآة يبصر بها الناشئ بعدك صورته الروحية فيصلحها.

5_     سرت والنورُ أمامك، فانطلق ظلك على أثرك، ثم وليته قفاك، فكان الظل يسعى وأنت على أثره، وهكذا العقل، يتقبل فيتبعه الخيال، فإذا أدبر عنها انقلب الخيال إلى الأمام، وقاده في شُعب الباطل بغير لجام.

6_     تبسط لسانك بالنكير على من يقلد في الدين، ولولا أنك تتلقى قول الفيلسوف على غير هدى، لقلت: باكورة الاجتهاد قد أينعت.

7_     هذه الدنيا كالعدسة الزجاجية في الآلة المصورة، تضع الرأس بموطئ القدم، وترفع القدم إلى مكان الرأس؛ فزنوا الرجل بمآثره لا بما يبدو لكم من مظاهره.

8_     يبسط الشجر ظله للمقيل، ويقف بعد موته بقناديل الكهرباء على سواء السبيل؛ أفأنت تجير من البؤس وهو أحر من الرمضاء، وتوقد سراج حكمة يهدي بعد موتك إلى المحجة البيضاء.

9_     يصنع الصانع الحلي، وتضع ما تتجمل به النفوس في محافل العلى، فإن ظلت تتهافت على صانع الخواتم والسلاسل فاعلم أنها ما برحت لاهية عن هذه المحافل.

10_ حسبت العلم ضلالاً فناديت إلى الجهل، وآخر يزعم التقوى بلهاً فكان داعية الفجور، ولولا ما تلقيناه في سبيلنا من هذه الأرجاس، لكنا خير أمة أخرجت للناس.

11_ ربما كان صانعُ الأسنّة أرقَّ عاطفةً من الطبيب، والسفيه أحفظ للحكم البالغة من الأديب، ولكني أطلب نفس الرجل حثيثاً، وأناجيها فلا تكتمني حديثاً.

12_ كان هذا الغصن رطيباً، وعيش البلبل به خصيباً، ولكنه سحب عليه ذيل الخيلاء، فأصبح يتقلب في ذلك البلاء، ويرتجف كما ترتجف اليد الشّلاء.

13_ كل جوهرة من عقد حياة محمد _ عليه السلام _ معجزة؛ فإن أساليب دعوته ومظاهر حكمته، لا يربطها بحال الأمية إلا قدرة تتصرف في الكائنات بحكمة أبلغ مما تستدعيه طبائعها.

14_ العفاف نور تستمده النفس من مطلع العقل، فإن ضرب عليها الهوى بخيمته السوداء، خسفت كما يخسف القمر إذا حجزت الأرض بينه وبين الشمس.

15_  ينزوي البحر فتضع السفينة صدرها على التراب، وينبسط فتمر على الماء مرَّ السحاب.

والعقل يظل في موقعه من النفس طريحاً؛ فإن فاضت عليه الحكمة سار في سبيل النظر عنقاً فسيحاً.

16_ إن تخبطك السفه أهانوك، وإن قعد بك البله أعانوك؛ لأنك تستطيع أن تكون تقياً، وليس في يدك أن تكون ألمعياً.

17_ تتجلى فضيلتك فتنسج في هذه النفس عاطفة أرق من النسيم، وتوقد في أخرى حسداً أحر من الجحيم، وكذلك المزن ينسكب على أرض، فتبتسم بثغر الأُقحوان، وينزل على أخرى، فتقطِّب بجبهة من حَسَكِ السعدان.

18_ جنيت وردةً لأُخَلِّصها من الشوك الذي يساورها من كل جانب، فما لبث أن طفئت بهجتها، وسكنت أنفاسُها؛ فعلمت أن النفوس الزاكية لا تتخلص من النوائب إلا يوم تموت.

19_ الشر نار كامنة في قلوب تحملها صدور المستبدين، فإن قدحتها بنقد سياستهم كنت لها قوتاً، إلا أن تكون بإخلاصك وحكمتك البالغة ياقوتاً.

20_ إذا قلت في السياسة ما لا تفعل، أوهِمْتَ في واد لا تعرُج فيه على حقيقة_ فانفض ثوبك من غبارها؛ فإنه ليس من الغبار الذي يصيبك في سبيل الله.

21_ إنما يقطف الفيلسوف من المنافع ما تتفتق عنه أكمام الحقيقة، ولا يعرج السياسي بنظره على الحقائق إلا إذا أطلِّت عليه المنفعة من ورائها.

22_ لا تجادل المعاند قبل أن يأخذ الاستهزاء به في نفسك مكان الغضب عليه؛ فالغضب دخان يتجَّهم به وجهُ الحجةِ المستنيرة، وابتسامُ التهكمِ برقُه يخطف البصرَ قبل أن تقع صاعقة البرهان على البصيرة.

23_  لا يمنعك من وضع المقال على محك النظر أن تتلقاه ممن هو أصفى منك ذهناً أو أرجح وزناً؛ فإن الورق لا يقبل ما يرتسم في الزجاجة من الصور إلا بعد إصلاح خطئها، وإعادته الألوان إلى مبدئها.

24_ أرى موقع الليل من هذه البسيطة لا يفوت مقدار نهارها، فرجوت أن لا يكون الباطل أوسع مجالاً من الحقيقة، ولكن الشمس ترمز بكسوفها إلى أن أخطأت في القياس، وبنيت رجائي على غير أساس.

25_ العالم بستان، تجوَّل فيه الفيلسوفُ فقال: كيف نشأت هذه الأزهار والثمار؟ ولماذا اختلفت في النعوت والآثار؟ وطاف فيه السياسي فقال: متى يقطف هذا الثمر؟ وتؤتي تلك الشجرة أكلها؟

26_ سكبت ماءاً حاراً في زجاجة فتأثر أحد شطريها بالحرارة، واستمر الآخر على طبيعة البرودة، فتصدع جدارها.

 وكذلك النفوس الناشئة على طبائع مختلفة لا يمكن التئامها.

27_ كان لسان الدين بن الخطيب جنة أدب تجري تحتها أنهار المعارف فآتت أُكلها ضعفين، ولكن تنفست عليه السياسة ببخار سام فخنقته، وشب نار الحسد في القلوب القاسية فأحرقته.

28_ تلهج بأن الشيخ لا يسوس المصلحة بحزم، فإن بَلِيَ بَرْدُ شبابك ولم تُلْقِ زمامَها من تلقاء نفسك، فقد فندت رأيك، أو أضمرت العبث في السياسة.

29_ في الناس من لا يلاقيك بثغر باسم إلا أن تدخل عليه من باب البله، أو تلطخ لسانك بحمأة التملق؛ فاحتفظ بألمعيتك وطهارة منطقك، فإنما يأسف على طلاقة وجهه قوم لا يعقلون.

30_ بين جناحك قوة تجذب إلى جوارك العمل وهي الإرادة؛ فاستعذ بالله أن تكون كالجاذبية الأرضية تستهوي الصخرة الصماء إلى النفس المطمئنة، فتمحقها.

31_ شَدَدْتَ وصلَك إلى سوق العرفان؛ ليقتني ما يَلَذُّ ذوقَك من درر حسان؛ فإذا اغبرت لؤلؤة إيمانك بوسواس المفتون فقد خسرت تجارتك ولو أصبحت تتهكم على آراء أفلاطون، وكشف لك من الكيمياء والزراعة عن كنوز قارون.

32_ لا ترسل فكرك وراء البحث عن حقيقة قبل أن ينفخ فيه روح الاستقلال؛ فإن التقليد موت، وما كان لجثث الموتى أن تغوص الأبحر العميقة.

33_ لا عجب أن يتفجر بين أيديهم ينبوع الآداب صافياً، وتهوى أنفسهم أن تغترف غُرْفَةً من مستنقعها الأقصى؛ فإن من الأبصار المعتلة ما لا يقع نظره إلا على شبح بعيد.

34_ النفس راحلةٌ تحمل أثقالك إلى بلد السعادة؛ فإن لم تسر بها إثر الشريعة القيمة، أولجت بك في مهامِهَ مُغْبَرَّةٍ، وإن بلغت في الفلسفة ما بلغ شاعر المعرة.

35_ سيروا في تهذيب الفتاة على صراط الله المستقيم؛ فإن منزلتها من الفتى منزلةَ عَجُزِ البيت من صدره، ولا يحسن في البيت أن يكون أحدُ شطريه محكماً والآخر متخاذلاً.

36_ لا يدرك أعشى البصيرة من الحدائق المتناسقة غير أشجارٍ ذات أفنان، وثمار ذات ألوان، وإنما ينقِّب عن منابتها وأطوار نشأتها ذو فكرة متيقظة.

37_ لا تداهنوا المولعَ بقتل حريتكم؛ فأبخس الناس قيمة من تصرعه الخمر، كالذي يتخبطه الشيطان من المس، ثم لا يلبث أن يلبسها من تسبيح مدحه حللاً ضافية.

38_ إن من الجهّال من يرمي به الزمن على مقام وجيه، فعلمه بسير تلك القيمة أن الجهالة لا ترجح على العلم وزناً وإن وضع بإزائها السلطة الغالبة أو الثروة الطائلة.

39_ بذرت أيام الشباب آمالاً لم تقطف ثمرها إلا حين أقبل المشيب، وهل يتمنى الحاصد للثمار أن يعود إلى أيام الحراثة والزراعة والانتظار؟ !

40_ يكفي الذي يسير في سبيل مصلحة الأمة، وهو يرقب من ورائها منفعة لنفسه أن يكون في حل من وخزات أقلامها، وإنما يحمد الذي يجاهد لسعادتها، وهو لا يرجو نعماء ينفرد بها في هذه الحياة.

41_ لا تنقل حديث الذي يفضي به إليك عن ثقة بأمانتك، ويمكنك _ متى كان يرمي إلى غاية سيئة _ أن تجعل مساعيك عرضة في سبيله؛ فتحفظ للمروءة عهدها، وتقضي للمصلحة العامة حقها.

42_ لو فكرت في لسانك حين يتعرض لإطراء نفسك لم تميزه عن ألسنة تقع في ذمها إلا بأنه يلصق بك نقيصة، لا يحتاج في إثباتها إلى بينة.

43_ ألا ترى الماء الذي تقع في مجاريه الأقذار، كيف يتهجَّم منظُره، ويخبُثُ طعمُه؛ فاطرد عن قلبك خواطر السوء، فإنه المنبع الذي يصدر عنه عملك المشهود.

45_ قد يقف لك الأجنبي على طرف المساواة، حتى إذا حل وطنك متغلباً، طرحك في وهدة الاستعباد، واتخذ من عنقك الحر موطئاً.

46_ لا يحق للرجل أن يكاثر بمن يتقلد رأيه على غير بينة، إلا إذا وازنه وقارنه بالصحف المطوية على آثارهم في نسخ متعددة.

=نماذج من شعره+

للشيخ × ديوان شعري كبير مليء بالحكم والمقطعات الجميلة الرائعة، وإليك شيئاً مما قاله فيه:

1_ قال ×:

إن هذا الزجاج يصنع كأساً

                   ليصير الحليم فينا سفيها

ويصوغ الدواة تلقاء هذا

                   لِيُرى خامل الشعور نبيها

مثل الفيلسوف ينفث غياً

                   ثم يأتي لما يروق الفقيها

2_ وقال في الجرس:

جرس يصيحُ كحاجب

                   طلق اللسان معربدِ

حيناً ينوح كموجع

                   من لطمة المتعمد

والآن زنَّ كمزهر

                   جسته أنمل معبد

زار الصديق فهزّة

                   من بعد ضغطة جلمد

فحدا كما يحدو الهزا

                   ر على الغصون الميّد

والود يسكن في الحشا

                   لكن يحس من اليد

3_ وقال × في مقطوعة عنوانها (رقة الطبع تزيد المودة صفاءاً):

جفا الصديق فناجيت الفؤادَ بأن

                   يبيت في جفوة تلقاء جفوته

أبى وقال أصون العهد متَّئداً

                   فَرُبَّ ودٍّ صفا من بعد غبرتهِ( )

عاد الصديق فأصفى ودَّه فإذا

                   حديث نجواي منسوخ بـِرُمَّتِهِ

إن تلقَ طبعاً رقيقاً فاغرسنَّ به

                   مودَّةً يُسقِها من ماء رقته

4_ وقال في مقطوعة عنوانها ( زهرة الدنيا أخلائي )، وقد قالها في مصر عقب وداع بعض أصدقائه من تونس:

يومُ بَيْنٍ لم أذُقْ من قبله

                   لوعةً كالنار حراً وهياجا

ودّعوا والصبح يحدو بالدجى

                   حاملاً من بين جنبيه سراجا

وامتطوا سابحةً في الجوِّ لا

                   لقيت من أختها الريح لجاجا( )

جيرة أصفيتهم ودي ولا

                   يجد المَذْقَ من الود رواجا( )

لا أبالي إن أنا جاورتهم

                   أفراتاً كان وردي أم أُجاجا

زهرة الدنيا أخلائي ولو

                   شفَّني البين وأعياني علاجا

5_ وهذه مقطوعة بعنوان (رفقاً بها)، وقد قالها في تونس مداعباً أستاذه الشيخ سالم أبو حاجب بعد درس تعرض فيه إلى حكم التضحية بالظباء:

مدَّ في وجرةَ الحِبَالةَ يبغي

                   قَنَصاً والظِّباء ترتع مرحى( )

صادها ظبيةً وهمَّ بأن يصـ

                   ـرعَها كالخروف في عيد أضحى

قلت: رفقاً بها ولا تُرْهِقَنْها

                   وهي ترنو إليك صرعاً وذبحا

ما أظن السكِّين ترضى وفيها

                   حِدَّةٌ أن تخط في الجيد جرحا

خلِّ عنها فَعَيْنُها أذكرتنا

                   عين أسماء وهي بالبشر طفحى

6_ وقال في مقطوعة عنوانها ( الصداقة والعزلة ):

أريد أخاً كالماء يجري على الصفا

                   نقياً فيصفو لي على القرب والبعد

وأرسلت لحظ الفكر في القوم ناقداً

                   وأوصيته ألا يبالغ في النقد

فلا ضير في ودٍّ تغاضيت فيه عن

                   لواذعَ يأتيها الصديق بلا عمد

فعاد وكم لاقى لساناً مماذقاً

                   ومن خلفه قلبٌ خليٌّ من الود

ولولا ارتياحي للنضال عن الهدى

                   لفتَّشْت عن وادٍ أعيش به وحدي

7_ وقال في مقطوعة عنوانها ( المحبة الصادقة )، تصويراً للصداقة الصحيحة:

نُبِّئْتُ أنك موجعٌ

                   فارتاع قلبي وانتفض

ما ضر لو كنتُ المريـ

                   ضَ وزال عن خِلي المرض

وجع القلوب أشد من

                   وجع الجسوم إذا عرض

لا خلَّ إلا من يبيـ

                   ـت إذا مرضت على مضض

8_ وقال في مقطوعة عنوانها ( الدعاء للميت خير من تأبينه ) وقد قالها في مستشفى فؤاد الأول بالقاهرة في ربيع الآخر سنة 1368هـ، وفي ضمنها معنى من معاني الوفاء، ألا وهو الدعاء للميت؛ فهو خير ما يقدمه الصاحب لصاحبه بعد موته.

وهذه المقطوعة من أجمل ما قيل في هذا المعنى من شعر؛ يقول ×:

تسائلني هل في صحابك شاعرٌ

                   إذا مت قال الشعر وهو حزينُ

فقلت لها: لا همَّ لي بعد موتتي

                   سوى أن أرى أخراي كيف تكون

وما الشعر بالمغني فتيلاً عن امرئ

                   يلاقي جزاءًا والجزاءُ مُهين

وإن أحظ بالرُّحمى فماليَ من هوىً

                   سواها وأهواء النفوسِ شجون

فَخَلِّ فعولنْ فاعلاتنْ تقال في

                   أناس لهم فوق التراب شؤون

وإن شئت تأبينيْ فدعوةُ ساجدٍ

                   لها بين أحناءِ الضلوع حنينُ( )

9_ وقال في قصيدة عنون لها بـ: =حياة اللغة العربية+، وجعلها في أسلوب رواية خيالية، فقال( ):

بصري يسبحُ في وادي النظرْ

                   يتقصى أثراً بعد أثرْ

وسبيل الرشد ممهود لمن

                   يتجافى الغُمضَ ما اسطاع السهرْ

إنما الكون سِجِلٌّ رُسمتْ

                   فيه للأفكار آيٌ وعِبَرْ

وإذا أرخى الدجى أستاره

                   هبَّ سمعي كاشفاً عما استترْ

لست أنسى جُنح ليل خَفقت

                   فيه بالأحشاء أنفاسُ الضَّجرْ

لجَّ بيْ التسهيدُ حتى أوشكت

                    غرَّةُ الإصباح أن تغشى السحرْ

قمت أسعى لتقاضيْ سَلْوةٍ

                   ومطايا السعي مرقاةُ الوَطَرْ

قمتُ أخطو فجرى حادي الصَّبا

                   بحسيسٍ من أحاديثِ السمرْ

وانثنى بي نحو نادٍ نشبوا

                   في لِحاءٍ ولجاجٍ منتشِرْ

لا تعي من بينهم إلا وغى

                   في مزيج مثل ضغثٍ معتكرْ

وإذا الخصمان لم يهتديا

                   سنَّةَ البحث عن الحق غَبَرْ

هذه طائفة تحدو بما

                   في لسان العُرْبِ من فضلٍ ظهرْ

وَجَفَتْهُ فئةٌ فاهتضموا

                   شأنَه والجهلُ مدعاةُ الهذرْ

وتراضوا بعد ذا أن نصبوا

                   حكماً بينهمُ فيما شَجَرْ

فانبرى فيهم خطيباً بصدى

                   لهجةٍ فصحى وجأشٍ مستقرْ( )

لغةٌ أُودِعَ في أصدافها

                   من قوانين الهدى أبهى دررْ

لغةٌ نَهْصِرُ من أغصانها

                   زهرَ آداب وأخلاقٍ غررْ

ضاق طوقُ الحصر عن بسطتِها

                   ولآلي البحر ليست تنحصرْ

فاض من نهر مبانيها على

                   فصحاءِ العرب سيل منهمرْ

فَسَرَتْ روحُ بيانٍ في اللَّهى

                   كخصيبِ الأرض يحييه المطرْ

وابنها المنطيقُ إنْ زُجَّ به

                   في مجال القول جلَّى وبهرْ

يسبك المعنى متى شاء على

                   صيغٍ شأنَ الغني المقتدرْ

ثم لا يُعْوِزُه السيرُ على

                   وضعها في كل معنىً مُبْتَكَرْ

فاسأل التاريخَ ينْبِئك بما

                   أنجبتْ أرضُ قريشٍ ومضرْ

من خطيبٍ مِصْقَعٍ أو شاعرٍ

                   مُفْلِقٍ يسحبُ أذيالَ الفخرْ( )

ضربتْ في كلِّ شربٍ ينتحي

                   من فنون الحسن بالسَّهم الأغرْ

أُرْشِفَت من شنب الرقة ما

                   يذهل الأسماع عن نغم الوترْ

ولطيف اللفظ يسري في الحشا

                   ما سرت نظرة ظبي ذي حورْ

وتذيب القلب رُعباً بجزا

                   لةِ أسلوبٍ لديها محتكرْ

والكلام الجزلُ وضعاً واقعٌ

                   موقع السيف إذا السيف خَطَرْ

ضلَّ قوم سلكوا في حفظها

                   سبباً أوهن من حبل القمرْ

ألقمت في نطق قومي أحرفاً

                   من لغىً أخرى فأضناها الخَدَرْ

بَعْضُ من لم يفقهوا أسرارها

                   قذفوها بمواتٍ مستمرْ

نفروا عنها لِواذاً وإذا

                   جفَّ طبعُ المرءِ لم تغن النُّذُرْ

ما زكا تفاحُ لبنانَ على

                   حَسَكِ السعدان في ذوق مذرْ( )

هكذا في نظر الأعشى استوى

                   زهر روض وهشيم المحتظرْ( )

لغةٌ قد عقد الدينُ لها

                   ذِمَّةً يكلؤها كل البشرْ( )

أو لم ينسج على منوالها

                   كلمُ التنزيلِ في أرقى سورْ

يا لقومي لوفاءٍ إن مَنْ

                   نكث العهد أتى إحدى الكبرْ

فأقيموا الوجه في إحيائها

                   وتلافوا عقد ما كان انتشرْ

10_ وقال في قصيدة له عنوانها =القطار في غوطة دمشق+ قالها عندما دخل في القطار بساتين دمشق لأول مرة سنة 1330 هـ:

لجَّ القطار بنا والنار تسحبه

                   ما بين رائق أشجارٍ وأنهار

ومن عجائب ما تدريه في سفر

                   قوم يقادون للجناتِ بالنار

11_ وقال في قصيدة له عنوانها =مناجاة الفكر+:

أسهر الليل وإن طال ومن

                   يعشق المجد يلذ السهرا

لست ممن يفقد الأنس إذا

                   أصبح الروض كئيباً أغبرا

لست آسى إن مضى ليل وما

                   صاحب زار ولا طيف سرى

هو ذا الفكر يناجيني متى

                   رمت أنساً ضحوةً أو سحرا

يتسامى بي إلى أفق أرى

                   في معاليه السها والقمرا

لي يراع كلما استهديته

                   جال في الطرس وأهدي دررا

فليكن في الناس بخل إنني

                   لست ممن يشتكي بخل الورى

12_ وقال في قصيدة عنوانها: =القلب كالرحى+:

لا تخل نفسك من فكر تجول به

                   في الصالحات فحبس الفكر يضنيها

والقلب إن لم يدر يوماً على رشد

                   دارت عليه هموم عز راقيها

مثل الرحى إن تُدِرْها وهي خاويةٌ

                   من الطعام فإن الطحن يرديها

هذا وسيأتي مزيد بيان لشعره عند ترجمة الشيخ ابن عاشور.

رحم الله الشيخ الخضر، وأسكنه فسيح جناته، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

 العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور

هو العلامة الشيخ محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، ولد في ضاحية المرسى في تونس سنة 1296هـ وقيل 1297هـ بقصر جده للأم الصدر الوزير محمد العزيز بو عتور.

وقد شب في أحضان أسرة علمية، ونشأ بين أحضان والد يأمل أن يكون على مثال جده في العلم والنبوغ والعبقرية، وفي رعاية جده لأمه الوزير الذي كان يحرص على أن يكون خليفة في العلم والسلطان والجاه.

تلقى العلم كأبناء جيله، حيث حفظ القرآن، واتجه إلى حفظ المتون السائدة في وقته، ولما بلغ الرابعة عشرة التحق بجامع الزيتونة سنة 1310، وشرع ينهل من معينه في تعطش وحب للمعرفة، ثم برز ونبغ في شتى العلوم سواء في علوم الشريعة، أو اللغة، أو الآداب أو غيرها، بل والطب، وإتقان الفرنسية؛ فكان آية في ذلك كله.

له مؤلفات عديدة في شتى الفنون، منها تفسيره المسمى بالتحرير والتنوير، ومقاصد الشريعة، وأصول النظام الاجتماعي في الإسلام، وكشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ، وردٌّ على كتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق، وأصول التقدم في الإسلام، وأصول الإنشاء والخطابة، وأليس الصبح بقريب، وغيرها كثير كثير سواء كان مطبوعاً أو محفوظاً.

وكان ذا عقل جبار، وذا تدفُّق وتدفُّع في العلم؛ فكأنه إذا كتب في أي فنٍّ أو موضوع _ يغرف من بحر، وينحت من صخر؛ فإذا رأيت عنوان الموضوع الذي يريد الكتابة فيه قلت: ماذا سيقول؟ فإذا قرأت ما تحته رأيت العجب العجاب؛ لهذا فإنك تحتاج وأنت تقرأ له أن تُحضر ذهنك، ولا تتشاغل عنه.

وكان ذا أسلوب محكم النسج، شديد الأسر، يذكر بأرباب البيان الأوائل.

وكان إذا كتب استجمع مواهبه العلمية، واللغوية، والأدبية، والاجتماعية، والتاريخية، والتربوية وغيرها لخدمة غرضه الذي يرمي إليه.

ولهذا فلا غرو أن تجد في كتاباته عن أي موضوع: القصة، والحادثة التاريخية، والنكتة البلاغية، والمسألة النحوية، والأبيات الشعرية، والمقاصد الشرعية، والمناقشة الحرة، والترجيح والموازنة.

كل ذلك بأدب عالٍ، وأسلوب راق، ونَفَسٍ مستريض؛ فتشعر إذا قرأت له أن هذا البحث كتبه مجموعة من المتخصيصين في فنون شتى.

يقول الأستاذ محمد الطاهر الميساوي _حفظه الله_ في مقدمة كتاب مقاصد الشريعة لابن عاشور:

=ومن ثم فلا غرابة أن جاءت هذه السيرة وارفة الأفنان، متنوعة العطاء، دانية القطوف، وكأنما أنت في حضرة مجمع من العلماء ضم في صعيد واحد:

اللغوي، والأديب، والمفسر، والمحدث، والأصولي، والفقيه، والمربي، والمؤرخ، والفيلسوف، والمنطقي، بل وحتى العالم بأمور الطب.

ويكفي لمعرفة مكانة ابن عاشور في التفسير الإحالة على موسوعته تفسير التحرير والتنوير.

أما في الحديث فهو حافظ حجة له إسناد جامع لصحيحي البخاري ومسلم، وله كذلك إسناد عزيز روى به أحاديث البخاري يعرف بسند المحمّدين، وقد أجاز بذلك عدداً من العلماء من تونس والجزائر والمغرب.

هذا إلى تحقيقاته وشروحه على مرويات الإمامين مالك بن أنس (كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ) وأبي عبدالله البخاري (النظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح) التي استدرك فيها على الكثيرين من سابقيه.

أما رسوخ قدمه في الفقه وأصوله فيكفي شاهداً له كتاب (المقاصد) الذي بين أيدينا، وشرحه المسهب وتحقيقاته المتينة على كتاب تنقيح الفصول في الأصول للقرافي( ).

وابن عاشور إلى هذا وذاك لغوي محقِّق بالمعنى الواسع لعلوم اللغة، سَلَّمَتْ له بالإمامة في ذلك المجامعُ العلمية كمجمعيْ دمشق والقاهرة اللَّذيْن اعتمداه عضواً مراسلاً بهما، وما تزال مداخلاته وأنظاره على صفحات مجلتيهما تنتظر الجمع والتحقيق والنشر.

ذلك فضلاً عن العدد الكبير من كتب اللغة والأدب ودواوين الشعر التي حققها، فمنها ما نشر، ومنها ما لا يزال مخطوطاً.

وللفلسفة والمنطق عند ابن عاشور مكانة وتقدير؛ فقد كان يدرِّس المنطق والحكمة، وكان كتاب النجاة للشيخ الرئيس أبي علي بن سينا من جملة الكتب التي درَّسها بجامع الزيتونة، جنباً إلى جنب مع المقدمة لابن خلدون، ودلائل الإعجاز لعبدالقاهر الجرجاني، والموافقات للشاطبي..إلخ.

وهو كثيراً ما يستشهد بأقوال الفلاسفة وينوه بآرائهم، ويوظف مناهجهم في استدلالاته وتحليلاته، ويدرأ ما حاق بأنظارهم من سوء فهم وسوء تأويل.

أما ما قد يثير الاستغراب حقّاً فهو صلته بالطب التي تحتاج إلى تحقيق، خاصة وأن له في هذا كتاباً مخطوطاً بعنوان تصحيح وتعليق على كتاب الانتصار لجالينوس للحكيم ابن زهر.

أما التاريخ فله فيه كذلك آثار ما تزال مخطوطة منها كتاب (تاريخ العرب) وكتابات في السير والتراجم+.( )

وقال الميساوي: =ولكن على الرغم من سمات الغزارة والتنوع والشمول والأصالة التي طبعت شخصيته فاصطبغت بها آثاره وأعماله _ فإن ما صُرِف له من عناية الباحثين وجهود الدارسين لا يكاد يفي بمعشار ما يستحق، بل إن طوائف كبيرة من المهتمين بحركة الفكر الإسلامي ومصائره في العصر الحديث لا يكادون يعرفون عنه شيئاً ذا بال، ناهيك عن عامة المثقفين وسائر جمهور المسلمين.

فمن العسير العثور على دراسة علمية ضافية تترجم لشخصيته ترجمة موثقة ووافية، وتعرف بتراثه العلمي تعريفاً دقيقاً، فضلاً عن أن تحيط بذلك التراث تحليلاً لمكوناته وأبعاده، واستجلاءاً لمواطن الأصالة والابتكار فيه، وتقديراً وتقويماً لمكانته في سياق حركة الفكر والثقافة الإسلاميين في موطن نشأته _تونس_ على وجه الخصوص، وفي العالم الإسلامي بوجه العموم.

بل إن آثاره العلمية لم يتح لها من الانتشار والتداول ما يجعلها في متناول الدارسين والباحثين، فضلاً عن سواهم من طلاب المعرفة والمثقفين.

فكثيرٌ مما طُبع منها قد تطاول عليه العهد ونفد من المكتبات، ولم يجد من أهل العزم من المحققين والناشرين من يتولَّى نفضَ الغبار عنه، وإخراجه للناس إخراجاً جديداً.

أما ما لَمْ يُطبع _ وهو غزير _ فلا يزال طيَّ النسيان يقبع مخطوطاً على رفوف المكتبة العاشورية بالمرسى في تونس، ويتراكم عليه غبارُ السنين، وتتهدده آفاتُها بالإتلاف، وكأنما تواطأت صروفُ الزمان، وإهمال الإنسان أو تدبيرُه على تغييب مَعْلَمٍ مهم من معالِم الحياة الفكرية والعلمية للمسلمين في القرن العشرين!

فالرجل =لم يلق حظه+ كما قال بحق المرحوم الشيخ محمد الغزالي.

إن ابن عاشور ليس اسماً عاديّاً في محيط الثقافة الإسلامية، بل إن اسمه وجهاده قد ارتبطا ارتباطاً وثيقاً بواحدة من أهم مؤسسات هذه الثقافة وبرمز من أبرز رموزها في النصف الأول من القرن العشرين، ألا وهي جامعة الزيتونة.

وهو _ بدون شك _ آخر العمالقة الذين عرفهم التاريخ المديد لهذه المؤسسة العريقة، قبل أن يتم الإجهازُ عليها، وطمسُها في ظل عهود الاستقلال الموهوم، والتحديث المزيف.

لقد عرفت الزيتونةُ محمداً الطاهر بن عاشور طالباً نابهاً متميزاً في تحصيله العلمي، وخَبَرتْهُ أروقتُها مدرِّساً متحمساً مقتدراً، وَعِهدَه طلابُها وأساتيذُها داعيةً لإصلاح التعليم الزيتوني، وحاملاً للوائه، وعاملاً في سبيله من مواقع مختلفة، كما عرفت تونس ابن عاشور شيخاً لجامعها الأعظم _ الزيتونة _ وخبرته قاضياً ومفتياً يتوخَّى تحقيقَ العدل والالتزام بالحق في أقضيته وفتاويه مهما كان في ذلك من معارضة لرغبات المتقاضين، أو مناقضة لأهواء المستفتين+.( )

هذا وقد تولى مناصب علمية وإدارية بارزة كالتدريس، والقضاء، والإفتاء، وعضويات المجامع العلمية، وغيرها.

أوليات ابن عاشور( ): اعتنى الأوَّلون بالتصنيف بالأوائل, مثل أبي هلال العسكري, والجراعي, والسيوطي.

وللشيخ محمد الطاهر ابن عاشور أوّليات تستحقّ الوقوف عندها, والإشارة إليها, وهي مظهر من مظاهر تميّز المترجم له× وفيما يلي شيء من ذلك :

1_ أنه أوّل مَن فسَّر القرآن كاملاً في إفريقيّة, وذلك في كتابه العظيم (التحرير والتنوير).

وإفريقيّة اسم يشمل البلاد التونسية وما حولها, وتحديداً ما بين برقة وطنجة, وقد يطلقها البعض على القيروان كونها كانت مقرّ الإمارة.

وقد سبقه إلى ذلك يحيى بن سلاّم القيرواني (ت200هـ _815م) , الذي صنَّف كتاب (التصاريف) وهو تفسير القرآن مما اشتبهت أسماؤه وتصرَّفت معانيه, أي في الوجوه والنظائر, غير أنَّ التفسير الكامل للقرآن الكريم كان على يد الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور, فقد ادّخر الله هذا الفضل له؛ ليتوِّجهُ به, وقد أخبر بذلك السيد الحبيب الجلولي, ابن أخت الشيخ محمد الطاهر, أحد وجهاء الحاضرة التونسية, الحافظين لتراثها وتاريخها.

2_ وهو أوّل مَنْ جمع بين منصب شيخ الإسلام المالكي, وشيخ الجامع الأعظم (الزيتونة).

3_ وهو أوَّل مَنْ سُمِّي شيخاً للجامع الأعظم سنة (1351هـ _ 1932م) ليتولَّى الإصلاحات العلمية والتعليمية, فكان أوّل شيخ لإدارة التعليم بجامع الزيتونة عوضاً عن النظارة( ) التي كانت هي المسيّرة للتعليم به.

4_ وأوَّل مَنْ لُقِّبَ بشيخ الإسلام, وهو لقب تفخيمي تداولته الرئاسة الشرعية الحنفية بتونس منذ القرن العاشر الهجري, ولم يكن لدى المالكية بتونس هذا اللقب.

وقد أُطلق على رئيس المجلس الشرعي الأعلى للمالكية بصفة رسمية عليه.

5_ وهو أوَّل مَنَََْ تقلَّد جائزة الدولة التقديرية للدولة التونسية ونال وسام الاستحقاق الثقافي سنة (1968م) وهو أعلى وسام ثقافي قررت الدولة التونسية إسناده إلى كلّ مفكر امتاز بإنتاجه الوافر ومؤلفاته العميقة الأبحاث, ودعوته الإصلاحية ذات الأثر البعيد المدى في مختلف الأوساط الفكرية.

وحصل على جائزة رئيس الجمهورية في الإسلاميات عامي 1972م _ 1973م.

6_ وهو أوَّل مَنْ أحيا التصنيف في مقاصد الشريعة في عصرنا الحالي بعد العزّ ابن عبدالسلام (ت 660هـ) والشاطبي (790هـ).

7_ وهو أوَّل مَن أدخل إصلاحات تعليميّة وتنظيميّة في الجامع الزيتوني في إطار منظومة تربوية فكرية, صاغها في كتابه: (أليس الصبح بقريب) الذي ألفه في بواكير حياته، والذي يدل على عقلية تربوية فذة، والذي كان شاهداً على الإصلاح التربوي والتعليمي الشرعي المنشود.

فأضاف إلى الدراسة موادّ جديدة كالكيمياء والفيزياء والجبر وغيرها, وأكثر من دروس الصرف, ومن دروس أدب اللغة, وشَرَع بنفسه في تدريس ديوان الحماسة, ولعلّه أول من درّس ذلك في الزيتونة.

أخلاق ابن عاشور وشمائله: كان الشيخ × تزينه أخلاق رضية، وتواضع جم، فلم يكن على سعة اطلاعه وغزارة معارفه مغروراً كشأن بعض الأدعياء ممن لم يبلغ مستواه.

كان مترفعاً عن صغائر الأمور، إن نظرت إليه _ كما يقول مترجموه _ لم تقل إلا إنه رجل من النبلاء جمع بين النبل في الحسب والنسب، والنبل في العلم والأخلاق حتى قال فيه الشيخ محمد الخضر حسين: =ليس إعجابي بوضاءة أخلاقه وسماحة آدابه بأقل من إعجابي بعبقريته في العلم+( ).

وقد اشتهر × بالصبر، وقوة الاحتمال، وعلو الهمة، والاعتزاز بالنفس، والصمود أمام الكوارث، والترفع عن الدنايا، تراه في كتاباته عفيف القلم، حلو المحاضرة، طيب المعاشرة مع تلاميذه حتى إنك لا تجد بين كتاباته رداً على أحد ممن وقف ضده موقف الخصم، بل أسبغ على كتاباته طابع العلم الذي يجب أن يُبَلِّغه، لا مظهر الردود التي تضيع أوقات طالب العلم، وتقود إلى الأحقاد والتعصب.

بل إن أشهر ما عُرِف به الشيخُ رحابة صدره مع منتقدي فتاويه، ومخالفيه في الرأي؛ فهو لا يغلظ لهم القول، ولا ينقدهم النقد اللاذع، بل يُلَمِّح باحترام وتقدير ولطف دون أن يتعدى دائرة النطاق العلمي النزيه.

وما عَرف لسانُه ولا قلمه نابيَ الكلام؛ فإذا احتاج إلى الرد على أحد _ عَلَت ردوده مسحة من الأدب الجم، واحترام آراء الآخرين، وترك الاستخفاف أو الاستنقاص للمخالفين كيفما كانت شخصياتهم، ومهما كانت آراؤهم.

ولذلك لم ينزل طيلة حياته إلى الإسفاف في القول كما هو الشأن في المناقشات التي ظهرت في عصره، والمعارك الأدبية والعلمية التي كانت يومئذ محط أنظار الناس( ).

يقول فيه صديقه في الطلب الشيخ محمد الخضر حسين متحدثاً عن شيء من أخلاقه: =شب الأستاذ على ذكاء فائق، وألمعية وقادة، فلم يلبث أن ظهر نبوغه بين أهل العلم+( ).

ويقول فيه: =وللأستاذ فصاحة منطق، وبراعة بيان، ويضيف إلى غزارةِ العلمِ، وقوةِ النظرِ صفاءَ الذوقِ، وسعةَ الاطلاعِ في آداب اللغة.

وأذكر أنه كانَ يوماً في ناحية من جامع الزيتونة ومعه أديبان من خيرة أدبائنا، وكنتُ أقرأ درساً في ناحية أخرى من الجامع، فبعث إليَّ بورقة بها هذان البيتان:

تألقتِ الآدابُ كالبدر في السَّحَرْ

                   وقد لفظ البحران موجُهما الدرر

فما لي أرى منطيقها الآن غائباً

                   وفي مجمع البحرين لا يُفقد (الخضر)( )

وقد وصف ابن عاشور نفسه بقوله: =ولا آنَسُ برفقة ولا حديثٍ أُنْسي بمسامرة الأساتيذ والإخوان في دقائق العلم ورقائق الأدب, ولا حُبِّبَ إليِّ شيء ما حُبّبت إليّ الخلوة إلى الكتاب والقرطاس متنكّباً كلَّ ما يجري من مشاغل تكاليف الحياة الخاصة, ولا أعباء الأمانات العامة التي حُمِّلتُها فاحتملتُها في القضاء وإدارة التعليم حالت بيني وبين أنسي في دروس تضيء منها بروق البحث الذكي, والفهم الصائب بيني وبين أبنائي الذين ما كانوا إلاَّ قرَّة عين وعدّة فخر, ومنهم اليوم علماء بارزون, أو في مطالعة تحارير أخلص فيها نجيّاً إلى الماضي من العلماء والأدباء الذين خلَّفوا لنا آثارهم الجليلة ميادين فسيحة ركضنا فيها الأفهام والأقلام مرامي بعيدة سدَّدنا إليها صائب المهام+.( )

ووصفه أحدهم فقال: =رأيتُ فيه شيخاً مهيباً يمثّل امتداداً للسلف الصالح في سمته, ودخل في عقده العاشر ولم تنل منه السنون شيئاً..

قامة سمهرية خفيفة اللحم, وعقلية شابة ثرية بحصيلتها, وقلب حافظ أصاب من علوم القدماء والمحدثين, ولسان لافظ يقدر على الخوض في كلّ شيء من المعارف, وذهن متفتّح يشقّق الحديث روافد مع وقار يزيّنه, وفضل يبيّنه, وأخلاق وشمائل حسنة تهش للأضياف، وترحّب بالوارد, وتعطي في عمق لمن يريد الاغتراف من بحر كثرت مياهه, وقد ازدحمت العلوم فيه+.( )

ووصفه الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة فقال: =كان فريداً مع تقدّم السنّ في حضور واستحضار ما يسأل عنه من مسائل؛ أذكر أنّني طلبتُ منه ذات يوم من شهر أوت (أغسطس _آب ) (1963م) بعد أن جلستُ إليه في زيارتي له بعد العصر عن وجه إعراب خفي عليّ, فإذا الإمام _ رحمة الله عليه _ يفيض في بيان ذلك، ويشرح الوجوه المختلفة، فيستشهد بما أوردهُ ابن هشام في (المغني) وفي (التصريح), وكأنه يقرأ في كتاب.

وكذلك كان شأنه في كلِّ ما يُسأل عنه من قضايا العلم اللغوي أو الشرعي, كان خزانة علم تتنقل يجد لديه كل طالب بغيته, أعانه على حصول ذلك وبلوغ المرتبة العالية العجيبة في اشتغاله المتواصل بالمراجعة والتدريس والتحقيق والتأليف, مع صحة ذهن, وجودة طبع, وقوة عارضة, وطلاقة لسان.

والشيخ صبور على المحن, فلم يشكُ من أحد؛ رغم الحملات التي أُثيرت ضدّه، ولم أعثر في نقده العلمي على ما يمسُّ الذوق، أو يخدش الكرامة, عفّ اللسان, كريم, مُحِبٌّ لأهل العلم ولطلبته، ولمن كان أهلاً للمحبة.

وكان في مناقشاته العلمية لا يجرح أحداً، ولا يحطّ من قدره, فإذا لاحظ تهافتاً في الفكر لمَّح إلى ذلك تلميحاً.

ولم أجد في خصوماته الفكرية ما يمسّ شخصية أحد قطّ, ورغم الحملات التي شُنَّت ضده في فتوى التجنّس وغيرها لم ينزل عن المستوى الخلقي الذي يتصف به العلماء, بل لم يُشِرْ إلى خصومه, ولم يشكُ منهم قط.

وأما عاداته ومعاملاته فكان الشيخ كثير الإحسان إلى مساعديه من المستكتبين والعملة, ومن عاداته عدم تناول وجبة العشاء, فإذا حضر مأدبة تظاهر بالأكل مجاملةً+.( )

قال داغر: =امتاز إلى جانب علمه ودأبه ومعرفته الواسعة وتحرره الفكري, بالتواضع، والنفس الخيرّة، والعقل الراجح، والتدبير القويم+.( )

ويقول فيه الدكتور محمد الحبيب بلخوجة: =هو نمطٌ فريد من الأشياخ لم نعرف مثله بين معاصريه أو طلابه أو من كان في درجتهم من أهل العلم؛ إذ كان انكبابه على الدرس متميّزاً, واشتغاله بالمطالعة غير منقطع, مع عناية دائمة مستمرة بالتدوين والكتابة, وتقديم ما يحتاج إليه الناس من معارف وعلوم, وأذواق وآداب, وملاحظات وتأملات؛ فلا بدع إذا اطّرَدتْ جهودُه، واستمرّ عطاؤه في مختلف مجالات الدرس والثقافة: في حقول المعرفة الشرعية الدينية, وفي الدراسات اللغوية, وفي معالجة أوضاع التعليم في الزيتونة, والعمل على إصلاحها, مع ذبّه عن الإسلام أصوله وآدابه, وتطلعه كل يوم إلى مزيدٍ من المعرفة بكلّ ما يمكن أن يقع تحت يده من كتب فريدة, ومخطوطات ومصنفات في شتّى العلوم والفنون.

وقد وهبه الله متانة علمٍ, وسعة ثقافة, وعمق نظر, وقدرة لا تفتر على التدوين والنشر, وملكات نقدية يتضح أثرها في طريقة الجمع بين الأصول والتعريفات, وما يلحق بها من ابتداعات وتصرفات.

وهكذا صدرت مقالاته وتحقيقاته، وبحوثه وتآليفه متدفقة متوالية من غير انقطاع أو ضعف, فَنُشِر ما نُشِرَ, وبقي الكثير منها محفوظاً بخزانة آل عاشور ينتظر من يتولى نشره وطبعه وتحقيقه+.( )

ومن لطائف ذكائه ما ذكره تلميذه أبو الحسن بن شعبان الأديب الشاعر حيث حكى عن نفسه أنه كان يحضر دروس العلامة الإمام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في (الموطأ) وهو إذ ذاك شيخ الزيتونة, وشيخ الإسلام المالكي حوالي عام(1933م) وفي ذات مرة ناقش الشيخ ابن عاشور في مدلول لفظة لغوية, والشيخ ابن عاشور متمكِّن في مادة اللغة, متثبت في نقله, مع سمو ذوق وقدرة على الترجيح بين الأقوال, في أسلوب علمي وحُسن عرض, ولما طالت المناقشة أراد المترجم أن يفحم الشيخ ابن عاشور؛ فاخترع لوقته شاهداً شعرياً على صحّة زعمه, فأجابه الشيخ ابن عاشور بديهةً ومن الوزن والرويّ نفسه:

يروون من الشعر ما لا يوجد

ففغر فاه مبهوتاً من شدة ذكاء الشيخ، وسرعة بديهته.

منزلة كتاب (التحرير والتنوير) عند ابن عاشور:

لئن كانت كتب الشيخ ابن عاشور × وأبحاثه كثيرة متنوعة فإن أعظمها وأشهرها وأحبها إلى قلبه تفسيره التحرير والتنوير الذي مكث في تأليفه تسعاً وثلاثين سنة؛ حيث بدأ فيه سنة 1341 وانتهى منه عام 1380هـ وختمه بكلمة عظيمة مؤثرة قال فيها: =وإن كلام رب الناس حقيق بأن يُخدم سعياً على الرأس, وما أدّى هذا الحق إلا قلم مفسر يسعى على القرطاس, وإنَّ قلمي استنَّ بشوط فسيح, وكم زُجِرَ عند الكَلالِ والإعياء زجر المنيح, وإذ قد أتى على التمام فقد حقَّ له أنْ يستريح.

وكان تمام هذا التفسير عصر يوم الجمعة الثاني عشر من شهر رجب عام ثمانين وثلاثمائة وألف, فكانت مدة تأليفه تسعاً وثلاثين سنة وستة أشهر, وهي حقبة لم تَخْلُ من أشغال صارفة, ومؤلفات أخرى أفنانها وارفة, ومنازع بقريحةٍ شاربةٍ طوراً, وطوراً غارفة, وما خلال ذلك من تشتت بال, وتطور أحوال, مما لم تَخْلُ عن الشكاية منه الأجيال, ولا كُفران لله فإن نعمه أوفى, ومكاييل فضله عَلَيَّ لا تُطَفَّفُ ولا تُكْفا.

وأرجو منه _ تعالى _ لهذا التفسير أن يُنجد ويغور, وأن ينفع به الخاصة والجمهور, ويجعلني به من الذين يرجون تجارةً لن تبور.

وكان تمامه بمنزلي ببلد المرسى شرقيّ مدينة تونس, وكَتَبَ محمد الطاهر ابن عاشور+( ).

صداقة ابن عاشور للشيخ محمد الخضر حسين:

لقد انعقدت بين الشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور، والشيخ العلامة محمد الخضر حسين صداقة عظيمة تعد مثالاً رائعاً في صدق المودة، ورعاية الحقوق، ورقة الشعور، وحسن التذمم والوفاء، وحرارة الأشواق، ونحو ذلك من المعاني الجميلة؛ فلقد كانا قرينين في طلب العلم بجامع الزيتونة، وبينهما من العمر أربع أو ثلاث سنوات حيث ولد الخضر عام 1293هـ، وولد الطاهر عام 1297 أو 1296هـ.

ولقد تعرفا على بعض في مطلع القرن الرابع عشر الهجري، واستمرت صداقتهما إلى أن فارق الخضر الدنيا عام 1377 هـ..

وأما الطاهر فعاش إلى عام 1393 هـ حيث عُمِّر سبعاً أو ثمانياً وتسعين سنة.

ولقد فَرَّق الاستعمار بينهما، حيث حكم على الشيخ الخضر بالإعدام والجلاء، فخرج من تونس عام 1331 هـ وتقلَّب في عدد من البلاد، ومات في مصر.

وكان كثيراً ما يكاتب الطاهر، ويرد على كتاباته، ويبعث إليه أشواقه، وتحاياه، وتهانيه إذا ما تقلد منصباً.

وهذه نماذج مختارة مما كان بينهما من مودة ومكاتبات.

1_ قصيدة بعنوان (عواطف الصداقة):

 بعد هجرة الشيخ الخضر من تونس عام 1331هـ بعث إليه صديقه محمد الطاهر بن عاشور وهو كبير القضاة بتونس رسالة مصدرة بالأبيات التالية:

بَعُدْتَ ونفسي في لقاك تصيدُ

                   فلم يُغِنِ عنها في الحنان قصيد

وخلَّفت ما بين الجوانح غصة

                   لها بين أحشاء الضلوع وقود

وأضحتْ أمانيْ القرب منك ضئيلةً

                   ومرُّ الليالي ضعفها سيزيد

أتذكر إذ ودَّعْتنا صبحَ ليلةٍ

                   يموج بها أنسٌ لنا وبرودُ

وهل كان ذا رمزاً لتوديع أنسنا

                   وهل بعد هذا البين سوف يعود

ألم ترَ هذا الدهر كيف تلاعبت

                   أصابعه بالدر وهو نضيد

إذا ذكروا للود شخصاً محافظاً

                   تجلى لنا مرآك وهو بعيدُ

إذا قيل: مَنْ للعلم والفكر والتقى

                   ذكرتُك إيقاناً بأَنْكَ فريد

فقل لليالي: جَدِّدي من نظامنا

                   فحسبكِ ما قد كان فهو شديد

 ثم كتب تحت هذه الأبيات: =هذه كلمات جاشت بها النفس الآن عند إرادة الكتابة إليكم، فأبثها على عِلاتها، وهي _ وإن لم يكن لها رونق البلاغة والفصاحة _ فإن الود والإخاء والوجدان النفسي يترقرق في أعماقها+.

ولما وصلت تلك الرسالة إلى الشيخ محمد الخضر حسين أجاب بالأبيات التالية:

أينعم لي بالٌ وأنت بعيد

                   وأسلو بطيف والمنام شريد

إذا أجَّجتْ ذكراك شوقيَ أُخْضِلَتْ

                   لعمري بدمع المقلتين خدود

بَعُدْتُ وآمادُ الحياة كثيرةٌ

                   وللأمد الأسمى عليَّ عهود( )

بعدت بجثماني وروحي رهينةٌ

                   لديك وللودِّ الصميم قيود

عرفتُك إذ زرتُ الوزير وقد حنا

                   عليَّ بإقبال وأنت شهيد( )

فكان غروبُ الشمس فجْرَ صداقةٍ

                   لها بين أحناء الضلوع خلود

لقيت الودادَ الحرَّ من قلب ماجدٍ

                   وأصدق من يُصْفي الوداد مجيد

ألم تَرْمِ للإصلاح عن قوس نافذٍ

                   درى كيف يُرعى طارفٌ وتليدُ

وقمتَ على الآداب تحمي قديمها

                   مخافةَ أن يطغى عليه جديد

أتذكر إذ كنا نباكر معهداً

                   حُميَّاه عِلْمٌ والسقاة أسود( )

أتذكر إذ كنا قرينين عندما

                   يحين صدورٌ أو يحين ورود

فأين ليالينا وأسمارها التي

                   تُبلُّ بها عند الظماء كبودُ

ليالٍ قضيناها بتونسَ ليتها

                   تعود وجيش الغاصبين طريد

2_ وهذه مقطوعة عنوانها (الوفاء بعهد الصداقة)، وقد قالها الشيخ الخضر عندما سأله بعض الأدباء: كيف كانت صلتكم بالشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تونس؛ فأجابه بهذه الأبيات:

أحببتُه ملءَ الفؤاد وإنما

                   أحببت من ملأ الودادُ فؤادَهُ

فظفرتُ منه بصاحبٍ إن يدرِ ما

                   أشكوه جافى ما شكوتُ رقادَه

ودريت منه كما درى مني فتىً

                   عرف الوفاء نجاده ووهادَه( )

3_ وهذه مقطوعة عنوانها (برقية الشوق)، قالها الشيخ محمد الخضر أثناء رجوعه من الآستانة إلى تونس سنة 1330 هـ، وقد مرت به الباخرة بالقرب من شاطئ (المرسى) حيث كان يقيم صديقه العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور:

قلبي يحيِّيك إذ مرت سفينتنا

                   تُجاه واديك والأمواج تلتطم

تحيةً أبرق الشوق الشديد بها

                   في سلكِ ودٍّ بأقصى الروح ينتظم

4_ وهذه قصيدة عنوانها (تهنئة بالقضاء) قالها وهو في دمشق؛ لتهنئة صديقه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور عند ولايته القضاء بتونس:

بَسَط الهناءُ على القلوب جناحا

                   فأعاد مسودَّ الحياة صباحا

إيهِ محيا الدهر إنك مؤنسٌ

                   ما افتر ثغرك باسماً وضَّاحا

وتعُدُّ ما أوحشْتَنا في غابر

                   خالاً بوجنتِك المضيئة لاحا

لولا سواد الليل ما ابتهج الفتى

                   إن آنس المصباح والإصباحا

يا طاهر الهمم احتمتْ بك خُطَّةٌ

                   تبغي هدىً ومروءةً وسماحا

سحبت رداء الفخر واثقة بما

                   لك من فؤاد يعشق الإصلاحا

ستشد بالحزم الحكيمِ إزارها

                   والحزم أنفس ما يكون وشاحا

وتذود بالعدل القذى عن حوضها

                   والعدل أقوى ما يكون سلاحا

في الناس مَنْ ألقى قِلادتها إلى

                   خَلفٍ فحرَّم ما ابتغى وأباحا

فأدِرْ قضاياها بفكرك إنه

                   فكرٌ يرد من العويص جماحا

أنسى ولا أنسى إخاءك إذ رمى

                   صَرْفُ الليالي بالنوى أشباحا

أسلو ولا أسلو علاك ولو أتت

                   لبنان تهدي نرجساً فياحا

أو لم نكن كالفرقدين تَقَارَنا

                   والصفو يملأ بيننا أقداحا

5_ وهذه مقطوعة قالها الشيخ محمد الخضر حسين في صديقيه العلامة أحمد تيمور باشا، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور، مبيناً عظيم محبته لهما، حيث قالها بعد موت أحمد تيمور، وفي وقت بُعْده عن ابن عاشور:

تقاسم قلبي صاحبان ودِدْتُ لو

                   تَمَلَّـتْهما عيناي طول حياتي

وعلَّلت نفسي بالمنى فإذا النوى

                   تُعِلُّ الحشا طعناً بغير قناةِ

فأحمد في مصر قضى ومحمد

                    بتونس لا تحظى بـه لحظـاتـي

أعيش وملءُ الصدرِ وحْشَةُ مُتْرَفٍ

                   رَمَتْهُ يَدُ الأقدارِ في فَلَواتِ( )

6_ وهذه قصيدة عنوانها (مساعي الورى شتى)، قالها مهنئاً صديقه العلامة ابن عاشور عند ولايته التدريس في جامع الزيتونة بتونس سنة 1323هـ:

مساعي الورى شتى وكلٌّ له مرمى             ومسعى ابن عاشورٍ له الأمد الأسمى

فتى آنس الآداب أول نشئهِ

                   فكانت له رُوحاً وكان لها جسما

وما أدبُ الإنسانِ إلا عوائد

                   تخط له في لوح إحساسه رسما

فتى شب في مهد النعيم ولم تنل

                   زخارفه من عزمه المنتضى ثلما( )

وفي بهجة الدنيا وخضرة عيشها

                   غرور لباغي المجد إن لم يفق حزما

وشاد على التحقيق صرح علومه

                   فما اسطاع أعداء النبوغ له هضما

ومن شد بالتفويض لله أزره

                   ومد شباك الجد صاد بها النجما

وذي خطة التدريس توطئة لأن

                   نراه وقسطاس الحقوق به يحمى( )

رجاءٌ كرأي العين عند أولي الحجا

                   يوافيه كالمعطوف بالفاء لا ثُمَّا( )

بلونا حُلى الألفاظ في سلك نطقه

                   فلم يَلْفِ صافي الذوق في عقدها جشما

وفي الناس مهذار تراه يلوكها

                   بلهجته لوك المسومة اللجما

بِطانةُ صدري صورت من إخائكم

                   وجاء بنان الخلدِ يرقمها رقما

وإني أرى باب المداجاة ضيقاً

                   فلا يسعُ النفس التي كَبُرت همَّا

وإن شِمْت في نسج القريض تخاذلاً

                   وآنست في مغزى فواصله وصْمَا

فزهرة فكري لا تَطيب عُصارةً

                   إذا نفث الإيحاش فى أضلعي سمَّا

ألم تر أزهار الربى حينَما نأت

                   أفانينها كان الذبول لها وسما( )

نموذج تعريفي بأحد مؤلفات ابن عاشور: مضى الحديث عن بعض مؤلفات ابن عاشور، وعن مدى تمكنه من العلم، وتفننه فيه.

وإليك فيما يلي نموذج تعريفي بمؤلف من مؤلفاته ألا وهو كتاب (أليس الصبح بقريب).

ولا يغيب عن بالك أن هذا الكتاب قد ألفه في بواكير حياته؛ حيث كتبه عام 1321 وعمره أربع وعشرون سنة؛ فما بالك _إذاً_ بمؤلفاته الأخرى التي كتبها في بقية عمره العامر الذي استمر ثماناَ وتسعين سنه؟!

وقد قصد من كتابه إصلاح التعليم العربي والإسلامي، وتكلم من خلاله على أحوال العلوم الإسلامية، وطرائق تعليمها، وأسباب النهوض والانحطاط العارضين لها.

ويمكن إجمال ما تكلم عليه في ذلك الكتاب الماتع بما يلي:

1ـ أطوار التعليم في الأمة العربية قبل الإسلام، وفي أشهر الأمم المعاصرة للعرب.

2_ أطوار التعليم العربي عند ظهور الإسلام وبعد ظهوره.

3_ نقل العلوم الفارسية والهندية واليونانية.

4_ وصف التعليم الإسلامي وأساليبه، ومناهجه.

5_ الطريقة في معرفة أهلية المتصدي للعلم.

6_ صفة الدروس، ومواضع التعليم.

7_ الكتاتيب وأوليتها في الإسلام.

8_ معاهد تعليم المرأة.

9_ تعليم المرأة.

10_ انبثات العلوم الإسلامية في الأقطار: في مصر وأفريقية، والأندلس، وبلاد الفرس، والمغرب الأقصى.

11_ مواضع التعليم فيها، وأسلوب التعليم.

12_ طور التفكيرالعلمي والمشاركة في العلوم.

13_ الكتب التي كانت تزاول.

14_ تفصيل لمواضع التعليم في تونس، وأسماء علماء تونس.

15_ حديث التآليف، وتاريخ أطوارها، ووجوه إصلاحها.

16_ حديث عن العلوم، وتفصيل في تقسيمها.

17_ تفصيل عن علوم الشريعة، وعلوم اللغة، والمنطق والتاريخ، والفلسفة والرياضيات.

18_ حديث عن المعلمين ومراتبهم.

19_ حديث عن الامتحانات.

20_ تطرقُ الانتقاد للنظام التدريسي.

إلى غير ذلك من المباحث الرصينة، والتحريرات العالية، والتحقيقات الرائعة الماتعة التي قل أن توجد في غير هذا الكتاب.

ولقد أودع المؤلف × هذا الكتاب نظراته الفاحصة، وانتقاداته الموفقة، وآراءه السديدة، ومقترحاته الدقيقة، وملاحظاته القيمة التي كانت سبباً للنهوض بالتعليم في بلاده وغيرها.

كل ذلك بأسلوب أخَّاذ، ولغة عالية، ونَفَس مستريض.

وما أجدر دعاة إصلاح التعليم أن يدرسوا هذا الكتاب، ويفيدوا مما فيه من العلم، والتجارب.

والكتاب يقع في 276 صفحة، توزيع الشركة التونسية للتوزيع.

نُقولٌ مختارة من كتاب: (أليس الصبح بقريب): مما قاله الشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور في كتابه المذكور:

1_ قد كان حدا بي حادي الآمال، وأملَى عليّ ضميري، من عام واحد وعشرين وثلاثمائة وألف، للتفكر في طرق إصلاح تعليمنا العربي الإسلامي الذي أشعرتني مدة مزاولته متعلِّماً ومعلِّماً بوافر حاجته إلى الإصلاح الواسع النطاق؛ فعقدت عزمي على تحرير كتاب في الدعوة إلى ذلك وبيان أسبابه، ولم أنشَبْ أن أزجيت بقلمي في ابتداء التحرير فإذا هو يسابقني كأنه من مطايا أبى العلاء القائل:

ولو أن المطي لها عقول

                   وجَدِّك لم نَشُدَّ لها رحالا

 ص5

2_ وصادفتُ أيام عطلة التدريس الصيفية في ذلك العام، فقضيتُ هواجِرَها الطويلة، وبُكَرها الجميلة، في هذا العمل، مشتغلاً به عن محادثة الأحباب، وعن دَعة التنعم بمغتَسَلٍ بارد وشراب، حتى وقف بي القلم عند انتهاء الاستراحة في مدة شهرين إلى تحرير جملة كانت مشجّعتي على مراجعة عملي هذا في ثلاثة أصياف وعنونته (أليس الصبح بقريب).

وكان من العزم تهذيبه وإصداره، فحالت دون ذلك موانع جمة، لم تزل تطفو وتركد، وتغفو وتسهد، غير أني لم أدع فرصة إلا سعيت إلى إصلاح التعليم فيها بما ينطبق على كثير بحسب ما سمحت به الظروف، وما تيسر من مقاومة صانع منكر ومانع معروف، ما حرك سواكني إلى إبراز هاته الآراء التي كنت أمليتها، ونشر الأوراق التي خشيت عليها عواصف الأهواء فطويتها. ص5

3_ وهاأنذا متقدم إلى خوض بحر أرى هول أمواجه قد حاد بعقول كثير من ذوي الألباب فولوا عنه مدبرين، وتكلموا في إصلاحات نافعة من مصالح المسلمين، لكنها كلها كانت متوقفة على هذا المقصد الجليل المغفول عنه =مبدأ إصلاح التعليم+.

ولطالما كنت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى، وأعلم أن نور عقلي هو دون إضاءة هاته المجاهل التي صفدت عليها منافذ الأنوار والأهوية الخالصة، فامتلأت بالحوامض الرديئة منذ أزمان.

وإذ قد كان من المعلومات المسلمة أن الله _ تعالى _ استخلفنا في الأرض ومنَّ علينا بنور العقول ونبهنا باختلاف النظام في الدنيا إلى أحوال الرقي والانحطاط، وقال: [انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] فما طَمَاعِيَتُنا من هذا السكوت الطويل، وما إغراقُنا في هذا السبات العميق؟ ص6

4_ إذاً قد كان واجباً علينا خدمةً للملة، وتهيئة للنشأة العلمية التي تزيِّن مستقبلنا وتمجِّد ماضينا أن ندخل تلك المجاهل نرفع بإحدى يدينا مشاعل النور، ونقطع بالأخرى ما يمانع من حجرات العثور، فإن لم نصل بعدُ إلى غاياتها فعسى أن لا نبعد، وإن سلمنا من أن نشقى باللئام فما ضرنا أن لا نسعد، ولنا في ذلك كله معذرةُ العارفين، وشهادةُ أو تزكيةُ المنصفين. ص6

5_ نحن نشتغل في هذا العالم لنحصل السعادة حيثما توجهنا وذلك بجلب المنافع واتقاء المضار.

فنحن _ إذاً _ في أشد الاحتياج إلى العلم بوجوه استقامة الأشغال وهي المراد من التعليم؛ ليكون المتعلم بذلك راضياً عن نفسه واثقاً بحصول مبتغاه من عمله، ترى ذلك في كل العلوم، فكما ترى الرضا عن نفسك في معاشرتك بما اكتسبته من علم تهذيب الأخلاق، ترى الرضا عنها في صنائعك إن كنت تصنع وفي سائر أكوانك التي تدخل تحت سلطان إرادتك، فلا يسوء ظنك بشيء ما، ولا تكون مكدوداً من القصور عندما ترى نفوساً يسمو بها الارتقاء في أوج المعالي بل إما أن تسابق معها بجناح، أو تَعْلَم بالأقل أن للطيران فرصَ استكمالِ قوةٍ أو مساعدةِ رياح، كما قال الزمخشري:

يا من يحاول بالأماني رتبتي

                   كم بين منخفضٍ وآخرَ راقي

أأبيتُ ليلي ساهراً وتضيعه

                   نوماً وتأْملُ بعد ذاك لحاقي

ناهيك بما يجده المتعلم إن بلغ حدَّ أن يكون معلماً من الابتهاج بما يبيِّن للمتعلمين من الحقائق، وما يعالجه من إنشاء أمة مستقلة.

هاته منافع العلوم الحاجية التي تدعو إلى معرفتها حاجة الحياة الاجتماعية، وهي تختلف أعدادها باختلاف الحاجات الداعية ولا يَقْدر أن يحدد عددها أحد، لكن لا شك أن تقدم الحضارة يوفر كثرتها.

لأجل هذا كان من واجب كل داع إلى التعليم أن يوضح لطالبيه الغايات التي يحصلونها من مزاولة ذلك التعليم سواء كانت غاية دنيوية أو أخروية؛ لأن لكلتا الغايتين طُلاباً، فتلك الغاية هي التي يجتني منها المحصل على نهاية ذلك التعليم نفعاً لنفسه دنيوياً وأخروياً، ووراء هاتين غاية هي أسمى وأعظم مما يبدو منها وهي إنتاج قادةٍ للأمة في دينها ودنياها، وهداةٍ هم مصابيح إرشادها، ومحاصد قتادها، ومهدئوا نفوسِها إذا أقلقها اضطراب مِهاَدها. ص7 _ 8

6_ فالتعليم الصحيح _ إذاً _ يرمي إلى إنشاء أرقى أصناف الناس من كل من تمرس بالأشغال والأعمال، أو رزق المواهب الحسنة، ورغب في سلوك خير السبل وشغف بالمعرفة وامتاز بحب الواجب والتعقل. ص9

7_ إني على يقين أنني لو أتيح لي في فجر الشباب التشبعُ من قواعد نظام التعليم والتوجيه _ لاقتصدت كثيراً من مواهبي ولاكتسبت جَمَّاً من المعرفة، ولسلمت من التطوح في طرائق تبين لي بَعدَ حينٍ الارتدادُ عنها، مع أني أشكر ما منحت به من إرشاد قيم من الوالد والجد ومن نصحاء الأساتذة، ولا غنى عن الاستزادة من الخير. ص9

8_ نبحث عن تعليم يفيد ترقية المدارك البشرية، وصقل الفِطَر الطيبة لإضاءة الإنسانية، وإظهارها في أجمل مظاهرها؛ فيخرج صاحبها عن وصف الحيوانية البسيط وهو الشعور بحاجة نفسه خاصة، إلى ما يفكر به في جلب مصلحته ومصلحة غيره بالتحرز من الخلل والخطأ بقدر الطاقة، وبحسب منتهى المدنية في وقته. ص12

9_ كان العرب في الجاهلية يلقنون أبناءهم وبناتهم ما هم في احتياج إليه من المعارف يُعِدُّونهم بها إلى الكمال المعروف عندهم. ص17

10_ وسبب اشتهار الشعراء هو أن الشعر ضرب مستحدث من الكلام وأسلوب من المعنى غريب، وهو بجودة وزنه، والتزام قوافيه يتنزل منزلة التوقيعات الموسيقية، فكان يستفز الحليم، ويجرئ الجبان. ص21

11_ حفظ العرب لغتهم من التغيير؛ فعدُّوا الخطأ فيها عيباً يُتعيَّر به، وشهَّروا بأصحاب الفهاهة واللثغة، وأعلنوا بدائع شعرهم وخطبهم في أسواقهم المشهورة أيام مواسم الحج، فكان عِلْمُهُمُ الحقُّ هو أدبَ لُغتِهم، وهو علمهم العقلي الوحيد.

ولهم معارف وتقاليد حافظوا عليها كانوا يعدون العلم بها من صفات الكمال، أهمها معرفة أنسابهم واتصال قبائلهم بعضها ببعض. ص21

12_ وكان لنسائهم عناية بتعليم البنات تدبيرَ البيت، وحسنَ التبعل للأزواج، والشفقةَ في تربية صغار إخوتهن. ص21

13_ وأما علم البلاغة فلم يدوَّن ويُفْرُد بالتسمية والتأليف إلا في القرن الخامس؛ لأنه كان مندرجاً في جملة علم الأدب.

ويقول بعض الناس إن الجاحظَ أولُ من ألَّف فيه لكني أرى ما ألفه الجاحظ كان غير مصنف، وإنما كانت مسائل البلاغة شعبةً من شعب النحو والأدب. ص32

14_ ولكن الذي خص علم البلاغة بالتدوين هو الشيخ عبد القاهر الجرجاني (ت سنة 471هـ) في كتابيه: كتاب دلائل الإعجاز، وكتاب أسرار البلاغة، فهو أعطى ألقاباً للمسائل، وأخرج الكلام في الإعجاز عن الصفة الجزئية إلى قواعد كلية مسهبة مبرهنة.

على أن علم البلاغة لم يصِر فَنَّاً مهذباً إلا منذ صنف فيه الإمام يوسف السَّكَّاكي(ت سنة 626هـ)القسم الثالث من كتابه مفتاح علوم العربية. ص33

15_ وكان معاذ هذا _ يعني الهرَّاء _ يدَّعي أنه يرى الجن، وَوَضَعَ في أخبارهم كتباً أدبية أثبت فيها شعرهم ومُلَحَهم يريد بذلك الطريقة الروائية والمقامات غير أنه يظهره في صورة جد، فقال له الرشيد: =إن كنت رأيت ما ذكرت لقد رأيت عجباً، وإن كنت ما رأيت لقد وضعت أدباً+. ص33

16_ ومما تقدم إلى هنا: تعلم أن العلوم التي كانت تدرس وتدون يومئذ تنتهي إلى اثنين وثلاثين علماً هي: التفسير، الحديث، السيرة، اللغة، النحو، الصرف، التصوف، العَروض، الفقه، أصوله، التاريخ، الطب، آداب العرب، البلاغة، الفلك، المنطق، الفلسفة، الهندسة، الحساب، الهيئة، الجغرافيا، الموسيقى، علم الحيوان، الطبيعة، الرواية والقصص، الكلام، الصيدلة، الكيمياء، الفلاحة، المساحة، الجبر، جر الأثقال والتحرك، وتتبعها علوم تتفرع عن بعضها مثل مصطلح الحديث، والجدل، وآداب البحث، ونقد الشعر. ص39

17_ تثبت أهلية القارئ لأن يؤخذ عنه القرآن، والعالم لبث العلوم الإسلامية، بالاشتهار بين أهل ذلك العلم بأن فلاناً عالم ضابط حافظ. ص52

18_ وكان من الآداب أن تكون بين الحلقة القريبة من الأستاذ وبين أستاذهم مسافة قوس، ويعدون القرب من الأستاذ أكثر من ذلك من سوء التربية. ص54

19_ كان العلم الإسلامي في مصر قد استقر منذ الفتح الإسلامي سنة 16 إذ سكن في مصر كثير من الصحابة مثل عمرو بن العاص، وابنه عبد الله بن عمرو، وقيس بن عبادة، وعبيد الله بن محمد المعافري _ وهو أول من قرأ القرآن بمصر _. ص62

20_ السبب الرابع من أسباب تأخر التعليم: عُرُوُّ التعليمِ عن مادة الآداب وتهذيب الأخلاق، وشرح العوائد النافعة، وغيرها.

وهو السبب الذي قضى على المسلمين بالانحطاط في الأخلاق والعوائد.

وقد اعتنى المسلمون في صدر الإسلام بذلك فتلقوا آداب القرآن وهدي الرسول ثم عززوه في عصور نهضتهم بعلوم آداب الشريعة والمواعظ.

أما إهماله بعد ذلك فسببه تأخر المسلمين وقصور أنظارهم واعتقادهم أن العلم منحصر فيما تتضمنه القواعد العلمية كالنحو، والفقه وبعبارة أخرى ميل طائفة العلماء إلى الحفظ والاستكثار من فروع المسائل ومن عدد العلوم.

ومن العار الكبير أن ترى كثيراً ممن ينتصب لتعليم النشأة تعجبك أجسامهم، وتبهجك بزَّتُهم، وتعظم صورهم، ولكن ما بينك وبين أن ترمقهم بضد ذلك إلا أن تُحَاكَّهم وتعاشرهم أو تجادلهم؛ فترى تلك الهياكلَ العظيمةَ فارغةً من الفضيلة ومكارم الأخلاق والمروءة، وبذلك رزئت الأمة أنفع عنصر في حياة الأمم وكمالها وهو الأخلاق.

 وإذا كانت تلك حالةَ خاصةِ الناس فما ظنك بعامتهم؟ وإذا ذهب وقت التعليم عن الطلبة ولم يتلقوا فيه فضائل الأخلاق فمن العسير أو المتعذر تلقينها لهم من بعد؛ لأن فيما يدخل فيه المحصل على الشهادة أو نحوه من معترك الحياة شغلاً شاغلاً عن ذلك. ص124

21_ والواجب من حيث خطتنا التي نريد أن تسير فيها أبناؤنا وتلامذتنا هو التدريب على ضروب الحكمة، ونقد مقتضيات الزمان، وعلو الهمة، والغيرة للحق، والترفعُ عن سخائف المطامع، وعن ضيق الصدر الذي ينشأ عنه الحسد والظلم والخصام، والتلطي من كل ما يخالف المقصد، والإقدام، والحزم وأصالة الرأي، وحب النظام في جميع أحوال الحياة، والعمل، وحب التناسب في المظاهر كلها، وإدراك الأشياء على ما هي عليه، والتباعد عن الخفة والطيش، وعن الجمود والكسل، وسوء الاعتقاد والأمور الوهمية بحيث يكون العدل في جميع الأشياء صفة ذاتية لهم. ص 125

22_ نعم نحن نرى أن لا يقع النقد إلا في الدروس العالية، أما التلامذة المبتدئون والمتوسطون في أول الرتبة فإنا نلقي إليهم القواعد، وما كان من رأي فيه نظر ننقحه ونلقيه لهم من غير إشعار بما كان فيه من الخلل وكيف وقع تنقيحه، حتى أني كنت أصرفهم عن سرد الشرح مثلاً متى علمت أن في ذلك الموضع ما لا يصلح تلقيه. ص127

23_ والمشائخ المدرسون _ وإن بلغوا ما بلغوا من الاجتهاد في التعليم _ فإن ثمرة اجتهادهم لا تظهر إلا بمقدار نجابة تلامذتهم. ص141

24_ ونسبة النباهة والتحصيل في التلامذة قليل بسبب إهمال التمرين وترك مراجعة ما يقرؤونه قبل الدرس وبعده، وترك مطالبتهم باستذكار ما تعلموه، وترك تكليفهم بحفظ المتون حفظاً جيداً، وترك تعويدهم على فهم معنى المتن الذي يحفظونه؛ فإنك لتسأل التلميذ عن المسألة فيعجز عن الجواب ويتذكر عبارة المتن، ولكنه يبقى يلوكها ولا يكاد يبين عن المراد منها. ص158

25_ يؤلِّف في علمٍ مَنْ كان قويَّ الساعد فيه؛ ليمكنه أن يأتي في تأليفه بغرض من أغراض التأليف السبعة التي جمعت في أبيات:

ألا فاعلمن أن التآليف سبعة

                   لكل لبيب في النصيحة خالصِ

فشرحٌ لإغلاقٍ وتصحيحُ مخطئٍ

                   وإبداعُ حَبرٍ مقْدمٍ غيرِ ناكصِ

وترتيبُ منثورٍ وجمعُ مفرقٍ

                   وتقصيرُ تطويلٍ وتتميمُ ناقصِ

ص170

26_ التفسير شرح مراد الله _ تعالى _ من القرآن ليفهمه من لم يصل ذوقه وإدراكه إلى فهم دقائق العربية، وليعتاد بممارسة ذلك فهمَ كلام العرب، وأساليبهم من تلقاء نفسه. ص184

27_ يُقْصد من علم الأصول ضبطُ القواعد التي يستطيع العالم بها فهمَ أدلة الشريعة؛ ليأخذ منها الأحكام التفريعية.

أرادوا أن يجمعوا فيه ما تتفق فيه الآراء ليرتفع الخلاف في الفقه بعد أن كانت هاته القواعد متفرقة وموكولة لنباهة المجتهدين. ص203

28_ في طبع الإنسان كراهيةُ الرجوعِ إلى من يجترئ عليه، والخلافُ بين العقلاء نادر لو رامو التقارب. ص210

29_ وللغة المُضَرية شَبهٌ بالعبرانية والبابلية وسائر اللغات السامية. ص212

30_ هل نرجو من تلامذتنا اليوم أن يكونوا فصحاء بلغاء وهم لا يقرع سمعهم إلا سقط الكلام، ورعونة التعبير، ولا يعرفون معنى الإنشاء والفصاحة؟  ص215

31_ لا عُدة لنا اليوم في الفصاحة إلا القرآن، وناهيك به عدة، ولكن قراءة الناس إياه في الصغر، وإهمال التذكير بمعانيه في المكاتب، والشغل عن درسه في الكبر _ أرزا الناس فائدة عظيمة يبلغون بها رتبة مكينة من علم اللسان. ص215

32_ فإن كتاب سيبويه اشتمل على مسائل من التقديم، والتأخير، ومعاني الحروف، ومحاسن العطف، ونحوها؛ فكان عمدة علماء البلاغة من بعده وقد قال فيه الزمخشري:

ألا صَلَّى الإله صلاة صدق

                   على عمروِ بنِ عثمانَ بن قُنْبَرْ

فإن كتابه لم يُغْنَ عنه

                   بنو قلم ولا أعـوادُ مِنْبَرْ

33_ علم البلاغة المعاني والبيان والبديع: تكاثرت الأسماء له فمن الناس من سماه علم البديع؛ لأنه مبدع، ومنهم من سماه البيان؛ لأنه يبين عن المراد، والمتأخرون هم الذين قسموه إلى ثلاثة أقسام:

المعاني: وهو ما يبحث فيه عن مطابقة الكلام لمقتضى حال التعبير.

والبيان: وهو كاسمه يعرف به إيرادُ المعنى بطرق مختلفة في وضوح الدلالة من حقيقة أو مجاز.

والبديع: وهو تحسين المعاني أو الألفاظ بما يجعلها مستظرفة للسامع.

ص222 _ 232

34_ يريدون من المنطق علماً يعصم الأفكار عن الخطأ في المطلوب التصوري الذي تتعرف منه حقيقةُ شيء، وفي المطلوب التصديقي الذي يُتَعرف منه العلمُ مع دليل ما، وهو من جملة العلوم التي نقلها العرب من اليونانية في عصر النهضة العلمية، وختْمه بالصناعات الخمس: =البرهان، والجدل، والخطابة، والشعر، والسفسطة+. ص225

35_ من أخص واجبات الأساتذة أن يكونوا قدوة لتلاميذهم؛ فمن الواجب أن يعرفوهم حب العمل، والسعي لإصلاح أنفسهم وأمتهم، وأن ينشِّؤوهم على خلال المصابرة والشجاعة، والحرية والمروءة، واحترام الحق والعدالة، والعفاف وكرم الأخلاق؛ حتى يكونوا كلهم أعضاءً نافعةً عاملةً سواءٌ منهم من بقي في صناعة العلم أو من انصرف إلى الأشغال الأخرى وعساهم أن لا يكونوا بعداء عن هذا في مقبل الزمان؛ فإن علماء الأمة زينتها في كل أوان. ص235

36_ ليس العلم رموزاً تُحل، ولا كلماتٍ تُحفظ، ولا انقباضاً وتكلفاً، ولكنه نورُ العقلِ، واعتداله، وصلاحيته لاستعمال الأشياء فيما يحتاج إليه منها؛ فهو استكمال النفس، والتطهر من الغفلة، والتأهل للاستفادة والإفادة، وما كانت العلوم المتداولة بين الناس إلا خادمةً لهذين الغرضين وهما ارتقاء العقل لإدراك الحقائق، واقتدار صاحبه على إفادة غيره بما أدركه هو. ص239

37_ هذا ما عنَّ إثباته من أحوال العلوم الإسلامية وطرائق تعليمها وأسباب النهوض والانحطاط العارضين لها في عديد الأعصر، وقد مضى بعد تقييده زمنٌ غيرُ قصيرٍ تطورت فيه الأحوال إلى أحسنَ تارةً وإلى أسوأَ أخرى، وفي العيان غُنيةٌ عن الإبانة لمن كانت له زكانة.

وقد تحقق العمل بكثير من الملاحظات والمقترحات التي اشتمل عليها هذا الكتاب، فأسفر بها وجه الصبح الذي رجوت له قرباً، ولم أفتىء كلما وجدت فجوةً أن أرتقي بالتعليم مرتقىً وإن كان صعباً، حتى قلتُ إن الصبح أعقب بضحاه، ورأيت كثيراً من الناصحين توخى سبيلنا وانتحاه، واللبيب لا يعوزه تنظير الأحوال، وفي الخبر أن ابن آدم لا ينتهي ما له من آمال، ونسأل الله عون المسلمين على إصلاح الأحوال. ص260

ولقد توفي الشيخ ابن عاشور يوم الأحد 13/7/1393هـ.

هذه نبذة يسيرة عن سيرة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور × ومن أراد المزيد فليرجع إلى الكتب التي ترجمت له، ومنها: كتاب شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر بن عاشور _ حياته وآثاره، تأليف د. بلقاسم الغالي.

ومقدمة الأستاذ محمد الطاهر الميساوي لكتاب مقاصد الشريعة لابن عاشور.

وكتاب محمد الطاهر بن عاشور: علامة الفقه وأصوله والتفسير وعلومه، تأليف الأستاذ إياد خالد الطباع، وكتاب الصداقة بين العلماء، وكتاب مقالات لكبار الكتاب العربية في العصر الحديث، وهما  لكاتب هذه السطور.

 الشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي

معالم بارزة في سيرته:

لقد كُتِبَ العديد من الدراسات والأبحاث في سيرة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي الجزائري.

والأجزاء الخمسة التي جمعها وقدم لها نجله الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي وسماها (آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي) حافلة بالمقالات التي رَقَمَتْهَا يراعة الشيخ، والتي تصور شخصيته، وأطوار حياته.

كما أن تلك الأجزاء _ وخصوصاً مقدماتها _ قد تضمنت عدداً من الكتابات التي تناولت سيرة الشيخ بالدراسة والتحليل.

بل إن الشيخ محمد البشير ×كتب عن سيرته الذاتية؛ حيث جاء في الجزء الخامس من (الآثار) ترجمتين كتبهما الشيخ عن نفسه.

أما الترجمة الأولى فهي في 5/163_170

وقد جاءت بعنوان (من أنا) وهي في أصلها جواب عن أسئلة مجلة المصور المصرية، ونشرت في 1955م.

وأما الثانية فهي في 5/262_291 من الآثار، وعنوانها:  (خلاصة تاريخ حياتي العلمية والعملية) .

وقد كتب هذه الترجمة بطلب من مجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 1961م عندما عين عضو عاماً فيها.

كما تحدث بشيء من سيرته في مقابلة مع مجلة الشبان المسلمين 1962م وهذه المقابلة في الآثار 5/ 298 _302.

وفيما يلي خلاصة موجزة لبعض ما جاء في تلك الكتابات حول سيرة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي:

1_ ولد عند طلوع الشمس من يوم الخميس الثالث عشر من شهر شوال عام 1306هـ، الموافق للرابع عشر من شهر يونيو سنة 1889م في ولاية سطيف في الجزائر.

2_ وهبه الله حافظة خارقة، وذاكرة عجيبة تشهدان بصدق ما يحكى عن السلف، وكانتا معينتين له في العلم في سن مبكرة _ كما سيأتي نماذج من ذلك _.

3_ تلقى تعليمه في بيت أسرته، وقام على تربيته عمُّه الشيخُ محمد المكي الإبراهيمي الذي كان عَلامة زمانه في العربية.

يقول الشيخ محمد البشير×: عن نشأته، وبداية طلبه للعلم، ومحفوظاته:

=نشأت في بيت والدي كما ينشأ أبناء بيوت العلم، فبدأت التعلم وحفظ القرآن الكريم في الثالثة من عمري على التقليد المتبع في بيتنا، الشائع في بلدنا.

وكان الذي يعلمنا الكتابة، ويلقننا حفظ القرآن جماعة من أقاربنا من حفاظ القرآن، ويشرف علينا إشرافاً كلياً عالم البيت، بل الوطن كله في ذلك الزمان عمي شقيق والدي الأصغر الشيخ محمد المكي الإبراهيمي ×.

وكان حامل لواء الفنون العربية غير مدافع؛ من نحوها، وصرفها، واشتقاقها، ولغتها.

أخذ كل ذلك عن البقية الصالحة من علماء هذه الفنون بإقليمنا+( ).

ويقول ×: =فلما بلغت سبع سنين استلمني عمي من معلمي القرآن، وتولى تربيتي وتعليمي بنفسه، فكنت لا أفارقه لحظة، حتى في ساعات النوم؛ فكان هو الذي يأمرني بالنوم، وهو الذي يوقظني على نظام مطرد في النوم، والأكل، والدراسة.

وكان لا يخليني من تلقين حتى حين أخرج معه، وأماشيه للفسحة، فحفظت فنون العلم المهمة في ذلك السن مع استمراري في حفظ القرآن؛ فما بلغت تسع سنين من عمري حتى كنت أحفظ القرآن مع فهم مفرداته وغريبه.

وكنت أحفظ معه ألفية ابن مالك، ومعظم الكافية له، وألفية ابن معطي الجزائري، وألفيتي الحافظ العراقي في السير والأثر، وأحفظ جمع الجوامع في الأصول، وتلخيص المفتاح للقاضي القزويني، ورقم الحلل في نظم الدول لابن الخطيب، وأحفظ الكثير من شعر أبي عبدالله بن خميس التلمساني شاعر المغرب والأندلس في المائة السابعة، وأحفظ معظم رسائل بلغاء الأندلس مثل ابن شهيد، وابن برد، وابن أبي الخصال، وأبي المطرف ابن أبي عميرة، وابن الخطيب.

