اعتدنا على سماع تعليمات طاقم الطائرة عن أهمية الاهتمام بأنفسنا أولاً ثم بالغير عند التعرض لخطر ما أثناء الرحلة.
وما أشبه هذه التعليمات بما فعله قساوسة العالم عندما طلبوا من أتباعهم اللجوء إلى الخالق مباشرة وتفادي الاقتراب منهم خوفًا من العدوى بعد جائحة الكورونا.
وتهافت من يلجأ إلى الأصنام بالطلب والعبادة إلى تعقيم آلهتهم وعدم الاقتراب منها خشية العدوى.
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ( فاطر : 14).
وكأن البشر هم الفيروس نتيجة أفعالهم وكورونا هو العلاج.
فضاقت على البشر الدنيا.
... حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (التوبة :118).
وكأن فيروس الكورونا من أقوى الرسائل الربانية التي تقول للبشر:
في لحظة معينة عاجلاً أم آجلاً سوف يلجأ الجميع إلى مصدر وجوده طوعًا أو كرهًا.
فمهما اعتمدنا على بعضنا البعض، واجتهدنا لإسعاد البشرية، فسيأتي يوم نعجز نحن والبشرية عن إنقاذ أنفسنا، ونشعر بحاجتنا إلى مصدر أكبر وأقدر من الجميع، مستقل بذاته، ولا يعتمد على غيره.
هذا المصدر الذي هو خالق بوذا ورام وكريشنا، خالق الرهبان والقديسين والقسيسين، خالق أنبياء الله محمد والمسيح عليهما الصلاة والسلام. فلا يجوز الطلب من المخلوق.
فلا يوجد تثليث ولا ألوهية لنبي، ولا تقديس لنار ولا صنم أو حجر، ولا يطلب من الأعراق المختلفة البحث عن إله خاص بهم، ولا يوجد إله للخير وإله للشر.
في صغري كان أبي بالنسبة لي الرجل الخارق (سوبر مان) الذي لا يعجزه شيء، يلبي طلباتي مهما عظمت في نظري. لا أراه يتعب ولا يكل في تحقيق أمنياتي. لم أحب أن أراه متعبًا أو مريضًا قط، فهو بالنسبة لي البطل الذي لا يتعب.
وكثيرًا ما كنا نسمع عبارة "المرأة والطفل الصغير يظنان الرجل على كل شيء قدير". رغبتنا هذه كبشر في وجود مصدر القدرة المطلقة والتي جسدها البشر بشخصية سوبرمان، إنما تنبع من فطرة زُرعت في قلوبنا على حقيقة وجود قوة عليا مختلفة عن البشر، منزهة عن الصفات البشرية، وقادرة على كل شيء.
فكما كان موت أبي بالنسبة لي حقيقة أكدت لي أنه كبشر يتعب ويحتاج ويموت، أيضًا أكدت لي وجود قوة عظيمة لا تعتمد على غيرها، مستقلة بذاتها ولا تتعب ولا تحتاج ولا تموت، وهي قوة الخالق جل جلاله.
لهذا فأنا دائمًا أركز في محاضراتي وحواراتي مع المسلمين وغير المسلمين على أهمية المفهوم الحقيقي للخالق، والذي تشوه في جميع ديانات الأرض ما عدا في الإسلام، الديانات التي جعلت الخالق كالبشر له ولد، يتعب، يجهل، يندم ويتحسر، وانتهت بوحدة هذا الخالق مع المخلوق، وجعل الخالق يظهر في حشرة أو شجرة أو حيوان أو إنسان. الأفظع من ذلك أن جعلوا الخالق الخطيئة نفسها، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا.
سألني شاب أمريكي يومًا عن كيفية الموازنة بين حاجتنا الملحة للتواصل مع مصدر وجودنا للفوز بالنعيم اﻷبدي وبين متع الحياة؟
قلت له:
أنت عندما يكون لديك اختبار مهم مصيري في اليوم التالي، هل تقضي الليلة في التفكير بوجبة اﻹفطار الصباحية أم في الاختبار؟
قال: أقضي ليلتي أفكر في الاختبار.
قلت له:
متع الحياة هي وجبة اﻹفطار، أما التعرف على الهدف من وجودك، مصدر وجودك، مآلك بعد الموت، والتواصل مع مصدر وجودك هو الاختبار. فلا تعارض بينهما.
فمهما تنوعت وجبة اﻹفطار وغلا ثمنها وكانت في أرفه المطاعم فلن تشغل فكر من يريد التفوق في الاختبار.
قال الشاب:
أعجبتني جدًا فكرة التواصل مع الخالق مباشرة وليس من خلال قسيس.
قلت له:
اﻷمر في الواقع أكبر من فكرة إعجاب أو عدم إعجاب، تواصلك مع الخالق مباشرة حق من حقوقك.
فحق الخالق على مخلوقاته عبادته وحده، وحق المخلوقات التواصل معه مباشرة.
لطالما لفت نظري تعلق شباب هذه اﻷيام في وسائل التواصل الاجتماعي وخصوصًا قبل انتشار استخدام الكاميرات بهذه الصورة الكبيرة، وقلت في نفسي:
قد يتكلم الشاب مع صديقه لسنوات دون أن يراه، وقد يشعر براحة وانسجام بالتحدث معه في كل مرة، وحين يلقاه مباشرة وجهًا لوجه تكون السعادة الغامرة.
فما أن أُسأل عن سبب تعلق المسلم الشديد بالصلاة ولقائه المتكرر مع خالقه يوميًا في أية لحظة ومن خلال الصلوات الخمس أذكر له هذا المثال التقريبي.
فعندما يتواصل المسلم مع خالق الكون ليتوب من ذنب أو لشكر نعمة أو لطلب حاجة، ومن خلال اعترافه أن ما أصابه من سوء كان من نفسه وما حصل عليه من خير كان من الخالق، يكون قد حقق هدف وجوده، وملئت نفسه السكينة وأصبحت حياته تتنقل من سعادة إلى سعادة، وتكون لحظة لقائه مع خالقه بعد الموت أسعد لحظات حياته.و
سألني شاب عشريني من دولة تشيلي عن مفهوم وحدة الوجود (أن الخالق والكون حقيقة واحدة)، وتعجبت عندما أعطاني المصطلح باللغة العربية مع أن الحوار كان باللغة الإسبانية، وسألته عن ذلك.
حيث قال:
لقد كلمني عن هذا المفهوم أحد أقاربي، فأنا من أصول عربية نصرانية.
تعجبت كثيرًا وقلت في نفسي: ما أصعب هذه الأوقات التي يعيشها شباب هذا اليوم، والتي تشوهت فيه المفاهيم وعجز الشباب أن يفرقوا بين حقيقة وجودهم وأصل هذا الوجود.
قلت للشاب:
إذا كان لديك سلك كهربائي مصمم بشكل دائري الشكل، فإنه باستطاعتك بطريقة ما أن تجعله مربع الشكل. لكن من المستحيل أن تطلق عليه لفظ دائري ومربع في نفس الوقت.
فإما أن يبقى دائري، أو أن يتحول إلى مربع.
الغريق الذي ينتظر يد العون لإنقاذه من الموت والهلاك لن يرضيه أن يتحد مع مياه البحر كوسيلة لإنقاذه. هو يبحث عن كائن مستقل عنه يأخذ بيده ويخرجه من الجحيم الذي يعيشه بمواجهة خطر الموت.
كيف لمن يلتقط صورة من هاتفه الشخصي أن يصبح هو وهاتفه والصورة شيئًا واحدًا.
كيف لمن يلعب الألعاب الإلكترونية أن يكون جزء من اللعبة؟
نحن بحاجة إلى قوة أعظم من الجميع تتكفل بخلاصنا وأمننا بعد الموت، لا لأن يتحد معنا ونصبح كلانا بلا ملامح.
الخالق عظيم غير محدود، أزلي، هو أول قبل كل شيء، وآخر بعد كل شيء، ولا يسعه أحد من مخلوقاته.
تنتشر في العالم اليوم مطالبات بتنبي مفهوم صحة جميع الديانات ونسبية الحقيقة لرفع شعار دين عالمي.
أكتب هذا الكتاب لأثبت أن الحقيقة مطلقة شئنا أم أبينا، والدين واحد، وهو:
الاعتراف بخالق الكون الذي ليس له ولد ولا شريك، وأنه هو المعبود الحق، والذي لا يتجسد في صورة إنسان ولا حيوان، ولا
يتحد مع مخلوقاته. وعلى الجميع التواصل مع هذا الخالق مباشرة وليس من خلال قديس ولا قسيس. والاعتراف بيوم آخر يحاسب الخالق فيه البشر على أعمالهم. ونستطيع أن نعيش بسلام ونحصل على دين عالمي بهذه الطريقة فقط.
أدعو الخالق العلي القدير أن يتقبل مني هذا العمل، وأن يجعله مصدر هداية للجميع.
طلب روبرت باول الممثل الذي لعب دور "يسوع" في فيلم "يسوع الناصري" (1977) من الناس التوقف عن عبادته وكأنه يسوع الحقيقي. فإنه من الشائع أن نرى العديد من المؤمنين بألوهية المسيح وهم يضعون صورًا ليسوع المسيح في كنائسهم ومنازلهم أو مكاتبهم. يستخدم البعض هذه الصور للصلاة، بينما يزعم البعض الآخر أنها تجلب لهم الحظ السعيد. لكن ما يغيب عن بال الكثير منهم هو أن الشخص الموجود على الصورة ليس كذلك، ولا يمكن أن يكون يسوع المسيح.
قال روبرت:
"أنا هنا لتصويب حقيقة كانت تغضبني لفترة من الوقت الآن أرى العديد من الأشخاص يلمحون إلى بعض الرجال البيض الوسيمين ليكونوا يسوع. من يعرف ما إذا كان أسود أم أبيض؟ لكن الأمر لا يتعلق بالألوان، فهذا خطأ متعمد في الهوية، يكاد لا يُغتفر".
وهذا أكبر دليل على أنه لا بد للإنسان من الإيمان، سواءً كان الإيمان بالإله الحق أو بأي إله باطل. وكلٌّ من روبرت والمسيح إله باطل، فالمسيح بشر خلقه الخالق بلا أب كنبي عظيم مرسل منه تعالى كما خُلق آدم بلا أب ولا أم، وروبرت ممثل بشر.
هل يقبل اﻹنسان أن يأتي من يغير بياناته في هويته الشخصية، فهو في هذه الحالة يصبح شخصًا آخر أصلاً.
سألني طفل صغير لأسرة بريطانية يومًا قائلاً؟
لماذا يجبرنا الله على عبادته وهو الغني عنا؟ لماذا يخيفنا بالنار ؟
قلت له:
ألا يجبرك أباك على الذهاب إلى المدرسة؟
ألا تحذرك أمك من عدم ترتيب غرفتك ؟
ألا يخيفك أستاذك في المدرسة من الرسوب، ويتوعدك بالعقاب؟
حياتنا بين افعل وستجازى، ولا تفعل وستعاقب.
ألا يتفادى والدك التوقف في الأماكن الغير مسموح الوقوف بها خشية دفع الغرامة في الطريق العام؟
إنك حين تقتني حيوانًا أليفًا في منزلك، فأقصى ما ترجوه منه هو الطاعة، وهذا لأنك اشتريته فقط ولم تخلقه، فما بالك بخالقك وبارئك، ألا يستحق منك الطاعة والعبادة والاستسلام والشكر، ونحن مستسلمون رغمًا عنا في هذه الرحلة الدنيوية في كثير من الأمور.
قلبنا ينبض، جهازنا الهضمي يعمل، حواسنا تدرك على أكمل وجه، وما علينا إلا أن نُسلِّم لله بباقي أمورنا التي خُيِّرنا فيها لنصل سالمين إلى بر الأمان.
نحن نعيش في أرضه ونأكل من رزقه بدون مقابل، فلا بد أن تُقابل هذه النعم بالاعتراف بفضل مُنعمها. وإلا فإن الجحود وعدم الاعتراف بالفضل هو تقليل من قدر المُنعم.
قد يقدس البشر أي مخلوق، فيمكن أن يسميه إلهًا أو يسميه أي شي آخر، وقد يكون الإله شجرة أو نجمًا في السماء أو امرأة أو رئيسه في العمل أو نظرية علمية أو حتى هوىً في نفسه، لكن لابد له من الإيمان بشيء يتبعه ويقدسه ويرجع له في نهج حياته وقد يموت لأجله، وهذا ما نسميه العبادة. فعبادة الإله الحق تحرر الإنسان من "العبودية" للآخرين والمجتمع، ولهذا يحذر اﻹله الحق البشر من عبادة غيره ليحميهم من أنفسهم، وليس بهدف تعذيبهم.
قال الطفل:
لماذا علينا أن نفرغ وقت للعبادة، أليس وقتنا من حقنا؟
قلت له:
ومن أعطاك الحق في هذا الوقت أصلاً؟ أليس الخالق نفسه؟
أنت برغبتك بإطلاق غرائزك، تريد أن تكون عبدًا لها، والله يريدك أن تكون سيدًا عليها، يريدك الله إنسانًا عاقلاً حكيمًا يتحكم في غرائزه. فليس المطلوب منك تعطيل الغرائز بل توجيهها للارتقاء بالروح وسمو النفس.
عندما يُلزم اﻷب أولاده بتخصيص بعض الوقت في المذاكرة ليحصلوا على مكانة علمية في المستقبل مع رغبتهم في اللعب فقط، يحترمه الجميع ولا يتهمه بالقسوة.
l يقول المشكك: أنا أؤمن بوجود قوة وطاقة في السماء أوجدت هذا الكون.
l يلجأ الملحد عند شعوره بالخوف الشديد إلى القوة التي في السماء[1].
l في تقاليد البوذي اللجوء إلى القوة التي في السماء عند سماعه لصوت الرعد المخيف[2].
l في عقيدة الهندوس أن القوة التي في السماء هي الإله الواحد الأحد الذي يلجأون إليه عند انقطاع الأسباب الدنيوية[3].
l يلجأ الزنجي البدائي إلى القوة التي في السماء لنجدته عند التعرض لخطر.
ويقول الجميع القوة التي في السماء وليس القوى، مما يدل على اﻹعتراف ضمنًا بإله واحد أحد.
ويقولون في المثل الغربي، والذي انتشر في وقت ما من الحرب العالمية الثانية: "لا ملحدين في الخنادق". بمعنى أن الجميع يقر بوجود خالقه عند اﻷزمات. فيلجأ الإنسان إلى ما يعتقد به حقًا، ويتوقف عن خداع نفسه لأنه قد واجه خطرًا حقيقيًا.
ومن الطريف أنه في برنامج صباح الخير يا أمريكا سنة 2005، وفي مقطع عن إعصار كاترينا، قال المضيف: «ليس هناك ملحدين في الخنادق أو أماكن الأعاصير». طلبت بعدها منظمة الملحدين الأمريكيين تراجعًا عن العبارة وحصلت عليه. وما هذا إلا من دلائل خداع بعض البشر لأنفسهم.
ما أعظم سر هذه القوة التي في السماء والتي تمثل مصدر الوجود، والتي يلجأ إليها الجميع في الضراء، بينما يلجأ إليها المسلم في السراء والضراء، ولو لجأ إليها الجميع كما يفعل المسلم في السراء والضراء لسوف تتوحد البشرية.
والكامل واحد لا يتعدد، ولماذا يتعدد وماذا ينقصه ليجده في إله آخر غيره؟
في حوار لي مع طبيب هندوسي مدافع عن مفهوم وحدة الوجود حيث قلت له:
ما دام الإله يحل بكل شيء، إذًا ما معنى ممارسة طقوس من أجل الوصول للتوحد والنيرفانا والموكشا؟ هذان المصطلحان اللذين يرمزان لحياة سلام بلا تعب وبلا معاناة في الهندوسية والبوذية.
كيف تصل لشيء هو فيك وأنت فيه؟
لماذا تحرصون على التخلص من الزلات والخطايا وعدم المعصية ما دامت المعصية ضمن وحدة الوجود؟
كيف للإله نفسه أن يكون هو الخطيئة من خلال حلوله في كل شيء حسب عقيدتكم؟
كيف يكون الشيء سببًا لظهور نفسه إذا لم يكن قد ظهر بعد أصلاً؟
ما الفرق بين الإيمان بمفهوم "الروح الكلية" الذي هو غيبي، والإيمان بخالق للكون و الذي هو غيبي أيضًا؟ غير أن الأول غير منطقي عقلاً ومهين للإنسان، والثاني يوافق العقل والمنطق والعلم ويكرم الإنسان ويرفع من شأنه.
فالروح الكلية تعني أنه لا يوجد خالق ومخلوق.
إذًا من أوجدها و من أوجد العالم؟
وإذا كانت كائنات فضائية قد أوجدت العالم فمن أوجد الكائنات الفضائية؟
وإذا كان هناك عوالم أخرى قد ساعدت في إيجاد العالم فمن أوجد العوالم الأخرى؟
إذًا غاية الوجود يجب أن تكون معرفة مصدر الوجود وهو الخالق، وليس الاتحاد بمصدر الوجود. فهذا الإتحاد عبارة عن خلاص وهمي لشيء غير موجود.
إذًا عندما يعيب غير المسلم على المسلم إيمانه بالغيبيات، نجد بالمقابل من يتنبى أفكار مشابهة جدًا من أتباع وحدة الوجود بتواصله مع عوالم أخرى بعد الإتحاد مع المطلق بممارستهم للتأمل السكوني حسب زعمهم. الديانات الوضعية لا تؤمن بالملائكة لكنها تؤمن بأرواح خير وأخرى شريرة، وهذا غيب .ونجد الصيني الملحد يؤمن بدلالات وهمية لبعض الأرقام وتنبؤات مستقبلية وأمور غيبية قد يتعرض لها[4].
فاجأني ألماني مسن بإعجابه بالبوذية وكرهه الشديد للإسلام، متذرعًا بأن البوذية دين يدعو إلى تحقيق السلام الداخلي والإسلام يدعو إلى العنف.
قلت له:
بدايةً فإنه من أهم تعليمات جوتاما بوذا أنه لا سبب يأتي بدون مسبب[5].
وتوافق هذا مع ما جاء به العلم الحديث مؤخرًا، وهو أن الكون يتوسع إذًا له نقطة بداية ونهاية، ووراء نقطة البداية سبب عظيم كان وراء نظرية الانفجار الكبير إن صحت النظرية[6].
لقد تكلم الإسلام بوضوح عن حقيقة وجود خالق للكون، والذي خلق البشر لهدف معين. علمًا بأن القرآن الكريم ثابت لم ولن يتغير، والعلم المادي ظني وتجريبي ودائم التغير.
وبدأت نقاشًا بعدها مع السائل من خلال عمل مقارنة بين تعاليم البوذية وتعاليم القرآن الكريم كما يلي:
تحدث جوتاما بوذا عن أربعة حقائق فقط:
l تحدث جوتاما بوذا عن حقيقة المعاناة (وجود اﻹنسان في الدنيا وما يترتب على وجوده من شيخوخة ومرض وألم وغيرها): Dukkah
يكشف القرآن عن سر هذه الحقيقة:
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (الملك :2).
l تحدث جوتاما بوذا عن حقيقة أصل المعاناة ومنبتها (الشهوة والتعلق): Samudāy
يخبرنا القرآن عن سبب وأصل المعاناة وهو التكليف والاختبار:
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (البقرة:30).
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (الكهف: 7).
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (الزمر:62).
l تحدث جوتاما بوذا عن حقيقة نهاية المعاناة (التخلي عن أسباب الشهوة): Niroda
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (النازعات).
يخبرنا القرآن عن مكافئة من اجتاز الاختبار:
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ( الزمر :73).
l تحدث جوتاما بوذا عن حقيقة الطريق لنهاية المعاناة (عن طريق ضبط النفس والتأمل): Magga
يخبرنا القرآن عن طريقة اجتياز الاختبار.
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات:56).
وكان مما قال جوتاما بوذا أن المعاناة تأتي في أشكال عدة، منها الشيخوخة، المرض، والموت. وتذهب المعاناة أبعد من ذلك لأن الحياة ليست مثالية، ولا ترقى دائمًا إلى تطلعاتنا. فالإنسان معرض إلى الرغبات التي يصعب تحقيقها، ولكن حتى لو حققناها فهي لا تدوم، فاللذة لا تدوم، وإن دامت تصبح مملة.
من أهم تعليماته أيضًا هي العمل الدؤوب للتخلص من الولادات المتكررة (تناسخ اﻷرواح) والحصول على السلام الداخلي.
الولادات المتكررة بالنسبة لبوذا عذاب. ولن يحصل على الخلاص إلا إذا اتحد مع الوجود حسب تعليماته.
للبوذية ثمانية أركان هي:
l الركن اﻷول في البوذية هو الإيمان بالحق: وهو الإيمان بأن الحقيقة هي الهادي للإنسان.
يخبرنا القرآن أن الخالق هو الحق:
الهداية لا تأتي إلا من الحق الذي أوجد الوجود.
ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ( الحج:62).
l الركن الثاني في البوذية هو القرار الحق: بأن يكون المرء هادئًا دائمًا لا يفعل أذىً بأي مخلوق، إنسان أو حيوان أو طائر.
قال محمد صلى الله عليه وسلم:
دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش اﻷرض (صحيح البخاري).
قال الله تعالى:
مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (المائدة:32).
l الركن الثالث في البوذية هو الكلام الحق: بالبعد عن الكذب والنميمة وعدم استخدام اللفظ المشين.
قال النَّبي صلى الله عليه وسلم:
آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان ( صحيح البخاري).
ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء ( صحيح الترمذي).
اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنةَ تَمْحُهَا، وخَالقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ (رواه الترمذي، حديث حسن).
l الركن الرابع في البوذية هو السلوك الحق: بعدم السرقة أو القتل أوفعل شيء يأسف له المرء فيما بعد.
قال تعالى:
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا ( الإسراء:33 ).
يعد القرآن أرقى نموذج في السلوك اﻹنساني.
ضبط ألفاظنا: ...وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا…(البقرة:83).
ضبط مشيتنا وصوتنا:
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (الإسراء:37).
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ... (لقمان:19).
ضبط نظراتنا : وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ (طه:131).
ضبط سمعنا ومجالسنا، وأفكارنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (الحجرات:12).
ضبط طعامنا: ... وَكُلُو وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (الأعراف:31).
ضبط نفوسنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (الحجرات11).
ضبط تصريحاتنا: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (الإسراء:36).
l الركن الخامس في البوذية هو العمل الحق: البعد عن العمل السيء مثل التزييف وتناول السلع المسروقة وعدم أخذ المرء ما ليس له.
قال تعالى:
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا (النساء:58).
قال عز وجل:
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( الشعراء:181).
l الركن السادس في البوذية هو الجهد الحق: بالسعي دائمًا إلى كل ما هو خير والابتعاد عما هو شر.
قال تعالى:
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21) (سورة الليل).
l الركن السابع في البوذية هو التأمل الحق: الهدوء دائمًا وعدم الاستسلام للفرح أو الحزن Meditation
قال تعالى:
لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23: الحديد).
l الركن الثامن في البوذية هو التركيز الحق: هذا لا يكون إلا باتباع القواعد السابقة وبلوغ المرء مرحلة السلام الكامل "نيرفانا"وهي اتحاد المخلوق بمصدر الوجود.
ولكن هل الاتحاد مع الوجود منطقي أصلاً ويوفر السلام الداخلي ويخلص من العذاب.
من أوجد الوجود أصلا؟ دون الحصول على إجابة لهذا السؤال فإننا لن نحصل على أي نوع من أنواع السلام الداخلي. فالإنسان في هذه الحالة يصبح كالذي يدور في دائرة مغلقة.
l لا سلام داخلي إلا بمعرفة مصدر الوجود، والتواصل معه مباشرة (ليس من خلال قسيس ولا قديس).
l لا سلام داخلي إلا بمعرفة وجهتنا القادمة بعد الموت، ولن نحصل على الإجابة عما بعد الموت إلا ممن وهب الحياة.
l لا سلام داخلي إلا بمعرفة الهدف من وجودنا.
رحلة الحياة هي كرحلة القطار، راكب القطار لن يستمتع برحلته إلا بمعرفة وجهته، و النقطة التي انطلق منها القطار.
معرفة نقطة البداية والنهاية هو هدف عظيم وسامي يجب أن يسعى كل إنسان لتحقيقه.
إن الهدف الأساسي للحياة هو ليس التمتع بإحساس عابر بالسعادة؛ بل هو تحقيق سلام داخلي عميق من خلال معرفة الله وعبادته.
تحقيق الهدف الإلهي سيُؤدي إلى النعيم الأبدي والسعادة الحقيقية. لذا، إذا كان هذا هو هدفنا الأساسي، فإن مواجهة أي مشاكل أو متاعب سوف تهون في سبيل بلوغ هذه الغاية.
سأل السائل:
كيف يحصل المسلم على الخلاص واﻷمان بعد الموت ويحقق السلام الداخلي؟
قلت له:
يحصل المسلم على السلام الداخلي بمعرفة مصدر وجوده وغاية وجوده ومصيره بعد الموت، وعن طريق تواصله المباشر بمصدر وجوده، وبالعمل الصالح والأخذ بالأسباب يصل على الخلاص والأمان بعد الموت.
ولن يتحقق هذا المعنى الجميل إلا إذا كان الخالق مستقل عن مخلوقاته وليس متحدًا معها، وبوجود يوم للحساب والعقاب والجزاء. يقول المستشرق المعروف فولتير: "عقيدة اليوم الآخر وحدها كفيلة لإيجاد إطار أخلاقي في المجتمع، ولو أن هذه العقيدة زالت فلن تجد دافع للعمل الطيب، وسيترتب على ذلك انهيار النظام الاجتماعي”[7].
يطلب الله من رسوله محمد تبليغ البشر وسيلة الخلاص :
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (الكهف:110).
وأخبرنا عن وجهة الوصول:
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي(الفجر:24).
قال السائل:
ما هو تفسير الإسلام لمعاناة البشر؟
قلت له:
كلما قابلت الشر عليك ان تسأل نفسك السؤال الوجودي اﻷساسي:
لماذا نحن هنا؟
الله خلقنا ليختبرنا ويبتلينا.
وأعطانا حرية الاختيار بين الخير والشر.
وما نقابله في الحياة من شر وأزمات وظلم وبلاء ومرض وفقر هو طريق من اثنين:
إما طريق إلى زيادة القرب من الله.
وإما طريق إلى الكفر والالحاد.
وأنت عليك أن تختار.
فتميز اﻹنسان عن غيره يكمن في درجة لجوءه إلى الخالق عند تعرضه للأزمات.
قال: هل هناك عدل مطلق؟
قلت له: نعم في الآخرة وليس في هذه الدنيا، وأعمال الخالق كلها عدل وحكمة وفضل، أما المخلوق فيحصل منه الظلم.
فهذه الدنيا ليست جنة، فكيف للجنة أن يستحقها المجرم والشرير، وكما نرى في حياتنا فأغلب الناس مجرمين؟
فلن يكافأ الخالق المجرم على إجرامه. فلقد قدر الخالق الجنة لمن يستحقها. فبالتي لن يستحقها الجميع، ولا يحق للبشر الاعتراض على أي شر أو مرض أو مشكلة تصيبه.
فيجب على الإنسان أن يسأل نفسه قبل الاعتراض على أي شر إن كان أراد هذه الدنيا جنة فماذا فعل لكي يستحق الجنة.
الجنة سوف يفوز بها لاحقًا من يستحقها، فالأمر ما هو سوى عملية فرز لمراتب ومنازل الناس. ولم يستثني الخالق من الإبتلاء أحد حتى الأنبياء، فالجميع في اختبار عام، وهذا هو سر وجود اﻷمراض والزلازل والبراكين، وغيرها من المشاكل.
لكنه سبحانه وتعالى برحمته قد جعل الصحة هي القاعدة والمرض هو الاستثناء، وبرحمته أيضًا قد جعل الطقس المعتدل إن كان حار أو بارد هو القاعدة وجعل الزوابع والأعاصير هي الاستثناء، الخ[8].
فهذه الدنيا نقطة صغيرة من رحلة حياتنا الطويلة الحقيقية. قد نرى جزء من العدل في هذه الدنيا، لكن العدل المطلق في الآخرة فقط.
يقول العلم الحديث مؤخرًا بحقيقة وجود بداية ونهاية للكون، وهذا حسب العلم التجريبي. والذي هو دائم التغير. هذه الحقيقة الذي جاء بها الدين اﻹسلامي قبل العلم بأربعة عشر قرنًا من خلال اقراره بوجود خالق للكون وحتمية لقاء الخالق بعد الموت للحساب. مما يدحض فلسفة تناسخ الأرواح.
إن كل ما في الكون يقع تحت هيمنة الخالق، فهو وحده يمتلك المعرفة الشاملة والعلم المطلق والقدرة والقوة لإخضاع كل شيء لإرادته. فالشمس والكواكب والمجرات تعمل بدقة متناهية منذ بدء الخليقة، وهذه الدقة والقدرة تنطبق نفسها على خلق البشر. فلو تأملنا الانسجام الموجود بين أجساد البشر وأرواحهم لتبين لنا أنه من غير الممكن جعل هذه الأرواح تسكن في أجساد الحيوانات ولا يمكنها التجول بين النباتات والحشرات (تناسخ الأرواح).
