حقيقة التصوف وموقف الصوفية من أصول العبادة والدين ()

صالح بن فوزان الفوزان

 

حقيقة التصوف وموقف الصوفية من أصول العبادة والدين: رسالة قيمة توضح حقيقة العبادة التي شرعها الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبيان ما عليه الصوفية اليوم من انحرافات عن حقيقة تلك العبادة.

|

 حقيقة التصوف وموقف الصوفية من أصول العبادة والدين

بسم الله الرحمن الرحيم

 المقدمة

الحمد لله رب العالمين، أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الاسلام دينًا، وأمرنا بالتمسك به إلى الممات، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران الآية: 102]، وتلك وصية إبراهيم ويعقوب لبنيه، ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [البقرة الآية: 132].

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:

فإن الله خلق الجن والانس لعبادته، كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات الآية: 56]، وفي ذلك شرفهم وعزهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة؛ لأنهم بحاجة إلى ربهم، لا غنى لهم عنه طرفة عين، وهو غني عنهم وعن عبادتهم، كما قال تعالى: ﴿إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ﴾ [الزمر الآية: 7]، وقال تعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [إبراهيم الآية: 8]، والعبادة حق لله على خلقه، وفائدتها تعود إليهم، فمن أبى أن يَعبُدَ الله فهو مستكبر، ومن عَبَدَ اللهَ وعَبَدَ معه غيرَه فهو مشرك، ومن عبد الله وحده بغير ما شرع فهو مبتدع، ومن عبد الله وحده بما شرع فهو المؤمن الموحد.

ولما كان العباد في ضرورة إلى العبادة، ولا يمكنهم أن يعرفوا بأنفسهم حقيقتها التي ترضي الله  -سبحانه- وتوافق دينه، لم يَكِلْهم إلى أنفسهم، بل أرسل إليهم الرسل وأنزل الكتب؛ لبيان حقيقة تلك العبادة، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾ [النحل الآية: 36]، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء الآية: 25]، فمن حاد عما بينته الرسل ونزلت به الكتب من عبادة الله، وعَبَدَ الله بما يُملي عليه ذوقُه وما تهواه نفسُه وما زينته له شياطين الإنس والجن، فقد ضَلَّ عن سبيل الله، ولم تكن عبادتُه في الحقيقةِ عبادةً لله، بل هي عبادةٌ لهواه: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ﴾ [القصص الآية: 50]، وهذا الجنسُ كثيرٌ في البشر، وفي طليعتِهم النصارى، ومن ضَل مِن فِرَق هذه الأمة، كالصوفية فإنهم اختطُّوا لأنفسهم خطة في العبادة مخالفة لما شرعه الله في كثير من شعاراتهم، وهذا يتضح ببيان حقيقة العبادة التي شرعها الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيان ما عليه الصوفية اليوم من انحرافات عن حقيقة تلك العبادة.


 ضوابط العبادة الصحيحة

إن العبادة التي شرعها الله ـ-سبحانه وتعالى- تنبني على أصول وأسس ثابتة تتلخص فيما يلي:

أولًا: أنها توقيفية: بمعنى أنه لا مجال للرأي فيها، بل لابد أن يكون المشرع لها هو الله -سبحانه وتعالى- كما قال تعالى لنبيه: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ﴾ [هود الآية: 112]، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية الآية: 18]، وقال عن نبيه: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى﴾ [الأحقاف الآية: 9].

ثانيًا: لا بد أن تكون العبادة خالصة لله -تعالى- من شوائب الشرك، كما قال تعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾ [الكهف الآية: 110]، فإن خالط العبادةَ شيءٌ من الشرك أبطلَها، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام الآية: 88]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ﴾ [الزمر الآيتان: 65-66].

ثالثًا: لابد أن تكون القدوة في العبادة والمبيِّنُ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب الآية: 21]، وقال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر الآية: 7]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» [رواه مسلم] وفي رواية: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» [متفق عليه]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» [متفق عليه]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم» [رواه مسلم]، إلى غير ذلك من النصوص.

رابعًا: أن العبادة محددة بمواقيت ومقادير، لا يجوز تعديها وتجاوزها، كالصلاة مثلًا، قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً﴾ [النساء الآية: 103]، وكالحج، قال تعالى: ﴿الحج أشهر معلومت﴾ [البقرة الآية: 197]، وكالصيام، قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة الآية: 185].

خامسًا: لابد أن تكون العبادة قائمة على محبة الله تعالى والذل له، وخوفه ورجائه، قال تعالى: ﴿أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ [الاسراء الآية: 57]، وقال تعالى عن أنبيائه: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء الآية: 90].

قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [ال عمران الآيتان: [31-32]، فذكر -سبحانه- علامات محبة الله وثمراتها.

أما علاماتها: فاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وطاعة الله، وطاعة الرسول.     

أما ثمراتها: فنيل محبة الله -سبحانه-، ومغفرة الذنوب، والرحمة منه سبحانه.