ثم لفتني عمي إلى دواوين فحول المشارقة، ورسائل بلغائهم، فحفظت صدراً من شعر المتنبي، ثم استوعبته بعد رحلتي إلى المشرق، وصدراً من شعر الطائيين، وحفظت ديوان الحماسة، وحفظت كثيراً من رسائل سهل ابن هارون، وبديع الزمان.

وفي عنفوان هذه الفترة حفظت بإرشاد عمي كتاب كفاية المتحفظ للأجدابي الطرابلسي، وكتاب الألفاظ الكتابيه للهمذاني، وكتاب الفصيح لـ:ثعلب، وكتاب إصلاح المنطق ليعقوب بن السكيت.

وهذه الكتب الأربعة هي التي كان لها معظم الأثر في مَلَكتي اللغوية.

ولم يزل عمي × يتدرج بي من كتاب إلى كتاب تلقيناً وحفظاً ومدارسة للمتون والكتب التي حفظتها حتى بلغتُ الحادية عشرة، فبدأ لي في درس ألفية ابن مالك دراسة بحث، وتدقيق، وكان قبلها أقرأني كتب ابن هشام الصغيرة قراءةَ تفهُّمٍ وبحث، وكان يقرئني مع جماعة الطلاب المنقطعين عنده لطلب العلم على العادة الجارية في وطننا إذ ذاك، ويقرئني وحدي، ويقرئني وأنا أماشيه في المزارع، ويقرئني على ضوء الشمع، وعلى قنديل الزيت في الظلمة حتى يغلبني النوم.

ولم يكن شيء من ذلك يرهقني؛ لأن الله _تعالى _ وهبني حافظة خارقة للعادة، وقريحة نَيِّرة، وذهناً صيوداً للمعاني ولو كانت بعيدة.

ولما بلغت أربع عشرة سنة مرض عمي مرض الموت، فكان لا يخليني من تلقين وإفادة وهو على فراش الموت؛ بحيث إني ختمت الفصول الأخيرة من ألفية ابن مالك عليه وهو على تلك الحالة+( ).

ويقول في موضع آخر: =ولقد حفظت وأنا في تلك السن _الرابعة عشرة_ أسماء الرجال الذين تَرجم لهم نفح الطيب، وأخبارهم، وكثيراً من أشعارهم؛ إذ كان كتاب نفح الطيب _ طبعة بولاق _ هو الكتاب الذي تقع عليه عيني في كل لحظة منذ فتحت عيني على الكتب.

وما زلت أذكر( ) إلى الآن مواقع الكلمات من الصفحات، وأذكر أرقام الصفحات من تلك الطبعة.

وكنت أحفظ عشرات الأبيات من سماع واحد، مما يحقق ما نقرؤه عن سلفنا من غرائب الحفظ.

وكان عمي يشغلني في ساعات النهار بالدروس المرتبة في كتب القواعد وحدي أو مع الطلبة، ويمتحنني ساعة من آخر كل يوم في فهم ما قرأت، فيطرب لصحة فهمي.

فإذا جاء الليل أملى علي من حفظه _ وكان وسطاً _ أو من كتاب ما يختار لي من الأبيات المفردة، أو من المقاطيع حتى أحفظ مائة بيت، فإذا طلبت المزيد انتهرنِي، وقال لي: إن ذهنك يتعب من كثرة المحفوظ كما يتعب بدنك من حمل الأثقال، ثم يشرح لي ظواهر المعانِي الشعرية، ثم يأمرنِي بالنوم×+( )

ثم يقول × بصدق وصراحة: =مات عمي سنة 1903م ولي من العمر أربع عشرة سنة، ولقد ختمت عليه دراسة بعض الكتب وهو على فراش المرض الذي مات فيه وأجازني الإجازة المعروفة عامة، وأمرنِي أن أخلفه في التدريس لزملائي الطلبة الذين كان حريصاً على نفعهم، ففعلت، ووفق الله، وأمدتني تلك الحافظة العجيبة بمستودعاتها، فتصدرت دون سن التصدر، وأرادت لي الأقدار أن أكون شيخاً في سن الصبا.

وما أشرفت على الشباب حتى أصبت بشرِّ آفة يصاب بها مثلي، وهي آفة الغرور والإعجاب بالنفس؛ فكنت لا أرى نفسي تَقْصُر عن غاية حفَّاظ اللغة وغريبها، وحفاظ الأنساب والشعر، وكدت أهلك بهذه الآفة لولا طبع أدبي كريم، ورحلة إلى الشرق كان فيها شفائي من تلك الآفة+( ).

هذا وقد أشار × في بعض المواضع إلى أنه كان يحفظ المعلقات، والمفضليات، وكثيراً من شعر الرضي، وابن الرومي، وأبي تمام، والبحتري.

وأشار إلى أنه يحفظ موطأ مالك وغيره من الكتب( ).

4_ بعد موت عمه خلفه في الدروس على تلامذته، وغيرهم، واستمر على ذلك إلى أن جاوز العشرين من عمره.

5_ بيته عريق في العلم، خرج منه جماعة أفذاذ في علوم الدين والعربية في الخمسة قرون الأخيرة بعد انحطاط عواصم العلم الشهيرة في المغرب.

6_ رحل إلى المدينة هو ووالده، مهاجرين فراراً من الاستعمار الفرنسي، فكان من مدرسي الحرم النبوي الشريف، وتلقى فيها علم التفسير، وعلم الحديث رواية ودراية، وعلم الرجال، وأنساب العرب، والمنطق، ومكث في المدينة قريباً من ست سنين، ثم انتقل إلى دمشق في أثناء الحرب العالمية الأولى؛ فكان من أساتذة العربية في المدرسة السلطانية مدة سنتين في عهد حكومة الاستقلال العربي.

7_ بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى رجع إلى بلده الجزائر، وبقي فيها ينشر العلم في فترات منقطعة إلى سنة 1931م.

8_ يرجع الفضل _ بعد الله _ إليه وإلى الشيخ عبد الحميد بن باديس في تكوين جمعية العلماء في الجزائر.

9_ وكان في طليعة العاملين على إحياء العلوم الدينية والعربية في الجزائر من الابتدائية إلى العالية.

10_ وكان أبرز المشيدين لأربعمائة مدرسة في مدن الجزائر وقراها.

11_ وكان في طليعة المجاهدين في سبيل الإصلاح الديني، ومحاربة الدجل، والبدع، والخرافات، والشركيات.

12_ كان من الشجعان الحكماء الذين يحسب لهم ألف حساب، ومواقفه في ذلك لا تكاد تحصر، ومنها على سبيل المثال ما حدث له عام1940م إبان الاستعمار الفرنسي للجزائر عند ما أصدر الوالي العام أمر اعتقال الإبراهيمي في ساعة مختارة طبقاً للإجراءات المقررة؛ حتى لا يقع تجمع في الشوارع.

وقبيل اعتقال الإمام الإبراهيمي جرب الفرنسيون وسيلة كانوا يستنْزلون بها الهمم، ويشترون الذمم، وهي وسيلة الترغيب التي تعودوا استعمالها مع الذين أخلدوا إلى الأرض، وأتبعهم الشيطان؛ فلم يعيشوا لمبدأ، وقضوا حياتهم يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام.

فبعثوا إليه القاضي ابن حورة يعرض عليه منصب شيخ الإسلام الذي سيحدث لأول مرة في الجزائر في مقابل تصريح يؤيد فيه فرنسا التي كانت طرفاً في الحرب العالمية الثانية، والمشاركة في تحرير صحف أنشأوها، وفي كتابة محاضرات تسجل للإذاعة مقابل مِنَحٍ مغرية، فخيب ظنهم، ورفض كل تعاون معهم.

وكرر الفرنسيون المحاولة، واستدعت إدارة تلمسان الشيخ، وحاولت إقناعه بسداد طلب الحكومة، فرفض، فقيل له: ارجع إلى أهلك،وودعهم، وأحضر حقيبتك _ يعني أنك ذاهب إلى السجن _.

فقال لهم: قد ودعتهم، وها هي حقيبتي جاهزة.

ولما علم الإمام الشيخ عبدالحميد بن باديس بموقف أخيه الإمام الإبراهيمي ازداد إكباراً له، وإعجاباً به، وكتب إليه رسالة عام 1940 قبيل وفاته _أي ابن باديس _ بثلاثة أيام، ما نصه:

=الأخ الكريم الأستاذ البشير الإبراهيمي _ سلمه الله _.

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد:

فقد بلغني موقفكم الشريف الجليل العادل فأقول لكم : =الآن يا عمر+( ) .

فقد صنت العلم والدين، صانك الله وحفظك، وتَرِكَتـَك، وعظَّمتها عظَّم الله قدرك في الدنيا والآخرة، وأعززتهما أعزك الله أمام التاريخ الصادق، وبيضت محُيَـَّاهما بيض الله محياك يوم لقائه، وثبتك على الصراط المستقيم، وجب أن تطالعني برغباتك، والله المستعان.

والسلام من أخيك عبد الحميد بن باديس+( )

كما أنه قد زج به في السجن بعد أحداث مايو 1945، وبقي فيه عاماً كاملاً ذاق الأمرين في زنزانة تحت الأرض؛ حيث الظلمة، والرطوبة مما استدعى نقله إلى المستشفى العسكري بقسنطينة؛ فتحمَّل هذه المحنة بصبر المجاهد، ويقين المؤمن( )

13_ كان ذا شخصية فذة، فقد أوتي مواهب عديدة، فكان خطيباً مِصْقعاً، وشاعراً مُفْلِقاً، وكاتباً لا يكاد أحد يدانيه في وقته، يشهد له بذلك كل من عرفه، وقرأ له.

كما أنه ذو نفس مرهفة، وذو خلق عال، وأدب جم، ووفاء منقطع النظير.

يقول ابنه الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي: =لقد سمعت الشيخ العربي التبسي _ نائب البشير في جمعية العلماء × _ يردد كثيراً في مجالسه: إن الإبراهيمي فلتة من فلتات الزمان، وأن العظمة أصل في طبعه+.

ثم يواصل الدكتور أحمد قائلاً: =والعظمة في رأيي تكمن في القلب، والحقيقة أن الإبراهيمي كان عظيماً بعقله، ووجدانه، وبقلبه ولسانه؛ فكل من تقلب في أعطافه نال من ألطافه؛ فالقريب، والرفيق، والسائل والمحروم، والمريد والتلميذ يجد فيه الأب الشفيق، والأخ الصديق الذي لا يبخل بجهده، وجاهه وماله _ وإن قل _ لتفريج الكروب، وتهوين الخطوب.

وما تقرَّبتَ منه إلا ملك قلبك بحلمه، وغمر نفسك بكرمه قبل أن يشغل عقلك بعلمه، ويسحر لبك بقلمه.

وكانت الخصال البارزة فيه الإيثار، والحلم، والوفاء+. ( )

14_ وكان عالماً بالحديث وروايته؛ حتى إنه كان يعطي الإجازات في ذلك.

15_ وكان مفسراً للقرآن في دروس عمومية، ودروس للطلبة الخواص، أتى فيها بإبداعات سجلتها عنه ذاكرة الرجال، وإن لم تجمعها المكتوبات.

16_ وكان مُعَلِّماً للتاريخ الإسلامي في براعة وتحليل، وسعة نظر؛ حيث تطرق إلى فلسفة التاريخ، وعلم الاجتماع، والأخلاق؛ لينير التاريخ بمنظار الإسلام.

17_ وكان _ مع هذا كله _ قدوة في سهولة المعاملة، والاتصال، بشوشاً، مرحاً في مجلسه، واسع الصدر في ممارسة المسؤوليات، متدفق الحيوية في الأنشطة الثقافية.

18_ وكان _أيضاً _ متميزاً بثقافة عصرية عالية.

يقول ابنه الدكتور أحمد: =سألني في إحدى ليالي عام 1948م وأنا بقسم الفلسفة في خاتمة تعليمي الثانوي عن آخر درس تلقيته في علم النفس، فأخذ رأس الموضوع، وشرح لي آراء (وليم جامس) أحد مؤسسي المذهب العملي (البراجماتي)، وتحدث عن كثير من مفكري الغرب ممن لم أكن أسمع بهم قبل ذلك اليوم مثل: داروين، وجون لوك، وجون ستيوارات.

كما أوضح لي مساهمة العلماء المسلمين في كثير من الجوانب+( ).

19_ وكان على جانب كبير من عزة النفس، والترفع عن الدنايا.

20_ وكان شديد العناية بقضايا المسلمين في شتى البلدان، وعلى رأسها قضية فلسطين، وكذلك قضية كشمير، وقضايا المسلمين عموماً؛ فلقد كان يتابع تلك القضايا بدقة، ويكتب عنها، ويسبرها.

ولم تشغله قضيته الأساس، وهي قضية تحرير الجزائر عن بقية قضايا المسلمين في كل مكان.

21_ وخلاصة القول أن الله _ عز وجل _ قد فتح عليه أبواباً عظيمة من الخير من علم نافع، وعمل صالح، وخلق كريم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

وإليك _ في خاتمة الحديث عن سيرته _ هذه الكلمة التي تبين كثيراً من صفات الإبراهيمي مما قد مر منها ومما لم يمر.

وهي كلمة قالها أحد رفاقه، وهو الأستاذ أحمد توفيق المدني × وذلك عندما تبوأ الإبراهيمي كرسيه في مجمع اللغة العربية في القاهرة، يقول الأستاذ أحمد: =فتقدم الإبراهيمي الأمين يحمل الراية باليمين، لا يأبه للمكائد والسجون، ولا يبالي بالمنافي في الفيافي.

بل دخل المعمعة بقلبِ أَسَد، وفكرٍ أَسَدّ، ووضع في ميزان القوى المتشاكسة يومئذ تلك الصفات التي أودعها الله فيه:

_ علماً عزيزاً فياضاً متعدد النواحي، عميق الجذور.

_ واطلاعاً واسعاً عريضاً يخيِّل إليك أن معلومات الدنيا قد جمعت عنده.

_ وحافظة نادرة عز نظيرها.

_ وذاكرة مرنة طيِّعة جعلت صاحبها أشبه ما يكون بالعقل الالكتروني.

_ كدائرة معارف جامعة سهلة التناول من علوم الدين التي بلغ فيها مرتبة الاجتهاد بحق، إلى علوم الدنيا مهما تباينت واختلفت، إلى شتى أنواع الأدبين القديم والحديث بين منظوم ومنثور، إلى أفكار الفلاسفة والحكماء من كل عصر ومصر، إلى بدائع المُلح والطرائف والنكت.

كل ذلك انسجم مع ذكاء وقَّاد ونظرات نافذة، تخترق أعماق النفوس، وأعماق الأشياء.

_ وفصاحة في اللسان، وروعة في البيان، وإلمام شامل بلغة العرب لا تخفى عليه منها خافية.

_ وملكة في التعبير مدهشة جعلته يستطيع معالجة أي موضوع ارتجالاً على البديهة إما نثراً أونظماً.

_ ودراية كاملة بجميع ما في الوطن الجزائري، يحدثك حديث العليم الخبير عن أصول سكانه وقبائله، وأنسابه، ولهجاته، وعادات كل ناحية منه، وأخلاقها، وتقاليدها، وأساطيرها الشعبية، وأمثالها، وإمكاناتها الاقتصادية، وثرواتها الطبيعية.

_ كل ذلك قد تُوِّج بإيمان صادق، وعزمة لا تلين، وذهن جبار، منظم، يخطط عن وعي، وينفذ عن حكمة، وقوة دائبة على العمل لا تعرف الكلل ولا الملل.

هذا هو البطل الذي اندفعنا تحت قيادته الموفقة الملهمة، نخوض معركة الحياة التي أعادت لشعبنا بعد كفاح طويل لسانه الفصيح، ودينه الصحيح، وقوميته الهادفة+( ).

_ نموذج من نثره: يعد الشيخ محمد البشير الإبراهيمي آية من آيات البيان والكتابة في العصور المتأخرة _كما مر_ والأجزاء الخمسة من الآثار شاهدة بذلك سواء كتب في مجال السياسة، أو الاجتماع، أو الرسائل الإخوانية، أو غير ذلك.

وفيما يلي نموذج من نثره، وهو عبارة عن مقامة كتبها البشير في رثاء رفيق دربه الشيخ عبدالحميد باديس × وعنوانها =مناجاة مبتورة لدواعي الضرورة+.

وقد قدم لهذه المقامة تلميذُ البشيرِ الأستاذُ محمدُ الغسيريُّ؛ فإليك شيئاً من مقدمة الغسيري، ثم مقامة البشير:

يقول الغسيري:

الوفاء قليل في البشر، وأوفى الأوفياء من يفي للأموات؛ لأن النسيان غالباً ما يباعد بين الأحياء وبينهم، فيغمطون حقوقهم، ويجحدون فضائلهم.

وما رأينا في حياتنا رفيقين جمع بينهما العلم والعمل في الحياة، وجمع بينهما الوفاء حين استأثر الموت بأحدهما _مثلما رأينا إمامي النهضة الجزائرية عبدالحميد ابن باديس، ومحمد البشير الإبراهيمي، رحم الله الميت، وأمد في عمر الحي حتى يحقق للجزائر أمنيتها.

من أعلى ما امتاز به أستاذنا الجليل، ورئيسنا الأكبر، محمد البشير الإبراهيمي من شرف الخلالِ نكرانُ الذاتِ؛ فهو لا يزال يعمل الأعمال التي تعجز عنها الجماعات وتنوءُ بها العُصَب، وهو مع ذلك لا ينسب الفضل إلا لإخوانه ورفقائه الأموات والأحياء.

يصرح بذلك في خطبه الدينية، ومحاضراته الجامعة، ويقول: إن كل فضل في هذه الحركة العلمية النامية يرجع إلى جمعية العلماء، وإنه لولا جمعية العلماء لما كان هو.

ونحن _ أبناؤه _ نشهد، وإخوانه يشهدون أنه لولا علمه، ولسانه، وصبره وتأثيره الذي يشبه السحر _ لما كانت جمعية العلماء، ولولا براعته في التصريف والتسيير لما سار لجمعية العلماء شراع في هذه الأمواج المتلاطمة من الفتن.

مات ابن باديس، في حين كان رفيقه في الجهاد وقسيمه في العلم والعمل محمد البشير الإبراهيمي منفيّاً في قرية ( آفلو ) من الجنوب الوهراني، بحيث لم يحضر دفنه، ولم يؤبّنه بكلمة، فعوّض ذلك برسائل تعزية كتبها إلى إخوانه بثَّ فيها حزنه للمصيبة، وصوّر فيها آثارها، ولم تنسه الفجيعة ما يجب من النصائح بالثبات، واستمرار السير، فجاءت رسائلَ من ذلك الطراز الساحر الذي لا يحسنه إلا الإبراهيمي، ولا أدري أيحتفظ إخواني بتلك الرسائل الفنية أم ضيّعوها؟!

ولما مضت على موت الأستاذ سنة، ورفيقه لا يزال في المنفى، أرسل الرئيس الجليل من منفاه هذه المقامة؛ فأبكت العيون، وجدّدت الأسى.

رغبنا إلى أستاذنا أن ننشر هذه المقامة فأذن _ أبقاه الله _ بعد امتناع؛ لأن أستاذنا _حفظه الله_ لا يرى السجعَ معبّراً عن النوازع العميقة، وإن كان هو إمامَ العصر بلا منازع في هذه الطريقة الأندلسية البديعة التي لا يحسنها إلا من جمع بين الطبع والصنعة، وملك أزمة اللغة والغريب…

وحلّت في الأخير رغبتنا منه محل القبول؛ حرصاً على هذه المقامة أن تضيع إن لم تسجل، وكم نفائس مثل هذه المقامة، وكم من رسائل، وكم من تحف فنية من أدب الهزل والنكتة، وكم من ملاحم شعرية، بلغت الآلاف من الأبيات ما زالت مطمورة في أوراق الأستاذ، وفي حافظته العجيبة.

وإذا لم يحرص أمثالنا من تلامذة الأستاذ على استخراجها ونشرها ضاعت، وخسر الأدب والعلم خسارة لا تعوّض، وهاهي ذي المقامة الباديسية، وننبِّه إلى أن الأستاذ حذف منها كثيراً مما لا تسمح الظروف بنشره.

تلمسان

محمد الغسيري

وإليك أيها القارئ الكريم نص المقامة:

=مناجاة مبتورة لدواعي الضرورة+( )

سلام يتنفس عنه الأقاحُ بإزهاره وإيراقه، ويتبسم عنه الصباحُ بنوره وإشراقه.

وثناءٌ يتوهج به من عنبر الشجر عبيرُه، ويتبلج به من بدر التمام على الركب الخابط في الظلام منيره.

وصلوات من الله طهورها الروح والريحان وأركانها النعيم والرضوان، وتحيات زكيات تتنزل بها _ من الملأ الأعلى _ الملائكة والروح، ونفحات ذكيات تغدو بها رسل الرحمة وتروح، وخيرات مباركات يصدّق برهانُ الحقِّ قولَها الشارحَ بفعلها المشروح.

وسلام من أصحاب اليمين، وغيوث من صوادق الوعود، لا صواعق الرعود لا تخلف ولا تمين،( ) وسحائب من الرحمات تنهل سواكبها، وكتائب من المبشرات تزجى مواكبها، وسوافح من العبرات تنحلّ عزاليها، ولوافح من الزفرات تسابق أواخرها أواليها _ على الجدث الذي التأمتْ حافَّتاه على العلم الجم والفضل العد، ووارَى ترابُه جواهرَ الحِجا والذكاء والعزم والجد، وطَوى البحرَ الزخار في عدة أشبار، فأوقف ما لا حدّ له عند حد، واستأثر بالفضائل الغُزْر،( ) والمساعي الغرّ،( ) والخلال الزُّهر، فلم يكن له في الأجداث ند، وأصبح من بينها المفردَ العلم كما كان صاحبه في الرجال العلمَ الفرد.

وسلام على مشاهدَ كانت بوجوده مشهودة، وعلى معاهد كانت  تحت ظلال رعايته وتعهّده عليها ممدودة، وعلى مساجد كانت بعلومه ومواعظه معمورة، وعلى مدارس كانت بفيضه الزاخر، ونوره الزاهر مغمورة، وعلى جمعيات كان شملها بوجوده مجموعاً، وكان صوته الجهير كصوت الحق الشهير مدوّياً في جنباتها مسموعاً.

مشاهد كان يراوحها للخير والنفع، وكانت آفاقها بأنواره مسفرة، ومعاهد كان حادي زُمَرها إلى السلم، وهادي نُزَّاعها إلى الإحسان والعلم؛ فأصبحت بعده مقفرة.

ومدارس، ما مدارس؟ مَهَدها للعلم والإصلاح مغارس، ونَصَبَها في نحور المبطلين حصوناً ومتارس، وشيّدها للحق والفضيلة مرابطَ ومحارس.

وسلام على شيخه الذي غذّى وربّى، وأجاب داعيَ العلم فيه ولبّى، وآثر في توجيهه خير الإسلام، فقلّد الإسلام منه صارماً عضباً، وفجّر منه للمسلمين معيناً عذباً، فلئن ضايقته الأيامُ في حدود عمره فقد أبقت له منه الصيت العريض، والذكر المستفيض، ولئن سلبته الحلية الفانية فقد أَلْبستْه من مآثر حُلل التاريخ الضافية، ولئن أذاقتْه مرارة فقده فقد متّعته بقلوب أمّة كاملة، ولئن حرمته لذة ساعات معدودة فقد أسعدته به سعادةً غير محدودة.

وسلام على إخوان كانوا زينة ناديه، وبشاشةَ واديه، وكانوا عمَّار سامره، والطِّيبَ المتضوع( ) من مجامره، والجوارحَ الماضيةَ في تنفيذ أوامره.

وسلام على أعوان كانوا معه بناة الصرح، وحماة السرح، وكانوا سيوف الحق التي بها يصول، وألسنة الصدق التي بها يقول.

أبت لهم عزة الإسلام أن يضرعوا أو يذلّوا، وأبتْ لهم هداية القرآن أن يزيغوا عن منهاجه أو يضلّوا، تشابهت السبل على الناس فاتخذوا سبيل الله سبيلاً، وافترق الناس شيعاً فجعلوا محمداً وحزبه قبيلاً.

ولقد أقول على عادة الشعراء _ وما أنا بشاعر _ لصاحبين من تصوير الخيال أو من تكييف الخَبال تُمثِّلهما الخواطر تمثيلَ صفاء، وتقيمهما في ذهني تمثالَ وفاء: بكِّرا صاحبي فالنجاح في التبكير( ) وما على طالب النّجْح بأسبابه من نكير، تنجحا لصاحبكما طِيةً ( ) لا تبلغ إلاّ بشد الرحل وتقريب المطية، فقد خُتِمت _كما بُدئت_ الأطوار، بدولة الرحال والأكوار، فادفعا بالْمهريّة القُوْد( ) في نحر الوديقة  الصيخود،( ) ولا تخشيا لذع الهواجر، ( ) وإن كنتما في شهري ناجر،( ) ولا يهولنَّكما بُعْدُ الشُّقة، وخيال المشقَّة، ولا الفلَواتُ يُصِمّ صداها، ويقصر الطرف عن مداها، ولا السراب يترجرج رقراقُه، ويخدع الظامئ المحرور مُراقُه.

سيرا _ على اسم الله _ ¬في نهار ضاح، وفضاء منساح، ضاحك الأَسَرَّة وضَّاح، وتخلَّلا الأحياءَ؛ فستجدان لاسم مَنْ تَنْتَجعانِه ذكراً ذائعاً في الأفواه، وثناءاً شائعاً على الشفاه، وأثراً أزكى نماءاً وأبقى بركةً على الأرض من أثر الغمام المنهل، فإذا مَسّكُما الملالُ، أو غشّى مطيّكما الكلالُ فاحدوا بذكراه ينبعث النشاط، وينتشر الاغتباط، وتَغْنيا بها عن حمل الزاد، ومَلءِ المزاد، وتأمنا غوْل الغوائل، من أفناء دارج ونائل. ( )

سيرا _ روحي فدائكما من رضيعي همة، وسليلي منجبة من هذه الأمّة _ حتى تدفعا في مَسِيَّ خامسٍ، له يوم الترحل خامس،( ) إلى الوادي الذي طرّز جوانبه آذار، وخلع عليه الصانع البديع من حَلْي الترصيع، وحلل التفويف( ) والتوشيع ما تاه به على الأودية فخلع العذار.

وائتِيا العُدوة الدنيا فثمَّ المنتجعَ والمرَاد، وثمّ المطلب والمراد، وثمّ محلة الصدق التي لا يصدر عنها الوُرّاد، وثمّ مناخ المطايا على حُلاّل الحق، وجيرة الصدق، وعُشراء الخلود، الذين محا الموت ما بينهم من حدود، اهتفا فيها بسكان المقابر عني:

أوَ ما استقلَّت بالسميع الواعي

                  ما للمقابر لا تُجيب الداعي

وخصّا القبر الذي تضمّن الواعيَ السميع، والواحدَ الذي بذّ الجميع، فقولا له عني:

يا قبر، عزَّ على دفينك الصبر، وتعاصى كسرُ القلوب الحزينة على من فيك أن يُقابَل بالجبر، ورجع الجدال إلى الاعتدال بين القائلين بالاختيار والقائلين بالجبر.

يا قبر، ما أقدر الله أن يطويَ عَلماً ملأ الدنيا في شبر!

يا قبر، ما عهدنا قبلك رمساً، وارى شمساً، ولا مساحة، تكال بأصابع الراحة، ثم تلتهم فلكاً دائراً، وتحبس كوكباً سائراً.

يا قبر، قد فصل بيننا وبينك خط التواء لا خط استواء، فالقريب منك والبعيد على السواء.

يا قبر، أتدري من حويت؟ وعلى أي الجواهر احتويت؟ إنك احتويت على أمة، في رمّة، وعلى عالَم في واحد.

يا قبر، أيدري مَنْ خطّك، وقاربَ شطّك، أي بحر ستضُم حافتاك؟ وأي معدن ستزن كفتاك؟ وأيَّ ضرغامةِ غابٍ ستحتبل كفتاك؟ وأي شيخٍ كشيخك؟ وأي فتى كفتاك؟ فويح الحافرين ماذا أودعوا فيك حين أودعوا؟ وويح المشيعين ماذا شيعوا إليك يوم شيّعوا؟ ومن ذا ودّعوا منك إذ ودّعوا؟ إنهم لا يدرون أنهم أودعوا بنَّاء أجيال في حفرة، وودَّعوا عامر أعمال بقفرة، وشيعوا خِدَن أسفارٍ، وطليعة استنفارٍ إلى آخر سَفْرة.

يا قبر، لا نستسقي لك كل وطفاء سكوب، تهمي على تربتك الزكية وتصوب، ولا نحذو في الدعاء لك حذو الشريف الرضي، فنستعير للنبت جنيناً ترضعه المراضع، من السحب الهوامع، تلك أودية هامت فيها أخيلة الشعراء، فنبذتهم بالعراء، وزاغوا بها عن أدب الإسلام ومنهاجه، وراغوا عن طينته ومزاجه، بل تلك بقية من بقايا الجهل، ما أنت ولا صاحبك لها بأهل.

قولا لصاحب القبر عني: يا ساكنَ الضريح، نجوى نِضْوٍ طليح، صادرةً عن جفن قريح، وخافق بين الضلوع جريح، يَتَأَوَّبُهُ في كل لحظةٍ خيالُك وذكراك، فيحملان إليه على أجنحة الخيال من مسراك اللهب والريح، وتؤدي عنهما شؤونه المنسربة، وشجونه الملتهبة، وعليهما شهادة التجريح.

إن من تركت وراءك، لم يحمد الكرى فهل حمدت كراك؟ وهيهات، ما عانٍ كمستريح!

يا ساكن الضريح، أأكني؟ أم أنت كعهدي بك تؤثر التصريح؟ إن بُعدك، أتعب من بَعدك.

لقد كانوا يلوذون من حياتك الحية بكنف حماية؛ ويستذْرُون من كفاءتك للمهمات بحصن كفاية، ويستدفعون العظائم منك بعظيم؛ وأيم الله لقد تَلَفَّتَتْ بعدك الأعناق، واشرَأبَّتْ، وماجت الجموع واتلأبَّتْ، تبحث عن إمام لصفوف الأمة، يملأ الفراغ ويسد الثلمة، فما عادت إلا بالخيبة، وصِفْر العَيبة.( )

يا ساكنَ الضريح؛ مِتَّ فمات اللسان القوّال، والعزم الصوّال، والفكر الجوّال، ومات الشخص الذي كان يصطرع حوله النقد، ويتطايرُ عليه شرر الحقد؛ ولكن لم يمت الاسم الذي كانت تقعقع به البرد، وتتحلّى به القوافي الشُّرد، ولا الذكرُ الذي كانت تطنطن به الأنباء، وتتجاوب به الأصداء، ولا الجلال الذي كانت تعنو له الرقاب، وتنخفض لمجلاه العقاب، ولا الدوي الذي كان يملأ سمعَ الزمان، ولا يبيت منه إلا الحق في أمان.

مات الرسم، وبقي الاسم، واتفق الودود والكنود على الفضل والعلم.

وعزاء فيك لأمّة أردت رشادَها، وأصلحت فسادَها، ونفقت كسادَها، وقوّمت منآدها، وملكتَ بالاستحقاق قيادَها، وأحسنتَ تهيئتها للخير وإعدادَها، وحملتها على المنهج الواضح، والعَلَمِ اللائح، حتى أبلغتها سدادَها، وبنيت عقائدها في الدين والحياة على صخرة الحق، ومثلك مَنْ بنى العقائد وشادها؛ أعليت اسمها بالعلم والتعليم، وصيّرت ذكرها محل تكريم وتعظيم، وأشربتها معاني الخير والرحمة والمحبة والصدق والإحسان والفضيلة فكنت لها نعم الراحم وكنت بها البر الرحيم.

ولقد حييتَ فما كانت لفضلك جاحدة، ومتّ فما خَيَّبتْ من آمالك إلا واحدة.( )

وهنيئاً لك ذخرك عند الله مما قدّمت يداك من باقيات صالحات، وعزاءاً لك فيمن كنت تستكفيهم، وتضعُ ثقتك الغاليةَ فيهم، من إخوانك العلماء العاملين، الصالحين المصلحين.

فهم _ كعهدك بهم _ رُعاة لعهد الله في دينه، وفي كتابه، وفي سنّة نبيه، دعاةٌ إلى الحق بين عباده، يلقَوْن في سبيله القذى كُحْلا، والأذى من العسل أحلى.

وسلام عليك في الأوّلين، وسلام عليك في الآخرين، وسلام عليك في العلماء العاملين، وسلام عليك في الحكماء الربّانيين، وسلام عليك إلى يوم الدين.

آفلو( )، 22 ربيع أول 1360 هـ / 9 أفريل 1941.

نموذج من شعر الشيخ العلامة الإبراهيمي: إليك هذا المثال من شعره، وهو أرجوزة عنوانها: =إلى علماء نجد+ وهي من بحر الرجز، وفي قافية صعبة، ومع ذلك أتى فيها بالعجب العجاب، وهذه القصيدة موجودة في الآثار  4/126_130 وأبياتها 73 بيتاً، وقد قالها الشيخ الإبراهيمي × مخاطباً بعض علماء نجد وقد تضمنت ثناءًا عاطراً على نجد، وعلى علمائه وأئمة الدعوة، ثم ثنى بالمعاصرين، وعلى رأسهم صديقه وأخوه سماحة الإمام الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وصاحب الفضيلة الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ _ رئيس هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آنذاك _ رحمهم الله _ وحثهم فيها على القيام بالدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومما قاله في تلك القصيدة:

إنَّا إذا ما ليلُ نجدٍ عسعسا

                   وغربت هذا الجواري خُنَّسا( )

والصبح عن ضيائه تنفسا

                   قمنا نؤدِّي الواجب المقدسا

ونقطع اليوم نناجي الطُّرُسا

                   وننتحي بعد العشاء مجلسا( )

موطَّداً على التقى مؤسَّسا

                   في شِيخةٍ حديثهم يجلو الأسى( )

وعلمهم غيث يغادي الجُلسا

                   خلائقٌ زهرٌ تنير الغلسا( )

وهمم غُرٌّ تعاف الدَّنسا

                    وذممٌ طهر تجافي النَّجَسا

يُحْيُون فينا مالكاً وأنسا

                   والأحمدين والإمام المؤتسا( )

قد لبسوا من هدي طه ملبسا

                   ضافٍ على العقل يفوق السندسا( )

فسمتهم مِن سمته قد قبسا

                   وعلمهم من وحيه تبجَّسا( )

بوركتِ يا أرضٌ بها الدين رسا

                   وَأَمِنَتْ آثاره أن تُدْرُسا( )

والشرك في كلِّ البلاد عرَّسا

                   جذلان يتلو كُتْبَه مُدرِّسا( )

مصاولاً مواثباً مفترسا

                   حتى إذا ما جاء جَلْساً جَلَسَا ( )

منكمشاً مُنخذلاً مُقْعَنسسا

                   مُبَصْبصاً قيل له اخْسأْ فخسا( )

شيطانه بعد العُرَام خنسا

                   لما رأى إبليسه قد أبلسا( )

ونُكِّستْ راياته فانتكسا

                   وقام في أتباعه مبتئسا

مُخَافِتاً مِنْ صوته محترسا

                   وقال إنَّ شيخكم قد يئسا( )

من بلد فيها الهدى قد رأسا

                   ومعْلَمُ الشرك بها قد طُمِسا

ومعهدُ العلم بها قد أسسا

                   ومنهلُ التوحيد فيها انبجسا( )

إني رأيت =والحجى لن يبخسا+

                   شُهباً على آفاقِهِ وحَرَسا

فطاولوا الخَلْفَ ومدوا المَرَسَا

                   وجاذبوهم إنْ ألانوا الملمسا( )

لا تيأسوا: وإن يئستُ: فعسى

                   أنْ تبلغوا بالحيلة الملتَمَسَا

وفيهمُ حظٌّ لكمْ ما وُكِسَا

                   ومَنْ   يجدْ    تُرْباً   وماءًا   غَرَسَا( )

تجسسوا عنهم فمن تَجَسَّسَا

                    تَتَبَّعَ    الخطوَ    وأحصَى    النفسَا

تدسَّسوا فيهم فمن تدسَّسا

                   دَانَ لهُ الحظُّ القصِيُّ مُسلِسا( )

وأوضِعُوا خِلالهمْ زَكىً خَسَا

                   واختلسوا فَمَنْ أضاعَ الخُلسَا( )

تَلقَونهُ في الأخريات مُفلسا

                   أفدي بروحي التَّيِّهانَ الشَّكسا( )

يغدو بكل حمأة مرتكسا

                   ومن يرى المسجد فيهم مَحْبِسا( )

ومن يديل بالأذان الجرسا

                   ومَنْ يَعُبُّ الخمر حتَّى يخرسا( )

ومن يُحِبُّ الزَّمْرَ صبحاً ومسا

                   ومَنْ يَخُبُّ في المعاصي مُوعِسَا( )

ومن يَشِبُّ طِرْمذاناً شرسا

                   ومَنْ يُقِيمُ للمخازي عُرُسا( )

يا عمر الحَقِّ وقيتَ الأبؤسا

                   ولا لقيت _ ما بقيت _ الأَنْحُسا( )

لك الرضى إنَّ الشباب انتكسا

                   وانتابه داءٌ يحاكي الهَوَسَا( )

وانعكستْ أفكاره فانعكسَا

                   وفُتحت له الكُوَى فأسلسا( )

فإن أبت نجدٌ فلا تأبى الحسا

                   فاقْسُ على أشْرَارِهم كما قسا( )

سميُّك الفاروق =فالدين أُسى+

                   نَصرُ بْن حجَّاج الفتى وما أسا( )

غرَّبَهُ إذ هتفتْ به النِّسا

                   ولا تُبال عاتِباً تغطرسا

أوْ ذا خَبالٍ للخنا تَحَمَّسا

                   أو ذا سُعارٍ بالزِّنَى تَمرَّسا( )

شيطانه بالمُنديات وسوسا

                   ولا تشَّمت مِنهمُ من عطسَا( )

ولا تقف بقبره إنْ رُمسا

                   ولا تثقْ بفاسق تَطَيْلَسَا

فإن في بُرْدْيهِ ذئباً أطلسا

                   وإن تراءى مُحفياً مُقَلْنِسَا

فَسَلْ به ذا الطُّفيتين الأملسا

                   تأَمْرَكَ الملعونُ أو تَفَرْنَسَا( )

يا شَيْبَةَ الحَمْدِ رئيس الرُّؤَسَا

                   وَوَاحِدَ العصرِ الهُمَامَ الكَيِّسَا( )

ومفتيَ الدِّينِ الذي إنْ نَبَسَا

                   حَسِبْتَ في بُرْدَتهِ شيخَ نَسَا( )

راوي الأحاديثِ مُتُوناً سُلَّسَا

                   غُرّاً إذا الراوي افترى أو دَلَّسَا

وصَادِقَ الحَدْسِ إذا ما حَدَسَا

                   ومُوقِنَ الظَّنِّ إذا تَفَرَّسَا

وصادعاً بالحقِّ حين هَمَسَا

                   به المُرِيبُ خائفاً مُخْتَلِسَا

وفارساً بالمَعْنَيَيْنِ اقتبسا

                   غرائباً منها إياس أَيِسَـا( ) 

بك اغْتَدَى رَبْعُ العلوم مُونِسَا

                   وكان قبلُ موحشاً معبِّسَا

ذلَّلْتَهَا قَسْراً وكانت شُمُسَا

                   فأصبحتْ مثلَ الزُّلاَلِ المُحْتَسَا( )

فتحتَ بالعلمِ عيوناً نُعَّسَا

                   وكان جَدُّ العلم جَداً تَعِسَا( )

وسُقْتَ للجهل الأُسَاَة النُّطُسَا

                   وكان داءُ الجهلِ داءً نَجَسَا( ) 

رمى بك الإلحادَ رامٍ قَرْطَسَا

                   وَوَتَرَتْ يد الإلهِ الأَقْوُسَا( )

وجَدُّكَ الأعْلَى اقْتَرَى وأَسَّسَا

                   وتركَ التَّوحيدَ مَرْعِيَّ الْوَسَا( )

حَتَّى إذا الشركُ دَجَا وَاسْتَحْلَسَا

                   لُحْتَ فكنتَ في الدَّيَاجِي القَبَسَا( )

ولم تَزَلْ تَفْرِي الْفَرِيَّ سَائِسَاً

                   حتى غدا الليلُ نهاراً مُشْمِسَاً( )  

يا دَاعِياً مُنَاجياً مُغَلِّسَا

                   لَمْ تعْدُ نَهْجَ القوْم بِرّاً وائْتِسَا( )

إذْ يُصْبِحُ الشَّهْمُ نَشِيطاً مُسْلِسَا

                   ويُصْبِحُ الفَدْمُ كسولاً لَقِسَا( )

كان الثـَّرى بينَ الجُمُوع مُوبِسَا

                   فجئتَهُ بالغيثِ حَتَّى أَوْعَسَا( )

قُلْ لِلأُلَى قادوا الصفوف سُوَّسَا

                   خَلَّوا الطَّريقَ لِفَتىً ما سَوَّسَا( )

وطَأْطِئُوا الهَامَ له والأَرْؤُسَا

                   إنَّ النَّفِيسَ لا يُجارِي الأَنْفَسَا

هذا وسترد أرجوزة أخرى له عند الحديث عن ترجمة سماحة الشيخ محمد ابن إبراهيم آل الشيخ × عنوانها =إلى علماء نجد+.

وهي لا تقل عن القصيدة السابقة جودةً وإتقاناً.

رحم الله الشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي، وأسكنه الفردوس الأعلى.

 سماحة الشيخ العلامة عبدالرحمن السعدي

=أولاً: نبذة موجزة عن سيرته+

1_ نسبه، ومولده، ونشأته: هو الشيخ العلامة الزاهد الورع الفقيه الأصولي المفسر عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر بن حمد آل سعدي من نواصر بني تميم.

ولد في مدينة عنيزة في الثاني عشر من شهر الله المحرم سنة ألف وثلاثمائة وسبع للهجرة النبوية الشريفة.

وتوفيت أمه سنة 1310هـ، وتوفي والده سنة 1313هـ فعاش يتيم الأبوين.

وكان والده من أهل العلم والصلاح، وكان إماماً في مسجد المسوكف في عنيزة.

ولما توفي والده عطفت عليه زوجة والده، وأحبته أكثر من حبها لأولادها، فكان عندها موضع العناية؛ فلما شبَّ عن الطوق صار في بيت أخيه الأكبر حمد؛ فنشأ نشأة صالحة كريمة، واعتنى به أخوه حمد عناية فائقة، وكان يجله، ويناديه باسم الشيخ، وكان الشيخ عبدالرحمن يخاطب أخاه باسم الوالد، ويقول له باللهجة العامية: =يبه+ _ كما أفاد بذلك ابنُ أخيه عبدُالرحمن بنُ حمد _.

وقد أقر الله عين حمد بأخيه الشيخ عبدالرحمن؛ حيث رأى أخاه والأنظار ترنو إليه بعين التجلة، والإكبار؛ لعلمه، وفضله، ومكانته.

وقد امتد العمر بـ: حمد؛ فتجاوز المائة، وعاش بعد أخيه الشيخ عبدالرحمن اثنتي عشرة سنة؛ حيث توفي سنة 1388هـ، وهو يكبر الشيخ بما يزيد على عشرين سنة تقريباً _ كما أفاد بذلك عبدالرحمن بن حمد _.

وكان الشيخ عبدالرحمن معروفاً منذ نشأته بالصلاح، والمحافظة على الصلاة مع الجماعة، كما اشتهر بفطنته، وذكائه، ورغبته الشديدة في العلم.

2_ شيوخه: تلقى الشيخ عبدالرحمن×العلم على عدد من العلماء الكبار الأفذاذ الذين أخذوا العلم من مصادر ومشارب مختلفة, ومن أقطار متعدد؛ فمن هؤلاء:

أ_ الشيخ على بن محمد السناني 1263_1339هـ  وكان لهذا الشيخ يد طولى في التفسير, والحديث, وكان ×ذا خط جميل جداً .

ب_ الشيخ علي بن ناصر بن وادي 1273_1361هـ علم بحر في علم الحديث الذي أخذه عن علماء الحديث في الهند ومنهم الشيخ نذير حسين, والشيخ صديق حسن, وكان ذا خلق وعبادة, وقد أجاز الشيخ عبد الرحمن في مروياته.

ج_ الشيخ إبراهيم بن حمد بن جاسر 1241_ 1338هـ  كان _ يرحمه الله _ يحفظ الصحيحين, وقال عن الشيخ عبدالرحمن السعدي×: =إنه يستحضر شرح النووي عن مسلم+.

وقد تلقى الشيخ إبراهيم العلم عن علماء الشام, وفي صالحية دمشق, ولازم علماء الحنابلة في نابلس.

د_ الشيخ المؤرخ إبراهيم بن صالح بن عيسى 1270_1343هـ درس× على علماء العراق, والهند, وأجاز الشيخ عبدالرحمن في مروياته من كتب الحديث.

هـ _ الشيخ العابد المقرئ المجود عبدالله بن عائض 1249_ 1322 هـ.

وقد كان ×حسن الخط, جميل الصوت, إمام مسجد الجوز في عنيزة.

وقد تلقى العلم على مشايخ كبار في مكة, ومصر, وكذلك تلقى على كبار علماء نجد كالشيخ عبدالله أبابطين×.

وكان له مواقف عجيبة, ومنها أن وفاته كانت في مقبرة عنيزة, وذلك لما انتهى من دفن أحد الموتى.

و_ الشيخ صالح بن عثمان القاضي 1282_1351هـ  وقد لازمه الشيخ عبدالرحمن, وجلس بعده للتدريس.

وقد رحل الشيخ صالح إلى مكة، ومصر لطلب العلم.

ز _ الشيخ محمد بن عبدالكريم الشبل 1257_1343هـ وتلقى العلم عن علماء الحرمين الشريفين، ورحل إلى مصر، والشام، والعراق، والكويت، فحصل على علم غزير.

ح _ الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن مانع 1300_1385هـ وقد كان مدير عام المعارف سنة 1365هـ، وصاحب المؤلفات المشهورة، وقد أخذ عن علماء بغداد والبصرة، ومصر، ودمشق.

ط _ الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وقد تأثر به الشيخ في طريقته في التدريس، وأسلوبه في التعليم، وهو ليس صاحب أضواء البيان _ رحم الله الجميع _.

ي _ الشيخ صعب بن عبدالله التويجري 1253_ 1339هـ وقد كان من العباد المعروفين بكثرة قراءة القرآن، وقيل: إنه كان يقرأ القرآن وهو نائم( ) .

3_ وصفه الخَلْقي: كان ذا قامة متوسطة، شعره كثيف، ووجهه مستدير ممتلئ طلق، ولحيته كثَّة، ولونه أبيض مشرب بحمرة.

وكان شعره في شبيبته في غاية السواد، وبعدما كَبِر قليلاً صارت لحيته في غاية البياض؛ حيث ابيضَّت لحيته وهو في الثامنة والعشرين من عمره تقريباً _ كما أفاد بذلك ابنه محمد _.

وكان على وجهه حسن، ونور، وصفاوة.

4_ أخلاقه: كان ×آية باهرة في الأخلاق؛ فكان رحيماً بالناس، متودداً لهم، محباً لنفعهم، صبوراً عليهم.

وكان طلق ا لمحيا، ذا دعابة ومرح، لا يُعْرَفُ الغضب في وجهه، وكان ينزل الناس منازلهم، ويحرص على القرب منهم، وإجابة دعواتهم، وزيارة مرضاهم، وتشييع جنائزهم.

وكان على جانب كبير من عفة اليد، ونزاهة العرض، وعزة النفس، وكان محباً لإصلاح ذات البين؛ فما من مشكلة تعرض عليه إلا ويسعى في حلها برضا من جميع الأطراف؛ لما ألقى الله عليه من محبة الخلق له، وانقيادهم لمشورته.

ولقد كان محل التقدير والثناء عند الخاصة والعامة، ولقد أثنى عليه كثير من علماء عصره.

قال عنه سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز ×: =... كان × كثير الفقه والعناية بمعرفة الراجح من المسائل الخلافية بالدليل، وكان عظيم العناية بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم، وكان يرجح ما قام عليه الدليل، وكان قليل الكلام إلا فيما ترتب عليه فائدة، جالسته غير مرة في مكة والرياض، وكان كلامه قليلاً إلا في مسائل العلم، وكان متواضعاً، حسن الخلق، ومن قرأ كتبه عرف فضله وعلمه، وعنايته بالدليل، فرحمه الله رحمة واسعة+.

وسئل سماحة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني × عن رأيه في كتاب تفسير الشيخ عبدالرحمن بن سعدي فقال: =هو تفسير جيد، وله أقوال جيدة، مع أن مراجعتي له قليلة، لكن في حدود اطلاعي عليه تبين لي أنه متحرر الرأي والنظر بضوابط الشرع، وليس عنده جمود أو تعصب.

وقد التقيته في دمشق قبل أكثر من أربعين سنة، وآنست منه علماً جماً، ورأيت فيه تواضع العلماء وهو _ في هذا _ كسائر علماء نجد، يذكروننا بأخلاق العلماء المتقدمين وتواضعهم، وليس كغيرهم ممن جعلهم علمهم مغرورين متكبرين...+.

وقال عنه سماحة الشيخ عبدالرزاق عفيفي ×: =... فإن من قرأ مصنفاته _ابن سعدي_ وتتبع مؤلفاته، وخالطه وسبر حاله أيام حياته _ عرف منه الدأب في خدمة العلم اطلاعاً وتعليماً، ووقف منه على حسن السيرة، وسماحة الخلق، واستقامة الحال، وإنصاف إخوانه وطلابه من نفسه، وطلب السلامة فيما يجر إلى شر، أو يفضي إلى نزاع أو شقاق، فرحمه الله رحمة واسعة...+.

وقال عنه سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ×: =... إن الرجل قلَّ أن يوجد مثله في عصره في عبادته وعلمه وأخلاقه، حيث كان يعامل كُلاً من الصغير والكبير بحسب ما يليق بحاله، ويتفقد الفقراء، فيوصل إليهم ما يسد حاجتهم بنفسه، وكان صبوراً على ما يَلُمُّ به من أذى الناس، وكان يحب العذر ممن حصلت له هفوة، حيث يوجهها توجيهاً يحصل به عذر من هفا...+.

وقال عنه فضيلة الشيخ محمد حامد الفقي ×: =... لقد عرفت الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي من أكثر من عشرين سنة، فعرفت فيه العالم السلفي المدقق المحقق الذي يبحث عن الدليل الصادق، وينقب عن البرهان الوثيق، فيمشي وراءه لا يلوي على شيء...+.

وقال: =... عرفت فيه العالم السلفي، الذي فهم الإسلام الفهم الصادق، وعرف فيه دعوته القوية الصادقة إلى الأخذ بكل أسباب الحياة العزيزة القوية الكريمة النقيَّة...+.

5_ أعماله: قام × بأعمال جليلة أعظمها دروسه العلمية، وخطبه المنبرية، وتأسيسه وتشجيعه لكثير من الأعمال والمشاريع الخيرية.

وكان مرجع بلدته عنيزة في جميع الأمور؛ فهو المدرس، والواعظ، وإمام الجامع، وخطيبه.

وهو المفتي، وكاتب الوثائق، ومحرر الوصايا، وعاقد الأنكحة، ومستشار الناس فيما ينوبهم، كل ذلك كان يؤديه حسبةً لله دون مقابل مادي.

وقد عرض عليه القضاء عام 1360هـ فتأبى، وتكدر كثيراً حتى إنه كان يغمى عليه في بعض الأوقات، وكان لا يشتهي الطعام، حتى يسر الله له التخلص منه.

وكان يشرف على المعهد العلمي في عنيزة عندما أُسس عام 1373هـ دون مقابل.

6_ مرضه ووفاته: أصيب عام 1371هـ قبل وفاته بخمس سنين بمرض ضغط الدم، وتصلب الشرايين، فكان يعتريه مرة بعد أخرى إلى أن توفاه الله قبل طلوع فجر يوم الخميس 23 سنة 1376هـ عن تسع وستين سنة.

7_ علمه: حرص الشيخ × منذ نشأته على طلب العلم، وأمضى حياته في العلم حفظاً، ودراسة، وتحصيلاً، وتدريساً لا يصرفه عنه صارف.

وكانت له اليد الطولى، والأثر العظيم في النهضة العلمية في بلده عنيزة خاصة، وفي العالم الإسلامي عامة، ولا زالت آثاره تتجدد إلى يومنا هذا.

وقد تخرج عليه أعداد كبيرة من الطلاب الذي صاروا بعد ذلك ممن يشار إليهم بالبنان، ومن هؤلاء: الشيخ عبدالله بن عقيل _ حفظه الله _ والشيخ عبدالعزيز السلمان، والشيخ محمد بن صالح العثيمين، والشيخ عبدالله البسام _ رحمهم الله _.

كما ترك × عدداً كبيراً من المؤلفات النافعة في التفسير، والحديث، والأصول، والعقيدة، والفقه، والآداب ونحو ذلك.

ومن هذه المؤلفات: خلاصة التفسير، والقواعد الحسان، والفتاوى، وبهجة قلوب الأبرار، وغيرها.

وأعظم كتبه، وأشهرها وأكثرها سيرورةً في الناس _تفسيره المعروف بـ: (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) أو ما يسمى بـ: (تفسير السعدي).

ذلك التفسير المبارك الذي لقي قبولاً منقطع النظير، وطبع طبعات كثيرة، بل لا تكاد تخلو مكتبة أو مسجد من ذلك التفسير العظيم.

ولقد كان له منهج منفرد متميز في ذلك التفسير؛ حيث عني عناية تامة بهداية القرآن، وأثره في صلاح القلوب، واستقامة أمر الدين والدنيا.

كل ذلك بأسلوب جزل سهل واضح ميسور.

بل إنه يجمع عدداً من الأقوال في الآية الواحدة، ويصوغها بعبارات موجزة تؤلف بين الأقوال، وتجمع أطراف الموضوع.

كما كان معنياً باستخلاص الدروس والعبر من الآيات.

ولهذا صار محل الثناء، وموضع القبول لدى الخاصة والعامة.

ولقد أثنى عليه عدد من العلماء، قال عنه سماحة الشيخ عبدالله بن عقيل _حفظه الله_: =الحقيقة أن هذا التفسير قد وضع الله له القبول بين المسلمين، فهو يذاع من إذاعة القرآن الكريم بالمملكة يومياً مرتين، ويُقرأ في المساجد على جماعة المصلين، ويُدَرَّس في حلقات المشايخ.

وقد طبع عدة طبعات، لكنها مع الأسف لا تخلو من الأغلاط وبعضها من تصرفات المعلقين.

وهذا التفسير من أنفع التفاسير وأقربها إلى الفهم لسهولة عباراتها؛ فهي سهلة المباني، واضحة المعاني، خالية من التعقيدات والإسرائليات ومشاكل الإعراب، وذكر الخلاف.

وأهم شيء سلامته من تأويل آيات الصفات؛ حيث يفسرها على منهج السلف، إضافة إلى ما فيه من الاستنباطات الدقيقة، وذكر ما يستفاد من كل آية يمر بها في موضعها دون الإحالة إلى موضع آخر.

وحسبك ما أرشد إليه من الأخلاق الإسلامية، والحكم النبوية والآداب الشرعية، كل هذا بعبارات سهلة واضحة، يفهمها عامة الناس ويستفيد منه طلاب العلم.

فهو في الحقيقة من السهل الممتنع.

وطالما تمنيت ودعوت الله _ تعالى _ أن يهيأ لهذا التفسير من يترجمه إلى إحدى اللغات الأجنبية لا سيما اللغة الإنجليزية، لعل الله ينفع به هناك فهو أبلغ دعاية إلى الدين الإسلامي وبالله التوفيق+.

وقال سماحة الشيخ العلامة محمد بن عثيمين ×: =الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن تفسير شيخنا عبدالرحمن الناصر السعدي × المسمى: (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) من أحسن التفاسير حيث كان له ميزات كثيرة:

منها: سهولة العبارة ووضوحها؛ حيث يفهمها الراسخ في العلم ومن دونه.

ومنها: تجنب الحشو والتطويل الذي لا فائدة منه إلا إضاعة وقت القارئ، وتبلبل فكره.

ومنها: تجنب ذكر الخلاف إلا أن يكون الخلاف قوياً تدعو الحاجة إلى ذكره، وهذه ميزة مهمة بالنسبة للقارئ؛ حيث يثبت فهمه على شيء واحد.

ومنها: السير على منهج السلف في آيات الصفات؛ فلا تحريف، ولا تأويل يخالف مراد الله بكلامه؛ فهو عمدة في تقرير العقيدة.

ومنها: دقة الاستنباط فيما تدل عليه الآيات من الفوائد والأحكام والحكم وهذا يظهر جلياً في بعض الآيات كآية الوضوء في سورة المائدة حيث استنبط منها خمسين حكماً، وكما في قصة داود وسليمان في سورة ص.

ومنها: أنه كتاب تفسير وتربية على الأخلاق الفاضلة كما يتبين في تفسير قوله _تعالى_ في سورة الأعراف: [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ (199)].

ومن أجل هذا أشير  على كل مريد لاقتناء كتب التفسير ألاَّ تخلو مكتبته من هذا التفسير القيم.

وأسأل الله _ تعالى _ أن ينفع به مؤلفه وقارئه إنه كريم جواد وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان+.

كتبه محمد الصالح العثيمين

    في 22/3/1421هـ

وقال عنه فضيلة الشيخ العلامة د. بكر  بن عبدالله أبو زيد _ حفظه الله _ في مقدمة إحدى طبعات تفسير السعدي:

=بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته، أما بعد

فإن ما أكتبه هنا ليس تقديماً ولا تقريظاً، لكن دلالة على الخير، وتنويهاً؛ فلا أكتم القراء حديثاً إذا قلت: إنه في عام 1380هـ تقريباً سمعت من بعض الصالحين الوصية بتفسير الشيخ عبدالرحمن بن سعدي المتوفى سنة 1376هـ _رحمه الله تعالى_ (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)، في ثمانية أجزاء؛ لأنه يتميز بأمور أهما: أنه تفسير مأمون جارٍ على طريقة السلف يجمع خلاصة الأثر الصحيح والفهم السليم بسياق سهل مختصر، فهو تذكرة للمنتهي، وتبصرة للمبتدي، ثم تتابع هذا السماع من آخرين من العلماء وطلبة العلم، ثم بعد بضع سنين أهدى إليَّ ابنه ذو الوجه الصبوح الشيخ عبدالله المتوفى سنة 1405هـ _رحمه الله تعالى_ بعض رسائل أبيه الشيخ عبدالرحمن، ومنها: (تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن) و (القواعد الحسان لتفسير القرآن) و (فوائد مستنبطة من قصة يوسف _عليه السلام_)، فقرأت هذه الرسائل الثلاث فوجدت فيها دافعاً قوياً إلى هذا التفسير، فكنت أستفيد منه من وقت إلى آخر حتى إذا جاء عام 1418هـ كان لي شرف المراجعة الأخيرة لكتاب: (التفسير الميسر) الذي أعده نخبة من العلماء، وطبع بمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بمدينة النبي " فوجدت أن هذا التفسير يعتمد كثيراً تفسير ابن جرير الطبري المتوفى سنة 310هـ، وتفسير ابن سعدي _رحمه الله تعالى_ فحصل لي من تفسير ابن سعدي نوع ارتواء، وصار لي به فضل اعتناء.

وظهر لي أنه _ إضافة إلى تلك الميزات _ كان لفائق عنايته بكتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم _ رحمهما الله تعالى _ ينتخب من فوائدهما ما طرز به هذا التفسير.

من هذه المعارف وغيرها ضمن _ رحمه الله تعالى _ تفسيره كثيراً من جلائل المعاني، ودقائق الاستنباط من آيات الذكر الحكيم والقرآن المجيد، منها على سبيل المثال: ما ذكره عند تفسيره لقول الله _ تعالى _: [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا] البقرة:136.

وما استنبطه من الأحكام من آية الوضوء ( 6 ) من سورة المائدة.

والفوائد الجليلة التي يذكرها عقب قصص الأنبياء وغيرهم...

وانظر إلى تلك الإشارة اللطيفة في تفسير لقوله _ تعالى _ في سورة الأحزاب (13): [وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ] الآية.

فأبان _ رحمه الله تعالى _ بإشارته أن المناداة بالوطنية، وترك الأخوة الإيمانية والرابطة الإسلامية من أعمال الجاهلية، وليست من الإسلام.

وهذه فائدة عزيزة لم أرَ من حام حولها، وهذه الآية تكمل ثلاث آيات جاءت في أن (الرابطة الوطنية) ليست (رابطة إسلامية).

وإذا جاوزنا هذه المعارف والأهلية، ونظرنا في سيرته العطرة وجدناه على جانب كبير من التأسي والاقتداء، والخير والصلاح والهدى والفلاح.

ومما لم يقيد في سيرته ما حدثني به الشيخ محمد عبدالرحيم صديق المكي المتوفى سنة 1408هـ _ رحمه الله تعالى _ صاحب المكتبة الصديقية ضمن خزائن مكتبة الحرم المكي أنه شاهد من عبادة الشيخ في صلاته، ما يدل على الخشوع والتعلق بالله _ تعالى _  مما علمه عن مشاهدةٍ كيفيةَ الأداءِ لهذه العبادة العظيمة.

وهذا نظير ما يتناقله الأشياخ عن الشيخ محمد حامد الفقي المتوفى سنة 1379هـ _ رحمه الله تعالى _ من قوله: إنه لم  يعرف عن مشاهدةٍ أداءَ الصلاة على وجهها بخشوع وخضوع لله _ عز وجل _ مثلما عرفه من الشيخ أحمد شاكر المتوفى سنة 1377هـ _رحمه الله تعالى_.

فنرجو أن يكون لهذا العلامة المفسر نصيب من قول شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله تعالى_: =وأما (العلم اللدني) فلا ريب أن الله يفتح على قلوب أوليائه المتقين، وعباده الصالحين بسبب طهارة قلوبهم مما يكرهه، واتباعهم ما يحبه _ ما  لا يفتح به على غيرهم.

وهذا كما قال علي: إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه، وفي علم الأثر(من عمل بما عمل ورّثه الله علم ما لم يعلم).

وقد دل القرآن على ذلك في غير موضع، كقوله: [وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (68)]النساء، فقد أخبر أنه من فعل ما يؤمر به، يهديه الله صراطاً مستقيماً، وقال _تعالى_: [يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ] المائدة:16، وقال _تعالى_: [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ] محمد:17، وقال: [إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى]الكهف:13، وقال _تعالى_: [ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] البقرة:2، وقال _تعالى_: [هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] الجاثية:20، وقال _تعالى_: [هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] الأعراف:203...+ (الفتاوى13/245).

ويحضرني عند التنويه بتفسير هذا الشيخ الجوابُ البديعُ من العلامة المفسر الشيخ عبدالرحمن الدوسري المتوفى سنة 1399هـ _ رحمه الله تعالى _ عندما سئل عن أهم شروط المفسر؟ فقال على البديهة: =أن تملأ قَلبَه الفرحةُ بالقرآن...+.

وأحسب أن الشيخ ابن سعدي ممن تحقق فيه هذا الأمر؛ فتفجرت أنهار المعاني بين يديه وذلك من فضل الله عليه، فرحمه الله وأجزل مثوبته.

وكما قيل: =إن معاني القرآن لا يذوقها إلا القلوب الطاهرة وهي قلوب المتقين+ (انظر: الفتاوى 13/245).

نفع الله الشيخ ابن سعدي هذا السبق العلمي من عالم نجدي؛ فإني لا أعلم في النجديين من له تفسير كامل لكتاب الله  _ تعالى _ بهذا السبك والجودة؛ فقد قضى الشيخ _ رحمه الله تعالى _ الدَّين عن من قبله، وسبق من بعده، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

وقد كتب الله لهذا التفسير من القبول والانتشار ما بلغ مبلغ الليل والنهار، فطبع عدة طبعات...

وكتب

بكر بن عبدالله أبو زيد

8 شعبان 1421هـ

8_ الكتابات والدراسات حول الشيخ عبدالرحمن السعدي:

لقد ترجم للشيخ السعدي عدد كبير من العلماء والمؤلفين، وقامت دراسات علمية تبحث في جوانب من سيرته وعلمه...

ومن ذلك ما كتبه الشيخ حمد القاضي في كتابه (روضة الناظرين)، والشيخ عبدالله البسام في كتابه: (علماء نجد خلال ثمانية قرون)، والشيخ عبدالله ابن سابح الطيار× في كتابه: (الشيخ عبدالرحمن السعدي مفسراً)، والشيخ أ.د. عبدالله بن محمد الطيار في كتابيه: (صفحات من حياة علامة القصيم عبدالرحمن ابن سعدي)، و (أثر علامة القصيم عبدالرحمن السعدي على الحركة العلمية المعاصرة)، والشيخ د. عبدالرزاق البدر في كتابه: (جهود الشيخ عبدالرحمن السعدي في العقيدة).

وهناك الكثير من التراجم المختصرة في سيرة الشيخ عبدالرحمن × ولعل من أجمل تلك التراجم ما كتبه فضيلة الدكتور عبدالرحمن العدوي؛ لكونه عاصر الشيخ السعدي، وعايشه عن قرب إبان فترة تدريسه في معهد عنيزة.

ولأن هذه الترجمة  _ على وجازتها _ ألقت الضوء على جوانب عديدة من سيرة الشيخ، وجمعت كثيراً مما تفرق منها.

ومع ذلك لم تأخذ هذه الترجمة حقها من الانتشار والذيوع؛ فإلى تلك الترجمة المختصرة الماتعة.

يقول الشيخ الدكتور العدوي في ترجمته التي عنون لها بـ: الشيخ عبدالرحمن السعدي:

=شيخ جليل مهيب، أخلص للّه في تعليم المسلمين أمور دينهم، ونشر عقيدة الإسلام وأحكامه بينهم، وهو من أهالي بلدة عنيزة من أعمال القصيم في شمال نجد عاش فيها حياته، وكان فيها مقره الأخير.

كنا في عام 1373هـ الموافق 1953م اثنين من علماء الأزهر الشريف مبعوثين للتدريس في المملكة العربية السعودية، وكانت إدارة المعارف حينذاك في مكة في مواجهة المسجد الحرام، وكان على رئاستها الشيخ محمد بن مانع × وقد رأى أن أسافر مع زميلي الشيخ محمد الجبة للتدريس في المدرسة الثانوية بعنيزة، وسافرنا وبدأنا عملنا في المدرسة التي كان بها فصلان في السنة الأولى فقط، ولم يمض شهر حتى صدر الأمر الملكي بنقلنا إلى المعاهد العلمية التابعة لآل الشيخ.

وكانت هذه هي الطريقة التي تستكمل بها المعاهد العلمية حاجتها من المدرسين، ولم يكن المعهد العلمي موجوداً بعد، فطلب منا أن نعلن عن افتتاحه ونستقبل طلبات الراغبين في الالتحاق به ونحدد مستواهم العلمي ونوزعهم على السنوات الدراسية وقد تم كل ذلك في فترة وجيزة وبدأت الدراسـة في المعهد العلمي بعنيزة في شهر ربيع الثاني من عام 1373هـ، وفي الوقت بلغنا أن الشيخ عبد الرحمن السعدي قد عين مشرفاً على المعهد من الناحية العلمية، وكان تعيينه براتب شهري قدره ألف ريال، ولكن الشيخ _ رحمه الله تعالى _ أرسل إلى رئاسة المعاهد العلمية أنه على استعداد للإشراف على المعهد حسبة لوجه الله _ تعالى _ وأنه لا يريد أن يكون له على ذلك أجر مادي وقبلت الرئاسة شاكرة له هذا الصنيع الذي لا يصدر إلا من عالم زاهد يبتغي وجه الله.

وبدأت صلتنا بالشيخ عبد الرحمن السعدي في المعهد أولاً، ثم التقينا به كثيراً في المسجد الجامع؛ فقد كان شيخاً له، وفي منزله المتواضع الذي رفع قدره وأعلى صرحه سلوكُ صاحبه، وسيرتُه في الناس.

كان × يأتي إلى المعهد بانتظام يوم الثلاثاء من كل أسبوع، وكان يخلع نعليه عند دخول الفصل أثناء الدرس مع أن في نجد لا يخلعون نعالهم عند دخول المسجد، ولا عند الصلاة، ولكنه الأدب الراقي، واحترام العلم ومجلسه، ثم يدخل آخر صف، ويجلس فيه وكأنه أحد طلاب هذا الفصل، ويكرر هذا العمل في أكثر من فصل ويستمع إلى أكثر من مدرس، ولم يكن في المعهد من المدرسين المصريين سواي وزميلي، أما بقية المدرسين فكانوا من أبناء الشيخ علَّمهم في المسجد الجامع إلى درجة تسمح لهم بالقيام بتدريس المواد التي تعلموها على يديه.

وكان منهم حمد البسام، وسليمان البسام، وعبد الله البريكان، ومحمد ابن عثيمين.

ومضت فترة بعد وصولنا عنيزة أحسسنا فيها بالغربة والوحشة، وكنا نتأثر بجفاء بعض الناس في التعامل، واللقاء، وعدم رد التحية لا بأحسن منها ولا بمثلها.

وكان يحدث أحياناً ونحن وقوف للصلاة أن يأتي أحد البدو ولعله من غير أهل عنيزة، فيقف بجوار أحدنا، وينظر إليه نظرة استغراب، ثم يخط بعصاه خطاً فاصلاً في الرمال يفصل بينه وبين من يجاوره منا ثم يقول بصوت مسموع: (أعوذ بالله) وبعدها يكبر للصلاة.

وقال لي صاحبي: لماذا يتعوذ هؤلاء؟ فقلت لعلهم يعتقدون أننا لسنا من بلاد الإسلام، وما علينا إلا أن نزيل هذا الظن الخاطئ؛ فتستقيم الأمور، وتصح المعاملة، قال: ولكن كيف السبيل إلى ذلك ونحن مدرسون في المعهد لطلاب قد يتحدثون مع ذويهم عنا وقد لا يتحدثون؟

قلت: السبيل في رأيي أن نعطي الناس دروساً في التفسير والحديث والفقه بين المغرب والعشاء في المسجد الذي نصلي فيه، وبها نؤدي واجبنا، ونزيل التباساً.

وعرضنا الفكرة على الشيخ عبد الرحمن السعدي، فاستحسن ذلك أيما استحسان، وشجعنا، وأوصانا بألا تضيق صدورنا؛ فإن من خلق العلماء الصبر والاحتمال والحرص على تبليغ رسالة الله في كل الظروف.

وبدأنا التدريس في مسجد (السويطي) بين المغرب والعشاء، وزاد عدد الحاضرين يوماً بعد يوم حتى كاد المسجد على سعته أن يمتلئ بالمصلين.

وبعد أسبوعين تقريباً حدث أمر شرح صدورنا، وأحسسنا معه بالود والمحبة؛ فقد تقدم إلينا شيخ كبير، وأشار بيده إلى سجادتين مفروشتين خلف الإمام، وقال: هذا مكان صلاتكما؛ فأنتم أهل العلم والفضل، وعلينا أن نكرم العلماء، وكان لهذه اللفتة أثرها الطيب الحميد؛ فقد أحسسنا صفاء قلوب القوم، وزالت العوارض التي كانت تؤثر تأثيراً متعباً؛ فما كانت إلا تصرفاً شخصياً من بعض الجهال لا يعبر عن السلوك العام، ثم زادت الصلة بيننا وبين الناس، وتوثقت، فدعينا إلى شرب القهوة بالعبارة النجدية الحلوة =نبغى نقاهويك يا أستاذ+ وتكرر ذلك، والموعد بعد صلاة العشاء الآخرة وكان معنا في المعهد سكرتير من أهل عنيزة اسمه (عبد الله) فكان يتولى تدوين المواعيد، ويرشدنا إلى منازل، وفي كل ليلة نَجِدُ صاحب المنزل قد دعا أكثر من عشرين شخصاً؛ مبالغة منه في الاحتفاء بنا، ثم يدور الحديث حول مسائل من الدين، والأخلاق، وعادات الناس، وتصير الجلسة ندوة علم وأدب، وحديث نافع، وتعبير عن المحبة والود والأخوة، كما ارتضاها الله لعباده المؤمنين.

وكنا نزور الشيخ بين الحين والحين، ويكاد يكون لقاؤنا معه يوم الجمعة بانتظام نذهب إلى بيته قبل الصلاة بساعات ونجلس معه ثم ننزل معاً عندما يقرب موعد الصلاة.

وذات لقاء قلت له: يا فضيلة الشيخ لماذا لا تستخدم مكبر الصوت (الميكروفون) في الخطبة؛ فإن أكثر الناس لا يسمعون صوتك، ولا يستفيدون مما تلقيه عليهم من المواعظ والأحكام؟

فابتسم الشيخ وكان له بسمة خفيفة جميلة تنم عن الرضا والسرور، وقال: إن مكبر الصوت لم يدخل المساجد في بلاد نجد، ولا أحب أن أكون أول من يستخدمه.

قلت: ولماذا؟ ألست الشيخ العلم القدوة؟ إذا لم تفعل أنت ما تراه نافعاً فمن يفعله؟ أليس في استعماله خير وهو نشر تعاليم الدين وآدابه وإسماع أكبر عدد ممكن بواسطته؟ والنساء في بيوتهن حول المسجد يستمعن الخطبة عن طريق مكبر الصوت؛ فيكون الخير قد تجاوز حدود المسجد، ومن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة؛ ذلك لأنه سيتعرض لجهل الجاهلين، ونقد الناقدين، وسيصيبه من أقوال الناس وإيذائهم واستنكارهم لما لم يألفوه شيء كثير؛ فيكون له من أجل ذلك الأجر الكثير، ثم إنك يا فضيلة الشيخ إذا لم تستخدم مكبر الصوت في خطبة الجمعة فلن يجرؤ أحد على استخدامه من بعدك، وسيقول الناس: لو كان فيه خير لاستخدمه الشيخ السعدي؛ فتكون قد منعت استخدامه مستقبلاً من حيث لا تدري ولا تريد؛ فاتسعت الابتسامة على شفتي الشيخ، وقد استمع لكلامي كله مصغياً ومتأملاً، وهز رأسه يميناً وشمالاً في هدوء رتيب وقال: ما شاء الله لقد حدثني في ذلك غيرك، وما شرح الله صدري لذلك مثل ما شرحه الآن، وأعدك أن يكون في المسجد (مكبر صوت) في الجمعة القادمة _ إن شاء الله _.

وبر الشيخ بوعده، وأمر بإحضار مكبر للصوت ذي ثلاث سماعات يعمل بواسطة البطارية؛ فلم تكن عنيزة قد عرفت الكهرباء بعد، وفرح الناس، وتحدثوا عن استماعهم للخطبة في غير جهد، وحرصت على أن أسمع رأيهم فلم أجد معارضاً وما سمعت إلا كلمات الاستحسان والسرور، وذهبت إلى الشيخ في بيته لأنقل إليه استحسان الناس وسرورهم؛ فإذا به ينقل إليَّ بشرى سارة مُؤَدَّاها أن الشيخ عبد الله السليمان كان يصلي هذه الجمعة في مسجد عنيزة، وقد أعجبه أن يكون في المسجد مكبر للصوت، فقابل الشيخ بعد الصلاة، وأبلغه أنه تبرع بماكينة كهرباء للمسجد تضيء خمسين لمبة _ مصباحاً كهربائياً _ ويشتغل عليها مكبر الصوت، فقلت: الحمد لله، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

لقد كان الشيخ عبد الرحمن السعدي من الناحية الدينية هو كل شيء في عنيزة؛ فقد كان العالم، والمعلم، والإمام، والخطيب، والمفتي، والواعظ، والقاضي، وصاحب مدرسة دينية له فيها تلاميذ منتظمون.

كان يصلي الفجر بالناس، ثم يجلس لأداء الدرس حتى تطلع الشمس، ويذهب بعد ذلك إلى بيته حتى الضحوة الكبرى فيعود إلى المسجد يعلم أبناءه الفقه، والتفسير، والحديث، والعقيدة، والنحو، والصرف في دروس منتظمة، وكتب اختارها لطلابه، ويستمر معهم حتى صلاة الظهر، فيصلي بالناس، ويعود إلى بيته يستريح فيه إلى صلاة العصر، ثم يذهب إلى المسجد، فيصلي العصر بالناس ويعطيهم عقب الصلاة وهم جلوس بعض الأحكام الفقهية في دقائق لا تؤخرهم عن الانصراف سعياً وراء أرزاقهم، وعندما تغرب الشمس يصلي بالناس المغرب، ويجلس للدرس حتى يصلي العشاء، ويتكرر ذلك في كل يوم. وطلاب الشيخ الذين علمهم في المسجد هم الذين تولوا التدريس في المدارس والمعاهد التي فتحتها الدولة في بلدتهم، فكان الشيخ يكتب بيده شهادة يقول فيها:

إن فلاناً درس علوم كذا وكذا في كتب كذا وكذا، وهو يصلح لتدريس هذه المواد في المستوى الابتدائي أو الإعدادي أو الثانوي، وتأخذ الدولة بشهادات الشيخ التي أثبتت التجربة فيما بعد أنها معبرة عن الحقيقة أصدق تعبير.

وكان من سيرته _ عليه رحمة الله _ أنه في موسم الحصاد تأتي إليه ثمار النخيل والبساتين التي وقفها أصحابها على المسجد الجامع ليؤدي رسالته الإسلامية العظيمة، فكان الشيخ يجمع كل هذه الثمار في المسجد، ويوزعها على الفقراء والمساكين، ولا يأخذ تمرة واحدة يدخلها فاه، أو ينقلها إلى بيته.

وسألت أحد الأبناء المقربين إليه: من أين ينفق الشيخ على حاجات معيشته؟ فأخبرني أن له ابنين يعملان بالتجارة في الرياض، ويرسلان إليه ما يحتاج من النفقة، ولا مورد له غير هذا؛ فقلت: سبحان الله: إن خير ما يأكل المرء ما كان من كسب يده، وإن ولد الإنسان من كسبه، وهكذا تكون سيرة العلماء في الاكتفاء بالقليل، والزهد فيما يزيد على ذلك مع الاجتهاد في أداء الواجب والإخلاص فيه.

ومرت الأيام وفي نهاية عام 1375هـ الموافق 1956م بدأ العدوان الثلاثي على مصر وهاجمت فرنسا وإنجلترا وإسرائيل أرض مصر ولكل دولة منهم دوافعها الخاصة؛ فقد كانت فرنسا تريد أن تعاقب مصر على مساندة ثورة الجزائر ضدها، هذه المساندة التي وصلت إلى درجة تهريب الأسلحة والذخائر للثوار المسلمين في الجزائر، وقد وقعت الباخرة (عايدة) المصرية في يد الفرنسيين وهي تحمل الأسلحة إلى ثوار الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي؛ فأضمرت لذلك شراً وكان هجومها على مصر.

أما إنجلترا فكان هجومها من أجل أسهمها في قناة السويس التي أمَّمتها مصر، وأعادتها إلى الشعب المصري الذي حفر القناة بجهود أبنائه ودمائهم، وكانت مع ذلك تراودها الرغبة في إعادة سيطرتها مرة أخرى على مصر، ولم يكن جلاء قواتها عن الأراضي المصرية قد جاوز العامين بعد.

وانتهزت إسرائيل رغبة الدولتين الكبيرتين في الهجوم على مصر، واتفقت معهما لخدمة أغراضها التوسعية العدوانية، ولضرب القوة العربية الإسلامية على أرض مصر.

وعرف الشيخ السعدي هذه الأبعاد كلها، وخطب الناس الجمعة في هذا الموضوع، ورفع الناس معه أكف الضراعة إلى الله أن يحمي القوة الإسلامية، وأن ينصر المسلمين، ويرد كيد الكافرين، وقد استجاب الله دعاءه، فخطب الشيخ في جمعة تالية مهنئاً ومبشراً ومذكراً بقول الله _ تعالى _: [وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً].

وقد كان للشيخ اهتمامات ظاهرة بأحوال المسلمين في كل بلادهم، وكانت مقالاته في الصحف والمجلات في داخل المملكة وخارجها تظهر هذه الاهتمامات، وكان يسألنا كثيراً عن أخبار مصر وأحوال المسلمين فيها وجهود علمائها في إقامة السنة، وإزالة البدعة مع دعاء حار، وأمل كبير في أن يصلح الله أحوال المسلمين.

ومع هذه الجهود المضنية التي كان يبذلها الشيخ كان كثير الكتابة والتأليف؛ فقد كتب تفسيراً للقرآن الكريم كله سماه (منحة اللطيف المنان في تفسير القرآن( )) وله كتاب في الخطب المنبرية، ورسائل في العقيدة وسؤال وجواب، وفي بعض الموضوعات والقضايا الإسلامية، وقد تبرع بكتبه كلها وطبعها أهل الخير المحبون للشيخ وعلمه، ووزعوها بالمجان على أهل العلم وطلبته.

وفي شهر ربيع الثاني من عام 1376هـ توفي الشيخ عبد الرحمن السعدي _ عليه رحمة الله ورضوانه _ وحملت مع الناس نعشه، وكانوا يعرفون صلتي الوثيقة به فكانوا يفسحون لي كلما رغبت واقتربت، قائلين: إنه كان يحبك.

وإني لا أجد ما أصف به فضل هذا الشيخ وجهاده ومنزلته بين العلماء أحسن مما سمعته من عجوز جالسة على طريق الجنازة؛ فقد قالت ونحن نمر عليها نحمل نعشه، قالت العجوز في صدق وحرارة: =نجم هوى+.

رحم الله الشيخ عبد الرحمن السعدي، وجعل سيرته الطيبة وأعماله الصالحة في موازين حسناته، وأكثر من أمثاله الذين يزهدون في الدنيا ويبتغون ما عند الله+.

=ثانياً: نماذج من كتابات الشيخ عبدالرحمن السعدي+

للشيخ عبدالرحمن السعدي مؤلفات كثيرة، وذلك في موضوعات شتى _ كما مر _.

وهذه المؤلفات مليئة بالنظرات الثاقبة، واللفتات البارعة، والاستنباطات الدقيقة التي تدل على ذكاء، وعبقرية، وسعة في الأفق، وتدبر للعواقب، ونظر في المقاصد العليا، والمصالح العامة.

كما أنها مليئة بالفوائد التربوية، والوصايا النافعة، والتجارب الناضجة، التي ربما لا تجد أكثرها في غير مؤلفاته ×.

وفيما يلي أمثلة من كتابات من بعض كتبه.

1_ قال × في قوله _ تعالى _: [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا] النساء:77.

=كان المسلمون _ إذ كانوا بمكة _ مأمورين بالصلاة والزكاة, أي: مواساة الفقراء, لا الزكاة المعروفة, ذات النُّصُب والشروط؛ فإنها لم تفرض إلا بالمدينة, ولم يؤمروا بجهاد الأعداء, لعدة فوائد:

منها: أن من حكمة الباري _ تعالى _ أن يشرع لعباده الشرائع على وجه لا يشق عليهم; ويبدأ بالأهم, والأسهل فالأسهل.

ومنها: أنه لو فرض عليهم القتال _مع قلة عَدَدِهِم وعُدَدِهِم, وكثرة أعدائهم_ لأدى ذلك إلى اضمحلال الإسلام؛ فروعي جانب المصلحة العظمى على ما دونها, ولغير ذلك من الحِكَم.

وكان بعض المؤمنين يَوَدُّون أَنْ لو فرض عليهم القتال في تلك الحال غير اللائق فيها ذلك، وإنما اللائق فيها, القيام بما أمروا به في ذلك الوقت, من التوحيد, والصلاة, والزكاة ونحو ذلك كما قال _ تعالى _: [وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا].

فلما هاجروا إلى المدينة, وقوي الإسلام, كتب عليهم القتال, في وقته المناسب لذلك، فقال فريق من الذين يستعجلون القتال قبل ذلك, خوفاً من الناس, وضعفاً وخوراً: [رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ].

وفي هذا تضجرهم, واعتراضهم على الله، وكان الذي ينبغي لهم ضد هذه الحال: التسليم لأمر الله, والصبر على أوامره؛ فعكسوا الأمر المطلوب منهم, فقالوا [لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ] أي: هلا أخرت فرض القتال, مدة متأخرة عن الوقت الحاضر؟

وهذه الحال كثيراً ما تَعْرِضُ لمن هو غَيْرُ رزين, واستعجل في الأمور قبل وقتها؛ فالغالب عليه أنه لا يصبر عليها وقت حلولها, ولا ينوء بحملها, بل يكون قليل الصبر+.

2_ وقال في قوله _ تعالى _: [وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ] محمد:20_21.

يقول _ تعالى _: [وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا] استعجالاً ومبادرة للأوامر الشاقة: [لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ] أي: فيها الأمر بالقتال.

[فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ] أي: ملزم العمل بها، [وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ] الذي هو أشق شيء على النفوس، لم يثبت ضعفاء الإيمان على امتثال هذه الأوامر، ولهذا قال: [رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ] من كراهتهم لذلك، وشدته عليهم.

وهذا كقوله _ تعالى _: [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً].

ثم ندبهم _ تعالى _ إلى ما هو الأليق بحالهم، فقال: [فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ] أي: فأولى لهم أن يمتثلوا الأمر الحاضر المحتم عليهم، ويجمعوا عليه هممهم، ولا يطلبوا أن يشرع لهم ما هو شاق عليهم، وليفرحوا بعافية الله _تعالى_ وعفوه.

[فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ] أي: جاءهم الأمر جد، وأمر محتم، ففي هذه الحال لو صدقوا الله بالاستعانة به، وبذل الجهد في امتثاله [لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ] من حالهم الأولى، وذلك من وجوه:

منها: أن العبد ناقص من كل وجه، لا قدرة له إلا إن أعانه الله، فلا يطلب زيادة على ما هو قائم بصدده.

ومنها: أنه إذا تعلقت نفسه بالمستقبل ضعف عن العمل بوظيفة وقته، وبوظيفة المستقبل، أما الحال؛ فلأن الهمة انتقلت عنه إلى غيره، والعمل تبع للهمة، وأما المستقبل؛ فإنه لا يجيء حتى تفتر الهمة عن نشاطها فلا يعان عليه.

ومنها: أن العبد المؤمل للآمال المستقبلة، مع كسله عن عمل الوقت الحاضر، شبيه بالمتألي الذي يجزم بقدرته على ما يستقبل من أموره، فأحرى به أن يخذل ولا يقوم بما هم به ووطن نفسه عليه، فالذي ينبغي أن يجمع العبد همه وفكرته ونشاطه على وقته الحاضر، ويؤدي وظيفته بحسب قدرته، ثم كلما جاء وقت استقبله بنشاط وهمة عالية مجتمعة غير متفرقة، مستعيناً بربه في ذلك، فهذا حري بالتوفيق والتسديد في جميع أموره.

3_ وقال في قوله _ تعالى _: [خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ] الأعراف:199.

 =هذه الآية جامعة, لحسن الخلق مع الناس, وما ينبغي في معاملتهم؛ فالذي ينبغي أن يَعامِل به الناس أن يأخذ العفو, أي: ما سمحت به أنفسهم, وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق؛ فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم, بل يشكر من كل أحد ما قابله به من قول, وفعل جميل, أو ما هو دون ذلك, ويتجاوز عن تقصيرهم، ويغض طرفه عن نقصهم، ولا يتكبر على الصغير لصغره, ولا ناقص العقل لنقصه, ولا الفقير لفقره، بل يعامل الجميع, باللطف, والمقابلة بما تقضيه الحال, وتنشرح له صدورهم.

[وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ] أي: بكل قول حسن, وفعل جميل, وخلق كامل للقريب والبعيد؛ فاجعل ما يأتي إلى الناس منك, إما تعليم علم, أو حثاً على خير, من صلة رحم, أو بَرِّ والدين, أو إصلاح بين الناس, أو نصيحة نافعة, أو رأي مصيب, أو معاونة على بر وتقوى, أو زجر عن قبيح, أو إرشاد إلى تحصيل مصلحة دينية, أو دنيوية.

ولما كان لابد من أذية الجاهل أمر اللّه _ تعالى _ أن يقابل الجاهل, بالإعراض عنه, وعدم مقابلته بجهله؛ فمن آذاك بقوله أو فعله لا تؤذه, ومن حرمك لا تحرمه, ومن قطعك فَصِلْهُ, ومن ظلمك فاعدل فيه+.

4_ وقال في قصة موسى _ مع الخضر _ عليهما السلام _ التي وردت في سورة الكهف: =وفي هذه القصة العجيبة الجليلة, من الفوائد, والأحكام, والقواعد, شيء كثير, ننبه على بعضه بعون الله.

فمنها: فضيلة العلم, والرحلة في طلبه, وأنه أهم الأمور؛ فإن موسى _ عليه السلام _ رحل مسافة طويلة, ولقي النصب في طلبه, وترك القعود عند بني إسرائيل, لتعليمهم وإرشادهم, واختار السفر لزيادة العلم على ذلك.

ومنها: البداءة بالأهم فالأهم؛ فإن زيادة العلم وعلم الإنسان أهم من ترك ذلك, والاشتغال بالتعليم من دون تزود من العلمِ, والجمعُ بين الأمرين أكمل.

ومنها: جوازُ أخذِ الخادم في الحضر والسفر؛ لكفاية المؤن, وطلب الراحة, كما فعل موسى.

ومنها: أن المسافر لطلب علم أو جهاد أو نحوه إذا اقتضت المصلحة الإخبار بمطلبه, وأين يريده فإنه أكمل من كتمه؛ فإن في إظهاره فوائد من الاستعداد له, واتخاذ عدته, وإتيان الأمر على بصيرة, وإظهار الشوق لهذه العبادة الجليلة, كما قال موسى: [لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا].

وكما أخبر النبي " أصحابه حين غزا تبوك بوجهته مع أن عادته التورية, وذلك تبع للمصلحة.

ومنها: إضافة الشر وأسبابه إلى الشيطان, على وجه التسويل والتزيين, وإن كان الكل بقضاء الله وقدره؛ لقول فتى موسى: [وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ].

ومنها: جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى طبيعة النفس, من نصب وجوع, أو عطش, إذا لم يكن على وجه التسخط وكان صدقاً؛ لقول موسى: [لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا].

ومنها: استحباب كون خادم الإنسان, ذكياً فطناً كيساً, ليتم له أمره الذي يريده.

ومنها: استحباب إطعام الإنسان خادمه من مأكله, وأكلهما جميعاً؛ لأن ظاهر قوله: [آتِنَا غَدَاءَنَا] إضافة إلى الجميع أنه أكل هو وهو جميعاً.

ومنها: أن المعونة تنزل على العبد على حسب قيامه بالمأمور به, وأن الموافِقَ لأمر الله يعان ما لا يعان غيره؛ لقوله: [لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا] والإشارة إلى السفر المجاوز لمجمع البحرين.

وأما الأول, فلم يشتك منه التعب, مع طوله؛ لأنه هو السفر على الحقيقة، وأما الأخير فالظاهر أنه بعض يوم؛ لأنهم فقدوا الحوت حين أووا إلى الصخرة، فالظاهر أنهم باتوا عندها, ثم ساروا من الغد حتى إذا جاء وقت الغداء قال موسى لفتاه [آتِنَا غَدَاءَنَا] فحينئذ تذكر أنه نسيه في الموضع الذي إليه منتهى قصده.

ومنها: أن ذلك العبد الذي لقياه, ليس نبياً, بل عبداً صالحاً؛ لأنه وصفه بالعبودية, وذكر مِنَّةَ الله عليه بالرحمة والعلم, ولم يذكر رسالته ولا نبوته, ولو كان نبياً لذكر ذلك كما ذكره غيره.

وأما قوله في آخر القصة [وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي] فإنه لا يدل على أنه نبي وإنما يدل على الإلهام والتحديث, كما يكون لغير الأنبياء, كما قال _ تعالى _: [وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ], [وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا].

ومنها: أن العلم الذي يعلمه الله لعباده نوعان: علم مكتسب يدركه العبد بجده واجتهاده، ونوع علم لَدُنِّي, يهبه الله لمن يمن عليه من عباده؛ لقوله [وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا].

ومنها: التأدب مع المعلم, وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب؛ لقول موسى _عليه السلام_: [هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا] فأخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة, وأنك هل تأذن لي في ذلك أم لا, وإقراره بأنه يتعلم منه، بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكبر, الذين لا يظهرون للمعلم افتقارهم إلى علمه، بل يدَّعون أنه يتعاونون هم وإياه, بل ربما ظن أحدهم أنه يعلم معلمه, وهو جاهل جداً؛ فالذل للمعلم, وإظهار الحاجة إلى تعليمه, من أنفع شيء للمتعلم.

ومنها: تواضع الفاضل للتعلم ممن دونه؛ فإن موسى _ بلا شك _ أفضل من الخضر.

ومنها: تعلم العلم الفاضل, للعلم الذي لم يَتَمهَّر فيه, ممن مهر فيه وإن كان دونه في العلم بدرجات كثيرة؛ فإن موسى _ عليه السلام _ من أولي العزم من المرسلين, الذين منحهم الله, وأعطاهم من العلم ما لم يعط سواهم, ولكن في هذا العلم الخاص, كان عند الخضر, ما ليس عنده؛ فلهذا حرص على التعلم منه؛ فعلى هذا لا ينبغي للفقيه المحدِّث إذا كان قاصراً في علم النحو, أو الصرف, أو نحوهما من العلوم أن لا يتعلمه ممن مهر فيه, وإن لم يكن محدثاً ولا فقيهاً.

ومنها: إضافة العلم وغيره من الفضائل لله _ تعالى _ والإقرار بذلك, وشكر الله عليها؛ لقوله: [تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ] أي: مما علمك الله _ تعالى _.

ومنها: أن العلم النافع هو العلم المرشد إلى الخير؛ فكل علم يكون فيه رشد وهداية لطريق الخير, وتحذير عن طريق الشر, أو وسيلة لذلك _ فإنه من العلم النافع، وما سوى ذلك, فإما أن يكون ضاراً, أو ليس فيه فائدة؛ لقوله: [أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا].

ومنها: أن من ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم, وحسن الثبات على ذلك _ أنه ليس بأهل لتلقي العلم؛ فمن لا صبر له لا يدرك العلم, ومن استعمل الصبر ولازمه أدرك به كل أمر سعى فيه؛ لقول الخضر _ يعتذر عن موسى بذكر المانع لموسى في الأخذ عنه: إنه لا يصبر معه.

ومنها: أن السبب الكبير لحصول الصبر, إحاطة الإنسان علماً وخبره, بذلك الأمر, الذي أمر بالصبر عليه، وإلا فالذي لا يدريه, أو لا يدري غايته ولا نتيجته, ولا فائدته وثمرته _ ليس عنده سبب الصبر؛ لقوله: [وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا].

فجعل الموجب لعدم صبره عدم إحاطته خبراً بالأمر.

ومنها: الأمر بالتأني والتثبت, وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء؛ حتى يعرف ما يراد منه، وما هو المقصود.

ومنها: تعليق الأمور المستقبلية التي من أفعال العباد بالمشيئة, وأن لا يقول الإنسان للشيء: إني فاعل ذلك في المستقبل إلا أن يقول [إِنْ شَاءَ اللَّهُ].

ومنها: أن العزم على فعل الشيء ليس بمنزلة فعله؛ فإن موسى قال: [سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا].

فوطن نفسه على الصبر ولم يفعل.

ومنها: أن المعلم إذا رأى المصلحة في إيزاعه للمتعلم أن يترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء, حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها؛ فإن المصلحة تُتَّبع، كما إذا كان فهمه قاصراً, أو نهاه عن الدقيق في سؤال الأشياء التي غيرها أهم منها, أو لا يدركها ذهنه, أو يسأل سؤالاً لا يتعلق بموضع البحث.

ومنها: جواز ركوب البحر, في غير الحالة التي يخاف منها.

ومنها: أن الناسي غير مؤاخذ بنسيانه لا في حق الله, ولا في حقوق العباد؛ لقوله: [لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ].

ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم العفو منها, وما سمحت به أنفسهم, ولا ينبغي له أن يكلفهم ما لا يطيقون, أو يشق عليهم, ويرهقهم؛ فإن هذا مدعاة إلى النفور منه والسآمة, بل يأخذ المتيسر؛ ليتيسر له الأمر.

ومنها: أن الأمور تجري أحكامها على ظاهرها, وتعلق بها الأحكام الدنيوية في الأموال, والدماء وغيرها؛ فإن موسى _ عليه السلام _ أنكر على الخضر خَرْقَهُ السفينةَ, وقتل الغلام, وأن هذه الأمور ظاهرها أنها من المنكر، وموسى _ عليه السلام _ لا يسعه السكوت عنها في غير هذه الحال التي صَحِبَ عليها الخضر؛ فاستعجل _ عليه السلام _ وبادر إلى الحكم في حالتها العامة, ولم يلتفت إلى هذا العارض الذي يوجب عليه الصبر, وعدم المبادرة إلى الإنكار.

ومنها: القاعدة الكبيرة الجليلة وهو أنه يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير، ويراعي أكبر المصلحتين, بتفويت أدناهما؛ فإن قتل الغلام شر, ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه عن دينهما أعظم شراً منه، وبقاء الغلام من دون قتل وعصمته, وإن كان يظن أنه خير؛ فالخير ببقاء دين أبويه, وإيمانهما خير من ذلك؛ فلذلك قتله الخضر.

وتحت هذه القاعدة من الفروع والفوائد ما لا يدخل تحت الحصر؛ فتزاحم المصالح والمفاسد كلها داخل في هذا.

ومنها: القاعدة الكبيرة _ أيضاً _ وهي أن عمل الإنسان في مال غيره إذا كان على وجه المصلحة وإزالة المفسدة أنه يجوز ولو بلا إذن حتى ولو ترتب على عمله إتلاف بعض مال الغير, كما خرق الخضر السفينة؛ لتعيب؛ فَتَسْلَمَ من غصب الملك الظالم.

فعلى هذا لو وقع حرق, أو غرق, أو نحوهما في دار إنسان أو ماله, وكان إتلاف بعض المال, أو هدم بعض الدار فيه سلامة للباقي, جاز للإنسان بل شرع له ذلك؛ حفظا لمال الغير.

وكذلك لو أراد ظالم أخذ مال الغير, ودفع إليه إنسان بعض المال؛ افتداءاً للباقي جاز ولو من غير إذن.

ومنها: أن العمل يجوز في البحر, كما يجوز في البر لقوله: [يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ] ولم ينكر عليهم عملهم.

ومنها: أن المسكين قد يكون له مال لا يبلغ كفايته, ولا يخرج بذلك عن اسم المسكنة؛ لأن الله أخبر أن هؤلاء المساكين لهم سفينة.

ومنها: أن القتل من أكبر الذنوب؛ لقوله في قتل الغلام: [لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا].

ومنها: أن القتل قصاصا غير منكر؛ لقوله: [بِغَيْرِ نَفْسٍ].

ومنها: أن العبد الصالح يحفظه الله في نفسه, وفي ذريته.

ومنها: أن خدمة الصالحين, أو من يتعلق بهم أفضل من غيرها؛ لأنه علّل استخراج كنزهما, وإقامة جدارهما بأن أباهما صالح.

ومنها: استعمال الأدب مع الله _ تعالى _ في الألفاظ؛ فإن الخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه بقوله: [فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا].

وأما الخير, فأضافه إلى الله _تعالى_ لقوله: [فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ].

كما قال إبراهيم _ عليه السلام _: [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ].

وقالت الجن: [وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا] مع أن الكل بقضاء الله وقدره.

ومنها: أنه ينبغي للصاحب أن لا يفارق صاحبه في حالة من الأحوال, ويترك صحبته, حتى يُعْتِبَه, ويُعْذَر منه, كما فعل الخضر مع موسى.

ومنها: أن موافقة الصاحب لصاحبه في غير الأمور المحذورة مدعاةٌ, وسببٌ لبقاء الصحبة, وتأكدها, كما أن عدم الموافقة سببٌ لقطع المرافقة.

ومنها: أن هذه القضايا التي أجراها الخضر هي قَدَرٌ محضٌ أجراها الله، وجعلها على يد هذا العبد الصالح؛ ليستدل العباد بذلك على ألطافه في أقضيته، وأنه يقدر على العبد أموراً يكرهها جداً وهي صلاح دنياه كما في قضية السفينة، فأراهم نموذجاً من لطفه وكرمه؛ ليعرفوه، ويرضوا غاية الرضا بأقداره الكريهة+.

5_ وقال × في تفسير سورة ص مبيناً الفوائد والحكم من قصة داود وسليمان _عليهما السلام_: = فمنها: أن اللّه _ تعالى _ يقص على نبيه محمد " أخبارَ مَنْ قبله، ليثبت فؤاده وتطمئن نفسه، ويذكر له من عباداتهم وشدة صبرهم وإنابتهم ما يشوقه إلى منافستهم، والتقرب إلى اللّه الذي تقربوا له، والصبر على أذى قومه؛ ولهذا _ في هذا الموضع _ لما ذكر اللّه ما ذكر من أذية قومه وكلامهم فيه وفيما جاء به _ أمره بالصبر، وأن يذكر عبده داود فيتسلى به.

ومنها: أن اللّه _ تعالى _ يمدح ويحب القوة في طاعته: قوة القلب والبدن؛ فإنه يحصل منها من آثار الطاعة وحسنها وكثرتها ما لا يحصل مع الوهن وعدم القوة، وأن العبد ينبغي له تعاطي أسبابها، وعدم الركون إلى الكسل والبطالة المخلة بالقوى المضعفة للنفس.

ومنها: أن الرجوع إلى اللّه في جميع الأمور، من أوصاف أنبياء اللّه وخواص خلقه، كما أثنى اللّه على داود وسليمان بذلك؛ فليقتد بهما المقتدون، وليهتد بهداهما السالكون [أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ].

ومنها: ما أكرم اللّه به نبيه داود _ عليه السلام _ من حسن الصوت العظيم، الذي جعل اللّه بسببه الجبال الصم، والطيور البهم يجاوبنه إذا رجَّع صوته بالتسبيح، ويسبحن معه بالعشي والإشراق.

ومنها: أن من أكبر نعم اللّه على عبده أن يرزقه العلم النافع، ويعرف الحكم والفصل بين الناس، كما امتن اللّه به على عبده داود _ عليه السلام _.

ومنها: اعتناء اللّه _ تعالى _ بأنبيائه وأصفيائه عندما يقع منهم بعض الخلل بفتنته إياهم، وابتلائهم بما به يزول عنهم المحذور، ويعودون إلى أكمل من حالتهم الأولى، كما جرى لداود وسليمان _ عليهما السلام _.

ومنها: أن الأنبياء _ صلوات اللّه وسلامه عليهم _ معصومون من الخطأ فيما يبلغون عن اللّه _ تعالى _ لأن مقصود الرسالة لا يحصل إلا بذلك، وأنه قد يجري منهم بعض مقتضيات الطبيعة من المعاصي، ولكن اللّه يتداركهم ويبادرهم بلطفه.

ومنها: أن داود _ عليه السلام _ كان في أغلب أحواله ملازماً محرابه؛ لخدمة ربه، ولهذا تسور الخصمان عليه المحراب؛ لأنه كان إذا خلا في محرابه لا يأتيه أحد، فلم يجعل كل وقته للناس مع كثرة ما يرد عليه من الأحكام، بل جعل له وقتاً يخلو فيه بربه، وتقر عينه بعبادته، وتعينه على الإخلاص في جميع أموره.

ومنها: أنه ينبغي استعمال الأدب في الدخول على الحكام وغيرهم؛ فإن الخصمين لما دخلا على داود في حالة غير معتادة ومن غير الباب المعهود فزع منهم، واشتد عليه ذلك، ورآه غير لائق بالحال.

ومنها: أنه لا يمنع الحاكم من الحكم بالحق سوءُ أدبِ الخصمِ وفِعْلُه ما لا ينبغي.

ومنها: كمال حلم داود _ عليه السلام _ فإنه ما غضب عليهما حين جاءاه بغير استئذان وهو الملك، ولا انتهرهما، ولا وبخهما.

ومنها: جواز قول المظلوم لمن ظلمه: =أنت ظلمتني+ أو =يا ظالم+ ونحو ذلك، أو =باغ علي+ لقولهما: [خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ].

ومنها: أن الموعوظ والمنصوح ولو كان كبير القدر، جليل العلم إذا نصحه أحد، أو وعظه _ لا يغضب، ولا يشمئز، بل يبادره بالقبول والشكر؛ فإن الخصمين نصحا داود، فلم يشمئز، ولم يغضب، ولم يثنه ذلك عن الحق، بل حكم بالحق الصرف.

ومنها: أن المخالطة بين الأقارب والأصحاب، وكثرة التعلقات الدنيوية المالية موجبة للتعادي بينهم، وبغي بعضهم على بعض، وأنه لا يرد عن ذلك إلا استعمال تقوى اللّه، والصبر على الأمور بالإيمان والعمل الصالح، وأن هذا من أقل شيء في الناس.

ومنها: أن الاستغفار والعبادة خصوصاً الصلاة من مكفرات الذنوب؛ فإن اللّه رتب مغفرة ذنب داود على استغفاره وسجوده.

ومنها: إكرام اللّه لعبده داود وسليمان بالقرب منه، وحسن الثواب، وأن لا يظن أن ما جرى لهما مُنْقِصٌ لدرجتهما عند اللّه _ تعالى _ وهذا من تمام لطفه بعباده المخلصين أنه إذا غفر لهم وأزال أثر ذنوبهم أزال الآثار المترتبة عليه كلها، حتى ما يقع في قلوب الخلق؛ فإنهم إذا علموا ببعض ذنوبهم وقع في قلوبهم نزولهم عن درجتهم الأولى؛ فأزال اللّه _ تعالى _ هذه الآثار، وما ذاك بعزيز على الكريم الغفار.

ومنها: أن الحكم بين الناس مرتبة دينية تولاها رسل اللّه وخواص خلقه، وأن وظيفة القائم بها الحكم بالحق ومجانبة الهوى، فالحكم بالحق يقتضي العلم بالأمور الشرعية، والعلم بصورة القضية المحكوم بها، وكيفية إدخالها في الحكم الشرعي، فالجاهل بأحد الأمرين لا يصلح للحكم، ولا يحل له الإقدام عليه.

ومنها: أنه ينبغي للحاكم أن يحذر الهوى، ويجعله منه على بال؛ فإن النفوس لا تخلو منه، بل يجاهد نفسه بأن يكون الحق مقصوده، وأن يلقي عنه وقت الحكم كل محبة أو بغض لأحد الخصمين.

ومنها: أن سليمان _ عليه السلام _ من فضائل داود، ومن منن اللّه عليه؛ حيث وهبه له، وأن من أكبر نعم اللّه على عبده أن يهب له ولداً صالحاً؛ فإن كان عالماً كان نوراً على نور.

ومنها: ثناء اللّه _ تعالى _ على سليمان ومدحه في قوله: [نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ].

ومنها: كثرة خير اللّه وبره بعبيده؛ أن يمنَّ عليهم بصالح الأعمال ومكارم الأخلاق، ثم يثني عليهم بها، وهو المتفضل الوهاب.

ومنها: تقديم سليمان محبة اللّه _ تعالى _ على محبة كل شيء.

ومنها: أن كل ما أشغل العبد عن اللّه؛ فإنه مشؤوم مذموم؛ فَلْيُفَارِقْه ولْيُقْبِلْ على ما هو أنفع له.

ومنها: القاعدة المشهورة =من ترك شيئاً لله عوضه اللّه خيراً منه+ فسليمان _عليه السلام_ عقر الجياد الصافنات المحبوبة للنفوس؛ تقديماً لمحبة اللّه؛ فعوضه اللّه خيراً من ذلك بأن سخر له الريح الرخاء اللينة التي تجري بأمره إلى حيث أراد وقصد، غدوها شهر، ورواحها شهر، وسخر له الشياطين أهل الاقتدار على الأعمال التي لا يقدر عليها الآدميون.

ومنها: أن تسخير الشياطين لا يكون لأحد بعد سليمان _ عليه السلام _.

ومنها: أن سليمان _عليه السلام _ كان ملكاً نبياً، يفعل ما أراد، ولكنه لا يريد إلا العدل، بخلاف النبي العبد؛ فإنه تكون إرادته تابعة لأمر اللّه، فلا يفعل ولا يترك إلا بالأمر، كحال نبينا محمد " وهذه الحال أكمل+.

6_ وقال في قوله _ تعالى _: [وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً] النساء:83.

=هذا تأديب من الله لعباده, عن فعلهم هذا, غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة, والمصالح العامة, ما يتعلق بالأمن, وسرور المؤمنين, أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم, أن يتثبتوا, ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر؛ بل يردونه إلى الرسول, وإلى أولي الأمر منهم, أهل الرأي, والعلم والنصح, والعقل, والرزانة, الذين يعرفون الأمور, ويعرفون المصالح وضدها؛ فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطاً للمؤمنين, وسروراً لهم, وتحرزاً من أعدائهم, فعلوا ذلك، وإن رأوا ما فيه مصلحة, أنه ليس فيه مصلحة, ولكن مضرته تزيد على مصلحته, لم يذيعوه، ولهذا قال [لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ] أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة, وعلومهم الرشيدة، وفي هذا دليل لقاعدة أدبية, وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور, ينبغي أن يولى من هو أهل لذلك, ويجعل إلى أهله, ولا يتقدم بين أيديهم؛ فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ.

وفيه النهي عن العجلة والتسرع, لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام, والنظر فيه, هل هو مصلحة؟ فيُقْدِم عليه الإنسان, أم لا؟ فيُحْجِمُ عنه+.

7_ وقال × مبيناً بعض ما ينبغي للإنسان أن يتحلى به في المجالس:

=إياك أن تتصدى في مجالسك مع الناس للترؤس عليهم وأنت لست برئيس، وأن تكون ثرثاراً متصدراً بكل كلام.

وربما من جهلك وحمقك ملكت المجلس على الجلوس، وصرت أنت الخطيب والمتكلم دون غيرك.

وإنما الآداب الشرعية والعرفية مطارحة الأحاديث، وكلٌ من الحاضرين يكون له نصيبٌ من ذلك، اللهم إلا الصغار مع الكبار، فعليهم لزوم الأدب، وأن لا يتكلموا إلا جواباً لغيرهم+.( )

8_ وقال × مبيناً بعض آداب الحديث مع الناس على اختلاف طبقاتهم:

=ومن الآداب الطيبة الكلام مع كل أحد بما يليق بحاله ومقامه؛ مع العلماء بالتعلم والاستفادة والاحترام، ومع الملوك والرؤساء بالاحترام والكلام اللطيف اللين المناسب لمقامهم، ومع الإخوان والنظراء بالكلام الطيب، ومطارحة الأحاديث الدينية والدنيوية والانبساط الباسط للقلوب، المزيل للوحشة، المزين للمجالس.

ويحسن المزاح أحياناً إذا كان صدقاً، ويحصل فيه هذه المقاصد.

ومع المستفيدين من الطلبة ونحوهم بالإفادة، ومع الصغار والسفهاء بالحكايات والمقالات اللائقة بهم بما يبسطهم ويؤنسهم، ومع الأهل والعيال بالتعليم للمصالح الدينية والدنيوية، والتربية البيتية، وتوجيههم للأعمال التي تنفعهم مع المباسطة والمفاكهة؛ فإنهم أحق الناس بِبِرِّك، ومن أعظم البر حسن المعاشرة.

ومع الفقراء والمساكين بالتواضع، وخفض الجناح، وعدم الترفع والتكبر عليهم.

فكم حصل بهذا من خيرات و بركات، وكم حصل بضده من شر وفوات خير.

ومع من تعرف منه العداوة والبغضاء والحسد بالمجاملة، وعدم الخشونة، وإن أمكنك الوصول إلى أعلى الدرجات، وهي قوله_تعالى_: [ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم] (فصلت: 34)_فما أكمله من مقام لايوفق له إلا ذو حظ عظيم+.( )

9_ وقال _ أيضاً _: =ومن الآداب الطيبة إذا حدَّثك المحدِّث بأمر ديني أو دنيوي ألا تنازعه الحديث إذا كنت تعرفه، بل تصغي إليه إصغاء من لايعرفه، ولم يَمُرَّ عليه، وتريه أنك استفدت منه، كما كان أَلِبَّاءُ الرجال يفعلونه.

وفيه من الفوائد تنشيط المحَدِّث، وإدخال السرور عليه، وسلامتك من العجب بنفسك، وسلامتك من سوء الأدب؛ فإن منازعة المحدث في حديثه من سوء الأدب+.( )

10_ وسئل عن الأسباب والأعمال التي يضاعف بها الثواب فأجاب إجابة عظيمة قد لا تظفر بها في غير هذا الجواب.

قال ×: =الجواب وبالله التوفيق: أما مضاعفةُ العملِ بالحسنةِ إلى عَشْرِ أمثالِها _ فهذا لا بدَّ منه في كلِّ عملٍ صالح، كما قال _ تعالى _: [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا]الأنعام:159

وأما المضاعفةُ بزيادةٍ عن ذلك _ وهي مراد السائل _ فلها أسبابٌ: إما متعلقةٌ بالعاملِ، أو بالعمل نفسِه، أو بزمانه، أو بمكانه، وآثاره.

فمن أهمِّ أسباب المضاعفةِ إذا حقَّق العبدُ في عَمَلِهِ الإخلاصَ للمعبودِ والمتابعةَ للرسول؛ فالعمل إذا كان من الأعمالِ المشروعةِ، وقَصَدَ العبدُ به رضى ربِّه وثوابَهُ، وحقق هذا القصدَ بأن يجعلَه هو الداعيَ له إلى العمل، وهو الغايةَ لعمله، بأن يكون عَمَلُه صادراً عن إيمان بالله ورسوله، وأن يكون الداعي له لأجل أمر الشارع، وأن يكون القصدُ منه وجهَ اللهِ ورضاه، كما ورد في عدة آياتٍ وأحاديثَ _ هذا المعنى، كقوله _ تعالى _: [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ] المائدة:27.

أي المتقين الله في عملهم بتحقيق الإخلاص والمتابعة.

وكما في قوله ": =من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه+.

وغيرها من النصوص.

والقليلُ من العمل مع الإخلاص الكامل يَرجَحُ بالكثير الذي لم يصل إلى مرتبته في قوة الإخلاص.

ولهذا كانت الأعمالُ الظاهرةُ تتفاضل عند الله بتفاضل ما يقوم بالقلوب من الإيمان والإخلاص.

ويدخل في الأعمالِ الصالحةِ التي تتفاضل بتفاضل الإخلاص _ تركُ ما تشتهيه النفوس من الشهوات المحرمة إذا تركها خالصاً من قلبه، ولم يكن لتركها من الدواعي غيرُ الإخلاصِ، وقصةُ أصحابِ الغارِ شاهدةٌ بذلك.

ومن أسباب المضاعفة _ وهو أصل وأساس لما تقدم _ صحةُ العقيدة، وقوةُ الإيمان بالله وصفاته، وقوةُ إرادة العبد، ورغبتُهُ في الخير؛ فإن أهلَ السنة والجماعة المحضة، وأهلَ العلم الكامل المفصَّل بأسماء الله وصفاته، وقوة لقاء الله _ تُضاعفُ أعمالُهم مضاعفةً كبيرةً لا يحصل مثلُها، ولا قريبٌ منها لمن لم يشاركوهم في هذا الإيمان والعقيدة.

ولهذا كان السلف يقولون: أهل السنة إن قَعَدتْ بهم أعمالُهم قامت بهم عقائدُهم، وأهلُ البدع إن كثرت أعمالُهم قَعَدتْ بهم عقائدهم.

ووجه الاعتبار أن أهل السنة مهتدون، وأهل البدع ضالون، ومعلومٌ الفرقُ بين مَنْ يمشي على الصراط المستقيم، وبين من هو منحرف عنه إلى طرق الجحيم، وغايتُه أن يكون ضالاً متأولاً.

ومن أسباب مضاعفة العمل أن يكون من الأعمال التي نَفْعُها للإسلام والمسلمين له وقْعٌ وأثرٌ وغَنَاءٌ، ونفعٌ كبيرٌ، وذلك كالجهاد في سبيل الله: الجهاد البدنيِّ، والماليِّ، والقوليِّ، ومجادلةِ المنحرفين، كما ذكر اللهُ نفقةَ المجاهدين ومضاعفتَها بسبعمائة ضعف.

ومن أعظم الجهاد سلوكُ طرقِ التعلم والتعليم؛ فإن الاشتغال بذلك لمن صحت نيتُه لا يوازنه عملٌ من الأعمال؛ لما فيه من إحياء العلم والدين، وإرشاد الجاهلين، والدعوة إلى الخير، والنهي عن الشر، والخير الكثير الذي لا يستغني العباد عنه؛ =فمن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة+.

ومن ذلك المشاريع الخيرية التي فيها إعانةٌ للمسلمين على أمور دينهم ودنياهم التي يستمر نفعُها، ويتسلسل إحسانُها، كما ورد في (الصحيح): =إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ ينتفع به من بعده، أو ولدٍ صالح يدعو له+.

ومن الأعمالِ المضاعفةِ العملُ الذي إذا قام به العبدُ شاركه به غيرُه؛ فهذا _أيضاً_ يضاعَفُ بحسب مَنْ شاركه، ومن كان هو سببَ قيامِ إخوانه المسلمين بذلك العمل؛ فهذا _ لا ريب _ يزيد أضعافاً مضاعفةً على عمل إذا عمله لم يشاركه فيه أحد، بل هو من الأعمال القاصرة على عاملها.

ولهذا فضَّل العلماء الأعمال المتعدية للغير على الأعمال القاصرة.

ومن الأعمال المضاعفة إذا كان العمل له وقع عظيم، ونفع كبير، كما إذا كان في إنجاء من مهلكة، وإزالة ضرر المتضررين، وكشف الكرب عن المكروبين؛ فكم من عمل من هذا النوع يكون أكبر سبب لنجاة العبد من العقاب، وفوزه بجزيل الثواب، حتى البهائمُ إذا أُزيل ما يضرُّها كان الأجر عظيماً؛ وقصة المرأة البغيِّ التي سقت الكلبَ الذي كاد يموت من العطش؛ فَغُفِرَ لها بَغْيُها _ شاهدةٌ بذلك.

ومن أسباب المضاعفة أن يكون العبدُ حسنَ الإسلامِ، حسنَ الطريقة، تاركاً للذنوب، غير مُصِرٍّ على شيء منها؛ فإن أعمال هذا مضاعفةٌ كما ورد بذلك الحديث الصحيح: =إذا أحسن أحدُكم إسلامََه فكل حسنة يعملها تُكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف...+ الحديث.

ومن أسبابها رِفْعَةُ العاملِ عند الله، ومقامُهُ العالي في الإسلام؛ فإن الله _تعالى_ شكور حليم؛ لهذا كان نساء النبي " أجرهن مضاعفاً، قال _ تعالى _: [وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ] الأحزاب:31.

وكذلك العالِمُ الربانيُّ، وهو العالِم العامِلُ المعلِّم تكون مضاعفةُ أعمالِه بحسب مقامه عند الله كما أن أمثال هؤلاء إذا وقع منهم الذنب كان أعظمَ من غيرهم؛ لما يجب عليهم من زيادة التحرّز، ولما يجب عليهم من زيادة الشكر لله على ما خصهم به من النعم.

ومن الأسبابِ الصدقةُ من الكسب الطيب كما وردت بذلك النصوص.

ومنها شرفُ الزمان، كرمضانَ وعشرِ ذي الحجة ونحوِها، وشرفُ المكان كالعبادة في المساجد الثلاثة، والعبادةُ في الأوقات التي حثَّ الشارعُ على قصدها، كالصلاة في آخر الليل، وصيام الأيام الفاضلة ونحوها.

وهذا راجع إلى تحقيق المتابعةِ للرسول المُكَمِّلِ _ مع الإخلاص _ للأعمال، المنمي لثوابها عند الله.

ومن أسباب المضاعفةِ القيامُ بالأعمال الصالحة عند المعارضات النفسية، والمعارضات الخارجية؛ فكلما كانت المعارضات أقوى والدواعي للترك أكثر كان العمل أكمل، وأكثر مضاعفةً، وأمثلة هذا كثيرة جداً، ولكن هذا ضابطُها.

ومن أهم ما يضاعف فيه العملُ: الاجتهاد في تحقيق مقام الإحسان والمراقبة، وحضور القلب في العمل؛ فكلما كانت هذه الأمور أقوى كان الثواب أكثر.

ولهذا ورد في الحديث: =ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها+.

فالصلاة، ونحوها وإن كانت تجزئُ إذا أتى بصورتها الظاهرةِ، وواجباتها الظاهرة والباطنة _ إلا أن كمالَ القبولِ، وكمالَ الثوابِ، وزيادةَ الحسناتِ، ورفعةَ الدرجاتِ، وتكفيرَ السيئاتِ، وزيادةَ نورِ الإيمان _ بحسب حضور القلب في العبادة.

ولهذا كان من أسباب مضاعفة العمل حصولُ أثره الحسن في نفع العبد، وزيادةِ إيمانه، ورقة قلبه، وطمأنينته، وحصول المعاني المحمودة للقلب من آثار العمل؛ فإن الأعمال كلما كملت كانت آثارُها في القلوب أحسنَ الآثارِ، وبالله التوفيق.

ومن لطائف المضاعفة أن إسرار العمل قد يكون سبباً لمضاعفة الثواب؛ فإن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله: =رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شمالُه ما تنفق يمينه، ومنهم رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه+.

كما أن إعلانها قد يكون سبباً للمضاعفة كالأعمال التي تحصل فيها الأسوة والاقتداء، وهذا مما يدخل في القاعدة المشهورة: قد يَعْرِضُ للعمل المفضول من المصالح ما يصيِّره أفضل من غيره.

ومما هو كالمتفق عليه بين العلماء الربانيين أن الاتصاف في كل الأوقات بقوة الإخلاص لله، ومحبة الخير للمسلمين مع اللهج بذكر الله لا يلحقها شيءٌ من الأعمال، وأهلها سابقون لكل فضيلة وأجر وثواب، وغيرُها من الأعمال تبعٌ لها؛ فأهل الإخلاص والإحسان والذكر هم السابقون السابقون المقربون في جنات النعيم+( ).

11_ وقال × حاثاً على العلم، مبيناً فضله: =فالعلم عبادة تجمع عدة قربات: التقرب إلى الله بالاشتغال به؛ فإن أكثر الأئمة نصوا على تفضيله على أمهات العبادات _ وذلك في أوقاته الزاهرة بالعلم، فكيف بهذه الأوقات التي تلاشى بها وكاد أن يضمحل، والاستكثارُ من ميراث النبي " وأن من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، ونفعه واصل لصاحبه، ومتعدٍّ إلى غيره، ونافع لصاحبه حياً وميتاً، وإذا انقطعت الأعمال بالموت، وطويت صحيفة العبد _ فأهل العلم حسناتهم تتزايد كلما انْتُفِع بإرشادهم، واهْتُدِي بأقوالهم وأفعالهم؛ فحقيق بالعاقل الموفق أن ينفق فيه نفائس أوقاته، وجواهر عمره، وأن يعده ليوم فقره، وفاقته+.( )

12_ وقال × في كتابه (وجوب التعاون بين المسلمين ص25_26) في فقرة عنوانها (الاعتناء بالتربية والتعليم من أصول الجهاد): =قال الله _ تعالى _: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً] التحريم: 6، وذلك بالتعليم، والتأديب، والتربية.

وقال _ تعالى _: [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ] الزمر:9.

وذلك أن من أعظم أنواعِ الإصلاح، والجهادِ _ التربيةَ الدينيةَ، والاهتمامَ التام، والاعتناء الكامل بشباب الأمة؛ فإنهم محلُّ رجائها، وموضعُ أملِها، ومادةُ قوتها، وعزها.

وبإصلاح تربيتهم تصلح الأحوال؛ فيكون المستقبل خيراً مما قبله.

فعليهم أن يربوهم تربية عالية، ويبثوا فيهم روح الدين، وأخلاقه الجملية، والحزم، والعزم، وجميع مبادئ الرجولة والفتوة والمروة، وأن يدربوهم على الصبر، وتحمل المشاق الذي يفضي إلى النجاح، والمثابرة في كل عمل نافع، ويحذروهم من الجبن، والكسل، والسير وراء الطمع، والمادة، والانطلاق في المجون، والهزل، والدعة؛ فإن ذلك  مدعاة للتأخر الخطير.

وشبابُ الحاضر هم رجالُ المستقبل، وبهم تعقد الآمال، وتدرك الأمور المهمة؛ فعليهم أن يجتهدوا ليكونوا في خصال الخير والفضائل المثل الأعلى، وبأوصاف الحزم والمروة والكمال القدوة المثلى.

ومن أعظم أركان التربية العامة النافعة _ إصلاح التعليم، والاعتناء بالمدارس العلمية، وأن يختار لها الأكفاء من المعلمين، والأساتذة الصالحين الذين يتعلم التلاميذ من أخلاقهم الفاضلة قبل ما يتلقون من معلوماتهم العالية.

ويختار لهم من فنون العلم الأهم فالأهم من العلوم النافعة الدينية والدنيوية المؤيدة للدين.

وأن تكون العلوم الدينية هي الأصل، والأساس الأقوم، ويكون غيرها تبعاً لها، ووسيلة إليها.                                                                         

وأن يكون الغرض الوحيد من المتخرجين في المدارس، الناجحين في علومها _ أن يكونوا صالحين في أنفسهم، وأخلاقهم، وآدابهم، وأن يكونوا مصلحين لغيرهم، راشدين مرشدين، مهتمين بتربية الأمة+.

وقال في موضع آخر ص8_9 تحت فقرة عنوانها (الجهاد المتعلق بالمسلمين بقيام الألفة واتحاد الكلمة): =فإن من أعظم الجهاد السعي في تحقيق هذا الأصل في تأليف قلوب المسلمين، واجتماعهم على دينهم، ومصالحهم الدينية والدنيوية في جميع أفرادهم وشعوبهم، وفي ربط الصداقة والمعاهدات بين حكوماتهم بكل وسيلة.

ومن أنفع الأمور أن يتصدى لهذا الأمر جميع طبقات المسلمين من العلماء والأمراء والكبراء وسائر الأفراد منهم كل بحسب إمكانه+.

13_ وقال × في شرح حديث: =إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ ينتفع به من بعده، أو ولدٍ صالح يدعو له+( ).

قال: =دار الدنيا دار عمل، يتزود منها العباد من الخير، أو الشر للدار الأخرى، وهي دار الجزاء.

وسيندم المفرطون إذا انتقلوا من هذه الدار ولم يتزودوا لآخرتهم ما يسعدهم، وحينئذ لا يمكن الاستدراك، ولا يتمكن العبد أن يزيد حسناته مثقال ذرة، ولا يمحو من حسناته كذلك.

وانقطع عمل العبد إلا هذه الأعمال الثلاثة التي هي من آثار عمله.

الأول: الصدقة الجارية: أي المستمر نفعها، وذلك كالوقف للعقارات التي ينتفع بمغلَّها، أو الأواني التي ينتفع باستعمالها، أو الحيوانات التي ينتفع بركوبها ومنافعها، أو الكتب والمصاحف التي ينتفع باستعمالها والانتفاع بها، أو المساجد والمدارس والبيوت وغيرها التي ينتفع بها.

فكلها أجرُها جارٍ على العبد ما دام يُنْتفع بشيء منها.

وهذا من أعظم فضائل الوقف، وخصوصاً الأوقاف التي فيها الإعانة على الأمور الدينية، كالعلم، والجهاد، والتفرغ للعبادة، ونحو ذلك.

ولهذا اشترط العلماء في الوقف أن يكون مصرفه على وجهة برٍّ وقربة.

الثاني: العلم الذي ينتفع به من بعده: كالعلم الذي علَّمه الطلبة المستعدين للعلم، والعلم الذي نشره بين الناس، والكتب التي صنفها في أصناف العلوم النافعة.

وهكذا كل ما تسلسل الانتفاع بتعليمه مباشرة، أو كتابة؛ فإن أجره جارٍ عليه.

فكم من علماء هداة ماتوا من مئات من السنين كتبهم مستعملة، وتلاميذهم قد تسلسل خيرهم، وذلك فضل الله.

الثالث: الولد الصالح: ولدُ صلبٍ، أو ولدُ ابنٍ أو بنتٍ ذكرٌ أو أنثى ينتفع والدُه بصلاحه، ودعائه.

فهو في كل وقت يدعو لوالديه بالمغفرة والرحمة، ورفع الدرجات وحصول المثوبات.

وهذه المذكورة في هذا الحديث هي مضمون قوله _ تعالى _: [إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ] يس: 12.

فـ: [مَا قَدَّمُوا] هو ما باشروه من الأعمال الحسنة، أو السيئة.

و[آثَارَهُمْ] ما ترتب على أعمالهم مما عمله غيرهم، أو انتفع به غيرهم.

وجميع ما يصل إلى العبد من آثار عمله ثلاثة:

الأول: أمور عمل بها الغير بسببه، وبدعايته، وبتوجيهه.

الثاني: أمور انتفع بها الغير أيَّ نفع كان على حسب ذلك النفع باقتدائه به في الخير.

الثالث: أمور عملها الغير وأهداها إليه، أو صدقة تصدق بها عنه، أو دعا له، سواء أكان من أولاده الحسيين أو من أولاده الروحيين الذين تخرجوا بتعليمه، وهدايته وإرشاده، أو من أقاربه وأصحابه المحبين، أو من عموم المسلمين بحسب مقاماته في الدين، وبحسب ما أوصل إلى العباد من الخير، أو تسبب به، وبحسب ما جعل الله له في قلوب العباد من الود الذي لا بد أن تترتب عليه آثاره الكثيرة التي منها: دعاؤهم، واستغفارهم له.

وكلها تدخل في هذا الحديث الشريف.

وقد يجتمع للعبد في شيء واحد عدة منافع، كالولد الصالح العالم الذي سعى أبوه في تعليمه، وكالكتب التي يقفها، أو يهبها لمن ينتفع بها.

ويستدل بهذا الحديث على الترغيب في التزوج الذي من ثمراته حصول الأولاد الصالحين، وغيرها من المصالح، كصلاح الزوجة، وتعليمها ما تنتفع به، وتنفع غيرها، والله أعلم+.( )

14_ وقال × حاثاً على حفظ السر، محذراً من إفشائه: =كن حافظاً للسر، معروفاً عند الناس بحفظه؛ فإنهم إذا عرفوا منك هذه الحال أفظوا إليك بأسرارهم، وعذروك إذا طويت سر غيرك الذي هم عليه مشفقون، وخصوصاً إذا كان لك اتصال بكل واحد من المتعادين؛ فإن الوسائل لاستخراج ماعندك تكثر وتتعدد من كلٍ من الطرفين، فإياك إياك أن يظفر أحد منهم بشيء من ذلك تصريحاً أو تعريضاً.

واعلم أن للناس في استخراج ماعند الإنسان طرقاً دقيقةً، ومسالكَ خفيةً؛ فاجعل كل احتمال_وإن بعد_على بالك، ولا تؤتَ من جهةٍ من جهاتك؛ فإن هذا من الحزم.

واجزم بأنك لاتندم على الكتمان، وإنما الضرر، والندم في العجلة، والتسرع، والوثوق بالناس ثقةً تحملك على ما يضر+.( )

=ثالثاً: لطائف من سيرة الشيخ عبدالرحمن السعدي+

 سيرة الشيخ عبدالرحمن السعدي وحياته ترجمة عملية لما يحمله ويدعو إليه من علم وخلق، وعبادة.

وإذا أنعمت النظر في سيرته، وسمعت ما يذكر من أخباره تجلت لك شخصية الشيخ × في مظهر العالم العامل الذي يتمثل أخلاق الإسلام بيسر وسهولة.

وفيما يلي من صفحات لُمعٌ ونماذج من تلك السيرة الغراء، وقد أفدت فيها من رواية ابنه الأستاذ محمد بن عبدالرحمن السعدي، الذي أملى شيئاً من سيرة والده، ثم قام بكتابتها حفيد الشيخ الأستاذُ مساعد بن عبدالله السعدي ابن ابنة الشيخ؛ حيث أخرج تلك الإملاءات وزاد عليها ما يعرفه عن سيرة جده في مذكرة أسماها: (مواقف اجتماعية من حياة الشيخ الوالد عبدالرحمن بن ناصر السعدي)، وقد بعث بها إليَّ مشكوراً مأجوراً( ).

كما أفدت من الروايات الشفوية التي سمعتها من بعض أقارب الشيخ، ومحبيه وتلامذته، وخصوصاً عبدالرحمن وعبدالعزيز ابني أخيه حمد( )؛ فإلى تلك اللطائف التي تُبِين عن حلم الشيخ وعلمه، وكرمه، وبساطته، ونبله، واستواء طرائقه، وحبه للناس، وحرصه على نفعهم، إلى غير ذلك من تلك السجايا الكريمة.

كان الشيخ عبدالرحمن × حريصاً كل الحرص على تطبيق السنة، ويتجلى ذلك من أمور كثيرة.

منها أنه كان يقتصد في وضوئه؛ فلا يزيد على مقدار كأس أو كأس ونصف من الماء.

وكان يصوم أيام البيض من كل شهر، وكان مقتصداً في مأكله ومشربه.

وكان لا يحرص على الأدوية؛ توكلاً على الله _ عز وجل _.

وكان يحرص على قيام الليل وإحيائه بالذكر، والصلاة، والتلاوة.

بل يظهر أنه كان يطيل قيام الليل، وشاهد ذلك _ كما يقول ابنه محمد _ أنه كان لديه دلةٌ صغيرة يصنع فيها قهوة البن، ويقوم بتسخينها، وشربها بين التسليمات؛ لأجل أن يقوى، وينشط على قيام الليل، ولكيلا يغلبه النوم.

وكان × سخياً جواداً في كل مراتب السخاء والجود، سواء كان ذلك في العلم، أو المال، أو الوقت، أو الجاه، أو العفو، أو الخلق، أو الإكرام، أو البشاشة والبسطة أو غير ذلك من مراتب السخاء والجود.

ومن مظاهر ذلك أنه كان يهش للأضياف، ويقوم على خدمتهم، ويصنع الشاي والقهوة لهم بنفسه، وسيأتي مزيد بيان لذلك.

وكان عزيز النفس، ويتجلى ذلك المعنى في كثير من الأمور؛ ومن ذلك أنه _كما يقول ابنه محمد_ لا يحب أن يكلف أحداً بأي عمل، ولا يرغب بأن يأمر أحداً من الناس.

وفي بعض فصول الشتاء يتجمد الماء، ومع ذلك يتوضأ منه، ولا يكلف أحداً من أهل بيته بتسخينه.

وكان يقوم بصيانة منزله بنفسه، كفتح باب في الجدار، أو عمل رفوف، أو ترقيع المنزل، أو سد الشقوق التي ينزل المطر من خلالها.

وكان يغسل ملابسه بنفسه؛ لأجل أن تفرغ زوجته لباقي أعمال المنزل.

بل كان يقوم على رعاية بهائمه، وكانت عنده بقرة، وكان يوليها اهتمامه، ولا ينام إلا وقد تأكد من وجود عشائها عندها، وكونها في مكان دافئ خصوصاً في ليالي الشتاء الباردة.

وكان يحمل الأحجار الثقيلة إلى مكان حفظ التمر _ أو ما يسمى بـ: الجصة _ دون طلب مساعدة من أحد،  مما كان له أثره في جسده.

وكان لا يطلب من أحد نسخ كتبه أو شيء من مؤلفاته، بل كان يعطي بعض النساخ من طلبة العلم أجراً؛ لأجل ذلك.

وكان ورعاً، ومن دلائل ذلك أنه لم يكن يأخذ شيئاً من حقوقه المقررة له من أوقاف الجامع، بل يفرقها على المحتاجين.

وكان حريصاً على نفع الناس، وكانت الصدقات والزكوات تُرسَل إليه من قبل بعض الموسرين سواء من عنيزة أو من خارجها، فيقوم بتسجيلها، وضبطها، وإرسالها بمعرفته إلى مستحقيها، ثم يكتب إلى المحسنين يبين لهم كيفية وصول صدقاتهم أو زكواتهم إلى أهلها.

وكان له برنامج ونظام يومي، يبدؤه بقيام الليل _ كما مر _ وعند أذان الفجر يذهب إلى المسجد الجامع، فيؤم المصلين.

 ثم بعد ذلك يذهب إلى منزل صديقه الخاص الشيخ يوسف بن عبدالعزيز الشبل، فيتناول عنده القهوة والحليب فحسب، ثم يتدارسون ما تيسر من القرآن الكريم تلاوةً، وحفظاً.

 ويحضر مجلسهم ذلك عدد من الأصدقاء وطلبة العلم.

وبعد طلوع الشمس بما يقرب من نصف الساعة ينفض ذلك المجلس، وينصرف الشيخ إلى منزله، أو إلى بيت مَنْ دعاه إذا كان مدعواً عند أحد.

وإذا دخل منزله سلم على أهل بيته، وتحدث إليهم، ثم بعد ذلك يذهب إلى المسجد الجامع لإلقاء دروسه.

 وفي الساعة التاسعة والنصف يعود إلى منزله؛ ليتناول ما يتيسر من الطعام مع أولاده، ثم يعود إلى المسجد لإلقاء الدروس.

وبعد ذلك يعود إلى منزله، ويجلس للمطالعة والتأليف والكتابة، والرد على الرسائل التي ترد إليه من الداخل والخارج.

وكانت أوقاته مليئة بالقراءة، والكتابة، والتأليف، والعلم، والتعليم، والفتوى، وقضاء حوائج الناس، والقيام بمصالحهم، وإجابة دعواتهم.

وكان له مكان بأعلى درج المنزل يجلس فيه للقراءة، والكتابة، والتأليف وهذا المكان منعزل، هادئ يدخله النور والهواء، ومساحته صغيرة تقع في متر ونصف طولاً، ومتر ونصف عرضاً.

ويوجد فيه بساط يجلس عليه، ومتكأ يتكئ عليه.

وكان في ذلك المكان كُوَّةٌ تطل على السوق؛ فيرى من خلالها الناسَ، ويسمع كلامهم، وهم لا يرونه ولا يسمعون كلامه.

يقول الأستاذ مساعد السعدي _ حفيد الشيخ _: =وقد روت لي الوالدة _حفظها الله_ وهي تتذكر تلك الأيام التي يجلس فيها والدها الشيخ × في ذلك المكان الضيق الطيني الذي خرج منه المؤلفات العظيمة _ أنها كانت تراه معظم أوقاته والقلم بيده، والدفاتر والأوراق بجانبه.

وتتذكر أنه كان يجاذبها الحديث، ويده تكتب، فلا يمل من الكتابة ولا التأليف، والنسخ، والرد على المستفتين، وتدوين صكوك الأوقاف القديمة والجديدة، وتثبيت المداينات بين الناس+.

وكان قبل أذان الظهر بخمس وأربعين دقيقة يخلد إلى النوم، وقبيل الأذان يقوم، ويتوضأ، ويذهب إلى المسجد.

وبعد صلاة الظهر يذهب لمن استضافه على القهوة، وكان كثيراً ما يجيب دعوات الناس، ولا يزيد في تلك المجالس على نصف الساعة إلا في بعض الأحيان.

وبعد ذلك يذهب إلى منزله، ويتوضأ، ثم يتوجه إلى المسجد لإلقاء دروسه حتى أذان العصر، ثم يصلي، وبعد الصلاة يُقرأ عليه في كتب الحديث أو غيرها، ثم يقوم بالتعليق اليسير الذي لا يزيد على ربع الساعة.

وبعد ذلك يرجع إلى بيته، ويجلس في المكان الذي اعتاد فيه على المطالعة والتأليف، ثم يتناول طعام العشاء كما هي عادة كثير من أهل نجد في ذلك الزمان؛ حيث يتناولون العشاء في منتصف العصر.

يقول ابنه محمد: =وبعد أن يعد الطعام أنادي الوالد من أسفل الدرج _ وأقول له بلهجة أهل نجد: يبه يبه: العشاء جاهز.

ومن لطفه × وتواضعه يرد قائلاً: سَمْ سَمْ.

وهي كلمة معروفة عند أهل نجد تفيد اللطف، والإجابة، والموافقة، والاحترام، وغالباً لا تصدر إلا من الصغير في حق الكبير.

ولكن الشيخ؛ لفرط لطفه يقولها لولده.

وقبل غروب الشمس بمقدار نصف الساعة يذهب وحده، أو بصحبة صديقه الشيخ عبدالعزيز بن محمد البسام ×ت1413هـ  إلى مزرعة المنصور، وهي قريبة من المسجد فيتوضآن، ويستعدان للصلاة، ومع أذان المغرب يكون الشيخ في المسجد لإمامة الناس.

وبعد صلاة المغرب يجلس لدرس التفسير، ويحضر لديه جمع من طلاب العلم وغيرهم؛ فيستمر الدرس إلى أذان العشاء، وكان الشيخ يلقي الدرس بلغة قريبة مفهومة، ويجيب على أسئلة الحاضرين بأسلوب ميسر قريب للخاصة والعامة.

وبعد ذلك يؤم الناس للصلاة، ويراعي أحوال المصلين، وكان له صوت جميل بالقرآن.

وبعد صلاة العشاء يذهب إلى منزل من يستضيفه على القهوة، ويجلس عنده نصف ساعة ثم يرجع إلى منزله.

وفيما بين الساعة التاسعة إلى العاشرة ليلاً بالتوقيت الزوالي يكون الشيخ قد آوى إلى فراشه؛ للنوم؛ فهذا هو نظامه اليومي على سبيل التقريب.

وكان × يكثر من تلاوة القرآن ومراجعته في شهر رمضان.

وكان × يجيب عن أسئلة النساء؛ اقتداءاً بالنبي " حيث يحضر إلى منزل الشيخ نسوة كثيرات، فيجلسن، فيسألن الشيخ، وهو يجيب عن أسئلتهن.

وإذا كانت الأسئلة خاصة، أو فيها شيء من الحرج ألقت الواحدة منهن السؤال على أم عبدالله زوجة الشيخ  _ رحمها الله _ ثم تقوم بإلقائه على الشيخ مباشرة والنسوة يستمعن، فيقوم الشيخ بالجواب عن السؤال.

وكان × يفسر الأحلام أحياناً؛ فإذا كان الحلم مزعجاً حث السائل على تقوى الله وأرشده إلى بعض الآداب الخاصة بالرؤيا.

وإذا كانت الرؤيا مبشرة هنأ الرائي، وأوصاه بشكر الله.

وكان × حافظاً للسر؛ فلا يفشيه لأقرب الناس إليه؛ فتأتيه المرأة، وتخبره بما حدث لها مع زوجها، والزوج كذلك يخبره بما حدث بينه وبين زوجته؛ فيجدون العلاج الناجع، والطب النافع.

وهكذا كان الناس يستشيرونه، ويعرضون عليه مشكلاتهم.

يقول ابنه محمد: =وما كنا نعرف ما يدور بينه وبين أصحاب المشكلات حتى نسمع ذلك من أصحاب المشكلة أنفسهم.

أما الوالد فكان حافظاً لأسرار الناس+.

وكان × حريصاً على جمع الكلمة، مجتنباً كل سبب يفضي إلى الفرقة والشقاق؛ لذا فإنه لم يكن يحب الدخول في القضاء، وشؤون قاضي البلد.

ومما يؤثر عنه في ذلك أنه كان يرى أن التلفظ بالطلاق بالثلاث في مجلس واحد أنها تقع طلقة واحدة.

لكنه لم يكن يفتي بذلك؛ لأن الفتوى السائدة آنذاك كانت بخلاف ما يراه؛ فإذا سئل في موضوع الطلاق أحال السائل إلى القاضي؛ لأنه يرى أن في ذلك مصلحة واجتماعاً، وبعداً عن سبل الشقاق.

وكان يطالع في الصحف، والمجلات الإسلامية التي تصدر في المملكة وخارجها، بل كان يشارك فيها، ويراسل أصحابها؛ فله مقالات _ على سبيل المثال _ في مجلة المنار التي يصدرها الشيخ محمد رشيد رضا، كما في مقالة له في عددها الصادر سنة 1346هـ وله عدة مقالات متسلسلة في العدد الثالث عام 1367هـ، من مجلة المنار التي أسسها الأستاذ عبدالقدوس الأنصاري×.

كما كان يشارك في الكتابة في مجلة اليمامة التي أسسها الشيخ حمد الجاسر×.

وكان يحرص على تطييب قلوب الناس، وإدخال السرور عليهم؛ فكان يفاجئ المرضى، وكبار السن بالزيارة.

وإذا علم أن أحداً من أصدقائه عنده مأدبة أتى إليهم ولو بدون موعد؛ لعلمه أن ذلك يَسُرُّهم.

وكان إذا أراد الدخول إليهم طرق الباب بالعصا حتى يشعرهم أنه قادم؛ وخشية أن يفجأهم؛ فيحرجهم.

ولقد أسر إلى بعض أصدقائه من طلبة العلم الذين يرافقونه في الدعوات _كما يقول ابنه محمد_ أَنْ إذا كنا في مناسبة، وكثر اللغط من قبل الحاضرين فاسألني سؤالاً، أو اذكر مسألة علمية؛ حتى أجد مدخلاً أرفع فيه المجلس عن ذلك اللغط.

وهذا من ذوقه، ولطفه، وحسن تأتِّيه؛ فإذا تكلم أنصت الحاضرون، وتحول مجلسهم إلى مجلس علم، وفائدة، ومتعة حقة.

ولا تخلو مجالسه × من الطرافة، والفكاهة، والمزاح اللطيف الخفيف الذي يدخل السرور والنشاط على الحاضرين.

وكان كثيراً ما يمازح الصغار، والكبار، والأغنياء، والفقراء كل بحسبه مع بُعْده عن ساقط الكلام، ومرذوله.

وكان له مستشارون يطلعهم على بعض أموره، ويستنير بآرائهم.

ومن لطائف سيرته أن دورَه لم يكن مقتصراً على الدروس التي تلقى في الجامع, أو المساجد, أو الإشراف على المعهد العلمي فحسب.

بل كان له _ مع ذلك _ محاضرات ودروس مرتبة كل ثلاثاء في معهد عنيزة العلمي, والمدرسة التي أنشأها ابن صالح × فيلتقي هنالك المعلمين والطلاب, ويتحدث إليهم, ويجيب عن أسئلتهم, ويشجعهم على طلب العلم, ويحضر احتفالاتهم, ونواديهم التي يمارسون فيها أنشطتهم الطلابية.

ومن اللطائف في سيرته في التأليف أن أوائل مؤلفاته منظومة أصول الفقه التي انتهى منها في 18/11/1331هـ وعمره أربع وعشرون سنة.

وأنه جمع كتاب الإنصاف ونظم ابن عبدالقوي في ثمان مجلدات, وكان مبتداه في 4/9/1337هـ وعمره ثلاثون سنة, وانتهى منه في جمادى الأول سنة 1339هـ, وقد بلغت صفحاته ألفين وأربعمائة وستة وخمسين صفحة من القطع الكبير.

كما أن أغلب مؤلفاته المشهورة كتبت بين عامي 1355 إلى  1376هـ.

ومن أواخر كتبه؛ كتاب (القواعد والأصول الجامعة والتقاسيم البديعة النافعة) وقد انتهى منه في 22/3/1375هـ, وكتاب (الدرة البهية في حل المشكلة القدرية) وقد فرغ من تأليفه في 8/2/1374هـ, وكتاب (نور البصائر والألباب) وقد انتهى من تأليفه في 27/4/1374هـ.

أما كتابه التفسير _ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان _ فقد بدأ به في 29/3/1343هـ وعمره سبع وثلاثون سنة, وفرغ منه في غرة ربيع الأول سنة 1344هـ، واختصره في كتابه (تيسير اللطيف المنان) في 3/10/1368هـ.

ومن لطائف سيرته في التعليم _ تنويعه في الأساليب, وحرصه على شحذ أذهان الطلاب؛ فلم يكن يتقيد بأسلوب واحد, أو طريقة معتادة؛ فمن الطرق التي كان يأخذ بها _ كما يقول حفيده الأستاذ مساعد _ أنه يقسم الطلاب إلى فرق, ومجموعات عمل؛ فكل فرقة تبحث في مسألة علمية واحدة, ولكل مجموعة رئيس تُسمى به.

وكان × يجمع إجاباتهم في بحث واحد.

يقول حفيده الأستاذ مساعد: =وقد اطلعت على نموذج من هذه البحوث العلمية بعنوان (تذكرة أولي الألباب في ذكر السؤال والجواب مرتب في الفقه على الأبواب من أجوبة أصحابنا الأنجاب).

وهو يحتوي على إجابات الطلاب, واستقصائهم لبعض المسائل الفقهية وأدلتها على ترتيب قراءتهم في مختصر المقنع.

وللشيخ الجَدُّ دور في إكمال البحث؛ بحيث ينظر في الرأي الموافق للصواب, فينتصر له, ويثبته؛ لكي يكون تذكرة لهم ولغيرهم.

وفي مقدمة هذا الكتاب يقول ×: إذا قيل: الجواب لـ: عيد وأصحابه فالمراد بهم: 1_ عبدالله بن عبدالعزيز بن عيد التميمي 2_ إبراهيم بن صالح بن إبراهيم الجفال 3_ عبدالعزيز بن حمد بن إبراهيم المصيريع 4_ عبدالله بن عثمان الحماد الخويطر 5_ محمد بن عثمان الحماد الخويطر 6_ محمد بن منصور الزامل.

وإذا قيل : الجواب لـ علي وأصحابه فالمراد بهم:

1_ علي بن محمد بن عبدالله الخويطر 2_ صالح بن محمد بن حمد ابن عبدالعزيز البسام 3_ أحمد المرشد الزغيبي 4_ ناصر بن حمود العوهلي 5_ صالح ابن محمد بن ناصر العوهلي 6_ عبدالله بن محمد بن ناصر العوهلي 7_ عبدالعزيز ابن محمد بن ناصر العوهلي 8_ زامل بن إبراهيم الزامل 9_ علي بن حسن العلي البريكان 10_ عبدالله بن حسن العلي البريكان+.

ومن الأساليب التي كان ينتهجها في التدريس _ كما يقول تلميذه العلامة الشيخ محمد بن عثيمين × _ إيراد بعض المسائل بصورة مغلوطة؛ حيث كان يختبر طلابه بذلك؛ فينظر هل يراجعونه في ذلك, ويدركون الخطأ أوْ لا؟

وكان يرتاح كثيراً إذا ردوا عليه، أو صححوا له.

وكان له أسلوب جميل في حفز الطلاب, وتشجيعهم؛ فكان يعطي الجوائز الثمينة على حفظ المتون العلمية, والإجابة على الأسئلة التي يوردها.

وكان × يبعث فيهم دوافع التعلم, والبحث في المعارف الجديدة.

ومن طرقه الرائعة في إلقاء الدروس ملائمة أسلوبه لجميع الطبقات _ كما أشار إلى ذلك تلميذه الشيخ عبدالله بن بسام × _ فلا يرتفع على فهم المبتدئ, ولا يهبط عن مستوى إدراك المنتهي.

وكان × يدرب طلابه على التعليم, والدعوة إلى الله؛ فكان يرسل بعض نجباء الطلاب لإمامة الناس في المساجد خصوصاً في صلاة التراويح والتهجد من رمضان، وكان بعضهم يقرأ على المصلين ما حفظوه وأفادوه من دروس الشيخ عبدالرحمن.

ومن أساليبه التربوية أنه كان يكلف من يرى فيه التميز, والكفاءة, والقدرة العلمية من طلابه بتدريس صغار الطلبة.

ومن هؤلاء الذين يقع عليهم اختياره للقيام بذلك: الشيخ محمد بن عبدالعزيز المطوع, والشيخ علي الصالحي _ رحمهما الله _.

ومن طلاب الشيخ علي الصالحي _ الشيخ محمد بن عثيمين _ والشيخ علي الزامل _ رحمهم الله جميعاً _.

وكان × ينوع في الكتب والفنون التي يدرسها؛ فَيُدَرِّس العقيدة, والفقه, والتفسير, والحديث, والمصطلح, والنحو, والأدب وما جرى مجرى ذلك.

ومن الكتب التي كان يدرسها _ كما أشار إلى ذلك تلميذه الشيخ عبدالله ابن بسام _: كتاب التوحيد, والواسطية, والطحاوية, ونونية ابن القيم, وتفسير الجلالين، وصحيح البخاري, ومنتقى الأخبار وعمدة الحديث، وبلوغ المرام، ونظم البيقونية، ونخبة الفِكَر, وزاد المستقنع, والروض المربع, ومنتهى الإرادات, وكتابه منهج السالكين, والإرشاد إلى معرفة الأحكام, ومتن الرحبية, ومتن الورقات, ومختصر التحرير, وقطر الندى في النحو, وألفية ابن مالك, وكتاب الحماسة لأبي تمام, ومعلقة زهير وغيرها من كتب السلف, ومؤلفات أئمة الدعوة, وكتبه, ورسائله الكثيرة.

ومن لطائف سيرته أنه كان حريصاً على تدوين الفوائد واللطائف التي يسمعها أو يقرؤها, أو تمر بخاطره.

ومن اطَّلع على أوراقه ورسائله المخطوطة يجد مصداق ذلك _ كما يقول حفيده الأستاذ مساعد _.

وكان يقوم بتقييد ذلك في أوراق قد يصل حجمها إلى أصغر من كف اليد.

ومن اللطائف في ذلك أنه كان يحرص على استخدام الدفاتر ذات الحجم الكبير, والغلاف السميك؛ التي تُشترى له من عنيزة, أو من مكة المكرمة, أو تهدى له من بعض أبنائه.

ومن أساليبه في التأليف أنه كان لا يطيل في مقدمات كتبه, بل كان يختصرها بما يفي بالغرض, ويشير إلى المقصود.

وفي بعض كتبه لا تتجاوز المقدمة عشر أسطر، وربما خمسة أسطر، وقد يثني على بعض كتبه في مقدماتها؛ لشد ذهن القارىء, وتشويقه, وحفزه.

ومن شواهد ذلك ما قاله في مقدمة كتابه: (القواعد الحسان المتعلقة بتفسير القرآن) حيث قال: =فهذه أصول وقواعد في تفسير القرآن الكريم جليلة القدر, عظيمة النفع تعين قارءها ومتأملها على فهم كلام الله, والاهتداء بها.

ومَخْبَرُها أجل من وصفها؛ فإنها تفتح للعبد من طرق التفسير، ومنهاج الفهم عن الله ما يغني عن كثير من التفاسير الخالية من البحوث النافعة+.

يقول الشيخ محمد بن عثيمين × معلقاً على ذلك الكلام أثناء شرحه للكتاب المذكور: =وثناء شيخنا عبدالرحمن بن سعدي على كتابه ليس بغريب؛ لأن ثناء أهل العلم على مؤلفاتهم لا يقصدون به الفخر والتفاخر على الخلق إنما يقصدون شد الناس إلى قراءتها, والالتفاف حولها.

وله من سلف الأمة قدوة يقول ابن مسعود ÷: (لو أعلم أن أحداً تناله الإبل أعلم بكتاب الله مني لرحلت إليه).

 وكذلك ثناء ابن مالك على ألفيته+اهـ.

ومن أساليب الشيخ عبدالرحمن السعدي × في التأليف والكتابة أنه يختم كتبه بقوله: =قال ذلك وكتبه جامعه العبد الفقير إلى الله في كل أحواله عبدالرحمن بن ناصر بن سعدي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين+

أو يقول كلاماً نحو هذا، ثم يختم بذكر تاريخ الانتهاء من الكتاب.

ومن لطائف سيرته العلمية حصوله سنة 1340هـ على إجازة في رواية الكتب الستة، ومسند الإمام أحمد، وموطأ الإمام مالك، ومشكاة المصابيح من شيخه أبي عبدالله علي بن ناصر أبو وادي الذي تلقاها من محدث الأقطار الهندية السيد محمد نذير حسين الحسيني الدهلوي سنة 1299هـ.

وله إجازة من شيخه إبراهيم بن صالح بن إبراهيم بن عيسى النجدي الحنبلي سنة 1341هـ في رواية الكتب الستة وموطأ الإمام مالك وكتب الصحاح والمسانيد وكتب الفقه والأصول فقال فيها الشيخ ابراهيم×: =هذا وإن ممن لاحظته العناية، وسبقت له منا الهدية، وألقت إليه المعارف والعلوم زمامها، وسلمت إليه البلاغة كمالها وتمامها _ الطالب الراغب صاحب الفهم الثاقب الولد الصالح الذكي الفطن الورع التقي الطاهر القلب السليم المنتخب من أشرف قبيلة بني تميم الناشئ في طاعة الله المعيد المبدي عبدالرحمن بن ناصر بن سعدي، أنار الله بوجوده حنادس المعارف، وأبدى بحقائق تحقيقه مكنونات اللطائف، وصرف المولى عنه صروف الردى، ولازال عَلَماً يستضاء بنوره ويهتدى، قد قرأ علي وسمع أطرافاً من الكتب الستة، وفي مسند الإمام أحمد، ومن الموطأ، وغير ذلك من كتب الحديث والفقه.

وبعد ذلك طلب مني؛ لإحسانه وحسن ظنه بي أن أجيزه بمروياتي، وأوشحه برواية مسموعاتي، وكنت ممن نظمه الأئمة الأعلام في سلك الإسناد، وأجازوه بما يجوز لهم وعنهم رواياته. . . .+

وكان × يستخدم في بادئ تأليفه للكتب القلم الذي يعبأ بالحبر من الدواة ويكتب بالحبر الأسود والأحمر.

وفي آخر عمره كان يكتب بالأقلام الحديثة _ الباركر _.

ويمكن معرفة كتبه التي أعاد نسخها مرة أخرى بدقة الخط وجماله.

وأحياناً كان يكتب أو يعلق بالأقلام الملونة _ الحمراء والزرقاء _ وهي أقرب ما تكون بأقلام الرسم الخشبية _ أشار إلى ذلك حفيده الأستاذ مساعد _ .

ومن لطائف سيرته تنوع خطبه في الجمعة وملائمتها لحاجة الناس وواقعهم، وربطها بواقع المسلمين، وأحوالهم؛ فتارة تتسم خطبه بالوعظ والإرشاد، وتارة تشتمل على التعليم والتنبيه على بعض الأمور، وتارة يخطب عن المطر والسيول، فيذكر نعمة الله، ويحث على مساعدة المتضررين من جرائها، ويوصيهم بالصبر والاحتساب، وتارة يخطب عن الجراد الذي أهلك الحرث؛ فأضر بالمزارعين.

وفي جمعة خطب عن العدوان الثلاثي على مصر سنة 1375هـ من قبل فرنسا وإنجلترا وإسرائيل، وكشف عن مؤامرات أعداء الأمة.

كما كان يخطب بما يلائم المناسبة كرمضان، والحج ونحو ذلك.

وله خطبة عن الأمراض المعدية وحثِّ الناس على أخذ التطعيمات اللازمة الواقية _ بإذن الله _ مع بيان أن ذلك لا ينافي القضاء والقدر، بل إن ذلك من فعل الأسباب التي هي تمام الإيمان بالقضاء والقدر.

وله خطبة في وفاة الملك عبدالعزيز × يذكر فيها عظم المصاب في موته، ويعدد مناقبه، وأعماله الجليلة.

وقد ذيلها على غير عادته بوضع وقت إعدادها، باليوم والساعة، فقال:

=الساعة الثالثة صباحاً 3/3/1373هـ يوم الثلاثاء+.

ولعله استروح لوجود المناسبة في تكرار الرقم ثلاثة؛ فيكون في ذلك نوع طرافة.

وله خطبة سنة 1376هـ وهي من أواخر خطبه ضمنها شكر الوزير ابن سليمان، وحث الناس على معرفة فضله والدعاء له، وشكره ومن أعانه على ما قام به من إيصال المياه إلى بيوت عنيزة، فتيسر لهم بذلك الحصولُ على الماء بلا كلفة.

ومن لطائف سيرته _ كما يقول حفيده مساعد _ أنه أظهر عناية بالنظم والشعر في بواكير عمره، وكان النظم أسهل عليه؛ فقد نظم الدليل في الفقه الحنبلي في أربعمائة بيت من بحر الرجز، وله منظومة في الفقه في سبعة وأربعين بيتاً نظمها سنة 1331هـ،ومنظومة أخرى في السير إلى الله _ عز وجل _.

وله نظم في معنى حديث =مثلي ومثل ما بعثت به كمثل غيث...الحديث+.

وله نظم في طلب العلم، وله أشعار متنوعة من رثاء، واشتياق لأصحابه وطلابه، كتلك القصيدة التي كتبها لأحد طلابه النجباء الذين يحبهم وهو الشيخ محمد بن سليمان البسام المدرس بالحرم المكي الشريف؛ وذلك لما هم بالسفر إلى مكة لأداء الحج عام 1363هـ؛ فناوله الشيخ عبدالرحمن رسالة مختومة، وقال له: لا تفتحها إلا بعد أن تسير مسافة كذا وكذا.

يقول الشيخ محمد البسام: فلما سرنا المسافة التي حددها الشيخ فتحت الرسالة، وإذا فيها أبيات من الشعر تقطر وَجْداً، ومحبة، وأسىً على فراق التلميذ، ومما جاء فيها:

أَذَكرتَ ربعاً من خليطك أقفرا

                   أرسلت دمعاً ذا رذاذ قطرا

أم هاجك الغادون عنه عشيةً

                   لما مشوا وتيمموا أم القرى

إلى آخر ما قال، حتى إن الشيخ البسام تأثر لذلك كثيراً، وقال: وددت أني لم أسافر للحج إلا وأنا معه؛ لما لمسته من محبته وشفقته.

ومما يذكر في سيرة الشيخ السعدي × أنه كان دائم التواصل مع العلماء والمشايخ والقضاة، وذلك عبر المكاتبات التي كانت وسيلة الاتصال في ذلك الوقت؛ فكانت المكاتبات، والأسئلة تترى عليه من مكة، والرياض، والدمام، والجبيل، وجيزان، ونحوها.

كما كانت تأتيه من مصر، والشام، والكويت، والبحرين.

وإذا أتته الرسائل بادر إلى الرد عليها، والإجابة عن الأسئلة الواردة فيها، وكان يضمنها الأشواق، والدعوات، والسؤال عن الأحوال، والأولاد، وسائر الأصحاب.

وقد خرج شيء من ذلك في كتب بعد وفاة الشيخ،ككتاب (الأجوبة النافعة عن الأسئلة الواقعة).

وهي مكاتبات جرت بينه وبين تلميذه الشيخ عبدالله بن عبد العزيز العقيل _حفظه الله_ يوم أن كان قاضياً في منطقة جازان وفرسان جنوب المملكة.

وقد قام على إخراجه، والعناية به الشيخ هيثم الحداد _ حفظه الله _.

وكذلك كتاب (الأجوبة السعدية عن المسائل الكويتية).

وهي مجموعة رسائل جرت بينه وبين بعض علماء الكويت في ذلك الوقت كالشيخ عبدالمحسن الدعيج، والشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري، والشيخ محمد بن سليمان الجراح _ رحمهم الله _.

وقد اعتنى بها وحققها د. وليد المنيس.

وكذلك كتاب (الأجوبة السعدية عن المسائل القصيمية).

وهي مجموعة رسائله التي جرت بينه وبين الشيخ عبدالرحمن بن محمد المقوشي، والشيخ ناصر بن باتل العبري، والشيخ صالح بن مرشد، والشيخ سليمان بن رويشد،والشيخ محمد بن سليمان البصيري،والشيخ سالم بن علي المحفوظ _ رحمهم الله _ .

أما الأصدقاء والأقرباء فهم لا ينقطعون عن مراسلته، وطلب الفتوى منه.

وقد تجد في رسائل بعضهم طلب خدمة في أي أمر من الأمور الدنيوية، وبعضهم يُوْدِعُه أسراره الخاصة كالوصايا والأوقاف، وغيرها.

وكان لا يتأخر عن خدمتهم، وقضاء حوائجهم.

وللتجار نصيب من هذه المكاتبات خصوصاً من كانوا من أهل عنيزة سواء كانوا في مكة, أو الرياض، أو الدمام، أو الجبيل، أو البحرين، أو الهند؛ فهم يثقون بالشيخ، فيرسلون إليه صدقاتهم، وزكواتهم؛ ليقوم بنفسه بتوزيعها حسب ما يراه.

ومما تجدر الإشارة إليه في سيرة الشيخ × أنه كان محل ثقة العلماء والمشايخ خاصة مفتي الديار السعودية آنذاك سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ× فقد عَمَّده الشيخ محمد باختيار مدرسي المعهد العلمي في عنيزة، وكان يستأنس برأيه، كما أنه أقره على المنهج الذي وضعه، وطلب منه الإشراف على المعهد مقابل مبلغ مالي لكن الشيخ عبدالرحمن راجعه في ذلك، وقال: أشرف عليه دون مقابل.

ومن لطائف سيرته وفاؤه المنقطع النظير، وقد مر شيء من هذا القبيل.

ومن مظاهر ذلك أنه لا ينسى فضل ذوي الفضل، بل يحفظ لهم فضلهم، وسبقهم بالمعروف، بل كان ذلك يصل إلى أحفادهم؛ فقد ذكر الشيخ عبدالله ابن عبدالرحمن البسام × في كتابه علماء نجد أنه لما تصدع المسجد الجامع الذي يؤمه الشيخ من جهة مقدمته سنة 1361هـ جعل محمد بن علي بن منصور الزامل مشرفاً على البناء خلفاً لجده منصور الذي وسَّع المقدمة سنة 1246هـ، ولما تصدعت مؤخرة المسجد سنة 1372هـ أسند الإشراف عليها إلى سليمان ابن صالح بن حمد البسام خلفاً لجده حمد الذي وسع المسجد من جهة الخلف سنة 1246هـ.

ومن لطائف سيرته دقته في عرض المسائل، وأنه لم يكن يستنكر أو يستوحش من الاستفادة من المخترعات والتقنيات الحديثة كالبرقية، ومكبرات الصوت، وتبليغ الناس بدخول الشهر بالأصوات، أو الرمي، أو البرقية أو نحو ذلك.

بل إن له كلاماً في مؤلفاته عن المخترعات الحديثة، وبيان أنها من نعم الله، وأنها دليل على قدرته _ عز وجل _.

ويذكر حفيده الأستاذ مساعد أن الشيخ عبدالله العمري × بعث إليه _ أي إلى مساعد _ برسالة عام 1425هـ فَحْواها أن الشيخ العمري تذاكر مع الشيخ محمد بن عثيمين × في بعض مجالسه سيرة شيخهم الشيخ عبدالرحمن السعدي, فقال الشيخ محمد: =لوأتيح لشيخنا عبدالرحمن ما أتيح لكبار العلماء في هذا الوقت من وسائل الاتصال والإعلام الداخلي والعالمي لكان له شأن آخر, ولفاقهم في حسن الذكر ومكارم الأخلاق+.

ومن لطائف سيرته وحلمه, وتغاضيه وعفوه, والتماسه العذر للناس _ ما ذكره الشيخ محمد بن عثيمين × في بعض دروسه؛ حيث ذكر بأنه لما طبع كتاب (القواعد الحسان) للشيخ عبدالرحمن طبعته الأولى تحت إشراف الشيخ محمد حامد الفقي المصري سنة1366هـ، جاءت تلك النسخة تحمل أغلاطاً من تصحيف، ونقص، وتقديم، وتأخير، وسقط، وتصرف في العبارات؛ فظهرت تلك النسخة معيبة كثيرة الخطأ.

وبعد وصولها إلى عنيزة، وتوزيعها على طلاب العلم، وقراءتها على الشيخ تكلم بعض كبار الطلاب مع الشيخ عبدالرحمن بذلك وهم في مجلس الدرس، وطلبوا من الشيخ أن يتكلم مع الناشر وأن يقيم عليه دعوى؛ خاصةً وأن تكاليف الكتاب مدفوعة الحساب مسبقاً؛ فاستمع الشيخ إليهم لكنه بعد مراجعته للكتاب قال ملتمساً العذر للناشر: ما دامت الزيادات أو السقط الحاصل ليس فيه مضادة للمعنى، أو إفساد له _ فاتركوه.

وهكذا تسامح مع الناشر، ولم يطالبه بشيء _ ذكر ذلك حفيده مساعد _.

ولقد يسر الله لهذا الكتاب من قام على إصلاحه، والعناية به، حتى ظهر بحلة قشيبة تسر الناظرين، ألا وهو الشيخ الدكتور خالد بن عثمان السبت _حفظه الله_ .

ومن آخر أخباره في التأليف _ كما يقول حفيده الأستاذ مساعد _ شروعه في تأليف بعض الكتب، لكن الأجل وافاه، وحال بينه وبين إكمالها.

ومن تلك الكتب:

_ شرح كتاب الإيمان (باب معرفة الله والإيمان به) للشيخ المجدد الإمام محمد ابن عبد الوهاب×.

_ وشرح للقواعد الشرعية الأصولية من كتابه (الرياض الناضرة)، وذلك عندما طلب منه أحد المحبين التعليق عليها وشرحها.

_ وشرح أحاديث كتاب (بلوغ المرام).

كما أن للشيخ × بعض الكتب المخطوطة التي تحتاج إلى عناية حتى تخرج.

ومن بديع ما يذكر في سيرته × ما ذكره حفيده مساعد في خاتمة المذكرة التي جمعها عن جده حيث قال: =في شهر رجب من عام 1425هـ دعاني الخال محمد ابن الشيخ عبدالرحمن السعدي إلى دكانه في الدمام، فلما سلمت عليه أخرج من درج مكتبه دفتراً أسود اللون( ) صغيراً بحجم الكف سميك الغلاف، وقال لي: هذا الدفيتر يا مساعد كان عند المرحوم مثل مفكرة الجيب يسجل فيه بعض المعلومات، وجَدْتُه عندي؛ فناولني إياه وقال: خُذْه هدية واطلع عليه؛ فشكرته على ذلك، وغمرتني الفرحة وازدادت لما قلَّبت صفحاته، فوجدت فيه ما لم أجده في مؤلفاته ورسائله الشخصية التي بحوزتي، فصورته صورة مكبرة؛ حتى أتمكن من قراءته، فكنت أطالعها من وقت لآخر، وفي كل مرة أقول: رحم الله الجد كان شعاره محاربة النسيان بالتسجيل والتدوين والكتابة.

وعندما تُقلِّب صفحات هذا الدفتر الصغير تجد التنوع في المعلومة، والدقة فيها، وسوف أذكر بعض ما فيها دون ترتيب:

1_ معلومات وفوائد شرعية منثورة وإجابة على بعض الأسئلة، ومنها سؤال عن محاباة المريض في مرض الموت، وسؤال عن إذا مات المستأجر هل يلزم ورثته تعجيل الأجرة وغيرها من الأسئلة.

2_ كيف يستخدم ظل الشاخص في معرفة أوقات الصلوات الخمس.

3_ مصاريف وحسابات مشتريات البيت الشهرية والسنوية.

4_ الأماكن التي كان يحفظ فيها × نقوده ووصاياه.

5_ المداينات التي يطلب منه أقرباؤه من الرجال والنساء تسجيلها وإثباتها.

6_ حصر الزكوات التي تصل إليه من التجار أو أصحاب المزارع أو الطلاب الموسرين؛ ليقوم بتفريقها بنفسه، وبمعرفته.