ميز الله الإنسان بالعقل والمعرفة وجعله خليفة في الأرض وفضله وكرمه ورفع من شأنه على جميع الخلائق. ومن عدل الخالق وجود يوم القيامة والحساب والجنة والنار لأن كل الأعمال الصالحة والسيئة سوف تُقاس وتُوزن في هذا اليوم.
قال تعالى:
فمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (الزلزلة: 7-8).
إذًا، الحياة الدنيا بداية لرحلة أبدية يستأنفها الإنسان بعد الموت بالبعث والحساب ومن ثم الجزاء، ويعتبر الإسلام أن وجودنا في هذه الدنيا هو لهدف وغاية سامية وهي معرفة الله عز وجل، وعبادته والتوجه إليه مباشرة.
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (آل عمران: 185).
في حوار لي مع مجموعة من شباب بوذيين يدافعون عن مفهوم تناسخ الأرواح، حيث قلت لهم:
هل تقبل إدارة أيّ مَدرسة أو جامعة لأيٍّ مِن تلاميذها، أن يُكمل أحدًا عنه الاختِبار عند انتهاء الوقت المحدد؟ الحياة هي ورقة اختبارك.
لماذا لا يولد الرضع بنفس القدرات العقلية للبالغين؟
لماذا أعداد الكائنات يزيد باستمرار؟ أليس من المفروض أن يثبت أعداد الكائنات بناء على مفهوم تناسخ اﻷرواح؟
لماذا لا يوجد من يتذكر حياته الماضية؟
ألم يكن هناك فترة من الزمان بلا كون؟
ألم يكن هناك فترة من الزمان تحتوي على كون بلا كائنات؟
ألم يكن هناك فترة من الزمان تحتوي على كون بكائنات قليلة؟
لماذا يؤدي الهندوسي طقوسًا دينية لتسكين أرواح الموتى (شرادة) ما دامت الروح تنتقل من جسد إلى آخر؟
ألا تبرر عقيدة تناسخ اﻷرواح فعل الجرائم، لأن اﻹنسان حتمًا سيخلص في ولادة قادمة من الولادات، وعليه الاستمتاع بهذه الولادة؟
أرواح الأشجار تختلف عن أرواح الإنسان، فكيف تختار روح الإنسان صورة الأشجار؟ وإذا سلمنا بأن أرواح الإنسان اختارت أجسام الحيوانات فأصبحت متغيرة بأصلها فيكون العذاب للصورة المتغيرة لا لأرواح البشر المخطئيين.
الأشجار والحيوانات نعمة من الخالق للإنسان يستفيد منها في حاجاته الدنيوية، فلو كانت جزاء لذنوب العباد من خلال تجسد أرواح البشر فيها، فكأن ذنوب البشر أصبحت ضرورة حتمية لاستثمار الأشجار والحيوانات.
يستلزم من عقيدة تناسخ اﻷرواح أن يساء الظن بالفقراء والمرضي وأصحاب العاهات، وكأنهم وصلوا إلي هذه الحالة السيئة بسبب ارتكابهم الذنوب والمعاصي في الحياة السابقة مما يؤدي إلى الطبقية.
ما الأصل في بداية الولادة، الإنسان أم الحيوان؟ إذا كان الأول، فما هي الحسنة التي جاء بها في أول الولادة ؟ وإذا كان الثاني فما هي السيئة التي ارتكبها؟ لأنكم تقولون أنه جزاء للأعمال السابقة.
فالحياة الدنيا لا يمكن أن تصلح لمحاسبته، إذ أن أقصى عقوبة له في الدنيا (وهي: قتله) ليست إلا قصاصًا لحياة بشرية واحدة تسبب في قتلها، ومن ثم ماذا عن باقي الأنفس البشرية التي لم يؤخذ لها حقّها ولم يقتص لها منه؟!
عندما يعرِّض الإنسان نفسه للقتل من أجل إنقاذ حياة إنسان آخر (عند الدفاع عنه)، فإن هذا السلوك يُعد سلوكًا أخلاقيًا طيبًا ومحمودًا. فهل تحلي الإنسان بالخُلُق الحسن كافيًا لأن يجعله يُعرض نفسه للقتل من أجل إنقاذ شخص آخر؟
هل من المنطقي أن يخسر الإنسان حياته من أجل التحلِّي بالخلق الحسن فحسب، ومن ثم لا يكون هناك مكافأة لهذا العمل الكبير الذي قام به؟ أم أن يبذل الإنسان نفسه وحياته احتسابًا للخالق وانتظارًا لمكافئته له، وذلك لأن الخالق قد حثّ الإنسان على ذلك. لا شك أن الإجابة المنطقية هي: أن يبذل الإنسان نفسه وحياته عملاً بما حثّه الله تعالى عليه.
إن الإنسان الذي یشاهِد ما في هذه الحیاة من نقائص، ومن ظلم الناس لبعضهم البعض، لا يقتنع بأن الحیاة يمكن أن تنتهي بنجاة الظالم وضياع حق المظلوم. بل إن الإنسان يشعر بالراحة والطمأنينة عندما تُطرح عليه فكرة وجود البعث والحياة الآخرة والقصاص. لا شك أن الإنسان الذي سوف يُحاسَب على أعماله، لا يمكن أن يُترك دون توجیه وإرشاد، وبدون ترغیب أو ترهیب، وهذا هو دور الدين.
إذا ألقى شخص قطعة نقدية ووقعت في يده على أحد وجهيها ( صورة أو كتابة)، فهنا يفسر الجميع هذا الحدث بالصدفة، لكن إذا كنا نعلم كل العوامل المرتبطة بهذا الفعل، مثل كثافة المادة على سبيل المثال، رطوبة الهواء، درجة الحرارة، ضغط الهواء، الارتفاع التي ستقع منه، القوة التي رمى فيها الشخص هذه القطعة النقدية، وعندما تقع ما هو التأثير الذي ستحدثه على يده، والضغط الذي سيقع على يده وقوة الارتداد. فإذا وضعنا كل هذه العوامل في الحسبان في معادلتنا فيمكننا التنبؤ باحتمال كبير أنها ستكون صورة أو كتابة. فحقيقة جهلنا بهذه العوامل هو ما يطلق عليه الجميع لقب صدفة. لكن إذا حصرنا جميع هذه العوامل، ويكون ذلك في المختبرات العلمية، فلن يكون هناك صدفة في تلك الحالة. فلا يمكن للصدفة أن تكون موجدة للكون، لأن الصدفة ليست سببًا رئيسيًا، وإنما هي نتيجة ثانوية تعتمد على توافر عوامل أخرى (وجود الزمان، المكان، المادة والطاقة) لكي يتكون من هذه العوامل شيء بالصدفة أصلاً. فلا يمكن استخدام كلمة "صدفة" لتفسير أي شيء لأنها لا شيء على الإطلاق.
يتحدث العالم بأسره اليوم عن كتاب شارك فيه 20 فيلسوفًا وعالمًا وقد أثار ضجة كبيرة في فرنسا.
هذا الكتاب من أفضل الكتب مبيعًا في فرنسا حاليًا على الرغم من ضخامته وسعره المرتفع نسبيًا. وقد تم تأليفه بالاشتراك مع عشرين شخصية من كبار العلماء والفلاسفة. وبالتالي فهو كتاب جماعي، إذا جاز التعبير. هذا وقد كتبت عنه جريدة «الفيغارو» فور صدوره قائلة: هذا حدث هائل. أخيرًا العلم الفيزيائي الفلكي يتوصل إلى البرهنة على وجود الله.
جميع هذه الاكتشافات العلمية تخلص إلى النتيجة التالية: أن للكون بداية محددة تمامًا، أي أنه مخلوق في لحظة ما، وإذا كانت له بداية فهذا يعني وجود سبب أو مسبب لهذه البداية. وبالتالي فالخلاصة الأكثر منطقية تدفعنا إلى الاعتقاد بوجود قوة عظيمة تقف خلف الظواهر. من الذي أعطى النقرة الأولى للانفجار الكبير وخلق العالم؟ باختصار شديد، كل هذا دليل على وجود خالق أعظم للكون. كل هذه الاكتشافات والنظريات تتالى بعضها وراء بعض على مدار القرن العشرين[9].
قال لي زائرٌ أمريكي يومًا:
إن الإيمان بوجود خالق يعطل العقل ويخالف العلم والمنطق.
قلت له:
إن الموقف العدل من العقل هو التوسط، وذلك بالجمع بين كونه مصدرًا للمعرفة وبين احترام حدوده التي لا يستطيع تجاوزها.
إن دور العقل هو الحكم على الأمور والتصديق عليها، فعجْز العقل عن التوصل إلى الغاية من وجود الإنسان مثلاً، لا يُلغي دوره، بل يعطي الفرصة للدين ليخبره بما عجز عن إدراكه، فيخبره الدين عن خالقه ومصدر وجوده والغاية من وجوده، فيقوم هو بالفهم والحُكم والتصديق على هذه المعلومات، فبذلــك يكون الاعتراف بوجود الخالق لم يعطل العقل ولا المنطق.
قلت له أيضًا:
إن فكرة إنكار وجود خالق للكون هي التي تخالف العقل، المنطق والعلم الحديث، وليس الإيمان كما تعتقد.
يقول الباحث البريطاني صبور أحمد:
العلم مبني على الرياضيات والمنطق، فالعلم لا يستطيع أن يشرح الرياضيات التي هو مبني عليها في الأساس.
إن مصدر عقلانية الإنسان كان ولازال مشكلة أساسية عند الملحدين، والذين اعترفوا بفشلهم للتوصل إليه، ومن خلال مصدر تعقل الإنسان ممكن أن نحصل على المنهج العلمي.
لذلك فإنه بنفس الطريقة التي لا يستطيع العلم تفسير الأساسيات التي بُني عليها، فهو لا يستطيع تفسير أصل المنطق والتعقل.
فيلجأ الملحد حينها لأن يتخذ موقفًا غير واقعيًا باستخدام منهجًا مضادًا للعلم، ويدعي أنه أفضل ما توصل إليه من نماذج قابلة للعمل، لكن ليس من حقه الإدعاء بأنه النموذج الصحيح الحقيقي.
بوجود خالق للكون هو التفسير الوحيد للعقلانية، والتي هي المقدرة على التفكير، التأمل في الكون، ممارسة العلم، الحساب، الاستنتاج، وزن الأمور، اكتشاف قوانين الكون التي خلقها الخالق، الخ.
قال الملحد المؤيد لنظرية داروين[10]:
أعطني دليلاً على وجود الخالق.
قلت له:
إن استخدام مصطلح دليل بحد ذاته يدل على استخدامك لعقلانيتك. وقد فشل أتباع نظرية داروين إثبات معنى وتفسير لوجود هذه العقلانية ولا حتى مصدرها من خلال نظريتهم.
فالسؤال عن دليل وجود الخالق ينبع من منطق وعقلانية. الملحدون يستخدمون العقلانية التي لا يمكن إثباتها إلا بوجود الخالق للسؤال عن دليل وجود هذا الخالق. فالسؤال بحد ذاته دليل على وجود خالق.
إن هناك كثير من المعتقدات لا يمكن دحضها، كإيماننا بأن العالم حقيقي على سبيل المثال. وبالتالي فإنه لا يمكننا دحض الإيمان بوجود خالق للكون لأنه هو التفسير للواقع نفسه، وليس مبنيًا على استنتاج من الواقع، والذي لا يحتاج إلى تفسير.
قال أرسطو الفيلسوف الشهير:
"إذا شككت في كل معتقد فلن تحصل على المعرفة. هناك أشياء يجب أن تقر بصحتها، والتي هي الأساس الذي يُبنى عليها لاحقًا كل شيء".
ممكن للشخص استخدام منطقه وعقله لأن يصبح ملحدًا، هندوسيًا، بوذيًا، نصرانيًا، الخ، لكن المقدرة على إدراك مصدر هذا العقل والمنطق، ومعرفة أسماء وصفات هذا المصدر الحقيقية (واحد أحد لا يتجسد في صورة إنسان ولا صنم أو حجر وليس له ولد، كلي القدرة، كلي العلم إلخ)، وتفسير هذه العقلانية التي نمتلكها، والتي تميزنا عن بقية المخلوقات والتي تتجاوز قيمتها ما يحتاجه الإنسان للبقاء والتكاثر، هذه المقدرة هو ما يجعل الإنسان قادر على التمييز بين الحق والباطل، والدين الصحيح والدين الخاطئ.
على الرغم من أنهم لم يعترفوا بذلك أبدًا، يُشير العلماء من الملحدين إلى الخالق بأسماء أخرى (الطبيعة الأم، قوانين الكون، الانتخاب الطبيعي “نظرية داروين”، إلخ…)، في محاولات بائسة للهروب من مَنطق الدين والاعتقاد بوجود خالق.
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ (النجم:23).
ومما سمعت وأعجبني أيضًا:
يقول فلاسفة علوم الأحياء الملحدين معلنين فشلهم، ومنهم عالم الأحياء والفيلسوف الأمريكي أليكس لوزومبيرغ :
إن الانتخاب الطبيعي لا يعطي تفسير للحقيقة ولكنه يفسر التكاثر والبقاء فقط.
ويقولون أيضًا:
إن كل ما لدينا لتفسير الكيمياء الحيوية، علم الأحياء، التشريح، واللغويات هو التكاثر والبقاء فقط، وبالتالي لا نستطيع الوثوق في عقلانيتنا لأننا لا نملك تفسير لها.
كتب تشارلز داروين إلى صديقه ويليام جراهام رسالة في عام ١٨٨١ يقول فيها:
"ينتابني شك فظيع حول ما إذا كانت قناعات عقل الإنسان والذي بدوره تطور عن عقول كائنات أدنى مثل القرد، تتمتع بأية قيمة أو تستحق أدنى ثقة، فهل يمكن لشخص أن يثق في قناعات عقل قرد؟ إن وجدت قناعات في مثل هذا العقل".
المشكلة لدى الداروينين تظهر أيضًا عندما يريدون أن يعطوا تفسيرًا عن المعتقدات الصحيحة والمعتقدات الخاطئة (التفريق بين الحق والباطل).
على سبيل المثال يقول العلماء: بعض أنواع الفطر سام وبعضها غير سام، فممكن أن يبقى الإنسان على قيد الحياة ويعيش على اعتقاد خاطئ وهو أن جميع أنواع الفطر سامة. فهو لا يستطيع التفرقة بين السام وغير السام وبين الحق والباطل لأنه غير موجه للحق، ولكنه موجه للبقاء والتكاثر من وجهة النظر الداروينية.
فكيف لهم أن يثقوا في عقلانيتهم بينما عقلانيتهم غير موجهة للحق ولكنها موجهة للتكاثر والبقاء فقط، وذلك حسب نظرية داروين؟
والعقلانية والتي هي القدرة على التفكير خاصية بحد ذاتها تتمحور حول الحقيقة وليس حول البقاء والتكاثر.
ولقد واجهت الداروينيون باعترافهم مشكلة مصدر عقلانية الإنسان كما ذكرنا سابقًا، وتساءلوا كيف لمادة غير حية غيبية تظهر في المادة الملموسة والتي تؤدي إلى العقلانية؟ كيف للعقلانية أن تنشأ من مصدر عشوائي غير عقلاني؟ وأقروا أن نظريتهم لا تجيب على هذا السؤال كما ذكرنا ولم تستطع أن تعطي تفسيرًا له.
فكيف للملحد أن يثق بعقله ومنطقه بينما عقله لم يساعده على معرفة مصدر تعقله.
فهنا وقع الداروينيون في مشكلة وهي مصدر تعقل الإنسان.
فالحيوان يعقل أيضًا في بحثه عن غذائه ومكان إقامته وما إلى ذلك، لكنه لا يمتلك القدرة على التفكير التي تمكنه من التفرقة بين الحق والباطل.
وهذا ما تميز به الإنسان، والذي هو هبة من خالق الكون له وهو سر التكليف.
فكان لدى أتباع هذه النظرية خيارين فقط:
· إما أن يعتبروا أنفسهم لا عقلانيين، ولايتميزوا عن أي حيوان أو جماد بناءً على نظريتهم.
· أو أن يعترفوا بمصدر خارج عن نطاق الطبيعة غيبي مستقل بذاته، قد أوجد لهم عقلانيتهم.
فبدون حقيقة وجود الخالق لا يوجد عقل ليعقل به الإنسان، بعد أن فشلت محاولات معرفة مصدر عقلانية ومنطق الانسان من خلال نظرية الانتقاء العشوائي والتي هي عمياء لأي شيء صحيح أو خاطئ.
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري:
"الله هو الذي يعطي للقيم معناها، الله هو الذي يعطي للوجود معناه، بدونه لا معنى للوجود، لا معنى للقيم، وبديله هو العبث، اللا معنى".
قام الباحث جورج سميث في عام 1872 بعمل اكتشاف صدم العالم به. وذلك في أثناء دراسته للوح مستقل من آثار حضارة ما بين النهرين، مر على قصة كانت معروفة لديه. وعند نجاحه بقراءة النص وفك رموزه، أدرك أن ذلك اللوح يحتوي على حكاية عراقية ( المذكورة في جلجامش ) مشابهة لما ذكر في العهد القديم عن طوفان نوح تحديدًا سِفر التكوين، وبغض النظر عن كون الحكاية أسطورة بالنسبة لهم أم عقيدة فوجودها دلالة على وجود أصل لها صحيح وغير مشوه.
الحكايات عن غمر الأرض بمياه الفيضان يمكن أن نراها في النصوص السومرية القديمة، الاغريقية، أمريكا الوسطى ، الصين، أمريكا الشمالية، وفي الجزء الشرقي من كولومبيا، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
من أقدم وأمتع القصص التي وُجدت نجد أنها أبدعت في الميثولوجيا الهندية، في حين وجود فروقات فيما بينها، إلا أنها تحمل تشابهات رائعة مقارنة مع قصة طوفان نوح.
قال الخالق:
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ(38)فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ(39)حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ(40)وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (هود)
تم العثور على الحكاية الهندية في عدة مصادر . فحين أن القصة الأولى تقول بأنها كُتبت في الفيدا (شاباتا برامناها)، نجدها في قصة لاحقة في البروناوس متضمنة في( البهاجافاتا بورنا) و( المستايا بورنا)، كما في (المهابهاراتا).
بغض النظر عن ذلك، كل تلك القصص تصل إلى نتيجة واحدة وهي الاتفاق على الشخصية المحورية في الطوفان المسمى"مانو فيفاستا". وعلى التوازي مع نبي الله نوح عليه السلام، يوصف "مانو "على أنه رجل بار وفاضل: هنالك حيث عاش في ذلك الزمن قديس اسمه "مانو"، وعن طريق علاقته المباشرة و تواصله و طاعته، حاز على مرتبة الصلاح بالنسبة لإله السماء كما كانوا يعتقدون. قال تعالى:
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (اﻷعراف:69).
لقد قيل أن "مانو" لديه من الأولاد ثلاثة قبل الطوفان، "تشارما"، "شيرما"، "يابيتي /يافيتي"، وعلى الطرف الآخر كان لنوح أيضًا ثلاثة أولاد، "حام"، "سام"، "يافث". الذين انتشروا في أنحاء اﻷرض ومنها بلاد الهند والسند لينشروا عقيدة التوحيد بعد الطوفان.
كانت نجاة سفينة نوح والمؤمنين من الغرق، بمثابة نقطة انطلاق وإعادة عقيدة التوحيد (عبادة رب السماوات واﻷرض) مرة أخرى الى الأرض، وذلك من خلال نجاة هؤلاء الموحدين. وحيث أيقن هؤلاء أن سبب النجاة من الطوفان هو التوحيد والإخلاص، بدأوا حياتهم من جديد بالمحافظة على هذه العقيدة وتعليم أبنائهم إخلاص العبادة لرب العالمين وأن لا يجعلوا له شريكًا ولا ندا ( أن لا يجعلوا له ولد أو زوجة، أو أن يطلقوا لقب إله على أي مخلوق من مخلوقاته سبحانه وتعالى).
لكن ومع مرور الزمن اتبع كثيرٌ من البشر أهواءهم وابتعدوا مرة أخرى عن طريق الصواب والتعاليم الصحيحة التي جاءهم بها رسلهم وأنبيائهم.
كما أن العديد من الأنبياء والرسل الذين أرسلهم الخالق للأمم المختلفة، ذُكرت أسمائهم في القرآن الكريم (مثل المسيح، موسى، إبراهيم، نوح، داود، سليمان، إسماعيل، إسحق ويوسف، إلخ….)، هناك آخرون لم يذكروا.
فليس من المستبعد كون أصل بعض الرموز الدينية المقدسة في الديانات الوضعية أنبياء قد عبدتهم أقوامهم وقدستهم على مر الزمن من دون الله. كما فعل قوم نبي الله نوح عندما قدسوا وعبدوا الصالحين منهم.
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ … (النساء :164).
يدعى الكثير أن وجود تشابه بين قصة قرآنية وأسطورة هندوسية أو بوذية مثلاً يعد دليل على عدم صحة القرآن، وأنه نسخ ما في أساطير الأولين. لكن في الواقع أن وجود تشابهات بين القصص دليل على صحة القصة. فوجود الأسطورة لا يعني عدم وجود أصل صحيح لها، والذي جاء به القرآن الكريم.
ويقولون في المثل:
لا دخان بلا نار.
منذ مئة عام كان القرآن بعيدًا عن العلم. وبدأ العلم يقترب أكثر وأكثر من القرآن مع أن العلم متغير والقرآن ثابت.
وبهذا المقياس نستطيع أن نثبت صحة قصص القرآن التي جاءت لتصحح الأساطير وتعطي القصة الحقيقية.
قال لي ملحد يومًا:
نحن الملحدون نؤمن بالعلم المادي التجريبي، والعلم متغير، فإذا دحضت نظرية علمية جديدة نظرية قديمة فإننا نأخذ بها. وكذلك بالنسبة للقصص التاريخية والتنبؤات. أما أنتم المسلمون فإنكم متعصبون لكتابكم القديم، ولا تقبلون بأي معلومة علمية أو تاريخية تخالفه. قلت له: ما الأفضل بالنسبة لك، أن تحصل على المعلومة الصحيحة مباشرةً؟ أم تبقى مدى الحياة باحثًا عن الحقيقة وتتنقل من نظرية علمية إلى أخرى أو من أسطورة إلى أخرى؟
في بدايات القرن الماضي كان الفارق بين الحقائق القرآنية والنظريات العلمية شاسعًا، وخلال هذه السنوات اقترب العلم المادي و القرآن أكثر وأكثر من بعضهما، مع أن القرآن لم يتغير والعلم المادي في تغير دائم. فعلى ماذا يدل ذلك؟ يقول تعالى: وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (البقرة:23). فهذه الآية تعرض تحديًا لإيجاد أي خطأ في القرآن.
ومصدر القرآن بالنسبة لنا هو الخالق الذي وضع قوانين الكون التي يحاول العلماء اكتشافها، والشاهد على أحداث وقصص الكون. فبالتالي فإن الحقائق العلمية في القرآن واﻷحداث التاريخية دقيقة وصحيحة لأنها جاءت من المصدر الذي أنشأ قوانين العلم وشهد على أحداث الحياة على اﻷرض فهو اﻷول وهو اﻵخر سبحانه وتعالى. والمنهج العلمي نفسه جاء من رجل يدعى حسن بن الهيثم، حوالي 800 عام قبل جاليليو، ويقال بأنه أول عالم على الإطلاق، حتى المؤرخين العلمانيين مثل ديفيد هيلينبيرغ يقرون أن المنهج العلمي جاء من العالم الإسلامي. يقول الباحث البريطاني صبور أحمد: فلسفيًا هناك عدة جذور ومصادر للمعرفة.
l العلم يعطينا جذرًا للمعرفة.
l الفلسفة.
l رقابة الذات.
l الحقائق التي تثبت ذاتها.
فإذا تعارض ما هو مبني على الحث الفكري مع النصي والاستدلالي، فعلينا اختيار الاستدلالي. يستطرد الباحث قائلاً: نحن نؤمن أن الإيمان بالخالق ليس مبنيًا على المنطق والسببية، بل هو إيمان فطري، ويؤيده المنطق، والإيمان بالقرآن مبني على المنطق، ولأنه مبني على المنطق، يجب أن يكون فيه أمور قابلة للاختبار والدحض.
إذا جاء العلم بنظرية لم يتكلم عنها القرآن أو متناقضة مع حقيقة علمية في القرآن، فبالطبع سوف يبدأ المسلم بالتفكير والبحث، لكن كل ما يستطيع العلم فعله هو وضع نظريات ونماذج علمية قابلة للعمل، وهذا مبني على البحث العلمي.
ولا يمكن للبحث العلمي أن يكون بديلاً عن الاستدلال النصي وهذا فلسفيًا. على سبيل المثال: الأعزب هو شخص غير متزوج. ولا يمكن لشيء يلاحظ بالعين المجردة أن يدحض ذلك. الدائرة ليست مربعة. وهكذا. على نفس الطريقة، ايماني بالقرآن نابع من حقيقة أن الخالق يتحدانا لإيجاد أي أخطاء ولم نجد. يرفض الخالق الإيمان الأعمى، واتباع دين الأجداد دون تفكير. وهذه النقاط المهمة التي تعرض لها القرآن ونقاط مهمة كثيرة في أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، تعطينا دليل قوي ويقين أن هذا القرآن من عند الله. وبناءً على ذلك، إذا جاء شخص بشيء يتعلق بالعلم، فأقول له أنت جئت بشيء يتعلق بالبحث والابتكار العلمي، وهو نظري لم يثبت بعد، وعندي أنا دليلاً نصيًا قويًا استدلاليًا. فما الذي يدفعني إلى أن أصدق شيء تجريبي وأترك نص يقيني حسب العوامل التي شرحتها سابقًا. كل ما أستطيع قوله ربما يكون ما جئت به صحيحًا. وهذه القاعدة الفلسفية ليس لها علاقة بالدين، وتطبق حتى على الأمور غير الدينية. إن أي رأي حتى ولم يكن دينيًا، ويتبناه أتباعه بناءً على استدلال نصي موثوق، لا يمكن تحديه بنظريات العلم على الإطلاق. على سبيل المثال: هناك نقاش كبير بين الفلاسفة حول عقلانية الإنسان ومنطقه. من أين أتت عقلانية الإنسان؟ كيف لمادة غير حية أن تؤثر في المادة الملموسة وتؤدي إلى العقلانية؟ فلا شيء يأتي من العدم. فكيف نحصل على عقلانيتنا من اللاعقلانية؟ المؤمن يقول في هذه الحالة أن الخالق هو خالق الكون والإنسان، ووهبه الخالق هذه العقلانية ليميز بين الحق والباطل. لكن من المنظور الطبيعي للملحد فلا يوجد سبب لأن يؤمن بالعقلانية. الملحد الفيلسوف" ثوماس نيغل" رغم إلحاده كان لديه نفس موقف المؤمن. لقد كتب كتابًا أسماه "العقل والكون"، وقد تم نشره من قبل جامعة أكسفورد. قال ثوماس: "لا شيء يقوم علماء الأحياء التطوريون المفكرون الداروينيون به يجعلني أغير رأيي ليجعلني أقبل به. لأنني لدي دليل استدلالي على أن العقل البشري يمكن أن نثق به منطقيًا، وأن الادعاء الدارويني بأن الحياة جاءت من طفرات عشوائية وأخطاء جينية لتعطينا فرصة البقاء لا قيمة له، لأنك قد تعيش على أفكار خاطئة دون أن تستطيع أن تفرق بين الحق والباطل بناءً على هذه النظرية”. فنفهم مما سبق أن نظرية داروين بالنسبة للفيلسوف ثوماس تتعارض مع إيمانه بأن عقله جدير بالثقة. فأعلن رسميًا رفضه لنظرية داروين على اعتبار أنها لا تصل صحتها لقوة النص الاستدلالي لديه.
هناك إجماع بين علماء وفلاسفة العلم الحديث على أن العلم تجريبي استنباطي ولا يعتمد على دليل نصي. ومن المعروف جدًا بالنسبة لهم أن العقائد الميتافيزيقية الدينية من الممكن أن نتوصل إليها عن طريق الاستقراء والاستدلال النصي. على سبيل المثال كلنا على يقين أن عالمنا حقيقي، فلا يستطيع أحد أن يثبت أن هذا العالم حقيقي باستخدام تجربة ما، هذا اعتقاد ميتافيزيقي(غيبي)، والذي يعتمد عليه العلم ولكن لا يمكنه اثباته.
سألني أمريكي يومًا:
يقول كثير من العلماء إن كل عصر ينبغي أن يكتب التاريخ من وجهة نظره؛ لأن تقدير كل عصر لما هو مهم وذو معنى بالنسبة له يختلف عن تقدير العصر الآخر، فكل عصر يحاول أن يرى الماضي من خلال اهتماماته والأفكار السائدة فيه.
قلت له:
هذا صحيح، ولكن هذا لا ينفي أن للأحداث حقيقة واحدة، شئنا أم أبينا، وتأريخ البشر المعرَّض للتشويه وعدم الدقة للأحداث والقائم على الأهواء ليس كتأريخ رب العالمين لها، والذي هو غاية الدقة ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً، لأنه الشاهد عليها.
الم (1)غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُون (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (الروم).