سادسًا: أن العبادة لا تسقُط عن المكلف من بلوغه عاقلًا إلى وفاته، قال تعالى: ﴿ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾ [ال عمران الآية: 102]، وقال تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر الآية: 99].

 حقيقة التصوُّف

لفظ التصوُّف والصوفية لم يكن معروفًا في صدر الإسلام، وإنما هو مُحدَثٌ بعد ذلك، أو دخيل على الإسلام من أمم أخرى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -يرحمه الله- في مجموع الفتاوى: [أما لفظ الصوفية فإنه لم يكن مشهورًا في القرون الثلاثة، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك، وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ، كالإمام أحمد بن حنبل، وأبي سليمان الداراني، وغيرهما، وقد روي عن سفيان الثوري أنه تكلم به، وبعضهم  يذكر ذلك عن الحسن البصري، وتنازعوا في المعنى الذي أضيف إليه الصوفي، فإنه من أسماء النسب كالقرشي والمدني وأمثال ذلك، فقيل: إنه نسبة إلى أهل الصفة، وهو غلط؛ لأنه لو كان كذلك لقيل: صُفِّي، وقيل نسبة إلى الصف المقدم بين يدي الله، وهو أيضًا غلط، فإنه لو كان كذلك لقيل: صَفِّي، وقيل نسبة إلى صوفة بن بشر بن أد بن بشر بن طابخة، قبيلة من العرب كانوا يجاورون بمكة من الزمن القديم ينسب إليهم النساك، وهذا وإن كان موافقًا للنسب من جهة اللفظ فإنه ضعيف أيضًا؛ لأنّ هؤلاء غير مشهورين ولا معروفين عند أكثر النساك؛ ولأنه لو نسب النساك إلى هؤلاء لكان هذا النسب في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أولى، ولأن غالب من تكلم باسم "الصوفي" لا يعرف هذه القبيلة ولا يرضى أن يكون مضافًا إلى قبيلة في الجاهلية لا وجود لها في الإسلام، وقيل -وهو المعروف- أنه نسبة إلى الصوف، فإنه أول ما ظهرت الصوفية في البصرة، وأول من ابتنى دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد، وعبد الواحد من أصحاب الحسن، وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ما لم يكن في سائر أهل الأمصار... وقد روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده عن محمد بن سيرين أنه بلغه أن قومًا يفضِّلون لباس الصوف، فقال: "إنّ قومًا يتخيرون لباس الصوف، يقولون إنهم يتشبّهون بالمسيح ابن مريم، وهدي نبينا أحب إلينا وكان صلى الله عليه وسلم يلبس القطن وغيره" أو كلامًا نحوًا من هذا... ثم يقول بعد ذلك: هؤلاء نُسِبوا إلى اللبسة الظاهرة وهي لباس الصوف، فقيل في أحدهم "صوفي"، وليس طريقهم مقيدًا بلبس الصوف، ولا هم أوجبوا ذلك، ولا علقوا الأمر به، لكن أضيفوا إليه لكونه ظاهر الحال... إلى أن قال: فهذا أصل التصوف، ثم إنه بعد ذلك تشعب وتنوع] انتهى من [مجموع الفتاوى [ج: 11، ص: 5، 7،   16، 18».

وكلامه -يرحمه الله- يعطي أن التصوف نشأ في بلاد الإسلام على يد عُبّادِ البصرة نتيجة لمبالغتهم في الزهد والعبادة ثم تطور بعد ذلك.

والذي توصل إليه بعض الكُتّاب العصريين أن التصوف تَسَرَّبَ إلى بلاد المسلمين من الديانات الأخرى، كالديانة الهندية والرهبانية النصرانية، وقد يُستأنس لهذا بما نقله الشيخ عن ابن سيرين أنه قال: [إن قومًا يتخيرون لباس الصوف يقولون إنهم يتشبّهون بالمسيح ابن مريم، وهدي نبينا أحب إلينا]، فهذا يعطي أن التصوف له علاقة بالديانة النصرانية.

ويقول الدكتور صابر طعيمة في كتابه: "الصوفية مُعتَقَدًا ومَسلَكًا": [ويبدوا أنه لتأثير الرهبنة المسيحية التي كان فيها الرهبان يلبسون الصوف، وهم في أديرتهم كثرة كثيرة من المنقطعين لهذه الممارسة على امتداد الأرض التي حررها الإسلام بالتوحيد، أعطى هو الآخر دورًا في التأثير الذي بدا على سلوك الأوائل] [ص: 17].

وقال الشيخ إحسان إلهي ظهير -يرحمه الله- في كتابه: "التصوف، المنشأ والمصادر": [عندما نتعمق في تعاليم الصوفية الأوائل والأواخر وأقاويلهم المنقولة منهم والمأثورة في كتب الصوفية القديمة والحديثة نفسها، نرى بونًا شاسعًا بينها وبين تعاليم القرآن والسنة، وكذلك لا نرى جذورَها وبذورَها في سيرة سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام البررة خيار خلق الله وصفوة الكون، بل بعكس ذلك نراها مأخوذة مقتبسة من الرهبنة المسيحية والبرهمة الهندوكية وتنسك اليهودية وزهد البوذية] [ص: 28].