7_ تواريخ بعض الأحداث المهمة كتاريخ الانتهاء من بناء المكتبة سنة 1359هـ وترتيب الشيخ محمد العبدالعزيز المطوع مدرساً مبتدئ فيها لتعليم العقيدة والفقه في التاسع من شوال عام 1359هـ.

وكان يسجل تاريخ ميلاد بعض معارفه.

8_ تسجيل الأوقاف التي يوقفها أهل الخير على أعمال البر.

9_ توزيع بعض المواريث الخاصة ببعض الأسر.

10_ الكتب التي استعارها من أبناء الرواف محمد وسليمان سنة 1344هـ.

11_ المبالغ المالية التي تزيد عن حاجة المسجد والمكتبة والتي كان يعطيها بعض التجار الذين يثق بهم لشراء البسط أو أوعية الكيروسين لسرج المسجد، أو التي يطلب منهم المضاربة بها؛ لتعود أرباحها إعانة لطلاب العلم والفقراء من أهل عنيزه.

وكان × يوصي التجار على حفظها، وجعلها في عقار ونحوه، وهو الناظر عليها في حياته، ولم يغفل عن أخذ توقيعهم على ذلك.

12_ ما يستعيره من كتب وأدوات.

13_ سجل في هذا الدفتر بعض أملاك أجداده _ رحمهم الله _.

14_ سجل في هذا الدفتر الأماكن التي وضع فيها وصيته ووصية الجد سليمان والوثائق المهمة.

15_ دون فيه اسمه كاملاً في وسط الدفتر ودون مناسبة فكتب =عبدالرحمن ابن ناصر بن عبدالله بن ناصر بن حمد بن محمد بن حمد السعدي+ وهذه هي المرة الأولى التي وُجد فيها اسمه كاملاً مدوناً.

ودون فيه أسماء بعض قرابته مثل حسين بن ناصر السعدي، وبنته نوره، وأبناء أخيه حمد القاضي، وأسماء أهل حائل مثل الشاعر شايع بن رباح ابن سعدي، ومطلق ابن سالم، وحمود بن عثمان السعدي.

16_ سجل في هذا الدفتر أسماء بعض غرف البيت مثل =القهوة، روشن حصة، روشن برجس، وهكذا..+.

17_ راتب ومعاش من يكلفهم بالتدريس مثل راتب الشيخ محمد العبدالعزيز المطوع والذي كان معاشه ذلك الوقت 15 ريالاً.

18_ طريقة علاج البثرة.

19_ تجديد وكالة للشيخ من أحد المغتربين عن مدينة عنيزة؛ لتزويج ابنة له.

وفي هذا الدفتر بعض الأمور الأسرية الخاصة.

هذه لمع ولطائف من سيرة الشيخ، وسيأتي في الفقرة الآتية مزيد بيان، وشواهد لما مضى، وذلك من خلال ذكر بعض المواقف الخاصة بالشيخ ×.

=رابعاً: مواقف من حياة الشيخ عبدالرحمن السعدي+

للشيخ عبدالرحمن × مواقف كثيرة يتروَّاها الناس، وتتناقلها الأجيال التي عاصرته حتى يومنا الحاضر.

ولا يزال الناس يسمعون بين الفينة والأخرى أطرافاً من سيرة الشيخ ×.

ولعل من آخر ما دُوِّن في هذا الصدد تلك الأوراق المخطوطة التي أملاها ابنه محمد، وأعدها حفيده مساعد، وزاد عليه ما يعلمه من سيرة جده.( )

وقد مضى في الفقرة الماضية ذكر لها، وفيما يلي من صفحاتٍ ذكرٌ لبعض تلك المواقف مع شيء من التعليق اليسير عليها، فإلى تلك المواقف التي تُبِيْن عن بعض المعالم العملية لسيرة الشيخ ×.

1_ هذا موقف يبين أن الشيخ × كان يمازح أصحابه _ كما مر _.

يقول ابنه الأستاذ محمد: =كان للوالد الشيخ صديق عزيز اسمه: عبدالعزيز الدامغ، ويلقَّب بـ: ضعيِّف الله.

ومعنى هذا اللقب عند أهل نجد: المسكين، الضعيف، ولا يلزم أن يكون اللقب مطابقاً لحال من لُقِّب به.

الحاصل أنه في يوم من الأيام كان الشيخ يمشي مع صاحبه عبدالعزيز الدامغ في جماعة من الناس، وكانوا يتحدثون عن الأعمار كما هي عادة كثير من الناس، وكان عُمُرُ الدامغ المذكور آنذاك إحدى وستين سنة، فقال له الشيخ عبدالرحمن: (يا أخ عبدالعزيز يكفيك عمر النبي ").

يعني ثلاثاً وستين سنة، ومعنى ذلك أنه بقي له سنتان فحسب.

فقال عبدالعزيز الدامغ: (حَسَناً، ولكن نبتدئ يا شيخ من الآن).

ومعنى ذلك أن يكون عمره أربعاً وعشرين ومائة سنة، فضحك الشيخ، وأعجب بسرعة بديهة صاحبه+.

2_ وهذا موقف يدل على ملاطفة الشيخ للناس:

يقول ابنه محمد: =كان الشيخ كثيراً ما يوافق على الدعوات التي توجه إليه؛ كي يتناول القهوة، وفي أواخر شهر ذي الحجة من إحدى السنوات دعاه أحد أصدقائه، ولكن الشيخ اعتذر مازحاً، وقال لمن دعاه: أنا عندي مواعيد كثيرة؛ فألح عليه صاحبه، وبدا منه الغضب لرد الشيخ؛ فقال له الشيخ: إذاً يكون موعدك أول السنة القادمة، فغضب صاحبه وقال: أنت لا تريد دخول منزلي.

فقال له الشيخ: يا أخي يوم الثلاثاء القادم هو بداية السنة الجديدة أي بعد يومين، أما علمت أننا في آخر هذه السنة.

فطابت حينئذٍ نفس صاحبه ، وأدرك أن الشيخ يمازحه+.

3_ وهذا موقف يدل على حسن أخلاق الشيخ في السفر:

يقول ابنه محمد: =كان الشيخ حاجاً على الإبل، ومعه جماعة منهم إبراهيم ابن محمد البسام، وسليمان بن إبراهيم البسام.

وكان سليمان المذكور راكباً على الجمل الذي عليه قِرَبُ الماء.

ولما وصلوا مكة، وأدوا بعض المناسك، وحان وقت وصولهم إلى عرفات تفرقوا، وأضاع بعضهم بعضاً، فصار الجماعة ينتظرون سليمان البسام؛ لأن الماء معه، وهم يريدون الوضوء، والشرب، وعمل الشاي والقهوة، وليس عندهم ماء.

ولم يلتقوا إلا في منى، وكان آخرهم وصولاً سليمان؛ فلما وصل قام إبراهيم البسام يعاتبه مازحاً، ويقول له: أين أنت، لماذا تأخرت؟ مُؤَكَّدٌ أنك ضائع؟

ولما علم سليمان أن الشيخ عبدالرحمن كان من ضمن الضائعين التفت إلى إبراهيم وقال: لماذا لا يقع اللوم إلا عليَّ؟ هذا كبيرهم الذي علمهم السحر _ويعني به الشيخ_ ضاع قَبْلَي؛ فلماذا لا يعاتب؟

فقال له إبراهيم: نحن نريد الماء الذي معك؛ فضحك الشيخ لمقولة سليمان، فصار يرددها ويقول: هداك الله يا سليمان شبهتنا بسحرة فرعون، وقال الشيخ: باللهجة الدارجة: هذه تبي حق( )+.

4_ وهذا موقف يبين كيفية توزيعه للصدقات والزكوات.

يقول ابنه محمد: =في شهر رمضان يأتي للوالد زكوات، وصدقات من التجار والمحسنين؛ كي يفرقها على مستحقيها.

وأذكر وأنا صغير أنه يعطيني صرة فيها أموال، ويقول لي: أعط فلاناً وغيره من المحتاجين، وقل له: هذه أموال لك عند والدي؛ فكنتُ أظنه ديناً لهذا الرجل عند والدي.

ولما كبِرتُ علمتُ أنها تورية من الوالد؛ حيث كان أولئك المحتاجون متعففين، ومن أسر كبيرة؛ فكان × بهذه الطريقة يستر عليهم، ويحفظ عليهم كرامتهم وعزتهم، وماء وجوههم، ويبعد عنهم الحرج.

أما عامة الناس فكان يعطيهم بنفسه، أو يعطي من يثق به كي يوصلها إليهم+.

5_ وهذا موقف يدل على حكمته في الدعوة والإنكار.

يقول ابنه محمد: =في ذات يوم اشترى والدي حطباً، وكان من عادة الناس في عنيزة أَنْ إذا اشترى الواحد منهم حطباً طلب من البائع أن يوصل الحطب إلى بيت المشتري، فيضع له أهل البيت ماءاً وتمراً.

وإذا أراد الخروج طرق باب البيت بقوة؛ يعلمهم بخروجه.

وفي يوم من الأيام خرج البائع بعد أن أنزل الحطب، فأراد الوالد الشيخ أن يغلق الباب؛ فوجد في فناء المنزل علبة، فعلم أنها علبة دخان قد سقطت من البائع، فقام وفتح الباب ونادى البائعَ، وقال له: هذه لك _ يريد علبة الدخان _؟ فقال البائع: نعم، ولكن هل تعلم ما بها يا شيخ؟

قال الوالد: نعم بها دخان؟

قال البائع: ومع ذلك سوف تعطيني إياها؟

قال الوالد: نعم لأنك إذا لم تجدها سوف تشتري بقيمة الحطب علبة دخان أخرى، وربما جاع عيالك بسبب ذلك؛ فخذه والله هو الهادي.

فما كان من البائع إلا أن أخذ علبة الدخان، وألقاها في الأرض، وقال: اللهم إني تبت، ولن أعود إلى الدخان مرة أخرى+.

فانظر إلى هذا اللطف، وتلك المعاملة والنظرة، كيف أَثَّر في نفس البائع، وحمله على ترك الدخان؛ فالشيخ × لم يكن لِيُقِرَّه على شرب الدخان، كيف وقد ألف رسالة من أبدع ما ألف في حكم شرب الدخان وتحريمه؟

وما كان _أيضاً_ ليدع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو الذي أبدى فيه وأعاد في كثير من مؤلفاته.

ولكنه × رأى أن المصلحة والحكمة تقتضيان بأن يتعامل مع ذلك الموقف بتلك الصورة التي أدت الغرض، وكان سبباً في إقلاع ذلك الرجل عن التدخين.

6_ وهذا موقف يبين حب الشيخ للناس، وحرصه على نفعهم:

يقول ابنه محمد: =في يوم من الأيام كان الوالد × يتناول طعام العشاء مع أخي أحمد × فَطَرَق البابَ طارقٌ من غير أهل البلد يريد الوالدَ الشيخَ، ففتح له الأخ أحمد، وقال: الشيخ يكون موجوداً بعد قليل، وكان قصد أخي أحمد أن يكمل الوالد طعامه؛ فانصرف الطارق، ورجع الأخ أحمد، وأكمل عشاءه؛ فسأله الوالد: من كان عند الباب؟

فقال الأخ: رجل يسأل عنك، فَصَرَفْتُه، وقلت له: ارجع بعد قليل.

فتكدر الوالد، وعاتب أحمد وقال له: يا وليدي: إن قيامي، وإجابتي السائل أحب إليَّ من جلستي على العشاء، ثم قام × دون أن يكمل عشاءه، وقال لأخي أحمد: لا تعد لمثل هذا _ أصلحك الله _+.

7_ وهذا موقف يبين حلم الشيخ، وسعة صدره، ورحمته بالصغار، وبعده عن التعنيف عليهم:

يقول ابنه محمد: =كانت الوالدة _ رحمها الله _ قادمة من الحج، وفي ذلك اليوم كان عند الوالد في المنزل ابنٌ صغيرٌ لأخي أحمد عمره ثلاث سنوات ، وإذا جاء الليل أرسلوه إلى أمه.

وفي الليلة الأولى لوصول الوالدة من الحج لعب الولد الصغير بساعة الوالد التي تنبهه للقيام في آخر الليل؛ فنام الوالد والساعة مقفلة، فلم يقم تلك الليلة، ولم يصلِّ الفجر بالجماعة.

ولما صلى عصر ذلك اليوم بالجماعة _ وكانوا كثيرين في ذلك الوقت؛ لقرب المسجد من السوق _ شرع عبدالعزيز بن محمد البسام _ أحد طلبة الوالد _ يقرأ كالعادة، والوالد الشيخ يشرح.

وفي تلك الأثناء قام أحد الصغار وهو عبدالرحمن بن إبراهيم بن عبدالمحسن البسام وكان عمره آنذاك اثنتي عشرة سنة، فقال بصوت مرتفع يخاطب الشيخ وهو يشرح، والناس يستمعون له: هَنَّاك الأول( ) يا أبا عبدالله _ يعني الشيخ عبدالرحمن _ قَرَّت عينك بأم عبدالله _ يعني زوجة الشيخ _ الحمد لله على السلامة، الفجر ما صليتَ بالجماعة الظاهر أن أم عبدالله نايمة على رأسك، لا تَعُدْ لذلك مرة أخرى.

فما كان من الشيخ إلا أن ضحك، ولم يستطع إكمال الدرس من الضحك، وهكذا الجماعة؛ من طرافة ذلك الموقف، ثم قام الشيخ الوالد عبدالرحمن من مكانه إلى الصبي عبدالرحمن البسام، وأعطاه ريالين عربي فضة؛ لأنه سُرَّ من كلامه، وكان سبباً في سرور المصلين؛ فصارت تلك الحادثة مدار حديث المجالس في تلك الأيام+.

فانظر إلى هذا الحلم، وتلك الحكمة، وانظر إلى حسن التصرف؛ حيث جعل من ذلك الموقف سبباً للسرور، والبسط؛ فماذا لو عنف ذلك الصبي؟ وما أثر ذلك عليه، وعلى والديه، وعلى جماعة المسجد؟

ولكنه الخلق، والأخذ بالرفق، الذي ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.

8_ وهذا موقف يدل على حكمة الشيخ، وتلطفه في النصح والإنكار:

يقول ابنه محمد: =كان هناك رجل عرف عنه التهاون بصلاة الجماعة، ويحصل منه ظلم لنفسه وللآخرين؛ فعلم الشيخ بحال ذلك الشخص؛ فكان يتحرى الفرصة لمناصحته.

وفي يوم من الأيام تقابل معه الشيخ في الشارع دون موعد، فسلم عليه الشيخ، ورحب به، ولاطفه، وقال له: إما أن تعزمني أو أعزمك( )؛ فقال الرجل: أنا أعزمك يا شيخ، فقال الوالد: دعنا نرى أَيُّنا بيته أقرب من الآخر؛ فتكون القهوة عنده، فقال الرجل: سَمْ _ أي نعم _ فلما نظر وجد أن بيت الوالد أقرب.

فقال الوالد: بيتنا أقرب من بيتكم، تفضَّل معنا.

ولما دخل منزل الوالد قام الوالد بإشعال النار، وإصلاح القهوة والشاي، ثم شرع في الأحاديث الودية، ثم قال له الوالد: كثير من الناس يتكلمون، ويقولون: إنك لا تحافظ على صلاة الجماعة، وإنه يحصل منك تعديات، وأنا لم أُصدِّق هذا الكلام؛ لأنك من أسرة كريمة معروفة.

ولكن يا ولدي تعرف الناس؛ فهم يتعرضون لكل أحد، ولو كان بريئاً.

ولو أخطأ غيره لربما رموه بذلك الخطأ؛ فالأولى بك يا ولدي أن تترفع عن كل ما يقال في حقك، وأن تتجنب كل سبب يفضي بك إلى اللوم.

فما كان من ذلك الرجل إلا أن اقتنع بكلام الشيخ، وتراجع عما كان يقوم به من ظلم وتعدٍّ، وصار يحافظ على الصلاة خصوصاً صلاة الفجر، ولم يعد يتعرض للناس بعد ذلك، وكان يقول: لقد أثر كلام الشيخ فيَّ ولله الحمد+.

9_ وهذا موقف يتجلى به حكمة الشيخ في تغيير بعض العادات الشائعة؛ حيث كان من عادة الناس في نجد في وقت الشيخ أن الرجل إذا تزوج مكث في منزل والده؛ لأنهم يرون أن خروجه من المنزل عقوق، وأنه أمر لا يليق، لكن الشيخ × سعى إلى تغيير ذلك المفهوم عملياً، وذلك من خلال الموقف الآتي.

يقول محمد بن الشيخ عبدالرحمن السعدي: =تزوج الأخ عبدالله الابن الأكبر للشيخ عبدالرحمن في عنيزة، وكان من عادة أهل نجد أن من تزوج لم يخرج من بيت والده، وكنا _ نحن أبناء الشيخ _ نسكن والوالد في بيت واحد.

ولما رزق الأخ عبدالله بأولاد طلب منه الوالد أن يسكن في بيت مستقل هو وأولاده.

وكان الوالد يهدف من وراء ذلك إلى أن يأخذ أخي عبدالله راحته أكثر.

لكن الأخ عبدالله عارض هذا الاقتراح في أول الأمر، وقال: أنا يا والدي مرتاح في السكن معكم، وأخشى أن يتحدث الناس عني، ويظنوا ذلك عقوقاً مني، أو يحسبوا أن بيني وبينك سوء تفاهم، وهذا ما لا أرضاه.

فقال له الوالد: لا تهتم، دع هذا الأمر لي؛ فإذا كان هناك مناسبة أبلغتُ الناس بأن على الوالد إذا تزوج أولاده وهو مقتدر فعليه أن يأذن لهم في السكن في بيوت مستقلة.

وهكذا خرج الأخ عبدالله في بيت مستقل، ولم يتكلم الناس، بل صارت هذه الحادثة محل القدوة عند الناس، وأدركوا أن خروج الولد إذا تزوج عن منزل والده لا يعني شيئاً، وعلموا أن ذلك أفضل للمتزوج، بل ربما يكون أفضل للوالد _ أيضاً _+.

10_ وهذا موقف يدل على رَوِيَّة الشيخ، وتركِهِ الاستعجالَ في الإنكار للأشياء الجديدة؛ حتى يتبين حقيقتها:

يقول ابنه محمد: =في يوم من الأيام كانت عندي دائرة قهوة _ والدائرة تعني دوران الاستضافة على الشاي والقهوة بين مجموعة من الأصدقاء، بحيث تكون كل يوم أو كل أسبوع عند أحدهم في وقت معين إما في الضحى أو المغرب أو غير ذلك _.

يقول: وكان الوالد يفرح إذا جاء أحد عندي، وفي يوم من الأيام دخل علينا الوالد، وجلس يشرب القهوة، وكان من ضمن الحاضرين سليمان بن صالح العليان × فسأل سليمان الوالد، وقال له: يا شيخ! الأمريكان يزعمون أنهم سيصعدون إلى القمر؟

فقال له الشيخ: ما المانع من ذلك، بإمكانهم أن يصعدوا بواسطة آلة ترفعهم أو أي سلطان آخر، ثم قرأ × قول الله _ تعالى _: [يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ] الرحمن:33.

وكان من ضمن الحاضرين عندي في ذلك اليوم عشرة أشخاص؛ فسمعوا كلام الوالد، وتعجبوا منه، بل إن بعضهم لم يستوعب السؤال والجواب؛ لأن هذا الكلام كان عام 1360هـ تقريباً.

ولما كنت عام 1418هـ في سويسرا ذهبت إلى فندق برزدنت للسلام على الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري، وكان ساكناً في الفندق، وله جلسة قهوة وشاي بعد صلاة العصر، وكان من محبي الوالد، وكان يقول: لا أذهب إلى عنيزة إلا وأزور الشيخ ابن سعدي في بيته للسلام عليه.

ولما استقر بنا المجلس عند الشيخ التويجري في صالة الفندق، وكان الحضور خمسة عشر شخصاً، ومن بينهم أمريكي سمعت أنه كان عضواً  بالكونجرس الأمريكي _ تحدث الشيخ عبدالعزيز، وقال للأمريكي بواسطة المترجمين وهو يشير إليَّ: والد هذا الشخص عرف أنكم أيها الأمريكان سوف تصعدون إلى القمر منذ ستين عاماً.

فتعجب الأمريكي من ذلك أشد العجب، ثم قال الأمريكي: هذا _ يعني الوالد _ يرى إمكانية وصولنا إلى القمر قبل ستين عاماً، ويوجد عندنا أناس كثيرون يكذبون ذلك، وينكرونه ؟!

ثم التفت الأمريكي إلى الشيخ التويجري، وقال له: الشيخ ابن سعدي من أهل المجمعة؟ لأنه يعرف أن الشيخ عبدالعزيز التويجري من أهل المجمعة.

فرد عليه الشيخ عبدالعزيز قائلاً: لا، بل هو من أهل عنيزة+.

11_ وهذا الموقف يدور حول تعيين الشيخ عبدالرحمن للقضاء، وتكدره ورفضه لذلك، وفرحه لما علم أنه لن يعيَّن قاضياً:

يقول ابنه محمد _ حفظه الله _: =في عام 1366هـ تقريباً مرت بالوالد الشيخ أزمة قوية أثرت على نفسيته وصحته.

وسبب ذلك خبرٌ بلغ الوالدَ مفاده أنه سيعين قاضياً في عنيزة.

وهذا الأمر مما لا يرغبه الوالد؛ فسافر إلى مكة المكرمة، وحرص على كتمان ذلك عن الناس.

وقد صحبه في تلك الرحلة الحرابي صاحب السيارة، وصالح العبدلي، وعبدالرحمن بن عبدالعزيز البسام.

وكنت مع الوالد في مكة في بيت أخي عبدالله ×.

وكان عندنا في البيت أبو عبود صالح العباد، ومحمد بن منصور الزامل.

وفي تلك الأيام اشتدت الأمور على الوالد؛ خوفاً من إلزامه بالقضاء، وكان يقول: أهل عنيزة أصدقائي، فإذا أصبحت قاضياً صار نصفهم أصدقائي، والنصف الباقي أعدائي، وهذا لا يمكن أن يحدث _ بإذن الله _ وكأنه يستحضر بيت ابن الوردي الذي يقول فيه:

إن نصف الناس أعداء لمن

                   ولي الأعمال هذا إن عدل

وكان الوالد لا يرغب أبداً في القضاء؛ تورعاً؛ لأنه يرى أن القضاء صعب، وأنه ربما عاقه عما هو بصدده من التعليم والإصلاح، والتأليف.

واشتد عليه الأمر لما بلغه أن الملك عبدالعزيز × في عنيزة تلك الأيام، وأنه قال للأمير: =لقد رأينا تعيين الشيخ ابن سعدي قاضياً لكم يا أهل عنيزة+.

ولقد تكدر الوالد لذلك أشد التكدير؛ حتى كان يُغمى عليه في بعض الأوقات، وكان لا يشتهي الطعام إذا مرت بخاطره تلك الأخبار.

كل ذلك مع أن الوالد لم يُبَلَّغْ رسمياً، بل هي مجرد أخبار.

وكان لدى الوالد أمل، وثقة بلطف الله، وأنه _ عز وجل _ سيصرف عنه ذلك الخطب.

وكان × يذهب في آخر الليل إلى المسجد الحرام هو وأبو عبود، ومحمد ابن منصور الزامل،  والأخ عبدالله، فيصلون، ويطوفون حتى صلاة الفجر، وبعدها يجلسون في الحرم إلى أن ترتفع الشمس.

أما أنا فقد كنت شاباً صغيراً أقوم وأصلي في المسجد القريب عند بيت أخي عبدالله، وبعد الصلاة أرجع وأنام؛ حتى يأتي الوالد ومن معه؛ فأقوم وأصحبهم إلى من استضافهم على الإفطار.

وفي يوم من تلك الأيام نمت كالعادة بعد صلاة الفجر، فرأيت فيما يرى النائم رؤيا لم تغب عن بالي إلى يومنا هذا؛ حيث رأيت حيَّةً ضخمة كبيرة طويلة، رأيتها خارجة من جبل، ثم تعلقت، ولم تستطع التحرك من مكانها، وصار الناس ينظرون إليها من بعيد، وأخذوا يتكلمون في شأنها، وكانوا في شأنها على ثلاثة آراء: أناس يقولون: دعونا نشق الجبل، ونخرج الحية، وأناس قالوا: بل نرمي عليها حجارة من أعلى الجبل حتى تموت، وأناس قالوا: بل دعوها وشأنها سواء طلعت أو رجعت؛ فلا تحركوها، ولا تقربوا منها.

ثم استيقظت من النوم، والناس قد تركوا الحية على حالها.

ولقد كان الناس في عنيزة حيال شأن الوالد على ثلاثة آراء: أناس يتمنون أن يصرف الله القضاء عن الوالد، وأناس يتمنون أن يكون قاضياً للبلد، وأناس قالوا: ندع الخيار لله _ وحده _ ونسأله _ عز وجل _ الخيرة في أمرنا.

وبعد أن جاء الوالد ومن معه من الحرم خرجنا جميعاً من بيت أخي عبدالله إلى بيت رجل من الجماعة استضافنا على الإفطار.

وكنت غير مكترث بالرؤيا، ولم أُلْقِ لها بالاً، وكان الوالد ومحمد الزامل والأخ عبدالله يتقدمونني بمسافة عشرة أو خمسة عشر متراً؛ فكنت أسير خلفهم أنا وأبو عبود؛ فحدثت أبو عبود عن الرؤيا وهو منصت قد أخذه العجب، وبعدما فرغت من كلامي انطلق نحو الوالد، وهو ينادي: يا شيخ يا شيخ، فوقف الوالد، فقال أبو عبود: أما سمعت رؤيا ابنك محمد فقال الوالد: خير  _إن شاء الله_ فقصصت الرؤيا على الوالد، وهو منصت، والجماعة يسمعون كلامي، فلما انتهيت، قال الوالد: خيرٌ يكون، أو شرٌّ يهون، يا ولدي إن صدقت رؤياك فأنا _ إن شاء الله _ تخلصت من القضاء.

وبعد مُضِيِّ ثلاث ساعات من هذا الموقف جاء الوالدَ ثلاثُ برقيات بواسطة عبدالله بن محمد العوهلي برقيتان من الرياض: واحدة من آل قاضي، والثانية من عبدالعزيز بن صالح الحماد، وكان يعمل بالديوان الملكي وعلم من البرقيات المرسلة من الرياض إلى عنيزة أنه تم تعيين شخص غير الوالد قاضياً في عنيزة، وأن الملك عبدالعزيز × قال: اتركوا ابن سعدي.

وقد وصلت البرقيات للوالد باسم العوهلي، وكان بحي الجودرية، وكان شريكاً للأخ عبدالله.

والبرقية لغز يبشر الوالد أنه خرج من المستشفى، وبرقية آل قاضي _ أيضاً _ لغز.

أما البرقية الثالثة فهي من عنيزة من عبدالعزيز العوهلي يبشرون الوالد، بخلاصه من القضاء.

المهم أنه لم يأت وقت صلاة الظهر إلا وكان عدد البرقيات ثلاث؛ ففرح الوالد في ذلك اليوم فرحاً شديداً، وخفت آلامه، وكان متردداً في الذهاب إلى عنيزة؛ خوفاً من تولي القضاء.

لكنه لما سمع الأخبار المفرحة قرر من فوره الرجوع إلى عنيزة والحمد لله رب العالمين+.

12_ وهذا موقف يبين حب الناس للشيخ عبدالرحمن السعدي، ورغبتهم في مصاحبته في السفر، وأن ذلك من الأماني التي يتشوفون إليها؛ لما كان عليه الشيخ في السفر من طيب المعشر، وسخاوة النفس، وخدمة الأصحاب..

يقول ابنه محمد: =في إحدى السنوات أراد الوالد الحج، وكان حمد الجبهان صاحب سيارات من عنيزة، وكان طيب النفس، ينفع الناس، ويقوم بخدمة البريد بدون مقابل؛ فلما أراد الوالد الذهاب إلى مكة أعلم حمد الجبهان بذلك، وقال: احجز لي مكاناً على أول سيارة ولكن لا تخبر أحداً بذلك.

ولكنَّ حمداً هذا لم يصبر؛ فمن شدة فرحه بصحبة الشيخ، ورغبته في إدخال السرور على الناس، ولطيبته الزائدة _ قام في سوق عنيزة منادياً بصوت مرتفع: من يرغب السفر إلى مكة في هذه السيارة؛ لأن فيها رجلاً سيسافر، وكلكم تحبونه، وترغبون في السفر معه، ولكن لن أخبركم باسمه.

وما إن قال ذلك حتى علم أهل عنيزة بذلك الشخص، وأنه هو الشيخ عبدالرحمن السعدي؛ فبدأوا بالزحام للحجز في هذه السيارة+.

13_ وهذا موقف يدل على دعابة الشيخ، ومزاحه مع أحبابه وأصحابه.

يقول ابنه محمد: =كان لوالدي × قريب اسمه محمد منصور بن إبراهيم السعدي، وهو صديق للوالد، وقد ولدا في ليلة واحدة؛ حيث ولد محمد أول الليل تقريباً، والشيخ عبدالرحمن ولد عند الفجر؛ فصار محمد يكبر الشيخ بثمان ساعات.

ولما كَبِرا صارت لحية الشيخ عبدالرحمن بيضاء جداً، أما لحية محمد المنصور فكانت سوداء قليلة البياض؛ فإذا اجتمع الوالد مع محمد في مناسبة عند أحد الأصحاب قال الوالد: محمد المنصور أكبر مني بثمان، ويسكت × دون أن يبين ما هذه الثمان؛ فيظن الظان أن محمداً أكبر من الشيخ بثمان سنوات؛ خصوصاً وأن محمداً لا يتكلم؛ احتراماً للشيخ، وهو يعلم أن الوالد يمزح.

وحين يبلغ بالحاضرين العجب يخبرهم الشيخ بأن محمداً أكبر منه بثمان ساعات+.

14_ وهذا موقف يبين لطافة الشيخ مع أهل بيته، ومزاحه وحرصه على إدخال السرور عليهم؛ حيث كان ذلك دأبه.

يقول ابنه محمد: =الوالد _ كغيره _ يدرك أن النساء يتضايقن من حديث أزواجهن عن الزواج عليهن؛ فكان × يمزح مع الوالدة، ويقول لها: أريد أن أتزوج بثانية، ويسميها بـ: أم إبراهيم خصوصاً إذا رأى الوالدة متعبة من عمل المنزل.

وفي يوم من الأيام رآها كذلك، فقال: يا أم عبدالله ما رأيك أحضر لك أم إبراهيم تعينك على عمل المنزل، وتريحك؟

فإذا سمعت الوالدة ذلك غضبت على الوالد، وشرعت في عتابه، وأظهرت النشاط.

وفي يوم من الأيام دخل الوالد المجلس، وأشعل النار، وصنع القهوة والشاي، وأحضر وسادة كبيرة، وألبسها عباءة، فصار الذي يراها من الخلف يظنها امرأة، وسمى هذه الوسادة المغطاة بالعباءة أم إبراهيم.

ووافق ذلك وجود عماتي وهن أكبر من الوالد سناً، ووجود بعض القريبات من محارم الوالد؛ فأتى إليهن وهن جالسات مع الوالدة، وقال: تفضلن عندي بالمجلس أم إبراهيم تدعوكن؛ فأجيبوا، وسلموا عليها؛ هي تنتظركن في المجلس.

فَقُمْنَ كلهن والوالدة معهن، وعندما دخلن القهوة رأين ذلك أمامهن؛ فَظَننَّ أنها امرأة حقيقية، غير أن الوالدة كانت تعلم أنها ليست كذلك، وإنما هي مزحة من الوالد _ كما هي عادته _ فقامت وأخذت شيئاً من الأرض، وضربت الوسادة المغطاة بالعباءة، فسقطت العباءة، وتبين أن المغطى وسادة لا امرأة؛ فتعالت الضحكات، وصارت تلك الحادثة تروى ولا تنسى إلى يومنا هذا+.

15_ وهذا موقف قريب من الموقف السابق، يقول محمد بن الشيخ عبدالرحمن: =للوالد مواقف كثيرة مع الوالدة؛ فهو يحب مداعبتها خصوصاً إذا كانت مجهدة، فإذا كنا على غداء أو عشاء أقول للوالدة: حبذا لو تأذنين لنا بإحضار خويدمة، تساعدك، وتخدم الوالد، ويتزوجها حتى لا تحتجب عنه.

فإذا سمع ذلك الوالد فرح، وأخذ يمدحني، ويقول: هذا هو الولد الحبيب البار بأمه وأبيه، لكن أنتِ يا أم عبدالله ما رأيك، وماذا يضيرك؟

وحين تسمع أمي ذلك يذهب عنها التعب، وتبدأ بالتظاهر بالنشاط؛ لتري الوالد أنها ما زالت شابة، ثم تبدأ بالعتب عليّ، وتقول: أنت يا محمد ولدي، وتريد أن تحضر لي ضرة؟

والوالد يسر كثيراً من كلامي ، ومن رد الوالدة+.

16_ وهذا موقف يدل على تنوع علم الشيخ، واتساع أفقه ومداركه.

يقول ابنه محمد: =لما كنت في مدينة الجبيل رسمت خارطة كبيرة طولها ثلاثة أمتار تقريباً، وقد اقتبست هذه الخارطة من كتاب أطلس العالم، ورتبتها، ولونتها، ووضعت عليها مسارات السفن، وعدد الأميال من بلد إلى بلد، وكذلك حدود الدول.

وفي السنة التي بايع فيها الوالدُ الملكَ سعوداً × بالرياض هو والوفد الذين جاؤوا معه من وجهاء عنيزة _ رجع الوفد إلى عنيزة، أما الوالد فوجدها فرصة لزيارة المنطقة الشرقية والسلام على العم سليمان؛ فسكن الوالد عندي في مدينة الخبر، وفي الصباح أذهب به إلى العم سليمان في مدينة الدمام.

وفي أثناء زيارته شاهد الخارطة التي عملتها، وقد كنت محتفظاً بها؛ فأعجب الوالد بالخارطة؛ لكبرها، ووضوحها، وكونها باللغة العربية.

وقال: يا وليدي هذه خارطة جميلة، ونريدها لمكتبة عنيزة؛ فأجبت طلبه، وَوُضِعَتْ في مكتبة عنيزة.

وفي إحدى السنوات حضر الوزير عبدالله بن سليمان إلى عنيزة، وزار المكتبة، ورأى الخارطة، وأعجب بها، وسأل عمن صنعها؛ فقال له الوالد: إنها من صنع الولد محمد، فطلبها الوزير، فأعطاه الوالدُ إياها، وكان بينه وبين الوزير محبة متبادلة؛ فكان الوالد يحب الوزير لفضله على عنيزة وعلى طلبة العلم خصوصاً، والوزير كذلك كان يحب الوالد، ولا يرد له طلباً.

وكان للوالد اهتمام بالجغرافيا، وكان كثير الاطلاع على الخرائط الجغرافية.

وفي إحدى السنوات أحضرت له هدية، وهي عبارة عن مجسم للكرة الأرضية، وهذا المجسم يدار باليد حول محور فيه.

وكان × يكرر النظر في المجسم، ويحركها، ويسألني عنها، وأجيب عن أسئلته، وأشرح له بعض المصطلحات الجغرافية وهو منصت لي كالطالب بين يدي معلمه.

وكانت تلك الأيام أيام الحرب العالمية الثانية؛ فإذا سمع من بعض الناس أغلاطاً رد عليهم خصوصاً فيما يتعلق بالحدود الجغرافية، ومواقع الدول، ومساحاتها، والمتحاربة منها، وكيف أن الدولة الفلانية تحد الدولة الفلانية، وعن أي طريق يتم ذلك وهكذا، والناس يعجبون من كلام الشيخ، ومعرفته، وقدرته على الإقناع.

ومن سمعه ظن أنه متخصص في الجغرافيا من دقة معرفته فيها.

والوالد × محب لهذا العلم، وذلك نابع من اهتمامه بأمور المسلمين، وعِلمُ الجغرافيا يمده بالتصور التام لما هو بصدده.

والذي يتأمل في بعض كتبه يلحظ ذلك جلياً.

بل كان × يصحح بعض المفهومات الخاطئة في هذا العلم+.

17_ وهذا موقف يدل على اهتمام الشيخ بالأحداث العالمية.

يقول ابنه محمد: =في حياة الوالد × كان وجود المذياع _ الراديو _ نادراً؛ لأسباب عديدة، منها غلاء ثمنه، ولعدم وجود أماكن لبيعه، ولأن الناس لم يتقبلوه في بداية الأمر.

وفي ذلك الوقت كان في عنيزة راديو مشهور وهو موجود في بيت عبدالرحمن بن مقبل الذكير الذي يعد أول من أحضره لعنيزة.

وفي وقت الحرب العالمية الثانية كان الناس يتشوقون لسماع الأخبار، وخصوصاً أخبار الحرب العالمية، وكان الوالد × من المتابعين لأحداثها.

وإذا خرجت مع الوالد من المسجد بعد صلاة العشاء مررنا في طريقنا ببيت عبدالرحمن الذكير، فيطلب الوالد مني الوقوف للاستماع إلى المذياع الموجود في بيت الذكير؛ حرصاً على سماع الأخبار؛ لأن عبدالرحمن الذكير × يرفع صوت المذياع؛ ليسمعه الناس المجتمعون في مجلسه، والذين هم خارج المجلس+.

18_ وهذا موقف يبين كيفية تعامل الشيخ × مع خصومه، ومعارضيه، وكيف كان يداريهم، ويحرص على تضييق هُوَّة الخلاف.

يقول ابنه محمد _ حفظه الله _: =كان في عنيزة رجل من أهل العلم، وكان يعارض أفكار الوالد، وينال منه في بعض المسائل العلمية، ويتكلم، ويسيء إليه في بعض المجالس، ويرد على أقواله واجتهاداته في مسائل عديدة.

ولما علم الوالد بذلك صار يبعثني إلى ذلك الشخص برسائل يخبره فيها أنه راغب في الاجتماع به، ومحب لاستماع وجهة نظره حيال المسائل التي يخالفه فيها، وأنه يود التفاهم معه بصورة ودية؛ حتى لا يحدث عند الناس بلبلة وفتنة.

وذكر له الوالد في معرض تلك الرسائل أنه إذا كان مخطئاً فسوف يتراجع، وإذا كان الحق مع الوالد فيجب على الآخر ترك الوالد وشأنه.

وكانت أغلب اعتراضات ذلك الرجل في مسائل فرعية يسوغ فيها الخلاف.

وكنت في ذلك الوقت صغير السن، وكان الوالد لا يرغب أن يَعْلَمَ أحد بتلك الرسائل؛ بغية الإصلاح، ورغبة في عدم إشغال الناس بتلك الاعتراضات.

وبعد فترة عرفت القصة، وأدركت مضمون تلك الرسائل من بعض أصدقاء الوالد الذين كانوا يتناقشون بخصوص اعتراضات ذلك الرجل.

وقد طلب بعضهم من الوالد أن يلتقي ذلك الرجل في مجلس خاص، للمناظرة في تلك المسائل، فاستجاب الوالد، ولكن لم يتم اللقاء؛ حيث انتقل ذلك الرجل إلى بلد آخر+.

هذا وإن لهذه القصة شاهداً في بعض كتب الشيخ × حيث ذكر ذلك على سبيل العموم؛ ليبين كيف يتعامل الإنسان مع من يخالفه، فقال × في كتابه الفتاوى السعدية ص47 المسألة الرابعة عشرة: =يعجبني ما وقع لبعض أهل العلم وهو أنه كتب له إنسان من أهل العلم والدين ينتقده انتقاداً حارّاً في بعض المسائل، ويزعم أنه مخطئ فيها؛ حتى إنه قدح في قصده ونيته، وادعى أنه يدين الله ببغضه بناءاً على توهم خطئه، فأجاب المكتوب له:

يا أخي إنك إذا تركت ما يجب عليك من المودة الدينية، وسلكت ما يحرم عليك من اتهام أخيك بالقصد السييء على فرض أنه أخطأ، وتجنبت الدعوة إلى الله بالحكمة في مثل هذه الأمور _ فإني أخبرك قبل الشروع في جوابي لك عما انتقدتني عليه: بأني لا أترك ما يجب عليَّ من الإقامة على مودتك، والاستمرار على  محبتك المبنية على ما أعرفه من دينك؛ انتصاراً لنفسي، بل أزيد على ذلك بإقامة العذر لك في قدحك في أخيك بأن الدافع لك على ذلك قصدٌ حسن، لكن لم يصحبه علم يصححه، ولا معرفة تبين مرتبته، ولا ورع صحيح يوقف العبد عند حده الذي أوجبه الشارع عليه؛ فلحسن قصدك عفوتُ لك عما كان منك لي من الاتهام بالقصد السييء؛ فهب أن الصواب معك يقيناً، فهل خطأ الإنسان عنوانٌ على سوء قصده؟ فلو كان الأمر كذلك، لوجب رمي جميع علماء الأمة بالقصود السيئة، فهل سلم أحد من الخطأ؟! وهل هذا الذي تجرأت عليه( ) إلا مخالف لما أجمع عليه المسلمون من أنه لا يحل رمي المسلم بالقصد السييء إذا أخطأ، والله _ تعالى _ قد عفا عن خطأ المؤمنين في الأقوال، والأفعال، وجميع الأحوال؟

ثم نقول: هب أنه جاز للإنسان القدح في إرادة من دلت القرائن والعلامات على قصده السييء، أفيحل القدحُ فيمن عندك من الأدلة الكثيرة على حسن قصده، وبعده عن إرادة السوء ما لا يسوغ لك أن تتوهم فيه شيئاً مما رميته به.؟ وإن الله أمر المؤمنين أن يظنوا بإخوانهم خيراً إذا قيل فيهم خلافُ ما يقتضيه الإيمان، فقال _ تعالى _: [لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً] النور:12.

واعلم أن هذه المقدمة ليس الغرض منها مقابلتك بما قلت؛ فإني كما أشرت لك: قد عفوت عن حقي إن كان لي حق، ولكن الغرض النصيحة، وبيان موقع هذا الاتهام من العقل والدين والمروءة الإنسانية.

ثم إنه بعد هذا أخذ يتكلم عن الجواب وعن انتقاده بما لا محل لذكره هنا+.

19_ وهذا موقف يدل على مراعاة الشيخ لأدب الاستماع، ومراعاة حال المتكلم، وترك مقاطعته، أو الاستخفاف بحديثه ولو كان معلوماً مكروراً.

يقول ابنه محمد _ حفظه الله _: =كان الناس يتوددون للوالد، ويحرصون على صحبته، وتجاذب أطراف الحديث معه، وقد كان يبادلهم الشعور نفسه.

وفي أيام الحرب العالمية الثانية كان الناس يتحدثون مع الوالد، وينقلون له أخبار الحرب، وما سمعوه عنها؛ فيأتيه الواحد منهم ولديه خبر أو قصة سمعها من شخص أو من المذياع؛ فينقله للوالدِ، والوالدُ يصغي إليه، وينصت لحديثه، ويشكره، ويبدي إعجابه، ثم يأتي شخص آخر، فينقل له الخبر نفسه، فيصنع معه الوالد صنيعه مع الأول، فيظن المتكلم أن الوالد لم يسمع الخبر إلا منه، فيشتد فرحه، والوالد يظهر إعجابه، وكأنه لم يسمع الحديث إلا الآن.

وهكذا يتكرر ذلك مع أكثر من شخص؛ فيصنع معهم الوالد كذلك؛ لأجل التحبب إليهم، وجبر خواطرهم، وكسب قلوبهم، وتربيتهم على أدب الحديث والاستماع.

وقد وقفت مراراً على أشياء من هذا القبيل؛ فكان ذلك من جملة الأسباب التي غرست محبته في قلوب الخاصة والعامة+.

20_ وهذا موقف يحكي قصة مرض الشيخ عبدالرحمن× وسفره إلى لبنان للعلاج، و بعض ما حدث في تلك الرحلة من أخبار.

يقول الأستاذ محمد ابن الشيخ عبدالرحمن: =في عام 1373هـ أصيب الوالد× بارتفاع حاد في ضغط الدم، فأثر ذلك على صحته؛ فلما علم الملك سعود × بذلك أمر بإرسال طائرة خاصة من الطائف إلى بريدة، وكان فيها اثنان من الأطباء المتخصصين؛ فلما هبطت الطائرة في مطار بريدة اتجه الطبيبان إلى منزل الوالد؛ للكشف عليه؛ فقررا نقله إلى لبنان؛ لأن حالته شديدة، وقال أحدهما: إنه سيتم الكشف عليه مرةً أخرى في المستشفى الجامعي بلبنان، وتُجْرى له الفحوصات الدقيقة؛ فإذا أمكن علاجه في لبنان فالحمد لله، وإلا ينقل إلى أوروبا للعلاج.

وهكذا تم نقله إلى لبنان، وقد رافقته في تلك الرحلة، وكان معنا أبو عبود صالح العباد× وهو أحد محبي الوالد؛ فكان الوالد يحبه، وكان يؤنس الوالد، ويصنع له القهوة والشاي، وكانا يصليان في المستشفى آخر الليل جميعاً، وكان الوالد يرتاح له كثيراً، ويلغي الكلفة بينه وبينه، وقد كان على متن الطائرة المتوجهة إلى لبنان سبعة أشخاص: الطيار، ومسؤول اللاسلكي، وطبيبان، والوالد، وصالح العباد، وأنا.

وكان مع الوالد ألفا ريال فضة، ولما أخذنا أماكننا في الطائرة ناداني الوالد، وقال: يا محمد فرِّق الألفين عليهم، وكانت تعادل في ذلك الوقت عشرين ألف ريال أو أكثر في وقتنا الحاضر؛ فأعطيت كل واحدٍ ممن معنا خمسمائة ريال فضة؛ ففرحوا بذلك، وشكروا للوالد صنيعه.

وأثناء الطيران كان الاتصال مباشراً بيننا وبين الديوان الملكي حتى وصلنا إلى لبنان، وكان الملك سعود × يسأل عن الوالدِ وهو في الطائرة.

ومن الطريف في هذه الرحلة أن الأطباء لم يُحْضِروا معهم جوازاتهم، وقبل وصولنا إلى لبنان أخبروني بذلك، وقالوا: نحن لبنانيون، ولكن لم نكن نتوقع أنا سنسافر إلى لبنان؛ لذا لم نحضر جوازي السفر؛ فطلبوا مني أن أتدارك الوضع؛ فاتصلت بسفارة المملكة بلبنان عبر اللاسلكي ونحن في الطائرة، وأخبرتهم بحال الأطباء، وأنهم من قِبَل الملك سعود، وأنهم لم يحضروا جوازات السفر؛ فتمت الاتصالات بين السفارة السعودية والحكومة اللبنانية، وتم إعطاء الإذن لهم بالدخول.

وعندما وصلنا إلى مطار بيروت، وفتح باب الطائرة _ كان في استقبالنا السفير السعودي، وسليمان الغنيم × وطبيبان من الجامعة الأمريكية، وسيارة إسعاف؛ فصعد الطبيبان إلى الطائرة، وتحدثوا إلى الوالد، وقاموا بالفحوصات الأولية، وطمأنوه على صحته، وأعلموه باستقرار حاله، ثم نقلوه إلى المستشفى الأمريكي.

وكانت مدة مكث الوالد في المستشفى أسبوعاً على وجه التقريب.

وفي هذا الوقت أعد سليمان الغنيم _ جزاه الله خيراً ورحمه _ بيتاً للوالد بمدينة عالية بجبل لبنان، وكان هذا البيت كبيراً، وقد جعل فيه خادماً، وطباخاً، وسيارة خاصة للشيخ الوالد.

وبعد خروج الوالد من المستشفى واستقرار صحته ذهبنا إلى المنزل في عالية، ومكثنا فيه مدة شهر تقريباً.

وكان طيلة فترته يحن إلى عنيزة، ويرغب كثيراً في الرجوع إليها؛ ففي كل يوم يسأل عن وصول الطائرة التي تُقلُّه إلى الوطن؛ لأن تلك الأيام أيام موسم الحج، والطائرات التي تأتي نادرة.

ولما كنا في لبنان قمنا بزيارة إلى دمشق مدتها يوم واحد، فكانت فرصة للوالد؛ كي يزور قبر شيخ الإسلام ابن تيمية × والسلام عليه، والدعاء له؛ فقد كان الوالد محباً لابن تيمية، متأثراً به.

وفي تلك الفترة كنت أنزل من مكان إقامتنا في جبل عالية إلى بيروت؛ لمراجعة السفارة السعودية؛ لمعرفة موعد وصول الطائرة التي سنرجع عليها إلى المملكة، ولأجل البريد.

أما الوالد فيبقى في المنزل هو وصالح العباد يستقبلان الناس من المعارف والأقارب وغيرهم ممن يفدون لزيارة الوالد.

وقد زار الوالد في محل إقامته خلقٌ كثير، وكان من بينهم أعضاء جمعية عبادالرحمن يتقدمهم رئيسهم الشيخ عمر الداعوق ×.

وقد طلب الأطباء من الشيخ في تلك الفترة أن يدع القراءة؛ لأن ذلك يتعبه، وطلبوا منه الراحة التامة، وألا يجهد فكره.

ولما كان في المستشفى اشتريت له كتاباً عنوانه: (دع القلق وابدأ الحياة) للمؤلف الأمريكي دايل كارنيجي، وهو مدير معهد تدريب في أمريكا.

وقد قرأ الوالدُ الكتابَ، وأعجب به، وبمؤلفه، وقال: إنه رجل منصف.

وكان للوالد صديق عزيز عليه من أهل عنيزة، وكان يعاني من مرض نفسي، ومكث في بيروت مدة سنتين للعلاج ولم يستفد، فأعطاه الوالد ذلك الكتاب، وقال له: اقْرَأْه؛ فهو مفيد جداً؛ فَقَرَأَه، وأفاد منه، وتأثر بما فيه، وتحسنت صحته، بل شفي من مرضه.

وقد أمرني الوالد بشراء نسخة أخرى من هذا الكتاب؛ لكي يوضع في مكتبة عنيزة التي أنشأها الوالد، فاشتريت الكتاب، وأعطيته الوالد، ولما عدنا إلى عنيزة وضعه الوالد في المكتبة، واستعاره عدد كثير من طلاب الوالد.

ولما كان الوالد في مقر إقامته في لبنان أرسل أبا عبود إلى السوق؛ ليشتري أوراقاً وأقلاماً؛ لأنه عزم على تأليف رسالة على ضوء ما كتبه كارنيجي في كتابه المذكور، ثم شرع الوالد في ذلك، فتم له تأليف كتابه الصغير حجماً الكبير نفعاً: (الوسائل المفيدة للحياة السعيدة).

فصارت الأيدي تتناوله، والقراء يتداولونه؛ فعم النفع به، واستدرك مِنْ خلاله كثيراً من الأمور التي فاتت كارنيجي من أصول السعادة.

وقد طبعت تلك الرسالة مراراً كثيرة جداً في حياة الشيخ وبعد مماته.

وإلى يومنا هذا والطلبات من الداخل والخارج تتكرر لأجل طباعتها، بل إن بعض الجمعيات التي تعنى بالطب النفسي تبنت طباعتها، وطبعت منها خمسين ألف نسخة مجانية+.

ويقول الأستاذ محمد مبيناً بعض ما حصل في تلك الرحلة: =ولما كان الوالد في لبنان وافق وجود أسرة عمي حمد بن علي القاضي _ أخو الوالد من الأم _.

ولما علم العم حمد بوصول الوالد إلى لبنان أرسل إلى أسرته يقول لهم: اذهبوا إلى عمكم، وسلموا عليه في مكان إقامته في عالية، وأوصاهم بوصايا، وقال لهم: الله الله بالأدب والاحترام، والتقدير لعمكم.

وبعد ذلك حضر لبيت الوالد ثلاث من بنات عمي ووالدتهم، ففرح والدي بهم كثيراً، وباسطهم، وتجاذب معهم أطراف الأحاديث، وأذهب عنهم الوحشة والكلفة؛ فسروا بذلك كثيراً.

ولما عادوا إلى مكانهم كتبوا إلى والدهم: لقد وجدنا عمنا سمحاً، ليناً، هيناً، بل هو أسمح منك، وقد بسطنا كثيراً؛ فما الذي جعلك تخيفنا منه؟ مع أن الواقع كان بخلاف ذلك+.

21_ وهذا موقف يُبِيْنُ عن بعض أخلاق الشيخ في السفر؛ فقد كان يسافر أحياناً على السيارة، وكانت السيارة المستأجرة في وقته هي السيارة المعروفة بالوانيت، وهي عِبَارة عن غمارة، وصندوق: والمقصود بالغمارة المكان المغطى بالحديد من أعلى بالزجاج الأمامي، والزجاجِ الذي على باب السائق والراكب.

وهذا المكان مخصص للسائق، واثنين أو ثلاثة من الركاب.

والغمارة درجة أعلى من الصندوق الذي يتسع لعدد أكثر ولكنه أقل امتيازاً وراحة بالنسبة للغمارة؛ فالصندوق عبارة عن حوض مكشوف يجلس فيه الركاب مع أغراضهم، وحاجاتهم، وربما مواشيهم.

يقول ابنه محمد: =عندما يسافر الوالد بالسيارة كان يتنقل ما بين الغمارة والصندوق؛ فكان يباسط السائق، ثم إذا أحس منه بإعياء انتقل إلى الصندوق؛ لكي يعطي السائق _ إذا كان مدخناً _ فرصة للتدخين؛ لأنهم يحرجون من التدخين أمام الشيخ.

ولم يكن الشيخ ليقرهم على ذلك، وإنما هي حكمة سلكها الشيخ مع هؤلاء؛ فهم يحتاجون إلى وقت طويل لنصحهم، والأخذ بأيديهم إلى الإقلاع عن التدخين.

ثم إن في ذلك مصلحة أخرى وهي الحفاظ على أرواح الركاب؛ لأن هؤلاء المدخنين يصابون بالصداع إذا طال عليهم الوقت ولم يدخنوا، وقد يغفلون عن الطريق، وينحرفون عنه.

ولقد كان لهذه الطريقة الحكيمة أثر على السائقين، بل إن بعضهم أقلع عن التدخين، وازداد حبهم للوالد بسبب هذا المسلك الرائع.

وإذا كان معهم في السفر نساء فإنهن يكن في مقدمة صندوق السيارة، ويكون الرجال في الخلف على حمولة السيارة؛ فالوالد يغتنم هذه الفرصة للحديث، والتعليم، والفتيا، ويرفع صوته لأجل أن يسمع الرجال والنساء على حد سواء.

وإذا نزلوا في مكان في الطريق سار مسافة، أحضر معه ما يجده من حطب لأجل إشعال النار، وعمل ما يُراد عمله من طبخ طعام، أو إصلاح شاي أو قهوة+.

22_ وهذا موقف يتجلى فيه ذوق الشيخ، ورهافة حسه، ومراعاته للمشاعر.

يقول ابنه محمد: =ذكر لي أخي أحمد × قائلاً: في يوم من الأيام كان الوالد مدعواً إلى مجلس بعد صلاة العشاء، وكنت مرافقاً للوالد.

وبعد انتهاء المجلس خرجت مع الوالد قاصدين منزلنا، وكان الوقت وقت أمطار، والشوارع مليئة بالمياه، والطين، وكانت مظلمة؛ حيث لا توجد أنوار في ذلك الوقت؛ مما جعل السير صعباً.

وفي أثناء سيرنا شاهدت أحد كبار الجماعة يسير أمامنا على بعد خمسين متراً، فزلق في الطين، ثم قام وقد ابتلت ثيابه، واتسخت وهو لا يدري أننا خلفه؛ فذكرت ذلك للوالد، وكنا قريبين من مفترق طرق؛ فقال × دعنا نذهب من الطريق الثاني؛ حتى لا يرانا؛ فيخجل، ويتحرج من رؤيتنا له على تلك الحال؛ فسلكنا الطريق الآخر مع أنه أبعد بالنسبة لنا.

وهذا من حكمة الشيخ وذوقه، ومراعاته لمشاعر الآخرين+.

23_ وهذا موقف تتجلى فيه رحمة الشيخ، وحكمته، وحسن تعليمه.

يقول ابنه محمد: =كان الوالد يمشي في الشارع، فمر به رجل يضرب حماراً له، ويزجره بشدة وقسوة؛ فقال له الوالد: حرام عليك هذا الفعل، أين الرحمة؟

فقال له صاحب الحمار: يا شيخ هذا الحمار لا يمشي.

فاقترب الوالد من الحمار، وأمسك بالحبل المربوط على عنقه، وجره بهدوء، فمشى الحمار، فتعجب الرجل، وقال للوالد: حتى الحمار يعرف إنك شيخ، ويطيعك؛ فضحك الوالد، ولم يعاتبه+.

24_ وهذا موقف يُبِين عن سخاء الشيخ، وعطفه على الفقراء.

يقول ابنه محمد: =روى الأخ عبدالرحمن بن سليمان بن عبدالرحمن البسام قائلاً: في يوم من الأيام المطيرة الباردة وأنا في العاشرة من عمري كنت ذاهباً إلى صلاة الظهر، فشاهدت أمامي الشيخَ عبدَالرحمنِ السعديَّ× وجماعةُ المسجدِ قد صعدوا إلى سطح المسجد؛ لأن الشمس قد طلعت، فصعدوا؛ كي يستدفؤوا تحت حرارة الشمس.

وأثناء صعود الشيخ للسطح من أجل الصلاة بالناس أبصر أحدَ الفقراء وقد جمع بدنه بيديه وهو ينتفض من شدة البرد؛ فرجع الشيخ درجات؛ كي لا يراه أحد من الناس، وخلع بشته _ عباءته _ وخلع ثوبه العلوي _ وكان من عادة بعض الناس في ذلك الوقت أن يلبس في الشتاء ثوبين _ وقام بلف الثوب ثم لبس عباءته، وصعد الدرج مرة أخرى، وقابل الفقير، وأعطاه الثوب؛ فتبلجت أسارير الفقير، وصلى الشيخ بالجماعة، ولم يلحظ أحد شيئاً مما حصل إلا أنا دون علم الشيخ برؤيتي لما حصل؛ فتعجبت من ذلك الفعل، ولا زال عالقاً في ذهني+.

25_ وهذا موقف يدل على تشجيع الشيخ، وحسن تربيته للصغار.

يقول ابنه محمد: =روى لي الأخ عبدالرحمن البسام _ الذي ذكر الموقف السابق _ قائلاً: إنني في يوم من الأيام كنت جالساً في ركن من سطح المسجد، وكنت أقرأ القرآن، وأنا صغير السن؛ فجاء الشيخ عبدالرحمن × وصلى ما كُتِبَ له، ثم التفت إلي وقال: تريد يا عبدالرحمن أن أتدارس أنا وإياك القرآن؟

فقلت: نعم يا عم، فجلست بجانبه، وقال لي: تقرأ أولاً أو أقرأ أنا قبلك؟

فقلت: بل تقرأ أنت يا عم أولاً؛ فشرع الشيخ × بقراءة سورة (النبأ) عن ظهر قلب، وأنا أسمع وأتابع له؛ فلما انتهى من السورة بدأت بالقراءة من سورة (النازعات) وهو يستمع ويتابع، ثم قرأ سورة (عبس) وغلط × فرددت عليه، وأنا لا أعرف هل غلط حقيقة، أو أنه تعمد الغلط؛ لأجل أن أرد عليه؛ فيتأكد من متابعتي له.

وفي تلك الأثناء جاء والدي ونحن في مجلسنا ذلك، فقال له الشيخ: يا أخ سليمان تعال انظر إلى ولدك عبدالرحمن رد علي؛ لأنني غلطت وأنا شيخ، وهو ما غلط.

وقد أراد × من ذلك تشجيعي، ورفع مكانتي عند الوالد؛ فشعرت حينها بأن الفرح قد ملأ قلبي، وأحسست بأنني قد قمت بعمل عظيم، وازداد فرحي حين التفت والدي نحوي، ونظر إلي بسرور وكأنه يقول لي: ما أعظمك من ولد؛ فذكرت تلك الحادثة لوالدتي، وأهلي، وأصدقائي، ولم يزل أثر تلك الحادثة في نفسي إلى وقتنا الحاضر؛ فهي درس في التربية والتعليم والتواضع؛ فغفر الله للشيخ، ورحمه رحمة واسعة+.

26_ وهذا موقف يدل على رحمته بالناس، وحرصه على مواساتهم، وتخفيف معاناتهم.

يذكر ابنه الأستاذ محمد قائلاً: =إن الأخ عبدالله بن عبدالعزيز القرعاوي كاتب عدل الخبر سابقاً _ بلغه نبأ وفاة والده، وكان ذلك يوم خميس، وهو في مكة المكرمة يعمل عند الوزير ابن سليمان بالشؤون المالية، فقرر الذهاب إلى عنيزه، وكان عمره آنذاك أربعة وعشرين سنة تقريباً؛ فمكث في عنيزة إلى يوم الخميس الذي يليه، وفي ذلك اليوم توفيت والدته بمرض التيفوئيد؛ فاغتم لذلك أشد الغم؛ لحبه لوالدته، وحب والدته له، ولاجتماع مصيبتين في وقت يسير.

وكان من عادة أهل عنيزة أن يخرجوا مع أهل الميت إلى المقبرة، ويعزوهم في فقيدهم حال الدفن وبعده، أو في السوق، أو في أي مكان آخر، ويكتفون بذلك.

ولما أحس الوالد الشيخ بحال عبدالله المذكور آنفاً، ورأى آثار الحزن الشديد بادية عليه_ رقَّ له، وخاف عليه؛ فلم يكتفِ بالتعزية داخل المقبرة، بل ذهب إليه في اليوم التالي هو وصاحبه أبو عبود، فزاراه في منزله، وجلس الوالد عنده يواسيه، ويترحم على والديه، ويخفف مصابه، ويقول له: إنني رهن إشارتك، وتحت خدمتك في كل ما ينوبك؛ جبراً لخاطره، وتسلية له.

يقول الأخ عبدالله القرعاوي: إن جلوس الشيخ عندي وفي مجلسي في ذلك اليوم_ أذهب ما في نفسي من الحزن؛ فلا أنسى ذلك الموقف الكريم من الشيخ ×+.

27_ وهذا موقف يدل على حكمة الشيخ، وقوة إقناعه، وحسن عرضه لما يريد.

يقول ابنه محمد: =عندما بدأ الوالد الشيخ باستخدام مكبرات الصوت في خطب الجمعة والعيدين وكان من طليعة المستخدمين لها _ أنكر عليه بعض الناس، لكنه لم يعبأ بذلك، بل استطاع بحكمته وبصيرته إقناعهم بذلك.

وقد عجبت أشد العجب لما جاءه رجل يلبس نظارة، وينكر استخدام المكبر؛ بحجة أنهم لم يجدوا عليها آباءهم، وأنها من صنع غير المسلمين؛ فلا حاجة لنا بها !

فقام الوالد×بخلع نظارة ذلك الرجل من عينيه، وسأله: هل ترى بوضوح؟ فقال الرجل: لا ياشيخ؛ فأعاد الوالد النظارة إلى عينيه، فقال له: والآن؟

قال: الآن، أرى أحسن؛ فقال له الشيخ: يا أخي أنت تعلم بأن النظارة تقرب البعيد، وتزيد العين إبصاراً؛ فكذلك مكبر الصوت يقرب الصوت للبعيد؛ فيسمعه من في آخر المسجد، ومن في خارجه؛ فيفيدون منه.

وكذلك النساء في بيوتهن، والقريبات من المسجد يسمعن ذكر الله، ويُفدن من مجالس العلم؛ فهذه نعمة من نعم الله؛ فعلينا أن نفيد منها في إيصال الحق ونشره+.

28_ وهذا موقف يدل على كرم الشيخ × وحرصه على تنشيط الناس على الخير والعبادة.

يقول حفيدُ الشيخِ الأستاذُ مساعدُ السعدي _ حفظه الله _: = كان من عادة أهل عنيزة المعروفة عندهم في ذلك الوقت أن يقسموا ليالي العشر الأخيرة من رمضان إلى قسمين، يَفْصِل بينهما استراحةٌ يتخللها تناول بعض الطعام، والقهوة والشاي؛ كي يتقووا على العبادة، ومواصلة القيام.

وقد ذكرت لي الوالدة _ ابنة الشيخ _ أن والدها ×كان من عادته في هذه الاستراحة أن يستضيف جماعة المسجد الذين يصلون معه؛ فيأتي بهم إلى منزله؛ لتناول التمر، وشرب القهوة والشاي.

وفي حالات كثيرة كان الشيخ هو الذي يقوم بصنع القهوة والشاي، ثم يقوم أحد أبنائه بإدارتهما على الحاضرين.

وقد يقوم بهذه المهمة صديقه الخاص أبو عبود صالح العباد×ثم يطيبهم بطيب من عنده إما أن يكون بخوراً، أو دهن عود مما يرسله الموسرون من طلابه لأهل المسجد؛ فيقوم بعدها الجماعة وقد نشطوا لأداء ما بقي من الصلاة، ويذهب ما بهم من جهد وتعب+.

29_ وهذه مواقف مليئة بالحنان، والأبوة والعطف، وحسن التعامل مع الأولاد، وخصوصاً البنات.

يقول الأستاذ مساعد السعدي _ حفيد الشيخ _: =لما سألت أمي عن معاملة الجد الشيخ عبدالرحمن مع أطفال البيت خاصة وأن أمي نورة هي أصغر ذرية الشيخ _ فاضت عيناها من الدمع، وشرعت تذكر لي بعض ما علق بذهنها من الذكريات عن الوالد، فقالت: كان الوالد يتودد لي، ويناديني بـ: النيرة _ وهي القطعة النقدية من الذهب _ فاشتهرت بذلك الاسم عند الأهل.

وتذكر أنه كان يعطف عليها، ويحبها، وأنه لم يَضْرِبْها إلا مرة واحدة، وكان ضرباً غير مبرح، وذلك لما عرّضت نفسها للخطر بالصعود إلى أعلى مكان في سطح البيت، وكان عمرها آنذاك سبع سنين.

وتقول _أيضاً_: لما كان عمري ثمان سنوات تعودت اللعب مع إحدى الخادمات الصغيرات التي كان تخدم في بيتنا، وكانت تسمى: برجس، وهي صديقة لي في ذلك الوقت، وكان لنا بيت صغير صنعته أنا وإياها من الطين في مقدمة بيتنا الكبير؛ فكنا نلعب معاً بداخله، وأنشأنا فيه وجاراً( ) صغيراً، وصففنا فيه دلال القهوة، وأباريق الشاي.

وكنا نمثل دور الكبار، ونقلدهم؛ فيمضي الوقت ونحن لا نشعر به.

وفي يوم من الأيام طال بنا المقام في اللعب؛ فجاء الوالد الشيخ على عادته اليومية من القهاوي _ مجالس الناس التي يستضيفون فيها الشيخ _ فسلم علينا، فرددنا عليه السلام، وقالت له الخادمة برجس: ياعم لَمْ تتناولِ القهوة عندنا قط؟ فقال: يا بنياتي ما عزمتوني _ أي لم تعرضوا علي ذلك _ اعزموني وآتيكم.

فقالت برجس: غداً عندنا القهوة فلا تنس.

ولما كان اليوم التالي، وبعد أن رجع الشيخ الوالد من بعض المجالس، ووصل إلى بيته _ طرق علينا الباب بقوة، وهو يردد: يا برجس، يا برجس يناديها لتفتح الباب؛ ففتحنا الباب، ورحبنا به، ثم جلس في بيتنا الصغير على سجادة فرشناها له في المحْكُمة( ) يشرب القهوة والشاي التي أعددناها له، ويتحدث معنا.

وعند قيامه قال: هاه وأنتِ يا بنيتي نورة متى تعزميني مثل برجس؟

فقلت له: غداً أنا عازمتك على القهوة.

وفي اليوم التالي لما عاد من المجالس التي كان يغشاها بدأ ينادي بصوت: يا نورة؛ ففتحت له الباب، وجلس معنا يتناول القهوة والشاي، ويتبسط بالحديث؛ ففرحنا أشد الفرح بجلوسه عندنا+.

ويضيف الأستاذ مساعد السعدي في روايته عن والده قائلاً: =تقول( ) الوالدة _حفظها الله_: لازلت أتذكر تلك الأوقات الجميلة حين يأتي الوالد للغداء فنجتمع _ نحن أهل البيت _ حوله؛ فيأنس بنا، ونتحدث إليه، ويتحدث إلينا.

وكانت عندنا قِِطةٌ صغيرة ذكية تعرف وقت غداء الوالد؛ فإذا جلس× للغداء جاءت عنده، وجلست بجواره؛ فكان يمسح على ظهرها، ويطعمها من غدائه؛ فإذا نهرها أحدٌ منا عاتبه، وقال: دعوها تتغدى معنا هي من أهل البيت.

وتقول الوالدة: وإذا قدمنا للوالد القهوة أو الشاي كان يداعبنا، ويقول مازحاً: صبوا ثلاثة فناجيل، فنجال له، وفنجال لزوجته الوهمية أم إبراهيم، والثالث لزوجته الوهمية الأخرى أسماء.

أما أم إبراهيم فقد مضى ذكرها، وأما أسماء فلها قصة خلاصتها أن الشيخ عبدالرحمن لما كان في مكة المكرمة، وكان نازلاً في بيت ابنه عبدالله _ كان لهم جيران قريبون منهم، وكانت نوافذهم تشرف على بيت عبدالله ابن الشيخ.

وكان لهؤلاء الجيران طفلة صغيرة خفيفة الظل تسمى أسماء، وكانت تشاهد من خلال نوافذهم دخول الشيخ وخروجه.

وفي يوم من الأيام جاءت هذه البنت مع والدتها لزيارة بيت الأخ عبدالله؛ فلما اجتمعت النسوة كانت هذه البنت تقول لوالدتي _زوجة الشيخ عبدالرحمن_: سوف أتزوج أبوكم الشايب، تقصد الشيخ، والوالدة ترد عليها، وتضحك من كلامها.

فلما جاء الوالد كعادته، وجلس إلى أهل بيته ذكروا له ما قالت تلك الطفلة؛ فضحك من قولها، وبدأ يعلق على حديثها، ويداعب الوالدة في ذلك حتى إنه كان يسمى بعض الغرف في المنزل باسمها، ويأمرنا إذا ناولناه الشاي أن نناوله ثلاثة فناجيل _ كما مر _+.

=خامساً: الشيخ عبدالرحمن السعدي ورسالة يأجوج ومأجوج+

خروج يأجوج ومأجوج من علامات الساعة الكبرى، وقبل الدخول في قصة رسالة الشيخ عبدالرحمن السعدي يحسن الوقوف على شيء من شأن يأجوج ومأجوج.

أ_ التعريف اللغوي: قيل: هما اسمان عربيان، وقيل: أعجميان، وقد قرأهما عاصم بالهمز، والباقون بغير همز.

قال القرطبي ×: =وقرأ عاصم (يأجوج ومأجوج) بالهمزة فيهما وكذلك في الأنبياء على أنهما مشتقان من أجَّة الحر، وهي شدته، وتوقده، ومن أجيج النار، ومن قولهم أماج فيكونان عربيين من أج ومج، ولم يُصْرَفا؛ لأنهما جعلا اسمين؛ فهما مؤنثان معرفتان.

والباقون ـ أي باقي القراء ـ بغير همز جعلوها لقبيلتين أعجميتين، ولم يصرفا؛ للعجمة، والتعريف+( ).

ب ـ أصلهم: أصل يأجوج ومأجوج من البشر، ومن ذرية آدم وحواء.

قال القرطبي×: =وهما أمتان من ولد يافث بن نوح، مدَّ الله لهما في العمر، وأكثر لهما في النسل حتى ما يموت الرجل من يأجوج ومأجوج حتى يولد له ألف ولد، فولد آدم كلهم عشرة أجزاء، يأجوج ومأجوج منهم تسعة أجزاء، وسائر ولده كلهم جزء واحد+( ).

ج ـ الأدلة على أنهم من ذرية آدم: جاء في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري ÷ عن رسول الله " قال: =يقول الله ـ تعالى ـ: =يا آدم ! فيقول لبيك وسعديك، والخير في يديك، فيقول: =أخرج بعث النار+.

قال: وما بعث النار؟

قال: =من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين+.

فعنده يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد+.

قالوا: يا رسول الله! وأينا ذلك الواحد؟

قال: =أبشروا؛ فإن منكم رجلاً، ومن يأجوج ومأجوج ألفاً+( ).

وعن عبدالله بن عمرو عن رسول الله ": =أن يأجوج ومأجوج من ولد آدم، وأنهم لو أرسلوا إلى الناس لأفسدوا عليهم معايشهم، ولن يموت منهم أحد إلا ترك من ذريته ألفاً فصاعداً+( ).

د ـ صفتهم: أما صفتهم التي جاءت بها الأحاديث فهي أنهم يشبهون أبناء جنسهم من الترك الغتم( )المغول، صغار العيون، ذلف الأنوف، صهب الشعور، عراض الوجوه، كأن وجوههم المَجَانُّ المُطرَقة على أشكال الترك وألوانهم( ) .

والذي تدل عليه الروايات الصحيحة أنهم رجال أقوياء لا طاقة لأحد بقتالهم، ففي حديث النواس بن سمعان في صحيح مسلم أن الله ـ تعالى ـ يوحي إلى عيسى ـ عليه السلام ـ بخروج يأجوج ومأجوج، وأنه لا يدان لأحد بقتالهم، ويأمره بإبعاد المؤمنين من طريقهم ويقول: =أحرز عبادي إلى الطور+( ).

هـ ـ فسادهم: إذا خرج يأجوج ومأجوج حصل على أيديهم أذى كبير، وفتنة عظمى، وشر مستطير.

وهم جموع كثيرة حتى إنهم؛ لكثرتهم إذا مر أولهم على بحيرة طبرية عند خروجهم شربوا الماء الذي فيها جَميعَه؛ فإذا مر آخرهم قالوا قد كان في هذه البحيرة ماء( ).

قال ابن العربي ×: =وأما خروج يأجوج ومأجوج فإنه يكون بعد نزول عيسى ـ عليه السلام ـ وهما أمتان مُضرتان مفسدتان كافرتان+( ).

هذا وسيتضح شيء من إفسادهم في الفقرات التالية:

و ـ أدلة خروجهم من القرآن: قال الله ـ تعالى ـ: [حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ(97)] الأنبياء.

وقال ـ تعالى ـ:[حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً (94) قَالَ مَا مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً (99)] الكهف.

فهذان الموضعان من كتاب الله فيهما دلالة واضحة على خروج يأجوج ومأجوج قبل يوم القيامة، وأن خروجهم أحد علامات الساعة التي تكون قبل قيامها.

فهذه الآيات تدل على أن الله سخر ذا القرنين( ) الملك الصالح لبناء السد العظيم؛ ليحجز بين يأجوج ومأجوج وبين الناس؛ فإذا جاء الوقت المعلوم، واقتربت الساعة اندك السد، وخرج يأجوج ومأجوج بسرعة عظيمة، وجمع كبير لا يقف أمامه أحد من البشر، فماجُوا في الناس، وعاثوا في الأرض فساداً.

وهذا علامة على قرب النفخ في الصور، وخراب الدنيا، وقيام الساعة( ).

ز ـ أدلة خروجهم من السنة: الأحاديث الدالة على خروج يأجوج ومأجوج تبلغ حد التواتر المعنوي، وقد سبق ذكر لبعضها .

ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أم حبيبة بنت أبي سفيان عن زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ أن النبي " دخل عليها فزعاً يقول: =لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه+وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها.

قالـت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسـول الله! أنهلك وفيـنا الصالحون؟

قال: =نعم إذا كثر الخبث+( ) .

ح ـ هلاكهم: يكون هلاك يأجوج ومأجوج بعد أن يقتل عيسى الدجالَ حيث يُهلك الله يأجوج ومأجوج ببركة دعاء عيسى ـ عليه السلام ـ كما جاء في حديث النواس بن سمعان الطويل، وفيه: =إذ أوحى الله إلى عيسى أني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرِّز عبادي إلى الطور.

ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أولئك على بحيرة طبرية، فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مرةً ماء، ويُحْصَر نبي الله عيسى وأصحابه، حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم؛ فيرغب نبي الله عيسى وأصحابهُ، فيرسل الله عليهم النغف( ) في رقابهم فيصبحون فرسى( ) كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم( ) ونتنهم؛ فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت( ) ، فتحملهم، فتطرحهم حيث شاء الله+ رواه مسلم .

 وزاد في رواية بعد قوله: =لقد كان بهذه ماء+: =ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر( ) ، هو جبل بيت المقدس،فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض، هلم فلنقتل من في السماء، فيرمون بِنُشَّابهم( ) إلى السماء، فيرد الله عليهم نُشَّابهم مخضوبة دماً+( ).

هذه نبذة عما جاء في أخبار يأجوج ومأجوج.

_ قصة كتابة الشيخ عبدالرحمن السعدي لرسالة يأجوج ومأجوج:

لم يزل أهل الإسلام وعلماؤهم خاصةً يشتغلون بمسألة يأجوج ومأجوج بحثاً ودرساً، لعظم خطرها، وبعد أثرها؛ فكان أن كتب الشيخ العلامة عبد الرحمن ابن ناصر السعدي × رسالة في حقيقة يأجوج ومأجوج، ومعنى خروجهم، والمراد بانفتاح ردم ذي القرنين، وما يتصل بذلك؛ فأحدثت دوياً هائلاً، وجدلاً واسعاً في بلاد نجد، وانقسم الناس حولها ما بين مؤيد معجب، ومنكرٍ منتقد، ولَحِقَ الشيخ بسببها نوع أذىً ومحنة سرعان ما انقلبت نعمة ومنحة، بسبب حسن مقصده، وسلامة نيته، وإن كان شأنه شأن غيره من بني آدم، يصيب يخطئ، ويسدِد ويقارب _ رحمه الله رحمة واسعة _.( )

وقد كتب الشيخ عبدالرحمن هذه الرسالة في شهر ربيع الأول سنة 1359هـ، كما يدل على ذلك خطاب وجهه الشيخ إلى أحد كبار تلامذته، وهو الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل _ حفظه الله _ حين كان قاضياً في جازان، مؤرخٌ في 27/ ربيع الأول / 1359 هـ، جاء فيه:

=. . ولا استجد لنا من الفوائد شيءٌ ها الأيام غريب، سوى أننا ها اليومين كتبنا رسالة في دلالة الكتاب، والسنة، والعقل، وأقوال المؤرخين، على أن يأجوج ومأجوج هم الأمم الذين ظهروا على الناس في هذه الأزمان، من أصناف الفرنج، والأمريكانيين وغيرهم، وأن المسألة مسألة قطعية، وذكرنا عدة وجوه دالة على ذلك، ولما كتبتها أخذها الإخوان عندهم+( ) .

فكان أن تداولتها الأيدي، فسعى بعض الناس لدى ولاة الأمر والمشايخ في الرياض في شأن الرسالة المذكورة، فجاءت برقية من الملك عبد العزيز ابن عبدالرحمن آل سعود × يطلب حضوره إلى الرياض مصطحباً تفسيره، وحصل للناس هم عظيم( )، ولكن الله سلم.

ويصف الشيخ نفسه هذه الرحلة في خطابٍ مؤرخ 10 شعبان 1360 هـ، موجه لتلميذه الشيخ عبد الله بن عقيل _ حفظه الله _ فيقول: =.. ولا بد بلغك سفرنا للرياض، وأسبابه، ونتائجه، وأنه باستدعاءٍ مستعجل من الملك، لنحضر، ونحضر معنا التفسير، لا بد أحد معترض علينا، وفعلاً بادرنا للحضور، وإحضار التفسير، فرآه بعض المشايخ فاستحسنوه ولم يحصل بحث في مسألةٍ واحدةٍ أصلاً، ولكن المشايخ _ جزاهم الله خيراً _ حصل منهم من إكرامنا فوق ما يظن الظان، والملك قال بحضرة الجميع: إنه ما بينك وبين المشايخ من فضل الله أقل اختلاف، وإنه لم يعترض عليه أحدٌ من الحاضرين، ولا من غيرهم، فأبديت له الشكر، وأني ممنون( ) إذا رأى عليَّ أحدٌ خطأ أن ينبهني، فإني ممنون بذلك من صغار الطلبة، فضلاً عن المشايخ الذين هم أُبْوة( )  للعرب.

وحصل للناس انزعاج من سفري، وطلب الجماعة( ) أنهم يراجعون فيَّ, أو يركبون معي, فمنعتهم, وأخبرتهم أني لا أكره الحضور هناك, وأنه لا بد أن يحصل فيه مصالح, فوقع لله الحمد كما ظننت, وحصل التعارف التام مع المشايخ, وأقمنا في الرياض ستة أيام, ثم رجعنا بصحبة الملك إلى الوطن مسرورين راجين المولى أن يتم نعمه على الجميع, وأن يحسن العواقب لنا ولكم في الدنيا والآخرة.

أخبرتك بحاصل ذلك, خوفاً أن يصوَّر على غير صورته+( ).

تلك رواية الشيخ × رواها باختصار، وقد بسطها أحد كبار تلامذته وأصحابه, وهو الشيخ عبدالله بن محمد العوهلي × في رسالة بعث بها إلى زميله في الطلب, الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العقيل _ حفظه الله _ نقتطف منها ما يتعلق بالمقام, مع إبهام أسماء من سعى في هذه الوشاية _ غفر الله لهم, وتجاوز عنهم _:

=بسم الله الرحمن الرحيم. . . من الطايف في 25 شعبان 1360هـ إلى فَرَسَان.

حضرة الأفخم الأخ المكرم عبدالله بن عبدالعزيز العقيل المحترم.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته دمتم في خير وسرور. . .

أخبارنا خير وسرور حدث في الشهر الماضي ما كدر الخواطر _ولكن الحمد لله_ العاقبة حميدة.

وذلك أن بعض المغرورين من الجماعة قد انتقدوا على الشيخ عبدالرحمن، والمشتهر منهم ثلاثة (. . .) وقد بلغ بهم الأمر إلى أن كتبوا إلى (. . .) يعترضون على الشيخ عبدالرحمن في بعض فتاويه، ويعترضون على تفسيره، وعلى كلامه في يأجوج ومأجوج.

وأرسلوا إلى (. . .) رسالة الشيخ في يأجوج ومأجوج، هذا وهم لم يبحثوا مع الشيخ في شيء أصلاً، ولم يزل الكلام يزيد حتى قدحوا في تفسيره، وأنه مخالف لمذهب السلف، حسبهم الله.

ثم إن (. . .) كتب للمشايخ في الرياض، وجاء برقية لابن فيصل من الملك يطلب حضور الشيخ للرياض، وأنه يجيب( ) تفسيره معه، وقد انزعج الجماعة كلهم من استلحاق الشيخ، وكذلك الأمير، واجتمعوا، وطلبوا أنهم يراجعون الملك، أو أنه يروح كبار الجماعة للرياض مع الشيخ، أو، أو، أو ألخ، ثم عرضوا ذلك على الشيخ، فلم يزل يسكنهم، ويقنعهم _ ربنا يمتع فيه _ وهو منشرح صدره، مطمئن، ومن جملة ما قال للجماعة: لو خيّرني الملك لاخترت القدوم على الرياض، فعسى أن أستفيد وأفيد، والقصد اتباع الحق، فإن كان الحق معي فالحمد لله، وإن كنت مخطئاً رجعت، والحمد لله.

أما الذين انتقدوا على الشيخ فقد سقط في أيديهم، ورأوا أنهم قد ضلوا، وندموا لما رأوا من مقت الناس لهم، وصاروا عند الناس مبغوضين جداً.

وقد قدم الشيخ إلى الرياض، ومنع الجماعة أن يروح معه أحد منهم، ولم يقدم معه إلا ابنه أحمد، وعلي الشيوخ، وصالح العلي السليم. . . سافروا بسيارة الأمير ، ومن حسن حظي أن صادف أني في تلك الأيام في الرياض، قادم إليه لقضاء لازم، وقد اجتمعت بالشيخ وحصل لي الأنس والسرور به، وبما حصل له من الإكرام والعز في الرياض عند الملك والمشايخ، لما وصل الرياض سلم على الملك، وأكرموه المشايخ كلهم، وعزموه كلهم، واطلعوا على مكارم أخلاقه.

وفي يوم الخميس حضر المشايخ على العادة عند الملك، وبعد حضورهم طلب الشيخ من بيته؛ لأنهم نزلوه في بيت، وحضر عند الملك والمشايخ، ثم قال له الملك: هذولا( ) إخوانك المشايخ، تراهم _ والله _ ما قالوا فيك ولا كلمة، وإنهم والله يمدحونك، وأفعالك جميعها جايزة لنا( ).

وردد قوله: إن المشايخ ما قالوا فيك ولا كلمة، لا الحاضر منهم ولا الغايب، وإنهم يثنون عليك، ويحبونك، إلى أن قال: فقط، اتركوا البحث في يأجوج ومأجوج، لأنه فيه تشويشاً على الناس بلا فايدة.

قال الشيخ: إني دعيت له( )،وقلت: لا بأس،أنا قلت: هذا اجتهاد مني ولا ظنيت أن يحصل فيه تشويش، والآن نترك البحث فيه، ولا هي مسألة حلال أو حرام، والأمر خفيف، قال الملك: إننا مشغولون بالسفر للقصيم، وإلا اجتمعنا فيك، فأنت إن شاء الله خوي( ) لنا بكرى( ) بعد صلاة الجمعة، نمشي لأجل نجتمع فيك بالبَر.

ولما صلينا الجمعة، مشى الشيخ مع الشيوخ( ) مكرم غاية الإكرام، حتى إن الملك أكد على خوياه أن سيارة الشيخ تكون خلف سيارة الملك، ولا يتقدمها سيارة.

ورجع إلى الوطن مسروراً، والجماعة مسرورون من سروره، متع الله بحياته...+.

وهناك رواية ثالثة أملاها الأستاذ محمد ابن الشيخ عبدالرحمن السعدي وهي موجودة في المذكرة التي أعدها الأستاذ مساعد السعدي.