تتحدث هذه الآيات عن هزيمة البيزنطيين على أيدي الفرس في معركة أنطاكيا، وقد كان وعدًا للمسلمين أن تنقلب الهزيمة في بضع سنين إلى انتصار للبيزنطيين، وقد كان انتصارهم أمرًا مهمًا للمسلمين، لأنهم كانوا نصارى ويعدون من أتباع دين سماوي، بينما يُعد الفرس من أتباع الديانة الزرادشتية وهي ديانة وثنية، وقد دارت المعركة في المنطقة المحيطة بالبحر الميت، (يقع في أخدود وادي الأردن). كما أنه في هذا الوقت رصدت الأقمار الصناعية أن المنطقة المحيطة بالبحر الميت والتي هي أقرب اﻷراضي التي كان الروم يحتلونها هي الأقل ارتفاعًا على الأرض أيضًا.
التفسير الوحيد الممكن هو أن النبي محمد قد تلقى وحيًا إلهيًا من الله خالق الكون ومبدعه، وبعد حوالي 7 سنوات من نزول الوحي بهذه الآيات، تحقق وعد الله بانتصار الرومان في القرآن بإعجاز.
يقول الدكتور جاري ميلر (عبد الأحد عمر) عالم الرياضيات واللاهوت المسيحي ومبشِّر سابق في كتابه "القرآن المذهل":
"أن كل مؤلف يبدأ كتابه بالإعتذار عن الأخطاء التي وقعت في كتابه، ولا يوجد مؤلف في العالم يمتلك الجرأة ويؤلف كتابًا ثم يقول: هذا الكتاب خالٍ من الأخطاء، ولكن القرآن على العكس من ذلك يبدأ في سورة البقرة بتحدي خلوه من الأخطاء".
ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (البقرة:2).
توقف ميلر عند بحثه في القرآن، عند الآية 30 من سورة الأنبياء:
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ
يقول ميلر عن نظرية الانفجار الكبير إن صحت:
"إن هذه الآية هو بالضبط موضوع البحث العلمي الذي حصل على جائزة نوبل عام 1973م، وكان عن نظرية الانفجار الكبير، والتي تنصُّ على أن الكون الموجود هو نتيجة انفجار ضخم حدث منه الكون بما فيه من سماوات وكواكب. والرتق هو الشيء المتماسك في حين أن الفتق هو الشيء المتفكك. لا يعقل أن يتوصل محمد في الصحراء إلى هذه الحقيقة العلمية قبل 14 قرنا إذا لم يخبره الله بذلك".
وينطبق حال التأليف على جميع الكتب المقدسة لأصحاب العقائد الأخرى فيما عدا القرآن، فعلى سبيل المثال:
العهد القديم تعاقَبَ عليه كثير من الكتبة، كان آخرهم كاتب خاتمة سفر المكابيين الثاني [15/39 – 40] ـ وهو آخر أسفار العهد القديم الكاثوليكي.
قال كاتب خاتمة هذا السفر:
" إن كنت قد أحسنت التأليف وأصبت الغرض، فذلك ما كنت أتمنى، وإن كان قد لحقني الوهن والتقصير فإني قد بذلت وسعي، ثم كما أن شرب الخمر وحدها أو شرب الماء وحده مضر، وإنما تطيب الخمر ممزوجة بالماء وتعقب لذة وطربًا، كذلك تنميق الكلام على هذا الأسلوب يطرب مسامع مطالعي التأليف".
أما عن العهد الجديد فهي مجرد قصص مكتوبة، يقول لوقا في مقدمة إنجيله [1/1-4]: "كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا، كما سلَّمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخدامًا للكلمة، رأيت أنا أيضًا إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس، لتعرف صحة الكلام الذي علمت به". وهذا النص يُبين:
l أن كثيرًا من الناس قاموا ” بتأليف” قصص عن (سيرة حياة) يسوع، تحمل ” وجهة نظرهم” لتلك السيرة.
l هدف ما قام به لوقا، كتابة رسالة إلى صديقه ” ثاوفيلس”، وذلك “لتعرف صحة الكلام”، أي ليس لهدف إلهي ديني.
l صرح لوقا أنه لم يرَ المسيح ولكنه ناقل.
قال تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (النساء:82).
يقول جاري ملير بعد قراءة هذه الآية من سورة النساء:
"من المبادئ العلمية المعروفة في الوقت الحاضر هو مبدأ إيجاد الأخطاء، أو تقصِّي الأخطاء في النظريات إلى أن تثبت صحتها، والعجيب أن القرآن يدعو المسلمين وغير المسلمين إلى إيجاد الأخطاء فيه منذ 14 قرنًا". يقول ميلر: "بدون أدنى شك يوجد في القرآن توجه فريد ومذهل لا يوجد في أي مكان آخر، وذلك أن القرآن يعطيك معلومات معينة ويقول لك: لم تكن تعلمها من قبل".
ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (آل عمران: 44).
تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ۖ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَا ۖ فَاصْبِرْ ۖ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ( هود: 49).
يقول جاري ميلر: " لا يوجد كتاب مما يسمى بالكتب الدينية المقدسة يتكلم بهذا الأسلوب، لأن كل الكتب الأخرى عبارة عن مجموعة من المعلومات، ودائمًا تخبرك إذا كنت تريد المزيد من المعلومات يمكنك أن تقرأ الكتاب الفلاني أو الكتاب الفلاني لأن هذه المعلومات أتت منه. بعكس القرآن الذي يمد القارىء بالمعلومة ثم يقول لك هذه معلومة جديدة بل ويطلب منك أن تتأكد منها إن كنت مترددًا في صحة القرآن بطريقة لا يمكن أن تكون من بشر. والمذهل في الأمر هو أهل مكة في ذلك الوقت ومرة بعد مرة كانوا يسمعونها ويسمعون التحدي بأن هذه معلومات جديدة لم يكن يعلمها محمد صلى الله عليه وسلم ولا قومه، بالرغم من ذلك لم يقولوا هذا ليس جديدًا بل نحن نعرفه، أبدًا لم يحدث أن قالوا: نحن نعلم من أين جاء محمد بهذه المعلومات".
الطريف مما قرأت أن زعيم جماعة شهود يهوه وقائدها تشارلز راسل تنبأ بنهاية العالم في عام 1914، وكان ذلك بناءً على نبوءة في العهد القديم، وعندما مرَّ العام والعالم ما زال موجودًا، مدد الأمر إلى العام التالي، ثم إلى عام 1918. ثم مدد خليفته النبوءة إلى عام 1925، ورغم الفشل المتتالي لهذه النبوءات، إلا أنَّ الجماعة حافظت على تماسكها بفضل الطاقات المالية الضخمة التي تملكها.
ادعى الزعيم الديني ويليام ميللر بالوعظ في عام 1831 بأن نهاية العالم كما نعرفها ستحدث مع المجيء الثاني ليسوع المسيح في عام 1843. وقد اجتذب ما يصل إلى 100000 من أتباعهم الذين اعتقدوا أنه سيتم نقلهم إلى الجنة في التاريخ المزعوم. وعندما فشل تنبؤ عام 1843 في التحقق، أعاد ميلر حسابه وقرر أن العالم سينتهي بالفعل في عام 1844. كتب التابع لهنري إيمونز ، "لقد انتظرت كل يوم الثلاثاء ، ولم يأتِ يسوع العزيز ، ساجد ليومين دون أي ألم - مريض بخيبة أمل ".
وقد شهد القاصي والداني لتحقق نبوءات القرآن.
قال رسول الله:
إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله (صحيح مسلم).
وقد وقع الأمر تمامًا كما قال عليه الصلاة والسلام، فإنه لم يأت بعد كسرى كسرى غيره، ولما هدمت دولة القياصرة فلم تقم لهم دولة بعد ذلك وإلى يومنا هذا.
وقال:
تَغْزُونَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ فَارِسَ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الرُّومَ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الدَّجَّالَ فَيَفْتَحُهُ اللهُ (صحيح مسلم).
ومن المعروف أن مصر كانت من بلاد الروم.
وكذلك فقد أخبر الرسول بفتح مصر تحديدًا، ودعا إلى الإحسان إلى أهلها إكرامًا لهاجر أُم النبي إسماعيل وزوجة النبيّ إبراهيم، فقد كانت من أرض مصر، كما أخبر بدخول أهلها في الإسلام واشتراكهم مع إخوانهم في التمكين له.
إِنَّكُم سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ، وَهِيَ أَرْضٌ يَسمَّى فِيْهَا القِيْرَاط، فَإِذَا فَتَحْتُمُوهَا، فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهْلِهَا؛ فَإِنَّ لَهُم ذِمَّةٌ وَرَحِمًا، فَإِذَا رَأَيْتَ رَجُلَيْنِ يَخْتَصِمَانِ فِيْهَا فِي مَوْضِعَ لَبْنَة، فاخرُج مِنْهَا (صحيح مسلم).
نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي في اليوم الذي مات فيه، فخرج إلى المصلى فصفهم وكبر أربع (صحيح مسلم).
قال لي ياباني بوذي يومًا:
تعتمد تعاليم بوذا كليًا على عدم العنف نحو أي مخلوق، ولذلك لا تتبني البوذية مشروع القصاص كالإسلام، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة 179).
وقال:
تشجع البوذية أتباعها أن يمتنعوا عن إيذاء أو جرح أو قتل المخلوقات الأخرى. وعقاب القاتل لا يكون بالقتل بل بالتأهيل.
قال بوذا: "إذا أساء إليّ أحدٌ من الناس، سوف أرد إساءته بالحب من جانبي. وكل ما كثر الشر من جانبه، كلما كثر حسن النية من جانبي".
حتى الدفاع عن النفس لا يباح للراهب البوذي أن يقتل. وقد قال بوذا: "حتى لو قطّعك اللصوص عضوًا عضوًا بمنشار ذي شفرتين، فإن فكرت بعقلك أن ترد العدوان، فأنت لم تتبع تعاليمي".
قلت للسائل:
تخيل نفسك تعود لمنزلك وتجد أفراد أسرتك قد قُتلوا على يد أحدهم بهدف السرقة أو الانتقام مثلاً، وجاءت السلطات لتقبض عليه وتحكم عليه بالسجن لمدة معينة، طويلة كانت أو قصيرة، يأكل فيها وينتفع بالخدمات الموجودة في السجون، والتي تساهم بتوفيرها أنت بنفسك عن طريق دفع الضرائب.
قلت له مستطردة: ماذا سوف تكون ردة فعلك في هذه اللحظة؟ سوف ينتهي بك الأمر للجنون، أو الإدمان على المخدرات لكي تنسى آلامك. إن الموقف نفسه لو حدث في دولة تطبق الشريعة الإسلامية، سوف يكون تصرف السلطات مختلف. سوف يأتون بالمجرم إلى أهل المجني عليهم، لإعطاء القرار في شأن هذا الجاني، إما أن يأخذوا بالقصاص، وهو العدل بعينه، أو دفع الدية وهي المال الواجب بقتل آدمي حرٍّ، عوضًا عن دمه أو العفو، والعفو أفضل كما جاء في القرآن الكريم.
وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (التغابن :14).
...فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ... (البقرة:178).
قلت له:
بخصوص محبة اﻷعداء فلا تكليف بغير مقدور، حسب الدساتير العالمية.
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ … (البقرة:286).
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ ۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( التغابن:16).
الخالق يعلم ما يقدر عليه الإنسان لأنه خالقه ويعرف طبيعته.
أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (الملك:14).
علميًا فإنه ليس بمقدور الإنسان التحكم في عملية الحب والكره. فلقد فُطر الإنسان على حب من يحسن إليه وعلى كره من يسئ إليه.
هل يحب اﻹنسان من قتل ابنه أو من اعتدى على زوجته؟
قدم لنا اﻹسلام بديلاً منطقيًا لوصايا بوذا وهو:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( المائدة:8).
بمعنى أن لا تحملكم عداوة شخص على ظلمه، بل عاملوا الجميع بالعدل.
فلا يطالبنا اﻹسلام بحب من اعتدى علينا بالظلم، ولكن يطالبنا بعدم ظلمه.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( النساء:135).
وكمثال على ذلك، أذكر أنني كنت معجبة بكتاب لشخص ما جدًا وكنت على يقين من الفائدة التي قد تعم على البشر من هذا الكتاب. وقد تعرضت لظلم كبير من هذا الكاتب لدرجة أنني بكيت من شدة الظلم، وجاءني من استغل هذا الموقف واستغل كوني أحد أعضاء لجنة لقبول كتاب هذا الظالم للتكفل بالنشر والتوزيع، وطلب مني أن أُصوت برفض الكتاب.
فتذكرت هذه اﻵية الكريمة:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ….
و أعطيت صوتي بقبول الكتاب في الحال. وهذا ما يجعلني فخورة بتعاليم ديني العظيم.
وقال تعالى:
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (فصلت:34).
هل جاء الدين ليعيش الإنسان عزيزًا أم ذليلاً؟ الإنسان عزيز بدينه، هل أطبق ديني لأُذل؟
أوامر الله فيها عز.
قال تعالى:
… وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (البقرة:190).
ولكن قبل ذلك دافع عن نفسك ولا تدع أحد يهينك.
والدفاع عن النفس من الحقوق المشروعة عالميًا، ومن قتل غيره بهدف الدفاع عن النفس يكون عقابه مخففًا في هذه القوانين الوضعية.
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ … (البقرة:190).
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (آل عمران:186).
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( الشورى:40).
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (اﻷعراف:199).
قال السائل:
فعلاً تعاليم دينكم عظيمة ومنطقية.
واستطرد قائلاً:
لقد حذرنا بوذا من سوء النية في طلب الأشياء، وذلك من تمكين اللذات في النفس، فإن الغرض الفاسد يتحكم في طلب الإنسان للأشياء، فلا يصير واضح المقصد بين الغاية؛ لما له من مآرب يطلبها ويسترها، وغايات تدفعه ولا ينالها، ويدفعه إلى الكتمان رغبة نيلها.
قلت له:
وهذا ما قاله خاتم رسل الله محمد تمامًا.
إنما الأعمال بالنيّات ، وإنما لكل امريء ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه ( رواه البخاري ومسلم).
يُعتبر" الدالاي لاما" بابا البوذيين، إذا جاز التعبير، مثلما أن "فرنسيسك" هو بابا النصارى. كلمته مسموعة ليس فقط في بلاد التيبت، وإنما في كل أرجاء العالم البوذي. فهو أحد حكماء العصر الراهن وأحد الشخصيات الروحية الكبرى التي تحظى بالاحترام لديهم.
يرى هذا الزعيم الديني أن خصوصية الإسلام التي تميزه عن غيره تكمن في تلك العلاقة القوية جدًا التي تربط بين المسلم وربه. وهذا التعالي الرباني يرافقه اقتراب الله من المؤمن وقد ذكر" الدالاي" هذه الآية القرآنية:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (ق:16).
ويقول:
"بالتالي، فالله قريب وبعيد في الوقت ذاته. والإسلام يطلب من معتنقيه الإيمان بالطبيعة اللانهائية والأبدية الخالدة لله. وكل تصوير لله ممنوع، لأن ذلك يشجع على عبادة الأوثان التي يحرمها الإسلام تحريمًا قاطعًا. ولذلك لا توجد صور في أماكن العبادة الإسلامية. ومن سمات هذا الدين أن المسلم يسلم نفسه كليًا للإرادة الإلهية ويخضع لها دون نقاش. ومن هنا جاءت كلمة «إسلام»".
لكن الشيء المهم في الإسلام الذي لفت انتباه" الدالاي لاما" هو تركيز القرآن الكريم على الرحمة والتسامح. فقد فوجئ بأن كل سورة من سور القرآن تُفتتح بهذه الآية الكريمة: «بسم الله الرحمن الرحيم».
ومع ذلك، فإن الصورة الشائعة عن الدين الحنيف حاليًا هي أنه دين القسوة والعنف والرعب! فكيف حصل ذلك؟
قبل أن يجيب "الدالاي لاما" عن هذا السؤال، نلاحظ أنه يتوقف مطولاً عند سورة الفاتحة، بل ويوردها مترجمة بشكل كامل. ويبدي أشد الإعجاب بورود كلمتي "الرحمن الرحيم" أكثر من مرة فيها:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7).
يتوقف "الدالاي لاما" عند هذه النقطة أكثر من غيرها لأن مفهوم الشفقة أو الرحمة والرأفة يشكل القيمة الأساسية في الديانة البوذية التي ينتمي إليها. والدين الذي يدعو إلى الشفقة والرحمة بالعباد والكائنات لا يمكن أن يكون إلا دينًا عظيمًا.
من هنا جاء سر إعجابه بالإسلام و دهشته واستغرابه عندما تعرف عليه لأول مرة. فقد كان يعتقد أنه دين القوة والعنف والضرب والقتل، فإذا به يكتشف العكس تمامًا. ويقول بأنه لم يكتشف الإسلام إلا متأخرًا، وقد فوجئ بما اكتشفه وأعجب به أشد الإعجاب.
وقد كانت أول زيارة له إلى بلد عربي مسلم عام 2005 حيث استقبلوه بحفاوة في الأردن. وقد أعجب بالآذان الذي يتعالى من المساجد كثيرًا.
وفي إحدى المرات قال له شيخ مسلم: إن من يقتل إنسانًا بريئًا لا يمكن أن يكون مسلمًا حقيقيًا. فقتل النفس البريئة محرم بالكلية في القرآن؛ حيث تقول الآية الكريمة من سورة المائدة:
مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32).
"الدالاي لاما" يقول بأن التفسير الحرفي المتشدد للآيات القليلة نسبيًا في القرآن هو الذي يوهم الناس بأن الإسلام هو دين عنف بشكل حصري.
في حوار لي مع بوذي بخصوص خطاب" الدالاي":
قال البوذي:
لقد قال" الدالاي":
"يا ناس اسمعوا وعوا. لا توجد حقيقة واحدة في العالم، وإنما عدة حقائق وديانات" .
وأضاف" الدالاي":
"فجميع الديانات تنهى عن القتل والكذب والسرقة والنميمة” والرذيلة وتدعو إلى مكارم الأخلاق. وبالتالي، فهناك نواة أخلاقية مشتركة عظيمة بين جميع الديانات على اختلاف طقوسها وشعائرها وعقائدها".
ثم أضاف البوذي:
وأنا أؤيد "الدالاي" وأقول جميع الديانات صحيحة ولا توجد حقيقة مطلقة.
قلت له:
هل أنت متيقن من ذلك تمامًا؟
قال: نعم.
قلت له: كيف يمكن لمن لا يؤمن بالحقيقة أو بأي مطلق، وليس لديه مرجعية أن يصدر حكمًا على اﻷشياء؟
إنك قد أصدرت الآن عبارة مطلقة – وهذا في حد ذاته يؤكد وجود ما هو مطلق.
قال: إن عدم وجود حقيقة مطلقة هو الحقيقة الوحيدة، يستطيع الإنسان الإيمان بما يحلو له طالما لا يفرض آرائه على الغير. فلا يوجد معنى مطلق بل معنى يُفرض.
قلت له:
عبارتك هذه بحد ذاتها هي إيمان بشأن ما هو صواب وخطأ، وأنتم تحاولون فرضها على الغير، فأنتم تتبنون معيارًا للسلوك وتجبرون الجميع على الالتزام به، وبذلك تنتهكون ذات الشيء الذي تزعمون أنكم تتمسكون به – وهذا موقف فيه تناقض ذاتي.
قال:
التسامح هو المطلق الوحيد، وبناءً عل ذلك فعدم التسامح هو الشر الوحيد. فإصراركم أنتم المسلمون على أن إيمانكم هو الحق المطلق يُعتبر ضد التسامح، بل ويُعتبر الجريمة العظمى.
قلت له:
التسامح هو في احترام إرادة الاختيار التي وهبها الله للجميع، وبانصاف المسلم غير المسلم في التعامل معه، وعدم ظلمه ولا أن يبخسه حقه. ولكن في المقابل التسامح ليس في الاعتراف بالتصرف الخاطئ نفسه والتسليم به على أنه صواب.
إن وجود نظريات وقناعات متنوعة عند البشر لا يعني بعدم وجود حقيقة واحدة صحيحة.
قلت له أيضًا:
قبل اكتشاف أطول جبال العالم جبال" ايفرست"، ماذا كان أطول جبل في العالم؟
قال:
الجواب يعتمد على كل معلومات وثقافة وبيئة كل شخص.
قلت له: جوابك ليس فيه منطق، فجهل البشر في معلومة معينة أو قناعتهم بمفهوم معين لا يغير حقيقة وجود معلومة صحيحة أصلية مطلقة لا تتغير. فجبال "ايفرست" اﻷطول في العالم حتى وإن تم اكتشاف هذه المعلومة مؤخرًا وحتى لو جهلها جميع البشر.
فمهما تعددت مفاهيم الناس وتصوراتهم عن وسيلة المواصلات التي أستخدمها أنا يوميًا للتنقل، لا ينفي حقيقة أنني أملك سيارة سوداء اللون، ولو اعتقد العالم بأسره أن سيارتي حمراء، فهذا الاعتقاد لا يجعلها حمراء، فهناك حقيقة واحدة وهي أنها سيارة سوداء.
فلا يصح إلا الصحيح ولو اجتمع العالم بأسره على بطلانه، والخطأ واضح كوضوح الشمس ولو أقر بصحته جميع البشر.
يتبنى البعض هذا الرأي ببساطة لرغبتهم في التخلي عن مسؤولياتهم تجاه أفعالهم. فوجود حقيقة مطلقة يعني بحتمية وجود مبادئ مطلقة للصواب والخطأ، وبالتالي وجود مسؤولية تجاه هذه المبادئ. وهذه المسؤولية هي ما يتهربون منه.
الحقيقة مطلقة شئنا أم أبينا، والدين واحد، وهو:
الاعتراف بخالق الكون الذي ليس له ولد ولا شريك ولا يتجسد في صورة إنسان ولا حيوان، ولا يتحد مع مخلوقاته. والتواصل مع هذا الخالق مباشرة وليس من خلال قديس ولا قسيس، وهناك يوم آخر يحاسب الخالق فيه البشر على أعمالهم.
ونستطيع أن نعيش بسلام ونحصل على دين عالمي بهذه الطريقة فقط.
قال البوذي:
ولماذا الحقيقة المطلقة عندكم؟ لماذا لا تكون عند الهندوسي الذي يقول أن الخالق يتجسد في كريشنا، ولماذا لا تكون عند النصراني الذي يقول أن الخالق يتجسد في المسيح؟
قلت له:
لأن المسلم عنده العامل المشترك بين الجميع وهو الإيمان بالخالق، وهي حقيقة مُسلَّم بها عند الجميع حتى لو أنكروا، فالجميع يلجأ إلى الخالق في المحن بما فيهم الملحدون والبوذيون.
أما التجسد فهو عبارة عن مفهوم غير منطقي ولا يليق بجلال الخالق، وهو لغز باعتراف المؤمنين به، ودين الله ليس فيه ألغاز.
ولله المثل الأعلى، فإن لاعب الألعاب اﻹلكترونية لا يمكن أن يكون جزء من اللعبة داخل هاتفه.
الخالق يتحكم في الكون من خارج الكون، فهو خلق الزمان والمكان لنا نحن البشر.
أغلب الديانات الهندية والصينية قائمة على تعاليم مؤسسيها، ولا تدعي اتباع الوحي المباشر، لا يُعرف للهندوسية مؤسسًا فهو دين تقليدي متوارث، وترجع البوذية إلى "سدارتا جوتاما"، والجينية إلى "مهافيرا"، والسيخية إلى "غورو ناناك"، والكونفوشية إلى" كونفوشيوس"، والطاوية إلى" لاو تسي”.
الإسلام دين قائم على الوحي.
قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (اﻷحقاف:9).
كل الديانات السابقة تقوم على عبادة أكثر من إله، أما الإسلام فيتميز بعبادة الخالق الواحد اﻷحد. فلا تثليث ولا ألوهية لبشر ولا حجر.
إن النظرة التوحيدية الخالصة في الإسلام هي الفاصل بينه وبين هذه العقائد.
إن بإمعان النظر في معتقدات الشعوب نكتشف أن غالبية الأمم التي لديها موروث ديني و رموز دينية مختلفة لا تزال تُؤمن بوجود خالق للكون والذي تلجأ إليه عند الشدائد. مما يُؤكد أن هذه الديانات والمعتقدات لها أصول تاريخية نابعة من ديانة أصلية واحدة صحيحة.
وأن ما لدى الشعوب الحالية من تراث ديني يحتوي بداخله على عقيدة التوحيد والإيمان بإله واحد والتفرد بعبادته.
وأن هناك دلائل وشواهد في هذه الديانات والكتب على الرغم من تحريفها تشير إلى أن جذورها وأصولها ترجع إلى عقيدة التوحيد.
كل مولود يولد على فطرته الصحيحة عابدًا لله بدون وسيط (مسلمًا)، فهو دون تدخل الأهل يعبد الخالق ويلجأ إليه بالسؤال والاستغاثة والطلب مباشرة، حتى سن البلوغ، فيصبح محاسَبًا على أعماله، فحينها إما أن يأخذ المسيح وسيطًا بينه وبين الخالق باللجوء إليه بالطلب والاستغاثة ليصبح نصرانيًا، أو أن يتخذ بوذا وسيطًا ليصبح بوذيًا، أو كريشنا ويصبح هندوسيًا، أو أن يتخذ محمدًا وسيطًا بينه وبين الخالق باللجوء إليه بالطلب والاستغاثة ليحيد عن الإسلام تمامًا، أو أن يبقى على دين الفطرة عابدًا للخالق وحده. فلو توجه الجميع مباشرة للخالق لتوحدت البشرية.
قال الخالق:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (آل عمران: 64).
وأذكر تعليقًا لطيفًا من مسن ألماني عندما شرحت له تعريف دين الإسلام أن قال لي: هذا دين جديد لم أسمع به من قبل، وهو منطقي وتتوحد به البشرية. أنا أعيش بين مسلمين لكن لم أفهم الإسلام بهذه الصورة أبدًا.
قلت له:
هذا هو الدين العالمي القديم الجديد والأبدي منذ عهد آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وهو: عبادة خالق الكون واللجوء إليه مباشرة. وهو الخالق الواحد الأحد الذي خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق المسيح من غير أب، فهو الذي يخلق ولا يلد. وعلى البشر ترك عبادة الأصنام وترك عقيدة الثالوث، وترك اللجوء إلى الوسطاء من قساوسة وقديسين وأولياء، وعدم اللجوء إلى القبور وعدم اللجوء إلى نبي الله محمد أو لأي فرد من آل بيته، أو اللجوء لأي من أنبياء الله بالطلب والاستغاثة.
وتقصير المسلمين في تبليغ الرسالة الصحيحة للإسلام، أو معاملتهم السيئة لغير المسلمين، أو تخلفهم العلمي بعد أن كانوا رواد العلم المادي والمؤسسين له ليس له علاقة في الدين الصحيح في شيء.
فدين الإسلام دين مثالي، لكن المسلمين غير مثاليين.
الفيلسوف النمساوي ليوبولد فايس - الذي ترك اليهودية واعتنق الإسلام وغيَّر اسمه لمحمد أسد - قال في كتابه "الإسلام على مفترق الطرق":
"إن الحرص على انتشار الإسلام لم يحث عليه حب السيطرة، وليس فيه شيء من الأنانية الاقتصادية أو القومية، ولا الطمع في زيادة أسباب رفاهيتنا الخاصة على حساب شعب آخر.
ولم يُقصد منه في يوم من الأيام إكراه غير المؤمنين على الدخول في الإسلام، لقد قُصد به دائمًا ما يُقصد به اليوم من بناء إطار عالمي لأحسن ما يمكن من التطور الروحي للإنسان. إن المعرفة بالفضائل - حسب تعاليم الإسلام - تفرض على الإنسان من تلقاء نفسه العمل بالفضائل، وأما الفصل الأفلاطوني بين الخير والشر، من غير الحث على زيادة الخير ومحو الشر، فإنه فسقٌ عظيم".
يتسائل الكثير عن مدى أهمية العبارة التي يرددها المسلم دائمًا والتي تقول:
الحمد لله على نعمة الإسلام.
حيث يقولون:
ما الذي يفتخر به المسلم؟ وما الميزة التي يختص بها الإسلام عن غيره من الديانات؟
فنقول لهم:
المسلم يحمد خالقه أن هداه ووفقه لعبادته وحده، فهو لا يعبد شجرة ولا حجر، ولا يعبد إنسان ولا حيوان، وتنزيه الخالق عن فكرة التجسد في أحد مخلوقاته، وتنزيه الخالق عن أن يكون له شريك في الملك أو ولد، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا، ويلجأ المسلم الحق إلى خالقه مباشرة وليس من خلال قديس ولا قسيس، ولا يلجأ لقبور الأولياء، ولا يسأل ويطلب المغفرة من الرسول ولا من أحد من أهل الرسول.
أي أن المسلم يفخر بتواصله المباشر مع ملك الملوك.
في زيارة نادرة لرهبان معبد بوذي من دولة تايلاند، وكانوا ثلاثة رهبان قد جاءوا برفقة وفد دبلوماسي من السفارة التايلندية، وكان الرهبان يرتدون ما أشبه بملابس إحرام المسلمين، ولكن برتقالية اللون. وقد أُعطينا تعليمات في بداية الزيارة أن الرهبان لا يصافحون النساء، وأنهم عند أخذ الصورة التذكارية معي داخل المسجد كمشرفة للجولة، يجب أن أركع مع طاقم عمل السفارة على رُكبي، بينما يبقى الرهبان واقفين على أرجلهم، باعتبارهم أعلى مقامًا من الجميع.