ويقول الشيخ: عبد الرحمن الوكيل -يرحمه الله- في مقدمة كتاب: "مصرع التصوف": [إن التصوف أدنأ وألأم كيد ابتدعه الشيطان ليُسخِّر معه عبادَ اللهِ في حربِه لله ولرسلِه، إنه قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع كل عدو صوفيِّ العداوةِ للدين الحق، فتِّش فيه تجد: برهمية، وبوذية، وزرادشتية، ومانوية، وديصانية، تجد: أفلاطونية، وغنوصية، تجد فيه: يهودية، ونصرانية، ووثنية، وجاهلية...] [ص: 8].

ومن خلال عرض آراء هؤلاء الكُتَّاب المعاصرين في أصل الصوفية -وغيرهم مما لم نذكره كثيرون يرون هذا الرأي-: يتبيَّن أن الصوفية دخيلة على الإسلام، يظهر ذلك في ممارسات المنتسبين إليها، تلك الممارسات الغريبة على الإسلام، والبعيدة عن هديه، وإنما نعني بهذا المتأخرين من الصوفية، حيث كثرت وعظمت شطحاتهم، أما المتقدمون منهم فكانوا على جانب من الاعتدال، كالفضيل بن عياض، والجنيد، وإبراهيم بن أدهم، وغيرهم.

 موقف الصوفية من العبادة والدين

للصوفية -خصوصًا المتأخرين منهم- منهج في الدين والعبادة يخالف منهج السلف، ويبعد كثيرًا عن الكتاب والسنة، فهم قد بنوا دينهم وعبادتهم على رسوم ورموز واصطلاحات اخترعوها، وهي تتلخص فيما يلي:

1-  قصرهم العبادة على المحبة، فهم يبنون عبادتهم لله على جانب المحبة، ويهملون الجوانب الأخرى، كجانب الخوف والرجاء، كما قال بعضهم: أنا لا أعبد الله طَمَعًا في جنته ولا خوفًا من ناره، ولا شك أن محبة الله -تعالى- هي الأساس الذي تبنى عليه العبادة، ولكن العبادة ليست مقصورة على المحبة كما يزعمون، بل لها جوانب وأنواع كثيرة غير المحبة، كالخوف والرجاء والذل والخضوع والدعاء إلى غير ذلك، فهي كما قال شيخ الاسلام ابن تيمية: [اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة].

ويقول العلامة ابن القيم:

وعبادة الرحمن غاية حبِّه

مع ذلِّ عابده هما قطبانِ

وعليهما فلك العبادة دائرٌ

ما دار حتى قامت القطبانِ

ولهذا يقول بعض السلف: مَن عَبَدَ اللهَ بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو موحد، وقد وصف الله رسله وأنبياءه بأنهم يدعون ربهم خوفًا وطمعًا، وأنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه، وأنهم يدعونه رغبًا ورهبًا، قال شيخ الاسلام ابن تيمية -يرحمه الله-: [ولهذا قد وُجد في نوع من المتأخرين من انبسط في دعوى المحبة حتى أخرجه ذلك إلى نوع من الرعونة والدعوى التي تنافي العبودية]، وقال أيضًا: [وكثير من السالكين سلكوا في دعوى حب الله أنواعًا من الجهل بالدين، إما من تعدِّي حدود الله، وإما من تضييع حقوق الله، وإما من ادعاء الدعاوى الباطلة التي لا حقيقة لها]، وقال أيضا: [والذين توسعوا من الشيوخ في سماع القصائد المتضمنة للحب والشوق واللوم والعذل والغرام كان هذا أصل مقصدهم، ولهذا أنزل الله آية المحبة محنة يمتحن بها المحب، فقال: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾ [ال عمران الآية: 31]، فلا يكون محبًّا لله إلا من يتبع رسوله، وطاعة الرسول ومتابعته لا تكون إلا بتحقيق العبودية، وكثير ممن يدعي المحبة يخرج عن شريعته وسنته صلى الله عليه وسلم، ويدعي من الخيالات ما لا يتسع هذا الموضوع لذكره، حتى يظن أحدهم سقوط الأمر وتحليل الحرام له]، وقال أيضًا: [وكثير من الضالين الذين اتبعوا أشياء مبتدعة من الزهد والعبادة على غير علم ولا نور من الكتاب والسنة وقعوا فيما وقع فيه النصارى من دعوى المحبة لله مع مخالفة شريعته وترك المجاهدة في سبيله ونحو ذلك] انتهى [العبودية لشيخ الاسلام ابن تيمية ص 90 طبعة الرئاسة العامة للإفتاء].