وهذه الرواية تشتمل على تأكيد ما مضى من الروايتين، وعلى مزيد تفصيل؛ إذ هو ممن عايش تلك الحقبة.

يقول الأستاذ محمد السعدي: =جاءت برقية من الملك عبدالعزيز × إلى أمير عنيزة عبدالله بن خالد السليم × عن طريق أمير بريدة؛ لأن عنيزة في ذلك الوقت لا يوجد فيها برقية.

وفي هذه البرقية طلب حضور الشيخ عبدالرحمن إلى الرياض ومعه تفسيره للقرآن الكريم، ورسالة يأجوج ومأجوج؛ فقام أمير عنيزة بتسليمها للوالد، فلما استلمها قال: السمع والطاعة لولي الأمر.

وكان × لا يرغب أن يعلم أحد بمحتوى الرسالة، لكن ذلك لم يتيسر له؛ حيث انتشر الخبر، وصار حديث الناس؛ فقام أهل عنيزة، وقالوا للشيخ: إننا نرسل عشرة من كبار أهل عنيزة إلى الرياض، وننظر في طلبات الملك، وأنت تبقى في عنيزة.

لكن الوالد × رفض طلبهم، وقال لهم: أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم؛ فأنا ذاهب إلى ملك عادل، وأعرف من نفسي أنني لم أرتكب خطأً؛ فلعل هناك التباساً يحتاج إلى توضيح.( )

وهكذا اقتنع الجماعة بذلك، وأرادوا أن يرسلوا رجلاً يحمل كتابات من أهل عنيزة إلى الملك عبدالعزيز يبينون فيها سيرة الوالد، وهذا الرجل هو عبدالرحمن الدخيل × حيث رافق الوالد في السيارة التي نقلتهم إلى الرياض.

كذلك أرسلت إمارة عنيزة كتابات للملك تزكي الشيخ، وتبين مكانته العلمية، ومنزلته عند الناس، وقام بحمل تلك الكتابات صالح بن علي السُّليم× نيابة عن آل سُليم أمراء عنيزة دون علم الوالد؛ حيث كانوا يخفون ذلك عن الوالد؛ لعلمهم أن الوالد لا يرضى بإرسال مندوب من الإمارة، لكنهم عمدوا إلى حيلة، وهي أنهم جعلوا صالح السليم يذهب مشياً على قدميه إلى جهة الوادي وكأنه يريد محلاً له في الوادي، واتفقوا مع سائق السيارة التي كانت تُقِلُّ الشيخ على أَنْ إذا توجه إلى بريدة ومنها إلى الرياض، ومر بطريق الوادي، ورأى صالح السليم أن يقول _ أي السائق _ للشيخ عبدالرحمن: هذا العم صالح السليم سيذهب إلى مزرعته؛ فما رأيك يا شيخ أن نأخذه معنا؛ لأن الشيخ سيوافق على ذلك.

وقد تحقق ذلك، والشيخ لا يعلم أن هذا الأمر متفق عليه من قبل.

ولما ركب صالح السليم وكانت معه الكتابات التي _ كتبها آل سُليم للملك _ قال صالح السليم للوالد الشيخ: إلى أين أنت ذاهب يا شيخ خذوني معكم للوادي، ثم بدأ صالح يسأل الشيخ، ويقول له: إلى أين ستذهبون، فقال الوالد: إلى بريدة نريد السلام على الأمير عبدالله الفيصل؛ فقال صالح: أريد الذهاب معكم، فقال له الوالد: حياك الله أهلاً وسهلاً.

بعد ذلك ذهبوا جميعاً إلى بريدة، وهم: الوالد، وصالح بن علي السليم، وعبدالرحمن الدخيل، وعلي الشيوخ، والسائق عبدالرحمن الشحيتان، وكانت السيارة لأمير عنيزة عبدالله بن خالد السليم.

وبعد وصولهم إلى بريدة اتجهوا إلى منزل الأمير عبدالله الفيصل، ولعلهم تناولوا الغداء عنده.

ولما أراد الوالد مواصلة السير إلى الرياض قام صالح السليم، ورغب في صحبته إلى الرياض، وأقسم أيماناً مغلظة _ فاستجاب الوالد له، وأذن له بأن يرافقهم صالح إلى الرياض.

وكان الوالد قبل ذلك لا يريد أن يصحبه غير الذين خرجوا معه من عنيزة.

ولما وصل الوالد إلى الرياض اتجه إلى مقر إقامته هناك؛ حيث تم إعداد بيت كبير مفروش، تتوافر فيه جميع الاحتياجات من طعام وغيره.

وقد وافق وصول الوالد إلى الرياض يوم الجمعة؛ فقابل مندوب الملك، فقال للوالد: سوف تتم مقابلة الملك يوم الاثنين؛ لأن عادة المشايخ أن يحضروا جميعاً عند الملك للسلام عليه في ذلك اليوم؛ فانتظرَ الوالدُ إلى ذلك اليوم.

وفي تلك الأثناء أرسل الوالد إلى المشايخ نسخاً من كتابه التفسير، وكذلك رسالة يأجوج ومأجوج؛ حتى يطلعوا على ما فيهما قبل مقابلة الملك.

وفي تلك الفترة قام كثير من المشايخ بزيارة الوالد في بيته، وكان الشيخ عمر آل الشيخ يحب الوالد كثيراً.

وفي يوم الأثنين الموعود ذهب الوالد للقصر الملكي، وجلس في مكان يجتمع فيه المشايخ، للسلام على الملك.

هذا وقد وصل إلى الديوان الملكي يوم السبت كتاباتُ جماعةِ أهالي عنيزة، وكتابات آل سليم.

ولما حضر الملك قام المشايخ للسلام عليه، ثم قام المشايخ بالثناء على الوالد، في مجلس الملك( ) ثم تكلم الملك × وأثنى على الوالد، وقال له: المشايخ اطلعوا على التفسير، وأعجبهم، فاستمر به، أما رسالة يأجوج ومأجوج فلم يجئ وقتها، فدعها عنك، واحتفظ بها.

فقال الوالد للملك: إذا أحد من المشايخ يريد أن يسأل عن شيء، أو يريد نقاشاً حول مسألة فأنا تلميذ من تلاميذهم، وجزاهم الله عني خير الجزاء.

فقال الملك: على ما قلت لك أما التفسير فانشره، وأما الرسالة فاتركها في الوقت الحاضر، ولا يحتاج الأمر إلى نقاش وبحث في هذا المجلس.

وبعد ذلك انفض المجلس بالسلام على الملك وعلى الوالد، فقال الملك للوالد: تراك خوي( ) لنا؛ لأننا نريد الذهاب إلى القصيم بعد يومين، فقال الوالد: السمع والطاعة، فقال له الملك: الموعدُ المِدِيُّ( ) عقب صلاة عصر يوم كذا وكذا.

وبعد خروج الوالد من مجلس الملك، وانتهاء الاجتماعات _ كان هناك رجل واقف مُرْسَلٌ من قبل ولي العهد سعود بن عبدالعزيز × وكان هذا الرجل ينتظر خروج الوالد، فلما خرج قال له: ولي العهد يريد مقابلتك.

فذهب الوالد إلى مكتب ولي العهد، وقابله، وكان يحب الوالد، ويقدره، فدخل الوالد عنده، ولم يدخل أحد معه ممن رافقوه، ولا ندري ماذا دار في ذلك المجلس.

وبعد اجتماع الوالد بولي العهد خرج، ثم توجه إلى مقر إقامته في الرياض بانتظار يوم الرحيل إلى عنيزة؛ فتوافد كثير من أهل عنيزة، ومن محبي الوالد إليه للسلام عليه، وتهنئته على نجاحه، وثناء الملك والمشايخ عليه.( )

 ولما كان يوم الرحيل إلى عنيزة، مررنا على المدي _ مجمع الماء _ وتزودنا من الماء، ثم وقفنا في ممر سيارة الملك، وكانت الشوارع في ذلك الوقت غير مسفلتة.

وبعد وقوف الوالد على الطريق مدة خمس دقائق جاء موكب الملك، فانحرفت سيارته تجاه سيارة الوالد فسلم على الوالد وعلى من كان معه، وكنت معهم تلك الأيام؛ حيث وافق وجود الوالد وجودي في الرياض؛ فرافقت الوالد عندما رجع إلى عنيزة.

ولما وصلنا إلى عنيزة قبيل المغرب بنصف ساعة تقريباً _ وجدنا جمعاً غفيراً من أهالي عنيزة ينتظرون الوالد خارج البلد؛ لاستقباله، ولما رأوا الوالد فرحوا أشد الفرح، مع أنهم لا يعلمون متى سيصل، ولكنهم كانوا يتحرون وصوله إلى عنيزة.

وهذا دليل على مدى ما يكنونه من محبة للوالد.

ومما يذكر من سماحة الوالد، وسعة صدره أنه لما رجع إلى عنيزة لم يعاتب أيَّا أحد ممن تسبب بتلك الوشاية، فلم يحقد عليهم، ولم يتكلم بهم في المجالس، بل كان × يعتذر لهم، ويقول: إنهم مجتهدون، وهذا رأيهم.

ولما بدأ أهل عنيزة باستضافة الوالد الشيخ على القهوة بعد وصوله _ كان ممن عرض عليه الاستضافة أحد المعارضين له، وأحدُ مَنْ كان سبب ذهابه إلى الرياض، وذلك بعد وصول الوالد بثلاثة أيام؛ فوافق الوالد، وقبل الدعوة، ولم يثرِّب على ذلك الرجل، بل كأن شيئاً لم يكن+.

وهذه الروايات من صاحب الشأن وممن عايش تلك الحال من خاصة الشيخ تنفي ما يضاد ذلك من تَقوُّلات أو نقولات عن مجاهيل خاض بها من خاض.( )

يقول الشيخ د. أحمد القاضي: =وهكذا كانت هذه الحادثة سبباً لعلو نجم الشيخ، ورفعة منزلته، ومزيد معرفته، من لدن أولي الأمر من الولاة والعلماء، وتكريمه، وقد قيل:

وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ

                   طويت أتاح لها لسان حسود

لولا اشتعال النار فيما جاورت

                   ما كان يعرف طيب عرف العود

على أن الشيخ × لم يضمِّن تفسيره الموسوم بـ: (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) رسالته في يأجوج ومأجوج، ولا شيئاً مما استنكره مخالفوه، وبقيت الرسالة محفوظة منذ ذلك الحين في أيدي نفرٍ قليلٍ من الناس، ولا يعلم أن الشيخ × رجع عن شيءٍ مما جاء فيها، ولكنه لم يطبعها في حياته، كما صنع في معظم كتبه، رغم أنه كان بين تأليفها ووفاته سبع عشرة سنة تقريباً، فلعله رأى أن ذلك مقتضى المصلحة في ذلك الوقت.

وظلت الرسالة وتداعياتها معلماً بارزاً في سيرة الشيخ، فلا يكاد يُذكر حتى يُثنّى بذكر تلك الواقعة، ولا يكاد يذكر ردم ذي القرنين، أو خروج يأجوج ومأجوج، إلا وتجري الإشارة إلى هذه الرسالة+( ).

_ ملخص كلام الشيخ في مسألة يأجوج ومأجوج:

ذكر الشيخ د. أحمد القاضي ملخص قول كلام الشيخ عبدالرحمن في هذه الرسالة في أربعة أمور فقال: = أولاً: حقيقتهم وأصلهم:

_ أن يأجوج ومأجوج أمتان من بني آدم، من نسل يافث بن نوح، وليسوا عالماً غيبياً كالملائكة والجن.

_ أنهم من جنس الترك، جيرانهم، وأبناء عمومتهم، مشابهون لهم في الخلقة، وما يوجد من الآثار الدالة على مخالفتهم لصفات الآدميين فكذب مناقض للأدلة الصحيحة.

ثانياً: بلادهم:

_ مساكنهم الأصلية في شمالي آسيا، وتحديداً: منغوليا، وشرقي تركستان، منحازين فيها، لم يتمكنوا من الخروج بسبب ردم ذي القرنين مدداً طويلة.

ثالثاً: خروجهم وانفتاحهم:

_ أن ابتداء خروجهم وقع في وقت النبي"وبخبره: =فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه+.

وحلق الإبهام والسبابة، ثم لم يزل ذلك الفتح يزداد، حتى زال الردم واندك.

_ أن المخترعات الحديثة، والصناعات الراقية مكنتهم من تجاوز الحواجز الطبيعية الأخرى، فانفتحوا على الناس من كل مكان، فبرزوا من فوق رؤوس الجبال، ونفذوا من فوق متون البحار، وصعدوا في جو السماء، وصاروا =من كل حدبٍ ينسلون+، ولم يعودوا محصورين خلف الردم لا يطلع عليهم أحد.

_ أن انفتاح يأجوج ومأجوج، وخروجهم الابتدائي قد وقع، وحصل منهم الإفساد في الأرض على الناس عموماً، وعلى المسلمين والعرب خصوصاً، كفتنة التتار في المشرق، وغزوات المجار في بلاد أوربه.

_ أن خروجهم في آخر الزمان، الموصوف في حديث النواس بن سمعان بعد فتنة المسيح الدجال لا يدل على أنهم لم يخرجوا قبل ذلك؛ إذ المراد بالخروج التحول من محل إلى محلٍ آخر، وليس ابتداء الخروج.

رابعاً: مَنْ يأجوج ومأجوج الآن؟:

_ أن هذه الأمة اندفعت من مساكنها الأصلية في منغوليا وتركستان، وتفرعت عنها: التتر، والصين، واليابان، والروس، واكتسحت الشعوب الأوربية، وامتزجت بهم، فهم هذه الأمم، وإن صارت لهم أسماء مخصوصة، ومَنْ وراءهم مِنَ الأمم كأمريكا حكمها حكمهم.

_ أن الأولى أن يكون لفظ (يأجوج ومأجوج) المشتق من الأجيج والسرعة، اسم جنس، يشملهم، ويشمل غيرهم ممن تنطبق عليه صفاتهم؛ من كثرة الشر والكفر، ولا يقتصر على طائفة مخصوصة+( ).

وبعد أن لَخَّص الشيخ د. أحمد ما دارت حوله رسالة يأجوج ومأجوج أورد تحليلاً موجزاً للرسالة فقال _ حفظه الله _: =قرر الشيخ × آراءه هذه في يأجوج ومأجوج بثقة بالغة، وجزم أكيد، لا تردد فيه، كقوله: إن صفاتهم: =ظهرت، واتضحت، فوصلت إلى درجة اليقين+، وقوله: =لا يشك ولا يستريب أنهم هؤلاء الأمم، أو بعضهم+، وقوله: =إذا جمعت ذلك كله، علمت علماً يقينياً لا شك فيه، ولا ريب أنها واقعة على تلك الأمم، وأنهم المرادون بها+، وقوله: =من نظر إلى أدلتها الشرعية والعقلية لم يرتب+: أي في كونها =تنطبق عليهم غاية الانطباق+ يعني الأمم المعروفة من الروس، والصين، وأمريكا، والإفرنج، ومن تبعهم، كما تكرر في رسالته.

بل قد بلغ به الحماس لفكرته × لمَّا أَنْ شعر أَنَّ حديث النواس ابن سمعان÷ حجة للمعارض جنح إلى التأويل، معرِّضاً بأن الحديث قد يكون غير محفوظ  مع كونه في صحيح مسلم.

ولا ريب أن الشيخ × وُفق توفيقاً بالغاً في الكلام على حقيقة هؤلاء القوم وأصلهم، ومحق الخرافات التي نسجتها عناكب الخيال، والآثار الموضوعة حولهم، في حجج قوية مقنعة، وتلك قضية وافقه فيها أهل التحقيق من المتقدمين والمتأخرين.

وأحسب أن الشيخ وفق _ أيضاً _ في تبديد الاعتقاد بأن هاتين الأمتين محصورتان خلف السد، لا يطلع عليها أحد، ولا تتصلان ببقية المعمورة، وأن هذا الاعتقاد ليس بلازم كلام الله، ولا كلام رسول الله " وأيَّد ذلك بالدلائل الجغرافية والعقلية المقنعة، التي تكشف عن واسع ثقافته، واطلاعه على كلام أهل الهيئة، والسير، المتقدمين والمتأخرين.

وهذا القدر قد أنكره بعض معاصريه ممن قطع بأن مقتضى القرآن أن يأجوج ومأجوج لا يزالون محصورين خلف سدٍ من حديد، في مكان ما من الأرض، وشنّع على الشيخ رأيه، مستدلاً بقوله تعالى: [فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً] الكهف.

فاندكاك الردم، وخروج من وراءه على الناس متصل بقيام الساعة، وليس أمراً قد قضي، كما ذهب إليه الشيخ×.

ويمكن القول أن يأجوج ومأجوج الآن أمتان معلومتان، محسوستان، باقيتان في مساكنهما الأصلية، حتى إذا شاء الله انفتاحهما المذكور في آخر الزمان جعل الله اندكاك ذلك الردم التاريخي إيذاناً بخروجهم، وإن لم يكن مانعاً لهم الآن من الاتصال بالناس، والله أعلم.

ومع أن الشيخ × يرى أن الردم قد اندك فعلاً، وأن فتح يأجوج ومأجوج قد ابتدأ حقاً، منذ قول النبي ": =فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه+ وحلق بين الإبهام والتي تليها _ إلا إنه يعد ذلك خروجاً ابتدائياً، لا ينافي الخروج النهائي الكبير في آخر الزمان.

وبين هذين الطرفين سلسلة متصلة من حلقات الإفساد في الأرض انطلقت من مواطن يأجوج ومأجوج في أواسط وشمالي آسيا، كان منها اكتساح المغول للممالك الإسلامية، وغير الإسلامية، وغزوات المجار في أوربا، وغيرها،حتى تختتم بخروجهم النهائي بعد قتل المسيح عيسى ابن مريم _ عليه السلام _ للمسيح الدجال، ثم يكون فناؤهم.

وهذا التقرير على جدته متوجه معقول، والخطب فيه سهل.

ولم يكن الشيخ × بدعاً من العلماء في تقريره، فقد سُبِقَ إليه، وتبع فيه.

فممن سبقه إلى ذلك الفقيه المحدث محمد أنور الكشميري المتوفى سنة 1352هـ × فقد قال في شرحه لصحيح البخاري: =إن سد ذي القرنين قد اندك اليوم، وليس في القرآن وعدٌ ببقائه إلى يوم خروج يأجوج ومأجوج، ولا خبر بكونه مانعاً من خروجهم، ولكنه من تبادر الأوهام فقط،فإنه قال: [وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ] الكهف: 99، [حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ] الأنبياء: 96 إلخ، فلهم خروج مرة بعد مرة, وقد خرجوا قبل ذلك _ أيضاً _ وأفسدوا في الأرض بما يستعاذ منه، نعم يكون لهم الخروج الموعود في آخر الزمان, وذلك أشدها, وليس في القرآن أن هذا الخروج يكون عقيب الاندكاك متصلاً, بل فيه وعدٌ باندكاكه فقط, فقد اندك كما وعد.

أما أن خروجهم موعود بعد اندكاكه بدون فصل, فلا حرف فيه+( ).

وقال في موضع آخر: =ولم يذكر في القرآن لفظ الخروج من هذا السد فقط, هاهنا, ولما ذكر في (الأنبياء): [حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ] الأنبياء: 96.

ولم يذكر السد, والردم, فكان الخروج لعمومهم+( ).

يقول د. أحمد القاضي: =وتبقى المسألة الأخيرة, وهي تحديد هوية يأجوج ومأجوج الآن! فأحسب أن الشيخ× قد توسع فيها توسعاً زائداً إلى الحد الذي يُفْقِدُ هاتين الأمتين كينونتهما المميزة, واستقلالهما العِرقي والجغرافي, الذي دلت عليه النصوص, ويجعل اسمهما (اسم جنس) مشاعاً بين جميع الأمم والأعراق؛ استناداً إلى اندماج الشعوب التركية الطورانية بمختلف شعوب الأرض, حتى أفضى به الأمر إلى حسبان معظم أمم الأرض من يأجوج ومأجوج.

وهذا غير مُسَلَّم؛ فالأمم والشعوب معروفة بأسمائها وأعراقها من عهد النبي" إلى أن تقوم الساعة.

ولم تزل تقع بين الأمم والشعوب غزوات وامتزاجات دون أن تلغي خصوصيتها, أو تسلبها أصلها.

ومن شواهد ذلك قوله": =تقوم الساعة والروم أكثر الناس+( ).

ولا شك أن هذا القول, والجزم به أثار استنكاراً للرسالة مع ما تضمنته من جوانب مشرقة مفيدة, أدت إلى ما ذُكر آنفاً من استدعاء الشيخ × وانكفافه عن تقريرها.

_ مراحل كتابة الشيخ للرسالة:

يقول الشيخ د. أحمد القاضي _ حفظه الله _: =كتب الشيخ هذه المسألة ثلاث مرات, بخطه, في سنة واحدة 1359هـ, وجميعها موجود محفوظ، ويظهر لي _والله أعلم_ أن الكتابة تمت على ثلاث مراحل:

أولاً: الرسالة المختصرة: ضمنها الشيخ رأيه مجملاً دون تبويب, أو تفصيل, أو نقول.

ولعلها النسخة التي حُملت إلى الرياض, وتلقاها المشايخ، وهي التي اعتمد عليها ابن محمود في استشهاداته, وقد ضمنها الشيخ عبد العزيز بن عبد الرحمن المسند _ حفظه الله _ كتابه المعنون: (الصين ويأجوج ومأجوج، عالم مجهول)( ) ونقلها بكاملها.

ثانياً: الرسالة المتوسطة: أعاد كتابة رأيه مبسوطاً, وقدم له بمثال, وثنى بآخر هو يأجوج ومأجوج, ورتب له عشرة أدلة في إثبات ما ذهب إليه، إلا أنها خلت من النقول عن المعاصرين وغيرهم.

ثالثاً: الرسالة التامة: وهي التي بين أيدينا, وقد حبرها الشيخ تحبيراً, وألحق بها جملة من النقول من كلام أهل العصر المعتبرين ما يؤيد فكرته, ورفع من مستهلها المثال الأول؛ اقتصاراً على أمر يأجوج ومأجوج فقط( ).

وقد اعتمدناها هاهنا لكمالها, وتضمنها ما سبق, وزيادة, يدرك هذا من قارن بين ألفاظ الرسائل الثلاث، والله أعلم+.( )

هذا هو ملخص ما ورد في قصة يأجوج ومأجوج.

وفي نهاية الحديث عن هذه القصة ينتهي الحديث عن سيرة مدرسة السماحة والحلم الشيخ عبدالرحمن السعدي _ رحمه الله رحمة واسعة، ونفع بعلمه وسيرته؛ إنه سميع قريب( ).

 سماحة الشيخ الإمام محمد بن إبراهيم آل الشيخ

سماحة الشيخ الإمام محمد بن إبراهيم آل الشيخ

=أولاً: معالم عامة في سيرته+

توطئة وتمهيد:

هو العلامة الجليل الشيخ أبو عبد العزيز محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف ابن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب _ رحمهم الله جميعاً _.

إمام عصره، وفريد دهره، الذي جمع الله له خصال الخير، ومقومات السؤدد.

 ولد الشيخ محمد في مدينة الرياض في حي دخنة في السابع عشر من شهر الله المحرم، عام أحد عشر وثلاثمائة وألف للهجرة، ونشأ نشأة صالحة، وأخذ بأسباب المعرفة والعلم، فتلقى القرآن الكريم وهو ما بين الثامنة والعاشرة من عمره وقيل: إنه حفظ القرآن في الحادية عشرة، وقيل وهو في السادسة عشرة، وذلك على يد معلمه الشيخ عبد الرحمن بن مفيريج.

 وفي السادسة عشرة من عمره أصيب بالرمد في عينيه، فكف بصره، وهو في السابعة عشرة.

 ثم واصل بعد ذلك طلب العلم في مختلف الفنون، وتلقى على جِلَّة من أكابر العلماء في عصره.

 وقد استفاض عنه ×أنه كان كثير الدأب في المطالعة في مختلف الكتب وتدريسها، فكان هذا مصدراً ثانياً أكسبه سعة من علمه وأفقه.

 وقد أعانه على ذلك ما عرف عنه من حدة الذكاء، وقوة الذاكرة، ورجاحة العقل.

 وقد لمس منه مشايخه الألمعية النادرة، والنجابة المبكرة، ورأوا منه مزايا عظيمة لا تتوافر إلا في القليل من الرجال، فأدركوا أنه الخليفة لهم، وأنه يمكن أن يُطْمَئن إليه في مجالس العلم.

 ولقد صدقت نظرتهم في هذا الرجل، فلقد كان نسيج وحده في العلم والتعليم، والصبر، والجلد، والحكمة، والحنكة، وبعد النظر.

 وفيما يلي من أسطر نبذة عن بعض ملامح السمو والنبوغ والألمعية في حياة هذا الإمام الفذ.

 أ_ اشتغاله بالتدريس:

 حين توفي عمه الشيخ عبد الله عام 1339هـ أخذ الشيخ محمد مجلسه، فبدأ التدريس إلى جانب مشايخه الذين ما زالوا على قيد الحياة.

 ولما توفي شيخه سعد بن حمد بن عتيق عام 1349هـ توسع في مجالس التدريس، فكثر رواده وقاصدوه؛ لما رأوا منه من غزارة العلم، وعظم الفائدة.

 ولقد كان يعمر جل نهاره بالتدريس، حيث كان يجلس ثلاث جلسات منتظمة، فالأولى بعد صلاة الفجر إلى شروق الشمس، والثانية بعد ارتفاع الشمس مدة تتراوح ما بين الساعتين إلى الأربع ساعات، والثالثة بعد صلاة العصر، وهناك جلسة رابعة لكنها ليست مستمرة، وهي بعد صلاة الظهر.

 أما الكتب التي كان يُدَرِّسها فهي كثيرة، وفي فنون متنوعة، منها ألفية ابن مالك مع شرح ابن عقيل، وزاد المستقنع مع شرحه الروض المربع، وبلوغ المرام، والآجرومية، والملحة، وقطر الندى، وعمدة الأحكام، وأصول الأحكام، والحموية، ونخبة الفكر، وكتاب التوحيد، وكشف الشبهات، وثلاثة الأصول، والواسطية، وفتح المجيد، والطحاوية، وشرح الأربعين النووية، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، والسنن الأربعة، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم وابن كثير بدون استثناء، وكل ما جد من كتب السلف والمحققين من العلماء( ).

 ولقد كان × يعطي مجالس العلم حقها من الاحترام والتقدير، ويحرص على إيصال الفائدة للطلاب، حتى إنه ليكاد يغني شرحه عن مطالعة.

 وكان له طريقة بديعة في تدريسه ليس هذا مجال بسطها( ).

 ب_ أخلاقه وصفاته:

 لقد كان × يتمتع بأخلاق عالية، جعلت له مكانة في قلوب الخاصة والعامة.

 ولقد وهبه الله صفات كثيرة كانت سبباً في نبوغه وألمعيته.

 فمن صفاته البارزة ذكاؤه الباهر، وذاكرته القوية الطيِّعة الواعية، وحافظته النادرة التي كانت سبباً لتحصيله ثروة علمية واسعة.

 فهو × يحفظ كثيراً من المتون، والقصائد المطولة، وكان _ وهو في أخريات حياته _ يصف مشاهداته قبل أن يكف بصره مع أنه _ كما مر _ عمي في السابعة عشرة من عمره.

 وكان يحفظ المتن للقراءة الثالثة، وربما الثانية، وكانت المعاملة الطويلة التي تبلغ ثلاثمائة صفحة تقرأ عليه، ثم يملي ما يراه مستحضراً كل ما فيها من الجزئيات.

 ولم يكن غريباً منه أن يدل القارئين على مواضع الأبحاث في كتبها ذاكراً رقم الصفحة أحياناً.

وكانت علامات الذكاء الباهر بادية منذ صغره، يقول معالي الشيخ عبدالله ابن منيع حدثنا سماحته عن نفسه فقال: =كنت في آخر العام الثاني من ولادتي، فدخلت والدتي غرفة نومها؛ فرأيتها تبحث عن شيء؛ فظننت أن ذلك الشيء الذي تبحث عنه مكحلتها؛ فأشرت بيدي إليها أن المكحلة في طاق الغرفة، ففرحت بإشارتي، وضمتني ضمة لا أزال أتذكرها حتى يومي هذا+( ).

ويقول الشيخ حمد الحمين _ حفظه الله _ وهو من لازم الشيخ محمد ابن إبراهيم من عام 1374هـ إلى أن مات الشيخ محمد عام 1389هـ، يقول متحدثاً عن حفظ الشيخ محمد ×: =وكان × حافظاً للمتون، متقناً للقرآن؛ فلا أذكر مرة خلال 18 سنة قضيتها معه أنه قد رَدَّ عليه أحد أثناء قراءته للقرآن في المسجد أثناء الصلاة، وإن كان × لا يتحدث مطلقاً عن سعة محفوظاته أو ما أشبه ذلك+( ).

 ومما كان يتميز به طهارة القلب، فكان لا يحمل ضغينة على أحد أساء إليه، بل كان ديدنه الصفح والتجاوز، بل والمحافظة على سمعة من آذاه، والدفاع عنه من أن ينال بباطل.

 ولا غرو في ذلك، فهذه أخلاق العلماء والعظماء.

لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب

                   ولا ينال العلا من طبعه الغضب

  فهو × من أولى من يأخذ بقوله _ تعالى _: [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ] (الأعراف: 199).

 وكان على قدر عظيم من التأمل، والتروي، والتأني، وبعد النظر فيما يعرض عليه من القضايا التي تَجِدُّ تباعاً، ولم يكن يتعجل الأمر حتى يمعن في الدرس، والتأمل، والنظر في العواقب.

وكان يدرك حقيقة ما يعرض عليه من المشكلات؛ فيكشف ما وراءها من الدوافع ببصيرته النافذة؛ فلا ينطلي عليه كيد أو احتيال.

ورغم أنه لم يحمل الساعة طيلة حياته فإنه يدرك الوقت، ولا يكاد يخطئ فيه بضع دقائق.

وكان ذا فراسة صادقة، وحسن اختيار للأشخاص ووضعهم في أماكنهم اللائقة بهم.

ولا أدل على ذلك من تعيينه سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز نائباً له في الجامعة الإسلامية منذ أول تأسيسها؛ حيث كان ذلك الاختيار في غاية التوفيق؛ فلقد طرح الله البركة والخير الكثير فيه للإسلام والمسلمين إلى يومنا هذا.

يقول معالي الشيخ إبراهيم بن الشيخ محمد بن إبراهيم: =إن الشيخ محمداً لما عزم على تعيين الشيخ عبدالعزيز بن باز في الجامعة الإسلامية بالمدينة استدعاه وعرض عليه هذا الأمر فأجابه الشيخ عبدالعزيز قائلاً: أنا لا أرغب في ذلك.

فقال الشيخ محمد ×: لا يخفاك أهمية هذه الجامعة، وأملنا كبير في أن تنتشر منها الدعوة الإسلامية في العالم _ إن شاء الله _.

فقال الشيخ عبدالعزيز بن باز: إذا كنت تؤكد عليَّ في ذلك فليس لديَّ إلا السمع والطاعة، فقال له الشيخ: أرى أن لا يصلح لهذه الجامعة إلا أنت، فتوكل على الله، فقال الشيخ عبدالعزيز: سمعاً وطاعة وأخذ عصاه، وقام ممتثلاً لما ألزمه به الشيخ محمد.

وكان في تعيينه في هذه الجامعة الخير الكثير+( ).

 أما شجاعته فحدث ولا حرج فلقد كان وافر الشجاعة، قوي الشكيمة، لا يخشى أحداً، ولا يخاف في الله لومة لائم، ولا يتردد في إعلان الحق والصدع به أيَّاً كان المخاطب به.

 ودافعه في ذلك مخافة الله، والحرص على إبراء الذمة، فمكانته تحتم عليه نبذ التخاذل، وله في ذلك مواقف محفوظة.

 ومن السمات البارزة فيه ما آتاه الله من هيبة في نفوس الناس، وهو أمر يرجع إلى معرفة الناس بصرامته في الحق، ولهذا يحسب محدثه حساباً شديداً إذا أراد أن يكلمه؛ خشية أن يزل بكلمة.

 وكان مع ذلك أنيساً عند مخالطته ألوفاً لمعاشريه، لا يتصف بشيء من الغلظة أو الجفاء أو الفظاظة

 وكان يحسن التفريق بين مجالس الجد والعمل ومجالس الراحة والإجمام.

 يقول الشيخ حمد الحمين _ حفظه الله _: =كان ×رغم شدته وحزمه وهيبة الناس له صاحب دعابة خصوصاً مع خاصته، وأحفظ له × في ذلك حكايات كثيرة+( ).

وسيأتي ذكر لبعض الأمثلة لدعابته.

 ومن عظيم أخلاقه أنه كان يتنزه عن الغيبة والحديث في الآخرين بما يكرهون وعرف بذلك منذ حداثة سنه حتى فارق الدنيا.

يقول الشيخ حمد الحمين _ حفظه الله _: =ولا أذكر مرة _طيلة صحبتي له_ أنه تكلم على أحدٍ بسوء، بل كان إذا أحب شخصاً مدحه ، وإن لم يحبه تركه؛ فلم يذكره، ولا يرضى أن يذكره أحد بسوء عنده+( ).

 وكان متورعاً متعففاً عن أخذ ما ليس له، أو ما يرى فيه شبهة، وكان حريصاً على أن لا يدخل نفسه في مداخل مشتبهة، ولم يعهد عنه أنه اشتغل بالبيع أو الشراء، لا بالاستقلال ولا بالمشاركة.

 وكان × معروفاً بالبذل والسخاء وبالأخص ما يتعلق بإكرام العلماء والقضاة وطلاب العلم، وكان لا يترك مناسبة مهمة إلا أقام لها الوليمة الكبيرة، ودعاهم إليها.

والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، ومنها أن الشيخ عبدالعزيز بن باز × لما قدم من الدلم عندما كان قاضياً فيها أكرمه الشيخ محمد بمأدبة كبيرة حضرها العلماء والمشايخ.

ويقول معالي الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن إبراهيم ×: =ويوم أن زار الشيخ عبدالرحمن بن سعدي سماحة الشيخ محمد _ رحمهما الله _ قابله الشيخ محمد مقابلة تكريم واحترام، وأجلسه في مجلسه الخاص، وجلس الشيخ محمد عن يمينه+( ).

وكان محباً للعلماء من مشايخه وغيرهم، كثير الثناء عليهم، والدعاء لهم؛ فكان يقول عن شيخه الشيخ سعد بن عتيق ×: =شيخنا الشيخ الكبير، والعالم الشهير+.

وكان إذا أتاه الشيخ محمد بن مانع × قام له، ورحب به، وأجلسه مكانه.

وممن كان يحبهم ويكرمهم الشيخ عبدالله القرعاوي، والشيخ أحمد شاكر، والشيخ محمد حامد الفقي، والشيخ عبدالرحمن الأفريقي، والشيخ فيصل المبارك، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ عبدالله بن حميد، والشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ عبدالرزاق عفيفي، والشيخ حمود التويجري وغيرهم.

 ج_ خشيته لله:

 كان × من أكثر الناس خشية لله، واستحضاراً لعظمته _ عز وجل _ فكثيراً ما يُسْمع وهو يلهج بذكر الله، واستغفاره، ثم يرى وعيناه تغرورقان بالدموع.

وأكثر ما يكون ذلك حينما يكون في موقف مناجاة لله، أو حين يسمع بعض ما يحرك القلوب.

 قال الشيخ محمد بن قاسم ×: =وكان ذلك يتجلى كثيراً فيما يحييه من الليل بالصلاة التي كان يواظب عليها في إقامته وسفره، وقد لا يعرف هذا كثير من الناس الذين لم يتصلوا به، وقد صحبته زمناً طويلاً، وهو يقوم ما يقرب من ساعة ونصف آخر الليل لا يترك ذلك+( ).

دـ أعماله:

 لقد تقلد الشيخ أعمالاً عظيمة، وأنيط به مهمات جسيمة.

 وهذه الأعمال، وتلك المهمات لا يقوم بها أولوا القوة من الرجال، وذلك لكثرتها، وتنوعها، وصعوبتها.

 ومع ذلك فإن الشيخ محمداً قام بها خير القيام، وذلك لكبر نفسه، وعلو همته، وقبل ذلك إخلاصه، وتوفيق الله له.

 وفيما يلي من أسطر ذكر لتلك الأعمال مع ملاحظة أن كثيراً من المهام التي قام بها وتولى رئاستها كانت في طور تأسيسها، ومعلوم ما في ذلك من المشقة.

 1_ التدريس: وقد مر بنا شيء من ذلك، وهو بحد ذاته عمل عظيم لو تفرغ له وحده.

 2_ الفتوى: فقد كان يشارك فيها حتى مات شيخه الشيخ سعد بن عتيق×ثم استقل بها حتى تحولت أخيراً إلى عمل منظم في دار الإفتاء عام 1374هـ.

 وظل يقوم بالفتوى من خلال تلك الدار حتى وافته المنية، إلى جانب ما كان يكتبه في بيته من فتاوى وردود على بعض الكاتبين.

 3_ إمامة مسجد عمه الشيخ عبد الله من عام 1339هـ إلى قبيل وفاته.

 4_ رئاسة القضاء: ففي عام 1376هـ أنشئت رئاسة القضاة تحت رئاسة سماحته في نجد والمنطقة الشرقية والشمالية، وبعد وفاة سماحة الشيخ عبد الله بن حسن سنة 1378هـ رئيس القضاة بالحجاز والمنطقة الغربية _ ضمت إلى الشيخ محمد رئاسة القضاة بالحجاز والمنطقة الغربية، فصار رئيس قضاة المملكة العربية السعودية، فكان يقوم بتمييز الأحكام التي تحتاج إلى نظره.

 5_ رئاسة الكليات والمعاهد العلمية منذ إنشائها عام 1370هـ، والتي أصبحت فيما بعد تسمى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

 6_ الإشراف على مدارس البنات منذ افتتاحها عام 1379هـ.

 7_ رئاسة الجامعة الإسلامية منذ افتتاحها عام 1381هـ.

 8_ رئاسة دور الأيتام، وضمت فيما بعد إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية.

 9_ رئاسة المعهد العالي للقضاء.

 10_ رئاسة المجلس الأعلى لرابطة العالم الإسلامي منذ إنشائها عام 1379هـ.

 11_ رئاسة المكتبة السعودية.

 12_ خطابة الجامع الكبير وإمامة العيدين.

 13_ الإشراف على نشر الدعوة الإسلامية في أفريقيا.

 14_ رئاسة المعهد الإسلامي في نيجيريا.

 15_ رئاسة مجلس القضاء الأعلى.

 16_ رئاسة مؤسسة الدعوة الإسلامية الصحفية.

 17_ الإشراف على ترشيح الأئمة والمؤذنين.

 18_ تعيين الوعاظ والمرشدين.

 19_ بدأ في إنشاء مجلس هيئة كبار العلماء، وأثبت في ميزانية عام 1389هـ غير أن المنية وافت سماحته عام 1389هـ قبل أن يباشر أعماله.

 فهذه نبذة عن أعماله الجبارة العظيمة التي لا يقوم بها إلا من آتاه الله جلداً وقوة.

 وإن هذا ليدل على علو همته، وسعة علمه، ومقدرته الفذة، وثقة الناس به، وحاجتهم إليه( ).

=ثانياً: أبرز تلامذة الشيخ محمد بن إبراهيم ×( )+

لم تستقطب الرياض طلاباً بقدر ما استقطبت على يد الشيخ محمد ابن إبراهيم، حيث سطع نجمه في وقت مبكر، وعلا ذكره العلمي، فلفت الأنظار، واتجهت إليه المجاميع من أنحاء الجزيرة العربية، بل ومن خارجها منذ جلس للتدريس، فالتفّ حوله طلاب العلم بحرص ورغبة؛ لكي ينهلوا من معين علمه الثرِّ للأسباب التالية:

_ ما جعله الله له من قبول في القلوب، وسمعة حسنة لدى القاصي والداني، وما جُبلت عليه طباعه من خصال عديدة وحميدة، تُرَغِّب في القرب منه، وتحبب في الأخذ عنه، وتزيل الهيبة، وتباعد عن الجفوة.

_ ما جبلت عليه نفسه من حب نشر العلم، وهمة عالية في توصيل ما أفاء الله به عليه للآخرين؛ حيث يرى أن أمانة العلم في تبليغه، وعدم كتمانه.

_ حرصه على التطبيق العملي في نفسه؛ خوفاً من مَعَرَّة التأثم بكتمان العلم، ورغبةً بإرواء نهم المتعطشين للنيل من موارد العلم العذبة، ورجاء أن يترك أثراً علمياً ينتفع به؛ ليكون له من العمل المستمر الصالح.

_ إخلاصه وبذله من جهده ووقته فوق ما يتحمله غيره؛ حرصاً منه على أداء الأمانة، وشعوراً بحاجة العباد والبلاد إلى العلم، الذي به السعادة والخير في الدنيا والآخرة.

_ تواضعه لطلابه، فهو رؤوف بهم، ناصح لهم، قريب منهم، حريص على إيصال النفع لهم.

ولصدقه وحصافة رأيه تجاوب معه الملك عبدالعزيز، ويسر للطلاب السبل المعينة على التفرغ للدراسة بحلقة الشيخ محمد خاصة، والمشايخ الآخرين عامة وذلك من خلال ما يلي:

_ توفير مساكن وأربطة لطلبة العلم، وأكبرها وأهما رباط دخنة المجاور لمسجد الشيخ عبدالله، الذي تولى إمامته الشيخ محمد بعد وفاة عمه منذ عام 1339هـ، ويقع جزء من هذا الرباط والمكتبة السعودية في مبنى مجمّع المحاكم بالرياض في دخنة.

وبعدما ازداد عدد الطلاب، وضاق بهم رباط دخنة وما حوله أُوْجِدت مساكن أخرى متعددة لإسكان الطلبة، واستيعاب عددهم المتكاثر سنة بعد أخرى عرفت باسم بيوت الإخوان.

_ الحرص على إتاحة الفرصة في العمل للنابهين القادرين من كبار الطلبة: في القضاء، والوعظ، والدعوة، والإمامة، والتدريس كل في الموقع المناسب له.

_ تنظيم ترحيل هؤلاء الطلبة إلى ديارهم وقت الإجازة، ولأعمالهم لمن يكلف بعمل على حساب الدولة.

_ وضع مخصصات للطلاب تصرف لهم من المالية: من أرزاق وكسوة في بادئ الأمر، ثم تحولت إلى مبالغ نقدية بعدما استقرت ميزانية الدولة، وثبت دخلها؛ لكي تعينهم على التفرغ للعلم، وتكفيهم مؤنة البحث عن لقمة العيش.

وقد تحقق بذلك نتائج جيدة، فكان مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم في دخنة جامعة علمية كبيرة، تخرج فيه على يدي الشيخ محمد × أفواج كثيرة من العلماء شغلوا مناصب مهمة في الدولة، ولا يزالون.

ولعل من أبرزهم؛ حيث يصعب تعدادهم؛ لكثرتهم ما يلي:

1_ الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد × وآخر عمل تولاه: رئيس المجلس الأعلى للقضاء.

2_ الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز × مفتي عام المملكة العربية السعودية.

3_ الشيخ سليمان بن عبيد آل سلمي ×آخر عمل تولاه: الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي.

4_ الشيخ عبدالله بن يوسف بن وابل × قاضي أبها ونزيلها.

5_ الشيخ عبدالعزيز بن ناصر بن رشيد × أول رئيس لمدارس البنات وآخر عمل قام به: رئيس محكمة التمييز بالرياض.

6_ الشيخ عبدالملك بن إبراهيم آل الشيخ _ شقيق الشيخ محمد رحمهما الله _ وآخر عمل قام به: رئاسة هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمنطقة الغربية.

7_ الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن حسن آل الشيخ × وآخر عمل قام به: منصب وزير المعارف، ثم رئيس هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

8_ الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ × أحد علماء الرياض ووجهائها.

9_ الشيخ صالح بن محمد اللحيدان رئيس المجلس الأعلى للقضاء حالياً.

10_ الشيخ محمد بن إبراهيم البواردي × وآخر عمل قام به: القضاء بمحكمة التمييز بالرياض.

11_ الشيخ صالح بن علي بن غصون وآخر عمل قام به عضوية هيئة كبار العلماء، والقضاء بمجلس القضاء الأعلى قبل تقاعده.

12_ الشيخ عبدالله بن عمر بن دهيش × رئيس محكمة مكة.

13_ الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ × المستشار بالديوان الملكي.

14_ الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ وآخر عمل قام به قبل تقاعده: وزارة العدل.

15_ الشيخ راشد بن صالح بن خنين المستشار بالديوان الملكي حالياً.

16_ الشيخ سعود بن رشود رئيس محكمة الرياض الكبرى سابقاً×.

17_ الشيخ زيد بن عبدالعزيز بن فياض الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قبل وفاته×.

18_ الشيخ محمد بن عبدالله بن الأمير عضو المجلس الأعلى للقضاء حالياً.

19_ الشيخ علي بن سليمان الرومي القاضي بمحكمة التمييز بالرياض ×.

20_ الشيخ غيهب بن محمد بن غيهب القاضي بمحكمة التمييز بالرياض.

21_ الشيخ محمد بن الشيخ عبدالرحمن بن قاسم × الذي جمع فتاوى سماحته( ).

وقد أورد فضيلة الشيخ عبدالله بن سليمان بن منيع 33 عالماً، كلهم أخذوا عن سماحته، ومن أبرزهم ممن لم يرد لهم ذكر عند غيره:

1_ الشيخ حمد الجاسر × علامة الجزيرة وباحثها.

2_ الشيخ محمد بن هليل × القاضي بالدوادمي.

3_ الشيخ عبدالرحمن بن قاسم، جامع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية وأول أمين للمكتبة السعودية بالرياض×.

4_ الشيخ عبدالله بن محمد القرعاوي داعية الجنوب × والذي نفع الله به في جنوب المملكة واليمن.

5_ الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم آل الشيخ ×: شقيقه وعضده في التعليم بعدما فتحت المعاهد.

6_ الشيخ الدكتور حمد بن محمد بن فريان، وكيل وزارة العدل السابق، وعضو مجلس الشورى.

7_ الأمير مساعد بن عبدالرحمن × وزير المالية سابقاً وصاحب أكبر وأقدم مكتبة خاصة بالرياض.

8_ الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل، عضو المجلس الأعلى للقضاء سابقاً.

9_ الشيخ محمد بن عبدالله بن عودة وآخر عمل قام به هو كونه رئيساً عاماً لتعليم البنات.

10_ الشيخ الدكتور عمر بن عبدالعزيز المترك × المستشار بالديوان الملكي سابقاً.

11_ الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن غديان عضو الإفتاء، وعضو هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة بالمملكة.

12_ الشيخ عبدالله بن سليمان بن منيع عضو هيئة التمييز بمكة، وعضو هيئة كبار العلماء بالمملكة.

وخلاصة القول أن غالب علماء المملكة هم من تلاميذه، ذلك أن الشيخ مورد عذب، ترده الجموع من طالبي العلم، فينهلون من معينه، فيصدرون بعد ارتواء.

ولما تكاثر عددهم، ورأى حاجة البلاد بعد استقرارها، وتشعب الأعمال فيها، اقترح الشيخ محمد × على الملك عبدالعزيز × فتح المعاهد والكليات في عام 1370هـ حيث تحول طلابه إلى الدراسة بها، كل بحسب مستواه العلمي، وكان له الإشراف التعليمي والمتابعة، وأسند الإدارة لأخيه الشيخ عبداللطيف، الذي كان عضداً له ، يعمل بما يوجهه، ويتابع العمل مباشرة عنه.

وقد تحولت المعاهد والكليات فيما بعد إلى جامعة أخذت اسم جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فنفع الله بها وبمن تخرج فيها داخل المملكة وخارجها.

=ثالثاً: عمل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم اليومي+

لسماحة الشيخ محمد × نظام يومي حافل بجلائل الأعمال، وتنوعها.

يقول معالي الشيخ عبدالله بن منيع _ وهو ممن لازم الشيخ محمداً سنوات طويلة_ يقول مبيناً ذلك: =كان × شاغلاً كل وقته بالتدريس في جامعه، وفي بيته، وبعد أن تراكمت على سماحته الأعمال الإدارية من علمية، وقضائية، وفتوى، وإشراف عام على الشؤون الدينية _ حالت تلك الأعمال الإدارية عما كان يقوم به من التعليم، فتفرغ لها تفرغاً كاملاً.

وبصفتي أحد المقربين لدى سماحته في العمل معه في الإفتاء فلدي خبرة تامة بعمله اليومي:

يقوم من نومه قبل الفجر بما شاء الله، ثم يصلي تهجداً ما شاء الله له ذلك يتلو في تهجده ما يتيسر له من كتاب الله _ تعالى _ حتى يؤذن الفجر، ثم يصلي الفجر إماماً في مسجده القريب من بيته في دخنه، ثم يجلس بعد صلاة الفجر في بيته لمن يأخذ منه موعداً من أعضاء الإفتاء، وأعضاء الرئاسة؛ لعرض ما لديه من قضايا وأخذ توجيهه نحوها، ويستمر ذلك معه حتى الساعة الواحدة صباحاً بالتوقيت الغروبي، ثم يأتي دور مدير مكتبه الخاص؛ ليعرض عليه من الأمور السرية ما تيسر له عرضه.

وبمناسبة الحديث عن مكتب سماحته الخاص فهو شبيه بمركز القيادة العامة التي تصدر عنها كل التوجيهات لقطاعات أعمال سماحته في المجالات العلمية، والقضائية، والشؤون الدينية، والإفتاء وغير ذلك من الأمور السرية المختصة بأجناس المجتمع.

بعد انتهاء دور مدير مكتبه الخاص يغادر مكتبه إلى داخل بيته؛ ليستريح قليلاً، ويتناول فطوره، ثم يذهب إلى الإفتاء إن كان هذا اليوم من أيامها، أو يذهب إلى رئاسة القضاء إن كان من أيامها؛ حيث قسم سماحته أيام الأسبوع بين الإفتاء، ورئاسة القضاء لكل واحدة منهما ثلاثة أيام في الأسبوع متغايرة، يوم في الإفتاء، ويوم في الرئاسة.

وبعد صلاة الظهر يجلس مجلساً خاصاً لمن أخذ منه موعداً من القضاة؛ لعرض ما لديه من إشكال في عمله من حيث مكانه في العمل، أو ما يعترضه من إشكال قضائي فيما ينظره في قضائه، أو من حيث رغبته في الانتقال، أو التقاعد، أو غير ذلك مما يلجأ إليه بعد الله في حل إشكاله.

وقد يشترك في هذا المجلس عند سماحته غير القضاة أشخاص من أسر ذات مكانة خاصة لا تريد الإسهام في حل مشاكلها، والإشراف عليها من غير سماحته.

يمكث في مجلسه هذا ما بين الساعة والساعتين تبعاً لعدد من يتفق معهم على هذا الموعد، ثم يتغدى، ويستريح قليلاً، وبعد أدائه صلاة العصر يكون قد أعطى موعداً لواحد من أعضاء الإفتاء، أو الرئاسة؛ لعرض ما لديه من معاملات قضائية؛ للنظر فيما صدر فيها من أحكام قضائية من المحاكم، ثم من التمييز مما يرغب المقام السامي من سماحته التأكد من صحة الإجراءات القضائية التي صدرت بخصوصها؛ فيستمر معه ذلك العضو حتى قبيل آذان المغرب.

يكون ذلك في بيت سماحته، وقد يكون في مزرعة سماحته في عرقه.

ولسماحته بعد صلاة المغرب مجلس عام يحضره كل من يريد السلام على سماحته، أو الاتفاق معه على موعد خاص؛ لعرض مشكلة لديه.

لهذا المجلس من العموم ماله من حيث أجناس الناس، وأصناف الأحاديث حديث في الأخبار العامة، حديث في الأحوال الجوية، حديث عن مسألة فقهية يجري طرحها للاسترشاد من سماحته عن حكمها، حديث عن أحوال المجتمع من حيث التعليم، أو الصحة، أو المرافق العامة، أو القبائل العربية وتسلسل أنسابها يستمر هذا المجلس العام حتى أذان العشاء، ثم يذهب إلى المسجد؛ ليستمع إلى قراءة في تفسير ابن جرير تنتهي في الغالب بتعليق سماحته على الدرس، ثم تقام الصلاة، وبعد صلاة العشاء يختصر سماحته مع مدير مكتبه الخاص؛ لعرض ما لديه من أعمال سرية، وعامة يَجْرِيْ بعدها التوجيهُ من سماحته ببعثها لجهات اختصاصها من المؤسسات التابعة لسماحته، ثم بعد ذلك يأتي موعد أحد أعضاء الرئاسة، أو الإفتاء مع سماحته؛ لعرض ما لديه من معاملات قضائية يجري التوجيه عليها بما يراه سماحته، وقد يكون العرض خاصاً بتلاوة نتائج أعمال قضائية سبق دراستها من سماحته بواسطة ذلك العضو، وذلك لختمها؛ تمهيداً لبعثها للجهة التي جاءت منها، ثم ينهض سماحته إلى داخل البيت؛ لتناول ما تيسر له من عشاء، ثم ينام.

وهكذا يسير برنامجه اليومي على وتيرة واحدة لا يغيره عن هذا إلا سفر يقتضي برنامجاً مغايراً.

وبهذا يتضح أن سماحته × كان يقضي ما لا يقل عن سبع عشرة ساعة كلها في خدمة المسلمين، وبصفة دائمة ومستمرة لا تقطعها إجازة، ولا يحول دون القيام بها أي تعلل من تعللات الآخرين؛ فرحمه الله رحمة واسعة، وأجزل له من الثواب والجزاء ما يؤهله لأعلى عليين+( ).

=رابعاً: ترجمة نادرة للشيخ محمد بن إبراهيم+

لقد كتب في سيرته العديد من الكتب، والرسائل العلمية.

كما أن بعض طلابه كتبوا عنه، ورثوه، وبينوا فضله ومناقبه.

ومن الكتابات النادرة في ذلك ترجمة أملاها في 4/11/1389هـ تلميذه البار سماحة الشيخ الإمام عبدالعزيز بن عبدالله بن باز × حيث وجد في طي أوراقه كلمة تحت عنوان (فائدة تتعلق بترجمة شيخنا محمد بن إبراهيم آل الشيخ ووفاته×).

قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بعد ذلك: =في شعبان من عام 1389هـ ألَمَّ به×مرض في المعدة، ولم يزل به حتى أدخل المستشفى المركزي بالرياض؛ للفحص والعلاج في أول رمضان ثم في 4 ( ) منه سافر إلى لندن؛ للعلاج، واشتد به المرض هناك، ورأى الأطباء أنه لا مصلحة في إجراء العملية؛ فرجع إلى الرياض في ليلة الجمعة الموافق 19/9/1389هـ وهو ثقيل جداً وضعيف الشعور، ولم يزل في غيبوبة إلى أن وافته المنية في ضحوة يوم الأربعاء الموافق 24/9/1389هـ _ رحمه الله رحمة واسعة _.

وقد عُدْتُه يوم السبت الموافق 20 رمضان، وسلمت عليه فرد علي رَدَّاً ضعيفاً، ثم لم يزل في غيبوبة، وأخبرني أخوه فضيلة الشيخ عبدالملك وابناه الفاضلان الشيخ عبدالعزيز والشيخ إبراهيم أنه لم يزل في غيبوبة من حين وصل من لندن إلى أن توفي إلا أنه قد يتكلم بكلمات قليلة مضمونها طلبُ المغفرة والعفو والمسامحة ونحو ذلك.

وكان لمرضه، ثم موته × الأثر العظيم في نفوس المسلمين في المملكة وغيرها، وقد حزن المسلمون عليه حزناً عظيماً، وصلِّي عليه × بعد صلاة الظهر من اليوم المذكور في الجامع الكبير بالرياض، وكنت أنا الذي أمَمْتُهم في الصلاة عليه، وحضر الصلاة عليه جلالة الملك فيصل، والأعيان من الأمراء والعلماء وغيرهم، وامتلأ المسجد الجامع بالناس على سَعَته، وصلى الناس عليه في خارج المسجد، وتبع جنازته إلى المقبرة الجمُّ الغفير، نسأل الله أن يتغمده برحمته ورضوانه، ويسكنه فسيح جنانه، ويصلح عَقِبه ويَجْبر مصيبة المسلمين فيه، ويحسن لهم الخلف.

وكان × باذلاً وسعه من حين مات عمه الشيخ عبدالله بن عبداللطيف× عام 1339هـ في التعليم والتوجيه والفتوى، وكان لديه حلقات كبيرة في مسجده وبيته في أنواع الفنون، وتخرج عليه جمع كثير من العلماء من القضاة وغيرهم، وكان ذا غيرة عظيمة، وهمة عالية رفيعة، وكان كهفاً منيعاً لأهل الحق من دعاة الهدى، وكان ذا حزم وصبر وقوة في الحق لا تأخذه في الله لومة لائم.

ثم تولى رئاسة القضاء والنظر في مشاكل الدولة والمسلمين، فلم يَأْلُ جهداً في إجراء الأمور على السداد والخير، وبذل الوسع في حل المشاكل وإيصال الحق إلى مستحقه.

وقد أسندت إليه الحكومة الفتوى، فقام بأعبائها مع قيامه برئاسة القضاء، وكان قد قسم وقته بين محل رئاسة القضاء ودار الإفتاء علاوة على ما ينظر فيه من المشاكل في البيت، وكان يعتني بالدليل، ويرجح به ما اختلف فيه العلماء من المسائل.

وكان ذا حكمة في توجيه الطلبة وتعليمهم، وكان يرفق بهم في محل الرفق، ويقوى عليهم في محل القوة، ويوجههم إلى الآداب الصالحة والأخلاق المرضية؛ فجزاه الله خيراً، وأكرم مثواه، ورفع منزلته في دار الكرامة؛ إنه جواد كريم.

وكنت ممن لازمه مدة طويلة، وتَخَرَّج عليه في العقيدة السلفية، والفقه، والحديث، والعلوم العربية، وعلم الفرائض، وأصول الفقه، ومصطلح الحديث، والتفسير، جزاه الله عني وعن سائر طلبة العلم والمسلمين أفضل الجزاء، وضاعف له المثوبة، وجمعني به وبوالدينا جميعاً وسائر مشايخنا وإخواننا وأحبابنا في الفردوس الأعلى في جوار الرب الكريم؛ إنه على كل شيء قدير.

وكان مولده × في يوم الاثنين السابع عشر من المحرم سنة 1311هـ كما أخبرني بذلك × وقد أخذ العلم عن جماعة من العلماء أشهرهم عمه العلامة الشيخ عبدالله بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن الشيخ الإمام محمد ابن عبدالوهاب _ رحمهم الله جميعاً _ والشيخ سعد بن حمد بن علي بن عتيق، والشيخ حمد بن فارس، وأخذ علم الفرائض عن الشيخ عبدالله بن راشد.

وكان عمره × حين توفي ثماناً وسبعين سنة وثمانية أشهر وثمانية أيام.

وهذا مآل الدنيا ومصير كل حي ما عدا الحي القيوم، والحمد لله رب العالمين وإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلفنا خيراً منها، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه في 4/11/1389هـ.

عبدالعزيز بن عبدالله بن باز    +

=خامساً: منزلة الشيخ محمد عند العلماء المعاصرين له+

لقد كان لسماحة الشيخ محمد× المنزلة العليا، والمقام الأرفع بين علماء عصره، سواء كان في المملكة العربية السعودية أو غيرها من البلاد العربية والإسلامية.

ويتبين ذلك من خلال المراسلات التي تصل إليه، أو المشاورات التي تعرض عليه، ولو استرسلت في ذكر شيء من ذلك لطال المقام.

وفيما يلي ثلاثة أمثلة من ذلك، وهي عبارة عن ثلاث رسائل بعث بها علامة الجزائر رئيس جمعية العلماء الشيخ الإمام محمد البشير الإبراهيمي إلى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم؛ فإلى تلك الرسائل.

الرسالة الأولى: وهي أرجوزة بعث بها الإبراهيمي إلى علماء نجد وقد تضمنت ثناءاً على علماء نجد الأوائل والمعاصرين، وخصوصاً الشيخ محمد بن إبراهيم، وفيها حث على تعليم النساء، وأن يكون ذلك تحت إشراف الشيخ محمد بن إبراهيم ×.

وإليك ما قاله في تلك القصيدة الماتعة:

قد كنت في جِنِّ النَّشَاط والأشرْ

                   كأنَّني خرجتُ عَن طورِ البَشَر( )

وكنت نَجْدِىَّ الهوى من الصغرْ

                    أهيمُ في بَدْر الدُّجى إذا سَفَرْ

وَأتْبَعُ الظبْيَ إذا الظبيُ نفرْ

                   أَنْظِمُ إنْ هَبَّ نسيمٌ بِسَحَرْ

ما رقَّ من شعر الهَوَى وما سَحَرْ

                   وأقطع الليلَ إذا الليلُ اعْتَكَرْ

في جمع أطراف العَشَايَا وَالبُكرْ

                   وإنْ هَوَى نَجْمُ الصَّباحِ وانْكدَر

لبَّيتُ مَنْ أعْلى النِّداءَ وابتدر

                   ثم ارْعَوَيْتُ بَعْدَ ما نادى الكِبَرْ( )

وأكَّدَتْ شهودُهُ صِدق الخبر

                   وكَتَبَ الشَّيبُ على الرَّأسِ النُّذُر

بَاكَرَني فكان فيه مُزْدَجَر

                   فلستُ أنْسى فضلهُ فيما حَجَرْ( )

وَلَستُ أنْسَى وَصله لمن هَجَرْ

                   أكْسَبَني ما يكسِبُ الماءُ الشَّجرْ

حُسناً وظِلاً وَلِحَاءً وثـَمَرْ

                   طَبَعَني عفواً ومِنْ غَيْرِ ضَجَرْ( )

على صِفَاتٍ أَشْبَهَت نَقشَ الحجر

                   عَقيدَتي في الصّالحات ما أُثِرْ

عَن أحمدٍ وما تَرَامَى وَنُشِرْ

                   مِنْ سِيَرٍ أَعلامُها لَمْ تَنْدَثِر

وَسُننٍ ما شَانَ رَاويهَا الحَصَرْ( )

                   قد طابقت فيها البصيرةُ البَصَرْ

وما أَتى عَنْ صَحْبهِ الطُّهْرِ الغُرَر

                   والتَّابعيـنَ المُقْتَـفِيْن للأَثَرْ

وقائدي في الدين آيٌ وأَثـَر

                   صَحَّ بَرَاوٍ ما وَنَى وَلا عَثـَر

وَمَذهبي حُبُّ عَلِيٍّ وَعُمَر

                   والخلفاءِ الصَّّالحين في الزُّمرْ

هذا وَلا أحْصُرُهُمْ في اثني عَشَر

                   لا( ) ولا أَرْفَعُهمْ فّوقّ البّشر

وَلا أنَالُ وَاحداً مِنهم بِشَرْ

                   ( وشيعتي في الحاضرينَ ) مَنْ نَشَر

دَينَ الهُدَى وذبَّ عَنهُ وَنَفَرْ

                   لِعِلْمِهِ وَفقَ الدَّليل المُستَطَرْ

حَتَّى قَضَى من نُصْرة الحقِّ الوطر

                   هم شِيْعَتِي في كلِّ ما أَجدَى وضَرْ

وَمَعشَري في كل ما ساءَ وَسَرّ

                   وَعُصبتي في كلِّ  بدوٍ وحضَر

أمَّا إذا صَبَبْتُ هذه الزُّمر

                   في وَاحدٍ يجمعُ كلَّ ما انتثر( )

( فَخُلَّتِي مَنْ بينهم أخٌ ظهَرْ )

                   في الدَّعوةِ الكُبرى فَجَلَّى وبَهَرْ( )

وَجَال في نَشرِ العُلُومِ  وقَهَرْ

                   كَتَائبَ الجَهل المغيرِ وانتصر

(عبداللطيف) المُرتَضَى النَّدبُ الأبر

                   سُلالَةُ الشَّيْخ الإمام المُعْتَبرْ( )

مَنْ آلِ بيت الشيخِ إنْ غابَ قمرْ

                   عَنِ الوَرَى خَلَفهُ منهم قَمَرْ

فَجَدُّهم نَقَّى التراب وبَذَرْ

                   ولَقِيَ الأَذَى شديداً فَصَبَرْ

على الأذى فكان عُقبَاه الظَّفَرْ

                   والابنُ والى السَّقيَ كي يَجْنِي الثَّمَرْ

وإن أحفادَ الإمام لَزُمَرْ

                   (محمدٌ) من بينهم حَادِي الزُّمَرْ( )

تقاسموا الأعمالَ فاختصَّ نَفَرْ

                   بما نهى محمدٌ وما أمرْ

واختص بالتعليمِ قومٌ فازْدَهَرْ

                   يبني عقولَ النشءِِ مِن غَيرِ خَوَرْ( )

قادَ جيوشَ العِلمِ لِلنَّصرِ الأغَرْ

                   كالسورِ يعلو حجراً فوقَ حجرْ

والجيشُ محلولُ الزِّمَامَ مُنتَثِرْ

                   ما لم يُسَوَّرْ بنظامٍ مُستَقِرْ

ولم يَقُدهُ في الملا بُعدُ نَظَرْ

                   من قائدٍ ساسَ الأمورَ وخبَرْ

مُحنَّكٍ طوى الزمانَ ونَشَرْ

                   والجيشُ في كلِّ الَمَعاني والصُّوَرْ

تَنَاسُقٌ كالربطِ ما بينَ السُّوَرْ

                   والجيشُ أستاذٌ لِنَفعٍ يُدَّخَرْ

والجيشُ أشبالٌ ليومٍ يُنْتَظَرْ

                   والكُلُّ قد سِيقُوا إليكَ بِقَدَرْ

صُنعٌ مِنَ اللهِ العزيزِ المُقتَدِرْ

                   خلِّ الهُوَيْنَى للضعيفِ المُحْتَقَرْ( )

واركبْ جوادَ الحزمِ فالأمرُ خَطَرْ

                   فَيَا أخاً عرفْتُهُ عفَّ النَّظَرْ

عَفَّ الُخُطَى عفَّ اللسانِ والفِكَرْ

                   ويا أخاً جعلتُهُ مُرمُى السَّفَرْ

وغايةَ الجمعِ المفيدِ في الحَضَرْ

                   تَجمَعُنِي بِكَ خِلالٌ وسِيَرْ

ما اجتَمَعَت إلا ثوَى الخَيرُ وَقَرّْ

                   وليسَ فيها تاجرٌ وما تَجَرْ( )

وليس منها ما بَغَى الباغِي وَجَرْ

                   وما تَقَارُضُ الثَّنَا فِينَا يُقَرْ( ) 

إنَّ فُضُولَ القولِ جزءٌ مِن سَقَرْ

                   فلا أقولُ في أخي: ليثٌ خَطَرْ

ولا يقولُ: إنَّنِي غَيثٌ قَطَرْ

                   وإنما هِي عِظَاتٌ وَعِبَرْ

عَرَفْتَ مَبْدَاهَا فَهل تَمَّ الخَبَرْ

                   وبَينَنَا أسبابُ نُصْحٍ تُدَّكَرْ

كِتْمانُها غَبنٌ وَغِشٌ وضَرَر

                   لا تنسَ ( حوَّا ) إنَّها أُخْتُ الذَّكر( )

تَحْمِلُ ما يحمِلُ من خَيرٍ وشر

                   تُثـْمِرُ ما يُثمِرُ مِنْ حُلوٍ وَمُر

وَكَيفَما تكوَّنتْ كانَ الثـَّمر

                   وكُلُّ ما تَضَعُهُ فيها استَقَرْ

فكَيفَ يرضَى عاقلٌ أنْ تستمر

                   مَزيدَةً على الحَواشِي والطُّرَر( )

تَزرَعُ فِي النَّشءِ أفَانِيْنَ الخَوَر

                   تُرضِعُهُ أخلاقَها مع الدِّرَر( )

وإنَّها إنْ أهملت كان الخَطَر

                   كان البَلا كان الفَنَا كان الضَّرَر

وإنَّها إن عُلِّمت كانت وَزَرْ

                   أَوْلا فَوِزْرٌ جالبٌ سُوءَ الأثرْ( )

ومَنْعها من الكتابِ والنَّظرْ

                   لَم تأتِ فيهِ آيةٌ ولا خَبَر

والفُضليَاتُ مِن نِسَا صَدرٍ غَبَرْ

                   لَهُنَّ فِي العِرفان وِردٌ وَصَدَر( )

وانْظُرْ هَدَاك اللهُ ماذا يُنْتظر

                   مِن أُمَّة قدْ شلََّ نِصْفَها الخَدَر( )

وانظُرْ فقدْ يهديكَ للخَير النَظَر

                   وَخُذ مِنَ الدَّهرِ تَجَارِيب العِبر

هَل أمَّةٌ مِنْ الجماهير الكُبَر

                   فيما مَضَى مِنَ القُرون وحَضَر

خَطَّت مِنَ المَجدِ وَمِن حُسنِ السِّير

                   تَارِيْخَها إِلا بأُنْثَى وذَكَر؟

ومَن يَقُل: في عِلمِها غّيٌّ وَشَر

                   فَقُلْ لَه: هِيَ مَعَ الجَهْلِ أَشَر

ولا يكونُ الصَّفو  إلا عَن كَدَر

                   وإنَّ تَيَّار الزَّمانِ المُنحدِر

لَجَارِفٌ كُلَّ بناءٍ مُشْمَخِر

                   فاحذَر وَسابق فَعَسى يُجدِي الحَذَرْ( )

وَاعلَم بأنَّ المُنكراتِ وَالغِيَر

                   تَدَسَّسَت للغُرُفاتِ وَالحُجَر

مِن مِصرَ والشَّامِ وَمِنْ شّطِّ هَجر

وأنَّها قارئةٌ ولا مَفر

                   إنْ لم يَكن عَنك فَعن قومٍ أخر

واذكر فَفي الذِّكرى إلى العقل ممر             مَنْ قال قِدْماً ( بِيَدِي ثم انتحر )( )

حُطْهَا بِعلْم الدِّين والخُلُقِ الأبر

                   صَبيَّةً تَأمن بَوائق الضَّرر

خُذها إليك دُرَّة مِنَ الدُّرر

                   مِنْ صاحب رَازَ الأمُور وَخَبَرْ( )

صَمِيمَةً في المُنجِباتِ من مُضَر

                    نِسْبَتُها البَدوُ وَسُكناها الحَضَر( )

أما الرسالة الثانية فهي _ أيضاً _ أرجوزة عنوانها (إلى علماء نجد) وقد سبق إيرادها عند ترجمة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي × يقول فيها مثنياً على الشيخ محمد بن إبراهيم:

يا شَيْبَةَ الحَمْدِ رئيس الرُّؤَسَا

                   وَوَاحِدَ العصرِ الهُمَامَ الكَيِّسَا( )

ومفتيَ الدِّينِ الذي إنْ نَبَسَا

                   حَسِبْتَ في بُرْدَتهِ شيخَ نَسَا( )

راوي الأحاديثِ مُتُوناً سُلَّسَا

                   غُرّاً إذا الراوي افترى أو دَلَّسَا

وصَادِقَ الحَدْسِ إذا ما حَدَسَا

                   ومُوقِنَ الظَّنِّ إذا تَفَرَّسَا

وصادعاً بالحقِّ حين هَمَسَا

                   به المُرِيبُ خائفاً مُخْتَلِسَا

وفارساً بالمَعْنَيَيْنِ اقتبسا

                   غرائباً منها إياس أَيِسَـا( ) 

بك اغْتَدَى رَبْعُ العلوم مُونِسَا

                   وكان قبلُ موحشاً معبِّسَا

ذلَّلْتَهَا قَسْراً وكانت شُمُسَا

                   فأصبحتْ مثلَ الزُّلاَلِ المُحْتَسَا( )

فتحتَ بالعلمِ عيوناً نُعَّسَا

                   وكان جَدُّ العلم جَداً تَعِسَا( )

وسُقْتَ للجهل الأُسَاَة النُّطُسَا

                   وكان داءُ الجهلِ داءً نَجَسَا( ) 

رمى بك الإلحادَ رامٍ قَرْطَسَا

                   وَوَتَرَتْ يد الإلهِ الأَقْوُسَا( )

وجَدُّكَ الأعْلَى اقْتَرَى وأَسَّسَا

                   وتركَ التَّوحيدَ مَرْعِيَّ الْوَسَا( )

حَتَّى إذا الشركُ دَجَا وَاسْتَحْلَسَا

                   لُحْتَ فكنتَ في الدَّيَاجِي القَبَسَا( )

ولم تَزَلْ تَفْرِي الْفَرِيَّ سَائِسَاً

                   حتى غدا الليلُ نهاراً مُشْمِسَاً( )  

يا دَاعِياً مُنَاجياً مُغَلِّسَا

                   لَمْ تعْدُ نَهْجَ القوْم بِرّاً وائْتِسَا( )

إذْ يُصْبِحُ الشَّهْمُ نَشِيطاً مُسْلِسَا

                   ويُصْبِحُ الفَدْمُ كسولاً لَقِسَا( )

كان الثـَّرى بينَ الجُمُوع مُوبِسَا

                   فجئتَهُ بالغيثِ حَتَّى أَوْعَسَا( )

قُلْ لِلأُلَى قادوا الصفوف سُوَّسَا

                   خَلَّوا الطَّريقَ لِفَتىً ما سَوَّسَا( )

وطَأْطِئُوا الهَامَ له والأَرْؤُسَا

                   إنَّ النَّفِيسَ لا يُجارِي الأَنْفَسَا

أما الرسالة الثالثة فهي موجة من الشيخ البشير إلى الشيخ محمد بن إبراهيم وإليك نصَّها:

حضرة الأخ الأستاذ الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، مفتي المملكة العربية السعودية، أطال الله بقاءه.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد، فإنني أكتب إليكم _ كتب الله لنا ولكم السعادة والتوفيق، وأدام علينا وعليكم نعمة الإيمان وأتمها _ أذكركم ما لستم عنه غافلين من حال إخوانكم الجزائريين المجاهدين، وما هم فيه من الشدة والحاجة إلى العون والإمداد، وما أصبحت عليه الأمة الجزائرية كلها من ورائهم من البؤس والضيق.

أذكركم أن لكم بالجانب الغربي من وطن العروبة ومنابت الإسلام الأولى، ومجرى سوابق المجاهدين الأولين لإخواناً في العروبة وهي رحم قوية، وفي الإسلام وهو سبب مرعي، وفي ذلك المعنى الخاص من الإسلام وهو السلفية التي جاهدتم وجاهد أسلافكم الأبرار في سبيل تثبيتها في أرض الله، وقد لقوا من عنت الاستعمار وجبروته ما أهمَّهم وأهمَّ كل مسلم حقيقي يعلم أن الإسلام رحم شابكة بين بَنِيه أينما كانوا، وأن أقل واجباته النجدة في حينها والتناصر لوقته.

مضى على ثورة إخوانكم الجزائريين التي انتصروا بها لله ولدينه أربع سنوات، وما فترت لهم عزيمة، ولا بردت لهم فيها حمية، وأراهم الله من آيات نصره للفئة القليلة على الفئة الكثيرة ما دل على إخلاصهم له، وصدقهم في معاملته، وقد شهد لهم العالم حتى أعداؤهم فيما أظهروه من ضروب الشجاعة المقرونة بحسن التدبير والتقدير، وبالمواقف الجليلة المبيضة لوجه الإسلام التي بَعُد العهد بمثلها، غير أن الحرب كالحبلى لا ندري ما تلد، ولا على أية حال تسفر.

أيها الأخ، إن العالِم المسلم _ خصوصاً من أهَّله الله للقيادة مثلكم _ مؤتمن على دين محمد " ومن ثمَّ فهو مسؤول عنه، فإمّا له إن قام بما يجب عليه من التثبيت له وتمكينه في الأرض والدفاع عن حقائقه؛ وإما عليه إن فرط في تلك الأمانة، وإنها لثقيلة.

إن الواجب الذي يفرضه الدين على أمثالكم أن تقوموا لله بحملة صادقة أنتم أهل للقيام بها في قضية الجزائر؛ فَتُوجِّهوا نداءًا جهيراً إلى المسلمين الذين يشهدون الموسم ليحملوه إلى من خلفهم من المسلمين حين ينقلبون إلى أوطانهم؛ تَحُضُّونهم فيه على مساعدة إخوانهم مجاهدي الجزائر، وتبيِّنون لهم ما يترتب على قعود المسلمين عن نصرة إخوانهم الجزائريين من آثار، أيسرها أن الاستعمار المتساند سينتقم _ إن انتصر _ لنفسه من المسلمين انتقاماً عاجلاً، وإن طرق الانتقام لكثيرة، وإن وسائله جميعها في يده.

 ثم تُوجِّهوا نداءاً خاصاً إلى إخواننا سكان المملكة العربية السعودية تُحَرِّضُونهم به على الجهاد بالمال، وأنه قرين الجهاد بالنفس، بل هو مقدم عليه في كتاب الله العزيز، وإن المال لهو الركن الركين في نجاح إخوانكم المجاهدين.

وقد قام الشعب الجزائري وحده بهذا الواجب في سنوات الثورة كلها، وكل ما وصله من إعانات مالية كان نوافل.

أما الآن فإن الشعب مضيق عليه ومحصور، وقد انقطعت به الوسائل المالية، فالتجارة معطلة، والفلاحة كذلك، والشعب الذي هو تحت قبضة العدو اشتدَّ عليه الخناق، وأرهقته المظالم والمغارم، وشتته القتل والتشريد، فقد مات منه نحو مليون شخص كلهم من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، وأخرج منه نحو ذلك العدد من ديارهم حفاة عراة لا يملكون قوت يومهم، هائمين على وجوههم إلى مراكش غرباً، وإلى تونس شرقاً، كل ذلك انتقام من الجيش الفرنسي الذي عجز عن قمع الثورة، والقضاء على جيش التحرير المسلَّح، فلجأ إلى هذه الوسائل الوحشية.

وبهذه البلايا التى يصبُّها الاستعمار على الشعب الجزائري الأعزل بهضت التكاليف المالية على جيش التحرير الجزائري، فأصبح مطالباً بالإنفاق على نفسه في التسليح وتوابعه، وبالإنفاق على هؤلاء المشردين من الشعب، ونبشركم بأن الجيش والشعب كلاهما محتفظ بمعنوياته على أكمل ما يكون، وكلاهما مصمِّم على مواصلة الكفاح حتى النصر أو الموت.

وقد كان جيش التحرير مؤلفاً في أول أمره من ثلاثة آلاف مقاتل، فأصبح بعد أربع سنوات مؤلفاً من أكثر من مائة ألف مقاتل مسلَّح بما يلزم من السلاح على أكمل تنظيم وأحسن تدريب، وهو في كل يوم يذيق عدوَّه ألواناً من الهزائم، والحمد لله.

نحن نعلم أن المملكة العربية السعودية قامت بواجبها في فترات متباعدة، ولكن ذلك كله كان دون ما يطالبها به الإسلام، لا في المبالغ الحالية التي قدمتها، ولا في المواقيت التي كانت تقدم فيها هاتيك المبالغ، وفضيلتكم تعلمون أن المعونة كالغيث إنما تفعل فعلها وتؤتي ثمرتها إذا جاءت في الوقت المناسب.

أيها الأخ الجليل، إن الثورة الجزائرية تعدكم كهفها الأحمى، وإنَّ موقفاً منكم في سبيلها كالمدد في وقت الحاجة إليه، فَهَلا صيحة منكم تحرِّك النفوس الجامدة إلى البذل في سبيل الله، وتهز الهمم الخامدة فتتبارى في سوقٍ بضاعتُها شرفُ الدنيا وعز الآخرة، وقيمتهما مال زائل، وحال حائل.

أيها الأخ الكريم، هذه رسالتي يحملها إلى سماحتكم وفد جبهة التحرير الجزائرية إلى المملكة العربية السعودية؛ لمناسبة موسم الحج، وللاتصال بالحكومة السعودية الموقَّرة في شؤون المجاهدين الجزائريين التي أهمُّها تسلُّم المبالغ المالية التي تبرَّع بها الشعب السعودي الكريم؛ فالرجاء أن تأخذوا بيد الوفد المذكور، وأن تكونوا عونه لدى المراجع الحكومية العليا حتى يقضي حاجته، ويؤدي مهمته على أكمل وجه.

أيها الأخ، هذا عرضٌ عرضته عليكم وأنتم تعلمون ما أكنُّه لسماحتكم من التقدير والاحترام والاعتراف بمكانتكم في الدولة وفي الأمة.

وتقبَّلوا في ختام حديثي إليكم تحياتي الأخوية الخالصة.

القاهرة في 13 يونيو 1958.                من أخيكم

محمد البشير الإبراهيمي

رئيس جمعية العلماء الجزائريين

=سادساً: لطائف من سيرة الشيخ محمد بن إبراهيم+

سيرة سماحة الشيخ محمد × تحمل لطائف، وأخباراً ربما لم يقف عليها كثير ممن قرأوا عنه.

والحديث ههنا سَيُضَمَّن شيئاً من ذلك.

ذكر الشيخ حمد الحمين _ حفظه الله _ وهو من أطال صحبة سماحة الشيخ محمد بحكم عمله _ جُملَةً مما سمعه وأفاده من سماحة الشيخ محمد من اللطائف، والفوائد، والأحاديث.

وإليك طرفاً من ذلك( ).

قال الشيخ حمد: سألت _ يعني الشيخ محمداً _ عن العقل هل هو في الصدر أو في الرأس؟ فقال: قيل هذا ، وقيل هذا ، ولكن الذي يظهر أن الصدر يُحَضِّر، والرأس يجمع.

وسمعته يقول : لابد في الوضوء من أقل جريان، ولا يكفي مجرد البلل.

وكان أحد أبنائه الصغار يتوضأ، فبدأ باليسار قبل اليمين، فأخبرت الشيخ بذلك، فضحك وقال: يجوز، ولكنه خلاف الأفضل.

وسأله رجل وأنا أسمع عن التسوك هل يبدأ باليسار أو باليمين؟ فقال : بل باليسار؛ لأنه إماطة أذى.

وكان يقول في المسح على الجوارب: إنه إذا كان فيه شق يسير فلا بأس بالمسح عليه خصوصاً إذا كان مما يلي باطن القدم.

وكنت معه مرة فصلينا المغرب خارج الرياض، فلما انصرف خلع الخفين، فسألته عن السبب، فقال: انتهى وقت المسح عليهما والإمام ليس كالمأموم _يعني يخاف من نسيان المدة_.

وسألته عن التيمم هل يجزئ بكل تراب له غبار أو لا، وهل يجزئ التيمم على الرمل _ لأن منطقتي الزلفي كثيرة الرمل _ فقال: نعم يجوز.

وقد رأيت الشيخ محمد مراراً يتيمم على الجدار وكان طينياً يضربه مرة واحدة، ثم يمسح يديه ووجهه.

وسمعته يقول : إن النبي  "  لما غزا تبوك في السنة التاسعة كان طريقه إلى تبوك أكثره رملي، ولم ينقل عنه أنه حمل معه تراباً؛ ليتيمم به، لو كان فعل ذلك لتوفرت الدواعي والهمم لنقله؛ فدل ذلك على جواز التيمم بالرمل وما أشبهه.

وكان كثيراً ما يُسْأَل عن تغسيل اليدين من أثر الأكل وسريان الغُسَالة في ماء المجاري هل يجوز؟ فكان × يقول : نعم يجوز، وهل هو إلا وساخة من اليدين؟!

ورأيت مرة على بشت الشيخ دماً يسيراً بعد الصلاة فأخبرته ، فقال : الشئ اليسير لا بأس به.

وسمعته يوماً يتكلم عن الأذان ومشروعيته وأهميته ، وقال: =إنه من شرائع الإسلام الظاهرة ، وإن الرسول " كان إذا غزا قوماً انتظر حتى الصبح؛ فإن سمع أذاناً و إلا أغار عليهم ، وإنه لو صلى القوم ونسوا الأذان فإنهم يؤذنون ولا يعيدون الصلاة؛ لأن الأذان للوقت، وهو شريعة من شرائع الإسلام لا تترك، ثم قال: كنا عند الشيخ سعد بن عتيق × في درسه قبل العصر في الجامع الكبير، ثم إنه صلى العصر وقد نسوا الأذان ، فلما انصرف من الصلاة سأل عن الأذان، فَأُخبر بأنهم لم يؤذنوا ، فأمر أحد المأمومين أن يقوم ويؤذن، قال الشيخ محمد: فقام في وسط الصف، فأذن بعد الفراغ من الصلاة.

وسمعته يقول: إذا جلس الإمام للتشهد الأول وقام، ولم يكمل المأموم تشهده فلا يتبعه حتى يكمل.

وفي عام 1377هـ أصيبت رجلي بمرضٍ فوضع فيها الجبس في مدينة جدة، وكنت لا أستطيع الحركة فكنت أتيمم وأصلي إلى غير القبلة، فلما جئت إلى الرياض سألت الشيخ عن صلاتي وهل هي صحيحة أو أقضيها؟ فمكث أياماً ينظر فيها ثم لم يفتني فيها بشيء.

ورأيت رجلاً أتى إليه وقال: إنني أسافر من مدينة الخرج إلى الرياض وتدركني صلاة المغرب في الطريق فهل يجوز لي أن أجمع معها العشاء مع العلم أنني سوف أصل إلى الرياض قبل صلاة العشاء ، فقال: نعم يجوز.

وتأخرت مرة عن صلاة الجمعة فوجدته × قد شرع في الركعة الأولى فصففت مع الذين يصلون في ساحة الصفاة بجانب الساعة، ويقتدون بمكبر الصوت _ بدون اتصال الصفوف _ فلما انتهينا من الصلاة سألته عن صلاتي هذه فأمرني بالإعادة.