قلت لهم:
أما بالنسبة للمصافحة فأنا لا أصافح الرجال، لكن بالنسبة للصورة، فلن أتصور إلا واقفة، ولا أركع إلا لله، فإذا لم يَرُق لكم هذا، فسوف أخرج من الصورة، فوافقوا والتُقطت الصورة لنا، وأنا واقفة إلى جانب الرهبان على مسافة بعيدة، وطاقم السفارة جالسون على الأرض. قال لي أحد الرهبان وكان أكثرهم إجادةً للغة الإنجليزية: ما هي تعاليم دينكم؟
قلت له: تعاليم ديننا شبيهة بتعاليم دينكم، ولكن نحن نتبعها كاملة، وأنتم اختصرتموها.
قال: وكيف ذلك؟
قلت له: الوصايا التي لديكم بخصوص احترام حقوق الإنسان، بما فيها عدم القتل واحترام حق الجار والعطف على المسكين، موجودة في تعاليم كل ديانة على وجه الأرض، بما فيها الهندوسية واليهودية والنصرانية، وهي في الإسلام أيضًا. لكن الفرق بين الإسلام وباقي الديانات، أن باقي الديانات همشت الوصية الأولى وتغاضت عنها، وأبقت على الباقي.
قال: وما هي الأولى؟
قلت له: الإيمان بإله واحد أحد، والذي يُلجأ إليه عند الشدائد.
قال: أتقصدين جوتاما بوذا؟
قلت له: لا. أنا أقصد الحقيقة الوحيدة والقوة التي في السماء، خالق بوذا وكل البشر، والذي يلجأ إليه الجميع حين تنقطع بهم السبل، ويستنفدون كل الوسائل لنجاتهم من الأزمات. قلت له مستطردة:
ألا يلجأ البوذي عند خوفه الشديد من صوت الرعد، إلى القوة التي في السماء لطلب الحماية؟
قال: نعم. ولكن ما الدليل أن هذه كانت من ضمن الوصايا التي نتبعها؟ قلت له: الدليل أنكم تمارسونها دون أن تشعروا، ودون أن تكتبوها في كتبكم. وقد علمكم بوذا الإسلام بإقراره أن الموت حق، وإعطائه وصف للحياة الأبدية التي لا موت فيها ولا ألم، وهي ما تُطلقون عليها اسم " نيرفانا".
يقول أحد العلماء المشهورين "آرثر ليلي": إن الكلام التالي كان منحوت على حجر: (ما كان يعتقد به تلاميذ بوذا عن الإله، الروح ومستقبل الإنسان): "نعترف ونؤمن بالله، الذي هو كائن يستحق من أجل هذا (إيمان) "[11].
قال: لكن بوذا إله.
قلت له: وهل يقول إله عن نفسه: أنا لست أول بوذا ولن أكون آخر بوذا[12]؟
لم يطالب "جوتاما بوذا" أيًا من أتباعه أن يعبدوه هو كإله أو عبادة أي شيء أو أي شخص آخر، فالطريق الديني الذي انتهجه وسار عليه كان نفس الطريق الذي سار عليه بوذا آخر وتنبأ به من قبل. كما أن "جوتاما" استخدم كلمة "بوذا" بسياق كلمة "نبي" وعنى بذلك الشخص الذي يتم تنويره بالوحي الإلهي.
بوذا قال: "يجب على الجميع أن يُؤمنوا بـ (مايتريا) النبي القادم"[13].
تحمل كلمة "مايتريا" أو "ميتا" في اللغة البالية وجميع الكلمات المقابلة المستخدمة في البورمية والصينية والتبتية واليابانية نفس المعنى؛ وهي نفس كلمة "رحمت" باللغة العربية، والتي تعني "الرحمة". (حيث أشار الله سبحانه في القرآنَ الكريم إلى النبي محمد بأنه رحمة للعالمين)[14]. وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (الأنبياء: 107).
قال: أوَ تُجزمون أن بوذا كان نبيًّا مرسل، وتنبأ بقدوم نبيكم؟ قلت له: نحن لا نُجزم أبدًا، ولم يُذكر اسم بوذا أبدًا في القرآن الكريم، لكن نرى أن هناك تشابهات بين الديانات بصورة ملفتة للنظر، مما لا يُستبعد أن يكون مصدرها واحد وهو من الخالق، وقد اختلفت بسبب تحريفات البشر. وقد أكد القرآن في أكثر من مناسبة أن الله أرسل إلى جميع الأمم رسلاً وأنبياء للتذكير بعبادة خالق واحد أحد، وذكر أسماء البعض، ولم يذكر آخرون.
قال: وهل من دليل على نبوة محمد في كتب الهندوسية أيضًا؟
قلت له: نعم. "إنه نيراشانزا أو الشخص الممدوح (محمد) إنه كاراما: أمير السلام أو المغترب، وهو آمن، حتى بين مجموعة من ستون ألف وتسعون من الأعداء. إنه يركب الجمال، وتمس مركبته السماء"[15].
" نيراشانزا" "رجل الحمد" يشير إلى النبي محمد. المعنى الفعلي للكلمة العربية "محمد" هو: "الرجل المحمود"، وليس من المعروف بالضبط عدد أعداء النبي محمد في ذلك الوقت، ولكن ثبت أن هناك الآلاف.
عندما هاجر نبي الله محمد من مكة (المدينة التي وُلد فيها، لكنه اضطر إلى المغادرة بسبب مؤامرة اغتياله) إلى المدينة النبوية، ذهب على الجمل. قلت له مستطردة: ويوجد غيرها الكثير.
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (الأعراف: 158). وقد انتهت الزيارة، وطلبوا تزويدهم بنسخ ترجمات معاني القرآن باللغة التايلاندية، وشكرونا كثيرًا.
منذ عهد آدم أبو البشر، كان الخالق يختار الأتقى في قومه كرسول لهم كلما حُرِّفت رسالة النبي السابق وحادوا عن الطريق المستقيم، واختلفوا فيما بينهم بعبادة غير خالقهم، ولتقديم أجوبة شافية لهم عن الأسئلة الوجودية التي تدور في خلدهم (مصدر وجودهم والهدف من وجودهم ومآلهم بعد الموت).
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ … (النحل: 36).
وقد استخدم الخالق في الآية السابقة صيغة الجمع في الإشارة إلى نفسه للدلالة على عظمته سبحانه وتعالى.
تتلخص رسالة الرسل بما يلي:
l الإيمان بأنه لا إله إلا الله (الخالق) وحده، الذي ليس له شريك ولا ولد، وهو الخالق والرازق للكون وما يحتويه.
l اجتناب الطاغوت (الوثنية). بمعنى الالتزام بعبادة الله وحده بدون وسيط، كما فعل الرسول، وليس عبادة الرسول نفسه باللجوء إليه بالطلب، أو جعله إلهًا.
l اتباع الشريعة التي جاء بها الرسول مناسبة لزمانهم. مع تصديق الرسالات السابقة في أصل التوحيد، ومن ضمن وصايا الرسل البشارة بقدوم خاتم النبيين، محمد عليه الصلاة والسلام، والحث على الإيمان به واتباعه لمن أدرك زمانه أو سمع عن رسالته لاحقًا.
l فعل الخيرات واجتناب السيئات، استعدادَا للقاء الخالق بعد الموت للحساب، ومن ثم الثواب أو العقاب.
وكما تشابهت القيم والأخلاق والطموحات بين الشعوب، اشتركوا أيضًا في أصل الدين، وقد وُجدت شواهد على ذلك من كتبهم المقدسة رغم تحريفها، بينما حُفظ خاتم هذه الكتب- القرآن الكريم- من التحريف.
ونذكر فيما يلي بعض هذه الشواهد:
قل هو الله أحد:
في الإسلام:
(الإخلاص: 1-4)
"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) ".
في النصرانية:
(إنجيل مرقس 12: 29)
" فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: ‘إِنَّ أَوَّلَ كُلّ الوَصايا هيَ: اسْمَعْ يا إِسْرائِيل. الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ ".
في النصرانية / اليهودية:
(سفر أشعياء 43: 11)
"أنا الرَّبْ وَليْسَ غَيْرِي مُخَلّصْ".
(سفر أشعياء 46: 9)
"… لأَنِّي أَنَا اللهُ وَلَيْسَ آخَرُ. الإِلهُ وَلَيْسَ مِثْلِي".
في الهندوسية:
( Chandugya Upanishad 6: 2-1)
"إنَّه إلهٌ (كيان) واحدْ فَقطْ ليسَ لهُ ثاني".
في السيخية:
( Sri guru Granth Sahib. Vol:1, Japuji, verse11)
"يُوجدْ هُناكَ إلهٌ واحدٌ يُسمَّى الحَقيقة. الخالق".
في المجوسية (الزرادشتية):
( Dasatir, Ahura Mazda, Yasna 31: 7- 11)
"هُو واحدْ؛ هُو بِدون بِداية أو نِهاية. ليسَ لهُ أبْ أو أمْ، زوجة أو وَلد".
في البوذية:
( India in Primitive Christianity- صفحة 85)
يقول أحد العلماء المشهورين- آرثر ليلي- أن الكلام التالي كان منحوت على حجر. (ما كان يعتقد به تلاميذ بوذا عن الإله، الروح ومستقبل الإنسان).
"نَعْترِف ونُؤمِن بالإله، الذَّي هو كائن يستحق من أجل هذا (إيمان) ".
ليس كمثله شيء:
في الإسلام:
(الشورى: 11)
"… لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير".
في النصرانية / اليهودية:
(سفر الخروج 20: 3 – 5)
"لا يَكُنْ لَكَ آلِهَة أخْرَى أَمَامِي. لا تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالاً مَنْحُوتًا، وَلا صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ. لا تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعْبُدْهُنَّ… ".
في الهندوسية:
(VedasSvetasvataraUpanishad: 4:19، 4:20، 6: 9)
" الإِلهْ لا يُوجَدْ له آباءْ ولا سَيّد".
" لا يُمْكِنْ رُؤيَتهِ، لا أَحدْ يَراهُ بالعَيْن".
"لا يُوجَد شَبيه لَه".
لا تدعوا مع الله أحدا:
في الإسلام:
(الجن:18).
" وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ".
في النصرانية:
(إنجيل ماثيو 4: 10)
" حِينَئِذٍ قالَ لهُ يَسوع: ‘اذْهَبْ يا شَيطانْ لَأنَّهُ مَكْتوب: للرَّبْ إِلهَكْ تَسْجُد وَإيَّاهُ وَحْدَه تَعْبُد’ ".
في النصرانية / اليهودية:
(سفر التثنية11: 16)
"فاحْتَرزوا مِن أنْ تَنْغوي قُلوبكم وتَعبدوا آلهةً أُخرى وتَسْجدوا لها ".
في الهندوسية:
(Yajurverda 9:40)
"يَدْخُلون الظُلمات، أُولئِكَ الذينَ يَعبدون العَناصِر الطبيعِيَّة (الهَواء ، الماء والنَّار ، إلخ). يَغْرَقونَ في الظُّلمات، أُولئك الذينَ يَعْبُدون سامْبوتي (أشياء مصنوعة باليد مثل الوثن، الحجر، إلخ)".
قال لي مسن لاتيني يومًا:
من خلق الخالق؟
قلت له:
إن هذا السؤال المتكرر لا معنى له. أنت كمن يسأل: من خبز الخباز.
قال:
إذا سلمنا بوجود خالق للكون فيجب أن يكون هذا الخالق معقد التركيب والصفات، لأن هذا الكون معقد فخالقه يجب أن يكون أكثر تعقيدًا، فكرة الثالوث أقرب إلى الصواب من فكرة أن الخالق فرد صمد.
قلت له ما سمعته مرة وأعجبني:
يقول الفيلسوف المشكك" أنتوني كيني”:
"الحجة التي يتداولها الملحدون بحتمية تعقيد تركيب خالق للكون وأنه ليس واحد أحد واهية، آلة الحلاقة الالكترونية مع تعقيدها الشديد والتي هي عبارة عن قطع وأجزاء إلا أنها لا تعمل بكفاءة موس الحلاقة الذي يتكون من قطعة واحدة. موس الحلاقة يحلق ويقتل انسان ويقطع ثمرة فاكهة".
قال السائل:
برهان الثالوث أن الله في الأزل وقبل خلقه للكون، لو كان واحدًا فقط، لتعطلت صفاته، فكان يجب أن يكون ثلاثة، ليرحم ويرزق ويتفاعل من خلال الثلاثة الذين في داخله. قلت له:
أنا مثلاً أحمل صفة "متحدثة جيدة"، وعندما أقرر أن أصمت ولا أتحدث الآن، هل تتعطل هذه الصفة عندي؟
قال:
ألا يتعارض مفهوم الله الصمد الذي لا يحتاج إلى غيره مع حاجة الإله في الإسلام لوجود بشر يرحمهم ويغفر لهم؟
قلت له:
الله لديه إرادة وليس حاجة.
قال:
لماذا لا يتجسد الخالق في أحد مخلوقاته؟ قلت له:
هل يمكن قبول تزاوج إنسان من بقرة أو غيرها (من الحيوانات بمختلف أنواعها) ليولد ما نصفه إنسان ونصفه حيوان، ومن ثم تكون الطبيعة الحيوانية هي إحدى طبائع وصور الإنسان (بمعنى أن تكون الطبيعة الحيوانية تجسيدًا للصورة البشرية)؟
بالتأكيد: كلا، فإن ذلك يعد انحطاطًا أخلاقيًا وتقليلاً من قدر البشر الذين أكرمهم الله تبارك وتعالى، فالبشر أشرف قدرًا وأرفع منزلة من الحيوانات، وذلك على الرغم من أنهم جميعًا من مخلوقات الإله سبحانه وتعالى.
فما بالنا إذا كان الأمر متعلقًا بالإله الخالق سبحانه وتعالى المتفرد بالألوهية؟
فهل يمكن التقاء الطبيعة الإلهية مع الطبيعة البشرية (المخلوق وٌلد من امرأة، ضعيف ويصير رضيعًا بحاجة إلى الاحتضان والرعاية، والذي سوف يؤول به الأمر لأن يموت ويدفن بعد ذلك كغيره من المخلوقات الأخرى)، أو غيرها لتكون الطبيعة البشرية أو غيرها تجسيدًا للصورة الإلهية ؟!
بالتأكيد هذا يعد انتقاصًا و تقليلاً من قدره سبحانه وتعالى.
قال:
أنتم تؤمنون أن للخالق يد، أليس هذا تجسيمًا؟
قلت له:
الخالق واحد أحد، لا نظير له ولا ندّ له، ولا شبيه له ولا مثيل. فأنا كبشر لي يد، والباب له يد، ولكن الفارق شاسع بينهما، وقياسًا على هذا المثال نقول أن الخالق لا يشبه البشر.
قال تعالى في سورة الشورى:
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (الشورى:11).
فقد جاء الإسلام داعيًا إلى تنزيه الإله سبحانه وتعالى عن فعل التفاهات والنقائص. الله سبحانه وتعالى هو الإله الأحد الواحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له مكافئًا أو مماثلاً أو مشابه.
قال لي هندوسي من حملة شهادة الدكتوراة:
إذا كان الله قادرًا على كل شيء فما المانع من نزوله في صورة البشر؟
أجبته بمثال كنت قد سمعته مرة وأعجبني:
لو نزل الله في صورة البشر فإنه يتخلى عن صفة الألوهية، فهناك فرق بين صفات الخالق وصفات المخلوق. فلو قيل لك بأن الهواء أصبح طائرة في نيويورك فهل تصدق؟
لا علاقة بين الهواء والطائرة فصفة الهواء تختلف تمامًا عن صفة الطائرة فلا يمكن أن يختار هذا صورة ذاك.
قال:
نحن نعبد التماثيل لكي نحصل على التركيز الذهني أثناء عبادة الخالق، ونتفادى شرود الذهن إلى الأشياء الدنيوية، وإن لم يكن للخالق صورة فلن نحصل على التركيز الكامل.
تعجبت جدًا من كلام هذا الرجل الحاصل على هذه الدرجة العلمية الرفيعة وتذكرت قول الله تعالى:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (الحج:46).
وقوله تعالى:
لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (اﻷعراف:179).
قلت له: فهل يتصور أن تنظر إلى الشجرة وتقول أنظر إليها للحصول على التركيز إلى والدي المسافر، فلا علاقة بين الشجرة والوالد؟
فما بالك بالله تعالي فأين هذه التماثيل الضعيفة وأين الله القوي العزيز المالك الملك ذو الجبروت والإكرام ؟
هل هذا يركز الأذهان أم يشردها؟ ولو كانت عبادة الأصنام لأجل التركيز فقط، فلماذا تعتنون فيها وتزينوها، وتصرفون آلاف النقود عليها، وتأتون لعبادتها من الأماكن البعيدة؟
فربما يفكر الشخص في قضية من القضايا حتى ينسى مايحدث حوله وعيناه مفتوحتان، مع أنه ليس لديه صورة معنوية. والله سبحانه وتعالي لما أودع في الفطرة الإنسانية العبادة والإفتقار إليه فإنه أرشدهم لكيفية العبادة عن طريق إرسال الأنبياء والرسل ولم يتركهم على أهوائهم يفعلون ما يشاؤون. لقد وُلد اﻹنسان من ماء مهين، فما الهدف من خلقه، وما علاقته مع الخالق؟ وما مصيره بعد موته؟ فهذه الأسئلة لا يستطيع الإجابة عنها حسب عقله واستيعابه من غير هداية الله تعالى. والإسلام عالج هذه المشكلة بقوله صلي الله عليه وسلم عن اﻹحسان في العبادة:
الإحسانُ أن تعبدَ اللهَ كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يَراك (صحيح البخاري).
قال: التماثيل المنحوته تعود إليها الروح بعد قراءة التراتيل.
فلت له: هذا وهم ولا علاقة له بالحقيقة.
ولوسلمنا جدلاً بأن الحياة تعود إليها بعد قراءة التراتيل عليها فأصبحت تمشي وتتكلم وتتصرف كيفما شاءت، فهل يقدر الإنسان إيجاد حياة؟
فلم يدعِ عالم من العلماء حتى الآن إعادة الحياة لما لا حياة فيه، والحقيقة أن النفع والضر بمشيئة الله تعالى والإنسان يتوهم بأن ماحدث له من النفع سببه التعلق بتمثال من التماثيل.
قال:
ألم تشاهدي من خلال شاشات التلفاز والقنوات الفضائية جريان الدموع على وجوه التماثيل وتناثر الأزهار من أياديها؟
قلت له: إنني أعجب من رجل في مثل منصبك العلمي وتنطوي عليه هذه اﻷساليب في الخداع لكسب المال.
يرد الخالق على هؤلاء:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (الحج: 73 )
الإسلام ليس توحيد الربوبية فقط (الإيمان بإله واحد فقط)، بل وتوحيد الإله في العبادة (توحيد الألوهية بمعنى عبادته وحده أيضًا). إن الإيمان بإله واحد موجود في ديانات كثيرة، وكان موجود في عقيدة كفار قريش (قوم النبي محمد) أيضًا؛ فعندما سُئلوا عن سبب عبادتهم للأصنام قالوا: لتقربنا إلى الله زُلفى، فهم لا ينكرون وجود الله.
قال الخالق:
...وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ …(الزمر:3).
وكان ذلك كله بسبب الجهل بالمفهوم الحقيقي للخالق، مما أدى إلى تشويش الأذهان وبالتالي اللجوء إلى الإلحاد، والتساؤل عن أسباب وجود الخالق وغيرها من الأسئلة المشككة بوجوده.
فنتخيل أن أشيع بين الناس أن كاتبة هذا الكتاب قد صعدت إلى القمر، وجابت الفضاء، فمن يعرفها جيدًا لن يصدق هذه المعلومة وسوف يستهزء بها، لأنه يعرف جيدًا أنها تخاف من ركوب الطائرة.
ولله المثل الأعلى، فمن يعرف صفات الله الحقيقية لن يصدق ما يُنسب إليه من صفات بشرية.
الخالق خلق قانون السببية، فلا يخضع له، بمعنى أنه اﻷول قبل كل شيء، واﻵخر بعد كل شيء، وأنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته. لذلك فهو لا يمر بنفس المراحل الزمنية التي نمر بها من خلال خضوعنا للوقت، ولا يتعب، ولا يحتاج إلى وضع نفسه في شكل مادي. فلا يمكننا رؤيته، لأننا محاصرون في الزمان والمكان. فعلى الشخص الذي يجلس في غرفة بلا نوافذ مثلاً، مغادرة الغرفة لرؤية ما في الخارج.
ومع أن الخالق فعالٌ لما يريد وله طلاقة القدرة، فيجب أن نُسلّم أيضًا بأنه لا يفعل ما لا يليق بجلاله وحكمته، تعالى عن ذلك علوًا كبيرا.
ولله المثل الأعلى: فعلى الرغم من استطاعة رجل دين ذو منزلة رفيعة الخروج الى الملأ عاري الجسد، فإنه لا يفعل ذلك، لأن هذا التصرف لا يليق بمكانته الدينية.
الوجود كما نراه (الكون والإنسان) لابد أن يوجده الذي يستوعبه بالكامل، فيجب أن لا تكون صفات خالق الوجود بمستوى هذا الوجود أو أقل منه.
الكمال المطلق صفة الموجِد المطلق الذي يحتوي ويستوعب كل الوجود ويخلق قوانينه ويسيِّرها، والطريق لمعرفة الخالق يبدأ من معرفة النفس (فمن عرف نفسه فقد عرف ربه).
وبعد أن نتعرف على عظمة الموجد والمبدع لهذه النفس البشرية ولهذا الوجود الكوني، ندرك تمامًا أن الموجودات ناقصة ومحدودة رغم آفاقها قياسًا بالخالق المبدع، وبالتالي نستنتج أن صفاتنا تختلف عن صفات خالقنا. فالخالق لا يتجسد في صورة إنسان أو حيوان، ولا صنم أو حجر، وعلى البشر عبادته مباشرة دون قسيس ولا قديس أو أي وسيط.
يؤكد الإسلام على عصمة الأنبياء من الخطأ فيما يُبلغوا عن الخالق، ولا عصمة ولا وحي لقسيس أو قديس، ومن المحرم تمامًا في الإسلام اللجوء لغير الخالق في الاستعانة والطلب، حتى لو كان الطلب من الأنبياء أنفسهم. والطلب من الخالق عز ومن غيره مذلة. فهل يُعقل أن يُساوى بين الملك وعامة الشعب بالطلب؟
قال الله:
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ۖ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ … (الرعد:14).
وقال تعالى مخبرًا عن رسوله:
قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (الأعراف:188).
إن الميزة التي اختص بها دين الإسلام عن بقية ديانات الأرض هو المفهوم الحقيقي عن صفات الخالق، والذي هو مفهوم عالمي مشترك بين الجميع ولا يختلف عليه أحد.
في القانون البشري، المساس بحق الملك أو صاحب الأمر لا يستوي مع غيرها من الجرائم. فما بالك بحق مَلك الملوك. إن حق الله تعالى على عباده أن يُعبد وحده، وحق العباد هو الحصول على علاقة مباشرة معه، وبالتالي الحصول على الأمان في الدنيا والآخرة. إنه يكفي لأن نتخيل أن نهدي أحدا بهدية ويشكر هو شخصًا آخر ويتوجه له بالثناء. ولله المثل الأعلى فهذا حال العباد مع خالقهم، أعطاهم الله ما لا يُعد ولا يُحصى من النعم، وهم بدورهم يشكرون غيره. والخالق في كل الأحوال غنيٌّ عنهم.
هل إذا دلني حمّال الحقائب في المطار على بوابة الطائرة، أقوم أنا حينها بالركوب على ظهره بدلاً من ركوب الطائرة؟
لنفترض مثلا لو صنعتُ جهاز تلفاز بنفسي فهل أنا بحاجة أن أتشكل في صورة تلفاز لمعرفة الآليات الصحيحة والآليات غير الصحيحة؟
ما سأفعله في هذه الحالة هو أن أضع بعض الإرشادات لتشغيلها حتى يسهل لكل شخص استخدام هذا الجهاز.
إعطاء حق الخالق لأحد من مخلوقاته من أعظم الذنوب، فاتخاذ قسيس أو قديس بيني وبين الخالق يعني أن أنني أعطيت حق الخالق والذي هو عبادته مباشرة لغيره، وتصوري أن الخالق يتجسد في صورة إنسان أكون بذلك أعطيته صفات بشرية والذي هو منزه عنها.
على سبيل المثال: هل تتساوى فظاعة جرم قطع شجرة إلى نصفين، وقطع جسد طفل صغير إلى نصفين؟
بالطبع لا. قيمة صفات البشر أعلى من قيمة صفات النبات.
والخالق قيمة صفاته أعلى من قيمة صفات خلقه، إضافة إلى أنها غير محدودة أيضًا لأنه غير محدود.
ولهذا يكون عقاب من اتخذ وسطاء في علاقته بينه وبين الخالق أبدي وغير محدود.
الإسلام هو:
الإيمان بأن لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له ولا ولد، وأنه هو الخالق والرازق للكون كله وما يحتويه، لقد خلق الخالق المسيح بلا أب وخلق آدم من غير أب ولا أم، فهو يخلق ولا يلد، وعلينا عبادة الخالق مباشرة بدون قسيس ولا قديس ولا أي وسيط.
عندما يجد الإنسان نفسه غني جدًا وكريم للغاية، فإنه سوف يدعو الأصدقاء والأحباب إلى الطعام والشراب. صفاتنا هذه ما هي إلا جزء بسيط مما عند الله، فالله الخالق له صفات جلال وجمال.
هو الرحمن الرحيم، المعطي الكريم، لقد خلقنا لعبادته، كما تسبحه وتعبده كل مخلوقات الكون. وخلقنا ليرحمنا ويسعدنا ويعطينا، إن أخلصنا له العبادة وأطعناه وامتثلنا أمره، وكل الصفات البشرية الجميلة مشتقة من صفاته. علمًا بأن اﻹنسان يستخدم صفاته لحاجة، والخالق ليس له حاجة بل إرادة.
إنه خلقنا ومنحنا القدرة على الاختيار، فإما أن نختار طريق الطاعة والعبادة، وإما أن ننكر وجوده ونختار طريق التمرد والمعصية. وهذا بلا شك أعظم درجةً وتكريمًا للإنسان من الإجبار على الطاعة المؤدي إلى السعادة المزيفة.
قال الله تعالى:
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (الذاريات:56).
كان مما قرأت وأعجبني:
لم تكن موجودًا أيها الإنسان ثم كنت، وقد علمت أنك لم توجد نفسك ولا أوجدك من هو مثلك.
فإذا كنت أنا لم أُوجد نفسي يقينًا، و لم يوجدني الذي هو مثلي يقينًا، فيبقى الاحتمال الثالث الذي لا خيار غيره وهو أن الذي أوجدنا ليس مثلنا – فلو كان الذي أوجدنا مثلنا ويتصف بأوصافنا لاستطعنا نحن كذلك أن نوجِدَ خلقًا مثلنا، و قد تكون اللغة عاجزة عن التعبير الدقيق لهذا المعنى، وحتى العقل البشري أيضًا عاجز عن أن يصل لمعرفة كنه الخالق العظيم – وبين اللغة والعقل في قصورهما يمكن أن نخرج بحقيقة واحدة مطلقة، وهي أن الذي أوجدنا وأوجد الكون وأوجد قوانين الكون التي اكتشفها العلم المادي ليس مثلنا. فإذا لم نستطع دفع الضرر عنا، ولم نستطع الإبقاء على أنفسنا وأحبابنا من الفناء، فقطعًا نحن لا نستطيع أن نوجد أنفسنا، فالمسألة بالفعل خارجة عن إرادتنا.
نحن لا نعلم ما في أحشائنا، وحتى المتخصصين في تشريح جسم الإنسان يقفون حيارى لعظيم الصنع والإبداع في الجسم البشري.
قال الخالق:
وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (الذاريات:21)
قال تعالى:
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُواْ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ (الطور).
ولو نحن أوجدنا أنفسنا لأوجدناها كاملة دون نقص، قوية، وليست بحاجة إلى موجودات الكون، ومن ثم لاستطعنا أن نُبقي أنفسنا وأحبابنا دون أن نموت، لأن الإبقاء أسهل من الخلق والإيجاد.
إن الإنسان يجب أن ينظر لذاته أولاً قبل أن يأخذه الغرور بعيدًا عن الحقيقة، فمهما تطورت العلوم والتكنولوجيا حوله، فالإنسان لا يستطيع أن يطور نفسه إلى خلق آخر قابل للخلود أو حتى أن يعيش مستقلاً بذاته ودون الحاجة للطعام، الشراب، الهواء أو حتى الاستغناء عن الذهاب للخلاء لقضاء حاجته. ويحاول الإنسان جاهدًا أن يبحث في هذا الفضاء الفسيح عن حياة توفر له الديمومة والسعادة، وهو يعلم يقينًا أنه يعجز أن يصل للقمر بدون ألبسة واقية أو يكون في داخل مركبة تخرجه عن نطاق الأرض، وكل ذلك خشية أن يدركه الموت. وهكذا نتيقن أننا لا نستطيع إعادة الحياة إلى أعزّ الخلق إلينا أو حتى أنفسنا مهما أوتينا من قوة علمية.