فتبين بذلك أن الاقتصار على جانب المحبة لا يسمى عبادة بل قد يؤول بصاحبه إلى الضلال والخروج عن الدين.

2-  الصوفية في الغالب لا يرجعون في دينهم وعبادتهم إلى الكتاب والسنة والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يرجعون إلى أذواقهم، وما يرسمه لهم شيوخهم من الطرق المبتدعة والأذكار والأوراد المبتدعة، وربما يستدلون بالحكايات والمنامات والأحاديث الموضوعة لتصحيح ما هم عليه، بدلًا من الاستدلال بالكتاب والسنة، هذا ما ينبني عليه دين الصوفية، ومن المعلوم أن العبادة لا تكون عبادة صحيحة إلا إذا كانت مبنية على ما جاء في الكتاب والسنة، قال شيخ الاسلام ابن تيمية: [ويتمسكون -يعني الصوفية- في الدين الذي يتقربون به إلى ربهم بنحو ما تمسك به النصارى من الكلام المتشابه والحكايات التي لا يُعرف صدق قائلها، ولو صدق لم يكن معصومًا، فيجعلون متبوعهم وشيوخهم شارعين لهم دينًا، كما جعل النصارى قسيسيهم ورهبانهم شارعين لهم دينًا] انتهى.

ولما كان هذا مصدرهم الذي يرجعون إليه في دينهم وعبادتهم، وقد تركوا الرجوع إلى الكتاب والسنة، صاروا أحزابًا متفرقين، كما قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام الآية: 153]، فصراط الله واحد، لا انقسام فيه ولا اختلاف عليه، وما عداه فهو سُبُلٌ متفرقة، تتفرق بمن سلكها، وتبعدُه عن صراط الله المستقيم، وهذا ينطبق على فرق الصوفية، فإن كل فرقة لها طريقة خاصة تختلف عن طريقة الفرقة الأخرى، ولكل فرقة شيخ يسمونه شيخ الطريقة، يرسم لها منهاجًا يختلف عن منهاج الفرق الأخرى، ويبتعد بهم عن الصراط المستقيم، وهذا الشيخ الذي يسمونه شيخ الطريقة يكون له مطلق التصرُّف، وهم ينفِّذون ما يقول، ولا يعترضون عليه بشيء، حتى قالوا: المريد مع شيخه يكون كالميت مع غاسله، وقد يدّعي بعض هؤلاء الشيوخ أنه يتلقى من الله مباشرة ما يأمر به مريديه وأتباعه.

3-  من دين الصوفية التزام أذكار وأوراد يضعها لهم شيوخهم فيتقيَّدون بها، ويتعبّدون بتلاوتها، وربما فضّلوا تلاوتها على تلاوة القرآن الكريم، ويسمونها ذكر الخاصة، وأما الذكر الوارد في الكتاب والسنة فيسمونه ذكر العامة، فقول "لا إله إلا الله" عندهم هو ذكر العامة، وأما ذكر الخاصة: فهو الاسم المفرد: "الله"، وذكر خاصة الخاصة: "هو"،  قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن زعم أن هذا الدين، أي: قول لا إله إلا الله ذكر العامة، وأن ذكر الخاصة هو: الاسم المفرد، وذكر خاصة الخاصة: هو، أي الاسم المضمر، فهو ضال مضل، واحتجاج بعضهم على ذلك بقوله تعالى: ﴿قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ [الأنعام الآية: 91]، من أبين غلط هؤلاء، بل من تحريفهم للكلم عن مواضعه، فإن الاسم: "الله"، مذكور في الأمر بجواب الاستفهام في الآية قبله، وهو قوله تعالى: ﴿من أنزل الكتب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس﴾ إلى قوله تعالى: ﴿قل الله﴾، أي: الله هو الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى. فالاسم: "الله" مبتدأ، خبره دل عليه الاستفهام، كما في نظائر ذلك: نقول: من جارك؟ فيقول: زيد، وأما الاسم المفرد مُظهرًا ومضمرًا فليس بكلام تام، ولا جملة مفيدة، ولا يتعلق به إيمان ولا كفر ولا أمر ولا نهي، ولم يذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعطي القلب نفسه معرفة مفيدة، ولا حالًا نافعًا، وإنما يعطيه تصورًا مطلقًا لا يحكم فيه بنفي ولا إثبات، إلى أن قال: وقد وقع بعض من واظب على هذا الذكر بالاسم المفرد وبـ: هو، في فنون من الاتحاد، وما يذكر عن بعض الشيوخ في أنه قال: أخاف أن أموت بين النفي والإثبات، حال لا يقتدى فيها بصاحبها، فإنّ في ذلك من الغلط ما لا خفاء به، إذ لو مات العبد في هذه الحال لم يمت إلا على ما قصده ونواه، إذ الأعمال بالنيات، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتلقين الميت لا إله إلا الله، وقال: [من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة]،  ولو كان ما ذكره محظورًا لم يلقن الميت كلمة يخاف أن يموت في أثنائها موتًا غير محمود، بل كان ما اختاره من ذكر الاسم المفرد، والذكر بالاسم المضمر أبعد عن السنة، وأدخل في البدعة، وأقرب إلى إضلال الشيطان، فإن من قال: يا هو يا هو، أو: هو:، ونحو ذلك لم يكن الضمير عائدًا إلا إلى ما يصوره قلبه، والقلب قد يهتدي وقد يضل، وقد صنّف صاحب الفصوص -أي: ابن عربي- كتابًا سماه كتاب: "الهو"، وزعم بعضهم أن قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ﴾ [ال عمران الآية: 7]، معناه: وما يعلم تأويل هذا الاسم الذي هو الـ"هو"، وهذا مما اتفق المسلمون -بل العقلاء- على أنه من أبين الباطل، فقد يظن ذلك من يظنه من هؤلاء، حتى قلت لبعض من قال شيئًا من ذلك: لو كان هذا كما قلته لكتبت الآية: [وما يعلم تأويل هو] منفصلة، [رسالة العبودية ص: 117-118 طبعة الإفتاء]، أي كتبت: هو، منفصلة عن: تأويل.