وسألته عن صلاة الكسوف هل هي فرض عين أو فرض كفاية؟

فقال: إن ابن القيم × قال في كلامٍ له عنها: إنه لو قيل بوجوبها لكان له وجه.

وصلى مرة على جنازة فكبر خمس تكبيرات ، فلما انصرف أخبرته فقال: لا بأس بذلك.

وكان يقول بعدم وجوب الزكاة في الحلي، ويقول ثبت عن خمسة من أصحاب محمد " القول بذلك.

وكان هناك رجل من أهل الزلفي يعطي زكاته لقريبة منه، وكانت تجمع هذه النقود ولا تشتري بها شيئاً مطلقاً، فطلب مني أن أسأل الشيخ: هل يجوز أن يشتري بالزكاة التي يريد دفعها لها ملابس وطعاماً ونحو ذلك ودَفْعَه إليها؟ فسألت الشيخ فسكت، ولم يجب قريباً من يومين، ثم قال: مادام الحال كما ذكر؛ فإنه يجوز هذا.

وسألته عن النقد الورقي: هل هو سند أو نقد بذاته؟ فتوقف في ذلك ولم يجب، والذي أعرفه عنه أنه مات × ولم يفت فيها بشيء.

وكنت معه مرة في اليوم التاسع والعشرين من رمضان بعد العصر، فقال: يظهر أن الليلة يهل هلال شوال، ثم قال: إن ابن مسعود قال : صام رسول الله"  تسع رمضانات كلها تسع وعشرون يوماً.

ومن ذلك أنه كان هناك قِطٌّ مؤذٍ في بيتي، فاستفتيت الشيخ في قتله فأفتاني؛ لأنه مؤذ.

وحدث أن امرأة قتلت زوجها، وقُبِض عليها، واعترفت، وحكم عليها القاضي بالقتل، ثم إن أولياء المقتول تنازلوا عن القصاص، فرفض الشيخ تنازلهم، وقال: إن قتلها حرابة لا قصاص؛ لأنها قتلته غيلة؛ فليس للأولياء حق في ذلك، وأمر بقتلها، فقتلت _ وكنت من الحضور عند قتلها _.

وحصلت قضية عند أحد القضاة _ من طلبة الشيخ _ وهو أن رجلاً قبض عليه بتهمة السرقة، واعترف عند الشرطة بذلك، فلما أحيل إلى القاضي أنكر ما سبق أن أقر به، فسأله القاضي عن هذه القضية أثناء زيارةٍ للقاضي للشيخ في منزله وأنا أسمع، فقال الشيخ: أما الحد فيدرأ عنه، وأما المال الذي اعترف به فيلزم به.

وسمعته يتكلم عن القضاء يوماً وأنه ابتلاء، ثم قال: لما كانت البينة على المدعي واليمين على من أنكر وبعض المدعين لا يأتي ببينة، ولا يدري أن له حق اليمين على المدعى عليه فللقاضي أن يخبره بأن هذا حق له، ولا يكون هذا من باب تلقين الخصم حجته المنهي عنه.

وسمعته يوماً يتكلم عن تزكية الشهود، وأنه لا بد للمزكي من معرفة تامة بالمزكى، وقال: إن عمر لما طلب تزكية أحد الشهود فزكاه رجل، قال له عمر: هل جاورته؟ قال: لا، قال: هل تعاملت معه في بيع وشراء؟ قال  لا، قال: هل سافرت معه؟ قال: لا، قال: فأنت لا تعرفه( ).

ثم ذكر الشيخ حمد الحمين جملة من الأحاديث العامة التي سمعها من الشيخ فقال: =سمعته يقول: لمـا كـبر الشيخ محمد بن عبد الوهاب _ رحمه الله تعالى _ صار يؤم الناس في (التراويح) ابنُه الشيخُ عبد الله × فكان الشيخ محمد يسأل الناس عن ابنه فيثنون عليه، فقال: =الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يقوم بالواجب+.

وسمعته يقول: =كان الإمام محمد بن سعود _ رحمه الله تعالى _ ديناً عادلاً، وكانت له أكثر من امرأة وكان هناك قماش اسمه (المرود) فكان من عدله إذا أراد أن يقسم هذا القماش بين نسائه يزنه بالميزان+.

وسمعته يقول: =كـان الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله تعالى_ يقول: أنا أعرف رجال الحديث مثل معرفتي برجال الدرعية، ولو ذهب للنخيل ما فرق بين شجر الجح وشجر القرع+.

وسمعت الشيخ محمداً يقول: =كان الإمام فيصل بن تركي _ رحمه الله تعالى _ شديد الخوف من الله ومن ذلك أنه استدعى أحد الرعية _ لشكوى جاءته _ فقال له _بعد أخذ ورد_: خف الله يا طويل العمر، فبكى الإمام فيصل×+.

وسمعته يقول : =كان الشيخ عبد الرحمن بن حسن _ رحمه الله تعالى _ يقول عن نفسه أنه يذكر ثدي أمه لما كانت ترضعه+.

وسمعته يقول عنه _ أيضاً _: =كان × حاد البصر، ولما كبر وثقل بقيت معه حدة البصر، فكانوا إذا تحروا الهلال حملوا الشيخ عبدالرحمن إلى سطح المسجد _ وهو كبير _ ليرى الهلال+.

وسمعته يقول عنه _ أيضاً _: =إنه أسند التدريس لابنه عبد اللطيف × فكان ابنه لا يشرح مطلقاً وأبوه موجود، فكان أبوه يخرج من الحلقة حتى يشرح ابنه، ثم يأتي وهو لا يعلم به حتى يستمع شرحه+.

وسمعته يقول: =دعانا بعض أهل ضرمى على وليمة مع الشيخ سعد ابن حمد بن عتيق × وبعض الإخوة، فلما انتهينا من الغداء _ وكان بعد العصر_ استأذن الشيخ سعد ونهضنا معه _ وكان هذا قبل السيارات ومعنا رواحل _ فلما ظهرنا فوق عقبة (القدية) أردنا أن ننام، فَقَيَّدنا الرواحل، ولم نعقلها؛ حتى تستطيع الرعي ولا تبتعد عنا؛ فلما أصبحنا ذهب الذين معنا للبحث عن الرواحل فوجدوها كلها إلا راحلة الشيخ سعد؛ فتفرقوا للبحث عنها، وكان الشيخ سعد في هذه الأثناء يدعو الله _ تعالى _ أن يأتيه براحلته، فأتى الذين ذهبوا للبحث عنها ولم يجدوها.

قال الشيخ محمد: فأتى رجل إلينا من بعيد وهو يسوق راحلة الشيخ سعد معه حتى وصلت إلينا، ثم اختفى ولا ندري من هو، وكان الذين ذهبوا للبحث عنها كل واحدٍ منهم يحسب أن الآخر هو الذي يسوقها حتى أتوا وسأل بعضهم بعضاً فأنكر كل واحد ذلك، وهذه من كرامات الشيخ سعد ×+.

وسمعته يقول عن أبيه الشيخ إبراهيم: =عندما وضعت له زوجته _ أم الشيخ محمد _ العشاء في أحد الأيام وكان بعد العصر _ في ذلك الوقت _  فلما بدأ بالأكل إذا الباب يطرق، فخرج فإذا رسول من الشيوخ _ يعني الملك عبد العزيز وكان يسمى بذلك في ذلك الوقت _ يخبره بتكليفه بالقضاء، قال الشيخ محمد نقلاً عن والدته: فدخل البيت مهموماً وترك العشاء وغسل يديه _ ولم يتناول إلا اليسير _ ولَحَظَتْ عليه في الليل عدم نومه ، فلما أصبح سَأَلَتْهُ عن السبب فأخبرها بأنه ولي القضاء، وكان ورعاً×+.

وجئت يوماً إلى الشيخ فلقيني الشيخ حمود التويجري _رحمه الله تعالى_ ومعه مسودة كتاب له قرأها على الشيخ، فلما دخلت على الشيخ _ وليس عنده أحـد غيري_ قال: إن رجلاً قرأ عليه قبل قليل _ يعني الشيخ حموداً _ كلاماً فيه بيت أعجبه وهو:

هي الأرض تهتز ابتهاجاً من الحيا

                    كما اهتزت العذرا ارتياحاً من البعل( )

ويقول معالي الشيخ عبدالله بن منيع متحدثاً عن بعض لطائف سيرة سماحة الشيخ محمد: =كان × إيجابياً في تصرفاته، ويحب الإيجابية في تصرفات الآخرين.

ذُكر له في مكتبه في الإفتاء بحضورنا نحن أعضاء الإفتاء أن فلاناً القاضي في محكمة كذا يكثر خطؤه في أحكامه، وكان × يعرفه، ويعرف إيجابياته في الأحكام.

وذُكر له كذلك أن فلاناً من القضاة في نفس المحكمة خطؤه قليل، فسأل × عن أعمال هذا، وأعمال هذا وهو يعرف ذلك، فقيل له: أن ما ينهيه الأول من أعمال في المحكمة يعادل نصف أعمال المحكمة، وما ينهيه الثاني من أعمال قليلة جداً، فقال: الأول عندنا أنفع للمسلمين، وأصلح، وأولى بالتقدير.

وكان × جازماً، عازماً إذا هم بأمرٍ قضاؤه عند ولي الأمر كتب بخصوصه رغبته، ومراده في خطاب ثم طواه بجيبه، ثم نادى سائق سيارته، واتجه إلى قصر جلالة الملك، أو مكتبه فلم يرجع إلا وقد أجيبت دعوته، ولبيت رغبته.

وكان × لا يطلب شيئاً لنفسه، وإنما طلباته خاصة بأعماله الرسمية.

وكان × يحب الحديث بالرموز مع من يعرف معه ذلك.

أذكر مثالاً لهذا فقد كنا في إحدى جلساتنا مع سماحته في مكتبه في الإفتاء، وبعد مرور وقت من العمل انتابه شيء من النعاس، فأراد فضيلة الشيخ عبدالله ابن عقيل أن يساعده على طرد النعاس، فأعطاه حلاوة علك مغلفة بغلافها الورقي فعلكها ×، ثم بعد ذلك قال: [أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً (26)] المرسلات، ففهمها فضيلة الشيخ عبدالله بن عقيل، وناوله ورقة العلك المغلف بها سابقاً، فوضعها فيها، وأعطاها الشيخ عبدالله، فوضعها في الزبالة، فغبطت الشيخ عبدالله على هذا الفهم من الشيخ+( ).

=سابعاً: من نوادر الشيخ محمد بن إبراهيم+

للنادرة وقع في النفس، وراحة في القلب، حيث تجلو صدأه مع رتابة العمل، والجدية المتواصلة.

جاء في الأثر: =روحوا عن النفوس ساعة فساعة؛ فإنها إذا كلَّت ملَّت+( ).

والشيخ محمد بن إبراهيم × يهتم بالنادرة، ويتأسى برسول الله " في مداعبة أصحابه والتبسُّط معهم؛ ليسرِّي عن العاملين، حيث يعاملهم كالأبناء( )، وإليك طرفاً من ذلك:

أ_ يقول الشيخ عبدالله بن منيع الذي لازم سماحته في العمل معه مدة طويلة: =أذكر أنني أنا وأحمد بن قاسم مع سماحته بعد العصر في الطائف في منطقة الهدا؛ لعرض ما لدي من معاملات على سماحته كالمعتاد، وفي رجوعنا وجَّه الكلام لأحمد بن قاسم قائلاً: يا أحمد أمُّك جاءت بولد ليس أخاك ولا أختك فمن هو؟ فبهت أحمد من هذا، وقال: خلها في قبرها عفا الله عنك، وبعد أن أتاح له فرصة التأمل، قال: هو أنت يا أحمد، جاءت بك أمك؛ فتنفس الصعداء وقال: الحمد لله فرجت عني جزاك الله خيراً+( ).

ب_ ويقول الشيخ عبدالله بن منيع _ حفظه الله _: =كان × يحب النكتة ويسترويها، فقد صار من بعض الزملاء أن اجتمع لديه اثنان من فراشي الإفتاء فذكَّرهما أن الصوم يصير  في الصيف، والشتاء، وكذلك الحج هكذا فإن السنة تستدير، فإذا اجتمع الصوم مع الحج في إحدى السنين فمن منكما سيصوم ويترك الحج، ومن سيحج ويقضي الصوم، فقال أحدهما: سأحج وأترك الصوم لأيام أخر، وقال الآخر: سأصوم وأترك الحج، فذكر لسماحته فاستدعاهما وأعيد السؤال عليهما فاحتج الأول على تركه الصوم بقوله _ تعالى _: [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] البقرة:184.

واحتج الثاني بقوله _ تعالى _: [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] البقرة:185.

فضحك × وقال: لقد بنيت هذه الدار على علم.

ومن رواية النكتة ما ذكره لنا _ أي الشيخ محمد بن إبراهيم _ أنه أبلغ الشيخ عبدالله بن عجيان × قرار نقله من نجران إلى طريف، فقال له: أسألك يا سماحة الشيخ هل أمرك الملك بأن تُحَدِّد بي المملكة في قضائي+( ).

ج_ وذكر الشيخ إسماعيل بن عتيق أن محمد عطاء الهندي سأل الشيخ في مجلسه فقال: ماذا نصنع بالميت إذا مات في السفينة؟ فقال الشيخ: ألقه في البحر.

فقال السائل: يطفح على سطح البحر، فقال له الشيخ: اعمل له مثقلاً، فقال السائل: يأكله السمك، فقال الشيخ: إذاً احمله على ظهرك ليكن معك حيث شئت.

د_ وكان من مداعبته للشيخ علي بن خميس: أن علياً تكلم يوماً بالهاتف مع مكة مخاطباً الشيخ عبدالله بن إبراهيم، فقال له الشيخ محمد: كلمت مكة يا علي؟ قال: نعم، قال فكلم الدرعية، فقال: لا تليفون فيها، قال: عجباً لك! تكلم البعيد ولا تكلم القريب.. وقال الشيخ ابن عتيق: ومثل هذا يحصل من الشيخ أحياناً مع غيره.

و_ وقرأ الشيخ عبدالعزيز بن شلهوب، وهو حسن الصوت، قليل اللَّحن، ولكنه أخطأ في هذه القراءة بكلمة، وهي: وهذه لغة حِمْير قرأها: وهذه لغة حَمِيْر، فقال الشيخ: سبحان الله، وهل للحمير لغة( ).

=ثامناً: تفننه في العلوم+

لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم × المنزلة العليا بين علماء زمانه؛ فهو مقدمهم، ورئيسهم، ومرجعهم خصوصاً في المملكة العربية السعودية.

وجل العلماء الذين جاؤوا من بعده هم من طلابه _ كما مر _.

وكان × إماماً في كثير من العلوم، متفنناً فيها.

يقول معالي الشيخ عبدالله بن منيع _ حفظه الله _ مبيناً سعة علمه، وعلو كعبه، وعظم مكانته في ذلك: =لا شك أن سماحته × ذو علم واسع، وفقه دقيق يتحدث في التفسير فنشهد له أنه من علمائه الأفذاذ، ويتحدث عن أصول الاعتقاد فلا نشك أنه من رجاله المبرزين، أما الفقه فهو فقيه زمانه يشهد لما أقوله ما قام بجمعه عن سماحته فضيلة الشيخ محمد بن قاسم من ملفات الإفتاء، ورئاسة القضاء، والمكتب الخاص، وتقريرات سماحته في دروسه المختلفة في جامعه، وفي بيته العامر.

كان × يتمسك بالمذهب إلا أنه غير متعصب له، وقد يخرج أحياناً عن مشهوره إلى صحيحه، أو إلى إحدى الروايات عن الإمام أحمد، وفي فتاواه× ما يدل على ذلك.

يرغب الاطلاع إلى حكم مسألة فلا يكتفي من ذلك بكتاب واحد، بل لا بد له من مجموعة من الكتب التي تتحدث عن المسألة نفسها؛ حتى إذا تم له قراءة ما أراد أملى رأيه في هذه المسألة بما يعتبر جمعاً لأطراف القول فيها بعد تحريره محل الوفاق، ومحل النزاع فيها؛ فيختار فيها قولاً يذكر مستند المصير إليه، ومسوغ القول به.

أذكر على سبيل المثال رأيه في التسعير، وكلامه في تحريف أهل الكتاب التوراة والإنجيل، وسلامة كتاب الله القرآن من ذلك؛ حيث توليت ذلك مع سماحته.

وكان × ذا علم معتبر في علوم التاريخ، والأنساب، والفلك، وفي علوم اللغة العربية من نحو، وصرف، ومعان، وبيان، وبديع، وكان ذا ذوق رفيع في إدراك غرر القصائد العربية، والقدرة على تحليلها، والغوص على دقائق معانيها، يقول الشعر بلا تكلف.

تحدث عن نفسه × أمامنا فقال: لو أردت لما تحدثت إلا بالشعر إلا أنه يرى في الشعر ما رآه الشافعي فيه حيث يقول الشافعي:

ولولا الشعر بالعلماء يزري

                   لكنت اليوم أشعر من لبيد( )+

ويقول د. محمد الشويعر متحدثاً عن شعر سماحة الشيخ: =قليلون جداً هم الذين يعرفون عن الشيخ محمد × تذوقه للشعر حفظاً واستشهاداً، وقولاً في المناسبات، ذلك لأنه لا يشتغل به، ولا يجعله يلهيه عن مذاكرة العلم وتعليمه.

فقد روي عنه قوله الشعر، ولكنه في مناسبته كالرثاء، وحفظه للشعر، ولكن للاستحسان أو للاستشهاد به مع الوقائع التاريخية، أو للشواهد العلمية من لغة وغيرها.

يقول عبدالرحمن بن عبداللطيف آل الشيخ: وللشيخ محمد معرفة بالعروض، ويقرض الشعر على طريقة العلماء، وقد رثى الشيخ عمر بن سليم ت1362هـ بأربعة أبيات هي قوله:

إن المصيبة حقاً فَقْدُنا عمراً

                   أَعظِمْ بميتته رزءاً بنا كَبُراً

قطبُ القصيمِ وما دون القصيمِ وما

                   خلف القصيم وما مجرى القصيم جرى

عليه دارُ الهدى والحق بيَّنه

                   كان الحياة وكان السمع والبصرا

ارزقه يا ربنا عفواً ومغفرة

                   واجبر مصيبتنا يا خير من جبرا

وله مرثية في عمه الشيخ عبدالله بن الشيخ عبداللطيف تبلغ خمسة وخمسين بيتاً ومطلعها:

على الشيخ عبدالله بدر المحافل

                   نريق كصوب الغاديات الهواطل

ولم أقف على بقيتها كاملة، لكن قال عنها الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام إنها طويلة جيدة.

لكن الشيخ محمد بن عثمان القاضي أورد عشرين بيتاً بالمطلع، فقال بعده:

دموعاً على الخدين تجري بعبرة

                   ولوعة محزون مهاج البلابل

فقد حق أن العين تهرق ماءها

                   وتسكب دمعاً بالضحى والأصائل

وآن لكبدي أن تذوب وينطوي

                   فؤادي على حزن به متواصل

وللأنس أن يزورَّ عني جانباً

                   فإني مصاب القلب مذكى الغلائل

فما مرَّنا يوم فظيع على الورى

                   كيوم وفاة الشيخ زاكي الشمائل

فأعظم به من فادح جلَّ خطبه

                   به الكل مفجوع مصاب المقاتل

فهل أحدٌ يُرْجى لسدِّ انثلامه

                   وفرجته هيهات ذا غير حاصل

هو العالم النحرير والجهبذ الذي

                   يبين الهدى في مشكلات المسائل

هو الناصح البذَّال في النصح جهده

                   وغايته كي يُنْتهى عن أباطل

إمام لعمري عارف أهل وقته

                   طبيب زمان ماله من مماثل

تقيٌّ نقيٌّ حازم ذو رزانة

                   وثابت جأش في اشتداد النوازل

حليم ذكيٌ ذو دُهَاً وسماحةٍ

                   وذو خلق زاكٍ وحسن شمائل

فقيه نبيه ناسك متورع

                   وذو نَصَفٍ في أمره غير مائل

إليه تُشَدُّ اليعملات وتُمْتطى

                   ظهور الفلا من شاسعات المنازل

وصول لأرحامٍ وإن قطعت به

                   صفوح عن الزلات من جهل جاهلِ

فيا عين سُحِّي أدمعاً بعد أدْمُعٍ

                   على وجناتي واستمرِّي وواصلي

سأبكيه جُهدي ما بقيت بأدمُعٍ

                   ويبكيه غيري من شريف وفاضل

ويبكيه طلاب العلوم بلوعةٍ

                   وأعينهم كالمستهل بوابل

جزاه إله العالمين بجنَّة

                   وأسكنه الفردوس أعلى المنازل

وقال فضيلة الشيخ علي الرومي قاضي التمييز بالرياض × وهو من تلاميذ الشيخ الملازمين: كنا في الدرس عند سماحة شيخنا محمد بعد صلاة الفجر، وفي ذلك اليوم، أنشأ هذه الأبيات _ التي رواها لنا الشيخ علي من ذاكرته _ ليحث الطلبة على الاهتمام بالدروس، وزيادة التحصيل على الفور:

واسوأتاه لطالب العلم الذي

                   ثَقُلت عليه مجالس التدريس

وإذا قراءته تقضَّت قام لا

                   يلوي على ما بعد من تأسيس

هذا وفي حال القراءة قلبه

                   بالفهم والإصغاء غير أنيس

ويودُّ لو أن القراءة تنقضي

                   في لحظة .. ماذا يقول جليسي

إن قلت إنهم لعمري ما لهم

                   من رغبة في نيل كل نفيس

إن قلت ما لهمو من الإقبال من

                   إدْلاجه حظ ولا تفليس

ورضوا الترسُّم وهو غير مفيدهم

                   إن الأماني حظ ذي التقليس

يا رب واغرس خير غرس يرتجى

                   منهم إغاظة ذي الخنا إبليس

يا رب واجعلنا من الغرس الذي

                   تختار للتنزيه والتقديس

وإبانة التوحيد محضاً صافياً

                   وإزاحة التشبيه والتلبيس

ثم قال الشيخ علي: وقد فقدت منها بيتين لا أتذكرها الآن.

وقد كتب له بعض المحبين أبياتاً رقيقة، فأجابه × بقوله:

عليك مثل الذي أهديت يشفعه

                   تحيةٌ ما شدا بالبان صادحه

في روضة من رياض الخرج باكرها الـ ال

                   ــوسمي والصيف تسقيها روائحه

ورحمة الله ما أبدى أخو مِقَةٍ

                   من الوداد الذي تخفى جوانحه( )+

رحم الله مدرسة الحزمِ والعلم سماحةَ الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم، وجزاه خير الجزاء على ما قدم للإسلام والمسلمين.

 سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز( )

=توطئة وتمهيد+

هو الإمام القدوة العلامة بقية السلف، وشيخ الإسلام، ومفتي المسلمين سماحة والدنا وشيخنا أبي عبدالله، الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز×.

ذلك البحر الخِضَمُّ، والطود الأشم، الذي بَعُدَ صيتُه، وتناهى فضله، وكمل سؤدده.

ذلك الإمام الذي قل أن يوجد له نظير، وقل أن تند عنه خصلة من خصال الخير؛ فلقد جمع الله له من حميد الخلال، وكريم الخصال ما لم يجمع لغيره إلا في القليل النادر على مر الأزمان.

ماذا يقول الواصفون له

                   وصفاته جلَّت عن الحصر

علم في حلم، وحزم في عزم، وتواضع في شَمم، وغيرة على الحق لا تكفكفها رغبةٌ في مدحٍ، أو حذرٌ من ذم، ووضاءة أخلاق في متانة دين، وبراعة بيان في صدق يقين، وعزة نفس في سخاوة طبع، حتى لكأن البحتري يعنيه بقوله:

فلك الفضائل من فنون محاسنٍ

                   بيضاً لأفراط الخلاف وشيما

جُمِعَتْ عليك وللأنام مفرقٌ

                   منها فأفراد قُسِمْنَ وتوما

ما نال ليثُ الغابِ إلا بعضَها

                   حتى رعى مُهَجَ النفوسِ جميما

شاركته في البأس ثم فَضُلْتَهُ

                   بالجود محقوقاً بذاك زعيما

وإذا اجتمعت تلك الخصال في شخص ما_ فاعلم أن وراء ذلك عظمة؛ فانسج بعد ذلك من برود الثناء ما شئت دونما شطط، ثم أهدها لتلك العظمة الحقة.

 ولئن كان أكثر العظماء يتوهج في مقتبل عمره، ثم يذوي بعد ذلك ويذبل_ فإن شيخنا × لا تطّرد هذه القاعدة في حقه.

بل هو كالعود الهندي لا يزيده تقادم الأيام إلا زكاءاً وطيباً، وكمالاً، وجلالاً؛ فمآثره تتجدد، وهمته تعلو وتسمو، وذاكرته تقوى وتزداد سنة بعد سنة، وقيامه بالمسؤوليات، وتحمله للتبعات يتضاعف يوماً بعد يوم، وأياديه البيضاء تَسِحُّ بالعطاء إثر العطاء، وعلمه يزدان ويزداد، والثقة به، والقبول له بازدياد واطراد؛ فبقي حاضراً متوهجاً، معطاءاً حتى آخر لحظة من عمره.

الله أكبر! عبادة لله حتى اليقين، وحياة عامرة بالعمل المجيد حتى طويت كطيِّ السجل للكتب.

تلك حياة فقيد الأمة الذي سكنت أنفاسُه وحسامُه مُخَضَّبٌ بدم الجهاد في سبيل الحق؛ فلم يمُتْ على فراشه ملقي السلاح كما يموت ضعيف العزيمة مزلزل الإيمان.

بل لقد كان لسانه بالحق قوَّالاً، وعزمه في دحض الباطل صوّالاً، وفكره في هموم الأمة ومصالحها جوَّالاً.

وبعد أن رحل عن الدنيا أبقى لنا سيرة غراء، وذكراً أطيب من ريح المسك.

فذٌّ عزيزُ المِثل جوهرُه

                   زاكٍ كأنفاس الشذَّا بَرُّ

غالٍ على المُهَجات حاليةٌ

                   بجهاده الآثارُ والعُصْرُ

مُتفَرِّدٌ بخلائقٍ غُرَرٍ

                   بجمالها يتفاخر الفخرُ

في كل صالحة له خبرٌ

                   ولكل محمدة له صُوْرُ

صافٍ كماء المزن ظاهُره

                   كضميره وكسرِّه الجهر

عَلَمٌ على الذُّرُوات رفَّ كما

                   رف السنا وتلامح النُّوْر

العلمُ ملءُ جنانه دُفَقٌ

                   والعقل خلف لسانه وَقْرُ

تتألق الفصحى على فمه

                   زهواً كما يتألق البدرُ

عالٍ على الأهواء مُتِّشِحٌ

                   بحجىً له في لمحه غوْرُ

مصباحه الفرقان يتبعه

                   أنى أشارت آيُهُ الزُّهْرُ

ينحو ويسلك ما تفهَّمه

                   منه النبيُّ وصحبه الغُرُّ

ويقيم من مالوا به جنفاً

                   حتى يثوب إلى الهدى الصُعْرُ

كم نزَّه الإسلام من بدعٍ

                   قد باضها الشيطان والكفرُ

مقبوحةٍ شوهاءَ شاه بهاً

                   وجه الهدى وتلوث الطهرُ

كان الحكيمَ الطَّبَّ بلْسَمُهُ

                   رفق الحديث وفقههُ البحرُ

أدبُ النبوة ما تنخَّلَهُ

                   والحكمةُ الزهراءُ واليسرُ

بلغ المدى واليسرُ يبلغ ما

                   يعيا ببعض طِلابِهِ العسرُ

نظراته لطفٌ وبسمتهُ

                   رُحْمى وعَذْبُ حديثه نَشْرُ

خلع الحياءُ عليه بَهْجَتَه

                   وله جلال السِّنِّ والقدْرُ

أبقيةَ السلف الكرام زهت

                   بجلالك الحرمات والذكرُ

عذراً إليك فقد وهى جلدي

                   وخبت قواي وخانني الصبرُ

ما بعد روحي ما أذوِّبه

                   ياليت شعري هل وفى العذرُ( )

ولنا بعد ذلك أن نتساءل: ما سر هذه العظمة؟ وما سر تلك المحبة التي تملكت القلوب، وتخللت من الناس مسلك الروح؟

والجواب: أن ذلك يرجع لمحض فضل الله_عز وجل_حيث وهب الإمام مواهب فطرية عظيمة، وجبله على سجايا وخصال عديدة حميدة.

وتلك المواهب والسجايا والخصال غُذِّيت بلَبان العلم والإيمان، ومزجت بإكسير الإخلاص والتقوى؛ فآتت أُكلها ضعفين، بل أضعافاً كثيرة.

ويرجع ذلك _ أيضاً _ إلى جدِّ الإمام وتشميره، واقتدائه بسلفه الصالح، ومن اقتدى بأولئك السَّرَاة صار للمتقين إماماً؛ فاقتدى به من معه، ومن بعده.

وسرٌّ بديع يتمثل بقول الله _ تعالى _: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدّاً] مريم: 96.

وقول النبي": =إذا أحب الله عبداً أوحى إلى جبريل أني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل بأهل السماء: أن الله يحب فلاناً فأحبوه؛ فيحبه أهل السماء، ثم يطرح له القبول في الأرض+.

وإذا أحب الله يوماً عبده

                   ألقى عليه محبة في الناس

وسرٌّ آخر، ألا وهو بذل الإمام نفسه، ووقته، وماله، وعلمه، وراحته في سبيل نشر الخير، ونفع الناس؛ مبتغياً بذلك وجه الله.

وبعد فلقد كان لنا في حياة الإمام عظات، ولنا _ أيضاً _ في موته عظات، وإن أعظم موعظة نأخذها أن ندرك أنْ ليس للإنسان إلا ما سعى، وأنه لا ينفع الإنسان إلا ما قدمه من أعمال صالحات، ومآثر خيِّرات، وأن نستحضر أن العلم والإيمان يرفعان صاحبهما عند الله وعند خلقه درجات.

وإن كنا محبين للإمام معجبين بسيرته _ فلتلهج ألسنتنا بالدعاء له، ولنتخذ من سيرته نبراساً نسير عليه؛ فهو لم يصل إلى ما وصل إليه إلا باقتدائه بمن سبقه من سلفه الصالح؛ وعلى رأسهم رسول الله".

لقد مات الإمام، وبقي اسمه، واتفق منصفه وجاحد فضله على نبله وعلمه.

لقد بكى الإمامَ الكبيرُ والصغيرُ، والغني والفقير، والمأمور والأمير، والرجال والنساء، والموافق والمخالف.

ولقد بكته أمم شَبَّت على يديه، وتربت تحت رعايته، ونهلت من علمه، وقبست من فضله.

ولقد بكاه الفقراء والمعوزون، وطالبو الشفاعات والمساكين الذين كانوا يحتمون بِطِرافه السامي الذُّرا، ويأوون إلى حَرَمِه الذي لا يضهد؛ فيلقون القلب الرحيم الذي يحنو عليهم حنوَّ المرضعات على الفطيم.

وبكته ساحات الجهاد؛ حيث فقدت نصيحها، ونصيرَها، ورابطَ جأشِها، ومقويَ عزائمها، والحريص على جمع كلمتها، ورأب صدعها.

وما مَثُلُ مَنْ بُلوا بفقد الإمام إلا كالمدلجين يطلع عليهم القمر ساطعاً، فيستبينون به أعلام الطريق رشداً، حتى إذا ازدهتهم طلعتُه، وتدفقت حولهم أشعتُه _ توارى بالحجاب؛ فإذا هم مظلمون.

أجَلْ لقد ذهب ذلك الأمل المروِّح عن القلب، وأصبحت الذكريات تبعث الحسرات؛ فتجعلها ركاماً.

وهل بالوسع نسيان الشيخ الإمام؟ وهل تغيب ذكراه عن قلب كل محب له؟ وهل يسلوه من رآه، أو جالسه، أو سمعه، أو سمع به؟

إن ذكراه لتتجدد بكل مناسبة، وإنها لتتمثل بكل سبيل؛ فماذا نقول؟ وماذا ندع؟

وتأتي أهمية سيرة الإمام ابن باز لأمور عديدة منها:

1_ أنها تتحدث عن سيرة لإمام دنت له قطوف العلوم، ودانت له نواصي الحكمة؛ فهو أمة في الخير، وقدوة في الهدى والتقى.

2_ أن جوانب العظمة في سيرة هذا الإمام لا تكاد تحصى كثرةً_كما مر_مما يجعل هذه السيرة ميداناً فسيحاً لمن أراد التأسي والاقتداء؛ فالرئيس يجد فيها بغيته، والعالم يجد فيها ضالته، والوالد والمربي، والقاضي، والعامي، والعابد، ونحوهم كل يجد في هذه السيرة ما قد يكون سبباً في فلاحه.

3_ أنها تمثل صورة حية للإسلام، والاقتداء بسيد المرسلين، وسلف هذه الأمة الصالح.

4_ أن صاحب هذه السيرة عاش عمراً مديداً، وشاهد أحوالاً متباينة، وعاصر طبقات إثر طبقات، ومع ذلك أثَّر وأثرى، وأفاد وأجاد، وامتاز بحسن التعامل مع المتغيرات، واختلاف الطبقات.

5_ أن هذه السيرة تحمل في طياتها لفتاتٍ تربويةً عمليةً عظيمة ( ).

6_ أن صاحبها رجل عاش بين ظهرانينا، ورحل من بيننا منذ وقت قريب؛ فهو ممن عاش في القرون المتأخرة؛ ومع ذلك نال ما نال من مجد، وفضل، وسؤدد؛ مما يجعل صدى هذه السيرة أوسع، وتأثيرها في النفوس أوقع؛ لأن مِنَ الناس مَنْ إذا حُدِّثَ عن السلف ومآثرهم قال: أين نحن من أولئك فـ:

لا تعرضن بذكرهم مع ذكرنا

                   ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد

فإذا شاهد هذا الإمام وقد تحلى بما تحلى به، وقبس من سيرة السلف ما قد قبس_كان ذلك داعيةً إلى السعي في الكمال، وطرد شبح اليأس من القلوب.

7_ المكانة العالية التي يحتلها سماحة الإمام الشيخ عبدالعزيز في نفوس المسلمين؛ فلقد كان ملء أسماعهم، وأبصارهم، وقد تجلت تلك المكانة إبَّان موته؛ حيث زلزل ذلك الخطبُ القلوب، وهز القاصي والداني؛ فالمصيبة بفقده ليست من نوع المصائب المعهودة التي يَقْتَصِرُ أثر الحزن فيها على الأهل، والأصدقاء، وأهل البلد فحسب؛ بل إن المصيبة بفقده تجاوزت ذلك؛ فتناولت البلدان الإسلامية، وسائر العواصم الكبرى، بل تغلغلت في شتى بقاع الأرض؛ فقلَّ أن يوجد رئيس، أو حاكم، أو كاتب، أو عالم، في سائر بقاع الأرض لم يعرف الفقيد، أولم يسمع باسمه الكريم، ومزاياهُ العظيمةِ، وقل أن توجد إذاعة أو مؤسسة إعلامية لم تذع خبر وفاته.

حقاً إن المصيبة به عظيمة، والخطب بفقده أليم، وليس من بلدة هي أحق بالتصبر من أي بلدة أخرى في عامة الأقطار.

ولقد شهد الناس بأم أعينهم كأن سحابة حزن سوداء غشيت عِلْيَةَ القوم، وصغارهم؛ فاشترك في تجرع المصاب به كلُّ مَنْ عرف فضله من الحكام، والأمراء، والوزراء، والعلماء، والتجار، والوجهاء، والفقراء، والنساء، والأطفال، وأهل الحرف، بل لقد أصبح في شغل عن السَّفَرِ السَّفْرُ يوم وفاته، واجتمع أمة لا يكاد يحصى عددها لتشييع جنازته.

وبعد موته انطلقت الأعين بالدموع عليه، والألسنة بذكره والدعاء له، ومكثت الصحف ووسائل الإعلام مدة طويلة تكتب عنه، ونظمت القصائد تلو القصائد في رثائه، وذكر محاسنه، وصارت التعازي تتابع من قريب ومن بعيد فيه؛ وأصبح كلُّ محبٍّ له مُعزٍّ به، ومُعَزَّىً به.

وهذا كله ترجمة لما تكنِّه النفوس من الاعتراف بفضله، وعلمه، وتقواه، وذلك يضفي أهمية على دراسة سيرته؛ فعلى قدر مكانة الإنسان، وشهرته يعظم الاقتداء به، وتُلِحُّ الرغبة في سماع الحديث عنه؛ فلا ينبغي أن نقف عند مجرد وصفه وذكر مآثره، بل ينبغي أن نتجاوز ذلك إلى الاقتداء به، والتخلق بأخلاقه.

والحقيقة أن الذي يكتب عن سماحة الإمام × لن يسلم من أحد اثنين:

أما أحدهما فعارف بالإمام، سابر لأحواله، مطلع عليه عن كثب؛ فهذا لن تذهب به الغرابة بعيداً، بل ربما يلوم على التقصير في إيفاء الشيخ حقه.

وأما الآخر فجاهل بالإمام الشيخ، بعيد عنه؛ فلذا قد يرى أن فيما يقرؤه شيئاً من المغالاة أو المبالغة؛ فلا هذا يلام، ولا ذاك يلام.

والعجيب في الأمر أن كثيراً ممن يسمع بهم الإنسان ثم يراهم يرى أنهم أقل مما سمع؛ لفضل المغيب على المشهد.

أما سماحة الشيخ×فإنك تسمع عنه العجب، فإذا رأيته، وسبرت حاله عن قرب رأيت منه فوق ما سمعت عنه.

=معالم عامة في سيرة سماحة الشيخ ابن باز+

أولاً: نبذة عن سيرته: هو سماحة الشيخ الإمام العلامة المجدد عبدالعزيز ابن عبدالله بن عبدالرحمن بن محمد بن عبدالله آل باز.

ولد في الرياض في ذي الحجة سنة 1330هـ، وكان بصيراً في أول طلبه للعلم _كما يقول_.

ويقول: ثم أصابني المرض في عيني عام 1346هـ فضعف بصري بسبب ذلك ثم ذهب بالكلية في مستهل محرم من عام 1350هـ والحمد لله على ذلك.

وأسأل الله _ جل وعلا _ أن يعوضني البصيرة في الدنيا، والجزاء الحسن في الآخرة، كما وعد بذلك _ سبحانه _ على لسان نبيه محمد " كما أسأله _سبحانه_ أن يجعل العاقبة حميدة في الدنيا والأخرى.

ويقول ×: وقد بدأت الدراسة منذ الصغر، فحفظت القرآن الكريم قبل البلوغ على يدي الشيخ عبدالله بن مفيريج × ثم بدأت في تلقي العلوم الشرعية والعربية على أيدي كثير من علماء الرياض، ومن أعلامهم:

1_ الشيخ محمد بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن الشيخ محمد ابن عبدالوهاب _ رحمهم الله _.

2_ الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن حسن بن الشيخ محمد ابن عبدالوهاب قاضي الرياض _ رحمهم الله _.

3_ الشيخ سعد بن حمد بن عتيق × قاضي الرياض.

4_ الشيخ حمد بن فارس وكيل بيت المال بالرياض ×.

5_ الشيخ سعد وقاص البخاري من علماء مكة المكرمة أخذت عنه علم التجويد في عام 1355هـ، حيث كنت أتردد على الشيخ سعد في دكانه مدة شهرين، آخذ عنه علم التجويد.

6_ سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ × وقد لزمت حلقاته صباحاً ومساءً، وحضرت كل ما يقرأ عليه، ثم قرأت عليه جميع المواد التي درستها في الحديث والعقيدة، والفقه، والنحو، والفرائض، وقرأت عليه شيئاً كثيراً في التفسير، والتاريخ، والسيرة النبوية نحواً من عشر سنوات وتلقيت عنه جميع العلوم الشرعية ابتداءً من سنة 1347هـ إلى سنة 1357هـ حيث رشحت للقضاء من قبل سماحته.

ثانياً: من أخبار سماحة الشيخ في صباه: من أخباره في صباه أن والده توفي وهو صغير حيث إنه لا يذكر والده.

أما والدته فتوفيت وعمره خمس وعشرون سنة.

ومما يُذْكَر أنه كان في صباه ضعيف البنية، وأنه لم يستطع المشي إلا بعد أن بلغ الثالثة، ذكر ذلك ابنه الشيخ أحمد.

وكان سماحة الشيخ معروفاً بالتقى والمسارعة إلى الخيرات، والمواظبة على الطاعات منذ نعومة أظفاره.

يقول الشيخ محمد الموسى _ حفظه الله _: =وقد ذكر لي الشيخ سعد ابن عبدالمحسن الباز_وهو قريب لسماحة الشيخ ويكبره بعشر سنوات_ذكر أن سماحة الشيخ منذ نعومة أظفاره كان شاباً تقياً سباقاً إلى أفعال الخير، وأن مكانه دائماً في روضة المسجد وعمره ثلاثة عشر عاماً.

وقد ذكر لي سماحة الشيخ × فيما كان يذكره من أخبار صباه موقفاً لا ينساه مع شيخه الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ قاضي الرياض آنذاك.

يقول سماحته: كنت في مقتبل عمري، وقد رآني الشيخ صالح × في طرف الصف مسبوقاً، فحزن الشيخ صالح، وقال: بعض الناس يسوِّف، ويجلس يأكل ويشرب حتى تفوته الصلاة، وكأنه × يعنيني ويُعرِّض بي؛ فخجلت مما كان مني، وتكدرت كثيراً، ولم أنس ذلك الموقف حتى الآن.

ولم يكن الشيخ صالح × ليقول ذلك إلا لأنه كان يتوسم ويتفرس في سماحة الشيخ نبوغه المبكر.

ومن الأخبار المعروفة عن سماحة الشيخ في صباه أنه كان معروفاً بالجود والكرم.

وقد ذكر لي الشيخ سعد بن عبدالمحسن الباز × أن سماحة الشيخ عبدالعزيز وهو طالب عند المشايخ _ إذا سلم عليه أحد دعاه إلى غدائه، أو عشائه، ولم يكن يحتقر شيئاً يقدمه لضيوفه ويجعل الله في الطعام خيراً كثيراً.

أَلِفَ المروَّة مُذْ نشا فكأنه

                   سُقي اللَّبانَ بها صبياً مُرْضَعا

ويضيف الشيخ محمد الموسى: =ومن أخباره في صباه أنه كان يكتب، ويقرأ ويعلق على الكتب قبل أن يذهب بصره.

وقد قيل ذات مرة لسماحة الشيخ: سمعنا أنك لا تعرف الكتابة.

فأجاب سماحته بقوله: هذا ليس بصحيح؛ فأنا أقرأ وأكتب قبل أن يذهب بصري، ولي تعليقات على بعض الكتب التي قرأتها على المشايخ مثل الآجروميه في النحو، وغيرها.

وإذا أملى سماحة الشيخ عليَّ كتاباً، أو تعليقاً، وكان هناك إشكال في كلمة ما_قال لي: تُكْتَب هكذا، وأشار إلى راحة يده، وهو يَكْتُب بإصبعه؛ ليريني كيفية الكتابة الصحيحة.

وقيل لسماحته ذات مرة: هل صحيح أنك تتمنى أنك رأيت الإبل على ما خلقها الله؟

فأجاب سماحته بقوله: هذا ليس بصحيح؛ فأنا أتصورها؛ لأن بصري لم يذهب إلا وعمري تسع عشرة سنة+.

ثالثاً: من أبرز صفات الشيخ على سبيل الإيجاز: تفرد سماحة الإمام عبدالعزيز× بصفات عديدة لا تكاد تجتمع في رجل واحد إلا في القليل النادر، ومن أبرز تلك الصفات على سبيل الإيجاز: الإخلاص لله _ ولا نزكي على الله أحداً _ فهو لا يبتغي بعمله حمداً من أحد ولا جزاءاً، ولا شكوراً، والتواضعُ الجم، مع مكانته العالية، ومنزلته العلمية، والحلم العجيب الذي يصل فيه إلى حد لايصدقه إلا من رآه عليه، والجلدُ، والتحملُ، والطاقةُ العجيبة حتى مع كبر سنه.

ومن صفاتِه الأدبَ المتناهي، والذوقَ المرهف، والكرمُ والسخاءُ الذي لا يدانيه فيه أحد في زمانه فيما أعلم، وذلك في شتى أنواع الكرم والسخاء، سواء بالمال أو بالوقت، أو الراحة، أو العلم، أو الإحسان، أو الشفاعات، أو العفو، أو الخُلُق، ونحو ذلك.

ومما كان يتحلى به السكينةُ العجيبة التي تغشاه، وتغشى مجلسه، ومن يخالطه، والذاكرةُ القوية التي تزيد مع تقدمه في السن، والهمةُ العالية، والعزيمةُ القوية التي لا تستصعب شيئاً، ولا يهولها أمر من الأمور.

ومن صفاتِه العدلُ في الأحكام سواء مع المخالفين، أو الموافقين، والثباتُ على المبدأ، وعلى الحق، وسعةُ الأفق، وبُعْدُ النظر، والتجددُ؛ فهو _دائماً_ يتجدد، ويواكب الأحداث، ويحسن التعامل مع المتغيرات.

ومن خصاله الحميدةِ الثقةُ العظيمةُ بالله _ جل وعلا _، والزهدُ بالدنيا، سواء بالمال أو الجاه، أو المنصب، أو الثناء، أو غير ذلك، والحرصُ على تطبيق السنة بحذافيرها، فلا يكاد يَعْلَمُ سنةً ثابتة إلا عمل بها.

ومن صفاتِه بشاشةُ الوجهِ، وطلاقُة المحيا، والصبرُ بأنواعه المتعددة من صبر على الناس، وصبر على المرض، وصبر على تحمل الأعباء إلى غير ذلك.

ومن مزاياه عفةُ اللسانِ، والمراعاةُ التامة لأدب الحديثِ والمجلسِ ونحوها من الآداب، والوفاءُ المنقطع النظير لمشايخه، وأصدقائه، ومعارفه، وأرحامه، وجيرانه.

كما أنه كان يحسن الظن بالناس ولا يقبل الخبر إلا من ثقة، وكان قليل الكلام، كثير الصمت، كثير الذكر والدعاء، وكان لا يرفع صوته بالضحك.

وكان كثير البكاء إذا سمع القرآن، أو قرئ عليه سيرة لأحد العلماء، أو شيء يتعلق بتعظيم القرآن أو السنة.

وكان يقبل الهدية، ويكافئ عليها، ويحب المساكين، ويحنو عليهم، ويتلذذ بالأكل معهم.

وكان يحافظ على الوقت أشد المحافظة، ويشجع على الخير، ويحض عليه، وكان لا يحسد أحداً على نعمة ساقها الله إليه، ولا يحقد على أحد بل يقابل الإساءة بالإحسان.

وكان معتدلاً في مأكله ومشربه، دقيقاً في مواعيده، متفائلاً ومحباً للفأل.

هذه نبذة عن بعض أخلاقه على سبيل الإيجاز، وسيأتي تفصيل لذلك في الصفحات التالية.

رابعاً: الأعمال التي تولاها سماحة الشيخ: أول عمل تولاه سماحة الشيخ× هو القضاء؛ حيث عين قاضياً في مدينة الدلم عام 1357هـ واستمر فيه إلى عام 1371هـ.

وكان طيلة تلك المدة يقوم بإمامة الناس، وخطبة الجمعة، وإلقاء الدروس في الليل والنهار، والإصلاح بين الناس، وتفقد أحوالهم، ويقوم باستقبال الوفود، والزائرين، وطلاب العلم، ويعنى بالفقراء والمحتاجين.

كما كان × يولي مصالح الناس اهتمامه، ويكتب إلى المسؤولين في كل ما يراه ضرورياً لإصلاح المنطقة، فيجد لديهم من التجاوب ما يحقق رغبته الخيرة في الإصلاح العام.

وقد تتلمذ على يديه في تلك الفترة جمع غفير من العلماء، والقضاة.

وفي عام 1371هـ انتقل سماحته إلى التدريس في المعهد العلمي في الرياض، ثم انتقل إلى كلية الشريعة واستمر فيها إلى عام 1381هـ.

وكان في تلك الفترة يؤم المصلين في جامع الإمام تركي بن عبدالله×ويقوم بإلقاء الدروس في المسجد، وفي بيته، ويلقي المحاضرات الكثيرة، والكلمات المتنوعة في المناسبات.

وفي عام 1381هـ انتقل إلى المدينة النبوية؛ ليعمل نائباً لرئيس الجامعة الإسلامية وهو سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم×.

وكان في المدينة يلقي الدروس في المسجد النبوي بين المغرب والعشاء عدا ليلة الثلاثاء.

وكان يتلقى الطلاب، ويلقي المحاضرات، والكلمات، ويكتب في الصحف والمجلات.

وفي عام 1390هـ صدر الأمر الملكي بتعيينه رئيساً للجامعة الإسلامية.

وفي 14/10/1395هـ انتقل إلى الرياض وعين رئيساً لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد برتبة وزير.

وفي تلك الفترة تولى إمامة جامع الإمام تركي بن عبدالله، واستمر فيه حتى هدم الجامع المذكور، وبعدما أعيد بناؤه من جديد كتب سماحته لولاة الأمور مقترحاً عليهم أن يعين سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ إماما للمسجد المذكور.

كما كان في الوقت نفسه رئيساً لمجالس رابطة العالم الإسلامي، ورئيساً للمجمع الفقهي، والمجلس الأعلى العالمي للمساجد، والمجلس التأسيسي للرابطة.

وفي عام 1414هـ صدر الأمر السامي بتعيينه مفتياً عاماً للمملكة، ورئيساً لهيئة كبار العلماء، ورئيساً للّجنة الدائمة، ورئيساً لرابطة العالم الإسلامي.

ومن أعماله _ أيضاً _ أنه كان رئيساً لدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة التي تأسست عام 1352هـ بأمر من الملك عبدالعزيز×.

خامساً: أبرز الأعمال التي كان يقوم بها سماحة الإمام على سبيل الإيجاز: أعمال سماحة الإمام كثيرة لا تكاد تحصى، وهذه جملة من أبرز أعماله على سبيل الإيجاز الاهتمام العظيم بالعلم وتعليمه، والحرص البالغ على الدعوة إلى الله _عز وجل_ والقيام بالفتوى، والرد على المستفتين من كل مكان، وفي هذا الميدان تتجلى عبقريته الفذة.

ومن أعماله التعاون مع أهل العلم في كل مكان في سبيل نشر الدين، وتصحيح العقيدة، وإرسال الدعاة، وكفالتهم، ودعم الجهاد الإسلامي في شتى صوره في كل مكان، والكتابة في الصحف، والرد على المخالفين، وإلقاء الدروس، والمحاضرات، والندوات، والبرامج الإذاعية، وأشهرها وأعمها نفعاً برنامج نور على الدرب الذي كان يشارك فيه منذ عام 1392هـ إلى آخر أيامه×.

ومن أعماله الإسهام وتبني طبع الكتب النافعة باللغة العربية وغيرها، والشفاعة بأنواعها المتعددة، كالشفاعة في المصالح العامة، والشفاعة في المصالح الخاصة إلى غير ذلك مما سيأتي بيانه في ثنايا هذا الكتاب _ إن شاء الله _ ومتابعة أوضاع المسلمين، والحرص على نصرتهم، ورفع الظلم عنهم، ومساعدتهم بالمستطاع.

ومن أعماله شراء البيوت للمحتاجين، وتحمل الإيجار عن بعض المستأجرين، وإجراء المرتبات لبعض المحتاجين بحسب أحوالهم، وكفالة الأيتام، والأسر المعوزة، وإقراض المحتاجين وغالباً ما ينتهي بالمسامحة.

ومن أعماله الحرص على تعمير المساجد في الداخل والخارج.

ومن أعماله النصيحةُ الصادقةُ لأئمة المسلمين، وعامتهم، والحرصُ التام على جمع كلمة المسلمين على الحق، وإصلاح ذات بينهم وتقريب وجهات نظرهم.

ومن أعماله رئاسة بعض المؤتمرات، والمجامع والهيئات العلمية، ودعم المراكز والمعاهد والمدارس والجمعيات الإسلامية في داخل المملكة وخارجها.

هذه بعض أعماله على سبيل الاختصار.

سادساً: مؤلفات سماحة الشيخ وآثاره العلمية: لقد ترك الشيخ × مؤلفات علمية كثيرة، يصعب حصرها، واستقصاؤها؛ فمنها المكتوب، ومنها المسموع، ومنها المطبوع، ومنها الذي لم يطبع، ومنها ما يشترك به مع غيره ككثير من الفتاوى، إلى غير ذلك من مؤلفاته وآثاره.

وإليك طرفاً من ذلك:

1_ الفوائد الجلية في المباحث الفرضية، وهو من أوائل مؤلفاته بل ربما كان أولها، ولعل الطبعة الأولى من هذا الكتاب كانت عام 1358هـ.

2_ التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة (توضيح المناسك).

وهو _ كما يقول سماحة الشيخ _ أهمها، وأنفعها، وقد جمعه في عام 1363هـ لما كان قاضياً في الخرج، ثم زاده، وبسطه بعد ذلك، وطبع طبعات كثيرة لا تكاد تحصى، وترجم إلى لغات عديدة، وكثيراً ما كان يُقرأ على سماحته، فيضيف إليه، ويحذف منه ويقول: ما أضعف العبد!

3_ التحذير من البدع، ويشتمل على أربع مقالات: حكم الاحتفال بالمولد النبوي، وليلة الإسراء والمعراج، وليلة النصف من شعبان، وتكذيب الرؤيا المزعومة من خادم الحجرة النبوية المسمى الشيخ أحمد.

4_ رسالتان موجزتان في الزكاة والصيام.

5_ العقيدة الصحيحة وما يضادها.

6_ وجوب العمل بسنة الرسول " وكفر من أنكرها.

7_ الدعوة إلى الله، وأخلاق الدعاة.

8_ حكم السفور والحجاب، ونكاح الشغار.

9_ وجوب تحكيم شرع الله، ونبذ ما يخالفه.

10_ نقد القومية العربية.

11_ الجواب المفيد، في حكم التصوير.

12_ الشيخ محمد بن عبدالوهاب، دعوته، وسيرته.

13_ ثلاث رسائل في الصلاة:

أ_ كيفية صلاة النبي ".

ب_ وجوب أداء الصلاة في جماعة.

جـ _ أين يضع المصلي يديه حين الرفع من الركوع.

14_ حكم الإسلام، في من طعن في القرآن، أو في رسول الله".

15_ حاشية مفيدة، على فتح الباري؛ وصل فيها إلى كتاب الحج؛ وفي آخر أيام سماحته عهد إلى تلميذه صاحب الفضيلة الشيخ علي بن عبدالعزيز الشبل إكمال ما شرع به سماحته من التعليق على المواضع التي تحتاج إلى تعليق في العقيدة، فأكملها الشيخ علي _ حفظه الله _ وكان سماحة الشيخ قد خصص للشيخ علي وقتاً يقرأ عليه ما انتهى من تعليقه.

وبعد وفاة سماحة الشيخ خرج ذلك الكتاب.

16_ رسالة الأدلة النقلية والحسية، على جريان الشمس وسكون الأرض، وإمكان الصعود إلى الكواكب.

17_ إقامة البراهين، على حكم من استغاث بغير الله، أو صدق الكهنة والعرافين.

18_ الجهاد في سبيل الله.

19_ الدروس المهمة لعامة الأمة.

20_ فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة.

21_ وجوب لزوم السنة، والحذر من البدعة.

22_ تحفة الإخوان، بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام.

23_ تحفة الأخيار، ببيان جملة نافعة مما ورد في الكتاب والسنة من الأدعية والأذكار.

24_ مجموع فتاوى ومقالات، جمع الدكتور محمد بن سعد الشويعر، وقد خرج منها 18 مجلداً.

25_ ما هكذا تعظم الآثار.

26_ فتاوى نور على الدرب.

27_ كتاب الطلاق.

28_ كتاب الحج؛ وقد خرج منه مجلدان، جمع الشيخ أ.د. عبدالله بن محمد الطيار، والشيخ أحمد بن عبدالعزيز بن باز.

29_ الرد على بعض الكُتَّاب في إباحة حلق اللحى.

30_ فتاوى اللجنة الدائمة بالاشتراك مع أعضاء اللجنة وقد خرج منه 17 مجلداً كبيراً، والبقية قيد الطبع.

31_ الفتاوى الكثيرة، التي كانت تنشر في المجلات والصحف، كمجلة الجامعة الإسلامية، والمجلة العربية، ومجلة الدعوة.

32_ الفتاوى الخاصة المكتوبة، التي نشر بعضها، ولم ينشر بعضها الآخر.

33_ تعليقات على كتاب: بلوغ المرام لابن حجر.

34_ التحفة الكريمة في بيان كثير من الأحاديث الصحيحة والحسان. لم يطبع.

36_ هناك تعليقات كثيرة جداً، على كثير من الكتب، ومكتبة سماحته مليئة بمثل هذا، وقلما يقرأ عليه كتاب إلا ويعلق عليه.

37_ هناك العديد من الفتاوى الخاصة المكتوبة لأشخاص معينين.

38_ هناك العديد من الإملاءات في الدروس العامة لدى أكثر الطلبة.

39_ الأشرطة المسجلة في شرح المتون العلمية.

40_ الأشرطة المسجلة للمحاضرات العامة.

41_ الأشرطة المسجلة للبرامج الإذاعية، ولعل الأشرطة الخاصة ببرنامج نور على الدرب قد بلغت ستمائة وسبعة وأربعين شريطاً، هذا ما وجد منها.

42_ الأشرطة المسجلة في التعليق على المحاضرات والندوات.

هذه بعض آثاره العلمية، أما آثاره وأجوبته المنثورة، أو التي يلقيها في المجالس العامة والخاصة_ فلا يمكن حصرها؛ إذ لا يخلو مجلس أو مائدة، أو مناسبة يحضرها سماحته؛ إلا ويلقي فيها العديد من الأسئلة، ويكون فيها من الفوائد العلمية ما لا يمكن حصره.

=نظام سماحة الشيخ اليومي، وفي مجلسه، ومكتبه، ومكتبته+

أولاً: النظام اليومي لسماحة الشيخ: يقوم سماحة الشيخ × قبل الفجر بساعة تقريباً؛ لأداء صلاة التهجد؛ حيث يصلي إحدى عشرة ركعة كلها خشوع، وتضرع، ودعاء كثير، وكان يكثر في ذلك الوقت من الذكر، وقراءة القرآن، والدعاء للمسلمين وولاة أمورهم، ويختم بالاستغفار.

وبعد أذان الفجر أو قبله يذهب إلى المسجد بسكينة ووقار وذل لله، فإذا خرج من المنزل قال الدعاء المأثور، ثم إذا وصل المسجد قدم رجله اليمنى، ودعا بما ورد، ثم صلى السنة الراتبة، وأكثر من الأدعية، ثم يؤدي صلاة الفجر، وبعدها يأتي بالأذكار الواردة بعد الصلاة، ثم يمكث طويلاً لورده اليومي من الأدعية والأذكار الصباحية.

وبعد ذلك يبدأ الدرس المعتاد الذي ربما زاد وقته على ثلاث ساعات؛ حيث تُقرأ عليه الكتب المتعددة المتنوعة، وبعد ذلك يجيب على الأسئلة الكثيرة بكل عناية ودقة، ثم ينصرف بعد ذلك إلى منزله.

وإذا لم يكن عنده درس انصرف إلى منزله بعد أن يأتي بورده اليومي الصباحي.

ثم يجلس في المنزل ما يقارب الساعتين؛ حيث تعرض عليه بعض المعاملات المهمة، أو تقرأ عليه بعض الكتب أو البحوث، وفي ذلك الوقت _ أيضاً _ يقوم سماحته بالنفث والرقية في بعض أواني المياه، أو قوارير الزيت، أو العسل التي أتى بها أصحابها؛ ليقرأ فيها سماحته.

وبعد ذلك يتوجه سماحته إلى داخل منزله، لأخذ قسط من الراحة، وقد يجلس على سريره دون نوم _ كما يقول ذلك هو _.

وبعد الساعة الثامنة ينهض، ويتهيأ للإفطار ثم يتوضأ ويصلي ركعتين، ثم يتوجه إلى المكتب بسكينة وعزيمة وهمة.

وفور ركوبه السيارة تُعْرَض عليه بعض القضايا، أو تقرأ عليه بعض الكتب، وإذا وصل المكتب وتَرَجَّل ماشياً عرضت عليه _ أيضاً _ بعض الكتابات، أو القضايا إلى أن يصل إلى مكتبه.

وإذا استقر في مكتبه واصل القيام بالأعمال العظيمة التي لا يقوم بها الجماعة الكثيرة من الرجال الأقوياء الأشداء؛ حيث تعرض عليه القضايا، ويستقبل الوفود، ويجيب على السائلين، ويؤدي الأعمال المنوطة به في المكتب، ويأتيه المُطلقون إلى غير ذلك مما لا يمكن حصره، مما سيرد ذكره بعد قليل.

وهكذا يستمر عمله إلى الساعة الثانية والنصف ظهراً أو بعدها بقليل، حيث يكون آخر من يخرج من العمل.

وبعد ذلك يتوجه إلى منزله، وفي الطريق إلى المنزل يُواصَل عَرْضُ القضايا أو قراءة الكتب عليه، وكثيراً ما كان يستمع إلى أخبار الثانية والنصف ظهراً عبر المذياع وهو في الطريق إلى منزله.

وإذا لم يكن معه من يقرأ عليه قطع الطريق بالذكر، وقراءة القرآن.

وإذا وصل إلى منزله وجد الجموع الغفيرة من الأجناس المتعددة ومن ذوي الحاجات المتنوعة بانتظاره؛ فهم ما بين مستفت ومُسَلِّمٍ، ومطلِّق، وطالب حاجة، وفقير، ومسؤول، وزائر من قريب أو بعيد.

وبعد أن يصل إليهم يلقي السلام عليهم، ويدعوهم إلى تناول طعام الغداء على مائدته، ثم يقوم الحاضرون إلى الغداء، ويجلس سماحته بينهم يتناول طعام الغداء، ويباسطهم، ويسأل عن أحوالهم، ويجيب عن أسئلتهم، وإذا انتهى من الغداء تأنى قليلاً؛ كيلا يعجلهم، وإذا قام قال: كلٌّ براحته، لا تعجلوا.

وإذا قام لغسل يديه بدأت الأسئلة، تلقى عليه وهو في الطريق إلى المغسلة، ومن بعدها يعود إلى المجلس.

وإذا كان الوقت متأخراً ووقت صلاة العصر قد اقترب توضأ، وتابع المؤذن، ثم توجه إلى المسجد.

وإذا كان في الوقت متسع رجع إلى المجلس، وتناول الشاي مع الضيوف، وتطيب معهم، ثم توجه إلى داخل المنزل قليلاً، ثم يخرج وقت أذان العصر.

وبعد ذلك يتوجه إلى المسجد ويؤدي الصلاة، وبعد ذلك يقرأ الإمام ما تيسر من كتاب رياض الصالحين للنووي، أو الوابل الصيب لابن القيم، أو كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبدالوهاب، أو غيرها من الكتب، ثم يشرع سماحته بشرح ما قرئ، ثم توجه إليه الأسئلة، فيجيب عليها، ثم يرجع إلى منزله؛ لأخذ بعض الراحة، وفي الطريق إلى المنزل يجيب على ما تيسر من أسئلة الجموع الغفيرة المحيطة به.

وقبل المغرب يتوضأ سماحته، ويذهب لصلاة المغرب، وبعد الصلاة يأتي للمنزل، ويؤدي السنة الراتبة، ثم يجلس للناس جلسته المعتادة إذا لم يكن لديه محاضرة، أو تعليق على ندوة.

وفي مجلسه المعتاد يؤدي من الأعمال العظيمة ما قد لا يخطر على بال _ كما سيأتي بيان ذلك في صفة مجلسه _.

وإذا أُذِّن بصلاة العشاء تابع المؤذن ثم قام للصلاة، وترك جميع الأعمال، وإذا دخل المسجد، وأدى تحية المسجد بدأ الإمام يقرأ بعض الأحاديث، ثم يشرع سماحة الشيخ في شرحها، وإيضاحها، ثم تنهال عليه الأسئلة بعد ذلك، فيجيب على ما تيسر منها.

وبعد صلاة العشاء يعود إلى منزله إذا لم يكن لديه موعد خارج المنزل أو محاضرة، أو إجابة دعوة خاصة، أو وليمة زواج، أو زيارة مريض، أو نحو ذلك.

وإذا رجع للمنزل جلس لقراءة بعض المعاملات عليه، أو راجع بعض الكتب، وربما كان لديه اجتماع أو أكثر داخل المنزل، وربما كان لديه ضيوف، وربما كان لديه موعد تسجيل إذاعي، أو محاضرة يلقيها عبر الهاتف لأناس خارج المملكة.

وبعد ذلك يتناول طعام العشاء مع ضيوفه، وموظفي مكتب المنزل، ومن حضر عموماً.

وبعد تناول العشاء؛ يعود لإكمال ما شرع فيه من عمل قبل العشاء، أو يكمل الجلوس مع ضيوفه، أو يجلس لقراءة بعض الكتب، أو إنهاء بعض المعاملات حتى ساعة متأخرة؛ إما الحادية عشرة أو الثانية عشرة، ثم ينصرف بعد ذلك إلى داخل منزله، ويمشي على قدميه مدة نصف ساعة تقريباً، ثم يأوي إلى فراشه.

وهكذا كان يقضي سحابة يومه في عمل وهمة ونشاط وأنسٍ يسري منه إلى من حوله.

ثانياً: وصف ما يدور في مجلس سماحة الشيخ: سماحة الشيخ × يجلس للناس جلساتِه المعتادةَ بعد مغرب كل يوم إذا لم يكن لديه محاضرة، ويجلس يوم الخميس من الساعة الحادية عشرة أو قبلها إلى قبيل العصر، ويجلس يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة إلى العصر، ويجلس بعد مجيئه من الدوام وتناول الغداء إلى أذان العصر إذا كان في الوقت متسع؛ فهذه_تقريباً_هي جلساته المعتادة للناس عامة، سواء كان في الرياض، أو مكة، أو الطائف، أو المدينة.

وإذا جلس للناس ضاق بهم المجلس، والتفوا حوله على اختلاف أجناسهم وحاجاتهم؛ فهذا عالم، أو مسؤول كبير جاء لزيارة سماحته، وهذا آخرُ قَدِمَ للسلام، وهذا قريب لسماحته، وهذا مستفتٍ عن أمر ما، وهذا مطلِّق، وهذا ذو حاجة، وهذا ذو مشكلة، ويريد حَلاً لها، وهذا مريد لشفاعة من سماحة الشيخ في أي أمر من الأمور، وهذا قادم للجلوس ورؤية الشيخ، وكيفية تعامله مع الناس، وهذه وفود أتت من داخل المملكة وخارجها لزيارة سماحته، وهذا فقير أتى؛ لينال ما ينال من بر سماحته وعطفه، وهذا وهذا إلخ.

فإذا قدم سماحة الشيخ إليهم ألقى السلام عليهم، ثم تتابعوا للسلام عليه؛ فإذا أخذ مكانه في صدر المجلس علا المجلس السكينة، والوقار، والأدب.

ويكون عن يمين سماحته وشماله اثنان من كُتَّابه يعرضان عليه القضايا والكتابات التي تأتيه من كل مكان، فيتولى الرد عليها، والإجابة عنها.

وهذان الكاتبان يتناوبان؛ إذ إن كل واحد منهما قد ملأ جعبته من الرسائل والمعاملات.

ويكون بجانب سماحته هاتفان لا يكاد يتوقف رنينهما.

وما بين كل فينة وأخرى يتقدم طالب لحاجة، أو مستفت، فيعرض ما يريد على سماحته، وإذا قدم قادم إلى المجلس توجه إلى سماحته، فسلم عليه، فيرد سماحة الشيخ السلامَ، ويلاطفه، ويسأله عن اسمه إن كان لا يعرفه، وإن كان يعرفه سأله عن أحواله وعن مشايخ بلده، وطلبة العلم فيه إن كان قادماً من بلد آخر، ثم يلح عليه بتناول طعام الغداء، والعشاء، ويلح عليه بالمبيت عنده.

وهكذا الحال مع كل قادم ولو أدى ذلك إلى قطع المكالمة وطَلَبِ الانتظار ممن يهاتف، ولو أدى _ أيضاً _ إلى إيقاف القراءة من أحد الكاتبين.

وبعد ذلك يعاود الحديث مع من هاتفه، أو السماع لمن يقرأ عليه.

فإذا رأيت هذا المشهد من كثرة الناس وكثرة حاجاتهم وتنوعها، ورأيت حال الشيخ مع الهاتف، ومع من يقرؤون عليه من كُتَّابه، ورأيت كثرة القادمين والمسلِّمين _ أيقنت أن جموعهم لن تَنْفَضَّ، وأن تلك الحاجات والمعاملات تحتاج إلى مدة أسبوع في الأقل؛ ليتم التخلص من بعضها.

وما هي إلا مدة يسيرة، ثم تَنْفَضُّ تلك الجموع بنفوس راضية، وصدور منشرحة؛ حيث يأخذ كل واحد منهم نصيبه من سماحة الشيخ؛ إما بتوجيه معين، وإما بوعد صادق طيب، وإما بإجابة لسؤال، وإما باستجابة لطلب.

كل الذي تبغي الرجال تصيبه

                   حتى تَبَغِّي أن ترى شرواه

سيان بادىءُ فِعْلِهِ وتليُّهُ

                   كالبحر أقصاه أخو أدناه

كل ذلك وسماحته يستقبلهم بصدر رحب، وجبين وضَّاح، ونفس كريمة، لا ينهر أحداً، ولا يكهره، مع ما يلقاه سماحته من كزازة، وسوء أدب، وكثرة إلحاح، ومقاطعة من بعض المراجعين، حتى إن الذي يحضر المجلس أول مرة ليعجب أشد العجب، ويظن أن سماحته يتكلف ما يقوم به، ولكن ذلك هو دأبه وأدبه؛ حتى لكأنه هو المعنيُّ بقول البحتري:

خُلُقٌ أتيت بفضله وسنائه

                   طبعاً فجاء كأنه مصنوع

وحديثُ مجدٍ منك أفرط حسنُه

                   حتى ظَنَنَّا أنه موضوع

وبقوله:

سمحُ اليدين إذا احتبى في مجلس

                   كان الندى صفةً لذاك النادي

مُتَهَجِّدٌ يخفي الصلاة وقد أبى

                   إخفاءَها أثرُ السجودِ البادي

انظر إليه إذا تلفَّت معطياً

                   نيلاً وقُلْ في البحر والوُرَّاد

وإذا تكلم فاستمع من خُطْبَةٍ

                   تجلو عمى المتحيِّر المرتاد

أفضى إليه المسلمون فصادفوا

                   أدنى البريةِ من تقى وسدادِ

وإذا انصرفوا من عنده انصرفوا مسرورين، وكل منهم يظن أن له منزلة خاصة عند سماحة الشيخ.

وإذا أذن المؤذن بالعشاء أو الظهر، أو العصر أيَّاً كان وقت ذلك المجلس قطع سماحة الشيخ الحديث مع من يهاتفه، أو يحادثه، أو يسأله، أو يقرأ عليه، وشرع بمتابعة المؤذن ومن ثَمَّ يتوجه إلى المسجد.

وما إن ينتهي ذلك المجلس إلا وقد قام بأعمال عظيمة لا يقوم بها الجماعة من أولي القوة من الرجال، مع أن سماحته كفيف البصر، متقدم في السن، ومع أن كلمته هي الفصل التي يتوقف عليها أمور عظيمة خاصة أو عامة؛ فهذا دأبه في جميع مجالسه.

ثالثاً: سماحة الشيخ في العمل الرسمي في المكتب: بعد أن يأتي سماحة الشيخ من درس الفجر في المسجد يدخل منزله، ويرتاح قليلاً، ويتناول الإفطار، ثم يمضي إلى عمله في المكتب في الرئاسة، وإن لم يكن عنده درس في المسجد فإنه يأتي بعد الفجر لمكتب البيت، ويستمر مدة ساعتين أو أكثر تعرض عليه المعاملات، وتقرأ عليه الكتب، والبحوث، والمقالات، ثم يدخل منزله ويرتاح قليلاً، ثم يتناول الإفطار، ويمضي إلى عمله في المكتب بعد أن يؤدي صلاة الضحى.

وفي الطريق من المنزل إلى العمل يُقْرأ عليه منذ خروجه من المنزل حتى يصل.

وإذا ترجَّل من السيارة عند وصوله مقر العمل استقبله الناس على اختلاف طبقاتهم وحاجاتهم، وفي طريقه من السيارة إلى مكتبه في رئاسة الإفتاء أو اللجنة يقضي حاجات كثيرة، ويجيب عن أسئلة عديدة في تلك الخطوات القليلة المعدودة.

وسماحة الشيخ يذهب إلى مكتبه في اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، يوم الأحد قبل الظهر، ويوم الثلاثاء قبل الظهر.

وإذا كان في اللجنة استمع إلى الفتاوى المعدة من قبل اللجنة، وبعد ذلك يتم تداول الرأي فيها مع أعضاء اللجنة قبل صدورها.

وبعد الظهر من يوم السبت يذهب سماحته_أيضاً_إلى اللجنة الدائمة لقراءة الفتاوى الصادرة من اللجنة لإقرارها ثم طبعها تحت إشراف صاحب الفضيلة الشيخ أحمد بن عبدالرزاق الدويش.

أما ما عدا هذه الأوقات فَيُمْضِي وقته في مكتبه في الرئاسة، وهناك تعرض عليه أنواع المعاملات من مقالات، وأقوال صحف، وبحوث، وشفاعات، ونحوها.

وهناك يستقبل طلبات الناس، ويجيب عن أسئلتهم.

وهناك يرد على الهاتف، ويمنع من طرح سماعته.

وهناك يستقبل الزائرين، والمسلِّمين.

وهناك يَعْرِضُ عليه الموظفون المعاملات الخاصة من مكاتبهم عبر الهاتف، أو يأتون إليه بها.

وهناك تعرض عليه أنواع المعاملات المتعلقة بالشؤون الإدارية للرئاسة، والمكاتبات الرسمية الواردة إلى سماحته من الجهات الحكومية، وكثير مما يتعلق بشؤون الدعوة إلى الله في الداخل والخارج، وقضايا الحسبة، والطلبات الشخصية من مشارق الأرض ومغاربها، ومن جموع المسلمين الذين يتوافدون إلى مكتبه؛ التماساً لمساعدته لهم.

وتعرض عليه الاستفتاءات، ولا سيما قضايا الطلاق، والرضاع التي ينظر فيها سماحته بنفسه.

وهكذا يستمر عمله إلى نهاية الدوام، فيكون هو آخر الموظفين خروجاً، أو من آخرهم.

وإذا كان في مهمة عمل خارج المكتب سواء كان في الديوان الملكي، أو في اجتماع في مكان آخر، أو كان في مراجعة للمستشفى، أو كان في محاضرة في بعض القطاعات، ثم انتهى من مهمته_سأل عن الساعة، فإذا قيل له _ مثلاً _: الساعة الثانية أو أكثر أو أقل قال: نذهب إلى المكتب، فإذا قيل له: ضاق الوقت، وما بقي إلا القليل، ولا يستحق أن يُذْهَب لأجله قال: ولو! نقضي بعض الأعمال في هذا الوقت.

وإذا كان في الطائف فإنه لا يعود إلى الرياض إلا بعد نهاية الانتداب، أو أن يؤذن له من ولي الأمر دون طلب منه.

وفي الطائف يواصل إلقاء الدروس، ويلقي محاضرات كثيرة في أماكن عدة، كالقاعدة الجوية، ومدارس سلاح الإشارة، وفي السجن.

وفي عامه الأخير بدأ الانتداب إلى مكة المكرمة في 1/12/1419هـ حتى 21/12/1419هـ، ولكنه مكث في الرياض بسبب مشورة الأطباء؛ لأنه لم يتحمل الذهاب للحج.

ولما سُئل عن المدة التي مكثها في الرياض؛ لتحسب له، قال: لا تحسب لي انتداباً؛ لأنني لم أذهب !!

ولما أُخبر بأن الموظفين الذين كانوا معه ليس لديهم مانع من السفر إلى مكة، ولكنهم جلسوا؛ مراعاة لمصلحته، أبى أن تحسب لهم انتداب تلك المدة.

فلما ألحوا عليه، قال: نعطيهم من عندنا.

رابعاً: سماحة الشيخ في مكتبة منزله: لسماحة الشيخ مكتبة كبيرة في منزله في الرياض، وله مكتبة في منزل الطائف، ومكتبة في منزل مكة.

والمكتبة هي محل أنسه، وهي_في الغالب_مقر عمله واجتماعاته الخاصة مع العلماء وغيرهم، وهي محل بحثه، ودراسة بعض المعاملات الخاصة الواردة عليه.

وهي مكان التسجيل لبرامج الإذاعة كبرنامج نور على الدرب وغيره، وهي مكان اللقاءات بمندوبي الصحف.

وفيها يراجع كتبه، ودروسه، وبعض المسائل التي يحتاج إليها.

وفيها يتتبع أسانيد الأحاديث، وطرقها؛ إذ كان × كثير الرجوع إلى كتب الرجال، ككتاب تقريب التهذيب، وتهذيب التهذيب، وميزان الاعتدال، وتعجيل المنفعة، وتهذيب الكمال.

يقول الشيخ محمد الموسى: =وقد سمعت صاحب الفضيلة الشيخ إسماعيل ابن محمد الأنصاري× يقول: إن سماحة الشيخ يكاد يحفظ التقريب عن ظهر قلب+.

وكان يستقبل المكالمات وهو في المكتبة، ويلقي المحاضرات الخارجية عبر الهاتف.

وكان × لا يمل الجلوس بين الكتب، والتنقل في رياضها؛ ففي بعض الأحيان يؤتى إليه بالمعاملات من طلاق ونحوه؛ فإذا بدأوا عرضها عليه بعد العشاء ربما ظهر عليه بعض الإعياء والتعب، والنعاس، فيقول: ما عندي نشاط.

ثم يطلب بعض الكتب فإذا بدأوا القراءةَ عليه في الكتب نشط، وتأهب، وذهب عنه النعاس، وتفاعل مع الكتاب أو الكتب.

يقول الشيخ محمد الموسى _ حفظه الله _: =وفي يوم من الأيام بَدَأْتُ أعرض عليه بعض المعاملات في الطلاق وغيره، فلمست منه الإعياء، فقال: ما عندي نشاط، أشعر بالإعياء، وأرى عرضها في وقت آخر.

فخرجت من عنده في الساعة التاسعة من الليل تقريباً، وذهبت إلى شمال الرياض؛ لقضاء بعض الأعمال الخاصة بي.

ولما انتهى عملي عدت إلى منزلي، وفي الطريق مررت بمنزل سماحته، ولما حاذيته رأيت سيارة الأخ صلاح الدين عثمان _أمين مكتبة منزل سماحة الشيخ_ وكانت الساعة قد بلغت العاشرة والنصف.

فلما رأيت السيارة قلت في نفسي: ما الذي أبقى الأخ صلاحاً إلى ذلك الوقت، خصوصاً وأن عهدي بسماحة الشيخ أنه مُجْهَد، ولم يستطع إكمال قراءة المعاملات؛ فوقفت عند منزل سماحته، ودخلت المنزل وإذا بسماحته يخرج من المكتبة متجهاً إلى داخل بيته؛ فسألت الأخ صلاحاً، وقلت له: أنتم جالسون من حين ذهبت من عندكم حتى هذه الساعة؟

قال: نعم؛ لما بدأت أقرأ على سماحته في الكتب نشط، واشتد عزمه، ولم يذهب داخل بيته إلا الآن _ كما ترى _!

وفي بعض الليالي نجلس في المكتبة بعد صلاة العشاء ساعة ونصف الساعة تقريباً، ونلحظ على سماحته الإعياء؛ إذ هو طيلة يومه في جهاد، وعمل متواصل.

وعندما نقوم إلى مكان الطعام لتناول وجبة العشاء يعود للشيخ نشاطه، ونرجع مرة أخرى إلى المكتبة، ويقول×: النشاط يعود بعد الأكل، وهو بمثابة البنزين للسيارة.

وأحياناً يمضي في المكتبة الساعتين، والثلاث دون أن يشعر؛ فإذا سأل عن الساعة وقلنا: الساعة الحادية عشرة قال: إلى الله المشتكى، الوقت يمضي، والجلوس بين الكتب لا يُمَل، نتمنى أن نقرأ كل ما في هذه المكتبة، ولكن المشاغل لا تتركنا.

وفي يوم من الأيام في عام 1418هـ قال سماحته للأخ صلاح أمين المكتبة: لم يتيسر إلى الآن إمرار مسند الإمام أحمد؛ قراءتنا فيه متقطعة، كلما قرأنا منه جزءاً انقطعت القراءة، وإن شاء الله سوف نقرؤه، فبدأ بقراءته، ولكن الأعمال العظيمة لم تتركه.

ولا أعلم أنه عرض على سماحته كتاب يتكون من مجلد أو مجلدين أو ثلاثة، أو أكثر إلا قال: سوف نقرؤه إن شاء الله.

ومما هو جديد بالذكر أن سماحته أوصى قبل وفاته بإهداء مكتبته إلى مكتبة مسجد سماحته في مكة المكرمة+.

=من أحوال سماحة الشيخ+

أولاً: تعظيمه للسنة، وتطبيقه لها: كان سماحة الشيخ × شديد التعظيم للسنة، مطبقاً لها في شتى أحواله؛ فلا تكاد تثبت عنده سنة قولية، أو فعلية إلا كان فعلها، وحافظ عليها.

ينبيك عن قرب النبوة هديُه

                   والشيء يخبر بعضه عن كله

وإليك بعض النماذج الدالة على ذلك على سبيل الإجمال، وإلا فالتفصيل سيأتي في ثنايا الصفحات الآتية:

1_ الحرص التام والمداومة المستمرة على الإتيان بسنن الصلاة بحذافيرها.

2_ المحافظة على الأدعية والأذكار المطلقة والمقيدة، كأذكار طرفي النهار، ودعاء الدخول للمنزل والخروج منه، والتسمية قبل الأكل أو الشرب، وحَمْدِ الله بعده، ومتابعة المؤذن، والدعاء بما ورد بعد الأذان، بل كان يقطع الحديث إذا كان يتحدث ويقول لمن يحدثه أو يهاتفه: يؤذن؛ ليفهم محدثه أن سماحته سوف يجيب المؤذن، بل إنه إذا أراد دخول الخلاء، وسمع المؤذن وقف قليلاً ليتابع المؤذن، وإذا انتهى من متابعته وأتى بالأذكار الواردة بعد الأذان دخل الخلاء.

ومن الأذكار التي كان يحافظ عليها؛ دعاء الخروج إلى المسجد، ودعاء دخوله، ودعاء الخروج منه، وسيأتي تفصيل هذا عند الحديث عن صلاته×.

3_ الشرب بثلاثة أنفاس، وإذا شرب ماءً ناول من على يمينه ولو كان صغيراً.

4_ العمل بالسنن الواردة في الأكل، من حيث الجلوس، وتقدير النعمة، والبدء بالبسملة، ولعق الأصابع بعد الأكل، وحَمْد الله بعد الفراغ من الطعام.

5_ لزوم الاستخارة إذا أشكل عليه شيء.

6_ اتباع السنة في الملبس؛ فلا يلبس ثياب سرف ولا مخيلة، ولا يلبس ما أسفل الكعبين، ونحو ذلك.

7_ المحافظة على آداب التحية، وأدب الحديث والمجالس.

8_ الحرص على التيمن، ومن ذلك أنه كان يقدم رجله اليمنى عند لبس النعل، واليسرى عند خلعه.

9_ تَقَصُّد الوتر في كل شيء، ومن اللطائف في ذلك أنه كان محباً للتمر.

يقول الشيخ محمد الموسى: =وكثيراً ما كان يسألني إذا كان يتناول تمراً فيقول: كم تناولتُ من تمرة؟ فإذا عددت النوى قلت له_على سبيل المثال_: ستاً، أو ثمانياً فيزيد واحدة، وإن كان وتراً اكتفى به أو زاد اثنتين وهكذا. .+.

10_ الذهاب للمسجد بعد القدوم من السفر أحياناً، وأداء ركعتين فيه.

11_ الحرص التام على تطبيق السنة بحذافيرها في الحج والعمرة.

12_ حمد الله بعد العطاس، وتشميت العاطس إذا حمد الله، وترك تشميته إذا لم يحمد الله.

يقول الشيخ محمد الموسى: =وأذكر أن شخصاً عطس بجانبه فلم يحمد الله، فبادر بعض الحاضرين إلى تشميته، فقال سماحة الشيخ×: وهل حمد الله حتى تشمتوه؟+.

13_ كثرة الذكر؛ فلا يكاد لسانه يفتر من ذكر الله _ عز وجل _ تهليلاً، أو تكبيراً، أو حمداً، أو حوقلة أو نحو ذلك.

14_ لا يقوم من المجلس إلا ويقول كفارة المجلس.

15_ يبدأ بالسلام على من يعرف ومن لا يعرف، ويرى أن السنة عند التلاقي المصافحة إلا إذا قدم أحد المسلمين من سفر، ويقول ×: يقول أنس ÷: =كان أصحاب رسول الله "إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا+.

يقول الشيخ محمد الموسى _ حفظه الله _: =وقد رأيت شخصاً سلَّم على سماحته × وعانقه، وهو لم يَقْدُم من سفر، فقال له سماحة الشيخ: السنة المصافحة، فقال الشخص: أنا أحبك يا شيخ، فقال سماحته: السنة مُقَدَّمة على حبك+.

16_ كان يحسر عن رأسه إذا نزل المطر ويدعو بالدعاء المأثور.