قال الخالق: قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ۚ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا ۖ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ۖ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا (الإسراء).
لماذا لا نطبق على معرفة مصدر وجودنا أبسط قوانين الكون وأبسط بديهيات الحياة وهي: ” لا شيء يأتي من لاشيء”؟
لو تلقى أب مكالمة عاجلة من طوارئ مستشفى معين يخبره أن ابنه الوحيد قد تعرض لحادث مروع وحياته في خطر، طالبين من هذا الأب التبرع لولده بجزء ما من جسمه لينقذ حياة ولده.
سوف يذهب الأب مسرعًا بلا تردد ودون أي شكوك حول درجة شهادة الطبيب العلمية ومدى صحتها، ولا حتى كفاءة الأجهزة، ولا كفاءة الممرضين، ولا دقة بناء مبنى المستشفى، ولا الآلية التي تعمل بها أجهزة المستشفى، ولا يطلب الأب أن يدرس هو بنفسه الطب كاملاً ليصبح طبيبًا يفهم في الأحياء العضوية والتشريح وما إلى ذلك.
لو تعامل الإنسان مع معرفة مصدر وجوده بهذه الدرجة من الخطورة فسوف ينجو بنفسه.
أي قيمة لهذه الحياة التي تساوي صفرًا مقارنة باللانهاية.
إن أي رقم مقارنة باللانهاية هو صفر وفقًا للرياضيات. فحياتنا عبارة عن مجموعة أرقام، ينقص يوميًا من حياتنا رقم من هذه الأرقام، فحتى لو عشنا مائة أو مائتي سنة فمقارنة باللانهاية هو صفر، وان الموت آتٍ لا محالة في أي عمر، بمرض أو بدون مرض وساعة الموت محددة. فنحن نعيش في الصفر. إن الملحد لم يعرف الله حق المعرفة، لأنه لو عرفه حقًا لما رفض الإيمان به والتسليم له، فجهله بصفات الله تجعله يعامله وكأنه إنسان أمامه يقايضه بالمثل، ويشترط رؤية الخالق للإيمان به. فهل نفضل الصفر على اللانهاية.
فإننا إما أن نعيش سنوات أطول من غيرنا فنفقد خلالها ما نملك من ولد وأهل، أوأن نموت قبلهم ونترك وراءنا كل شيء.
ومع علم الملحد اليقيني أنه ممكن أن يموت فجأة في أي مكان وأي زمان ويلقى حتفه، إلا أنه لا زال يجيب عندما يسأله البعض:
من أين أتيت؟
إلى أين تذهب؟
لماذا أنت هنا؟
فيقول:
نحن أتينا من لا شيء، ونحن لا شيء، ونصير إلى لاشيء. لا أدري. أنا غير مهتم. ربما أعرف لاحقًا.
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري: " يعيش العالم اليوم أزمة نسيان جوهر الأمر، فيقف العالم بلا ركيزة أساسية جوهرية وهي المرجعية. لقد فُقدت الذاكرة الإنسانية، والذاكرة الإنسانية هي ما تجعل الإنسان إنسان. من خلال الذاكرة نتعلم ويصبح لنا تاريخ، من خلال الذاكرة نعرف الخير والشر، و نعرف الحق والباطل، وبالتالي نؤسس حياتنا على هذا اﻷساس ونختار بين الخير والشر. ولو نسينا جوهر الحياة لتعلقت حياتنا بين السماء و اﻷرض".
يقول الدكتور المسيري أيضًا: "اللَه (الخالق) هو الركيزة الأساسية لكل شيء، الركيزة الأساسية للتواصل بين الناس، لضمان أن الحقيقة حقيقة، فإن نسِي البشر اللَه - الذي هو ركيزة الكون - فكل شيء ينتهي".
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (الحشر:19).
كم تعجبت خلال تجوالي حول العالم من اهتمام الجميع بالمطالبة بحقوق الإنسان وحقوق الحيوان وحقوق المرأة، حتى انتهوا بحقوق المثليين والذين لا يملكون إلا ميول شاذة خارقة لقوانين الكون. وهل ميولي للسفر والتجوال على سبيل المثال يجعل لي حق على الدولة أن تدعمني ماليًا ومعنويًا لتحقيق رغباتي وميولي حتى وإن كانت طبيعية؟
وبغض النظر عن التناقض الملحوظ في تصرفات البشر بهذا الخصوص، فقد تناسوا أهم حق وهو حق الخالق الذي خلقهم وصورهم وأعطاهم حرية الاختيار. ونسوا أيضًا المطالبة بحقهم في التواصل مع الخالق مباشرة.
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (الأنعام:151). وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۖ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (الأنعام:152).
إن الدين هو: مجموعة العلاقات والأخلاقيات والقيم التي تربط الإنسان بخالقه، وبِالمجتمع من حوله.
l أولا: جزء يختص بالعلاقة مع رب العالمين.
l ثانيا: جزء يختص بتنظيم العلاقات الإنسانية.
تُشدِّد الوصايا في الآيات الكريمة أعلاه، على المحافظة على الحقوق، وعلى رأسها حق رب العالمين في عبادته مباشرة وليس من خلال قديس ولا قسيس، وهي النقطة التي تُغطي العلاقة بين الانسان وخالقه.
ومن ثم حق الوالدين بِالإحسان لهما، ومن ثم حق الأولاد والذرية في الحصول على حياة كريمة، والنهي عن اقتراف الفواحش أو حتى الاقتراب منها، وعدم قتل النفس البشرية بغير حق، والمحافظة على مال اليتيم، والقسط في الوزن والمِكيال، والعدل عند القول والفعل، والوفاء بالعهود، وعلى رأسها العهد مع رب العالمين.
ورغم وجود هذه الوصايا في الديانات الأخرى المنتشرة في العالم، إلا أنه من العجيب، أنني وجدت من خلال حواراتي مع غير المسلمين أنهم يتذكرون جميع الوصايا إلا الوصية الأولى، فعندما أطلب منهم سردها لي، فإنهم غالبًا ما يبدؤون من الثالثة، ويُعللون ذلك بأنهم دائمًا ما ينسون الوصية الأولى والثانية، والتي تنص على أهمية عبادة الله وحده من غير وسيط. وهذا دليل على تجاهل هذه الوصايا بصورة متعمدة، من قبل رجال الدين والمُؤسسات الدينية، لكسب فوائد دنيوية وسياسية.
سألني بوذي من دولة تايلاند يومًا:
تعتمد البوذية في تعاليمها على أن الإنسان مسؤول عن تصرفاته ويجب أن يتصرف بما يُرضي ضميره، بينما يقول الإسلام إن أفعال الإنسان تُقدر له يوم ينفخ الله فيه الروح في بطن أمه.
مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (الحديد 22).
مما يجعل المسلم اتكالي على الله إلى أبعد الحدود.
قلت له: جعل الله تبارك وتعالى للعبد اختيارا ومشيئة ومنحه إرادة يختار بها طريق الخير أو الشر، وبها يفعل ما يريد، وعلى أساس هذه الحرية يحاسب الإنسان على أفعاله وأقواله. ولذلك فالإختيار مع وجود العقل وعدم الإكراه هو مناط التكليف وإذا فُقِد العقل أو الحرية زال التكليف.
ومن رحمة الله تعالى بعباده أنه إذا سلب ما وهب أسقط ما أوجب. وعلى الرغم من أن الأعمال جميعها مسجلة عند الخالق، لكنها غير مفروضة على الإنسان. إنما هي في علمه المسبق.
ويمكن تشبيه ذلك بتوقعنا المسبق لتصرفات أطفالنا نظرا لإدراكنا لطبيعة شخصيتهم وهذا لا يعني أننا نجبر أطفالنا على هذه التصرفات. فإن رب العالمين - وله المثل الأعلى- يعلم طبيعة البشر، فهو الذي خلقنا ويعلم ما في قلوبنا من الرغبة بالخير أو الشر ويعلم نوايانا ومطلع على أفعالنا وكون هذا العلم مسجل عنده لا يلغي أو يناقض حرية اختيارنا. علما بأن الله علمه مطلق وتوقعات البشر تصيب وتخطئ.
يمتلك الإنسان حرية الاختيار فقط في حدود معرفته وإمكانياته. الحساب يكون مرهون بوجود المسؤولية وإمكانية الاختيار، فالخالق لن يحاسب المرء على شكله ووضعه الإجتماعي وانتمائه القبلي، لأن كل ذلك خارج عن نطاق امكانياته واختياره.
الإيمان بوجود خالق للكون التزام ومسؤولية، فالإيمان يجعل الضمير متيقظًا، ويحث المؤمن على محاسبة نفسه في كل صغيرة وكبيرة، المؤمن مسؤول عن نفسه وأسرته وجاره وحتى عن عابر السبيل، وهو يأخذ بالأسباب ويتوكل على الله، ولا أظن أن هذه من صفات مدمني الأفيون التي يوصم بها المؤمنون اليوم. عدم الإيمان بخالق يدعو أتباعه إلى المادية، وتهميش علاقتهم مع خالقهم برفضهم للدين والتخلي عن المسؤوليات والواجبات، وحثهم على الاستمتاع باللحظة التي يعيشونها بغض النظر عن العواقب، فيفعلوا ما يحلو لهم حال الأمن من العقوبة الدنيوية، معتقدين بعدم وجود رقيب أو حسيب إلهي، ولا بعث أو حساب.
أذكر أنني واجهت نقاشًا عنيقًا مع علماني عربي:
حيث قال:
إن البشر هم من لهم الحق في تحديد الحقوق الطبيعية.
قلت له:
تخيل أنك كنت ضيف على شخص يملك منزل ضخم يحتوي غرف مفروشة بأثاث جميل وطاولة طعام وأدوات مطبخ، الخ.
والسؤال هنا:
هل يحق لك أن تأكل على طاولة طعامه، وتستخدم أدوات مطبخه أو تكسر أحد قطع أثاثه دون إذنه؟
طبعًا هذا الفعل سيكون مذمومًا عند كل عاقل، لأنك تصرفت في ملك غيرك دون إذنه.
السؤال اﻵن:
لو سمح لك مالك المنزل بالتصرف في موجودات المنزل، هل يحق لك التصرف في هذه الحالة؟
بالطبع يختلف جواب العقل هنا وأصبح يجيب باﻹثبات.
فلماذا اختلفت اﻹجابة هنا؟
اختلفت اﻹجابة لأن مفهوم الحق مرتبط ارتباطًا كليًا بمفهوم الملكية.
فالمالك (اﻹنسان) الحكيم العاقل العادل هو الوحيد الذي له حق التصرف في ملكه، وهو الوحيد الذي له الصلاحية أن يعطي الغير الحق في أن يتصرف في ملكه. وبدون إذن المالك يُعتبر أي تصرف في موجودات المنزل تصرف في ملك الغير، وهو فعل مذموم وقبيح عند عقلاء البشر.
يبني العقل على أن هذا الكون له خالق أوجده من العدم، وهذا الخالق يتصف بصفات الكمال.
السؤال هنا:
هل العقل يخبرنا أن هذا الكون هو مخلوق فقط لهذا الخالق؟ أم هو مملوك أيضًا لهذا الخالق؟
فالخالق مالك أيضًا.
على سبيل المثال:
عندما أصنع شيئًا بجهدي وتعبي، فلسوف يفهم الناس مباشرة أنني مالكة لهذا اﻹختراع.
فإذا كان العقل يحكم على مصنوعات البشر بالملكية لمن صنعها، والتي لم تُصنع من العدم، فما بالك بمن خلق الكون بما فيه من مخلوقات، فهو أجل وأعلى لأنه خلق من العدم، فملكية الخالق هي الملكية الحقيقية.
فبما أن الخالق (الله تعالى) مالك لما يخلق، فبالتالي إن تصرفه في الكون ليس لأنه هو المالك فقط؛ بل هو المالك، وتصرفه عن ملك وحكمه وعدل، و هو الوحيد الذي له الحق بتحديد الحقوق والحريات فيما يخص ملكه.
نفهم مما سبق أنه لا بد أن تستند الحقوق على ما يحدد الخالق للبشر عن طريق التواصل معه.
سألني بريطاني مسن يومًا:
ما هو الدليل على تواصل الخالق مع خلقه عن طريق الرسل؟
قلت له:
يوجد في داخل النفس البشرية دافعًا فطريًا شديدًا لمعرفة أصله ومصدر وجوده والغاية من وجوده، إن فطرة الإنسان تدفعه دومًا للبحث عن المتسبب بوجوده. غير أن الإنسان وحده لا يمكن له أن يُميِّز صفات خالقه والهدف من وجوده ومصيره إلا من خلال تدخل هذه القوى الغيبية، وذلك بإرسال رسل لتكشف لنا عن هذه الحقيقة.
مثلاً إذا بنى الإنسان مسكنًا، ثم تركه بدون منفعة له أو لغيره أو حتى لأولاده، فإننا بطبيعة الحال نحكم عليه بأنه إنسان غير حكيم أو غير سوي.
لذلك – ولله المثل الأعلى- فإنه من البديهي أن يكون هناك حكمة من خلق الكون، وتسخير ما في السماوات والأرض للإنسان.
فنفهم من هذا أن تشريع حقوق للإنسان وغيرها من دون اعتبار لوجود الخالق هو تصرف في ملك الغير، وبالتالي فهو عمل مذموم، ناقص، وفاقد للقيمة المنطقية العقلية والحكمة.
مما سمعت ولفت انتباهي:
في العاشر من ديسمبر من عام 1948 وفي باريس تحديدًا، اعتمدت اﻷمم المتحدة اﻹعلان العالمي لحقوق اﻹنسان بوصفه على أنه المعيار المشترك الذي ينبعي أن تستهدفه كافة الشعوب واﻷمم، وهو يحدد وللمرة اﻷولى حقوق اﻹنسان اﻷساسية التي يتعين حمايتها عالميًا، مثل حق حرية الحياة وحرية اﻹعتقاد، وحرية التعبير، والحق في التعليم والملكية الخ.
تبدو هذه الحقوق عقلية ومنطقية ولكن تُذكر دون أي دليل واضح عليها.
بينما يكثر الاستدلال على صحتها بطريقتين:
l التنبيه على فائدتها وأثرها.
فمثلاً ذُكر في وثيقة حقوق اﻹنسان:
” كان غاية ما يرنو إلية عامة البشر هو انبثاق عالم يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة، ويتحرر من الفزع والفاقة”.
l توافقها مع طبيعة البشر، وميلهم إليها واضطرارهم لها.
يقول الفيلسوف الفرنسي "جان جاك روسو" وهو أحد المنظرين لفكرة الحقوق الطبيعية:
"الحرية جزء من طبيعة اﻹنسان، واﻹنسان لا يستطيع التنازل عن طبيعته".
لكن هل هذه الطرق في اﻹستدلال صحيحة و منطقية؟
ما المقصود أصلاً بالحق؟
الحق هو الشيء الثابت الفاعل الذي يقبح عدم مراعاته من قبل الجميع وبلا استثناء، مثل التعامل بالعدل والوفاء بالعهد وحفظ اﻷمانة، الخ.
فبناءً على ذلك تكون الطريقه الأولى للإستدلال على الحقوق من خلال بيان أثرها لا يصح عقلاً، لأنه بمجرد كون حقوق اﻹنسان نافعة لشخص معين أو لمجموعة من الناس لا يعني أنه حق من حقوقه ويجب على اﻵخرين مراعاته، وبمجرد كون فكرة ما لصالحي لا يعني أنها صحيحة.
فبمجرد كونها مصالح لا يجعلها حقوق طبيعية ملزمة للآخرين.
بالنسبة للطريقة الثانية وهي الاستدلال على الحقوق عن طريق توافقها مع طبيعة البشر، فهنا نسأل سؤال مهم:
هل مجرد الميل النفسي لأمر ما يعتبر المسوغ للمطالبة فيه واعتباره حق؟
لقد وجدت خلال سفري أن في بعض الدول اﻷفريقية يميل الناس إلى قضاء حاجتهم في الطرق العامة وأمام الجميع، فهل يجعل هذا الميل لهم الحق على اﻵخرين بدعمهم والدفاع عن حقوقهم؟
هل ميل السارق إلى السرقة حق من حقوقه؟
فعقلاً الميل اﻹنساني لفكرة معينة لا يجعلها صحيحة، بل المعتمد دائمًا وأبدًا هو تقديم دليل عقلي ومنطقي يوضح بدقة جوابًا على هذا السؤال.
لماذا يملك اﻹنسان حق على اﻵخرين يجب عليهم مراعاته؟
فلا يكفي لإجابة هذا السؤال أن يقال لأنها تتوافق مع طبيعته وميله فيجب على الجميع مراعاتها.
سألتني أمريكية يومًا قائلة: لماذا لا تعترفون أنتم المسلمون بحقوق المثليين؟
قلت لها: وهل تعترفين بحق ممارسة زنا المحارم؟
قالت: لا، لا أعترف. هذا التصرف مشين ويؤثر على السلامة العقلية لأفراد المجتمع.
قلت لها: لماذا؟ وهل أنتِ من يقرر نوعية الحقوق المسموحة والمؤثرة على السلامة العقلية من عدمها؟
من أكثر من مئة عام كان الاعدام عقوبة المثلية الجنسية، وخففت العقوبة لاحقًا للمؤبد، ووصل التخفيف إلى عدد سنوات قليلة في السجن إلى أن وصل إلى غرامة مالية بسيطة، ثم السماح به لدرجة اعتباره حق شرعي ومدعوم ثم الدفاع عنه.
ومن ثم عقاب من يهاجمه. من الذي يمنع البشر لاحقًا من اتباع نفس السياسة مع زنا المحارم؟ وقد شاهدت بالفعل مؤخرًا فيديو لأخ وأخته يطالبان بحقهما بإقامة علاقة زوجية وتسجيل زواجها رسميًا.
نحن بحاجة لنظام ثابت لا يحضع لأهواء البشر، من خالق البشر نفسه الذي يعلم طبيعتهم وما يصلح لهم وما لا يصلح.
هناك مشاكل فلسفية تعترض مفهوم حقوق اﻹنسان والحقوق الطبيعية.
ما هو مفهوم اﻹنسان؟
هل اﻹنسان هو الكائن الذي يتكون في بطن أمه قبل الولادة؟ أم أن اﻹنسان هو الطفل المولود؟ وهل المجنون إنسان؟ وماذا عن المعاق؟
لماذا يتم حصر الحقوق في اﻹنسان فقط؟
فإنه إذا كان هناك حق طبيعي ثابت لكل كائن حي مختار فليزم أن تشمل هذه الحقوق حقوق جميع الكائنات بلا استثناء.
فليزم مراعاة حق الحياة للحيوانات، والحشرات، والنباتات، بل حتى البكتيريا والجراثيم.
وإذا سلمنا بوجود فعلاً من يعترض على أكل لحوم الحيوانات من بعض النباتيين بحجة حقوق الحيوان، فلماذا لا تتم المطالبة بحق الحيوانات التي تحبس في الحدائق، والحشىرات التي تباد بالمبيدات، بل حتى الجراثيم التي تقتل بمعجون اﻷسنان. فعدم مراعاة حقوق هذه الكائنات يعتبر نقض للقاعدة اﻷساسية التي بنيت عليها نظرية الحقوق الطبيعية، بل ويُعتبر جريمة. فالخالق المالك لهذا الكون هو من يحدد نوع الحيوان الذي يُؤكل والحيوان الذي لا يُؤكل، وما لا ينفع فيجب أن نتخلص منه، وما ينفع فيجب علينا اﻹستفادة منه.
إذًا، نعود للسؤال المحوري: من الذي جعل هذا الحق للإنسان؟
هل اﻹنسان هو الذي جعل الحق للإنسان؟
من أين له هذا الحق أصلاً؟ وإذا ثبت أنه لا حق له في تأسيس الحقوق، فما هو البديل إذًا؟
لقد أسس دين اﻹسلام لحقوق وكرامة اﻹنسان منذ 14 قرنًا:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات:13).
المساواة بين البشر عبارة عن خصوصية أخلاقية وليست حقيقة طبيعية أو مادية أو عقلية، فالناس من المنظور المادي أو الطبيعي أو العقلي بلا شك غير متساوين فمنهم الطويل والقصير ومنهم الأبيض والأسود على سبيل المثال، وتأسيسًا على الإيمان بالخالق والدين فقط يستطيع البشر المطالبة بالمساواة، فالقول إن البشر متساوون ممكن فقط إذا كان الإنسان مخلوقًا لله.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ( النساء:١).
يقول علي عزت بيجوفيتش:
"الأخلاق كظاهرة واقعية في الحياة الإنسانية، لا يمكن تفسيرها تفسيرًا عقليًا، ولعل في هذا الحجة الأولى والعملية للدين. فالسلوك الأخلاقي، إما أنه لا معنى له، وإما أن له معنى في وجود الله، وليس هناك اختيار ثالث. فإما أن نسقط الأخلاق باعتبارها كوْمة من التعصبات، أو أن نُدْخل في المعادلة قيمة يمكن أن نسميها الخلود، فإذا توافر شرط الحياة الخالدة، وأن هناك عالمًا آخر غير هذا العالم، وأن الله موجود، بذلك يكون سلوك الإنسان الأخلاقي له معنى وله مبرر”[16].
مما قرأت وأعجبني:
" إن الملحد عندما ينكر وجود الإله بسبب وجود الشر فهو يناقض نفسه. يقر الملحدون أنهم لا يؤمنون بوجود إله، بدعوى أنهم لا يؤمنون إلا بما هو مادي محسوس، بالتالي ينكرون العالم الغيبي، من ملائكة، وجن، ورسالات سماوية، وأنبياء ومعجزات، ويعترفون في المقابل بالمادة «الطبيعة».
و الطبيعة أو المادة (البيئة) بإقرارهم محايدة تمامًا؛ لا تخضع لحتمية الشر ولا لحتمية الخير، فضلاً أن تكون خاضعة للأخلاق أو مصدرًا لها. وإذا كان الإنسان ابن الطبيعة، وماديًا محضًا، وفاقد الشيء لا يعطيه، فلماذا لم يكن الإنسان محايدًا هو الآخر عن الخير والشر والأخلاق؟[17]".
كيف يفتخر الملحد بأخلاقه بينما الطبيعة باعترافه لا تعرف الأخلاق حسب زعمه؟ هذا يعني أن المفاهيم الأخلاقية التي يفتخر بها الملحد هي هبة من الخالق التي ينكر هو وجوده، وهذا ما نصطلح عليه بالفطرة، التي أودعها الله فينا لنكون جاهزين لاستقبال رسالاته التي يبلغنا إياها بواسطة أنبياء ورسل.
وهذه هي الرسالة، أما بالعقل فنتصل بالعالم الغيبي والعالم المادي:
غيبي ــ لأن جزءً مهمًا من العقل تجريدي – فنتعقَّل الرسالات السماوية.
المادي: لنستطيع إعماره وفق ما تمليه الرسالة السماوية الخُلقية.
يقول الملحد البريطاني "ريتشارد دوكنز" [18]: “إن الطبيعة ليست شريرة، لكنها للأسف غير مبالية، وهذا من أصعب الدروس التي ينبغي أن يستوعبها الإنسان، فمن الصعب علينا الإقرار بأن كل الأمور ليست خيرة أو شريرة، ليست رحيمة أو شرسة، إنها لا مبالية بكل آلام الإنسان، إذ ليس لدى الطبيعة أي هدف”.
تنادي بعض الديانات صراحة بنظام الطبقية تدينًا، فالهندوسية تقسم الناس إلى خمس درجات أشراف وغيرهم (براهمان، كشاترياس، فيشاش، شدراس، داليتس).
وكل ديانات الهند تؤمن بالكارما (حالة الإنسان من الغنى والفقر متوقفة على عمله الذي عمل في حياته السابقة)، وعليه فنظام الطبقية معتمد لديهم.
إضافةً إلى أن اليهودية تقوم على العرقية: دين أبناء إسرائيل “شعب الله المختار”.
بينما يتميز الإسلام عن بقية الديانات بالمساواة المطلقة بين بني آدم.
سألني شخص يهودي يومًا:
ألم يقل الله عنكم في القرآن:
كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.
فأنتم تُؤمنون بالعرقية كاليهود تمامًا.
قلت له: هذه الآية نزلت بناءً على علم الله المسبق أن المسلمين سوف يحفظوا رسالة خالقهم، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وليس بناءً على تمييز عرقي، فأعداد المسلمين تزداد يومًا بعد يوم من جميع اﻷعراق واﻷمم.
على سبيل المثال:
مدير مدرسة معينة ممكن أن يرشح طالب من طلبة المدرسة لبعثة دراسية ويزكيه بقوله هذا أفضل طالب عندي.
هذا المدح والترشيح جاء بناءً على معرفة المدير المسبقة بتفوق الطالب واجتهاده، وليس بناءً على أساس عرقي.
وطبعًا مع فارق علم الخالق المطلق وعلم البشر المحدود.
كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (آل عمران:110).
قال رسول الله في خطبة الوداع:
أيها الناس، اسمعوا مني أبيِّن لكم، فإني لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا، في موقفي هذا. أيها الناس، إن دماءكم، وأموالَكم، حرامٌ عليكم إلى أن تَلقَوْا ربَّكم، كحرمةِ يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغتُ، اللهم فاشهد، فمن كانت عنده أمانة، فليؤدِّها إلى من ائتمنه عليها. إن ربا الجاهلية موضوع... (رواه النسائي وأبو داوود).
...أيها الناس، إن ربَّكم واحدٌ، وإن أباكم واحد، كلكم لآدمَ، وآدمُ من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عَجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد. (رواه النسائي وأبو داوود).
لفت انتباهي خلال تجوالي حول العالم الاستخدام الغريب لبعض المصطلحات من قبل بعض الشعوب للتعريف عن النفس أو عن الغير.
أذكر أنني واجهت مواقف مضحكة بسبب تعريف خادمة المنزل الأفريقية لصديقاتها وبنات وأبناء قريتها على أنهم إخوتها، حتى قلت لها يومًا مازحة: ما هذا العدد الكبير من الإخوة والأخوات، أنتم تصلحون لتكوين فريق كرة قدم.
أنا لا أنكر بالطبع إخوة جميع البشر في نسبتهم ﻵدم أبو البشر، لكن علمني الدين الإسلامي أن الوضوح ووضع الأمور في نصابها هو أساس الحياة السليمة القائمة على الحق الذي جاء الإسلام ليقيمه على الأرض وهو:
الإيمان بإله واحد وهو الخالق، الذي ليس له شريك ولا ولد، وعبادته وحده بدون قسيس ولا قديس وبلا حجر أو صنم أو أي وسيط.
ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (سورة الحج:62).
فجاء الإسلام ليقيم الحق بخصوص خالق الكون أولاً، ثم ليقيم الحق بخصوص المخلوقات.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَىٰ بَيِّنَتٍ مِّنْهُ ۚ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (سورة فاطر:40).
الآية تشير هنا إلى أن عبادة غير الله تتضمن الادعاء بأنهم آلهة، والإله لابد أن يكون خالقًا، والدليل على أنه الخالق يكون إما بمشاهدة ما خلقه في الكون، وإما بوحي من الإله الذي ثبت أنه خالق، فإذا لم يكن لهذا الادعاء دليل، لا من خلق الكون المشهود، ولا من كلام الإله الخالق، كانت بالضرورة باطلة.
كان بعض العرب يعتقدون أن الرجل الذكي له قلبان، وكان الواحد منهم إذا غضب من زوجته قال لها أنت كأمي، وكان الواحد منهم يتبنى ابن غيره وينسبه إلى نفسه كأنه ولده، كما يفعل الناس الآن في الغرب. فحَكَمَ الله تعالى على كل هذه الدعاوى بأنها مجرد كلام لساني، وأنها مخالفة للحق.
مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ۚ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ ۚ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ ۖ وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ( سورة الأحزاب :4).
وهذا هو الفرق بين الحق والباطل، فالحق يعكس العلم الحقيقي المطابق للواقع، وأما الباطل فهو وهم.
الإسلام يحث على كفالة اليتيم، ويحث كافل اليتيم على أن يعامل اليتيم كمعاملته لأبنائه، لكن يُبقي الحق لليتيم لكي يتعرف على أسرته الحقيقية، لحفظ حقه في ميراث أبيه، ولتجنب اختلاط الأنساب.
إن قصة الفتاة الغربية التي عرفت بالصدفة بعد ثلاثين عامًا أنها ابنة بالتبني وانتحرت، هي أكبر دليل على فساد قانون التبني. لو كانوا أخبروها منذ الصغر لرحموها، ولأعطوها الفرصة لكي تبحث عن أهلها.
ولهذا كان من الضرورة التعريف السليم والصحيح لكل فرد من أفراد المجتمع، سواءً كانوا من الأخوة، أولاد العم، الأصدقاء، أو الغرباء، وهكذا.
اليوم وفي ظل وجود المطالبات من قبل الشواذ بإلغاء ما يسمى بتحيز اللغة، واتهام اللغة بعدم الإنصاف باحتوائها على أسماء الإشارة التي تشير إلى الذكر بطريقة مختلفة عن اشارتها إلى الأنثى، والسعي لتوحيد المسميات والألقاب لتسهيل أمور حياتهم الشاذة، والتي هي عبارة عن خرق لقوانين الطبيعة، نجد أنفسنا نحن كمسلمين في اضطرار لفتح باب النقاش لإقناع بعض المفسدين بعدالة اللغة، والتي وضعت الأمور في نصابها التي خلقها الله عليه، وذلك بالإقرار بوجود ذكور وإناث في هذه الحياة، لهم طبيعة فسيولوجية مختلفة، يطالبون بتوحيد المسميات والألقاب والجنس والهوية.