4-  غلو المتصوفة في الأولياء والشيوخ خلاف عقيدة أهل السنة والجماعة، فإن عقيدة أهل السنة والجماعة موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ [المائدة الآية: 55]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء﴾ [الممتحنة الآية: 1]، وأولياء الله هم المؤمنون المتقون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ويجب علينا محبتهم والاقتداء بهم واحترامهم، وليست الولاية وقفًا على أشخاص معينين، فكل مؤمن تقي فهو ولي لله -عز وجل-، وليس معصومًا من الخطأ، هذا معنى الولاية والأولياء وما يجب في حقهم عند أهل السنة والجماعة، أما الأولياء عند الصوفية فلهم اعتبارات ومواصفات أخرى، فهم يَمنحون الولاية لأشخاص معينين من غير دليل من الشارع على ولايتهم، وربما منحو الولاية لمن لم يُعرف بإيمان ولا تقوى، بل قد يعرف بضد ذلك من الشعوذة والسحر واستحلال المحرمات، وربما فضّلوا من يدعون لهم الولاية على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، كما يقول أحدهم:

مقام النبوة في برزخ

فويق الرسول ودون الولي

ويقولون: إن الأولياء يأخذون من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول، ويدعون لهم العصمة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -يرحمه الله-: وكثير من الناس يغلط في هذا الموضع فيظن في شخص أنه ولي الله، ويظن أن ولي الله يُقبل منه كل ما يقوله، ويسلم إليه كل ما يقوله، ويسلم إليه كل ما يفعله، وإن خالف الكتاب والسنة، فيوافق ذلك الشخص، ويخالف ما بعث الله به الرسول الذي فرض الله على جميع الخلق تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر، إلى أن قال: وهؤلاء مشابهون للنصارى الذين قال الله فيهم: ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة الآية:  31]، وفي المسند وصححه الترمذي عن عدي بن حاتم في تفسير هذه الآية، لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: ما عبدوهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أحلّوا لهم الحرام، وحرّموا عليهم الحلال، فأطاعوهم، وكانت هذه، عبادتهم إياهم، إلى أن قال: وتجد كثيرًا من هؤلاء في اعتقاد كونه وليًّا لله أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور، أو بعض التصرفات الخارقة للعادة، مثل أن يشير إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها، أو يمشي على الماء أحيانًا، أو يملأ إبريقًا من الهواء، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فراه قد جاءه فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سُرق لهم، أو بحال غائب لهم، أو مريض أو نحو ذلك، وليس في هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي لله، بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته للرسول صلى الله عليه وسلم، وموافقته لأمره ونهيه، وكرامات أولياء الله أعظم من هذه الأمور، وهذه الأمور الخارقة للعادة، وإن كان قد يكون صاحبها وليًّا لله، فقد يكون عدوًّا لله، فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين، وتكون لأهل البدع، وتكون من الشياطين، فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي لله، بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة، ويعرفون بنور الإيمان والقرآن، وبحقائق الإيمان الباطلة، وشرائع الإسلام الظاهرة، مثال ذلك أن هذه الأمور المذكورة وأمثالها قد توجد في أشخاص ويكون أحدهم لا يتوضأ ولا يصلي الصلوات المكتوبة، بل يكون ملابسًا للنجاسات معاشرًا للكلاب، يأوي إلى الحمامات والقمامين والمقابر والمزابل، رائحته خبيثة لا يتطهر الطهارة الشرعية ولا يتنظف، إلى أن قال: فإذا كان الشخص مباشرًا للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان، أو يأوي إلى الحمامات والحشوش التي تحضرها الشياطين، أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير وآذان الكلاب التي هي خبائث وفواسق، أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبها الشيطان، أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات ويتوجه إليها، أو يسجد إلى ناحية شيخه، ولا يخلص الدين لرب العالمين، أو يلابس الكلاب أو النيران، أو يأوي إلى المزابل والمواضع النجسة، أو يأوي إلى المقابر ولا سيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى والمشركين، أو يكره سماع القرآن وينفر عنه، ويقدِّم عليه سماع الأغاني والأشعار، ويؤثر سماع مزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن، فهذه علامات أولياء الشيطان لا علامات أولياء الرحمن]. [مجموع الفتاوى ج11/210-216].