ثانياً: بكاء سماحة الشيخ: كان × كثيراً ما يبكي عند سماع القرآن الكريم، أَيَّاً كان صوت التالي، أو حسن ترتيله من عدمه.

وكان يبكي إذا سمع شيئاً من السنة النبوية.

يقول الشيخ محمد الموسى _ حفظه الله _: =وقد رأيته أكثر من مرة يبكي عندما يسمع سيرة أحد العلماء في تراجمهم في البداية والنهاية، أو في تهذيب التهذيب، أو في سير أعلام النبلاء.

وكان يبكي _أيضاً_ إذا سمع بأخبار الاضطهاد، والتعذيب التي تمر بالمسلمين في بعض البلاد.

أما طريقة بكائه فكان يبكي بصوت خافت جداً، ويُرَى التأثر على وجهه، أو يرى الدمع يُهْراق من عينيه، وكان لا يحب رفع الصوت بالبكاء.

وكان يبكي كثيراً إذا تكلم عن شيخه سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم× بل إنه كان لا يستطيع مواصلة الكلام عنه.

وكان كثير البكاء إذا سمع شيئاً يتعلق بتعظيم القرآن، أو السنة، وأذكر أنني كنت أقرأ عليه في كتاب (القول القويم) للشيخ العلامة حمود التويجري× ومر أثناء القراءة كلام للشيخ حمود حول تعظيم السنة، فالتفتُّ فإذا دموع سماحة الشيخ تتحادر على خديه.

وكان من عادة سماحة الشيخ × أنه إذا استُضِيف في مكان ما طلب من بعض الحاضرين أن يتلو بعض الآيات؛ ليعطر بها المجلس، وليقوم سماحته بشرحها، وكثيراً ما كنت ألحظ عليه البكاء، والدمع، وتغير الصوت.

وكان يبكي كثيراً إذا توفي أحد العلماء المشهورين أو من لهم بلاء في الإسلام، حيث بكى على الشيخ صالح العلي الناصر، والشيخ حمود التويجري، والشيخ صالح بن غصون، وبكى كذلك على الرئيس الباكستاني السابق ضياء الحق _رحم الله الجميع_.

وإذا عَرَض عليه بعض المساكين، أو المظلومين حاله تأثر ورقَّ لحاله، وربما بكى.

وإذا سمع شيئاً من أخبار المسلمين وما يلاقونه من العنت والشدة بكى، وتغير صوته.

وكثيراً ما كان يبكي إذا صلى بالناس ولكنه كان يغالب نفسه.

وكذلك كان يبكي حال الدعاء، وكنت أدقق النظر في وجهه أثناء الدعاء في عرفة، أو عند الصفا والمروة، فأجد دموعه تنزل على خديه، وألحظ تغيراً في صوته.

وكثيراً ما كان يبكي أثناء الدروس، فيتوقف قليلاً حتى يذهب ما بنفسه، إلا أنه أحياناً يُغْلَبُ على أمره.

وكثيراً ما كان يبكي إذا سمع حادثة الإفك، أو قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا.

وكنت أقرأ عليه كتاب (الجواب الكافي) لابن القيم × في مجالس كثيرة، فكان يبكي في بعض المواضع المؤثرة من الكتاب.

وكان معالي الدكتور محمد الشويعر يقرأ عليه في البداية والنهاية، فكان يبكي إذا سمع بعض الأخبار المتصلة بالحروب خصوصاً إذا كان فيها قتلى كثيرون من المسلمين.

وكان يبكي أحياناً إذا سمع شعراً مؤثراً يدعو للفضيلة، ويصور مآسي المسلمين+.

ثالثاً: زهد سماحة الشيخ: لا يكاد يعرف في زماننا هذا أزهد من سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز × مع أن الدنيا تقبل عليه، وتتزين له، إلا أنه زاهد بها، مشيح بوجهه عنها.

يقول الشيخ محمد الموسى _ حفظه الله _: =فلا أذكر في يوم من الأيام أنه سأل عن راتبه، ولا عن مقداره، ولا عن زيادته، ولا عن وقت مجيئه، ولا أذكر أنه سأل عن انتدابه، أو عن رصيده أو حسابه، لا يسأل عن ذلك ولا يعبأ به.

ولا أذكر أنه تكلم ببيع، أو شراء، أو أمر من أمور الدنيا إلا على سبيل السؤال عن حاجة أحد، أو الشفاعة له، بل كان كثير الوصية بالتحذير من الاغترار بالدنيا.

وسماحة الشيخ كان يعيش عيشة القناعة، والزهد والكفاف؛ فلم يكن يمسك شيئاً من حطام الدنيا، ولم يكن يتطلع إلى مال، أو جاه، أو منصب.

بل كان ينفق إنفاق من لا يخشى الفقر، وكان زاهداً بالجاه، والمراتب، والمديح، وحب الذكر.

ولم أسمع منه أو عنه أنه مَالَ في يوم من الأيام إلى الدنيا، أو طلب شيئاً من مُتَعِها.

وكان يكره الحديث في تغيير أثاث منزله، أو سيارته، أو أن يقال له: عندك كذا وكذا.

وكان يكره الخوض في الأحاديث الدنيوية البحتة التي ليس من ورائها مصلحة للمسلمين، أو للدعوة.

ومما يدل على زهده كثرة إنفاقه، وإسقاطه الدين عمن اقترض منه ولو كان كثيراً؛ فلا أحصي كثرة ما طرحه من الديون عن أناس اقترضوا منه.

وأذكر أنه قبل عشر سنوات أملى عليَّ كتباً لبعض من أقرضهم، وقال: =أخشى أن يفاجئني الأجل، وأحب أن أخبركم أنني قد سامحتكم، وأبرأتكم، ولم يبق لي عليكم شيء+.

ولا أذكر أنه طالبَ أحداً له حق عليه.

وأذكر أنه قبل وفاته بثلاث سنوات أقرض شخصاً سبعمائة ألف ريال، ثم أرسل إليه يخبره بأنه قد طرحه عنه، فقلت له؛ شفقة عليه، ورغبة في سماع ما عنده: أعظم الله أجر هذا الحساب _أعني حساب سماحة الشيخ الخاص_ فالتفت إليَّ وقال: يا ولدي ! لا تهمك الدنيا، أنا بلغت من العمر سبعاً وثمانين، ولم أر من ربي إلا خيراً، الدنيا تذهب وتجيء، وفَرْقٌ بين من يتوفى وعنده مائة مليون، ومن يتوفى وليس لديه شيء؛ فالأول ثقيل الحساب والتبعة، والثاني بعكس ذلك كله+.

وما ثناك كلام الناس عن كرم

                   ومن يسدُّ طريق العارض الهطِلِ

ومن صور زهده ×: زهده في المديح والإطراء؛ فكثيراً ما تقرأ عليه بعض الرسائل التي تفيض بالحب، والدعاء والثناء على سماحته؛ فإذا بدأ القارئ بقراءتها قال: اتركوا المقدمة، اقرؤوا المقصود؛ ماذا يريد صاحبها؟ أنا لا أحب أن أسمع مثل هذا الكلام.

وكثيراً ما يأتي بعض الناس، ويكثر من الثناء على سماحته، ويذكر بعض أوصافه، وهو يتململ ويتغير وجهه، ويقول: الله المستعان، الله يتوب على الجميع، الله يستعملنا وإياكم فيما يرضيه.

ويأتي إلى سماحته بعض الناس ويقول: رأيت فيك رؤيا منامية صالحة _إن شاء الله_ فيلزم سماحته الصمت، ولا يطلب من الرائي ذكرها، ولكن ذلك الشخص يبدأ بذكرها، وسماحة الشيخ لا تظهر عليه الرغبة في سماعها؛ ولكن أدبه يأبى عليه أن يُسْكِتَ المتكلم، فإذا انتهى قال: خير إن شاء الله، والمُعَوَّل على عفو الله.

يقول الشيخ محمد الموسى _ حفظه الله _: =ولم أسمع منه يوماً من الأيام أنه سأل أحداً عن دخله الوظيفي، أو عن ممتلكاته.

وفي يوم من الأيام جاءه أحد الناس المعروفين لديه، وخاض في أمور الدنيا وقال: يا سماحة الشيخ ! نحن بخير، وعندنا كذا وكذا، وقد اشتريت أرضاً بكذا وكذا، والآن هي تساوي خمسة وأربعين مليون ريال.

فالتفت إليه سماحة الشيخ وقال: مادام أنها بلغت هذا المبلغ فبعها، ماذا تنتظر، واصرفها في وجوه الخير، أو أعطنا إياها نصرفها لك.

فسكت ذلك الرجل، ولم يحر جواباً.

ولم أسمع أن سماحته ساهم مساهمة في أرض أو شراكة.

وقد حاولت أن أقترح عليه بأن يضع شيئاً من ماله في مساهمة، لعلها تُوَفِّي بعض نفقاته، ولكن لهيبته لم أجرؤ على ذلك؛ لما أعلمه عنه من البعد عن الدنيا، وزينتها، وزخارفها+.

رابعاً: ورع سماحة الشيخ: أما ورعه، وتجنبه للمشتبهات فهو أمر يعرفه القاصي والداني.

يقول الشيخ محمد الموسى _ حفظه الله _: =ومما يحضرني في ذلك الشأن ما يلي:

1_ أنه إذا تقدم إليه بعض الفقراء، وشكى إليه حاجة، أو قال: أريد السفر إلى مكة، أو المدينة وليس معه شيء، ولا يحمل إثباتاً من مشايخ معروفين، أو من أناس يعرفهم سماحة الشيخ قال: أعطوه مائة أو مائتين أو ثلاث مائة.

ويقول: إذا حددتُ المبلغ إلى ثلاثمائة ريال فإني أعني حسابي الخاص.

أما حساب الصدقات والزكوات الواردة إليه من بعض المحسنين فلا يصرف منه شيئاً لأحد إلا إذا ثبتت لديه الحاجة بالبينة الشرعية.

2_ ومن ورعه × أنه لا يقبل هدية من أحد؛ لأنه في عمل حكومي، وإذا قبلها كافأ عليها، وكان يقول: إذا كانت تساوي مائة فأعطوه مائتين، وإذا كانت تساوي مائتين فأعطوه أربعمائة، وأخبروه بألا يقدم لنا شيئاً مرة أخرى.

3_ وإذا أعطي شيئاً على سبيل الهدية من طيب أو سواك، أو بشت أو نحو ذلك، وكان بجانبه أحد أعطاه إياه، وقال: هدية مني إليك.

4_ ولم يكن يستشرف للعطايا، والهدايا، فضلاً عن أن يطلبها.

وقد أخبرني الشيخ إبراهيم الحصين × أن الملك فيصلاً × جاء إلى المدينة، ولما أراد سماحة الشيخ الذهاب لزيارته، لم يكن لديه سيارة؛ إذ كانت سيارته تحتاج إلى بعض الإصلاح، فأخبروا سماحته بذلك، فقال: خذوا سيارة أجرة، فاستأجروا له، وذهبوا إلى الملك.

ولما عاد سماحة الشيخ إلى منزله أُخبر الملك فيصل بأن الشيخ جاء بسيارة أجرة، فتكدر الملك كثيراً، وأرسل إلى سماحة الشيخ سيارة، وأخبره بتكدره.

ولما أخبر سماحة الشيخ بذلك قال: ردوها، لا حاجة لنا بها، سيارتنا تكفينا.

يقول الشيخ إبراهيم: فقلت: يا سماحة الشيخ هذه من الملك، وأنت تستحقها، فأنت تقوم بعمل عظيم، ومصلحة عامة، والذي أرسلها ولي الأمر، وإذا رددتها ستكون في نفسه، والذي أراه أن تقبلها.

فقال سماحة الشيخ: دعني أصلي الاستخارة، فصلى، وبعد الصلاة قال: لا بأس نأخذها، وكتب للملك ودعا له.

5_ وفي بعض الأحيان إذا أهدي إليه شيء وقبله؛ تطييباً لقلب المهدي، ولم يعرف ما يناسب المهدي من الهدايا_كتب إليه، وشكره، ودعا له؛ وطلب منه أن يكتفي بما وصل، وضمَّن ذلك المحبة، والشكر، مما يكون أوْقَعَ في نفس المهدي من أي هدية أخرى+.

=من أخلاق سماحة الشيخ+

أولاً: تواضع سماحة الشيخ: مع أن سماحة الشيخ إمامٌ من أئمة المسلمين، بل على رأس الأئمة من أهل العلم في زمانه، ومع أنه مفتي المسلمين، وشيخ الإسلام في عصره، ومع أنه صاحب المعالي، والسماحة، والفضيلة، ورئيس هيئة كبار العلماء، ورئيس اللجنة الدائمة للإفتاء، وكان رئيس الجامعة الإسلامية، وغير ذلك من الألقاب التي تَشرف به لا يشرف هو بها_إلا أنه كان آية في التواضع؛ فلا يكاد يعرف له مثيل في زمانه في هذه الخصلة؛ فهو لا يرى لنفسه فضلاً، ولا يرغب في المديح، ولا في التميز على الناس، وكان محباً للفقراء، والمساكين، حريصاً على مجالستهم، والأكل معهم.

ومن تواضعه×أنه لم يكن يحتقر الفائدة من أي أحد كائناً من كان.

والشواهد والقصص على تواضع سماحته لا يمكن حصرها، وقد مضى ما يؤكد ذلك ضمن الفقرات الماضية، وسيأتي شيء من ذلك في الفقرات الآتية.

ومما يذكر في هذا الصدد ما يلي:

1_ في يوم من الأيام وقبل وفاته بثلاثين عاماً حضر إلى مسجد؛ ليلقي فيه محاضرة، فلما شَعُر بأن المسجد مفروش بالحصير، وأن سجادةً قد وضعت له خاصة طواها بنفسه، وطرحها جانباً؛ لأنه لا يريد أن يتميز عن غيره.

2_ ومن صور تواضعه أنه لا يؤم الناس إذا صلى في مسجد فيه إمام راتب حتى مع إلحاح الإمام عليه.

3_ ومن ذلك أن السيارة الممنوحة له ولأمثاله من قبل الدولة إذا انتهت مدتها، وأرادوا تغييرها بأحدث منها قال: وما عِلَّتُها فيقال له: انتهت مدتها؛ فماذا تريدون بدلاً عنها يا سماحة الشيخ؟ فيَسْأَل: وما أنواع السيارات؟ فيذكر له الكاديلاك، والمرسيدس، والفورد، والبيوك، وغيرها فيقول: والكابرس؟ فيقال له: لا يليق بمقامك، فيقول: لماذا ؟ أليس القبر واحداً ؟!

4_ طُلب من سماحة الشيخ تغيير أثاث بيته في مكة أكثر من مرة، وهو لا يستجيب، ويقول: لنا في هذا البيت ستة عشرة سنة، ولا ندري ماذا بقي من أعمارنا!

ولما كثر عليه الإلحاح، وقيل له: إن أثاث المجلس غير صالح، وغير مناسب، وإن تغييره ضروري توقف كثيراً، وبعد إلحاح شديد أمر بتشكيل لجنة خماسية ذَكَرَهم، وقال: اجتمعوا، واكتبوا ما ترونه، وحصل ذلك، وتم إصلاح ما يحتاج إلى إصلاح، وذلك في آخر أيامه×.

5_ وطُلب من سماحته_أيضاً_تغيير بيته الذي في الطائف؛ لأنه صغير، ومجلسه صغير، ويحتاج إلى زيادة منازل للضيوف ولموظفي مكتب البيت فلم يوافق على ذلك، وقال: فيه بركة.

6_ وفي بيته الذي في الرياض دعت الحاجة إلى إيجاد بعض الغرف، فقيل له يا شيخ ! البيوت المعروضة للبيع في هذا الحي كثيرة، ونرى أن يشترى بيتٌ يكون لبعض العمالة الموجودة لديكم، وللضيوف، فتغير وجه سماحته، وقال: نحن مسافرون !!

يعني السفر إلى الدار الآخرة.

7_ ومن صور تواضُعِهِ تواضُعُهُ للمرأة والمسكين والسائل.

يقول الشيخ محمد الموسى _ حفظه الله _: =وأذكر قبل ثلاثين سنة من وفاته أنني رأيته خارجاً من المسجد الجامع، فقيل له هناك امرأة تريد إجابة عن أسئلتها، فما كان منه إلا أن اتكأ على عصاه، وأصغى لها، وأجاب عن أسئلتها حتى انصرفت!+.

8_ ومن صور تواضعه أنه يرد السلام على كل أحد، ويبادر من لقيه بالسلام، حتى إن السائل الذي يقف أمام الناس يسألهم بعد الصلاة إذا سلم لم يرد عليه أحد في الغالب.

أما سماحة الشيخ فلم يكن يدع الرد عليه أبداً.

9_ ومن صور تواضعه أنه يتواضع لمن دونه في العلم، حتى ولو كان من طلابه؛ ومن الأمثلة على ذلك أنه في عام 1386هـ جاء من المدينة إلى الرياض، وألقى محاضرة في دار العلم، ولما انتهى من المحاضرة؛ وجهت له الأسئلة، فالتفت سماحته إلى أحد طلبة العلم، وهو من تلاميذه وقال: تفضل، أجب عن الأسئلة، فامتنع ذلك الرجل.

10_ ومن صور تواضعه أنه كان لا يرضى أن يخص بشيء دون غيره، والشواهد على هذه الصورة كثيرةٌ جداً.

ومن ذلك أنه في عام 1402هـ لما أصيب بمرض في القلب، ولازم الفراش في المستشفى التخصصي عدة أيام، وأجريت له الفحوصات اللازمة_أوصاه الأطباء بتناول بعض الأشياء، ومنعوه من بعضها ككثير الدهن، والملح، ثم وضعوا له طعاماً خاصاً.

فلما علم بذلك أبى، وقال: الذي يوضع لغيري يوضع لي، وما يحصل إلا الخير !

وفي عرفة في حج عام 1418هـ كان جالساً في المصلى، ومئات الناس حوله، فجيء له بفاكهة مقطعة؛ لأن عادته في المشاعر في الحج أنه لا يأكل في الغالب إلا الفاكهة، والتمر، واللبن.

فلما وضع أمامه قال: أكُلُّ الحاضرين وضع لهم مثل هذا ؟

قالوا: لا، فقال: أبعدوه، وغضب.

وحدَّث بعض مَنْ عاش معه في الدلم لما كان قاضياً فيها أنه يهدى إليه من بعض جيرانه لبن فيقول سماحته: إن كان كثيراً فقدموه للضيوف، وإن كان قليلاً فلا أريد منه شيئاً.

11_ ومن صور تواضعه أنه كان يمشي الهوينى بعيداً عن التكبر، والتمايل، والزهو، والأشر والبطر، والغرور.

بل ترى الخشوع، والخضوع، والتواضع سمة لمشيته.

ومشيت مِشْيَةَ خاشعٍ متواضعٍ

                   لله لا يُزهى ولا يتكبر

12_ ومن صور تواضعه أنه لا يأنف من قول: لا أدري، لا أعلم، أتوقف؛ فكثيراً ما يقول ذلك حين يسأل وهو لا يعلم سواء كان ذلك في مجالسه الخاصة، أو العامة، أو في المحاضرات، أو المساجد، أو في الإذاعة.

وفي عام 1402هـ كان يلقي درساً في الحرم، فسئل: هل الأنثى مثل الذكر يحلق رأسها، ويوزن، ويُتصَدق بوزنه ورقاً ؟

فأجاب × بقوله: ما عندي علم أَسْأَلُ إخواني طلبة العلم، وأخبركم إن شاء الله.

ولا يُحْصى ما يَرُدُّ بمثل هذا، أو يقول: سنبحث في كلام أهل العلم، أو يكتب لمعالي الأمين العام لهيئة كبار العلماء؛ لبحث المسألة، أو يُعَمِّد بعض طلبته، أو بعض الباحثين بذلك.

13_ ومن صور تواضعه أنه لا يحتقر النصيحة، أو الفائدة من أي أحد.

يقول الشيخ محمد الموسى _ حفظه الله _: =وأذكر أنه في يوم من الأيام اتصل شاب صغير بسماحة الشيخ، وقال: يا سماحة الشيخ! الناس بأشد الحاجة إلى علماء يُفتُونهم، وأقترح على سماحتكم أن تجعلوا في كل مدينة مفتياً؛ ليسهل الاتصال.

فقال له سماحة الشيخ: ما شاء الله، أصلحك الله، كم عمرك؟ فقال: ثلاثة عشر عاماً.

فقال لي سماحة الشيخ: هذا اقتراح طيب، يستحق الدراسة، اكتب إلى الأمين العام لهيئة كبار العلماء بهذا، فكتبتُ ما أملى به، ومما جاء في كتابه: أما بعد فقد اتصل بي بعض الناصحين، وقال: إنه يقترح وضع مفتين في كل بلد، ونرى عرضه على اللجنة الدائمة؛ لنتبادل الرأي في الموضوع+.

ثانياً: دعابة سماحة الشيخ ومزاحه: كان سماحة الشيخ × حريصاً على ملاطفة جلاسه، وإدخال السرور عليهم.

وكان يداعبهم، ويمازحهم مزاحاً لا إسراف فيه ولا إسفاف.

لا يكْفَهِرُّ إذا انحاز الوقار به

                   ولا تطيش نواحيه إذا مَزحا

ومما يذكر في هذا الباب ما يلي:

1_ أنه × إذا أراد الوضوء من المغسلة ناول من بجانبه غترته أو مشلحه ثم قال ممازحاً مداعباً: هذه يا فلان على سبيل الأمانة، لا تطمع بها.

2_ ومن ذلك أنه إذا قام من المكتبة متعباً من القراءة والمعاملات، ثم تناول العشاء _ قال: سنعود إلى المكتبة مرة أخرى؛ لأننا ملأنا البنزين، وتزودنا بالوقود، أو يقول بعبارته: (عَبَّينا) بنزين، ويعني بذلك أنه نشط بعد تناول الطعام.

3_ وكان × مرهف الشعور؛ وبمجرد إحساسه أن أحداً ممن معه متضايق من أمر ما فإنه يلاطفه بما يشرح صدره، وينسيه همه؛ فربما قال لمن معه: ماذا عندك؟ ماذا ترغب؟ وربما قال له: ممازحاً: ما تريد الزواج، وإذا أُحْضِر الطعام قال لبعض جلاسه: تغدوا معنا، أو تعشوا؛ الذي لا يخاف _ يعني من أهله _ يتفضل معنا.

4_ ومن هذا القبيل _ أيضاً _ أنه إذا سلم عليه أحد سأله عن اسمه، فإذا كان في الاسم غرابة أو معنى غريب أو حسن _ داعب سماحتُه صاحب ذلك الاسم، فمن ذلك أن فضيلة الشيخ متعب الطيار إذا سلم على سماحة الشيخ قال له سماحته: من؟ فيقول متعب الطيار، فيقول: متعب من؟ فيقول: متعب أعداء الله، فيقول سماحته: نعم، نعم.

5_ وذات مرة جاءه مطلِّق فقال له: ما اسمك؟ قال: ذيب، قال: وما اسم زوجتك قال: ذيبة؛ فقال سماحته مداعباً: أسأل الله العافية ! أنت ذيب، وهي ذيبة، كيف يعيش بينكما أولاد؟

6_ وذات يوم كان أحد الإخوة يقرأ، وفي أثناء قراءته تردد في كلمة ولم يفصح عنها، أي لم يستطع أن يقرأها.

وكان ضمن الحاضرين في المجلس د. عبدالله بن محمد المُجَلِّي فقال سماحة الشيخ: أعطها ابن مُجلِّي؛ لعله يجلِّيها.

7_ ومما يذكر في ذلك _ أيضاً _ أن سماحته كان كثيراً ما يمازح الشيخ عبدالرحمن بن حمد بن دايل، والشيخ عبدالرحمن × من قدامى كتاب سماحة الشيخ وممن له باع طويل في تحرير قضايا الطلاق، وهو معروف بسرعة إنجاز الأعمال، وضبطها، وكان مع سماحة الشيخ في المدينة، وهو المسؤول عن الأوراق التي ترد إلى بيت سماحته وروداً وصدوراً، وكان يعمل مع سماحته جل أوقاته، وهو محبٌّ للخير، وذو همة عالية، وإتقان للعمل _ كما مر ذكره _.

وكان يُعِدُّ الفتاوى على معاملات الطلاق، باسم سماحة الشيخ، ويندر أن يجد سماحته فيها نقصاً، أو خطأً.

وهو لا يرافق سماحة الشيخ إذا سافر إلى مكة أو الطائف، بل يمكث في الرياض يستقبل معاملات الطلاق التي ترد إلى مكتب الرياض، ويعد عليها، ثم يرسلها إلى سماحته في مكة أو الطائف.

وفي بعض الأحيان يرسل ثلاثين معاملة أو أربعين، أو أكثر أو أقل، وتوزع بين الموظفين لقراءتها؛ فإذا جاء وقت عرضها قال سماحة الشيخ: أبو حمد ضابط لعمله، ثم قال: ممازحاً، ولو، نختبر أبا حمد، اقرؤا ماكتبه، فإذا قرؤوه وإذا هو في غاية الضبط والإتقان.

وكان الشيخ عبدالرحمن يتصل بسماحة الشيخ، أو يقابله، ويبدأ بسرد الأعمال، وقراءة القضايا بكل نشاط وهمة، فإذا رآه سماحة الشيخ هكذا قال: يا أبا حمد! ألا تريد أن تتزوج؟ فيقول الشيخ عبدالرحمن: يا سماحة الشيخ أنا في وادٍ وأنت في وادٍ، أين أنا والزواج، فيقول سماحة الشيخ مداعباً: وسع صدرك، وسع صدرك.

ويقول الشيخ عبدالرحمن بن دايل: إذا أجريت اللازم على معاملة ما، ثم قرأتها على سماحته، وأعجبه ما قرىء عليه، قال: قالون، قالون، يعني: جيد؛ بالفارسية.

8_ ومن النماذج على دعابة سماحة الشيخ أنه كان قبل وفاته بعام واحد مدعواً عند الشيخ محمد الموسى، بمناسبة سكناه بيته الجديد، وكان المجلس مليئاً بالمشايخ وطلاب العلم، وعلى رأسهم سماحة الشيخ عبدالعزيز × وصاحب الفضيلة الشيخ العلامة عبدالله بن جبرين، وصاحب الفضيلة الشيخ عبدالله الفنتوخ، وصاحب الفضيلة الشيخ عبدالعزيز السدحان وجمع من المشايخ من الزلفي.

وكان سماحة الشيخ يعمر المجلس بالفوائد، والإجابة على الأسئلة، وحصل أنَّ حديثاً طويلاً دار حول الرقية، وتلبس الجني بالإنسي.

ومما دار في ذلك المجلس أن الشيخ عبدالعزيز السدحان ذكر أنه ورد في ترجمة أحمد بن نصر الخزاعي × أنه رقى رجلاً فيه مس من الجن، فتكلمت على لسانه جنية، فقالت لأحمد بن نصر: يا شيخ لن أخرج من هذا الرجل حتى يدع القول بخلق القرآن.

فتبسم سماحته × وقال: ما شاء الله، هذه جنية سنية، هذه من أهل السنة والجماعة.

ثالثاً: ذوقه المرهف، وأدبه الجم: سماحة الشيخ ذو نفس شفافة مرهفة، وأدب جم رفيع، وقد مر شيء من ذلك عند الحديث عن صفاته، فهو × لا يجرح شعور أحد، ولا يواجه الناس بما يكرهون، كما أن أدبه لا يفارقه سواء في بيته مع أهله، أو مع موظفيه، أو مع زائريه، أو مراجعيه، أو مع من يتحدث معه عبر الهاتف، وسواء كان ذلك في السفر أو الحضر، أو حالة الصحة أو المرض وإليك طرفاً ونماذج من هذا القبيل:

1_ من ذوقه ورهافة حسه أنه إذا شعر بضيق من يعمل معه حاول إيناسه ومباسطته _كما مر_.

2_ ما ذكره الشيخ محمد الموسى قائلاً: =إذا دخل عليه أحد وهو على موعد قراءة مخصص لي، أو للدكتور محمد الشويعر أو غيرنا فإن الشيخ يرغب في استقبال الآتي وإكرامه، ولا يرغب_في الوقت نفسه_أن يضيع الوقت المخصص لي أو لغيري، لذا فإنني أراه يتحفز لا يدري ماذا يصنع؛ لأنه يريد أن يشعرني بأن الوقت لي، ولا يريد أن يؤخذ إلا بإذني أو إذن غيري ممن خصص له الوقت.

مع أنه يأمر على الجميع، ومع أن المعاملات والأوراق، والكتب كلها داخلة ضمن عمله.

فإذا أذن صاحب الوقت، أو قال للقادم: تفضل سُرَّ سماحته بذلك أيما سرور؛ لأنه أرضى الطرفين+.

3_ ومن ذوقه × أنه يراعي مشاعر الآخرين؛ ويسعى سعيه لإرضائهم وتطييب قلوبهم.

ولا أدل على ذلك من الدعوات الكثيرة التي توجه إليه فيجيب أصحابها مع ما كان عنده من الأعمال العظيمة التي تحتاج إلى أوقات بل أعمار لكي تقضى.

وهذه السجية لا تفارق سماحته حتى في حال مرضه، بل في آخر أيامه.

4_ ومن ذوقه × أنه كان يلاطف من يأتون لزيارته، حتى في آخر أيامه؛ حيث يسألهم عن أحوالهم، وعن أهليهم؛ ليدخل السرور عليهم

بل كان يسأل الموظفين الذين معه عن أهليهم، ويقول: لعلكم تتصلون بهم، وتطمئنون عليهم؛ لأن الموظفين في الطائف، وأهليهم في الرياض؛ فلم تكن هذه الأمور لتفوت على سماحته ×.

حتى إنه لما كان في المستشفى في مرضه الأخير وقبل وفاته بأيام لم يكن يهمل أي رسالة تأتيه، حتى إن أحد الناس كتب إلى سماحته رسالة أبان فيها عن عظيم محبته للشيخ، ودعواته ودعوات المسلمين لسماحته.

فأمر سماحته بإعداد جواب مناسب، ضَمَّنه شكره، ومحبته، والدعاء له بالتوفيق.

5_ ومما يدل على ذوق سماحته المرهف أنه يتحمل الناس بألوانهم المختلفة، وهيئاتهم المتنوعة، وروائحهم التي لا تروق أحياناً، حيث إن بعضهم يقترب كثيراً من سماحته، بل ربما ضيق عليه النَّفَس وسماحة الشيخ لا ينهره ولا يوبخه، بل قصارى ما يكون من سماحته أن يقول له: ابتعد قليلاً.

6_ ومن عجائب مراعاته لشعور الآخرين، وحرصه على عدم تكدير صفوهم أنه في آخر ليلة جلسها للناس لم يدخل على الناس من باب المجلس الذي اعتاد أن يدخل عليهم معه.

وإنما دخل من باب المجلس النافذ إلى المجلس الذي يعد فيه الطعام؛ ذلك أنه أتى من داخل منزله على العربة يقوده ابنه الشيخ أحمد؛ ولما وصل إلى باب المجلس ترجَّل من العربة ومشى؛ ليري الناس أنه بخير وعافية؛ ليفرحوا بذلك، ويطمئنوا على صحته.

ولهذا لما رآه الناس تهللت وجوههم، وفرحوا أيما فرح_كما سيأتي وصف ذلك عند الحديث عن آخر أيام الشيخ_.

7_ ومن ذوقه المرهف وأدبه الجم أنه لا يمد رجله وعنده أحد، حتى ولو كانوا من مرافقيه، مع أن الأطباء قد أوصوه بأن يجعل متَّكَئاً يضع عليه رجله، بعد إصابته إثر سقوطه عليها عام 1414هـ.

8_ ومن ذوقه أنه إذا انتهى من غسل يديه بالصابونة الموجودة على المغسلة أراق عليها بعض الماء؛ ليزيل ما يطفو عليها من رغوة؛ حتى إذا أراد غيره استعمالَها وجدها نظيفة.

9_ ومن أدبه وذوقه أنه إذا شرب ماءً أعطى الذي عن يمينه ولو كان صغيراً، ولو لم يكن يعرفه.

10_ وإذا أراد أن يناول شيئاً لأحدٍ ناوله بيمينه، وإذا أراد أن يناول أحد الموظفين معه ورقة، أو سمَّاعة الهاتف أو أيَّ شيء آخر ناوله إياه باليمين.

وإذا كان أحد عن شماله وشق عليه أن يمد له باليمين وضع اليمين على الشمال وناول ما معه.

11_ ومن أدبه أنه إذا دخل بيته بعد درس الفجر، أو بعد أن يغادر مكتب البيت بعد استعراض المعاملات أنه يدخل بيته بسكينة، ورفق، وهدوء؛ لئلا يزعج نائماً.

وإذا وصل منزل الأسرة، وحاول فتح الباب ووجده مغلقاً طرقه برفق ولين، وربما جلس الدقائق وهو يحركه، ويطرقه بسكينة ولطف.

12_ وكان من أدبه أنه إذا مر بأحد، وظن أنه نائم مشى بهدوء ورفق.

لكنه إذا مر بأحد، أو سمع أحداً والصلاة قد دخل وقتها تغيرت طريقته؛ فتراه يرفع صوته، ويقول: الصلاة الصلاة، أما سمعتم الأذان، توكلوا على الله.

13_ ومن أدبه وذوقه أنك لا تسمع منه كلمة نابية، أو غليظة، أو مشتملة على سوء أدب.

لا مطلق هُجْرَ الحديث إذا احتبى

                   فيهم ولا شرس السجية جاس

رابعاً: السخاء والجود وكرم الضيافة: لا يكاد يُعْلَم في زمان سماحة الشيخ أحد أسخى، ولا أجود، ولا أكرم من سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، وذلك في وجوه السخاء، وصوره المتعددة؛ فسماحته كريم في خلقه، جواد في صفحه وعفوه، سخي بعلمه، ووقته وراحته، ونومه، متلاف لماله في وجوه الخير المتعددة؛ من بذل، وصدقات، وإقراض ينتهي غالباً بالمسامحة.

والذي بيده ليس له ولو سئل ما سئل؛ فربما سئل مالاً فأعطاه، وربما أتته الهدية في المجلس فسأله أحد الحاضرين إياها فأعطاها إياه، بل كثيراً ما يبتدر من بجانبه بالهدية التي تقدم لسماحته، بل ربما سُئِل عباءته التي يلسبها فأعطاها من سأله إياها.

والحديث عن كرمه وسخائه وجوده يبدأ ولا ينتهي، وحسب الحديث في الأسطر التالية أن يكون عن صورة من هذه الصور، ألا وهي كرم ضيافته، وعنايته البالغة بمن يَقْدِمُون ضيوفاً عليه؛ فإليك طرفاً ومعالم من هذا القبيل:

1_ كان × مجبولاً على حب الضيوف، والرغبة في استضافتهم منذ صغره.

وقد ذكر الشيخ عبدالمحسن بن سعد الباز _أحد أقارب سماحة الشيخ، ويكبر سماحته بعشر سنوات _ ذكر أن سماحة الشيخ، وهو يطلب العلم عند المشايخ في مقتبل عمره_كان إذا سلم عليه أحد دعاه إلى غدائه أو عشائه، ولا يحتقر ما يضعه للناس، ويجعل الله في طعامه خيراً كثيراً.

2_ كان يوصي بشراء أحسن ما في السوق من الفاكهة، والتمر، والخضار، وسائر الأطعمة التي تقدم لضيوفه.

3_ وكان يلح إلحاحاً شديداً إذا قدم عليه أحد أو سلم عليه، فكان يلح عليهم بأن يَحُلُّوا ضيوفاً عنده على الغداء، والعشاء، والمبيت، ولو طالت مدة إقامتهم.

ولا يكاد القادم إليه يتخلص منه إلا بعد لأْي وجهد.

4_ وكان يُرَغِّبُ القادمين إليه بأن يتواصلوا معه في الزيارة، فيذكِّرهم بفضل الزيارة، والمحبة في الله، ويسوق لهم الآثار الواردة في ذلك؛ مما يبعثهم إلى مزيد من الزيارة؛ لأن بعضهم لا يرغب في الإثقال على سماحة الشيخ وإضاعة وقته؛ فإذا سمع منه ذلك انبعث إلى مزيد من الزيارات.

5_ وكان يحرص أشد الحرص على المواعيد التي يضربها لضيوفه؛ فكان يعطي من يعملون معه خبراً بذلك، ويقول: سيقدم علينا اليوم فلان من الناس، أو فلان من أهل العلم، ويتقدم للمجيء قبل ضيفه؛ ليكون في استقباله.

6_ لا يتلذذ بالأكل وحده، بل لا يجد أنسه إلا بالأكل مع الضيوف والفقراء، ولهذا لا يكاد سماحته يتناول غداءه أو عشاءه إلا ومعه أناس على المائدة.

7_ وكان يلاطف ضيوفه، بمحاسن كلامه، ولطيف ترحيبه.

ومن كلماته المعتادة لضيوفه قوله: حياكم الله، حيا الله الجميع، من الألفة ترك الكلفة.

8_ وكان لا يقوم من المائدة حتى يسأل عن ضيوفه: هل قاموا؟ فإذا قيل له قاموا قام؛ كيلا يعجلهم بقيامه قبلهم، وإذا قام قال: كل براحته، لا تستعجلوا.

9_ وكان لا يتبرم من كثرة الضيوف، ولا تضيق نفسه إذا فاجأه الزائرون وهو لم يحسب حسابهم، بل يرحب بهم، ويلاطفهم، ويقول: حياكم الله، ويبارِكُ اللهُ في الطعام الذي يقدم، ولو لم يؤخذ حساب القادمين، وربما أمر بأن يحضر زيادة في الطعام.

كريم إذا ضاق اللئام فإنه

                   يضيق الفضاء الرحب في صدره الرحب

والقصص في هذا السياق لا تكاد تحصى.

10_ وكان من عادته أنه ينيب من يقوم على إكرام الضيوف، والقيام بشأنهم إذا كان لديه موعد محاضرة, أو مناسبة، أو وليمة.

وكان إذا جاء من موعده سأل عن الضيوف وعن راحتهم، وعما قدم إليهم.

وإذا لاحظ تقصيراً في حقهم تكدر وغضب.

11_ وكان دائماً يسأل: عسى ما نقص عليهم شيء، وإن قيل له: لا، فرح وتهلل، وحمد الله.

12_ وإذا قدم الضيوف من بعيد، ثم استضافهم وأكرمهم، وأرادوا توديعه_ ألح عليهم بأن يمكثوا، وأن يتناولوا وجبة أخرى، وأن يبيتوا عنده؛ فلا يخلصوا منه إلا بعد أن يتأكد بأنهم مسافرون أو مرتبطون.

بل إذا قالوا: إنهم مرتبطون، قال: ألا يمكن أن تتخلصوا من ارتباطكم ؟ ألا تهاتفون صاحب الارتباط، وتعتذروا منه ؟

13_ وإذا كان مُجْهداً، أو لم يكن له رغبة في الطعام_جلس مع ضيوفه؛ إيناساً لهم، وتطييباً لنفوسهم؛ خصوصاً إذا رغبوا في ذلك، ولم يعذروه.

14_ وكان يفرح بالقادم إليه ولو لم يعرفه من قبل، خصوصاً إذا قدم من بعيد، أو لمصلحة عامة.

15_ وكان يرفع من شأن ضيوفه، ويعلي من منزلتهم، ولو لم يكونوا كباراً، ولو لم تكن لهم مكانة اجتماعية.

وأذكر أنه قبل سنتين من وفاته كان في الطائف، وزاره بعض الشباب من الزلفي، وكانوا طلاباً في كلية الشريعة، ومن ضمنهم أخي عبدالله وبعضهم لم ير الشيخ قبل ذلك، وكان غاية ما يتمنون أن يروا سماحته في زيارتهم تلك.

فلما دخلوا مجلسه بعد المغرب حياهم، وأدناهم، وألح عليهم بالعشاء، فقالوا: نحن لا نريد سوى رؤياك والسلام عليك.

فقال: لابد من العشاء، فوافقوا.

وكان في مجلسه بعد المغرب يلتفت إليهم، ويباسطهم، ويسألهم عن المشايخ في الزلفي.

يقول الشيخ محمد الموسى: =فلما صلينا العشاء دخلت مع سماحته في المختصر؛ لأقرأ عليه بعض الأوراق والمعاملات ريثما يتم إعداد العشاء.

وكان الشباب الزائرون في المجلس ينتظرون.

فلما شرعت بالقراءة على سماحته رأيته منصرفاً عني، ثم قال: أبا موسى ! فقلت: نعم، فقال: تركنا الضيوف، فقلت: عفا الله عنك، هؤلاء أبناؤك، وقد جلسوا معك بعد المغرب، وسيجلسون معك بعد قليل على العشاء؛ فماذا يريدون غير ذلك ؟ ائذن لي بإكمال ما شرعنا بقراءته.

ثم شرعت بالقراءة، فقال: أبا موسى، ضيوفنا؟ فقلت: لا بأس عليهم، فقال: في ذمتك يا أبا موسى؟ فقلت: لن يلحق ذمتي شيء إن شاء الله، فقال: لندع القراءة الآن، هَيّا إلى المجلس، فتركنا القراءة، وجلس معهم يباسطهم، ويجيب عن أسئلتهم.

فلما تناولوا طعام العشاء مع سماحته استأذنوا فقال: ما نسمح لكم، لابد أن تبيتوا عندنا، فقالوا: عندنا مكان سنبيت فيه، فألح عليهم، وقال: نحجز لكم في الفندق، إن أردتم؛ لأنه × ظن أنهم مستحيون، فقالوا: جزاك الله خير الجزاء، وغفر لك، وجعلك ذخراً للإسلام والمسلمين، لقد أعطيتنا من وقتك ومجلسك فوق ما نستحق، وفوق ما تصورنا؛ فودعهم، وحمَّلهم السلام لمن أمامهم+.

16_ ومن لطائف كرمه أنه إذا قدم عليه قادم وهو في السيارة أخذ يتحفز، ويتحرك، ويدعو القادم للركوب معه، ولو كان المكان ضيقاً، لكن سماحته يريه أنه محب لصحبته.

وربما أمر أحد السائقين التابعين للرئاسة ليوصل من يقدم عليه، أو أن يأخذ سيارة للأجرة؛ لتنْقُل من يأتون إليه إذا كانوا كثيرين.

17_ وكان يراعي مشاعر ضيوفه، ولا يرضى أن يهانوا بحضرته.

18_ كان منزل أسرة سماحة الشيخ في الرياض لا يتسع لكثرة الضيوف القادمين إليه، وكثيراً ما يأتيه أناس بأُسَرهم إما من المدينة أو غيرها؛ إما طلباً لشفاعة أو مساعدة، أو نحو ذلك، فكانوا يسكنون عند سماحة الشيخ في المنزل.

وإذا خرج سماحة الشيخ في الصباح أخذ معه أوراقهم وطلباتهم، ويقول: اقرؤا ما فيها.

19_ لدى سماحة الشيخ مكان مُهَيَّأٌ للضيوف، وهذا المكان في بدروم بيت الرياض.

وربما اجتمع فيه عشرة أشخاص، أو خمسة عشر، وربما جلسوا أياماً، وربما شهوراً !!

وفي يوم من الأيام قيل لسماحة الشيخ: إن فلاناً ساكنٌ عندنا منذ وقت طويل، فقال: لو استغنى عنكم ما جلس عندكم !

20_ هناك عدد من الناس يرتادون منزل سماحته وقت الغداء بصورة مستمرة.

21_ وكان يجود لمحبيه وزائريه بما يستطيع ولو قلَّ.

وأذكر أنني ذهبت للعمرة بصحبة الوالدة والأهل وبعض الإخوة؛ فمررنا بالطائف _ وكان موجوداً به في ذلك الوقت _ فعرجنا على منزل سماحة الشيخ قبيل المغرب، فخرج يتهادى مع من يقوده إلى المسجد، فقابلته، وسلمت عليه، فألح بالعشاء، والمبيت، والإفطار غداً، والغداء، وقال: بعد ذلك لكم أن تذهبوا؛ فصرت أعتذر منه، وهو يلح؛ وقال: عندنا مكان خاص بالأهل؛ فقلت له: سنذهب إلى مكة، وبعد العمرة والاستقرار في مكة نَقْدُم عليك مرة أخرى.

فقال: يعني ما فيه فائدة؟ فقلت: الأمر كما ترون، فأخرج من جيبه مسواكاً جديداً وقال: اللهم اهدنا فيمن هديت إذاً خذ هذا المسواك؛ فأخذته، والسرور يملأ قلبي بتلك النفس الرضية، وتلك الهدية التي تعدل في معناها كل هدية.

خامساً: ثباته وشجاعته: سماحة الشيخ معروف بالثبات وقوة القلب، والشجاعة الأدبية؛ فهو معروف بقول الحق، والصدق، ولا يُعْلَم أنه اهتز، أو توقف عن إنكار منكر؛ لكونه صدر من فلان أو فلان.

بل ينكر المنكر على أي أحد، ولكن بالأساليب الحكيمة، الناجعة، الناجحة، الموافقة لما جاء في الشرع المطهر.

ثم إنه إذا تبين له الحق لم يحد عنه قيد أنملة، وإذا تبين له من خلال النظر في الأدلة خلاف ما يرى رجع عما كان عليه دونما تحرج.

وسماحته معروف برباطة الجأش، وقوة الشكيمة؛ فقد تمر به فتن عظيمة، ومصائب عامة وخاصة؛ فلا يظهر عليه جزع، أو خور، أو ذعر، وإنما يقابلها بالثبات، والصبر، والرضا، والاحتساب، والاستعانة بالله، فهذا دأبه في سرائه وضرائه؛ حيث يلزم الاعتدال، واستواء الطرائق.

وربما وقع عليه حادث في السيارة التي تُقِلُّه، فتهتز السيارة، ويحصل بها بعض الضرر وهو ثابت لا يزيد على الدعاء، وحَمْدِ الله على السلامة، وقول: ماذا حصل، وبعد ذلك يستمر في الاستماع لما يُقْرأُ عليه.

ومرة دخل في مجلس داخل بيته لأداء السنة الراتبة للمغرب، ولما كَبَّر ودخل في الصلاة جاء أحد المرافقين لسماحته، وفتح النور فانفجرت إحدى الثريات وصدر منها صوت شديد، وتطاير منها شرر، فلم يتغير، ولم يتحرك، وبعد فراغه من الصلاة، وإتيانه ببعض الأدعية والأذكار قال: ما هذا الصوت؟ ولم يزد على ذلك.

وفي أزمة الخليج أيام كانت الصواريخ العراقية تصل إلى الرياض أحياناً كان الناس يصابون بالرعب إذا سمعوا أصوات الصفارة المنذرة.

أما سماحته فهو على حاله، ودروسُه على حالها، وثقته بالله لا تتضعضع.

بل إن كثيراً من الطلاب يقولون: إننا نشعر بالأمان والطمأنينة إذا حضرنا درسه.

ولما اشتعل الحريق الكبير في منى، عام 1417هـ أصاب الناس ما أصابهم، من الذعر والخوف.

أما سماحة الشيخ×فشرع بالحوقلة، والدعاء، ولما صلى الظهر، قنت، وسأل الله أن يكفي المسلمين شر هذا الحريق.

فهذه هي حاله في شتى أطواره، يصدق عليه قول القائل:

قد عشت في الدهر أطواراً على طُرُقٍ

                   شتى فصادفت منه اللِّيْنَ والبشعا

كُلاً بلوت فلا النعماء تُبْطِرُني

                   ولا تَخَشَّعْتُ من لأوائها جزعا

لا يملأ الهول قلبي قبل وقعته

                   ولا أضيق به ذرعاً إذا وقعا

ومن ثباته وشجاعته ورباطة جأشه أنه يتكلم في المحافل وأمام الناس كبارهم وصغارهم فلا تقيِّده حبسة، ولا يهوله عظمة من أمامه، بل يتكلم بكل طمأنينة، وراحة، وسكينة.

ومن شجاعته وقوته في الحق أنه ينكر المنكر، ويبين الحق، ويرد على من أخطأ كائناً من كان.

والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، وهذا الأمر معروف عن سماحة الشيخ في مقتبل عمره، وبعد أن طعن في السن.

ومن الأمثلة على ذلك أنه لما نشرت صحيفة الجيش السورية كلاماً كفرياً، يتضمن إنكار وجود الله _ سبحانه وتعالى _ كتب سماحة الشيخ للرئيس السوري آنذاك، وهو نور الدين الأتاسي، وبين له الحكم في ذلك، وأن الواجب التوبة، وإعلانها في الصحف.

ومن ذلك أنه لما نشرت بعض الصحف الخارجية أن بعض الرؤساء طعن في القرآن، وذكر أنه متناقض، وتكلم في شخص الرسول " كتب إليه سماحة الشيخ، وبين له فداحة ما قال، وأوضح له أن ذلك كفر وردة، وأن الواجب عليه إعلان التوبة في الصحف التي نشرت كلامه.

ولما لم ينشر ذلك الشخص ما أشار به سماحة الشيخ، ولم يعلن توبته ورجوعه _ كتب سماحته مقالاً مطولاً بين فيه كفر ذلك الشخص، وردته، ونشرت ذلك بعض الصحف.

سادساً: العدل في الأحكام: لقد عُرف عن سماحة الشيخ أنه كان رمزاً ومثالاً للعدل، والإنصاف؛ فكثيراً ما تكون كلمته هي الفصل بين الأطراف المتنازعة، في كثير من الشؤون.

والناس على اختلاف طبقاتهم يرضون بحكمه؛ لعلمهم بتجرده وتقواه.

ومن مظاهر العدل عنده أنه إذا قرئ عليه كتاب، أو سمع كلاماً لأحد من الناس، أو سمع عن أي أحد شيئاً_سمعه وكأنه خالي الذهن عن معرفة ذلك القائل أو الكاتب؛ فحكم عليه بما يستحق ثناءاً، أو نقداً، أو غير ذلك؛ فلا تأخذه معرفة الإنسان وقربه من سماحته إلى مجاملته، والتغاضي عن أغلاطه، ولا يأخذه الجهل به، أو مخالفته أو بعده، أو كثرة كلام الناس فيه_إلى رد ما عنده من صواب.

بل يقبل الحق، ويثني عليه ولو كان من أبعد الأبعدين.

وكثيراً ما يُقْرأ عليه في كتب لأناس قريبين إليه، بل ربما كانوا من خاصة محبيه، ومع ذلك ربما كتب على الكتاب عدداً كثيراً من الملحوظات والاستدراكات.

والعكس من ذلك؛ حيث يُقرأ عليه بعض الأحيان في كتب يطلب قراءتها لأناس مخالفين، فإذا قرأها تجرد من كل هوى، وقَبِل ما فيها من حق، بل ربما أثنى على بعض المواضع فيها، وإذا رأى ملحوظة أشار إليها، ونقل الدليل على خطئها، أو ساق ما يراه، أو أبدى الوجه الأَوْلى في المسألة التي تدور حولها الملحوظة.

بل ربما ردَّ عليه أحد من الناس، أو ناقشه في مسأله ما _ فلا تراه يغضب لذلك بل يستمع لمن يرد عليه بكل هدوء وارتياح، وربما رجع عن قوله إذا رأى وجاهة الرد، وربما قال: نَتَّهم رأينا، نراجع الموضوع، أو المسألة مرة أخرى.

وربما ناقشه بعض الناس بصلف، وجهل، وغرور، وسماحة الشيخ لا تفارقه سكينته، بل يتلطف بمن يناقشه، ويأخذه بالتي هي أرفق.

ومن عدله وتجرده أنه إذا قرىء عليه لعالم أو كاتب ما، وأحس من القارىء تذمراً، أو سمع منه كلمة فيها فضاضة أو غلظة تقال في حق المقروء له_أظهر سماحتُه احترام ذلك المقروء له، وأثنى عليه بما هو أهله، وقال: فيه خير كثير، وليس معصوماً، ولسنا معصومين، وكلنا ذوو خطأ، وهذه صفات البشر.

ومن عدله وإنصافه أنه لا يثرِّبُ على من قال بقول يخالف ما يراه؛ بل يتسع صدره لهذا الخلاف، ويلتمس العذر لمن خالف، ولا يُلْزِم غيره بأن يأخذ بما يراه، ولا يكلف نفسه عناء الرد على من يخالفه في مسألة أو قول له وجاهته، خصوصاً إذا كان القائل بذلك عالم له مكانته.

سابعاً: حلم سماحة الشيخ وسكينته: أما حلمه وسكينته؛ فلا يكاد يصدق بهما إلا من رأى ذلك بأم عينه؛ لأنك إذا سمعت عنه ذلك ربما تظن أنه من نسج الخيال، وماهو من نسج الخيال، وإنما هو جِبِلَّةٌ جُبِلَ عليها فريدُ دهره، ونسيجُ وَحْده.

لأن حلمك حِلْمٌ لا تَكَلَّفُه

                   ليس التَّكَحُّل في العينين كالكَحَلِ

والحلم والسكينة يلازمانه في شتى أطواره، يستوى بذلك حاله في السفر والحضر، وفي الصحة والمرض، وفي الزحام والوحدة، ومع القريب والبعيد.

وقد مر بك، وسيمر شيء من ذلك في ثنايا هذه السيرة الغراء؛ فهو يحلم على من يجهل عليه، ويحلم على من يرفع الصوت بحضرته، ويحلم على من يسيء فهمه، ويحلم على من يرد عليه بالباطل، والقصص في هذا السياق كثيرة جداً.

ومما يحضرني في ذلك أنه قبل سنتين من وفاة سماحته × كان في الطائف، وفي يوم من الأيام جاء سماحته من الدوام قريباً من الساعة الثالثة إلا ربعاً، ولا يخفى عليك أنه قد قام في آخر الليل للتهجد، وأنه يجلس للدرس حتى الثامنة صباحاً، ثم يذهب للدوام ويقوم بما يقوم به من الأعمال العظام، فلما قدم من الدوام في ذلك اليوم دخل مجلسه، فحيا الجموع التي كانت تأتي كالعادة إليه، وبدأت الأسئلة تترى، والهاتف يستأنف رنينه.

وفي هذه الأثناء دخل على سماحته رجل ثائر، ومعه أوراق يطلب فيها شفاعة الشيخ؛ ليحصل على مال؛ ليتزوج، فشرع الرجل يتكلم بصوت مرتفع أزعج الحاضرين في المجلس، فوجهه سماحة الشيخ بما يلزم، وقال: اذهب إلى فلان في بلدكم الفلاني، واطلب منه أن يكتب لكم تزكية، ويقوم باللازم، ثم يرفعه إلينا، ونحن نكمل اللازم، ونرفع إلى أحد المحسنين في شأنك.

فقال الرجل: يا شيخ ارفعها إلى المسؤول الفلاني _ يعني أحد المسؤولين الكبار _ فقال سماحة الشيخ: ما يكون إلا خير، فرفع الرجل صوته، وأخذ يكرر: لابد أن ترفعها إلى فلان، وما زال يردد، وما زال الشيخ يلاطفه، ويرفق به، ويعده بالخير، حتى إن الحاضرين تكدروا، وبدا الغضب من على وجوههم، بل إن بعضهم هَمَّ بإخراج الرجل، ولكنهم تأدبوا بحضرة الشيخ، ولم يرغبوا بالتقدم بين يديه.

فقال الرجل: يا شيخ عمري يزيد على الخمسين، وما عندي زوجة، وما بقي من عمري إلا القليل، فتبسم سماحة الشيخ، وقال: يا ولدي _إن شاء الله_ ستتزوج، ويزيد عمرك _ إن شاء الله _ على التسعين، وسنعمل ما نستطيع في تلبية طلبك.

فما كان من ذاك الرجل الثائر المستوفز إلا أن تَبلَّجت أساريره، وأقبل على سماحة الشيخ، وأخذ برأسه يُقَبِّله، ويدعو له.

فلما همَّ بالإنصراف ودع الشيخ، فقال له سماحته: لا نسمح لك؛ غداؤك معنا، فقال: يا شيخ أنا على موعد، فقال له الشيخ: هذا الهاتف اعتذر، فما زال يحاول التخلص، وما زال سماحة الشيخ يلح عليه بتناول الغداء، ولم يقبل سماحته الاعتذار إلا بعد لأْيٍ وجَهْد.

حينئذٍ تعجب الحاضرون من تحمل الشيخ، وصِرْتَ ترى الدهشة بادية على وجوههم، فكأنه أعطاهم درساً عملياً في فضل الحلم، وحميد عاقبته.

ثامناً: لزوم الشورى: فمع أن سماحة الشيخ من أعقل الرجال، وأحزمهم، وأكثرهم روية، وأناة، وحكمة، وتجربة، وحنكة إلا أنه كان كثير المشاورة، كثير الأخذ بمبدأ الشورى، سواء في أموره الخاصة، أو في الأمور العامة منطلقاً بذلك من قوله_تعالى_[وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] آل عمران: 159 وقوله_[وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] الشورى: 38، ومقتدياً بالنبي " حيث كان كثير المشاورة لأصحابه، حتى إن سماحة الشيخ يستشير في أموره الخاصة به كإجراء العملية التي قررت له أكثر من مرة، وكموضوع سفره للخارج للعلاج، وغير ذلك من الأمور.

وكان × لا يحقر الرأي من أي أحد كائناً من كان، بل كان يقبله، وربما تَبَنَّاه إذا رأى وجاهته، ولو كان من صغير، أو ممن ليس له شأن.

وإذا كان له رأي في مسألة أو موضوع، ثم نوقش فيها، وتبين له وجه الصواب أخذ به ولو كان مخالفاً لما رآه سالفاً.

=من لطائف سيرة سماحة الشيخ+

في سيرة سماحة الشيخ × لطائف كثيرة تتجلى فيها عظمته الحقه ومن ذلك ما يلي:

أولاً: محافظته على الوقت: للوقت عند سماحة الشيخ منزلة كبرى؛ فهو يدرك أهميته، ويسعى سعيه لاغتنامه بأقصى ما يمكن؛ فلا يكاد يفوت عليه وقت مهما قل أو قصر إلا اغتنمه فيما يرضي الله وينفع الناس؛ فوقته ما بين قراءة في كتاب، أو إملاء لشفاعة، أو سماع لشكوى، أو حلٍّ لمعضلة، أو إجابة لسائل، أو مهاتفة لمستفت، أو إلقاء دروس، أو محاضرة، أو تعليق على كلمة أو مشاركة في ندوة، أو بإلطاف للضيوف، أو بلهج بذكر الله.

ومن مظاهر عنايته بالوقت ما يلي:

1_ دقته في المواعيد: فمن ذلك على سبيل المثال أنه إذا دعي لمناسبة ما_كان من أول الحاضرين، وإذا كان هناك موعد لاجتماع معين في وقت محدد كان أول من يأتي، وإذا كان هناك انعقاد مجلس هيئة كبار العلماء، أو الرابطة، أو اللجنة الدائمة كان أول القادمين، بل كان يأتي قبل الموعد المحدد، فإذا كان الاجتماع يبدأ في الساعة التاسعة على سبيل المثال حضر في الساعة الثامنة والنصف، أو الثامنة وخمس وأربعين دقيقة.

ربما أتى في بعض المناسبات التي يدعى إليها، ومكث ساعة ونصف الساعة ريثما يكتمل الحاضرون.

2_ ضبطه العجيب للارتباطات: فسماحته لا يكاد ينسى موعداً خصصه لأحد سواء لمن يأتون إليه، أو من يأتي إليهم، وأحياناً يسأل من معه هل عندنا موعد: فيقولون: لا، فيقول: بلى، تأكدوا، فإذا رجعوا إلى سجل المواعيد وجدوه كما قال سماحته.

3_ معرفته بالوقت: فهو ملم بالأوقات، وبأي نجم نحن، ومتى يخرج النجم الفلاني، ومتى يدخل.

كما أنه ضابط للوقت مع أنه لم يكن يحمل ساعة؛ فإذا تأخر المؤذن عن الأذان دقيقة أو أكثر بقليل، قال: ما له لم يؤذن ؟ ألم يحن الوقت ؟

وإذا سأل من معه عن الساعة وقالوا: الساعة كذا بالتوقيت الزوالي قال: توافق كذا بالغروبي.

4_ تنظيم الوقت: فنظامه اليومي طيلة العام يكاد يكون معروفاً عند جميع مرتاديه وعارفيه، فنظام خروجه من الدرس بعد الفجر معروف، ونظام دخوله منزلَه معروف، ونظام خروجه للدوام ومجيئه منه معروف، ونظام جلوسه للناس يوم الخميس والجمعة، وبعد المغرب ونحو ذلك معروف، سواء كان في الحج، أو في الطائف، أو الرياض، أو المدينة.

كما أن عمله في كل وقت معروف؛ حيث يخصص هذا الوقت لذلك العمل، وذلك الوقت لعمل آخر.

5_ لا يحتقر اغتنام الجزء اليسير من الوقت: ولهذا تقرأ عليه المعاملات، والكتب، وتوجه إليه العشرات من الأسئلة وهو على الطعام، وهو في طريقه إلى الدوام، وفي مجيئه منه، ويقرأ عليه ويفتي، وهو يغسل يديه بعد انتهائه من الطعام، أو حين يكون في طريقه إلى المسجد، أو مجيئه منه، أو في طريقه لدخول منزله بعد أن يفارق مجلسه.

حتى إنه يقرأ عليه إذا نزل من سيارته إلى مكتبه؛ فإنه يقضي كثيراً من الحوائج في ذلك الوقت مع أن المسافة قصيرة.

ولما أراد بعض المسؤولين في الرئاسة العامة للبحوث العملية والإفتاء والدعوة والإرشاد أن يفتح باباً عند موقف سيارة الشيخ بحيث يختصر له الطريق إلى مقر عمله_رفض سماحته ذلك الرأي لما استأذنوه، وقال: إن هذه المسافة التي بين السيارة والمكتب أقضي فيها حاجاتٍ للناس، فإذا اختصر الطريق ذهبت هذه المصلحة، بل في بعض الأحيان تُقْرأ عليه المعاملات أو الكتب وهو مضطجع على فراشه.

وأكثر معاملات الطلاق تقرأ عليه عن طريق الهاتف.

6_ لا يعرف الإجازات: فسماحته × لم يأخذ إجازة طيلة فترة عمله التي تزيد على ستين عاماً !

بل إن عمله في يوم الخميس والجمعة والإجازات الرسمية ربما زاد على عمله في الدوام الرسمي.

7_ لا يعرف النزهة والرحلات البرية: فلم يكن من أهل التنزه، أو كثرة الرحلات أو السفر للمتعة والاستجمام خصوصاً في مراحل عمره الأخيرة، بل كان وقته عامراً بالجد، والسعي في مصالح المسلمين.

يقول الشيخ محمد الموسى: =وأذكر أن أحد المسؤولين الكبار عرض على سماحته الخروج للنزهة في وقت الربيع، فقال سماحة الشيخ: أنا لا أرغب الخروج، وليس من عادتي.

فقال له المسؤول: النفس تحتاج إلى الراحة، وتغيير الجو، وشم الهواء.

فقال سماحة الشيخ _ ممازحاً _ : الذي يرغب تغيير الجو، وشم الهواء النظيف يخرج إلى السطح ويكفيه ذلك+.

8_ ملء المجالس بالمفيد النافع: فإذا دخل مجلساً من المجالس، أو دعي إلى مناسبة ما _ ملأ المجلس بالمفيد النافع، ولم يدع الوقت يمضي بلا فائدة، أو يمضي بالقيل والقال، فضلاً عن الغيبة وما شاكلها.

ومن ذلك أنه كان يطلب من بعض الحاضرين قراءة بعض الآيات، ثم يشرع سماحته في تفسيرها، ثم يفتح المجال للأسئلة.

9_ بركة الوقت: فالبركة في وقت سماحة الشيخ ظاهرة؛ حيث ينجز الأعمال العظيمة في الأوقات اليسيرة القليلة، فهو يُشْرِف على كثير من المشروعات الكبيرة، ويدير كثيراً من الأعمال المختلفة المتفرقة بأيسر كلفة، وأخف مؤونة، وأقل وقت.

ولا تبالغ إذا قُلْت: إنه يوجه التوجيهات الكثيرة التي يترتب عليها أعمال عظيمة، وأموال ضخمة بدقائق معدودة، بل ربما لا تتجاوز الدقيقة الواحدة.

يقول الشيخ محمد الموسى: =وقد حسبت له بعد المغرب في يوم من الأيام ستين إجابة لستين سؤالاً، كل ذلك في جلسة بعد المغرب، مع أنه لم يكن متفرغاً للإجابة وحدها، بل عن يمينه وشماله اثنان من الكتاب يتعاقبان القراءة عليه، والناس يتوالون للسلام عليه، والهاتف لا يقف رنينه إلى غير ذلك مما مر ذكره في وصف مجلسه+.

10_ لا يستهين بإنجاز أي عمل ولو قل: فربما قضى وقته بأعمال عظيمة يترتب عليها مصالح كبيرة للأمة بعامة، كاجتماعات الهيئة، واللجنة، والرابطة، وغيرها.

وربما لم يكن عنده أعمال كبيرة، فيقضي وقته في رد على الهاتف، أو مسامرة لضيف، أو إجابة لأسئلة امرأة، أو أحد من العوام، بل للرد على بعض الأسئلة التي ترد من بعض الشباب أو الفتيات حول بعض المسابقات الثقافية، فيرد عليها وهو منشرح الصدر؛ فهو لصغار الأمور وكبارها، ويعنيه كثيراً ألا يضَيع وقته إلا في فائدة أو مصلحة ولو قَلَّت.

11_ اغتنام الوقت في حال المرض: فسماحة الشيخ×لا يُضَيِّع الوقت حتى في حال المرض، فربما اشتد عليه المرض، ونقل إلى المستشفى، وبمجرد دخوله المستشفى، أو رقوده على سريره، أو شعوره بأدنى تحسن في صحته يبدأ بطلب الكتب أو المعاملات، أو إجابة عن الأسئلة عبر الهاتف، أو أن يلقي الكلمات على منسوبي المستشفى، وهكذا.

وسترى عجباً من ذلك عند الحديث عن حاله في المرض.

12_ اغتنام الوقت في المواقف الحرجة: فحتى هذه المواقف يحرص سماحته× على اغتنامها، وملئها بالنافع.

يقول الشيخ محمد الموسى: =وأذكر أن صاحب السمو الملكي الأمير نايف ابن عبدالعزيز وزير الداخلية ذكَّر سماحة الشيخ بموقف حصل من سماحته حين توفي جلالة الملك عبدالعزيز × يقول الأمير نايف _حفظه الله_ مخاطباً سماحة الشيخ قبل وفاة سماحته بسنتين تقريباً: حين توفي جلالة الملك عبدالعزيز × وهو في الطائف، وبلغنا الخبر ونحن في الرياض _ خرج الأمراء، والعلماء إلى المطار؛ لاستقبال جثمانه.

ولما تأخرت الطائرة استأذن سماحتُكم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ × في اغتنام الوقت بقراءة شيء من القرآن الكريم، بدلاً من السكوت الذي خيم على ذلك المجلس، فأذن الشيخ محمد بذلك+.

13_ اغتنام الوقت في حال السفر: فبمجرد ركوبه السيارة وذكره لدعاء السفر، يلتفت إلى من بجانبه من الكُتَّاب، ويقول له: ما معك ؟ فيبدأ بسماع أخبار الصحف، أو قراءة بعض الكتب، أو عرض بعض القضايا والمعاملات.

وهكذا حاله وهو ينتظر موعد إقلاع الطائرة، وبعد أن تقلع حيث يكون معه كاتب، أو كاتبان أو أكثر، فيتعاقبون القراءة عليه إلى حين وصول الطائرة إلى مكان هبوطها في الرياض، أو الطائف، أو غيرهما.

يقول الشيخ محمد الموسى: =ومما يحضرني من القصص في هذا القبيل ما ذكره الشيخ عبدالرحمن بن دايل _ وهو من قدامى كتاب سماحة الشيخ وعمره قريب من عمر سماحة الشيخ، فهو من مواليد 1332هـ تقريباً، وقد عاش مع سماحته ما يقارب أربعين سنة _ يقول ×: كنا في المدينة إبَّان عمل سماحته في الجامعة الإسلامية، وذات يوم سافر سماحته إلى قرية بدر التي تقع على الطريق بين جده والمدينة على الطريق القديم؛ حيث ذهب لمهمة دعوة يلقي خلالها محاضرة وكنت أنا والشيخ إبراهيم بن عبدالرحمن الحصين × معه في السيارة؛ فلما بدأ سيرنا، ودعا سماحته بدعاء السفر التفت × وقال: توكلوا على الله، يعني ابدؤا بقراءة المعاملات، فقلنا: يا شيخ _ غفر الله لك _ نحن دائماً نقرأ، ولا نتمكن من الخروج خارج المدينة، وهذه هي فرصتنا؛ دعنا نستمتع بالرحلة، وننظر إلى الجبال والأودية، ونتفكر في مخلوقات الله.

فضحك سماحته وقال: اللهم اهدنا فيمن هديت، اللهم اهدنا فيمن هديت؛ ليقرأ الشيخ إبراهيم، وأنت تفكر في مخلوقات الله كما تقول، وبعد أن ينتهي الشيخ إبراهيم، أملي عليك، وينظر الشيخ إبراهيم ويتفكر وقت الإملاء، وهكذا. . +.

ويقول الشيخ عبدالرحمن بن دايل: =أنتم ما أدركتم نشاط سماحته؛ إذ كان في المدينة لا ينام بعد العشاء إلا متأخراً، وكان لا ينام بعد الفجر، ولا الظهر، ولا العصر+.

ثانياً: ذاكرة سماحة الشيخ: فمن أعجب الصفات التي تميز بها سماحة الشيخ قوة الذاكرة؛ فذاكرته العجيبة تستوعب ما لايحصى من المعلومات، والمعرفة بالأشخاص، والتذكر للتواريخ، والأحداث.

يقول الشيخ محمد الموسى _ حفظه الله _: =وقد عرفت سماحته منذ أربعين سنة، وعشت معه عن قرب ستة عشر عاماً ولم ألحظ عليه نقصاً في فكره، ولا في حافظته.

بل لا أكون مبالغاً إذا قلت: إن عزيمته وهمته، وقوة حافظته تزداد قوة ونشاطاً كل عام؛ فكلما تقدم به السن زكت قريحته، وقويت ذاكرته.

وكثيراً ما يمر بنا ما يدل على ذلك؛ فأحياناً يذكر لنا بعض أخباره في صباه، وأحياناً يُدعى سماحته لغداء أو عشاء، أو مناسبة افتتاح، أو حضور وليمة زواج، أو محاضرة، أو ندوة، أو نحو ذلك، ونحن نسجل مواعيد سماحته بعد أن يعطي أهلها الموافقة، فإذا قرب الموعد سَأَلَنا سماحتُه هل عندنا موعد كذا في مكان كذا وكذا؟

فنقول: أحياناً: لا، أو نقول: لا ندري، فيقول سماحته: بلى، تأكدوا.

فإذا رجعنا إلى سجل المواعيد وجدناه كما قال.

وكذلك موقفه في الدرس لا يكاد ينساه، وأحياناً يسأل عن رقم الصفحة إذا انتهى الدرس أو القراءة، فإذا جاء وقت الدرس أو موعد القراءة من جديد قال: افتحوا صفحة كذا، وربما ضبط الصفحة بكلمة أو حرفين من حساب الجُمَّل ( ).

ومن عجيب ذاكرته أنه إذا أتاه أحد من الأسرة المالكة في بعض الأحيان، ودار الحديث عن الأسرة وأوائلها أخذ سماحته يسرد أن فلاناً هو ابن فلان، وأن أمه فلانة، وأخته فلانة، وتوفيت في عام كذا وكذا.

وربما قال لمن يزوره منهم: خالتك فلانة، وعمتك فلانة، وهذا يرجع إلى كذا وكذا إلخ.

حتى إن بعضهم يقول: أنت أعلم بأسرتنا منا.

وكان × يحفظ أسماء الأسرة المالكة، وتاريخ ميلادهم، ويراجع ما كتبه عنهم في بعض الأحيان، ويحفظ الأشقاء من الأمراء أبناء الملك عبدالعزيز، ويعرف الأخوة لأب، وأخوال كل منهم، وله عناية خاصة بذلك.

وكذلك يعتني بآل الشيخ، ويعرف كبارهم، والسابقين منهم؛ لاسيما العلماء منهم؛ حيث يوليهم اهتماماً كبيراً.

ومن لطائف ذاكرة سماحة الشيخ أنه إذا أراد البحث في عدالة رجل من رجال الحديث ومعرفة حاله، وما قيل فيه _ قال: الذي أعرفه أن صاحب التقريب قال: صدوق، أو قال: ثقة، أو قال: يخطئ، ولكن من باب التأكد.

وعند البحث يكون كلام الشيخ مطابقاً لما في الكتاب في الأغلب.

ولهذا إذا رأيت سماحة الشيخ يتكلم في الحديث ظننت أنه لا يعلم غيره؛ لما كان عليه من حفظ للمتون والأسانيد، والرجال، والصحيح، والضعيف، والموضوع+.

ويواصل الشيخ محمد الموسى حديثه عن ذاكرة سماحة الشيخ فيقول: =ومن العجائب في ذلك؛ أنه في يوم من الأيام أهدى صاحب السمو الملكي الأمير سعود ابن فهد إلى سماحة الشيخ جهاز كمبيوتر قد خُزِّن فيه جميع ما في الصحيحين، والسنن والمسانيد.

وعندما حضر المختص؛ لإطلاع سماحته على نظام الجهاز، وكيفية استخراج الحديث المراد، والبحث عنه، وفي كم رواية ورد، وفي أي الأبواب يوجد _ سأل سماحتُهُ عن بعض الأحاديث في كم رواية ورد؟ وفي أي الأبواب؟ فجعل المختص يبحث عن بعض الأحاديث والشيخ يسأل ويقول: صحيح، وفي بعضها يقول الشيخ: بل ورد بلفظ كذا وكذا، ورواه فلان.

وإذا بحث المختص عنه لم يجده في الجهاز، وعند الرجوع إلى أصل الكتاب يوجد طبق ما كان يحفظه سماحة الشيخ!

وبعد أن سأل سماحته عدة أسئلة وصار يُصَوِّب ويخطِّئ قال المختص: يا شيخ! أتينا بالجهاز على أننا قد حفظنا فيه كل شيء، وأن هذا الجهاز قد اعتني بإدخاله المعلومات، ولكننا فوجئنا بأنك يا شيخ أحفظ من الكمبيوتر!

ومما يدل على قوة ذاكرته أنه يحفظ النصوص من الكتاب والسنة، ومواطن الاستشهاد منها، ويعزو الآيات المتشابهة إلى مظانها دون خلط بينها.

وكان إذا أملى كلمة، أو نصيحة، وأورد حديثاً قال: متفق على صحته، وهذا لفظ مسلم، أو قال: رواه مسلم وأبو داود، وهذا لفظ أبي داود.

وإذا سمع كلمة من أحد، واستدل المتحدث بحديث وعزاه قال سماحة الشيخ: هذه رواية فلان، أو قال: لفظه كذا، ورواه _ أيضاً _ الترمذي، أو ابن ماجه، أو أحمد وهكذا، وعند الرجوع إلى مظانه يكون سماحته _ في الأغلب _ مصيباً+.

ثالثاً: صحة سماحة الشيخ: كان سماحة الشيخ × يتمتع بصحة جيدة في الجملة فلم يكن يعاني من كثير من الأمراض التي كان يعاني منها من هو في سنه، أو في مكانته ممن يتصدون للناس، بل من هم أقل منه بكثير؛ فسماحته لم يكن مصاباً بمرض السُّكَّر، ولا بالضغط، ولا بالكوليسترول، ولم يكن يمتنع عن طعام، ولا يوجد معه مرض مزمن.

بل كان _ مع كبره _ يحب الطعام الحلو، فكان يحب الشاي الحلو، وكان ضمن عشائه حلاوة الطحينية، بل كان يأكلها منفردة بلا خبز أحياناً.

أما الأعراض التي تمر بالناس فقد تمر به إلا أنها لم تكن تعوقه، أو تلزمه الفراش، فالشيخ × عاش ممتعاً بالصحة والعافية في الجملة، عدا الأمراض العارضة التي مرت به، والتي سيمر الحديث عنها في فقرة قادمة.

والسبب في صحته وعافيته _ أولاً وآخراً _ يعود لمحض فضل الله، ثم لإقبال سماحته على ربه، وإكثاره من ذكره، وشكره، وعبادته، والإقبال عليه بشتى القربات، وحرصه على قضاء الحوائج، وتنفيس الكربات؛ فإن لهذه الأمور أبلغ الأثر في أن يمتع الإنسان بالعافية.

ثم إن هناك سبباً مباشراً في تمتعه بالصحة والعافية ألا وهو مزاج الشيخ المعتدل؛ فسماحته ليس من أهل الوهم، والمبالغة في تعظيم الأمور.

وهناك سبب _ أيضاً _ وهو اعتدال سماحته في مطعمه ومشربه.

ومع ذلك فقد مرت به أمراض شديدة في فترات من عمره؛ فلم يفارقه حلمه، ولا سكينته، ولا فَتَّتْ تلك الأمراض من عضده، ولا نالت من همته ولا خلقه.

يقول الشيخ محمد الموسى _ حفظه الله _: =وأذكر قبل خمس سنوات أو ست من وفاة سماحة الشيخ أنه راجع مستشفى الملك فيصل التخصصي؛ لإجراء بعض الفحوصات، ولما رأى الأطباء حال الشيخ وضعف قواه، وكبر سنه_أوعزوا إلى بعض أبنائه بقولهم: إن الشيخ منهكٌ نفسَه وهو بهذا السن؛ فنرجو إبلاغه بأن يخفف على نفسه، وأن يعطيها شيئاً من الراحة؛ فهو محتاج إلى ذلك.

ولما جلس سماحة الشيخ بعد صلاة الفجر في مكتب البيت جاء ابنه الذي أوصاه الأطباء بما مضى ذكره، وقال: يا سماحة الوالد: الأطباء يوصون سماحتكم بكذا وكذا، ونرجو الأخذ بتوجيههم، وأن ترفقوا بأنفسكم، وأن تقللوا من الحديث والعمل.

وكنت أنظر إلى سماحة الشيخ، وهو يستمع إلى كلام ابنه، فلما فرغ من كلامه قال سماحته: ما يكون إلا خير، واستمر على حاله، ولم يغير شيئاً من نظامه، بل ربما زاد عليه+.

ومع أن سماحة الشيخ عاش في الجملة ممتعاً بالصحة والعافية _ كما مر _ إلا أنه أصيب بأمراض شديدة في أوقات متفرقة في عمره.

وهذه الأمراض كفيلة في حَطْمه، وإنهاكه، وقطعه عما هو بصدده من العلم، والتعليم، والقيام بمصالح المسلمين.

إلا أن الأمر كان بعكس ذلك تماماً، حيث كان دأبه الصبر، والرضا، وقوة التحمل، واستواء الطرائق، ولزوم الاعتدال في جميع الأحوال.

رابعاً: همته العالية: من العجائب في سيرة سماحة الإمام عبدالعزيز ابن باز همته العالية المتجددة، التي تزكو وتتسامى مع تقدمه في العمر.

وإذا أردت الحديث عن همته فإنك تحار؛ فبأي شيء تبدأ، وعن أي مجال تتحدث؟

ذلك أن همته العالية لا تقتصر على مجال معين، أو عمل محدد، بل هي شاملة لشتى الأعمال التي يقوم بها؛ فهمته العالية تتجلى في قراءة الكتب؛ فهو لا يمل قراءتها، بل كثيراً ما يشرع في قراءة كتب مطولة لا يخطر بالبال أن يتمها؛ لما يُرى من كثرة أعماله.

وما هي إلا مدة ثم يتم قراءتها.

وتتجلى همته في الاطلاع على المعاملات، والتوجيه بما يلزم؛ فلا يمل ولا يكل من كثرة ما يعرض عليه.

وتتجلى في العبادة، وتطبيق السنة في شتى شؤونه.

وتتجلى في زكاء نفسه، وطهارتها، وترفعها عن السفاسف، والمحقرات.

ومن كان ذا نفسٍ ترى الأرضَ جولةً

                   فلا بد يوماً للسماوات يرتقي

وتتجلى في سخائه، وجوده، وكرمه، في شتى صور السخاء، والجود والكرم.

وتتجلى في اغتنام الأوقات، والقيام بالمشروعات والأعمال العظيمة، التي تقف دونها عقبات، إلى غير ذلك من مجالات همته.

وعلو همته التي دلت على

                   صِغَر الكبير وقلة المُسْتَكْثَر

وإن الذي يعمل معه، ويرافقه ليعجب أشد العجب مما يراه من همته×.

وإنك لترى الإعياء يبلغ مبلغه بمن يرافقون سماحته، ويعملون معه مع أنهم في قوتهم ونشاطهم، ومع أنهم مجموعة يتعاقبون العمل، ويتناوبون على القراءة عليه، ومرافقته، ومع أنهم يجدون متعة ولذة في العمل معه، ومع أنهم متفرغون له، ومع أن سماحته كبير في السن، ويقوم بأعمال متنوعة كثيرة.

ومع ذلك كله تجد أن سماحة الشيخ يقوم بالأعمال العظيمة بمنتهى اليسر، والسهولة، والسرور، والسكينة، يستوي بذلك حاله في السفر، أو الحضر، أو الصحة، أو المرض.

والشواهد والقصص في هذا السياق لا يمكن حصرها، بل إن معظم القصص التي مرت والتي ستمر تؤكد هذا المعنى وتؤيده.

مُتَنَقِّلٌ في سؤددٍ من سؤددٍ

                   مثل الهلال جرى إلى استكماله

خامساً: القيام بصغار الأمور وكبارها: وهذا من أسرار عظمته، ولطائف سيرته، وأسباب تميزه، وحلوله في سواد العيون، وسويداء القلوب؛ ففي الوقت الذي يقوم فيه بجلائل الأعمال، من مراسلات لكبار المسؤولين ومناصحة لرؤساء الدول، واستقبال للوفود من أعلى المستويات، وقيام بالدروس والفتوى، والردود على الأسئلة المتتابعة، ورئاسة الاجتماعات في الرابطة أو الهيئة، أو غيرها، ونحو ذلك من الأعمال التي يترتب عليها المصالح العامة للأمة مع ذلك كله لا تراه يهمل دقائق الأمور، وصغارها؛ بحجة اشتغاله بما هو أهم، بل تراه يسمع سؤال المرأة، ويستقبل الفقير المسكين، ويجيب على سؤال الهاتف ولو كان يسيراً، بل تراه يداعب قائد سيارته، والعاملين معه، ويسألهم عن أحوالهم، وأحوال ذويهم، بل لا يُغْفِل الثناء على طباخ المنزل على الوجبات التي يعدها، ولا ينسى مداعبة الصغار، والقيام بحقوق الأهل، وهكذا كانت حاله مع الناس؛ فكل يعطيه حقه، وينزله منزلته.

ولم يكن أحدٌ يلهيه عن أحدٍ

                   كأنه والدٌ والناسُ أطفالُ

سادساً: لا يحمِّل أحداً ذنب أحد، ولا يشغله شيء عما هو بصدده: وهذا سر عظيم من أسرار عظمته، وسبب رئيس من أسباب قوته، وتحمله وثباته؛ فسماحة الشيخ × لا يَحْمِل همومَ العمل إلى المنزل، ولا يحمل المشكلات والقضايا العامة للزائرين، وإذا ترك مكتبه ترك مشكلاته، وقضاياه داخل المكتب، وإذا خرج من بيته ترك شؤون البيت في البيت.

وليس معنى ذلك، أن تلك القضايا لا تتحرك معه، أو أنه لا يأْبَه لها، وإنما كان يعطي كل مشكلة قدرها، ولا يحمِّل أحداً ذنب أحد؛ فإذا جلس أحد إلى سماحته ظن أنه خَلِيٌّ من الهموم، والشواغل؛ لأنه يقبل بِكُلِّيته على محدثه، وجليسه.

ولقد وطَّن سماحته نفسه على هذا الخلق العظيم؛ فكان ذلك من أعظم ما يعينه على القيام بالمسؤوليات.

بخلاف حال أكثر الناس؛ حيث تراهم إذا كدَّر عليهم مُكدرٌ نال الغضب منهم مناله، وامتد ذلك إلى من حولهم، وإلى كل من يتصل بهم من زملاء، وأهل، وأولاد، واستمرت معهم تلك الحالة يومهم ذلك، وربما زادت مدة التكدر.

ولو كان سماحة الشيخ على مثل هذه الحال لانْهدم، ولتصدعت قناته، وفترت همته.

ولكنه كان كالجبل تصطدم به العوادي، وتعود أدراجها، وهو ثابت لا يتزحزح.

يقول الشيخ محمد الموسى _ حفظه الله _: =ولهذا نعجب منه أشد العجب؛ ففي كثير من الأحيان تأتيه قضايا، وتعرض عليه مشكلات تشيب لهولها نواصي الولدان، ويحضر اجتماعات على أعلى المستويات، وتجتمع لديه أعمال كالجبال، فنقول: حُطِم سماحته، ولن يقوم بقية يومه بشيء من العمل؛ فما يروعنا إلا أنه إذا خرج من اجتماع، أو استمع إلى قضايا، أو مشكلات، ثم اتخذ ما يراه حيالها_أقبل على عمله الجديد بهمة ونشاط سواء كان صغيراً أو كبيراً، فربما قدم إليه ضيف فسامره ولاطفه، وربما قال: أعطونا الكتاب الفلاني؛ فنشرع بقراءته، وربما قال: اتصلوا بفلان، أو ابحثوا عن المسألة الفلانية.

وإذا كان لديه موعد ذهب إليه، وإن كانت عنده محاضرة ذهب لإلقائها، مع أننا نتوقع أحياناً أن ذهنه قد تَشَوَّش، وأن نفسه قد تكدرت عليه، ولكننا نفاجأ بخلاف ذلك تماماً+.

سابعاً: طريقة سماحة الشيخ في التحية وردها: كان × معظماً للسنة، مطبقاً لها في شتى أحواله، _ كما مر _.