وبالتالي يجد الإنسان نفسه يومًا لا يدري هل من يعالجه طبيب أم طبيبة، وما هي هوية من يكلمه، وما هو جنس من يجلس إلى جانبه. فنجد أنفسنا بذلك ندافع عن الثوابت الكونية التي خلقها الخالق، والتي هي أصلا من المسلمات و البديهيات.
أذكر قصة لمدرِّسة اللغة الفرنسية، وهي أفريقية من دولة “بنين” المجاورة لمدينة لاغوس حيث كنا نقيم، والتي كنت قد أبلغتها بعد المحاضرة بحاجتي لخادمة للمنزل تتكلم اللغة الفرنسية، لكي أتمكن وأولادي من ممارسة اللغة الفرنسية معها، فتفاجأت بقولها: أنا مُستعدة لأن أعمل خادمة لديكِ.
قلت لها: أنتِ مُدرَستي ولك احترامك عليّ.
قالت: أنت لطيفة للغاية، ولكنني فعلاً بحاجة لهذا الأمر، فأنت تعرفين أنني آتي كل يوم من دولة “بنين” المجاورة لهذه المدينة، وأنا بحاجة إلى سكن، وسوف أنظف لكِ البيت صباحًا وأعمل في المركز مساءً، وأنا لاحظت أنكم ودودون جدًا، مع أن كتابكم (القرآن) لم يتحدث عن الحب أبدًا، ولا حتى عن حب الخالق لعبيده، وكيف يحبهم وهو يُضيق عليهم في العيش.
قلت لها: بالنسبة للسكن، فتفضلي للسكن بدون عمل ولا مقابل، فلدينا مُلحق خاص للعاملين وممكن أن تشاركيهم في المبيت.
أما بخصوص القرآن، فهل قرأتِ القرآن أصلًا؟
قالت: لا، لكنني سمعت بذلك.
قلت لها: لو قرأتِ القرآن لأدركتِ ما فيه من ذكر لرحمة الله وحبه لعباده، ولكن حب الله جل جلاله للعبد ليس كحب العباد بعضهم بعضًا، لأن الحب في مقاييس البشـر هو حاجة يفتقدها المحب، فيجدها عند المحبوب، ولكن الله جل جلاله غني عنا، فحب الله لنا حب تفضل ورحمة، حب قويٍّ لضعيف، وحب غني لفقير، وحب قادر لعاجز، حب عظيمٍ لصغير، وحب حكمة.
قالت: كيف هذا؟
قلت لها: ألا تأخذي بيد طفلك الصغير بكل حب إلى غرفة العمليات ليشقوا بطنه، وأنتِ واثقة تماما من حكمة الطبيب وحبه للصغير وحرصه على نجاته.
قالت: كيف يُحبهم وهو يُقيد حريتهم ولا يسمح لهم بأن يفعلوا ما يحلو لهم؟ ألم تسمعي بالفردانية؟ ألم تسمعي بهذا المفهوم المتطور، وهو أن قرارات الفرد يجب أن تكون مستندة على منفعته ومتعته الشخصية وهو مركز الاهتمام الرئيسي، أي أن مصالحه الشخصية تتحقق فوق اعتبارات البلد وتأثيرات المجتمع والدين، وتسمح له بتغيير جنسه، ويفعل ما يحلو له، ويرتدي ويتصرف في الطريق كما يريد، فالطريق للجميع.
قلت لها:
وهل تسمحين لأطفالك بفعل ما يحلو لهم بذريعة حبك لهم؟ هل تسمحي لابنك الصغير أن يُلقي بنفسه من نافذة المنزل أو يلعب بسلك الكهرباء المكشوف؟
قلت لها: عبارة الطريق للجميع صحيحة لكن فهمك لها خاطئ، لو كنت تسكنين مع مجموعة من الأشخاص في منزل واحد مشترك، هل كان سيعجبك تفسيرك لهذه العبارة؟ هل كنت ستقبلين بأن يقوم أحد شركائك في المنزل بعمل مشين كقضاء الحاجة في صالة المنزل بحجة أن المنزل للجميع؟ هل ستقبلين الحياة بهذا المنزل بدون قوانين ولا ضوابط تحكمها؟ فالإنسان بالحرية المطلقة يصبح كائنًا قبيحًا، وكما ثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه عاجز على تحمل هذه الحرية.
الفردانية لا يمكن لها أن تكون هوية بديلة عن الهوية الجامعة مهما كانت قوة الفرد أو نفوذه. أفراد المجتمع طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى لبعضها عن بعض. فمنهم الجنود والأطباء والممرضون، والقضاة، فكيف يتسنى لأي منهم أن يُغلب منفعته ومصلحته الشخصية على الآخرين ليحقق سعادته، ويكون هو مركز الاهتمام الرئيسي؟
قالت: كيف تتحقق السعادة إذًا؟
قلت لها: السعادة في الفردانية، هي الانتصار، الهيمنة وامتلاك التكنولوجيا. لكن السعادة في الإسلام، هي القلب المطمئن، الزواج الناجح، المسكن الواسع، الجار الصالح، المركب المريح، المشاركة والتعاون.
وقد جعلت الحضارة الإسلامية والتي تشكلت من مزيج من مختلف الشعوب والقبائل الفردانية كالرسم البياني، فجعلت حساب وجزاء، واجبات وحقوق، وكما يقع على الفرد العقاب أيضًا يُكافأ،
ولقد حرر الإسلام أيضاً الفرد من العصبية القبلية وأعاده إلى الفطرة السليمة، كمدني اجتماعي، يعيش في جماعة تحترمه وتُقدر إمكانيته التفكيرية وقدرته على التعايش مع الآخرين.
فالأمة المُطلعة للتقدم والتي تتبنى هدفًا ساميًا، تنطلق من مفهوم الكيان الواحد، فلكل فرد اجتهاده وأفكاره وقدراته، لكن التطبيق يحتاج إلى الجماعة، وبالتالي يتساوى الجميع هنا حسب ما قدمه كل فرد.
وبذلك يكون الإسلام قد حدد علاقة الفرد بالمجتمع، وأوضح بأن الفرد ليس سوى جزءٍ صغير لا يتجزأ عن الهوية الجماعية التي بدورها تكفل ضبط إيقاع الحياة. مما أنتج مجتمعًا مستقرًا وآمنًا، لأنه كلما اختل التوازن بين الطبقات، ستظهر الصراعات، ويُفتقد الرضا في المجتمع.
فلم يعد المال هو المعيار الأعلى الذي يميز مالكه عن الآخرين، ولا بالمال تتحقق القوة وقيادة العالم. القائد في النظام الإسلامي لا يُقيَّم بما يملك من مال، لكن بما لديه من عِلم وأخلاق وعدل، وبهذه الصفات وحدها استطاعوا سابقاً التقدم وتحقيق الانتصارات.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (رواه مسلم).
قالت: الفردانية ترتبط بالشذوذ الجنسي بشكل مباشر، فلماذا لا تحبون الشاذ جنسيًا، فما لديه من ميول، هو مسألة جينية طبيعية، وميول طبيعي، ويجب أن نحترمه.
قلت لها: وهل تحترمي ميول السارق إلى السرقة؟ فهذا أيضاً ميول، ولكنه في الحالتين ميول غير طبيعي، إنه خروج على الفطرة البشرية، واعتداء على الطبيعة، ويجب أن يُقوَّم.
لقد خلق الله الإنسان وهداه إلى الطريق السليم، ولديه حرية الاختيار بين طريق الخير وطريق الشر.
وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (البلد: 10).
ولذلك نجد أن المجتمعات التي تُحرِّم المثلية نادرًا ما يظهر فيها هذا الشذوذ، والبيئة التي تبيح وتشجع على هذا السلوك، تزداد فيها نسبة المثليين، مما يدل على أن الذي يُحدد احتمال الشذوذ لدى الإنسان، هو البيئة والتعاليم المحيطة به.
ولذلك قال تعالى عن قوم لوط:
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82 ) (سورة الأعراف).
هذه الآية تؤكد أن الشذوذ ليس وراثيًا، وليس من أصل تركيب الشفرة الوراثية للإنسان، لأن قوم لوط هم أول من ابتدع هذا النوع من الفاحشة. وهذا يتطابق مع أوسع دراسة علمية، والتي تُؤكد أن الشذوذ الجنسي لا علاقة له بالجينات الوراثية[19].
إن هوية الإنسان تتغير في كل لحظة، حسب مشاهدته للفضائيات، أو استخدامه للتكنولوجيا أو تعصبه لفريق كرة قدم مثلاً. لقد صنعت العولمة منه إنسانًا معقدًا. الخائن أصبح صاحب وجهة نظر. والشاذ أصبح صاحب سلوك طبيعي، وأصبح لديه الصلاحية القانونية للمشاركة في نقاشات علنية، بل وعلينا دعمه والتصالح معه.
وأصبحت الغَلبة لمن لديه التكنولوجيا، فإذا كان الشاذ هو الطرف الذي يمتلك أسباب القوة، فسيفرض على الطرف الآخر قناعاته. مما أدى إلى إفساد علاقة الإنسان بنفسه وبمُجتمعه وبخالقه.
بارتباط الفردانية بالشذوذ الجنسي بشكل مباشر، تلاشت هنا الفطرة الآدمية التي ينتمي لها الجنس البشري، وسقطت مفاهيم العائلة الواحدة، فبدأ الغرب بوضع حلول للتخلص من الفردانية، لأن الاستمرار بهذا المفهوم سيُضيع المكاسب التي حققها الإنسان المعاصر، كما أضاع مفهوم العائلة، وبالتالي ما زال الغرب حتى اليوم يعاني من مشكلة تقلص أعداد الأفراد في المجتمع، والذي أدى إلى فتح الأبواب لاستقطاب المهاجرين.
فالإيمان بالله واحترام قوانين الكون التي خلقها لنا، والالتزام بأوامره ونواهيه، هو طريق السعادة في الدنيا والآخرة.
في إطار الحديث عن ظلم اللغة للمرأة والمطالبات العالمية بتوحيد الجنس في مجال أسماء الإشارة للذكر والأنثى، قد أقر المسلمون بمساواة المرأة للرجل من الناحية الإنسانية والحقوق الفطرية التي يهدي إليها الدين، إلاّ أنهم كمسلمين وكبشر أيضًا يخالفونهم في المساواة الجسدية والمعنوية.
إذ نؤمن ككلّ فرد واقعي بوجود الفوارق الجسدية التي تقتضي تقسيم العمل بنحو ينسجم مع الفرق بحسب الخلقة.
وإلاّ فإذا نظرنا إلى المساواة في كل شيء، فإن النتيجة ستكون تردي الحالة النفسية والأخلاقية للمرأة حتمًا. التفريق بين الرجل والمرأة يعلي من شأن المرأة ويحفظ كرامتها.
وأذكر هنا حوار لي مع زائرة بوذية كانت قد سألتني قائلة: هل بمقدور المرأة المسلمة أن ترتدي القصير من الثياب؟
قلت لها: المرأة المسلمة من البشر، لا تختلف عن نسائكم، لكنها فطِنة، وتستطيع أن تميز بين الحقوق والواجبات وإعطاء الأولويات، وعمل التوازن في تطبيق هذه المصطلحات، والتي قد عجزت المرأة في جميع أنحاء العالم عن القيام به.
قالت: ماذا تقصدين؟
قلت لها: المرأة المسلمة فهمت مصطلح” الخصوصية ” جيدًا، فعندما أحبت أبيها وأخيها وابنها وزوجها، فهمت أن حب كلاً منهم له خصوصية، فحبها لزوجها وحبها لأبيها أو أخيها يتطلب منها إعطاء كلَّ ذي حق حقه. فحق والدها عليها من الاحترام والبر ليس كحق ابنها من الرعاية والتربية وهكذا.
فهي تفهم جيدًا متى وكيف ولمن تُبدي زينتها، فهي لا ترتدي في لقاءها مع الغريب كما ترتدي مع القريب، ولا تَظهر بنفس الهيئة للجميع.
قلت أيضًا:
المرأة المسلمة هي امرأة حرة، رفضت أن تكون أسيرة لأهواء غيرها وللموضة، ترتدي ما تراه مناسب لها ويسعدها هي، ويُرضي خالقها، انظري كيف أصبحت المرأة لديكم أسيرةً للموضة ودور الأزياء، إن قالوا مثلاً أن الموضة هذا العام هي لبس البنطال القصير الضيِق، تسارعت المرأة لارتدائه، بغض النظر عن ملاءمته لها أو حتى شعورها بالراحة عند ارتدائه من عَدمِه.
قلت لها مسترسلة:
إنه لا يخفيكِ وضعها عندما تحولت إلى سلعة، ويكاد لا يخلو إعلان أو منشور من صورة امرأة عارية، مما يُعطي رسالة غير مباشرة للمرأة بقيمتها في هذا العصر.
إن بإخفاء المرأة المسلمة لمفاتن جسمها، تكون هي التي قد أرسلت رسالة للعالم، وهي: أنها إنسانة ذي قيمة، مُكرَّمة من الله، ويجب على من يتعامل معها، أن يحكم على علمها، ثقافتها، قناعاتها وأفكارها، ليس على مفاتن جسمها.
في الولايات المتحدة الأمريكية لا يستطيع اﻷمريكي أو اﻷمريكية تقديم طلب وظيفة بصورة شخصية. يجب أن يكون الطلب خالي من صورة شخصية لتتمكن اللجنة من الحكم على الشخص حسب خبراته وكفائته.
قلت لها أيضًا: والمرأة المسلمة فهمت أيضًا الطبيعة البشرية التي خلق الله الناس عليها، فهي لا تُظهر زينتها للغرباء لحماية المجتمع وحماية نفسها من الأذى، ولا أظنك تنكرين حقيقة أن كل فتاة جميلة مفتخرة بإظهار مفاتنها للعلن، عندما تصل لسن الشيخوخة تتمنى لو أن كل نساء العالم ارتدين الحجاب.
قالت: هذا صحيح.
قلت لها متسائلة: هل قرأتِ عن إحصائيات معدلات الوفاة والتشويه الناجمة عن عمليات التجميل؟ ما الذي دفع المرأة لأن تقاسي كل هذا العذاب؟ لأنهم أجبروها على خوض مسابقة الجمال الجسدي عوضًا عن الجمال الفكري، مما أخسرها قيمتها الحقيقية بل وحياتها أيضًا.
قالت: حسنًا وهل حقق الاسلام للمرأة المساواة مع الرجل؟
قلت لها: المرأة المسلمة تبحث عن العدالة ولا تبحث عن المساواة. مساواتها بالرجل تُفقدها كثيرًا من حقوقها وتميزها.
قالت: وكيف ذلك؟
قلت لها: لنفترض أن لديك ابنان، أحدها يبلغ من العمر 4 سنوات والآخر 12 سنة. وأردتِ شراء بنطال لكلِّ منها، فالمساواة هنا تتحقق في أن تشتري لهما البنطالين بنفس المقاس، مما يتسبب في معاناة أحدهما، لكن العدالة أن تشتري لكل واحد منهما مقاسه المناسب، وبالتالي تتحقق السعادة للجميع.
قلت لها مستطردة: تحاول المرأة في هذا الزمن إثبات أنه بإمكانها أن تفعل كل ما يفعله الرجل. غير أنه في الواقع، المرأة تفقد تفردها وامتيازها في هذه الحالة، فإن الله خلقها لتقوم بما لا يُمكن أن يقوم به الرجل.
لقد ثبت أن آلام الوضع والإنجاب من أكثر الآلام شدةً، وجاء الدين ليعطي المرأة التكريم المطلوب مقابل هذا التعب، ويعطيها الحق بعدم تحملها لمسؤولية النفقة والعمل، أو حتى أن يتقاسم زوجها معها مالها الخاص كما هو الحال لديكم. وفي حين لم يُعطِ الله الرجل القوة على تحمل آلام الولادة، لكن أعطاه القدرة على العمل الشاق مثلاً.
قالت: لكنني أحب أن أعمل أعمالاً شاقة لأثبت جدارتي، وأستطيع فعل ذلك كالرجل تمامًا.
قلت لها: حسنًا، بإمكانك أن تعملي وتكدّي، لكن في النهاية أنتِ من سيضع الأطفال أيضًا، ويقوم برعايتهم وإرضاعهم، فالرجل في كل الأحوال لا يستطيع القيام بهذا، وهذا مجهود مضاعف عليكِ، كان بإمكانك تفاديه.
قالت: وهل أعطاها اﻹسلام حق التعليم؟
قلت لها: جعل اﻹسلام التعليم أمر وليس مجرد حق.
أعطى المرأة أيضًا حق الخُلع، وحرية التصرف في مالها، واﻹحتفاظ بلقب عائلتها بعد الزواج، وهذا الحق ما تفقده كثيرًا من نساء العالم.
مما لا يعرفه الكثيرون، هو أنه إذا أرادت امرأة مسلمة المطالبة بحقوقها من خلال الأمم المتحدة، والتنازل عن حقوقها في الإسلام، فستكون خسارة لها، لأنها تتمتع بحقوق أكثر في الإسلام. فالإسلام يُحقق التكامل الذي خُلق من أجله الرجل والمرأة مما يوفر السعادة للجميع.
سألتني شابة ألمانية عن وضع المرأة المسلمة فقلت لها:
أكدت دراسة بريطانية أعدها مركز ستارش للأبحاث العلمية أجريت مؤخرًا على تصنيف المرأة السعودية والتي تمثل المرأة المسلمة كثالث أجمل إمرأة بعد المرأة المجرية والبولندية[20].
واعتمدت الدراسة في إعلان هذه النتيجة على الرقة التي تتمتع بها الفتاة السعودية، مع احتفاظها بكم مهول من الحياء الذي يبدو جليًا في تصرفاتها، إلى جانب قدرتها الفائقة على التفاعل مع الموضة دون أن يفقدها ذلك شيئًا من حشمتها.
وقدمت في هذا الخصوص قياسات علمية منها، أن كل طلباتها تتم تلبيتها، كما أنها هناك دائمًا من يقوم بخدمتها، إضافة إلى أن لديها مصروفها المخصص الذي يوفر لها من قبل أولياء أمورها دون حاجتها للعمل، كما أنها محاطة بالاهتمام من قبل أفراد أسرتها، ويظل ذلك الاهتمام ملازمها حتى عندما تنتقل إلى بيت زوجها.
ووصف الباحث الفتيات السعوديات اللاتي يتمسكن بالحشمة التي دعا لها دين الإسلام بأنهن (ملكات العالم)، مثبتًا ذلك بقوله «إن الملكة لا تقود السيارة بل هناك شخص ما يتكفل بذلك».
وأضافت الدراسة أن الفتاة السعودية تعتني عناية فائقة بجمالها وحسن مظهرها ورشاقتها.
ويشير كريستوفور جولايل الذي أعد البحث، أن السعوديات متحجبات، ولا يمكن للشمس أن تؤثر على بشرتهن ما يضفي عليها النضارة.
يذكر أن هذه الدراسة البحثية جاءت تحت مسمى “أكثر بنات العالم دلالاً وجمالا”.
وبغض النظر عن تمسك الفتاة السعودية بصورة خاصة أو الفتاة المسلمة عمومًا بهذه الصورة الجميلة من الحشمة والوقار التي وصفها بها التقرير أم لا، لكنه يبقى تمسكها بتعاليم دينها هو الخيار اﻷنسب لها، لأنه من خالقها الذي يعرف طبيعتها وما يناسبها ويعلي من شأنها، وبين ما لا يناسبها ويدني من مقامها.
وأريد أن أضيف هنا أن المرأة المسلمة أيضًا حققت التوازن في علاقتها مع خالقها بعبادته وحده دون أن تشرك بعبادته أحد.
إننا نجد أن كثيرًا من الأمم والحضارات فشلت في تحقيق هذا التوازن. (أمة بوذا عبدت بوذا وتركت القوة التي في السماء "الخالق"، وأمة كرشنا عبدت كرشنا، وهكذا).
على سبيل المثال: بينما رفعت أُمَّة المسيح عليه السلام قدر المسيح وأمه الصديقة مريم إلى درجة الألوهية، كان قد رفض أتباع موسى عليه السلام الاعتراف بالمسيح كرسول، فجاء المسلم وحقق التوازن المطلوب، وآمن بالمسيح واحترمه وقدَّره، وذلك بتصديق رسالته الصحيحة وعبادة الله كما عبده جميع الأنبياء السابقين.
نشرت العديد من المواقع الإخبارية مؤخرًا مأساة فتاة استرالية تبلغ من العمر ٣١ عامًا[21].
وهي تعمل مصممة ملابس سباحة نسائية.
قامت هذه الفتاة بممارسة حريتها المزعومة بنشر صورها بملابس السباحة.
لكن قوبلت صورها على الانستغرام بالسخرية والهجوم الشديد بسبب زيادة واضحة في وزنها، والتي لا تطابق المعايير الغربية للشكل الأمثل للأنثى.
صحيفة ديلي ستار الإنجليزية نشرت الخبر تحت عنوان:
ناشطة على السوشيال ميديا تتحدى المسيئين الذين طالبوا بتغطية جسدها، وكان هذا التحدي عن طريق نشر صورها الحقيقية بملابس السباحة. والتي وُصفت من المسيئين بالصور المقرفة.
وهذه رسالة واضحة من الغرب للمرأة والتي تقول لها: عندما أعطيناكِ الحرية لإظهار جسدك، فإننا نريد أن نرى منظرًا جميلاً بمواصفات ومعايير نضعها بأنفسنا للإستمتاع بها.
الخبر نفسه أوضح أن الفتاة الأسترالية “كارينا” بطلة قصتنا تعتقد أن الناس لديهم فكرة مشوهة عن شكل النساء الحقيقي، وهذا بسبب معايير الجمال الغير طبيعية الموجودة على واجهات المتاجر وفي الأفلام الإباحية.
وقد نشرت مؤخرًا صحيفة الاندبندنت البريطانية أيضًا عن مأساة فتاة أمريكية تبلغ من العمر ٢٧ عامًا[22].
حيث تعرضت لتجربة محرجة عندما تم منعها من ركوب باص حفلات بسبب وزنها.
وتروي قصتها بنفسها حيث تقول أنها شعرت بالإهانة الشديدة عندما تلقت رسالة من المنظمين للحفلة بأن لديهم معايير صارمة فيما يتعلق بالمظهر.
فيتضح لنا جليًا الآن عنصرية الغرب الذي يدعى التحضر والذي يوجه رسالة غير مباشرة للمرأة بقيمتها المتدنية لديه.
وهذا يكشف حقيقة أسطورة المرأة الغربية الحرة.
ويوضح أيضًا أن حرية المرأة الغربية مرتبطة بمتعة الرجل الغربي الذي وضعها للنساء لكي يسيروا عليها تحت مسميات مختلفة.
مثل الموضة والقوام الممشوق والجسد المثير وغيرها من المسميات.
وأذكر هنا تعليق لمُسن ألماني عندما تكلمت معه عن أهمية حجاب المرأة حيث قال:
أنتم تريدون أن تحرمونا نحن الرجال من متعة النظر إلى الجميلات.
قلت له: إذًا أنتم لا تنادون بحرية المرأة، ولكن تنادون بحرية الوصول إلى جسدها.
في الواقع لم يعرف التاريخ أمة كرمت المرأة ورفعت من شأنها مثل الأمة الإسلامية.
سألني سائل من المكسيك عن أهمية غطاء رأس المرأة المسلمة.
قلت له: غطاء الرأس يشبه ما ترتديه راهبات كنائسكم.
قال: لا، الوضع مختلف. الراهبات متدينات لا يتزوجن.
قلت له: عجيب. ألا تستطيع المرأة أن تكون متدينة ومتزوجة في نفس الوقت؟ هذه اﻷفكار هي ما نفرت الناس من الدين.
إن من أحد الأسباب التي تدعو الناس للنفور مِن الدين واللجوء الى الأخذ بالعِلم وحده، هو وجود تناقضات في بعض المفاهيم الدينية عند بعض الشعوب، لذلك فإنه من أهم السمات والأسباب الرئيسة التي تدعو الناس إلى الإقبال على الدين الصحيح، هو وسطيته وتوازنه. وهذا ما نجده بوضوح في الدين الإسلامي.
إن مشكلة الديانات الأخرى، والتي نشأت من تحريف الدين الصحيح الواحد:
إما أن تكون روحية صِرفه، وتشجع أتباعها على الرهبانية والانعزال. كما هو الحال في تعليمات جوتاما بوذا وعلماء النصرانية والهندوسية اليوم.
وإما أن تكون مادية بحتة.
وهذا ما تسبب في صرف كثير من الناس عن الدين عمومًا في كثير من الشعوب وأصحاب المِلل السابقة.
إن التطرف، التشدد والتعصب، ما هي إلا صفات قد نهى عنها الدين الصحيح أساسًا. وقد دعا القرآن الكريم في آيات كثيرة للأخذ باللطف والرحمة في التعامل، والأخذ بمبدأ العفو والتسامح.
قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ( آل عمران: 159).
وقال عز وجل:
ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (النحل: 125).
الأصل في الدين هو الحلال، باستثناء بعض المُحرمات المَعدودات التي ذُكرت بوضوح في القرآن الكريم والتي لا يختلف عليها أحد.
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) (الأعراف).
إن ما يدعو إلى التطرف والتشدد أو التحريم بغير دليل شرعي، نَسبهُ الدين الى أفعال شيطانية، والدين منها برئ.
قال تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (البقرة: 169).
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا (النساء: 119).
إن الدين في الأصل يأتي ليُخفف عن الناس كثيرًا من القيود التي يفرضونها على أنفسهم. ففي الجاهلية وقبل الإسلام على سبيل المثال، كانت قد انتشرت ممارسات بغيضة كوأد البنات وتحليل أنواع من الطعام للذكور وتحريمها على الإناث، وحرمان الإناث من الميراث، إضافة إلى أكل المَيتة والزنا وشرب الخمور وأكل مال اليتيم والرِّبا وغيرها من الفواحش.
كما نجد عند بعض الشعوب الأخرى كثيرًا من التشريعات والأحكام والممارسات الخاطئة، والتي نُسبت إلى الدين، كذريعة لإجبار الناس عليها، والتي انحرفت بهم عن طريق الصواب، وعن مفهوم الدين الفِطري، وبالتالي فَقَدَ كثيرٌ من الناس القدرة على التفريق بين المفهوم الحقيقي للدين والذي يُلبي الحاجات الفطرية للإنسان والتي لا يختلف عليها أحد، وبين القوانين الوضعية والتقاليد والعادات والممارسات الموروثة من قِبل الشعوب، مما أدى لاحقًا إلى المطالبة باستبدال الدين بالعِلم الحديث بزعمهم.
إن الدين الصحيح هو الذي يأتي للتخفيف عن الناس ورفع المعاناة عنهم، وليَضَع الأحكام والتشريعات التي تهدف بالدرجة الأولى التيسير على الناس.
...يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ..... (البقرة: 185).
يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا (النساء :28).
...وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (النساء:29).
...وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (البقرة: 195).
....وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ... ( الأعراف: 157).
وقوله عليه الصلاة والسلام:
يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا، وَلاَ تُنَفِّرُوا (رواه أبو داوود).
وأذكر هنا قصة الثلاثة رجال الذين كانوا يتحادثون فيما بينهم. حيث قال أحدهم: أمّا أنا فإنّي أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال:
أنتم الّذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنّي أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوّج النّساء، فمن رغِبَ عن سنّتي فليس منّي (صحيح البخاري).
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (الأنبياء: 107 ).
وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لعبد الله بن عمرو وقد بلغه أنه يقوم الليل كله، ويصوم الدهر كله، ويختم القرآن في كل ليلة فقال:
فلا تَفْعَلْ، قُمْ ونَمْ، وصُمْ وأَفْطِرْ، فإنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا (صحيح البخاري).
قامت حضارة العالم على علوم المسلمين وحضارتهم، فقد نقل الأوروبيون وغيرهم في بداية عصر النهضة كل ما وقع تحت أيديهم من العلوم والمعارف الإسلامية إلى لغاتهم وكانت هناك مراكز إشعاع حضاري مثل الأندلس وصقلية كان الأوروبيون يأتون اليها لتلقي العلم على أيدي العلماء العرب والمسلمين.
يقول ريتشارد كوك المحامي والسياسي الأمريكي وحاكم ولاية تكساس سابقًا[23]:
"إن أوروبا لتدين بالكثير لأسبانيا العربية، فقد كانت قرطبة سراجًا وهاجًا للعلم والمدنية في فترة كانت أوروبا لاتزال ترزح تحت وطأة القذارة والبدائية، وقد هيأ الحكم الإسلامي في أسبانيا مكانة جعلها الدولة الوحيدة التي أفلتت من عصور الظلام".
الأديب الفرنسي جوستاف لوبون فى كتاب "حضارة العرب" يتكلم عن عالمية الحضارة الاسلامية فيقول[24]:
" لم يقتصر فضل العرب والمسلمين في ميدان الحضارة على أنفسهم فقد كان لهم الأثر البالغ في الشرق والغرب فهما مدينان لهم في تمدنهم، وإن هذا التأثير خاص بهم وحدهم فهم الذين هذبوا بتأثيرهم الخلقي البرابرة".