ولم يقف الصوفية عند هذا الحد من منح الولاية لأمثال هؤلاء، بل غلوا فيهم حتى جعلوا فيهم شيئًا من صفات الربوبية، وأنهم يتصرفون في الكون، ويعلمون الغيب، ويجيبون من استغاث بهم بطلب ملا يقدر عليه إلا الله، ويسمونهم: الأغواث والأقطاب والأوتاد، يهتفون بأسمائهم في الشدائد، وهم أموات أو غائبون، ويطلبون منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، وأضفوا عليهم هالة من التقديس في حياتهم، وعبدوهم من دون الله بعد وفاتهم، فبنوا على قبورهم الأضرحة وتبركوا بتربتهم، وطافوا بقبورهم، وتقربوا إليهم بأنواع النذور، وهتفوا بأسمائهم في طلباتهم، هذا منهج الصوفية في الولاية والأولياء.

5-  من دين الصوفية الباطل تقربهم إلى الله بالغناء والرقص، وضرب الدفوف والتصفيق، ويعتبرون هذا عبادة لله، قال الدكتور صابر طعيمة في كتابه: "الصوفية مُعتقدًا ومَسلكًا": [أصبح الرقص الصوفي الحديث عند معظم الطرق الصوفية في مناسبات الاحتفال بموالد بعض كبارهم أن يجتمع الأتباع لسماع النوتة الموسيقية التي يكون صوتها أحيانًا أكثر من مائتي عازف من الرجال والنساء، وكبار الأتباع يجلسون في هذه المناسبات يتناولون ألوانًا من شرب الدخان، وكبار أئمة القوم وأتباعهم يقومون بمدارسة بعض الخرافات التي تنسب لمقبوريهم، وقد انتهى إلى علمنا من المطالعات أن الأداء الموسيقي لبعض الطرق الصوفية الحديثة مستمد مما يسمى "كورال صلوات الآحاد المسيحية"]. وقال شيخ الاسلام ابن تيمية مُبينًا وقت حدوث هذا وموقف الأئمة منه ومِن الذي أحدثه: [اعلم أنه لم يكن في عنفوان القرون الثلاثة المفضلة، لا بالحجاز ولا بالشام ولا باليمن ولا مصر ولا المغرب ولا العراق ولا خراسان من أهل الدين والصلاح والزهد والعبادة من يجتمع على مثل سماع المكاء والتصدية، لا بِدُفٍّ ولا بِكفٍّ ولا بقضيب، وإنما أُحدث هذا بعد ذلك في أواخر المائة الثانية، فلما رآه الأئمة أنكروه، فقال: الشافعي رضي الله عنه: خَلَّفتُ ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة يسمونه "التغبير"، يصدون به الناس عن القرآن، وقال يزيد بن هارون: ما يغبر إلا فاسق، ومتى كان التغبير؟ وسئل الإمام أحمد فقال: أكرهه هو محدث، قيل: أتجلس معهم؟ قال، لا، وكذلك سائر أئمة الدين كرهوه، وأكابر الشيوخ الصالحين لم يحضروه، فلم يحضره إبراهيم بن أدهم ولا الفضيل بن عياض ولا معروف الكرخي ولا أبو سليمان الداراني ولا أحمد بن أبي الحواري والسري السقطي وأمثالهم، والذين حضروه من الشيوخ المحمودين تركوه في آخر أمرهم، وأعيان المشايخ عابوا أهله، كما فعل ذلك عبد القادر والشيخ أبو البيان وغيرهما من المشايخ، وما ذكره الشافعي -يرحمه الله- من أنه من إحداث الزنادقة، كلام إمام خبير بأصول الإسلام، فإن هذا السماع لم يرغِّبْ فيه ويدعُ إليه في الأصل إلا من هو متهم بالزندقة، كابن الراوندي والفارابي وابن سينا وأمثالهم، إلى أن قال: وأما الحنفاء أهل ملة إبراهيم الخليل، الذي جعله الله إمامًا، وأهل دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينًا غيره، المتبعون لشريعة خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم فليس فيهم من يرغِّب في ذلك ولا يدعو إليه، وهؤلاء هم أهل القرآن والإيمان والهدى والسعد والرشاد والنور والفلاح وأهل المعرفة والعلم واليقين والإخلاص لله والمحبة له والتوكل عليه والخشية له والإنابة إليه، إلى أن قال: ومن كان له خبرة بحقائق الدين وأحوال القلوب ومعارفها وأذواقها ومواجيدها عرف أن سماع المكاء والتصدية لا يجلب للقلوب منفعة ولا مصلحة إلا وفي ضمن ذلك من الضرر والمفسدة ما هو أعظم منه، فهو للروح كالخمر للجسد، ولهذا يورث أصحابه سُكرًا أعظم من سكر الخمر، فيجدون لذة بلا تمييز، كما يجد شارب الخمر، بل يحصل لهم أكثر وأكبر مما يحصل لشارب الخمر، ويصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة أعظم مما يصدهم الخمر، ويوقع بينهم العداوة والبغضاء أعظم من الخمر، وقال أيضًا: وأما الرَّقص فلم يأمر الله به ولا رسوله، ولا أحد من الأئمة، بل قد قال الله في كتابه: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ﴾ [لقمان الآية: 19]، وقال في كتابه: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً﴾ [الفرقان الآية: 63]، أي: بسكينة ووقار، وإنما عبادة المسلمين الركوع والسجود، بل الدُّفّ والرقص لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا أحد من سلف الأمة، قال: وأما قول القائل "هذه شَبَكة يُصاد بها العوام" فقد صدق، فإن أكثرهم إنما يتخذون ذلك شبكة لأجل الطعام والتوانس على الطعام، كما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ﴾  [التوبة الآية: 34]، ومن فعل هذا فهو من أئمة الضلال الذين قيل في رؤوسهم: ﴿رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً﴾ [الأحزاب الآيتان: 67-68]، وأما الصادقون منهم يتخذونه شبكة، لكن هي شبكة مخرقة، يخرج منها الصيد إذا دخل فيها، كما هو الواقع كثيرًا، فإن الذين دخلوا في السماع المبتدع في الطريق ولم يكن معهم أصل شرعي شرعه الله ورسوله، أورثهم أحوالًا فاسدة] [مجموع الفتاوى [ج11/ 569-574].