ومن مظاهر ذلك محافظته على تحية الإسلام على وَفْق ما جاء في السنة في هذا الشأن، فكان × يبدأ بالسلام على من لقيه، وكان يسلم إذا دخل مجلساً، ويسلم إذا قام من المجلس.

وكان يسلم في بداية مكاتباته ونهايتها؛ فكان يقول بعد المقدمة أما بعد فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، أو سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ويقول في النهاية: والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وكان يرد السلام على المسلِّم في المكاتبات وغيرها بمثل ما حُيِّي به أو أحسن.

يقول الشيخ محمد الموسى _ حفظه الله _: =وكنت ألحظ عليه أنه يرد السلام على كل من سلم سواء قصده بعينه، أو سلم على جماعة وهو من بينهم، حتى إن بعض الذين يقومون بمسألة الناس في المساجد يبدأ كلامه بالسلام، فألحظ كثيراً أنه لا يرد عليه إلا سماحة الشيخ×.

وإذا أركبت سماحته في السيارة ثم ذهبت إلى باب السيارة الآخر كان يسألني: هل سلمت؟ فهو يرى السلام إذا حال بين الاثنين حائل.

وكان بعد تحية الإسلام يزيد في الحفاوة والسؤال، وحسن الاستقبال.

وكان إذا سمع متحدثاً في الإذاعة يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ رد عليه بقوله: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته+.

ثامناً: سماحة الشيخ ورياضة المشي: كان سماحة الشيخ يحب رياضة المشي، وكان كثيراً ما يمشي خصوصاً قبل إصابة قدمه في شهر شعبان عام 1414هـ.

فكان × يمشي من بيته إلى المسجد ولو بعدت المسافة.

ولما كان في المدينة كان بيته يبعد عن الحرم مسافة تزيد على الكيلو متر، وكان يسير إلى المسجد على قدميه إلا إذا خاف فوات الوقت.

وفي الرياض بعد ما جاء من المدينة في نهاية 1395هـ صار إماماً للجامع الكبير في الرياض قُرْبَ قصر الحكم، وسكن في بيت سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم× وكان يمشي من بيته إلى المسجد مع أن المسافة كانت كيلو متر تقريباً.

ولما سكن بيته الذي يقع في حي البديعة في الرياض كان يسير من بيته إلى المسجد الذي يقع غربي بيته على قدميه.

وفي مكة المكرمة كان يمشي من بيته الذي يقع في العزيزية إلى المسجد الذي يقع في الجهة الشرقية في أغلب الأحيان.

ويقول × إنني رتبت وقتاً للمشي مدة تترواح ما بين ربع ساعة إلى نصف ساعة كل يوم، وذلك قبل النوم، وفي الصباح بعد المجيء من الدرس، وبعد القيام من مكتب البيت في الصباح؛ حيث كان سماحته يمشي في الغرفة، أو بين البيوت.

=تعامل سماحة الشيخ مع الناس+

يتعامل سماحة الشيخ × مع الناس كل بحسبه؛ فيتعامل معهم بالحسنى، وبالعفو، وبإنزالهم منازلهم، وإعطاء كل ذي حقٍّ حقه.

وفيما يلي ذكر لشيء من ذلك:

أولاً: سماحة الشيخ مع أرحامه: كان سماحة الشيخ × حريصاً كل الحرص على صلة أرحامه مهما تكاثرت مشاغله، ومع أنهم لا يلومونه لو لم يصلهم؛ لقيامه بمصالح المسلمين، وبالمسؤوليات الجسام، ولأن له الحقَّ أن يوصل.

ومع ذلك كان يبادرهم بالاتصال المستمر، والسؤال عن أحوالهم وأولادهم، وجيرانهم

فعلى سبيل المثال: إذا كان سماحته في مكة أو الطائف، كان يأتي من العمل في الساعة الثانية والنصف ظهراً، أو بعد هذا الوقت منهكاً مكدوداً؛ إذ هو قد قام من قبل صلاة الفجر بساعة تقريباً، وبعد الصلاة يكون له دروس، ثم يذهب للعمل، ويقوم بأعمال عظيمة؛ فإذا جاء من العمل وإذا بالناس يَلْتَفُّون حوله ما بين مسلِّم، ومستفت وغير ذلك كما هي العادة في المجلس.

وفور وصوله المجلس، وسلامه على الحاضرين، وبعد أخذه مكانه، والتقاطه أنفاسه _ يأخذ سماعة الهاتف ويقول لمن عنده من الموظفين: اتصل على أخي محمد _ وأخوه محمد هذا أكبر منه بست سنوات وسمعه ضعيف _ فيتصل سماحته بأخيه، وأخوه لا يسمع منه إلا كلمة من بين عدة كلمات.

ومع ذلك فإن سماحة الشيخ يصابر أخاه، ويسأله عن حاله، وأولاده، وصحته، بل ويسأله عن جيرانه، ويقول: ما حال فلان وفلان من جيرانك، ثم يدعو له، ويقول: من عندنا فلان، وفلان ويعدد من قرابته، والموظفين حوله يسلمون عليك.

ثم ينتقل إلى بيت زوجته أم عبدالله ويسأل عنهم واحداً واحداً، ثم ينتقل إلى بيت أم أحمد ويسلم على من عندهم من البنين والبنات، ثم يتصل بابنه عبدالله، ثم ابنته الكبيرة حتى يتصل بهم جميعاً، أو ربما قال اتصلنا بكم البارحة ولم نجدكم، والناس حوله ملتفون، وهو منشرح الصدر، رضيُّ البال!!

كما كان × محباً لبقية أقاربه، حريصاً على نفعهم واستضافتهم.

ومن عظيم صلته لأرحامه أنه كان يخصص مبلغاً من المال يزيد على مائة وستين ألفاً، فيوزعه في نهاية شهر رمضان، وذلك في عيد الفطر على زوجتيه، وأولاده، وبناته، وأولاد أولاده، وأولاد بناته، وأزواج بناته، وأخيه، وأولاد أخيه، وبعض أقاربه.

وهذا المبلغ يقتطعه من ماله الخاص.

كما أنه × اشترى بيتاً لأخيه محمد، ورتب له راتباً شهرياً، واشترى بيوتاً لبعض أقاربه، وذلك من ماله الخاص.

ومن عنايته بصلة أرحامه أنه يدعو جميع أسرته، وهم يبلغون المئات؛ لتناول طعام الإفطار معه في شهر رمضان مرة واحدة كل سنة.

ثانياً: تعامل سماحة الشيخ مع زوجاته: لسماحة الشيخ × زوجتان: أم عبدالله، وله منها ابنان وثلاث بنات، وأم أحمد، وله منها ابنان وثلاث بنات.

وأم عبدالله هي الأولى، وقد تزوج قبلها إلا أن زوجته التي قبلها لم تستمر معه.

وأم أحمد هي الأخيرة، وقد مات عنهما×.

وكان × يلزم العدل ويتحراه في تعامله مع زوجتيه، وكان براً بهما، رحيماً، عطوفاً، حريصاً على القيام بحقهما.

وكان يتصل بهن يومياً إذا كان في مكة أو الطائف إن لم يكن معه أحد منهن _كما مر_ في الحديث عن صلته بأرحامه، وكان يتلطف في الكلام معهن، وربما أخبرهن بما فعل يومه ذلك، فربما قال: اجتمعنا اليوم في الرابطة، وغداً_إن شاء الله_سنذهب إلى كذا وكذا ونحو ذلك.

وكان × محباً لأسرتيه، رفيقاً بهما، بعيداً عن الزجر، وكثرة العتاب.

يقول الشيخ محمد الموسى _ حفظه الله _: =وأذكر في يوم من الأيام أنه كان يريد السفر في الطائرة، وتأخرت إحدى أسرتيه التي ستسافر معه في تلك الرحلة أكثر من ساعة، وتأخرت بسبب ذلك الطائرة التي تُقِلُّه.

ومع ذلك لم يَبْدُ على سماحته أي تضجر أو سآمة، بل كنا نقرأ عليه المعاملات دون انقطاع، وكلما مضى عشر دقائق أو ربع ساعة سأل: هل جاؤوا، فإن قيل له: لا، واصَلَ الاستماع.

ولما وصلوا لم يُبْدِ أيَّ تضجر، ولم تبدر منه أيُّ كلمة؛ لأنه يلتمس لهم المعاذير، ويعلم أنهم لم يتأخروا إلا لعارض.

وكان × كثير الوصاية بالأهل، كثير التحذير من الجفاء معهم، والتقصير في حقوقهم.

ومن الطرائف في ذلك أنني كنت مع سماحته في الطائف عام 1418هـ، وكنت في مجلسه المعتاد عن يساره، أقرأ عليه بعض المعاملات، وكنت_على العادة_أرد على المكالمات، وإذا طلبوا سماحته ناولته سماعة الهاتف.

وفي يوم من الأيام رن الهاتف فأخذ سماحته السماعة على غير العادة، وإذا هم أهلي يطلبونني، فناولني سماحته السماعة، وأخذ ينتظرني حتى أفرغ من المكالمة.

وكنت حريصاً على الاختصار؛ لأن وقت سماحة الشيخ لا يسمح بالإطالة، والمجلس مليء بالحاضرين، وأهلي يعلمون ذلك.

والذي حصل أن أهلي سألوني: هل ستتغدى معنا هذا اليوم ؟ فقلت: لا.

وبذلك انتهى الغرض، ووضعت سماعة الهاتف.

فقال لي سماحة الشيخ: انتهيت من المكالمة ؟ قلت: نعم.

فقال ×: ما هذا الجفاء ؟ أهكذا تكلمون أهليكم ؟ أسأل الله العافية.

فقلت: يا سماحة الشيخ ! المقصود قد انتهى، ولا أريد الإطالة؛ فالوقت لا يسمح.

فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، خيركم خيركم لأهله.

ثالثاً: تعامل سماحة الشيخ مع أولاده: لسماحة الشيخ × عشرة من الولد، أربعة أولاد، وست بنات.

وأكبر أولاده عبدالله ثم عبدالرحمن وهما يعملان بأعمال خاصة بهما

ثم أحمد وهو معيد في كلية الشريعة، ثم خالد وهو لا يزال طالباً.

وكما أن سماحة الشيخ إمام في زهده، وورعه، وعلمه، وكرمه، وأخلاقه، وحلمه، وشجاعته، ونصحه_فهو كذلك إمام في تعامله مع أبنائه؛ فهو× يعاملهم معاملة الوالد الرحيم، والمربي الشفيق الكبير؛ حيث كان يحنو عليهم، ويحترمهم، ويقدرهم، ويدعو كثيراً لهم، ويعدل فيما بينهم، ويستجيب لدعوتهم.

ومن تقديره لهم وإكباره بواجبهم أنه إذا قدم كل سنة من الطائف إلى الرياض_كان غداؤه أول يوم عند ابنه الأكبر عبدالله، وفي اليوم الثاني يكون غداؤه عند ابنه عبدالرحمن، وفي اليوم الثالث يكون غداؤه عند ابنه أحمد.

وإذا انتهى من الغداء عند واحد منهم دعا له، وقال: أنعم الله عليكم، وأكرمكم الله، وكأن الواحد منهم واحد من أصدقائه، لا من أبنائه.

ومن عدله بين أولاده وزوجاته أنه جعل لكلٍّ من أولاده وزوجاته حساباً خاصاً؛ فمن احتاج منهم مبلغاً خلاف المصاريف واللوازم الضرورية، وما يحتاجه البيت قيَّد ذلك في حساب المحتاج على سبيل القرض، وكذا لو أن أحداً من أولاده احتاج إلى سيارة، أو غيرها دفع المبلغ، وقيَّد ذلك في حسابه الخاص.

ومما يدل على عنايته بهم أنه يخصهم بوقت يسمع منهم ويسمعون منه، ويسألونه عما أشكل عليهم، وقد خصص لأبنائه وبناته وزوجتيه وقتاً معيناً كذلك.

وإليك هذه الكلمة الأبوية الحانية التي وجهها إليهم بتاريخ 5/6/1415هـ:

بسم الله الرحمن الرحيم

حضرة أبنائي وبناتي وفقهم الله لما يرضيه آمين

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد

فقد رأيت أن تكون ليلة الأربعاء من الأسبوع الثاني والأسبوع الرابع من كل شهر وقت اجتماع بكم أيها الأبناء؛ لقراءة ما تيسر من القرآن والمذاكرة في بعض الأمور الدينية وغير ذلك مما تدعو الحاجة إليه بعد صلاة العشاء في محل البركة.

أما مساء الأربعاء ليلة الخميس من الأسبوع الثاني، ومساء الأربعاء من الأسبوع الرابع ليلة الخميس فللبنات؛ لقراءة ما تيسر من القرآن، مع المذاكرة في بعض الأمور الدينية، وما تدعو الحاجة إليه؛ فأرجو اعتماد ذلك.

وفق الله الجميع لما يرضيه، وجعلنا وإياكم وسائر إخواننا من عباده الصالحين، وحزبه المفلحين؛ إنه سميع قريب.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

عبدالعزيزبن عبدالله بن باز

رابعاً: سماحة الشيخ مع جيرانه: كان سماحة الشيخ محباً لجيرانه، كثير التفقد لهم، كثير السؤال عنهم، وكان يفرح بهم إذا قدموا إليه، وكان يقول: ادعوهم، لعلهم يستحيون من المجيء إلينا.

ومن صور وفائه لجيرانه أنه كان يحرص كل الحرص على توديعهم في المسجد إذا أراد السفر؛ حيث يودعهم في آخر صلاة يصليها معهم في المسجد، ويوصيهم بتقوى الله سواء كانوا جيرانه في الرياض، أو الطائف، أو مكة.

بل ربما ودع ثلاثة مساجد قبل أن يسافر، ففي الرياض_مثلاً_يودع جماعة مسجده القريب، وجماعة المسجد الجامع القريب جامع سارة، ومسجد الرئاسة.

وفي مكة يودع جماعة مسجده، والمسجد القطري، ومسجد التوعية.

خامساً: تعامل سماحة الشيخ مع من يعملون معه أو تحت رئاسته: سماحة الشيخ× يتعامل مع من يعملون معه أو تحت رئاسته بكل مودة، واحترام، وتقدير، سواء كان ذلك من الكتاب، أو الموظفين، أو الخدم، أو السائقين، أو مسؤولي القهوة والشاي وإعداد الطعام، أو غير ذلك.

فلم يكن سماحته يكهرهم، أو ينهرهم، أو يعنفهم، أو يحملهم مالا يطيقون.

بل كان حريصاً على نفعهم، وتفقد أحوالهم، وإدخال السرور عليهم، فإذا جلس إليه أحد العاملين لديه لاطفه بالكلام، وسأله عن أهله، وأولاده إن كان له أولاد، وإن لم يكن متزوجاً أوصاه بالمبادرة إلى الزواج، وربما قال له: تزوج، ونحن نساعدك إذا كنت محتاجاً.

وإذا أتاه أحد منهم بقهوة أو ماء، أو طيب دعا له وشكره.

وإذا قابل الطباخ أثنى عليه، ودعا له، وشكره على إجادة الطهي.

وإذا لم يَرُقْه الطعام لم يَعِبْه، بل قصارى ما يقول: إنهم لم يحسنوا صنعته هذا اليوم.

حتى إن السائق إذا تأخر عن موعده المعتاد جلس سماحة الشيخ ينتظره حتى يأتي دون أن ترى على سماحته تضجراً أو تبرماً.

فإذا أتى السائق ولو متأخراً ركب معه دون أن يتلفظ بكلمة سب أو عتاب، واذ لم يأتِ ركب مع أي أحد؛ ليوصله مراده.

وكان × حريصاً على اتحافهم بالهدايا والأعطيات، وعلى الشفاعة لهم في الترقيات.

وكان × يُنْزِل من تحته منازلهم، ويحرص على العدل بينهم، وإعطاء كل واحد منهم حقَّه.

ومن الأمثلة على ذلك أنه يحترم وقت كل موظف من موظفيه، فلا يُدْخل أحداً منهم في وقت أحد آخر إلا بإذن الذي خصص له ذلك الوقت.

ولو حصل شيء من ذلك عوض الذي أخذ وقته وقتاً آخر، أو وعده بأن يعطيه وقتاً كافياً.

وإذا كان يقرأ عليه أكثر من واحد من الموظفين لزم العدل بينهم؛ بحيث يستمع من هذا معاملة ومن الآخر معاملة، أو يقول: لكل واحد منكم ربع ساعة أو ثلث ساعة، وإذا انتهوا بدأ بهم مرة ثانية وهكذا.

وإذا كانوا معه في الطائرة أو السيارة سار بهم على هذا المنوال.

ومع هذه السماحة العظيمة فإن من يعملون تحت يده يحبونه حباً جماً، ويهابونه هيبة وافرة، ويُجِلّونه إجلالاً عظيماً، ويتفانون في خدمته، ويحرصون على إدخال السرور عليه.

بل إنهم يعملون عملاً مضاعفاً زائداً على العمل الرسمي المقرر لهم.

بل لا تطيب نفوس أكثرهم بمغادرة منزله حتى يدخل داخل البيت للنوم أو الراحة.

سادساً: سماحة الشيخ والفقراء: كان سماحة الشيخ × محباً للفقراء، عطوفاً عليهم، متواضعاً لهم، حريصاً على مؤاكلتهم، متفقداً لأحوالهم، صبوراً على ما يلقاه من إلحاحهم، وكثرة حاجاتهم.

ولم يكن يرضى بأن يهانوا في حضرته، ولم يكن _ كذلك _ يقبل كلاماً أو اقتراحاً يتضمن إقصاءهم أو إبعادهم من مجلسه ومائدته.

وهذا الأمر معروف عن سماحته، ومستفيض عند القاصي والداني، ولا تخلو مائدته ومجالسه من الفقراء والمساكين أبداً.

بل لقد كان كثير السؤال عنهم، وكانوا يزدحمون على مائدته رغبة في تناول الطعام معه، وكان يدنيهم، ويسأل _ دائماً _ عسى ما نقص عليهم شيء؟

يقول الشيخ محمد الموسى: =وكان يقول: لا تردوهم، وكنا نردهم أحياناً؛ لأن بعضهم يجلس على الطعام قبل أن يكتمل تجهيزه، فإذا اكتمل فتحنا لهم الباب، ومع ذلك كان يقول: لا تردوهم، ارحموهم، وكان × لا يرد سائلاً، ولا يحتقر ما يقدمه للناس مهما كان+.

وأخباره في هذا الباب لا يمكن حصرها، وفي كتاب الجوانب ذكر لشيء منها.

سابعاً: سماحة الشيخ مع أهل العلم: لأهل العلم السابقين، والمعاصرين منزلة خاصة عند سماحة الشيخ؛ إذ كان × يحبهم، ويقدرهم حق قدرهم، وينزلهم منازلهم اللائقة بهم.

ومما يمكن ذكره في طريقة سماحته مع العلماء، ما يلي:

1_ كثرة ترحمه على العلماء: فكان سماحته لا يكاد يذكر أحداً من علماء السلف، أو يذكرهم أحد عنده إلا ترحم عليهم، ودعا لهم سواء العلماء السابقين كالصحابة، والتابعين، أو من جاء بعدهم.

2_ حبه لقراءة سيرهم، وتأثره بذلك: فكان كثيراً ما يبكي إذا قرئ عليه شيء من سير العلماء، وما لاقوه في سبيل العلم، وما قاموا به من الدعوة والجهاد.

3_ إجلاله لمشايخه وتأدبه معهم: فكان مُجِلاً لمشايخه، معترفاً بفضلهم، كثير الذكر والدعاء لهم؛ فكان كثيراً ما يترحم على شيخه العلامة سعد بن عتيق، وشيخه صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ قاضي الرياض في وقته، وشيخه حمد ابن فارس وغيرهم _ رحمهم الله _.

أما أقرب مشايخه إلى قلبه، وأعظمهم أثراً في نفسه فهو سماحة الشيخ الإمام العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية في وقته ×.

فقد كان سماحة الشيخ يجل هذا الإمام، ويقدره قدره، ولا يستطيع الحديث كثيراً عنه؛ إذ يغلبه البكاء إذا أراد ذلك.

وكان يقول عنه: ما رأت عيناي قبل أن أعمى، ولا سمعت أذناي بعد أن عميت مثله، وكان له فضل كبير عليَّ.

وكان × يتأدب مع شيخه محمد غاية الأدب، وإذا أراد مكاتبته في أي شأن من الشؤون تلطف معه، وتأدب في خطابه، وعرض له الموضوع بغاية التأدب، وختمه بالدعاء له.

وكان يتعاون مع سماحة الشيخ محمد في المناصحات، والقضاء على المنكرات.

4_ كثرة استشارته لأهل العلم: حيث كان × كثير المشاورة لأهل العلم، كثير الأخذ والاعتداد بآرائهم، وخصوصاً أعضاء هيئة كبار العلماء، وأعضاء اللجنة الدائمة.

5_ كثرة استضافته لأهل العلم: فقل أن يمر يوم أو أقل من يوم إلا ويأتيه الوفود تلو الوفود من أهل العلم من شتى الأماكن.

6_ حفاوته بأهل العلم: حيث كان × عظيم الحفاوة بأهل العلم، عظيم الفرح بمقدمهم؛ فإذا قدم _ على سبيل المثال _ سماحة الشيخ العلامة محمد ابن صالح العثيمين × إلى الرياض أو الطائف استضافه سماحة الشيخ عبدالعزيز، وفرح به؛ إذ إن الشيخ محمد ممن لهم منزلة وحظوة عند سماحة الشيخ.

فإذا استضاف الشيخ محمداً على الغداء اتصل بمكتب البيت، وقال: سيأتينا اليوم الشيخ محمد، ويأمر بزيادة الغداء، ثم يأتي من العمل إلى المنزل قبل مجيء الشيخ محمد بوقت كافٍ، حتى يكون في استقباله إذا وصل منزل سماحته؛ فإذا وصل الشيخ محمد فرح سماحته به، وحياه، وتجاذب معه أطراف الحديث.

7_ كثرة السؤال عن أهل العلم: فكان × كثير السؤال عنهم، والاتصال بهم؛ فإذا جاءه _على سبيل المثال_ أحد من الأردن سأله عن الشيخ الألباني× وإذا جاء أحد من أهل المدينة سألهم عن الشيخ عبدالمحسن العباد، أو الشيخ حماد الأنصاري، أو الشيخ عمر فلاته_رحمهما الله_وغيرهم من أهل العلم في المدينة.

وإذا قدم عليه أحد من أي بلد سأله عن أهل العلم الذين يعرفهم سماحته، أو يسأله عن أهل العلم الموجودين عندهم.

وكذلك الحال بالنسبة لمن يأتون من خارج البلاد؛ حيث يسأل عن أهل العلم، ويوصي بنقل السلام إليهم، وربما حمَّل من يأتيه رسالة إليهم، وربما سألهم: من عندكم من أهل العلم، وما نشاطهم في العلم والدعوة ؟

وكان يأخذ عنواناتهم، ويراسلهم، ويوصيهم بالعناية بالدعوة إلى الله، ويقول: نحن مستعدون للتعاون معكم بما يخدم الدعوة.

8_ حرصه على الاستماع لأهل العلم، والقراءة لهم، وتشجيعهم: فكان كثيراً ما يستمع إلى إذاعة القرآن الكريم، وبرنامج نور على الدرب _ على وجه الخصوص _ وكان يعرف أيام كل عالم من العلماء في ذلك البرنامج، فكان يقول: هذه ليلة الشيخ صالح بن غصون، وهذه ليلة الشيخ عبدالله بن غديان، وهذه ليلة الشيخ محمد بن عثيمين، وهذه ليلة الشيخ صالح اللحيدان، وهذه ليلة الشيخ صالح الفوزان، وهذه ليلة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله.

وكان يُسَرُّ بنشرهم للعلم، ويفرح بفتاواهم المسددة.

وكان يستمع لبعض المحاضرات عبر الأشرطة، وكان يعلق كل أسبوع على محاضرات الجامع.

وكان إذا لاحظ ملحوظة على أحد من أهل العلم أبداها له بكل لطف وأدب.

وكان يعلق على كثير مما يقرأ عليه، وكان يعجب كثيراً من أساليب صاحب المعالي العلامة الشيخ الدكتور بكر أبو زيد، وكان يقول متعجباً: من أين يأتي الشيخ بكر بهذه الأساليب، والتراكيب ؟!

وإذا طلب منه قراءة كتاب، أو تقديمه قرأه، وربما قدم له، وإن كان هناك من ملحوظات أبداها، وربما قرأ الكتاب ولم يبد أي ملحوظة.

وإذا زاره أحد من أهل العلم ممن لهم باع في الكتابة والتأليف شكره على ما كتب، وأثنى على ما قرأه من ذلك، وسأله عما يكتب، وعما ينوي الكتابة عنه، وشجعه على مزيد من الكتابة.

وربما طلب هو بعض الكتب لبعض المعاصرين لقراءتها إذا دعت الحاجة لذلك.

9_ الذب عن أهل العلم، وإحسان الظن بهم: فكان يحسن الظن بأهل العلم كثيراً، ويحمل كلامهم على أحسن المحامل، ولا يرضى أن يُنالوا بأي سوء أو مكروه، وكان يدافع عنهم، ويحفظ أعراضهم، ولا يصدق ما يقال فيهم من سوء حتى يقف على حقيقة الأمر.

وإذا جاءه أحد من الناس، وقال: إن الشيخ فلان بن فلان قد قال: كذا وكذا مما لا يليق _ نهره سماحة الشيخ، وقال: هو أوثق عندنا منك، أفنصدقك ونكذب الشيخ فلاناً ؟ ونحو ذلك.

وإذا تثبَّت من صحة ما يقال عن فلان من أهل العلم من أنه أخطأ في أمر ما _ أرسل إليه نصيحة، أو هاتفه، أو طلب حضوره، وبعد ذلك يبدي له وجه الخطأ، ويورد الأدلة على ما قال بأسلوب يفيض بالرحمة، والنصح؛ فما يكون من ذلك الشخص إلا أن يقبل كلام سماحته، ويدعو له.

10_ الحرص على جمع كلمة أهل العلم: فكثيراً ما يبذل جاهه، وشفاعته، وعلمه، في سبيل جمع كلمة أهل العلم، ورأْب ما يكون بينهم من صدع، وتضييق ما يحصل بينهم من خلاف؛ فكم جمع الله به من كلمة، وكم رأب به صدع.

وكان كثيراً ما يقول لبعض العلماء: لا نود أن نختلف في أي مسألة، ونود أن تكون كلمتنا وفتوانا واحدة.

ولكنه إذا خُولِف في أي مسألة اتسع صدره كثيراً للمخالف.

11_ الوفاء لأهل العلم: فهو كثير السؤال عنهم، والزيارة لهم، واستضافتهم، وتشييع جنائزهم _ كما مر _.

ومن صور وفائه لهم أنه كان يجري لبعضهم المخصصات، ويشفع لهم إذا احتاجوا.

ومن صور وفائه أنه كان يعتني بأهليهم من بعدهم، فإذا توفي أحد من أهل العلم سأل سماحته عن أهله، فإن كانوا محتاجين أمدهم، وربما خصص لهم مرتباً يجري عليهم.

وكان وفياً لزملائه من أهل العلم _ على وجه الخصوص _.

12_ الفرح بالطلاب: فلقد كان سماحته يفرح كثيراً إذا قدم عليه أحد من طلابه سواء القدامى، أو المتأخرين سواء كانوا من الداخل أو الخارج.

ثامناً: منهج سماحة الشيخ في التعامل مع ولاة الأمور: يتعامل سماحة الشيخ مع ولاة الأمور على وفق ما جاء في الشرع المطهر، ويمكن أن يلخص ذلك في الأمور التالية:

1_ كان سماحة الشيخ يدين لولاة الأمور بالسمع والطاعة في المنشط والمكره.

2_ وكان يدين لهم بالنصيحة، ويتعاون معهم على البر والتقوى.

3_ وكان يبين لهم الحق، ويرغبهم فيه، ويبين لهم الباطل، ويحذرهم من طرقه.

4_ وكان حريصاً على جمع الكلمة، وتحبيب الرعاة بالرعية، والرعية بالرعاة.

5_ وكان كثير المكاتبة للولاة في شتى المجالات التي يرجى من ورائها جلب النفع، أو دفع الضر.

6_ وكان كثير البذل لشفاعته عند الولاة في سائر أنواع الشفاعات.

7_ وكان كثير الدعاء لهم بصلاح النية، والبطانة، والقول، والعمل.

8_ ولم يكن يتشوف إلى ما عند الولاة، أو يطمع بما لديهم من الجاه، أو المال، أو المنصب.

9_ وكان يقول: ربما نختلف مع ولاة الأمور في بعض الأمور، وربما يشتد النقاش، ولكننا نصطلح معهم، ويزول ما في النفوس؛ لأن الهدف هو النصح لهم وللمسلمين.

10_ وكان يقول: الواجب علينا بيان ما نراه لهم، والاستمرار في بذل النصح دون توقف حتى الموت، وموقفنا في ذلك لا يتغير؛ فهذا الذي في وسعنا واستطاعتنا.

11_ كان يتأدب معهم، وينزلهم منازلهم، ويحسن مخاطبتهم ومكاتبتهم.

12_ كان كثير الشكر للولاة إذا صدر منهم قرار صائب، أو مبادرة طيبة أو نحو ذلك.

13_ كان يقوم بكل عمل يسنده إليه ولاة الأمور على أتم وجه وأكمله.

14_ كان كثيراً ما يزور الولاة؛ لنصحهم، أو زيارتهم في حال المرض، أو الوصول، أو نحو ذلك.

15_ وكان كثير المبادرة في تهنئة الولاة بسلامة الوصول، أو بالشفاء من المرض، أو بمناسبة حلول شهر رمضان، أو انقضائه، أو حلول العيد أو نحو ذلك، فكان يهاتفهم، أو يكاتبهم، أو يزورهم.

تاسعاً: منهج سماحة الشيخ مع المخالفين: لسماحة الشيخ × منهج متميز مع المخالفين، ينطلق فيه من نصوص الشرع المطهر، الآمرة بالصفح، وأخذ العفو، ودفع السيئة بالحسنة، ومقابلة الإساءة بالإحسان، والبعد عن كل ما ينافي العدل والإنصاف وشرف الخصومة.

فكان من منهج سماحة الشيخ مع المخالفين له أنه لا يُحَمِّل كلامهم ما لا يحتمل، ولا يَتَقوَّل عليهم ما لم يقولوه، ولم يكن يذكرهم بسوء، أو تجريح.

بل لقد كان يحترمهم، ويقدرهم، ويتناسى أخطاءهم في حقه، ويقبل عذر المعتذر إليه منهم، خصوصاً من لهم سابقة، وفضل.

وإذا زاره أحد من مخالفيه أظهر له الفرح، والتسامح، ومزيد العناية، وأظهر له المحبة، والحفاوة على سبيل دعوته، وتطييب قلبه.

وإذا دعاه ذلك المخالف إلى مناسبة أو وليمة وافق سماحته، وأجاب الدعوة بلا تردد؛ ليزيل ما في نفس الداعي.

وإذا بلغه أن أحداً من المخالفين رماه بسوء، أو ذكره بذم لم يزد على أن يقول: سامحه الله، سامحه الله.

وإذا مرض ذلك المخالف زاره سماحته، أو اتصل به عبر الهاتف؛ ليواسيه، ويدعو له.

وإذا مات قريب لذلك المخالف عزَّاه، وزاره في منزله.

وإذا مات المخالف له دعا له، وزار أهله، وعزاهم، وأوصى من يوصل العزاء إلى زوجته إن كانت على قيد الحياة.

وإذا خالفه بعض الناس، وعاتبه في أمر ما_بيَّن للمخالف موقفه، وتَقَبَّل العتاب بصدر رحب.

هذه بعض أخلاقه مع مخالفيه، [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] فصلت: 35.

لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب

                   ولا ينال العلا من طبعه الغضب

فكم وأد بذلك النهج السديد من عداوة، وكم استمال من قلب، وكم أطفأ من نار حقد.

عاشراً: تعامل سماحة الشيخ مع التجار والمحسنين: سماحة الشيخ لا يغفل أحداً من طبقات المجتمع، بل تراه يعطي كل أحد حقه، وينزله منزلته اللائقة به.

ولا ريب أن للتجار والمحسنين مكانة ووجاهة، وأنهم سبب لقيام المشروعات الخيرية النافعة.

وسماحة الشيخ يتعامل مع هذه الطبقة بالحسنى، ويتعاون معهم على البر والتقوى، ولا يريد من ذلك مصلحة شخصية، بل يريد من وراء ذلك نفع المسلمين، والإحسان إلى التجار والمحسنين، وذلك بدلالتهم على الخير، وحثهم وحضهم عليه، ولهذا ترى سماحته كثير الاتصال بهؤلاء، كثير الاستضافة لهم، كثير التعاون والتواصي معهم على الحق والصبر.

كما أنه × يعينهم على أنفسهم، ويذكرهم بفضل الإنفاق في وجوه الخير، ويكثر من شكرهم والدعاء لهم إذا قاموا بعمل نافع.

وفي المقابل فإن التجار والمحسنين يحبون سماحته، ويكنون له التقدير والمحبة والإجلال، كما أنهم يثقون به، ويصغون لنصحه وآرائه، ويستجيبون لنداءاته في البذل والإنفاق.

ثم إن سماحته تارة يدعوهم للإنفاق على سبيل العموم، وتارة يدعوهم على وجه الخصوص، وتارة يدعوهم لدعم المجاهدين، وتارة يدعوهم لطباعة الكتب، وتارة يدعوهم للمساهمة لجميعات تحفيظ القرآن، وتارة يدعوهم لسداد ديون الفقراء، وتارة يدعوهم لدعم جميعات البر، وتارة يدعوهم لدعم الهيئات والمؤسسات الخيرية في الداخل والخارج وهكذا

وإذا دعاهم هبوا _ في الغالب _ لإجابة ندائه؛ لما في نفوسهم من الخير، ولثقتهم بسماحة الشيخ، ولعلمهم بأنه سيضع الشيء في موضعه، ولعلمهم بدقته، وتحريه، ونظامه.

لقد كان هذا دأب سماحته من قديم إلى أن توفاه الله.

=العلم والدعوة والتربية في سيرة سماحة الشيخ+

حياة سماحة الشيخ × حافلة بالعلم، والدعوة إليه، وتربية الناس عليه.

سواء كان ذلك مباشراً، أو اقتداءاً بأفعاله وسيرته.

ولو استرسل الحديث في ذلك لما كفاه مجلدات، والمقام لا يسمح بذلك، وفيما يلي ذكر لبعض المعالم في ذلك السياق:

أولاً: تفنن سماحة الشيخ في العلوم: لقد جمع الله لسماحة الشيخ علوماً شتى؛ حتى إنك إذا رأيته يتكلم عن علم من العلوم ظننت أنه تخصصه، وأنه لا يحسن غيره.

فسماحته إمام في الحديث، وعلومه، ومعرفة رجاله، وأحوال رواته، ومعرفة الصحيح من الضعيف، والموضوع، وسترى طرفاً وعجباً من ذلك عند الحديث عن ذاكرة سماحة الشيخ.

وسماحته فقيه من الطراز الأول، ويتجلى فقهه في فتاواه ورسائله الكثيرة.

وإذا ناقش، أو نوقش، أو تكلم أو سئل عن شيء يتعلق بالعقيدة ظن السامع أن سماحته لا يحسن إلا هذا الفن.

وإذا تكلم على تفسير بعض الآيات قلت: هذا هو فنه؛ ففي بعض الأحيان إذا صلى سماحته الفجر، وقرأ بعض الآيات بالمصلين لما كان إماماً، أو سمعها من الإمام لما كان مأموماً، ثم رجع إلى بيته _ طلب عدة تفاسير؛ ليقف على ما قاله المفسرون في معنى الآية أو الآيات.

وبعد ذلك تراه يرجح بعض التفاسير على بعض، وربما مال إلى معنى لا يخطر بالبال، وربما قيده على حاشية بعض التفاسير.

وهكذا علم الفرائض فهو فارس ميدانه، وإن الإنسان ليعجب من هذا الرجل الضرير حين يَحْضُر دروسه، ويرى ضَبْطَه لمسائل الفرائض، وقسمة التركات حتى لكأنه يقرؤها من كتاب.

وكذا إذا تلكم في النحو، قلت هذا عالمه، وهكذا في سائر الفنون الأخرى.

وقد مر، وسيمر في ثنايا الكتاب ما يؤكد ذلك، ويبرهن عليه.

ثانياً: تحضير سماحة الشيخ للدروس: كان سماحة الشيخ × يُحَضِّر للدروس في الغالب؛ فكان يُقرأ عليه ما يتعلق بدرس الصباح من الشروح كفتح الباري، والمجموع شرح المهذب، ونيل الأوطار، والمنتقى وغيرها من الكتب المتعلقة بالدرس الذي يلقيه بعد الفجر، وبدرس بلوغ المرام.

وربما رجع إلى تعليقاته في شروحه القديمة؛ لكي يسترجع معلوماته.

هذا بالنسبة للدروس، أما المحاضرات فلا يكاد يحضِّر لها، وإنما يسأل عن عنوانها قبيل الوصول إلى مكان المحاضرة.

ومن النادر أن يقول قبل وصوله إلى مكان المحاضرة: دعوني أتأمل قليلاً.

وإذا أُعلن عن إقامة صلاة الاستسقاء طلب بعض الكتب التي تبحث في هذا الموضوع، وكان يطلب في _ الغالب _ إحضار كتاب المقنع، فيقرأ عليه باب الاستسقاء.

وكذلك الحال بالنسبة للعيدين والكسوف؛ حيث يطلب الكتب المتعلقة بهذا الشأن.

ثالثاً: عناية سماحة الشيخ بالدعوة إلى الله: الدعوة إلى الله _ تعالى _ تجري في عروق سماحة الشيخ، فحياته، ومجالسه الخاصة والعامة، وتعامله مع الناس على اختلاف طبقاتهم، ومكاتباته، ومراسلاته، ومؤلفاته، ودروسه كل ذلك يصب في قالب الدعوة إلى الله، وتربية الناس على الدين الحق.

والصفحات الماضية والآتية شاهد على ذلك.

ولقد كان × منذ نشأته حريصاً على الدعوة إلى الله، باذلاً وقته وماله، وعلمه، وجاهه في ذلك السبيل.

وهذا الأمر يعرفه القاصي والداني، فلا يكاد أحد في عصره يدانيه في ذلك الشأن؛ فهو إمام الدعاة في عصره، وهو المرجع الأول لهم، وهو الذي يشرف على إرسال الكثير من الدعاة، وتعيينهم ومتابعتهم، وإجراء الرواتب لهم، وإمدادهم بكل ما يحتاجون إليه.

رابعاً: سماحة الشيخ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: سماحة الشيخ إمام عصره في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فهذا دأبه، ومنهج حياته؛ فلا يكاد يذكر له معروف إلا أيده، ودعا لصاحبه، ودعمه بكل ما يستطيع.

ولا يكاد يذكر له منكر صغيراً كان أم كبيراً خاصاً، أم عاماً، وسواء كان من فرد أو من جماعة إلا بادر إلى إنكاره، وتغييره بما يستطيع.

وإذا زاره أحد، أو اتصل به بشأن منكر من المنكرات لم يفلس من سماحة الشيخ ومشاركته في الإنكار، بل يجد القلب الكبير، والغيرة الصادقة، والإخلاص المنقطع النظير.

وسماحته _ كما مر _ لا يتعاظم شيئًا مما ينكره، وفي الوقت نفسه لا يحتقر شيئاً يقوم بإنكاره، فتراه ينكر المنكرات الكبيرة على مستوى الأمة.

وينكر في الوقت نفسه المنكرات التي تقع من بعض الناس كترك الصلوات، وإسبال الثياب، وحلق اللحى.

فإذا سمع بمنكر في مكان ما، أو دولة، أو صحيفة بادر إلى الإنكار.

وإذا بلغه أن شباباً يجتمعون في مكان ما في وقت الصلاة كتب إلى الجهات المختصة حول هذا الأمر.

وإذا سار بجانبه أحد، وشعر سماحته بأن ثوب ذلك الذي يسير معه طويل، أو أنه يجر عباءته _ أنكر عليه.

وإذا سمع أن الدائرة الفلانية يشيع فيها منكر معين كتب إلى المسؤولين فيها، يحثهم على تغيير ذلك المنكر.

وإذا سمع عن بدعة، أو عمل ينافي العقيدة في مكان ما _بادر إلى إنكاره، وإذا أُخْبِر أن فلاناً من الناس متلبس بمنكر معين استدعاه، ونصحه، أو هاتفه، أو راسله.

وكان من منهجه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه يتثبت، ويتحرى، ويطلب البينة.

وإذا ثبت لديه وقوع منكر من شخص أو جهة كتب إليهم، وخاطبهم مشافهة، أو استدعى من يعنيه الأمر، ثم أنكر عليه بلطف، وبيَّن له الأدلة على ما يقول، ورغَّبه في الخير، وحذره من الشر؛ فما يكاد يقوم بهذا الأمر إلا ويجد القبول، والاستجابة؛ فكم درأ الله به من مفسدة، وكم قضى الله على يديه من منكر، وكم أحيا به من سنة، وقمع به من بدعة.

وكان كثيراً ما يحث على إحياء هذه الشعيرة، ويؤكد على ضرورة التواصي بها، ويكتب الرسائل في الحث على هذا الأمر، وكان ذلك دأبه طيلة حياته.

خامساً: تربية سماحة الشيخ لطلابه: سماحة الشيخ × يربي طلابه على مكارم الأخلاق، وعلى اتباع الدليل، وعلى احترام العلماء، وتنزيلهم منازلهم.

وكان محباً لطلابه، شديد الاحتفاء بهم سواء طلابه القدامى، أو من بعدهم.

وكان × يدربهم على البحث، والنظر في الأدلة.

وإذا سئل أثناء الدرس عن مسألة، أو عن صحة حديث، أجاب على السؤال في الحال، وإذا كان يتطلب التثبت والتأكد من درجة الحديث، أو عن حكم المسألة _ كلف أحد تلاميذه بجمع كلام أهل العلم في المسألة، ثم يعرضه على سماحته.

فإذا أعد الطالب ما طلب منه قرأه على سماحة الشيخ في الدرس، فيفرح سماحته بذلك، ويدعو للطالب.

وإذا سئل عن مسألة، وليس عنده علم منها قال: لا أدري، وإذا كان عنده أحد من أهل العلم سأله عن المسألة التي لا يعلمها، ولو كان المسؤول أقل علماً من سماحته بكثير.

ومن تربيته لطلابه، أنه كان يزجرهم، وينهرهم إذا استدعى المقام ذلك؛ فمن ذلك أنه إذا سأله بعضُ الطلاب سؤالاً فيه تعنت، أو تكلف قال له الشيخ: ابحث المسألة، وارجع إلى كلام أهل العلم.

وربما غضب الشيخ على السائل _وذلك قليل_ إذا شعر أن السؤال فيه تشدد، أو اعتراض على حكم، أو تنقص لأحد من أهل العلم.

يقول الشيخ محمد الموسى _ حفظه الله _: =أذكر مرة أن أحد الطلاب سأل سماحة الشيخ عن مقادير الديات، وقال: يا شيخ الدية الآن فيها ظلم للمسلم؛ فإنها تحدد بمائة ألف، وأصلها مائة من الإبل؛ فلو أن الإبل المذكورة في دية المسلم عرضت في السوق للبيع لبلغت قيمتها أكثر من مائة ألف؛ فلو أعيد النظر في تقدير الدية.

فرد عليه سماحة الشيخ بشدة، وقال: الذي قدر الدية علماء أعرف منك، وأنت تعترض، وأنت في بداية الطريق؛ فيجب عليك أن تتأدب وتترك الكلام الذي لا يعنيك+.

ومع ذلك فإن الرفق والتحمل هو دأب الشيخ، ولكنه يتقصد تربية الطلاب حتى يكونوا على منهج سوي، وخلق فاضل.

ولهذا فإن سماحة الشيخ إذا زجر طالباً أو نهره لم يحمل في نفسه على الطالب شيئاً، وإنما ينتهي الأمر بمجرد انتهاء المجلس.

أما إذا كان السائل يريد الحق فإن سماحة الشيخ يصبر عليه، ولا يزجره، ولا ينهره، بل يتلطف به حتى ينال بغيته من سماحته.

سادساً: سماحة الشيخ والشِّعر: سماحة الشيخ عبدالعزيز × متذوق للشعر، بصيرٌ به، محبٌّ لحسنه، منتقد لبعض الأبيات التي يسمعها.

يقول الشيخ محمد الموسى _ حفظه الله _: =وأثناء قراءتي عليه في بعض الكتب كانت تمر أبيات شعر كثيرة، فكان سماحته يقف عند بعضها أحياناً، ويقول: هذا البيت وزنه كذا وكذا، وهو من بحر كذا وكذا، وأحياناً يقول: هذا البيت منكسر، وصوابه لو قال: كذا وكذا.

وكثيراً ما ينتقد بعض الأبيات من الشعر، حيث يقف عندها، ويطلب إعادة قراءتها، ويقول: كان ينبغي أن يقول كذا وكذا، أو ينبغي أن يَعْدِلَ إلى اللفظة الفلانية بدل هذه اللفظة. . وهكذا.

وسألته ذات يوم: ألم تقل شعراً يا سماحة الشيخ ؟

فقال: قلت مرة، ونسيته، ولم أقل شعراً بعد ذلك.

وكان×يردد بعض الأبيات الشعرية، وكثيراً ما أسمعه يردد قول ابن القيم في النونية:

والحق ممتحن ومنصور فلا

                   تعجب فهذي سنة الرحمن

وكذلك كان يردد بيت أحمد شوقي:

دقات قلب المرء قائلة له:

                   إن الحياة دقائق وثواني

وكان × محباً لسماع الشعر الحسن الذي يحمل المعاني السامية التي تحث على الخير، وتنهض بالهمة، وتصور أحوال المسلمين.

وأذكر في هذا الصدد أن سماحته × كان مدعواً عام 1410هـ لإلقاء محاضرة في مسجد سمو الأمير عبدالرحمن بن عبدالله بن عبدالرحمن، وبعد إلقاء المحاضرة توجه إلى منزل الأمير عبدالرحمن، حيث إن الأمير قد دعاه إلى طعام العشاء.

وكان ضمن الحاضرين في تلك المأدبة الشيخ حسن المانع×.

والشيخ حسن كان معلماً في معهد إمام الدعوة العلمي، وكان كفيفاً، وحافظاً لكثير من الشعر، وكان ذا صوت ندي شجي.

فقال الأمير عبدالرحمن لسماحة الشيخ: هذا الشيخ حسن يا سماحة الشيخ صوته جميل، ويحفظ بعض القصائد المؤثرة، فآمل أن تأذنوا له بإلقاء بعض القصائد، فقال سماحته: لا بأس، فليلقِ ما شاء، فاستحيا الشيخ حسن، وقال: لا يليق بي أن أتقدم بين يدي سماحتكم، فألح عليه سماحة الشيخ، وقال: أسمعنا ما عندك.

بعد ذلك شرع الشيخ حسن × بإلقاء قصيدة أبي البقاء الرُّندي في رثاء الأندلس والتي مطلعها:

لكل شيءٍ إذا ما تم نقصان

                   فلا يُغَرُّ بطيب العيش إنسان

فلما استمر في إلقائها، تأثر سماحة الشيخ كثيراً، وبكى بكاءاً شديداً؛ إذ إنها ذكرته بما مر على المسلمين في تلك البلاد، وذكرته بأحوال المسلمين المعاصرة في كثير من البلاد.

وكان يستشهد بالشعر في بعض كتاباته؛ حيث يضمنها بيتاً أو أبياتاً من الشعر تناسب ما هو بصدده+.

سابعاً: وصايا كان سماحة الشيخ يكثر منها: وصايا سماحة الشيخ كثيرة جداً، وتختلف باختلاف الأحوال والأشخاص.

إلا أن هناك وصايا معينة كان سماحته يوصي بها كثيراً سواء في كلماته، أو محاضراته، أو مكاتباته، أو نصائحه الشفوية للأفراد، ومن تلك الوصايا ما يلي:

1_ الوصية بتقوى الله _ سبحانه _.

2_ العناية بالقرآن الكريم حفظاً، وتدبراً، وتحاكماً، وعملاً.

3_ العناية بالسنة، والعمل بها، والوصية بحفظ ما تيسر منها.

4_ الحرص على الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على ذلك.

5_العناية بكتب العقيدة، والوصية بحفظ ما تيسر منها، كالعقيدة الواسطية، والحموية، والتدمرية وغيرها من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ×.

وككتاب التوحيد، وثلاثة الأصول، وكشف الشبهات لشيخ الإسلام محمد ابن عبدالوهاب×.

6_ الوصية بكتب الحديث كالبخاري ومسلم، وبقية كتب السنة والمسانيد، وغيرها، مع حفظ ما تيسر من كتب الحديث كعمدة الأحكام للمقدسي× وبلوغ المرام لابن حجر × والأربعين النووية للنووي مع تتمتها لابن رجب _رحمهما الله_.

7_ الوصية باجتماع الكلمة، والتحذير من التفرق والاختلاف.

=سماحة الشيخ في أيامه الأخيرة+

أولاً: بداية مرضه الأخير: يروي الشيخ محمد الموسى أيام سماحة الشيخ الأخيرة، ووفاته فيقول: =في أواخر شهر شعبان عام 1419هـ وبالتحديد في 26/8/1419هـ قال لي سماحة الشيخ: أنا منذ فترة وأنا أشعر بألم هنا، وأشار إلى ما تحت التجويف الصدري.

ويقول: لقد صبرت عليه لعله يزول، ولكنه استمر معي.

فقلت لسماحته: يا سماحة الشيخ ! مثلكم لا يُعلَّم؛ فَلَيْتَكُمْ أخذتم بالأسباب.

ومنذ ذلك اليوم بدأ يراجع المستشفى التخصصي في الرياض.

وفي شهر رمضان كان يعاني من الآلام عند الأكل والشرب، وفي بعض الأيام كان يعاني من الآلام إذا جاء وقت الإفطار، فكان لا يستطيع بلع الطعام، ويلاقي من ذلك تعباً عظيماً، ويحصل معه تقيؤ؛ فيضطر إلى الدخول إلى منزله.

وإذا أُذِّن بالعشاء خرج للصلاة وكأنه لم يصب بشيء قط؛ فيذهب إلى المسجد، ويستمع للحديث الذي يقرأ عليه، ثم يقوم بالتعليق على ما يسمع، ويجيب على أسئلة السائلين، ويؤدي صلاة العشاء، والتراويح، ثم يرجع إلى منزله، ويجلس مجلسه المعتاد، ويستقبل الناس على اختلاف طبقاتهم، وحاجاتهم، ويمضي الساعتين أو الثلاث وهو لم يأكل إلا القليل من الطعام.

وفي آخر الشهر لم يكن يتناول إلا بعض السوائل، ومع ذلك لم يتغير شيء من عادته، فعمله في النهار وبعد الفجر، وبعد المغرب، وبعد العشاء هو هو.

وبعد رمضان كان لا يتناول أي طعام، ومع ذلك لم يتغير شيء من عنايته بضيوفه؛ فكان إذا قدم من العمل في الساعة الثانية والنصف ظهراً يمر بالمجلس الذي يضم عشرات الضيوف، فيسلم عليهم، ويدعوهم إلى مكان الطعام، فإذا أخذوا أماكنهم قال لهم: تفضلوا، وسامحوني أنا عندي بعض الحمية، ويدخل بيته.

ولما علم خادم الحرمين الشريفين بما حصل لسماحته اتصل به، واطمأن عليه.

وكذلك صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز كان حريصاً على سماحة الشيخ، ولقد عرض عليه مراراً أن يسافر للخارج للعلاج، ولكن سماحته لم ينشرح صدره للسفر.

ثم إن سموه _ حفظه الله _ أمر بإحضار عدد من الأطباء من خارج المملكة للكشف على سماحته، وَوَصْفِ العلاج المناسب له، فتم اختيار اثنين من الأطباء المختصين من أمريكا، واثنين من بلجيكا ولما اجتمعوا، وفحصوا حالة الشيخ أوصوا بِكَيِّ المريء، فصار الشيخ يتردد إلى المستشفى إذا خرج من درس الفجر في الساعة السابعة والنصف فيأخذ جلسة طبية، ثم يعود إلى بيته، ثم يذهب إلى عمله في الرئاسة.

ولم يتأخر في تلك الأيام يوماً واحداً عن الدوام، واستمر على هذه الحال مدة؛ فكانت الاتصالات لا تنقطع في الداخل والخارج تسأل عن صحة سماحته، وكان كبار المسؤولين يقومون بزيارته، والسؤال عنه، وكان العلماء يتوافدون عليه، وكان سماحة المفتي الحالي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ يأتي لزيارة الشيخ عبدالعزيز بن باز × فيقوم بالنفث عليه، ويبكي تأثراً لحاله.

وأذكر أن المرض اشتد به في يوم جمعة من شهر شوال عام 1419هـ لما كان في الرياض، فكان يعاني معاناة شديدة، وقد تقيأ في ذلك اليوم، ولم يستطع الصلاة مع الناس لا الجمعة، ولا العصر، ولا المغرب، ولا العشاء؛ فرأوا نقله إلى المستشفى، فجاءه المحبون له، ومن بينهم سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ _ حفظه الله _ فقال لهم: أبشركم حالتي مستقرة، والأمر يسير، وسأذهب إلى المستشفى وسأعود بإذن الله.

ثم ذهب إلى المستشفى وهو في حال من الإعياء، والألم، والإرهاق، فعملوا له منظاراً، وأعطوه بعض المغذيات، والعلاجات، فاستقرت حالته.

ولما اتَّصَلْتُ ببعض المرافقين له، وسألتهم عن حالته، قالوا: إنه بخير، ولكنه يحب أن تُقرأ عليه المعاملات أو الكتب، فقام أحد المرافقين له بالقراءة، فقرأ قدراً لا بأس به، ثم ناموا، فلما جاء وقت التهجد قام سماحته على عادته، فصلى ما شاء الله أن يصلي إلى أن حان وقت أذان الفجر، فصلى الفجر بمن معه، ثم استقبلهم بوجهه وألقى عليهم كلمة، ثم أتى بالأذكار كاملة.

وبعد ذلك سأل الأخ صلاح _ أمين مكتبة سماحة الشيخ _: ماذا معك يا صلاح؟  قال: معي فتح الباري، وفتح المجيد.

فقال له: سمِّ الله، اقرأ، فقرأ عليه إلى حوالي السابعة والنصف.

ثم ذهبت إلى المستشفى؛ لأطمئن على سماحته في الساعة الثامنة والنصف.

فلما دخلت على سماحته _ وكنت أظنه نائماً _ وجدته جالساً على كرسي يقرأ القرآن، فسلمت عليه فرد السلام، وقال: ماذا معك؟ فقلت: معي معاملات كثيرة، ومعي الجزء الثاني عشر من فتاوى اللجنة الدائمة حيث صدر حديثاً من المطابع، فقرأت عليه معاملة طويلة تتكون من اثنتي عشرة صفحة، ثم بدأت بكتاب فتاوى اللجنة فقرأت عليه أربعين صفحة، فجاء ابنه عبدالله فبدأ يكمل القراءة إلى أن بلغ الصفحة الخمسين.

ثم جاء بعد ذلك الأطباء؛ ليطمئنوا على صحة سماحته، وقالوا له: لقد تحسنت حالتك ولله الحمد، فقال: إذاً ماذا ننتظر ؟ ألا تأذنون لي بالخروج ؟ قالوا: لا بأس، فخرجنا من المستشفى، فقال له ابنه أحمد: سنتجه يا والدي إلى المنزل إن شاء الله، فقال سماحته: بل إلى المكتب، فقال له أحمد: إذاً ننتظركم بعد الظهر مباشرةً للغداء، قال: بل نأتيكم في الموعد المعروف، أي في الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، أي بعد نهاية الدوام.

وهكذا استمرت صحة الشيخ تتدنى حتى شهر ذي القعدة؛ حيث أوصى الأطباء بأن يبقى في المستشفى عدة أيام، ولكنه لم يوافق؛ إذ كان قلبه متعلقاً بالحج، وكان عازماً عليه؛ مما حدا بالأطباء إلى أن يكثروا الإلحاح عليه، وعلى أبنائه ليقنعوه بترك الحج ذلك العام؛ حفاظاً على صحته.

كما أن الأمير عبدالله نصحه بترك الحج؛ رأفة بحاله.

وبعد إلحاح شديد طويل وافق على ترك الحج ذلك العام، ووجه نائبه سماحة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ بأن يقوم مقامه بالحج، ولما وصل الخبر إلى سماحة نائبه بكى، وتأثر أيما تأثر.

وهكذا عدل سماحته عن الحج، والأسى يعتصر قلبه، وكان يقول: الله المستعان سبع وأربعون سنة متتابعة لم أترك الحج.

وليس هذا عدد حججه، بل هذا عدد حججه المتتابعة، أما عددها جميعاً فتبلغ اثنتين وخمسين حجة.

وفي 22/12/1419هـ توجه سماحته إلى مكة، وأدى العمرة، ومكث في مكة إلى نهاية ذي الحجة، ثم ذهب إلى الطائف.

وفي آخر ليلة قضاها في الرياض جاء الناس إليه أفواجاً تلو أفواج للسلام عليه، وتوديعه؛ حيث جاء المئات من المسلِّمين والمودعين، وقد حَسَبْتُ مَنْ ضَمَّهم المجلس في آن واحد وإذا هم ثمانون شخصاً قد امتلأت بهم المقاعد، وجلسوا على الأرض، والذين خرجوا قبلهم أكثر منهم+.

ثانياً: تدني صحة سماحة الشيخ: ولما وصل إلى الطائف بدأت صحته بالتدني، ولكن همته، وعزيمته، ونشاطه، وعمله، ومزاجه وتفكيره وذاكرته، وعنايته بضيوفه، كل ذلك لم يتغير منه شيء مع أنه يعاني أشد المعاناة، ومع أنه كان في رمضان لا يستطيع أن يتناول إلا تمرة أو تمرتين في اليوم، وبعد رمضان لم يكن يتناول إلا سوائل قليلة جداً من حليب، أو شوربة أو ما شاكل ذلك، وهكذا في شوال.

أما في ذي القعدة وذي الحجة والمحرم فلم يكن يتناول إلا السوائل، بل لم يكن يتناول في اليوم إلا كأس حليب صغيراً، حتى التمر الذي كان أحب الطعام إليه_كما يقول_لم يكن يستطيع تناوله؛ فلم يكن يتناول إلا كأساً صغيراً من الحليب، وكان يشربه بتَكَرُّهٍ، وإذا كثر الإلحاح عليه شرب ثانياً على مضض؛ لأنه كان يعاني من جرَّاء الشرب، ويظهر عليه التأثر إذا تناول ثانياً، وربما تقيأه، وكان يؤتى له بعصير الجزر، فكان لا يستطيع أن يتناول إلا ربع الكأس، واستمر على تلك الحال حتى فارق الحياة.

ومع هذا كله فإن عمل سماحته هو هو.

ثالثاً:آخر دروسه التي ألقاها، وآخر يوم له في الدوام: يقول الشيخ محمد الموسى: =ولما وصلنا إلى الطائف عزم سماحته على البدء بإلقاء دروسه المعتادة؛ فقلت له؛ رأفة بحاله: إن كثيراً من الطلاب والمدرسين الذين يحضرون دورسكم مشغولون هذه الأيام بالامتحانات، ويرغبون أن تؤجلوا الدروس؛ لتعم الفائدة.

فقال ×: الدرس سيبدأ يوم الاثنين الآتي في أول شهر الله المحرم، والذي يحضر حياه الله، ولن نتوقف؛ فبدأت دروسه، واستمر في إلقائها ولم يكن يأتي من الدرس إلا بعد ساعتين من بدايته.

وآخر درس ألقاه كان في يوم الاثنين 17/1/1420هـ، وقد استمر في الدرس حتى الساعة الثامنة صباحاً أي أن مدة الدرس استمرت قريباً من ثلاث ساعات.

وأذكر أنه سألني بعد الدرس عن الساعة فقلت: الساعة الآن الثامنة، فقال: تأكد لعلها السابعة؛ فقلت: بل هي الثامنة يا سماحة الشيخ، فقال: ما ظننت أنها ثمان، القراء كثيرون، والوقت يمضي دون أن ندري؛ فهذا آخر درس ألقاه×+.

أما الدوام الرسمي فكان مستمراً فيه إلى يوم الثلاثاء 18/1/1420هـ وذلك لما كان في الطائف؛ فذلك آخر يوم في دوامه الرسمي.

رابعاً: بقية أيامه الأخيرة: يقول الشيخ محمد الموسى: =أما بقية أيامه فاستمر فيها يستقبل الناس، ويقوم بأعماله الأخرى كعادته، وفي يوم الأربعاء 19/1/1420هـ صلى الفجر مع الجماعة، وبعد الصلاة جلست معه لعرض بعض المعاملات، وعرض عليه الشيخ عبدالرحمن بن عتيق ثلاث معاملات، ثم التفت إليَّ فبدأت أقرأ مما كان معي، فقال: أحس بالتعب وأريد الراحة، وكان مرهقاً جداً؛ فلما أمسكت بيده لأدخله داخل المنزل قال: ما أضعف العبد؛ ما كنت أظن أن الإنسان يصل إلى هذا الحد.

ولم يخرج من بيته ذلك اليوم لا للعمل، ولا للمسجد.

ولما كان يوم الخميس 20/1/1420هـ حضر ابناه عبدالرحمن وأحمد، ونقلاه إلى مستشفى الهدا بالطائف، وفي المستشفى أجري له اللازم من المغذيات والأدوية، ولكن الألم يشتد عليه، ومع ذلك فنحن موظفي مكتب البيت وغيرنا مرافقون له في المستشفى، ومعنا معاملاتنا، وأوراقنا والمعاملات ترسل إليه _أيضاً_ من مكتب الرئاسة، ويأتيه معالي الشيخ عبدالعزيز بن ناصر بن باز، ومعالي الدكتور محمد الشويعر، والدكتور عبدالله الحكمي والشيخ محمد ابن راشد؛ لعرض ما عندهم.

وتقرأ المعاملات عليه عبر الهاتف من طريق فضيلة الشيخ عبدالله بن محمد ابن حمود الزيد، والمستفتون عبر الهاتف لا يتوقفون عن الأسئلة.

والزوار من أمراء، وعلماء، وأعيان، ووجهاء، وعامة لا يحصون.

وسماحة الشيخ يستقبلهم بكل ترحاب، وتهلل وفرح، وسعة بال، واستمر على تلك الحال إلى يوم الثلاثاء 25/1/1420هـ.

 خامساً: ملحوظات عجيبة على سماحة الشيخ في آخر أيامه: يقول الشيخ محمد الموسى: =لقد لحظت على سماحة الشيخ في أيامه الأخيرة ملحوظات عجيبة غريبة منها:

_ أنه منذ شهر رمضان كان كأنه يستعد لفراق هذه الدنيا؛ حيث كان يكثر من ترداد كلمات معينة كقوله: الله يحسن لنا الختام، الله يتوب علينا، ويميتنا على الإسلام.

_ وأنه قد أوفى كل ما يتعلق بذمته.

_ وأنه قد سامح كل من لديه حق لسماحته من ديون أو غير ذلك.

_ وأنه كان حريصاً كل الحرص على إنجاز كل ما لديه من الأعمال، والمعاملات وغيرها، ونرى عليه الفرح بما ينجز من المعاملات، وقضاء حاجات الناس.

_ وأن ذاكرته تزداد، وتقوى.

_ وأن خلقه وطيب نفسه، وانشراح صدره، وقوة تحمله لا أقول كان على مثل ما كان عليه، بل كان أكثر وأعظم مما عليه من الخلق، وطيب النفس، وانشراح الصدر، وقوة التحمل.

_ وأنه لما كان في المستشفى في أيامه الأخيرة لم يكن يهمل أي رسالة تأتيه برغم شدة وطأة المرض عليه، حتى إن أحد الناس أرسل إلى سماحته رسالة أبان خلالها عن عظيم محبته ومحبة الناس لسماحته، ودعا له دعوات عظيمة، وبَلَّغه دعوات الناس له.

فرد عليه سماحته بجواب مناسب له، حيث ضمنه شكره، والدعاء له بالتوفيق، وسؤال الله أن يميته وإياه على الإسلام.

_ وأنه كان لا يلهيه المرض عمن حوله؛ فكان لا يترك أحداً ممن كانوا معه إلا ويسأله عن أهله، وعن أولاده، وعن أحوالهم، ويقول لهم: عساكم تتصلون على أهليكم، خصوصاً وأن بعض من في الطائف مع سماحته كان أهلوهم في الرياض.

_ وكذلك الآتون إليه يسألهم عن أحوالهم، وعن أحوال المسلمين.

_ وأنه لم يترك سنة من السنن الراتبة القبلية والبعدية، ولم يترك ذكراً من الأذكار، أو سنة من السنن التي كان يقوم بها إبان صحته.

ولقد تقصَّدت مراقبته في أيامه الأخيرة في صلاته؛ فكان يجافي بين عضديه، ويجلس في مصلاه بعد الصلاة ليأتي بالأذكار، وإذا سلم عليه أحد وهو يؤديها أشار إليه أن انتظر قليلاً.

بل لقد شاهدته يطبق سنن الصلاة كاملة يوم الثلاثاء 25/1/1420هـ أي قبل وفاته بيومين، وقد لفت انتباهي عنايته بتطبيق السنة.

_ ولما دخل المستشفى في 20/1/1420هـ بعد أن أنهكه المرض، وفتك بجوفه، وأَنْحَل جسمه كنا نراه أحياناً يضع يده على موضع الألم، ومع هذا لا تراه يشكو إلى أحد، ولا يظهر أنه يعاني من شدة المرض.

بل تراه كلما استعاد نشاطه وأعطيت له المغذيات والمهدئات بدأ يستقبل عرض المعاملات وهو على سريره.

سادساً: محاولات إرساله للخارج للعلاج: مر قبل قليل أن سماحته مكث في المستشفى إلى يوم الثلاثاء 25/1/1420هـ وفي ذلك اليوم طلب الخروج؛ لأنه لم يجد فائدة من وجوده في المستشفى.

وبعد ذلك توالت الاتصالات من المسؤولين الكبار لأجل إقناعه بالسفر إلى الخارج للعلاج؛ فخرج سماحته من المستشفى، وقد بلغ به الإعياء مبلغه، حيث تورمت قدماه، وصار مشيه ضعيفاً، ولم ينم تلك الليلة التي خرج فيها من المستشفى، وكأنه في تلك الأثناء قد انشرح صدره للسفر إلى الخارج، والذين حوله يلتمسون الخيرة في سفره أو بقائه.

هنالك قال له ابنه الشيخ أحمد: ليتك يا والدي تتأمل أكثر وأكثر في موضوع السفر.

وفي تلك الأثناء اتصل صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله ولي العهد يريد رأي سماحة الشيخ في السفر؛ فقال سماحته: نتأمل.

 سابعاً: آخر يوم في حياة سماحة لشيخ: يقول الشيخ محمد الموسى: =وفي يوم الأربعاء 26/1/1420هـ أخذ سماحته ضحى ذلك اليوم قسطاً من الراحة؛ لأنه لم ينم في الليلة التي قبلها.

وبعد الظهر كنت أنا والدكتور محمد الشويعر، والشيخ عبدالرحمن بن عتيق في مكتب البيت، فخرج علينا ابنه الشيخ أحمد، وقال: الوالد جالس داخل المنزل؛ لعلكم تأتون إليه؛ لأنه يرغب في عرض ما لديكم من المعاملات عليه، فحضرنا عنده جميعاً وكان معنا _ أيضاً _ ابناه عبدالله وعبدالرحمن، فلما جلسنا إليه وجدناه مرتاح البال، منشرح الصدر، فاستبشرنا كثيراً وحمدنا الله على سلامته.

وقال لنا: لقد تأملت موضوع السفر كثيراً، واتفقت أنا والأبناء على أنه يذهب بعضهم إلى أمريكا، ويعرض التقارير على المستشفيات المشهورة هناك، ويؤخذ رأيهم، وبعد ذلك ننتظر ماذا يختار الله لنا.

وهكذا كتب الله لسماحة الشيخ أن لا يغادر البلاد أبداً، وألا تُجْرى له أي عملية جراحية طيلة حياته.

وبعد ذلك سأل عن أخبار ذلك اليوم، وكان الدكتور محمد الشويعر معه صحف ذلك اليوم فاستعرضها عليه، وقرأ النشرة الإخبارية، ثم شرعنا بقراءة ما معنا من المعاملات من طلاق وغيره، وأخذت أتناوب مع معالي الدكتور محمد، فقرأنا عليه في تلك الجلسة ما يقارب خمساً وعشرين معاملة، وبعض المعاملات تبلغ ثلاث صفحات أو أكثر أو أقل، ويقدر مجموع ما قرأناه ثلاثين صفحة أو تزيد، خصوصاً وأن الدكتور محمد سريع القراءة، حسن العرض، فأجرى سماحته عليها اللازم.

ومن بين تلك المعاملات رسالة جاءت من إحدى البلاد الأوربية بواسطة الفاكس، حيث ذكروا فيها أن (فلاناً) من المعروفين لدى سماحة الشيخ سيَقْدُم علينا، وهو الوحيد الذي نستفيد منه، وكانوا قد استعدوا للقاء كبير، واجتماع للبحث في أمور الدعوة، وقالوا: إنه وصلنا بعض الأشرطة (لفلان) من الناس يحذر من هذا الرجل، ويقول: إنه حزبي، وإنه ينتمي إلى الجماعة (الفلانية)، ونحن نرغب من سماحتكم إفادتنا عنه، هل نقبله؟ أو أن ما قاله عنه ذلك القائل صحيح، وحينئذ نرده؟

فأجابهم سماحته: بأن ذلك الشخص المقدوح فيه من أهل السنة والعقيدة الطيبة، وما قاله عنه فلان غير صحيح، وأُرسل جوابُ سماحته بواسطة الفاكس، وتم الاجتماع، وانتهت الفتنة.

وبعد ذلك سأل سماحة الشيخ عن الساعة فقلنا: الساعة الآن الثالثة إلا خمس عشرة دقيقة؛ فقال: تغدوا مع الضيوف، وأنا سوف أجلس بعد المغرب للناس؛ فقمنا للضيوف، واستبشرنا بذلك، وبشرنا الناس بسلامة الشيخ، وتذكرنا مرض الرسول " وخروجه للناس.

ثم أصبح الناس يتناقلون البشرى بسلامة الشيخ، ومن قدر على المجيء حضر إلى الطائف، ومن لم يقدر اتصل بالهاتف.

وبعد صلاة المغرب جاء الناس إلى منزل سماحته، واكتظ بهم المجلس، وانتظموا للسلام عليه وهم على أحر من الجمر؛ شوقاً لرؤياه، ثم جاء سماحته إلى المجلس على العربة يقوده ابنه الشيخ أحمد، ودخل على الناس قادماً من طريق غير طريقه المعتاد؛ حيث دخل المجلس من طريق الغرفة التي يوضع فيها الطعام، وربما كان ذلك بتوجيه منه؛ حتى لا يراه الناس وهو يسير على العربة؛ فيتكدروا، ولما اقترب من المجلس ترجَّل من العربة، وسار على قدميه؛ ليريهم أنه بخير وعافية.

ثم دخل المجلس مبتسماً يتهلل وجهه بشراً، وسكينة، وسروراً؛ فقلنا: هذا هو شيخنا كأنه في شبابه؛ فلما أقبل على الناس ألقى عليهم السلام، وحياهم، وأخذ مكانه في المجلس، فبدأ الناس يسلمون عليه أرسالاً تلو أرسال، وكل من سلَّم عليه خرج من المجلس؛ حيث لم يبق مكان للجلوس من كثرة الناس.

وبعد ذلك جلست عن يساره، والشيخ عبدالعزيز بن ناصر بن باز عن يمينه، وبأيدينا جملة من المعاملات من طلاق وغيره كالعادة، وبدأنا عرضها عليه، والناس لا يزالوا يتوافدون، والهاتف يرن بين الفينة والأخرى.

وبعد عشر دقائق من جلوسه تحسس سماعة الهاتف وعلى غير عادته رفعها ووضعها جانباً؛ حتى يتوقف رنين الهاتف، ثم أقبل على الحاضرين، وقال: كيف حال الإخوان، الله يستعملنا وإياكم فيما يرضيه، الله يتوب على الجميع، ثم دعا لهم، وأطال الحديث والدعاء، وتوصية الناس بتقوى الله، والتمسك بالكتاب والسنة.

وبعد ذلك أرجع سماعة الهاتف إلى وضعها الأول، وبدأ يرد على المتصلين، ويستمع إلى عرض المعاملات، والناس في تلك الأثناء يواصلون السلام عليه، وبلغ مجموع ما قرأنا عليه في ذلك المجلس ثمان معاملات، وبعض المعاملات أحالها على اللجنة، وبعضها إلى المكتب.

وبعد أن سمع الأذان أجاب المؤذن كعادته، ثم سلم على الحاضرين، وودعهم ودخل بيته.

وفي تلك الليلة عشنا أسعد ليلة مرت بنا في الطائف، بعد أن رأينا سماحة الشيخ على هذه الحال.

ولما دخل إلى بيته جلس مع أسرته وبعض أقاربه الذين قدموا للسلام عليه من الرياض والمدينة، حيث مكث معهم إلى الساعة الثانية عشرة، وهو في أنس، وسرور، وراحة بال تامة، ثم انصرفوا عنه؛ لينام، فأخذ يذكر الله ويسبحه.

يقول ابنه الشيخ أحمد: =وجلست معه بعد ذلك حتى الساعة الواحدة والنصف، وسألني عن الساعة، فأخبرته، فقال: توكل على الله، نَمْ، وصلى ما شاء الله أن يصلي، واضطجع على فراشه، والوالدة كانت جالسة عنده.

ولما كانت الساعة الثانية والنصف جلس × وضحك، ثم اضطجع، وبعد ذلك ارتفع نَفَسُه، وحشرج صدره، وحاولت الوالدة أن تنبهه، ولكنه لا يرد.

وبعد ذلك جئت إليه أنا وإخوتي، واستمر على هذه الحال، فاتصلنا بمستشفى الملك فيصل، فأرسلوا سيارة إسعاف، وحُمِل سماحته إلى المستشفى، وعند حمله فاضت روحه إلى بارئها+.

يقول الشيخ محمد الموسى: =أما أنا فقد بتُّ تلك الليلة في منزل سماحته، فلما استيقظت مع أذان الفجر، وإذا بأحد الموظفين واقف يبكي، ويحوقل، ويقول: إن سماحة الشيخ متعب جداً، وقد طُلب له سيارة إسعاف.

وبعد ذلك بقليل جاءت سيارة الإسعاف ورأيتهم يحملون سماحته فذهبت إلى المسجد لصلاة الفجر والأسى يكاد يقطع قلبي، وقد ترجح عندي أن سماحته سيفارق الحياة.

وبعد أن عدت إلى المنزل اتصلت بالأخ صلاح الدين عثمان أمين مكتبة الشيخ عبر الهاتف الجوال؛ لأنه كان مع أبناء الشيخ، لما نقلوه إلى المستشفى، فلما كلمته لم يستطع الرد من البكاء فأيقنت أن سماحته قد توفي.

وبعد وقت قصير جاء أبناء سماحة الشيخ إلى المنزل، وأفادوا بأن والدهم قد فارق الحياة، وكان ذلك قبيل فجر الخميس 27/1/1420هـ.

وبعد أن توفي وضع في ثلاجة الموتى في مستشفى الملك فيصل في الطائف، ثم نقل إلى مستشفى القوات المسلحة في الهدا، ووضع في الثلاجة إلى أن جاء وقت تغسيله+.

=وفاة سماحة الشيخ+

 انتشار خبر الوفاة: وبعد وقت قصير من وفاته ذاع الخبر، وعم أقطار الدنيا، وحل بالمسلمين من اللوعة والأسى ما لا يعلم مداه إلا الله.

المداولات في وقت الصلاة عليه، ومكانها، ومكان دفنه: وبعد أن ذاع خبر الوفاة بدأت المداولات بين المسؤولين وأبناء سماحة الشيخ حول وقت الصلاة عليها، ومكانها، ومكان دفنه؛ فاستقر الرأي على أن يصلى عليه في المسجد الحرام بعد صلاة الجمعة 28/1/1420هـ، وأن يدفن في مقبرة العدل في مكة المكرمة؛ حيث أعلن الديوان الملكي خبر الوفاة، ومكان الصلاة على سماحته، ووقتها.

توافد الناس إلى مكة: وبعد أن أعلن ذلك النبأ بدأت وفود الناس تتقاطر إلى مكة من كل حدب وصوب، وأقبل الناس من قريب، ومن بعيد، عبر الجو والبر، داخل المملكة وخارجها.

تغسيل سماحة الشيخ وتكفينه: وفي صبيحة يوم الجمعة نقل جثمان سماحة الشيخ من ثلاجة مستشفى الهدا عبر سيارة الإسعاف إلى منزل سماحته في مكة المكرمة؛ حيث تم تغسيله، وتكفينه هناك.

وقد قام بذلك كل من صاحب الفضيلة الشيخ عبدالله بن محمد بن الحمود الزيد مدير إدارة البحوث العلمية والإفتاء، وصاحب الفضيلة الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الغيث، وصاحب الفضيلة الشيخ عبدالعزيز بن محمد الوهيبي.

حضور العلماء والمشايخ في وقت تغسيل سماحته وتكفينه: وفي الوقت الذي كان سماحة الشيخ يجهز فيه_حضر إلى منزل سماحته في مكة جمع كبير من العلماء والمشايخ.

ومنهم: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، مفتي عام المملكة، وأصحاب الفضيلة الشيخ عبدالله بن قعود، والشيخ عبدالمحسن العباد، والشيخ عبدالرحمن البراك، ومعالي الشيخ الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي وزير الشؤون الإسلامية آنذاك، ومعالي الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ وزير الشؤون الإسلامية حالياً، والشيخ الدكتور عمر بن سعود العيد، والشيخ الدكتور عبدالرزاق بن عبدالمحسن العباد، والشيخ متعب بن سليمان الطيار والشيخ عبدالعزيز بن إبراهيم القاسم، وغيرهم كثير ممن لا تحضرني أسماؤهم.

الدخول عليه بعد تجهيزه: وبعد أن غسل وكفِّن دخل عليه جمع من الحاضرين في ذلك الوقت، حيث تقدموا لتقبيله، ورؤيته قبل الذهاب به للصلاة عليه.

وبعضهم قبله قبل أن يغطى رأسه، وبعضهم بعد أن تم تغطيته.

ومن هؤلاء الذين دخلوا عليه سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، وصاحب الفضيلة الشيخ عبدالمحسن العباد، وابنه الشيخ الدكتور عبدالرزاق، وصاحب الفضيلة الشيخ عبدالعزيز بن إبراهيم القاسم وغيرهم.

صلاة أهل بيته عليه في منزله: وبعد ذلك جاء أهل بيت سماحة الشيخ× من زوجاته، وبناته، وغيرهن، وتقدم سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ مفتي عام المملكة، ومعه أبناء سماحة الشيخ؛ حيث صلى بالنساء على سماحة الشيخ×.

الصلاة عليه في الحرم: وبعد ذلك تم نقله إلى المسجد الحرام؛ للصلاة عليه؛ حيث وصل جثمانه إلى الحرم في حدود الساعة الحادية عشرة تقريباً.

ولقد جاء الناس إلى المسجد الحرام في وقت مبكر؛ فامتلأت بهم جنبات الحرم، ولا ترى إلا باكياً حزيناً، مكفكفاً دموعه، منطوياً على نفسه.

ولما حان وقت الخطبة، وأذن الأذان الآخر لصلاة الجمعة خطب الجمعة سماحة الشيخ محمد بن عبدالله السبيل إمام وخطيب المسجد الحرام، ورئيس شؤون الحرمين آنذاك، وقد تكلم في خطبته على فضل العلم والعلماء، وذكر بعض مآثر الفقيد، وعزى الأمة به، وصبَّر الناس، ودعا لسماحة الشيخ.

وبعد صلاة الجمعة قدمت الجنازة وما كادت تصل إلى المكان الذي هو قرب الإمام، حيث صارت تموج إلى أن وضعت أمام الإمام، فصلى بالناس على سماحة الشيخ إمام الحرم الشيخ محمد السبيل.

وكان على رأس المصلين على سماحةِ الشيخِ خادمُ الحرمين الشريفين الملك فهد، وولي عهده الأمير عبدالله، وسمو النائبَ الثاني، الأمير سلطان، وسمو وزير الداخلية الأمير نايف، وسمو الأمير سلمان، وجمع كبير من الأمراء.

دفن سماحة الشيخ: وبعد الصلاة على سماحته حملت الجنازة إلى خارج المسجد الحرام، ووضعت في سيارة الإسعاف، وسارت بها السيارة وسط الجموع إلى مقبرة العدل، ثم دخلت جموع يسيرة إلى المقبرة يتقدمهم سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين×.

وقد منع الناس في بداية دخول الجنازة المقبرة من الدخول؛ لأنهم لو دخلوا في ذلك لطالت مدة الدفن.

وبعد ذلك تم دفنه في وقت قصير، ثم فتحت أبواب المقبرة؛ فدخل الناس أفواجاً تلو أفواج، ثم وقفوا على القبر، ودعوا لصاحبه، وسألوا له التثبيت عند السؤال، ثم خرجوا من المقبرة.

ملحوظات في يوم دفن الجنازة: من الملحوظات الغريبة في ذلك اليوم أن الناس توافدوا إلى مكة في وقت قصير جداً؛ فمع أن الوقت كان ضيقاً حيث لم يعلن رسمياً عن مكان الصلاة عليه ودفنه وزمانه إلا في وقت متأخر من يوم الخميس، ومع بُعد المسافة بين مكة وبين كثير من البلدان التي قدم منها الناس، ومع أن الوقت كان وقت امتحانات المدارس _ إلا أنه لم يسمع بأي حادث مروري ذلك اليوم، بل سارت الأمور كما ينبغي، وسارت الجنازة من الحرم في دقائق معدودة مع أن الناس محيطة بها من كل جانب، ودفنت في وقت قصير.

ومن الملحوظات أن كثيراً من الناس ممن حضروا ذلك يقولون: إننا حضرنا ونحن على درجة من الإعياء كبيرة، ولم نكن نظن أننا إذا وصلنا إلى مكة، ونصلي على الجنازة إلا وقد لزمنا الفراش من التعب.

ولكننا _ بحمد الله _ أُعِنّا على ذلك، وأمدَّنا الله بالقوة.

ولعل ذلك من كرمات سماحة الشيخ.

يقول الشيخ محمد الموسى: =وفي ذلك المشهد العظيم تذكرتُ كلمة قالها سماحة الشيخ قبل وفاته بخمس عشرة سنة تقريباً، وذلك لما جاءه بعض الغيورين، وحدثوه على الأوضاع، ولاموه، وأغلظوا عليه بالقول، وقالوا: الواجب عليك أكبر مما تقوم به؛ لأنك إمام وقدوة، ولك مكانتك عند الجميع.

وما علم أولئك بعِظم الدور الذي يقوم به.

ولما سمع سماحة الشيخ منهم ذلك الكلام تأثر تأثراً كبيراً، ولم يُرِدْ أن يطلعهم على ما يقوم به، ولكنه قال: إذا أنا متُّ عرفتموني كما عرف الشيخ محمد بن إبراهيم بعد وفاته+.

أصداء وفاة سماحة الشيخ بعد دفنه:

التعازي: وبعد دفن سماحة الشيخ × توالت وفود المعزين من رؤساء، وعلماء، ووجهاء، وغيرهم من شتى بقاع الأرض؛ فمنهم من يأتي بنفسه، ومنهم من يعزي عبر الهاتف، ومنهم من يعزي عبر الرسالة، ومنهم من يعزي عبر المقالة.

والغريب أن الناس يعزي بعضهم بعضاً، فالواحد يعزِّي بالشيخ، ويُعزَّى به.

المؤلفات والمقالات في سماحته: وبعد وفاته خرج المئات من المقالات، والعشرات من المؤلفات التي تتحدث عن سيرته، ومكانته.

ولقد استمرت الصحف مدة طويلة تكتب عنه، وتُفرِد الملاحق الخاصة به.

وهذه المؤلفات والمقالات مليئة بذكر مآثره، وأخلاقه، والحديث عن سيرته.

ولا زالت الرسائل العلمية الجامعية تسجل في بعض جوانب سيرته.

المراثي: بعد وفاة سماحة الشيخ جادت قرائح الشعراء، وكتبوا القصائد في رثاته، وبيان عظيم اللوعة في فقده، وإيضاح الثغرة العظيمة التي تركها.

وبالجملة فإن القصائد التي قيلت فيه لا يمكن حصرها.

ولا يبالغ من يقول: إنه لم يرثَ أحد بعد النبي " وأصحابه بمثل ما رثي به سماحة الشيخ.

المرائي: وكذلك المرائي التي رؤيت في سماحة الشيخ لا تكاد تحصى من كثرتها.

وقل أن تجلس في مجلس أيام وفاة سماحته إلا وتسمع من يذكر طرفاً من الرؤى.

إجماع الناس على الفضل والعلم: فالناس _على اختلاف طبقاتهم_ أجمعوا على فضل سماحته، وعلمه، وعدله، وتقواه، ومآثره الحميدة.

والذين كتبوا، أو تحدثوا عنه، أو رثوه في القصائد فئات مختلفة، منهم الأمراء، ومنهم العلماء، ومنهم الوجهاء، ومنهم رجال الصحافة، ومنهم الأدباء، ومنهم الرجال، ومنهم النساء.

ولو ذكرنا شيئاً من ذلك لطال بنا، ولما أردنا أن نذكر نماذج من ذلك وقعنا في الحيرة والحرج؛ فما ندري ماذا نأخذ، وما ندري ماذا ندع.