إن مخترع أول محرك بخاري ومكتشف القوة البخارية كقوة متحركة هو تقي الدين الشامي الشهير بالراصد.
قفد وضع أول نموذج للمحرك البخاري عام 1552 ثم بعدها بسنوات صنع أول عنفوانة بخارية قبل الايطالي برانكا ب80 سنة والمحرك البخاري قبل الاروبيين 140سنة.
وحتي نموذج جيمس واط لأول محرك بخارية تجد عناصره ومكوناته عند الجزري وتقي الراصد و المرادي الأندلسي.
عندما كان العرب المسلمون في أوج الحضارة، كان الغرب لا زال يبحث النتيجة النهائية التي خرج بها المؤتمر الشهير:
هل المرأة انسان أم حيوان؟
ومنهم من قال: إنما هي شيطان.
فقد انعقد ﺑﻔﺮﻧﺴﺎ ﻋﺎﻡ 673 ﻣﺆﺗﻤﺮ أوروﺑﻲ ﺣﻮل ﺗﺤﺪﻳﺪ الطبيعة اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ للمرأة، ﻫﻞ ﻫﻲ إنسان أم حيوان، فإذا ﻛﺎﻧﺖ إﻧﺴان ﻓﻬﻞ ﺗﺴﺘﻔﻴﺪ ﻣﻦ ﺟﻤﻴﻊ الحقوق أم ﻻ. وإذا ﻛﺎﻧﺖ حيوان ﻓﻼ ﺗﺴﺘﻔﻴﺪ ﻣﻦ الحقوق، وﺑﻌﺪ ﻧﻘﺎﺷات ﺣﺜﻴﺜﺔ ﺗﻮﺻﻠوا ﺑﺎلإﺟﻤاع أﻥ اﻟﻤﺮأة إﻧﺴان، ﻭﻟﻜﻨﻬﺎ ﻻ ﺗﺴﺘﻔﻴﺪ ﻣﻦ اﻟﺤﻘﻮق!
إن الحضارة الإسلامية بانشغالها أيضًا بجمع ما صح من أقوال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وانشغالها بحفظ القرآن الكريم قد أحسنت التعامل مع خالقها، لأنها تكون بذلك قد حافظت على دين يضع العلاقة بين الخالق ومخلوقاته في المكان الصحيح، في الوقت الذي أساءت فيه الحضارات البشرية الأخرى التعامل مع الله، فقد كفرت به، وأشركت معه مَخلوقاته في الإيمان والعبادة، وأنزلته منازل لا تتلاءم مع جلاله وقدره.
والمسلم الحق لا يخلط بين الحضارة والمدنية، فينهج منهج الوسطية في تحديد كيفية التعامل مع الأفكار والعلوم، والتمييز بين:
العنصر الحضاري: المتمثل بالشواهد العقائدية، العقلية، الفكرية، والقِيم السلوكية والأخلاقية.
العنصر المدني: المتمثل في الإنجازات العلمية، والاكتشافات المادية، والمُخترعات الصناعية.
المسلم يأخذ من هذه العلوم والاختراعات في إطار مفاهيمه الإيمانية والسلوكية.
على سبيل المثال:
الحضارة اليونانية آمنت بالله، ولكنها أنكرت صفة الوحدانية والوجود له، وتصفه بأنه لا يعمل ولا يريد.
الحضارة الفارسية قبل الإسلام، كفرت بالله وعبدت الشمس من دونه وسجدت للنار وقدَّستها.
الحضارة الهندوسية، تركت عبادة الخالق وتعبد الإله المخلوق، والمُتجسد بالثالوث المقدس، والمتكون من ثلاث صور إلهية: الإله ” براهما” في صورة الخالق، والإله “فشنو” في صورة الحافظ، والإله "سيفا" في صورة الهادم.
l الحضارة البوذية تنكرت للإله الخالق، وجعلت من بوذا المخلوق إلهًا لها.
l حضارة الصابئين، كانوا من أهل الكتاب وتنكروا لربهم، وعبدوا الكواكب والنجوم.
l الحضارة الفرعونية مع بلوغها درجة كبيرة من التوحيد والتنزيه للإله في عهد أخناتون، إلا أنها لم تتخل عن صور التجسيم والتشبيه للإله ببعض مخلوقاته كالشمس وغيرها، فكانت رمزًا للإله. وقد بلغ الكُفر بالله ذروته عندما ادعى فرعون في زمن موسى الألوهية من دون الله، وجعل من نفسه المُشرع الأول.
l حضارة العرب التي تركت عبادة الخالق وعبدت الأصنام.
l الحضارة النصرانية كما ذكرنا كفرت بوحدانية الله، وأشركت به المسيح عيسى وأمه مريم، وتبنت عقيدة التثليث وهي الإيمان بإله واحد متجسد في ثلاثة أقانيم (الآب، الابن، الروح القدس)
l الحضارة الرومانية التي تنكرت للخالق بدايةً، وأشركت به عند اعتناقها النصرانية، حيث دخلت عقائدها مَظاهر الوثنية، من عبادة الأوثان ومظاهر القوة.
l الحضارة اليهودية التي تنكرت لخالقها، واختارت إلهًا خاصًا بها، وعبدت العجل، ووصفوا الإله في كتبهم بصفات بشرية غير لائقة به.
فعندما اضمحلت الحضارات السابقة، وتحولت الحضارة اليهودية والنصرانية إلى حضارتين لا دينيتين، وهما الرأسمالية والشيوعية، فإنه وفقًا لأساليب تعامل هاتين الحضارتين مع الخالق والحياة عقائديًا وفكريًا.
فإنهما متخلفتين وغير متقدمتين، ويتسمان بالوحشية وغير الأخلاقية، وخسروا القيم والأخلاق والغاية من وجودهم، مع وصولهم الذروة في التقدم المدني، والعلمي والصناعي، لكن ليس بهذا يقاس تقدم الحضارات.
إن معيار التقدم الحضاري السليم، يستند إلى شواهده العقلية، والفكرة الصحيحة عن الخالق والإنسان والكون والحياة، والتحضر الصحيح الراقي، هو الذي يُوصِل إلى المفاهيم الصحيحة عن الخالق وعلاقته بمخلوقاته، ويضع هذه العلاقة في مكانها الصحيح[25].
وهي تواصل مخلوقات الله معه مباشرة وعبادته وحده، وهذا الدين الإسلامي العظيم الذي أسس لهذه العلاقة بين العبد وربه.
الحق الذي أقره الخالق بالإيمان به على أنه الإله الواحد الأحد الذي ليس له شريك في الملك وليس له ولد، ولا يتجسد في صورة إنسان، حجر أو حيوان.
وعلى الإنسان التواصل مع هذا الخالق مباشرة وليس عن طريق قسيس ولا قديس.
وبالتالي نصل إلى أن الحضارة الإسلامية هي الوحيدة المتقدمة بين هذه الحضارات، لأنها ببساطة حققت التوازن المطلوب.
لقد كانت اكتشافات العلماء المسلمين هي المعتمدة خلال العصور الوسطى. وقد كان العلماء المسلمون يتعبَّدون إلى الله بعلمهم، ويتقربون به إليه، دون أن يظهر أي تعارض بين العلم المادي والدين، بل كثيرًا ما كان مِن العلماء المسلمين فقهاء في علوم الدِين، ورجال علم في نفس الوقت. قلا تعارض بين اكتشاف قوانين الكون وبين عبادة الخالق واضع قوانين الكون.
يشهد على هذا الكلام تلك الدواليب المائية التي كانت تستخدم لتدوير المطاحن ومعاصر القصب وعصر الحبوب والبذور، وفي رفع المياه للسقي.
وقد استخدم المسلمون طاقة الماء والهواء على نطاق واسع، وكانت العلاقة وثيقة بين العلوم النظرية وتطبيقاتها التقنية في مجالات الحياة العملية التي شملت تصميم المدن ومنشآت الري والسدود والأبنية والآلات وغيرها.
وقد كان المهندسون والتقنيون في عصر الحضارة الإسلامية يتبعون المنهج العلمي في أعمالهم ويبدؤون برسم المخططات في الحالات الصعبة ثم يصنعون نموذجًا مصغرًا لما ينوون تنفيذه.
وإلى هذا يشير "ج . كراوثر" في كتابه قائلاً[26]:
"كان من الطبيعي بعد أن اطمأنوا إلى قوتهم العسكرية ومعتقداتهم الإيمانية -يعني المسلمون -أن يتجهوا لتشييد المدن الرائعة ودراسة ثقافة الحضارات التي دانت لهم وكان العرب المسلمون أمة جديدة بلا تراث علمي سابق، فقرأوا التراث الفكري للقدماء بعقول متفتحة بلا خلفيات تعوقهم . ولذلك وقفت الثقافات اللاتينية والإغريقية والهندية والصينية جميعًا بالنسبة لهم على قدم المساواة. وكان من نتائج هذه العقلية المتعطشة للمعرفة عند المسلمين أنهم أصبحوا بالفعل المؤسسين الحقيقيين لمفهوم العالمية في المعرفة أو وحدة المعرفة الإنسانية. وهي إحدى السمات بالغة الأهمية بالنسبة للعلم الحديث".
لكن حدث تزوير وتزييف للحقائق وخرق مبدأ الأمانة العلمية في النقل، فنسبت الإكتشافات والاختراعات إلى غير أهلها، هذا ولا ننسى الكتب التي سرقت أو أتلفت أو أحرقت أثناء سقوط الدول الإسلامية نموذج ما فعله التتار في بغداد وما فعله الصليبيين في الأندلس وغيرها.
قال لي عربي نصراني يومًا:
انظري إلى تخلف المسلمين وانتشار الإلحاد في بلاد المسلمين.
قلت له:
أنت تتكلم عن أفراد، الإسلام أسرع الديانات انتشارًا بإحصائيات عالمية وباعترافات دولية.
ومع ذلك فإن ابتعاد بعض المسلمين عن دينهم الصحيح وعجزهم عن نشر مبادئ الإسلام بصورة صحيحة ساهم في العقود الأخيرة بازدياد نسبة الملحدين والمشككين والحائرين في العالم.
ولقد تقدم الناس في الغرب بالعلوم والمعارف عندما تركوا المعتقدات الخاطئة والتي كانت تقوم على أساس الدين المشوه لديهم، وأخذوا بأسلوب العلم والمنطق، لكن مع توجههم للعلم بطريقة سليمة كانوا قد خسروا القيم والأخلاق والغاية من وجودهم بتغاضيهم عن اعتناق الدين الصحيح.
قال: وكيف تتطور دول ملحدة وتتخلف دول مؤمنة بالله؟
قلت له: وهل يُعطي مدير المدرسة لابنه الفاشل شهادة النجاح، لمجرد أنه ابنه فقط؟
هناك قوانين وأنظمة يجب أن تُتبع في هذه المدرسة، ويُحدَّد بناءً عليها الناجح والراسب. لكن هذا لا يغير واقع أن مدير المدرسة يحب ابنه أكثر من الجميع وهو حامل اسمه ووريثه الوحيد.
قلت له أيضًا:
فالكون كالمدرسة له قوانينه وسُننه، ولقد حقق غير المؤمنين التقدم المادي والتطور التكنولوجي بسبب أخذهم بالقوانين الكونية والسنن الإلهية، ومن ثم استطاعوا بناء أنظمة سياسية جيدة، وأنظمة تعليمية وتربوية قوية وذات معايير منهجية.
وكان هذا التقدم المادي فقط لمن أخذ منهم بزمام السنن الإلهية والقوانين الكونية، وهذا دليل على أن النجاح الدنيوي لا يحابي أبيض ولا أسود، والعدل من أسمائه عز وجل، والظلم من أقبح ما حذرنا الله منه. ولكن مع هذا فالله لن يُعط غير المؤمن الآخرة التي هي لعباد الله المؤمنين وأحبائه.
يقول الأديب الفرنسي" جوستاف لوبون":
"إن العرب هم الذين علموا العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين".
ويقول الأديب الفرنسي جوستاف لوبون أيضًا[27]:
"إن حضارة العرب المسلمين قد أدخلت الأمم الأوربية الوحشية في عالم الإنسانية، فلقد كان العرب أساتذتنا وإن جامعات الغرب لم تعرف موردًا علميًا سوى مؤلفات العرب، فهم الذين مَدَّنوا أوروبا مادةً وعقلًا وأخلاقًا، والتاريخ لا يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه. إن أوروبا مَدينة للعرب بحضارتها. وإن العرب هم أول من علم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين فهم الذين علموا الشعوب النصرانية، وإن شئت فقل: حاولوا أن يعلموها التسامح الذي هو أثمن صفات الإنسان، ولقد كانت أخلاق المسلمين في أدوار الإسلام الأولى أرقى كثيرًا من أخلاق أمم الأرض قاطبةً".
فكما شهد هذا الأديب الفرنسي، فإن في الحضارة الإسلامية لم يَظهر ما يُسمى بالنزاع بين العِلم والدين كقضية، بل قد اعتبر العلماء الطبيعيون والفلكيون والرياضيون أنفسهم في عبادة.
إن الاسلام ينظر للحياة كما ينبغي أن تكون، إن ما يتطلع اليه الناس هو دين مُتوازن يُلبِّي الحاجات الروحية التي لا غِنى عنها، ولا يُهمِّش الحاجات المادية للإنسان.
الدين يدعو إلى الوسطية، وهو المبدأ الذي شدَّد عليه الدين السماوي الخاتم الذي جاء به خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، ليصحح الخطأ الذي وقعت فيه الأمم السابقة، والذي أدى لتشويه مَفهوم الدين وربطه بالروحانيات فقط، وبالتالي أدَّى إلى انتشار الخرافات، مما أدى إلى صرف الناس عن الدين بالكلية.
إضافةً إلى أن الدين أصبح مستغلاً لتحقيق أهداف ومآرب خاصة، ومستخدمًا كوسيلة للضغط على الشعوب، وهذا ما دفع كثير من الدول لاتباع نهج ما يُدعى ب "العلمانية"، وهو فصل الدين عن الدولة.
وإذا ما رغِبنا في استرجاع أمجاد الماضي، فلا بد مِن تصويب الوضع، وإعادة ترتيب الأولويات.
يتسائل البعض عن الميزة التي يتسم بها الإسلام عن بقية الديانات المنتشرة بين شعوب الأرض.
ونستطيع أن نحصل على الإجابة بمجرد معرفة الغاية الذي جاء دين الإسلام لتحقيقها.
فلقد جاء دين الإسلام ليقيم العدل على الأرض.
وهو الدين الذي جاء به جميع أنبياء الله لجميع الأمم، والذي انحرفت عنه جميع ديانات الأرض التي قدس أتباعها أنبياءهم والصالحين منهم.
ولكن أي عدل؟
إنه العدل الذي يضع الأمور في نصابها، ويعطي كل ذي حق حقه.
lإعطاء الخالق حقه بعبادته وحده، وشهادة أنه الواحد الأحد الذي ليس له شريك في الملك ولا ولد، و الإقرار بأن الخالق منزه عن أن يكون له ولد، ومنزه عن التجسد في صورة إنسان أو حيوان أو صنم.
lإعطاء البشر حقهم بالتواصل مع خالقهم مباشرة دون قسيس ولا قديس ولا أي وسيط، والطلب عند الحاجة والشدائد من الخالق مباشرة، وليس من أي نبي بما فيهم نبي الله محمد.
lإقامة المساواة بين البشر وتخليص البشرية من التعصب العرقي المقيت. فلا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ( الحجرات:13).
lعدم اﻹكراه على الدين.
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (البقرة:256).
lرفع الاضطهاد والظلم عن البشرية، ونصرة المظلوم.
كان مما لفت انتباهي عبارة للكاتبة الإيطالية لورا فيتشا فاليري حيث تقول: "حسبُك أن الحروب التي هي أقصى ضرورات الحياة الإنسانية قد صارت بفضل محمد أقل وحشية وقسوة. إذ إنه كان يطلب من جنودِه ألا يقتلوا شيخًا ولا امرأة ولا طفلاً، ولا يهدموا بيوتًا لم تُتخذ معاقل حربية، ولا يدمروا ما بها من أسباب الحياة، ولا يَمسوا الأشجارَ المثمرة والنخيل[28]".
وتعجبت من الحقيفة التي تقرها هذه الكاتبة في كلمتها عن واقع الحروب الذي كان بمثابة ضرورة من ضروريات الحياة على حسب قولها.
فيبدو أن الحرب شكلت منذ نشأة الحضارات البشرية وحتى هذه اللحظة من التاريخ صفة ملازمة لها.
ولما كانت الحضارة البشرية قد شهدت حروبًا كثيرة، محلية ودولية، فإنها مع الأيام حاولت أن تجعلها أقل وحشية و همجية.
وقد كان نبي الله موسى مقاتلاً، ونبي الله داوود وغيرهم.
وتذكرت حينها قصة جعفر بن أبي طالب عندما وصف حال العرب قبل بعثة نبي الله محمد عليه الصلاة والسلام.
حيث قال للنجاشي ملك الحبشة:
"أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتى الفواحش ونقطع الأرحام، ونسيئ الجوار، ويأكل القوى منا الضعيف، وبقينا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه.فدعانا إلى الله، لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن واَباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وقد أمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار والكف عن المحارم، وحقن الدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات. وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا، وأن نقيم الصلاة ونؤتى الزكاة ونصوم رمضان. فصدقناه واَمنا به واتبعناه على ما جاء به من عند الله، فحللنا ما أحل لنا وحرمنا ما حرم علينا. فما كان من قومنا أيها الملك إلا أن عدوا علينا. فعذبونا أشد العذاب ليفتنونا عن ديننا ويردونا إلى عبادة الأوثان. فلما ظلمونا وقهرونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا فى جوارك ورجونا إلا نظلم عندك".
نفهم من هذه الخطبة أن الجزيرة العربية كانت بلا أمن، بلا قوانين، بلا نظام، بلا محاكم، و بلا حقوق.
كانت تخوض الحروب على أتفه الأسباب و باستمرار، كما حدث في حرب البسوس- على سبيل المثال- هذه الحرب التي قامت بسبب جمل، ودامت أربعين عامًا.
وفي المقابل، فإن المجتمع الدولي في ذلك الوقت قد عرف التعامل مع الأقليات الدينية باضطهاد كبير، فقد هاجر النساطرة خوفًا من اضطهاد البيزنطيين لهم، ولجأوا بلاد فارس، وأقاموا في رعايتها وقتًا طويلاً حتى قدوم المسلمين.
وكانت الشعوب تحت الإضطهاد الروماني محرومة من أبسط الحقوق، وهو اختيار دينها، وحرية ممارسة شعائرها.
وبناءً على هذه المعطيات وغيرها، فلم يكن متاحًا للمسلمين في ظل الإمبراطورية الرومانية التعبد بحرية، فقد استشهد فروة الجذامي مصلوبًا بسبب إسلامه، وبدا جليًا أن الإمبراطورية الرومانية لن تتسامح مع الإسلام كدين.
كما كان الحال في بلاد مصر وغيرها حيث اضُطهدت الشعوب ورضخت تحت الاستبعاد والقهر.
ومن ناحية أخرى، فمن المعروف أن مفهوم السيادة لم يعرف الثبات والاستقرار بصورته الراهنة في ذلك الوقت، فلم يكن في التوسع في الأراضي الأخرى عيب أو ضير بمقياس القرون الوسطى.
وهو في الحالة المتعلقة بالفتوحات الإسلامية كان حلاً لا مفر منه، إن أرادوا تأمين حرية التعبد للمسلمين في جزيرة العرب أو خارجها، وكذلك إن أرادوا الدعوة للإسلام بحرية ودون عوائق.
إضافة إلى أن الوضع في زمن بعثة الرسول لم يحتمل ظهور قوة ثالثة إلى جانب الفرس والروم، وقد بات جليًا خشية هرقل الروم من المسلمين كما تقول الروايات التاريخية.
فتأهب الفرس والروم للهجوم على المسلمين، و أرسل كسرى شخصين لإحضار رسول الله، وقام بأسر الصحابي الذي أرسله النبي برسالته، بالإضافة إلى قيام كسرى بتمزيق تلك الرسالة، وقيام الوالي الغساني في الشام بقتل رسول رسول الله.
وكان هذا بمثابة إعلان حرب، كان قد أدى إلى معركة مؤتة، ثم انتشرت الشائعات بتجهيز الغساسنة للهجوم على المدينة، وذلك بترتيب من المنافقون وأبو عامر الراهب المقيم عند قيصر الروم في ذلك الوقت. فكان خيار القتال هو خيار المسلمين الوحيد.
قال المؤرخ البريطاني "أرنولد توينبي":"عند دخول الأوربيين إلى قارتي أمريكا و أستراليا أبــادوا الهنود الحمر و سكان أستراليا الأصليين، بينما عند دخول المسلمين إلى أندونيسيا و ماليزيا و الفليبين لم يدخل معهم جندي واحد بل نشروا الإسلام بأخلاقهم، و هذه اندونيسيا اكبر بلد اسلامي في العالم 300 مليون مسلم "[29].
إن العلاقة بين الدين والدولة في القرون الوسطى (476 -1453م) كانت علاقة مصالح، يقوم فيها السياسي بالحصول على شرعية حكمه من رجل الدين، بينما يرخص السياسي سلطة رجل الدين الدينية والهيمنة على قلوب أتباعه، ويضمن استمرارية مؤسسته الدينية عبر الهبات والأموال.
وبمجيء الإسلام، فكك الإسلام هذه العلاقة، معطيًا مساحة أكبر للفكر والمنطق، معتمدًا على مباديء الحرية الدينية، وتوفير البراهين في تحديد دور الدين في الحياة العامة، خاصة في جانبها السياسي.
فعلى سبيل المثال:
وصية أبى بكر الصديق لجنود الإسلام قبل فتح بلاد الشام (12 هجرية):
"يا أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا أو شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له. وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فإذا أكلتم منها شيئًا فاذكروا اسم الله عليها …".
قبل تدوين اتفاقيات جنيف بأكثر من ألف عام، كانت معظم النقاط الأساسية للحماية التي توفرها تلك الاتفاقيات موجودة بالفعل في مضمونها الأساسي في التعاليم الإسلامية.
وفي الواقع، فإن العديد من القيود التي تفرضها الشريعة الإسلامية على المقاتلين تفوق بعظمتها ما هو مطلوب بموجب القانون الدولي الإنساني، وخاصة في ساحة الصراع المسلح غير الدولي.
وعندما نظمت هيومان رايتس ووتش لقاءات مع قادة المجتمع المدني في العالم الإسلامي لمناقشة حماية المدنيين، شهدت بالحق قائلةً:
"لم نواجه حججًا تدعي أن الشريعة الإسلامية تتبع معايير مختلفة".
كما قال جو ستورك، نائب مدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة: "بل كان الناس يؤكدون التطابق بين القانون الدولي الإنساني والشريعة الإسلامية، وربما كانوا يبالغون في التعبير عن هذا التطابق".
قال لي أحدهم يومًا:
إن الحروب في الإسلام كانت لإجبار غير المسلمين على الدخول في الإسلام، وأن الذين اعتنقوا الإسلام دخلوا فيه بالإكراه والقهر، لا عن اقتناع وتسليم.
قلت له:
من أجبر التتار على دخول الإسلام، وهم المنتصرون في المعركة؟
هل يعتنق المنتصر دين المغلوب مجبرًا؟
ألم يرحب أقباط مصر بالمسلمين واعتبروهم محررين لهم من اضطهاد الرومان؟
بل وساعدوهم على دخول البلاد للتخلص من سيطرة الرومان.
أليس الصحابي عمرو بن العاص هو من أعاد إلى بطريرك القبط في بلاد مصر كنائسه ورفع الظلم عنه بإعادته إلى مزاولة عمله، عندما كان مضطهدًا من الرومان وهاربًا من بطشهم؟
قال السائل:
لكن المسلمون قد قاموا بفرض الجزية على الأقباط.
قلت له:
وإن فرضوا الجزية على المقاتل فقط وليس على جميع أفراد المجتمع من الأقباط مقابل الحماية واعفائه من خوض الحروب معهم، لكنها تبقى مبلغًا ضيئلاً جدًا في واقعه وقياسًا على مبلغ الجزية الذي كانوا يدفعونه عن كل أفراد الأسرة وبمبالغ باهظة للدولة الرومانية.
وهي ما يشبه الضريبة التي أقرها القانون العالمي اليوم مقابل توفير الخدمات والحماية من الدولة لمواطنيها.
قال المؤرخ الهولندي "رينهاردت دوزي"[30]:
"لقد كان غالبية النصارى في الشرق ينتمون إلى مذاهب متعددة، كانت قد لقِيت من اضطهاد حكومة القسطنطينية وإعناتها ما أرهق أصحابها إرهاقًا، فلما جاء الإسلام – ومن طبيعته التسامح والإخاء – ترك لهم الحرية التامة في البقاء على دينهم، وظَلَّلهم بحمايته، وساوى بينهم في الحقوق على اختلاف مَذاهبهم، وبما أنهم كانوا مضطرين إلى دفع ضرائب فادحة للإمبراطور الروماني، فقد أعفاهم الإسلام منها، ولم يفرض عليهم إلا جزية معتدلة لا ترهق أحدًا".
قلت له مسترسلة: ألم يرفض عمر بن الخطاب الصلاة في كنيسة القيامة بعد سيطرته الكاملة على مدينة القدس حتى لا يظن المسلمون أنها رخصة بتحويل الكنيسة إلى مسجد؟
أليس مفتاح كنيسة القيامة في عهدة عائلة مسلمة حتى يومنا هذا[31]؟
يقول فرد من أفراد هذه الأسرة:
"تشرفت عائلتى بهذه المهمة المقدسة، منذ عام ١١٨٧، حيث قام القائد الفاتح صلاح الدين، بعد تحرير القدس من أيدى الصليبيين باتباع خطى الخليفة عمر بن الخطاب الذي خط بيده العهدة العمرية والتى تظهر سماحة الدين الإسلامى الذي أعطى النصارى عهدًا يضمن السماح لهم بممارسة شعائرهم الدينية في بيت المقدس".
وممارسة شعائر غير المسلمين وفقًا للعهدة العمرية كانت بشروط من بينها:
عدم ايواء الجواسيس في كنائسهم أو منازلهم، وعدم غش المسلمين، وأن لا يضربوا بنواقيسهم إلا ضربًا خفيفًا في جوف كنائسهم، ولا يظهروا عليها الصليب، ولا يرفعوا أصواتهم في الصلاة ولا القراءة في كنائسهم. وغيرها من الشروط[32]. قال السائل: أليس ما فعله المسلمون هو استبدال استعمار باستعمار؟
قلت له: حكم الدولة الإسلامية في ذلك الوقت كان ليس استعمارًا، فقد تحولت جماعة الفاتحين المسلمين لجماعة ضامنة لحقوق أهل الذمة، بمعنى أن الوضع المثالي كان يقتضي رقابة المسلمين جميعًا على أحوال أهل الذمة وحمايتهم، مع منحهم المواطنة الكاملة بمفهومها المعاصر.
وهذا بمقياس العصور الوسطى تقدم كبير للغاية.
إن الأمم غير العربية التي دخلها الإسلام ما زالت تحتفل بأعياد المسلمين لتمسكها الشديد بدين الإسلام، أما الأمم التي دخلها الاستعمار فإنها تجعل من فراق المستعمرين عيدًا قوميًا (أعياد الاستقلال في دول الوطن العزبي والعالم الإسلامي).
علينا أن نفهم أن الاستعمار بجميع أشكاله هو استغلال اقتصادي واستراتيجي لصالح الدولة المستعمرة، ولهذا نرى البلاد المستعمِرة نهضت على حساب الأراضي المستعمرة.
ثم أن الشعوب لم يسبق أن ثارت على الفاتحين المسلمين، الذين جاءوا بهدف رفع الظلم عن هذه الشعوب، كما ثارت على المستعمرين الذين قد أدركت هذه الشعوب أهدافهم من الظلم ونهب الثروات.
فهناك فرق كبير بين الاستعمار والفتح الإسلامي، فنلاحظ ردة فعل الشعوب بعد نهاية الحقبة الاستعمارية ، على سبيل المثال، (فرنسا والجزائر مثلاً، بريطانيا و مصر، بريطانيا والهند…وهكذا).
أما المسلمون فأساس فتوحاتهم هو ضم الآخرين معهم ومشاركتهم لهم في حياتهم (لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين من حقوق وواجبات)، مع تباين في التطبيق الذي تعتريه العيوب، والذي أخذ بعض الأحيان في عصور لاحقة طابعًا سياسيًا بسبب الضعف البشري.
فلا بوجد تشابه بين الفتوحات اﻹسلامية وما فعله اﻹستعمار الغربي على سبيل المثال، في المئتين سنة الماضية. المدن التي فتحها المسلمون كانت من أعظم المراكز العلمية والحضارية لعقود من الزمن: بغداد، سمرقند، القاهرة، الخ. أما التي احتلها الغرب فقد أصبحت خرابا.
وهذا يقودنا إلى أهمية التمييز بين دين الإسلام المثالي والمسلمون الغير مثاليون.