فهؤلاء الصوفية الذين يتقربون إلى الله بالغناء والرقص يصدق عليهم قول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً﴾ [الأعراف الآية: 51].

6-  ومن دين الصوفية الباطل ما يسمونه بالأحوال التي تنتهي بصاحبها إلى الخروج عن التكاليف الشرعية نتيجة لتطور التصوف، فقد كان أصل التصوف، كما ذكره ابن الجوزي: [رياضة النفس، ومجاهدة الطبع برده عن الأخلاق الرذيلة وحمله على الأخلاق الجميلة من الزهد والحلم والصبر والإخلاص والصدق، قال: وعلى هذا كان أوائل القوم، فلبَّس إبليس عليهم في أشياء، ثم لبّس على مَن بعدهم من تابعيهم، فكلما مضى قرن زاد طمعه في القرن الثاني، فزاد تلبُّسه عليهم، إلى أن تمكّن من المتأخرين غاية التمكن، وكان أصل تلبيسه عليهم أن صدَّهم عن العلم وأراهم أن المقصود العمل، فلما أطفأ مصباح العلم عندهم تخبّطوا في الظلمات، فمنهم من أراه أن المقصود من ذلك ترك الدنيا في الجملة، فرفضوا ما يُصلِح أبدانَهم، وشبهوا المال بالعقارب، ونسوا أنه خُلِق للمصالح، وبالغوا في الحمل على النفوس، حتى إنه كان فيهم مَن لا يضطجع، وهؤلاء كانت مقاصدهم حسنة، غير أنهم على غير الجادة، وفيهم من كان لقلة علمه يعمل بما يقع إليه من الأحاديث الموضوعة وهو لا يدري، ثم جاء أقوام فتكلموا لهم في الجوع والفقر والوساوس والخطرات وصنفوا في ذلك، مثل الحارث المحاسبي، وجاء آخرون فهذبوا مذهب الصوفية وأفردوه بصفات ميزوه بها من الاختصاص بالمرقعة والسماع والوجد والرقص والتصفيق، وتميزوا بزيادة النظافة والطهارة، ثم ما زال الأمر ينمى والأشباح يضعون لهم أوضاعًا ويتكلمون بواقعاتهم، ويتفق بُعدهم عن العلماء لا بل رؤيتهم ما هم فيه أوفى العلوم حتى سموه العلم الباطن، وجعلوا علم الشريعة العلم الظاهر، ومنهم من خرج به الجوع إلى الخيالات الفاسدة فادعى عشق الحق والهيمان فيه، فكأنهم تخايلوا شخصًا مستحسن الصورة فهاموا به، وهؤلاء بين الكفر والبدعة، ثم تشعبت بأقوام منهم الطرق ففسدت عقائدهم، فمن هؤلاء من قال بالحلول، ومنهم من قال بالاتحاد، وما زال إبليس يخبطهم بفنون البدع حتى جعلوا لأنفسهم سننًا] [تلبيس إبليس ص [157، 158].

وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن قوم داوموا على الرياضة مرة فرأوا أنهم قد تجوهروا، فقالوا" "لا نبالي الآن ما عملنا، وإنما الأوامر والنواهي رسوم العوام، ولو تجوهروا لسقطت عنهم، وحاصل النبوة يرجع إلى الحكمة والمصلحة، والمراد منها ضبط العوام، ولسنا نحن من العوام، فندخل في حجر التكليف لأنا قد تجوهرنا وعرفنا الحكمة" فهل هذا القول كفر من قائله، أم يبدع من غير تكفير؟ وهل يصير ذلك عمن في قلبه خضوع للنبي صلى الله عليه وسلم؟

فأجاب: لا ريب عند أهل العلم والإيمان أن هذا القول من أعظم الكفر وأغلطه، وهو شر من قول اليهود والنصارى، فإن اليهودي والنصراني آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، وأولئك هم الكافرون حقًّا، كما ذكر أنهم يقرُّون أن لله أمرًا ونهيًا، ووعدًا ووعيدًا، وأن ذلك مُتناوِل لهم إلى حين الموت، هذا إن كانوا متمسكين باليهودية والنصرانية المبدلة المنسوخة، وأما إن كانوا من منافقي أهل ملتهم كما هو الغالب على متكلميهم ومتفلسفتهم كانوا شرًّا من منافقي هذه الأمة، حيث كانوا مظهرين للكفر ومبطنين للنفاق، فهم شر ممن يظهر إيمانًا ويبطن نفاقًا، والمقصود أن المتمسكين بجملة منسوخة فيها تبديل خير من هؤلاء الذين يزعمون سقوط الأمر والنهي عنهم بالكلية، فإن هؤلاء خارجون في هذه الحال من جميع الكتب والشرائع والملل، لا يلتزمون لله أمرًا ولا نهيًا بحال، بل هؤلاء شر من المشركين المتمسكين ببقايا من الملل، كمشركي العرب الذين كانوا متمسكين ببقايا من دين إبراهيم عليه السلام، فإن أولئك معهم نوع من الحق يلتزمونه، وإن كانوا مع ذلك مشركين، وهؤلاء خارجون عن التزام شيء من الحق، بحيث يظنون أنهم قد صاروا سُدىً لا أمر عليهم ولا نهي، إلى أن قال: ومن هؤلاء من يحتج بقوله: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر الآية: 99]، ويقول معناها: اعبد ربك حتى يحصل لك العلم والمعرفة، فإذا حصل ذلك سقطت العبادة، وربما قال بعضهم: اعمل حتى يحصل لك حال، فإذا حصل لك حالٌ تَصَوُّفيٌّ سقطت عنك العبادة، وهؤلاء فيهم من إذا ظن حصول مطلوبه من المعرفة والحال استحل ترك الفرائض وارتكاب المحارم، وهذا كفر كما تقدم، إلى أن قال: فأما استدلالهم بقوله تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر الآية: 99] فهي عليهم لا لهم، قال الحسن البصري: [إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلًا دون الموت] واقرأ قوله: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر الآية: 99]، وذلك أن اليقين هنا: الموت وما بعده، باتفاق علماء المسلمين، وذلك مثل قوله: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ. قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ إلى قوله تعالى ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ. وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ. حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾ [المدثر الآيات: [42-47]، فهذا قالوه في جهنم، وأخبروا أنهم كانوا على ما هم عليه من ترك الصلاة والزكاة والتكذيب بالآخرة، والخوض مع الخائضين، حتى أتاهم اليقين، ومعلوم أنهم مع هذا الحال لم يكونوا مؤمنين بذلك في الدنيا، ولم يكونوا مع الذين قال الله فيهم: ﴿وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة الآية: 4]، وإنما أراد بذلك أنه أتاهم ما يوعدون وهو اليقين] [مجموع الفتاوى [ج11/ 401، 402، 417، 418].

فالآية تدل على وجوب العبادة على العبد منذ بلوغه سن التكليف عاقلًا إلى أن يموت، وأنه ليس هناك حال قبل الموت ينتهي عندها التكليف كما تزعمه الصوفية.

 الخاتمة

وبعد: فهذا هو دين الصوفية قديمًا وحديثًا، وهذا موقفهم من العبادة، ولم ننقل عنهم إلا القليل مما تضمنته كتبهم وكتب منتقديهم، وما تدل عليه ممارساتهم المعاصرة، ولم أتناول إلا جانبًا واحدًا من جوانب البحث حولهم هو جانب العبادة وموقفهم منها، وبقيت جوانب أخرى تحتاج إلى محاضرات، ومحاضرات كموقفهم من التوحيد، وموقفهم من الرسالات، وموقفهم من الشريعة والقدر، إلى غير ذلك.

هذا وأسأل الله -عز وجل- أن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.