وقد عاش اليهود والنصارى بكنف اﻹسلام يتمتعون بحقوقهم. وهذا ما ينادي بها العالم اليوم، الدين اﻹسلامي الذي جعل لغير المسلم حقوقًا عنده، وعرَّف البشرية كلها المعنى الحقيقي للتعايش السلمي، ولكن دون اﻹعتراف بصحة دين غير المسلم، فالدين الصحيح دين واحد لا تعددية فيه.
فلا تعددية في الحق.
وذلك بالتمسك بحقيقة مطلقة لا حياد عنها، وهي أن الدين الصحيح هو دين واحد فقط، وهو الإيمان بالخالق الواحد الأحد الذي ليس له شريك ولا ولد، فهو يخلق ولا يلد، وعبادته مباشرة دون تدخل قديس ولا قسيس ولا أي وسيط.
أوضح الله تعالى الدين الحق في هذه الآية من سورة البقرة:
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285).
فدين الإسلام يقوم على فكرة عدم التفريق بين أنبياء ورسل الله من آدم إلى محمد بما فيهم موسى والمسيح عليهم الصلاة والسلام.
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136).
اعتبر يهود من أصول أندلسية (السفارديم) حصولهم على حق العيش في الدولة العثمانية بعد نفيهم من الأندلس عام 1492، مكسبًا حقيقيًا منحهم الحياة وفرصة الحفاظ على قيمهم الدينية، ووفر فرصة انتقال التقاليد والثقافة الأندلسية إلى الأراضي التركية.
وقال موريس ليفي، عضو مجلس الجمعيات الوقفية وممثل المؤسسات الوقفية للأقليات الدينية في الجمهورية التركية:
"إن إسبانيا نفت اليهود عام 1492 إلى الدولة العثمانية، التي منحتهم حق العيش على أراضيها".
وأضاف ليفي للأناضول، بمناسبة الذكرى السنوية الـ527 لنفي اليهود من الأندلس إلى الأراضي العثمانية:
"أن منح العثمانيين لليهود حق العيش على أراضيهم شكل فرصة مهمة للموسويين استطاعوا عبرها الحفاظ على قيمهم الدينية".
وأشار ليفي أن اليهود واجهوا صعوبات كبيرة هددت حياتهم ووجودهم إبان الامتداد المسيحي باتجاه الأندلس في العصور الوسطى، وأن بقائهم في إسبانيا خلال تلك الحقبة، كان سيعرضهم للقتل أو إجبارهم على تغيير دينهم.
وأضاف:
"عاش اليهود بأمان في الأندلس لعدة قرون في ظل الدولة الأموية، حتى سقوط الأندلس بيد الإسبان وتعرضهم لحملات إبادة دفعهم نحو الهروب إلى الدولة العثمانية التي شيدت أركانها وفق المنظور الحضاري الإسلامي".
وتابع قائلاً: "كان اليهود منفتحون على العمل في ظل التنوع الثقافي، ويتقنون مهنا مختلفة، ويتعايشون بشكل جيد مع المسيحيين والمسلمين، وكذلك يتعاونون مع الحرفيين والجنود والفنانين والمزارعين، كل هذا أكسبهم أهمية داخل مجتمع الدولة العثمانية الطامحة للتطور".
ولفت إلى أن الدولة العثمانية أيضًا لم تصدر أي قانون ولم تقم بأي ممارسة تستهدف اليهود وإيذائهم، وأن اليهود بدورهم عملوا على تطوير أنفسهم ليكونوا رعايا مفيدين للدولة[33].
أليست هذه المعاملة نابعة من تعاليم نبيلة جاء بها الإسلام؟
يتكرر تعليق جميل من غير المسلمين الذين سمعوا عن الإسلام لأول مرة حيث يقولون:
لم نكن نعرف أن هناك دين على وجه الأرض يدعو أتباعه لعبادة الخالق مباشرة بدون قديس ولا قسيس ولا أي وسيط. وأنه الواحد الأحد الذي ليس له شريك في ملكه ولا ولد، وأنه تعالى لا يتجسد في صورة إنسان ولا حيوان ولا صنم.
ويقولون:
كنا نظن أن المسلمين يعبدون محمدًا، و المسيحيين (النصارى) يعبدون المسيح، والبوذيين يعبدون بوذا، والهندوس يعبدون كريشنا. وكنا نبحث عن دين يقول: الخالق واحد أحد، اعبدوه وحده، وهو دين أنبياء الله إبراهيم وموسى.
نفهم من هذا التعليق أن هناك حاجة ماسة لتبليغ الدين الصحيح لجميع الأمم، ولكن مع إعطاء الجميع الحق في اختيار الدين، وحرية ممارسة الشعائر الدينية التي تخص دينه، دون قتل ولا إرهاب ولا إراقة دماء، وهذا ما لم يوفره إلا دين الإسلام على وجه الأرض.
ولم يضطر المسلمون لرفع السلاح والقتال إلا لحماية أنفسهم ودفع عدوان من اعترض طريقهم أثناء تبليغهم للدين الصحيح.
لقد مكث محمد رسول الله في مكة ثلاثة عشر عامًا يدعو بالحجة والموعظة الحسنة بلا قتال أو إراقة دماء، وكان وأصحابه مستضعفين يتعرضون للتعذيب والتنكيل ليرجعوا عن دينِهم، فما صرفهم هذا عن الإسلام، وما زادهم إلا إصرارًا على اتباع الحق، فإن كان هناك إكراه، ففي الصد عن الإسلام، لا في اتباعه.
دخل الإسلام إلى أهل يثرب – المدينة النبوية – بلا أي قتال؛ فقد اقتنع سادتهم بالإسلام حين عرضه عليهم الرسول فبايعوه بيعتي العقبة الأولى والثانية، ثم أرسل إليهم مصعب بن عمير فاجتهد في دعوة أهل المدينة حتى دخل معظمهم في دين الإسلام وتحملوا في سبيله الاضطهاد، فأين الإجبار في إسلام أهل المدينة؟
أما غزوات اليهود وفتْح مكة ومؤتة وتبوك وغيرها، فكانت تأديبًا لمن خانوا العقود، وخالفوا العهود والمواثيق، وبدؤوا بالاعتداء، أو قتلوا رسل رسول الله.
عندما دخل رسول الله مكة فاتحًا، وارتجف أعداءه من الخوف، متسائلاً: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا : أخ كريم وابن أخ كريم. فقال :اذهبوا فأنتم الطلقاء. فلماذا لم يقتلهم الرسول جميعًا بهدف القتل والإجبار؟
كان المسلمون يدخلون في الغالب في معارك غير متكافئة من حيث العدد والعدَّة، حيث كان خصمهم يتفوق عليهم تفوقًا ساحقًا. في غزوة مؤتة – على سبيل المثال – نجد أن عدد جنود المسلمين حوالي ثلاثة آلاف رجل، في حين كان عدد جيش الكفار مائتي ألْف مقاتل، ناهيك عن التفوق في العدَّة والآلة الحربية، فهل سعى ثلاثة آلاف مسلم في فرض الإسلام على مائتَي ألف شخص؟!
إن العقائد لا تستقر في النفوس تحت وطأة السيف والقهر على الإطلاق، وإنما تستقر بالإقناع وبالحجة الواضحة، ولو كانت الشعوب قد دخلت في الإسلام مجبرة فسرعان ما كانت تمردت عليه وتركته، ولكن الحقيقة التي يشهد لها التاريخ والواقع أن الشعوب الإسلامية هي أكثر الشعوب تمسُّكًا بدينها، رغم ما تعانيه من اضطهادات وحروب في كثير من أنحاء العالم حتى في عصرنا هذا.
من المعلوم أن هناك كثافة إسلامية في جنوب شرق آسيا، في بلاد لم تطأها قدم مجاهد مسلم فاتح، كالفلبين وإندونيسيا، فهناك عشرات بل مئات الملايين أسلموا، فمن الذي أجبر هؤلاء على اعتناق الإسلام؟ وجدير بالذِّكر أن هؤلاء يُشكلون غالبية المسلمين في عصرنا.
كما أن هناك كثيرًا من المسلمين في دول أوروبا والأمريكتين، وهي بلاد لم يدخلها الفاتحون المسلمون، وهناك أقليات مسلمة في كل الدول غير الإسلامية وهم متمسكون بالإسلام.
قام المسلمون بفتح النوبة تحت قيادة عبد الله بن أبي السرح، وكذلك قاموا بفتح أجزاء من غرب أفريقيا تحت قيادة عقبة بن نافع، وفي عهد دولة المرابطين تم فتح أغلب مناطق غرب أفريقيا. المتمثلة في بوركينا فاسو ،غامبيا، غينيا، النيجر ،نيجيريا، مالي، موريتانيا، السنغال، سيراليون ،ساحل العاج، تشاد، الكاميرون. كل هذه الدول ذات غالبية مسلمة بفضل فتوحات المسلمين وهم متمسكين بدينهم إلى يومنا هذا مع كل التشويه الإعلامي لدين الإسلام في وقتنا الحاضر.
ونسمع يوميًا عن دخول جموع في دين الإسلام أفواجًا في بلاد غير إسلامية، حتى ثبت بالإحصاءات الرسمية العالمية وغير الإسلامية أن الإسلام هو أسرع الديانات انتشارًا في العالم الآن.
جاء في دراسة الدكتور "محمود السيد"[34]:
"اعتنق "كورجوز" حاكم فارس من قبل " أجتاي خان " الديانة الإسلامية في أواخر عهده، بعد اعتناق بركة خان (القبيلة الذهبية 654هـ – 666هـ) للعقيدة الإسلامية في أول نصر حقيقي للإسلام، خاصة بعد أن تبعه السواد الأعظم من رعيته، حتى إن كل رجال جيوشه كانوا مسلمين وهم مغول، وتبع ذلك توثيق الروابط السياسية بين "بركة خان" و" بيبرس " سلطان مصر، وتحالف كلاهما ضد أسرة " هولاكو " في بلاد فارس".
يقول تعالى:
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (يونس: 99).
وقد يقول قائل:
ولماذا سمح الإسلام بالقتال أصلاً؟ إن لم يكن السبب إجبار الناس على اعتناق الإسلام؟
والجواب على ذلك:
l مواجهة من قاتل المسلمين لمنع تبليغ الناس بضرورة عبادة الخالق وحده مباشرة بدون وسيط.
l الدفاع عن النفس.
l التصدي لمن يمنعهم من اعتناق الدين الصحيح ويضطهدهم.
l قتال من يمنع المسلمين من تبليغ الرسالة.
l تطهير الأرض من أجواء الفتن، حتى يتم تسهيل عبادة الناس لله رب العالمين وحده.
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (البقرة:190).
لذلك قال ربعي بن عامر لرستم ملك الفرس:
"إن الله ابتعثنا لنُخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الديانات إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أَبى قبلنا منه الجزية وإن رفض قاتلْناه حتى نظفر بالنصر".
ويعني هنا من أبى وأصر على القتال، وليس من أبى وأصر على البقاء على دينه ودفع الجزية، واحترم حقوق المسلمين وغيرهم. فهناك فرق كبير بين الحالتين.
قال الله تعالى:
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (البقرة: 193).
ولتوضيح ذلك نقول:
إنك إذا أردت أن تعالِج شخصًا من إدمان الخمر، فلا بد أن تبعده عن مكان الخمور.
وإذا أردت لإنسان أن يتوب من الزنا، فلا تجعله يعيش بين بيوت الدعارة.
وعندما تريد أن تجعل الناس أصحاء، فيجب أن توفر لهم أجواء صحية نظيفة.
فالقتال في الإسلام إنما هو لإفساح الطريق للناس للاختيار بين عبادة الله وترك الشرك، أو البقاء على دينه مقابل شروط من بينها دفع الجزية، من خلال توفير أجواء إيمانية لهم تساعدهم على حرية الاعتقاد والتفريق بين الحق والباطل. علمًا بأن اﻹسلام أمر الناس باﻹيمان بخالق الكون وعبادته وحده. قال مفسر القرآن" ابن كثير”: لا إكراه في الدين: أي لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بين واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه.
قال الله تعالى:
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (البقرة: 256).
نجد خلاصة جميع ما قد سبق في أقوال غير المسلمين التالية:
يقول الكاتب اللبناني النصراني "أمين معلوف"[35]:
"لو كان أجدادي مسلمين في بلد فتحته الجيوش النصرانية، بدلًا من كونهم مسيحيين في بلد فتحته الجيوش المسلمة، لا أظن أنهم كانوا استطاعوا الإستمرار في العيش لمدة أربعة عشر قرنًا في مدنهم وقُراهم محتفظين بعقيدتهم. ماذا حدث فعلياً لمسلمي إسبانيا وصقلية؟ لقد اختفوا حتى آخرهم، ذُبحوا أو هُجّروا أو تم تعميدهم بالقوة. يوجد في تاريخ الإسلام ومنذ بداياته قدرة مميزة على التعايش مع الآخر".
ويتابع قائلاً:
"وفي نهاية القرن الماضي كان يوجد بين سكان اسطنبول، عاصمة القوة الإسلامية الأساسية، أغلبية غير مسلمة تتألف من اليونانيين والأرمن واليهود. هل يمكن أن نتخيل في العصر ذاته أن يكون نصف سكان باريس أو لندن أو فيينا أو برلين من غير المسيحيين، مسلمين أو يهود؟ وحتى اليوم أيضًا يتفاجأ العديد من الأوروبيين بسماع نداء المؤذن في مدنهم”.
جوناثان براون، أستاذ جامعي أمريكي باحث في الدراسات الإسلامية. وهو رئيس تحرير موسوعة أكسفورد للإسلام والقانون اعتنق الاسلام عام 1997, ينسف في محاضرته الافتراء القائل بأن الاسلام انتشر بالسيف والإجبار ويُبَين أن السيف والعنف كانت سمة الحضارة الغربية وليس الاسلام!
فنفهم من جميع ما سبق أن الإسلام جاء ليحقق ويقيم العدالة على وجه الأرض والتي تتمثل بعبادة خالق الكون مباشرة ونصرة المظلوم، ودين جاء بهذا الهدف سينتشر بسرعة البرق، دون إجبار ولا عنف، لأنه الدين الذي تهفو إليه النفوس. وسرعة انتشار هذا الدين هو الواقع الذي يشهده العالم بأسره اليوم. فالدين عندنا صحيح ومعتقداته سليمة، ويحث ويُحفز على العلم بأسلوب روحي، عقلي ومنطقي، ويرفض البدع والخرافات، فالأساس عندنا موجود ولا ينقصه إلا البنيان، لإعادة بناء الحضارة من جديد.
في حواري مع أحد العلمانيين الفرنسيين يومًا، كان قد سألني قائلاً: لماذا لا يُفصل الدين عن الدولة، وعن حياة الناس وسلوكهم، كما في التجربة الفرنسية مثلاً.
قال أيضًا: ولماذا لا تكون المرجعيات في المجتمع لرأي الإنسان ووجهة نظره فقط كما هو الحال في الغرب؟
قلت له مبتسمة: تقصد مرجعيات تعود لأهواء الإنسان ورغباته وتقلبات مزاجه!
قلت له مستطردة: إذا كنت تقصد النصرانية فنعم، فالنصرانية عقيدة روحية فقط ولا ينبثق منها نظام.
أما الإسلام فهو نظام حياة، لا يفصل عن الحياة. إن الإسلام عبارة عن عقيدة روحية تشريعية، ينبثق منه نظام حياة ينظم كل العلاقات.
علاقة الإنسان بنفسه. (مأكل وملبس وأخلاق).
علاقة الإنسان بالإنسان. (عقود ومعاملات).
علاقة الإنسان بخالقه. (عقائد وعبادات).
الدولة في الإسلام ليست دولة “دينية” بالمعنى المفهوم في الفكر الغربي سابقًا.
بل إن في المفهوم الإسلامي لا طبقية ولا رهبانية ولا قداسة لفعل البشر.
وهي دولة واجبها الرئيسي خدمة مصالح الناس. و ليست دولة مدنية تفصل الدين عن الحياة.
بل هي دولة بشرية تطبق الأحكام الشرعية.
فكان مما سمعت لشاب مثقف وأعجبني كثيرًا أنه:
عندما قال القرآن الكريم في سورة البقرة -43:
وأقيموا الصلاة.
قال أيضًا في سورة المائدة -2:
أوفوا بالعقود.
وعندما قال في سورة البقرة -43:
وآتوا الزكاة.
قال أيضًا في سورة التوبة-4:
وأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم.
وهو ما يعبر عن السياسة الخارجية.
وعندما قال محمد صلى الله عليه وسلم:
خذوا عني مناسككم.
تحدث أيضًا عن الاقتصاد والملكية العامة (البترول والغاز).
حيث قال:
الناس شركاء في ثلاثة: النار والماء والكلأ.
البريطاني المسلم “بول ويليامز” يقول:
"العلماني المسلم هو شخص يؤمن بأن الخالق كان قادرًا بما يكفي على خلق قوانين رياضية وفيزيائية عالية الدقة لضبط حركة الأجرام”.
لكنه لم يكن قادرًا بما يكفي على خلق قوانين تنظم المجتمع الإنساني !!
قلت له:
نحن في الواقع بحاجة إلى شريعة ربانية ثابتة، تناسب الإنسان في كل أحواله، ولا تتغير بحسب الأهواء، كما فعلوا في تحليل الرِّبا والمثلية.
ولا تُكتب من قبل الأقوياء لتكون ثِقلاً على المستضعفين، كما في النظام الرأسمالي، ولا شيوعية تعارض الفطرة في الرغبة في التملك.
قلت له مستطردة: التجربة الفرنسية جاءت كردة فعل على تسلط وتحالف الكنيسة والدولة على مقدرات الشعب وعقولهم في العصور الوسطى.
العالم الإسلامي لم يواجه هذه المشكلة قط، نظرًا لعملية ومنطقية النظام الإسلامي.
سألني زائر لاتيني يومًا عن الفرق بين النظام الشيوعي، الرأسمالي، و بين الإسلام.
قلت له:
رَسَمَت الرأسمالية منهجًا حرًا للإنسان، وَدعتهُ للسير على هديه، حيث ادعت الرأسمالية أن هذا المنهج المنفتح هو الذي سيوصل الإنسان للسعادة الخالصة، لكن الإنسان وجد نفسه في نهاية المطاف يقبع في مجتمع طبقي، فإما غنًا فاحشًا يقوم على الظلم للغير، أو فقرًا مدقعًا للملتزم أخلاقيًا.
وجاءت الشيوعية فألغت كل الطبقات، وحاولت أن ترسم مبادئ أكثر صلابة، لكنها خلقت مجتمعات أكثر فقرًا وألمًا، وأكثر ثورية من غيرها.
وأما الإسلام فقد حقق الوسطية، وكانت الأمة الإسلامية هي الأمة الوسط، فقدمت للإنسانية نظامًا عظيمًا بشهادة أعداء الإسلام.
لكن هناك من المسلمين من قصَّروا في الالتزام بقيم الإسلام العظيمة.
"يشقّ الإسلام طريقه بين الرأسمالية التي تقدّس الفردية (ولو على حساب المجتمع) وبين الاشتراكية التي تقدّس الدولة (ولو على حساب الفرد)”[36].
قلت له: بخصوص حرية التملك في الرأسمالية، فالملكية الخاصة هي المبدأ العام.
أما في الإشتراكية، فالملكية العامة هي المبدأ العام.
أما الإسلام فقد سمح بملكيات ذات أشكال متنوعة:
الملكية العامة: وهي عامة لمجموع المسلمين مثل الأراضي العامرة.
ملكية الدولة: الثروات الطبيعية من غابات ومعادن.
ملكية خاصة: تكتسب فقط عن طريق العمل الاستثماري بما لا يُهدد التوازن العام.
قال: وماذا بخصوص الحرية الاقتصادية؟
قلت له: في الرأسمالية، تُترك الحرية الاقتصادية بلا حدود.
أما في الاشتراكية، فمصادرة الحرية الاقتصادية تمامًا.
أما في الإسلام، يُعترف بالحرية الاقتصادية في نطاق محدود يتمثل في:
التحديد الذاتي النابع من أعماق النفس بناءً على التربية الإسلامية، التي تمنع أعمالاً متعارف على تأثيرها السيئ على المجتمع مثل: الغش، والمَيسِر، والرِّبا، وغيرها.
قال: هل تعترفون في الديمقراطية؟
قلت له: لدينا ما هو أفضل من الديمقراطية، لدينا الشورى.
قال: وما الفرق؟
قلت له: الديمقراطية هي عندما تأخذ رأي جميع أفراد أسرتِك بعين الاعتبار في قرار مصيري يخص الأُسرة مثلاً، بغض النظر عن خبرة هذا الفرد أو عمره أو حكمته، من طفل في رياض الأطفال إلى الجد الحكيم، وتساوي بين آرائهم في اتخاذ القرار.
أما الشورى فهي توجهك لاستشارة كبار السن والمقام وأصحاب الخبرة لما يصلح أو لا يصلح.
قلت له معقبة: الفرق واضح جدًا، وأكبر دليل على الخلل بالأخذ بالديمقراطية هو إعطاء الشرعية في بعض الدول لتصرفات هي في حد ذاتها مخالفة للفطرة والدين والأعراف والتقاليد، مثل المثلية الجنسية والرِّبا وغيرها من الممارسات المقيتة.
لمجرد الحصول على الأغلبية في التصويت، وبكثرة الأصوات التي تنادي بالانحلال الأخلاقي، كانت الديمقراطية قد ساهمت في خلق مجتمعات لا أخلاقية.
قلت له أيضًا: إن الفرق بين الشورى الإسلامية والديمقراطية الغربية هو خاص بمصدر السيادة في التشريع، فالديمقراطية تجعل السيادة في التشريع ابتداءً للشعب والأمة.
أما في الشورى الإسلامية، فإن السيادة في التشريع تكون ابتداءً لأحكام الخالق سبحانه وتعالى والتي تجسدت في الشريعة، وهي ليست إنتاجًا بشريًا. وما للإنسان في التشريع إلا سلطة البناء على هذه الشريعة الإلهية، وكذلك له سلطة الاجتهاد بما لم ينزل فيه شرع سماوي، شريطة أن تظل السلطة البشرية محكومة بإطار الحلال والحرام الشرعي.
إن الاسلام ينظر للحياة كما ينبغي أن تكون. إن ما يتطلع إليه الناس هو دين متوازن يُلبِّي الحاجات الروحية التي لا غنى عنها، ولا يُهمِّش الحاجات المادية للإنسان. الدين يدعو إلى الوسطية.
وهو المبدأ الذي شدَّد عليه الدين السماوي الخاتم الذي جاء به خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ليذكر البشر بعبادة خالقهم الواحد الأحد مباشرة بدون وسيط و ليُصحح الخطأ الذي وقعت فيه الأمم السابقة.
والذي أدى لتشويه مفهوم الدين وربطه بالروحانيات فقط، وبالتالي أدَّى إلى انتشار الخرافات مما أدَّى إلى صرف الناس عن الدين بالكلية.
إضافةً إلى أن الدين أصبح مستغلاً لتحقيق أهداف ومآرب خاصة، ومستخدمًا كوسيلة للضغط على الشعوب، وهذا ما دفع كثير من الدول لاتباع نهج ما يُدعى ب"العلمانية"، وهو فصل الدين عن الدولة.
وبتوفير الإسلام للترابط والانسجام بين العقل والدين، العقل والنقل(القرآن والسنة)، والعقل والقلب، فإنه لا تنوير ولا نهضة ولا تقدم ولا جمال ولا علم حقيقي إلا بالإسلام.
لقد نجح الإسلام الذي يعني:
الإيمان بخالق الكون الذي ليس له شريك ولا ولد، وعبادته وحده بدون قسيس ولا قديس أو صنم أو أي وسيط.
نجح هذا الدين كمنهج، بينما فشلت الرأسمالية والشيوعية، وإنه ما من مستشرق درس الإسلام وحضارته – مهما كان موقفة منه - إلا واعترف بأن الإسلام دين ودولة. ولكن ابتعاد المسلمين عن دينهم الصحيح وعجزهم عن نشر مبادئ الإسلام بصورة صحيحة ساهم في العقود الأخيرة بازدياد نسبة الملحدين والمشككين والحائرين في العالم.وبدأت البشرية تكفر بكل العقائد لجهلها بالدين الصحيح وفساد ما يُعرض عليها من معتقدات.
سألني يومًا زائر ألماني، وقد كان واحدًا من ضمن مجموعة كبيرة من الألمان الذين يستمعون إلى تعريف بالإسلام كنت أُلقيه بنفسي عليهم باللغة الألمانية،
حيث كنت أقول إن الإسلام هو:
الإيمان بأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ولد، وأنه هو الخالق والرازق للكون كله وما يحتويه، لقد خلق الخالق المسيح بلا أب وخلق آدم من غير أب ولا أم، فهو يخلق ولا يلد، وعلينا عبادة الخالق مباشرة بدون قسيس ولا قديس ولا أي وسيط.
حيث قاطعني السائل قائلاً: إذا كان الإسلام بهذه البساطة والمنطقية كما تقولين، فلماذا يتسبب المسلمون بكل هذه المشاكل السياسية؟
وَقد كان هذا السؤال أمام المجموعة، وكان عليّ أن أتدارك الموضوع حتى لا يفسد هجومه هدوء الحوار.
قلت له فورًا:
أنا سوف أموت وحدي، وسوف أُبعث وحدي، وسوف ألقى الله وحدي، بدون أهلي ومالي.
إنني سوف ألقى الله بثلاثة أجوبة لثلاثة أسئلة وهي: من ربك، وما دينك ومن رسولك؟ والله ينتظر مني الإِجابة، وهي: أن الله الخالق ربيّ، وديني هو الإيمان به وعبادته وحده بدون وسيط، ورسولي محمد خاتم الرسل، وباعترافي بمحمد خاتم الرسل، أكون قد آمنت بجميع الرسل الذين سبقوه، وهذا فرض وواجب على كل مسلم.
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (البقرة: 285).
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ (البقرة:136).
قلت للجميع: وأنتم أيضًا، وكل إنسان على وجه الأرض، سوف يقابل الله وحده، والحياة قصيرة، والموت يداهمنا فجأة، متى سوف نتعلم كيف نُفرّق بين المشاكل السِياسية والدين؟ أما آن الأوان لنتعلم كيف نحدد أولوياتنا؟
فهدأ الرجل وصفقت المجموعة.
قلت لهم جميعا بعد ذلك: أريد أن أسألكم سؤالاً. إِنه لمن المعروف أن كل أُمَّة وشعب من الشعوب لديهم عادات، تقاليد، أهواء وبِدَع.
قلت لهم مسترسلة: شخص بسيط مثلي هنا، أو آخر في الصين، أو لديكم في ألمانيا أو في أمريكا الجنوبية أو أفريقيا مثلاً، كيف يستطيع أن يُفرّق مبدئيًا بين دين الله البسيط، وتقاليد وبِدَع شعب المكان الذي هو فيه، قبل قراءة أي كتاب ديني؟
أخذوا يحاولون التخمين، وبعد أن فشلوا بإعطائي الجواب الصحيح، قلت لهم: كلكم تعرفون شيئًا يُدعى الفطرة السليمة، أو المنطق السليم، فكل ما هو منطقي من الله، وكل ما هو معقد من البشر، وضحكوا جميعًا بشدة، ومنهم من صفَّق ثانيةً.
قلت لهم: على سبيل المثال، إذا أخبركم رجل دين مسلم أو نصراني أو هندوسي أو من أي ديانة أخرى، أن للكون خالق، واحد أحد، ليس له شريك ولا ولد، لا يأتِ إلى الأرض بصورة إنسان أو حيوان، ولا حجر ولا صنم، وأنه علينا أن نعبده وحده ونلجأ إليه وحده في الشدائد، فهذا فعلًا من دين الله، أما إن أخبَركم عالم دين مسلم أو نصراني أو هندوسي الخ، أن الله يتجسد بأي صورة، ويجب أَن نعبده ونلجأ إليه عن طريق أي شخص أو نَبيّ أو قسيس أَو قديس، فهذا من البشر، اتركوه.
قلت لهم أيضًا: إضافةً إلى ذلك، يجب أن تعرفوا أَن دين الله واضح ومنطقي، ولا ألغاز فيه. فأنا هنا إن أردت أن أقنعكم بأَن نبي الله محمد إلهٌ عليكم عبادته، فعليّ أن أبذل مجهودًا كبيرًا لكي أقنعكم بهذا، ولن تقتنعوا أبدًا، لأنكم قد تسألوني: كيف يكون محمدٌ إله، وقد كان يأكل ويشرب مثلنا؟
قد ينتهي بي المطاف لأقول لكم: أنتم لم تقتنعوا، لأنه لغز ومفهوم غامض، سوف تفهموه عند لقاء الله. وهذا المثال يبرهن على أن دين الله الصحيح لا بد أن يكون خالي من الألغاز، والألغاز لا تأتي إلا من البشر.
قلت لهم مسترسلة: دين الله أيضًا مجاني، فالجميع لديه حرية الصلاة والتعبد في بيوت الله، دون الحاجة لدفع اشتراكات للحصول على عضوية للتعبد فيها، أما إن كان فُرض علي أن أسجل وأدفع النقود في أيٍّ مِن دور العبادة للتعبد فهذا من البشر.
أما إن أخبرني رجل الدين أن عليّ أن أُخرج صدقة لمساعدة الناس مباشرةً فهذا من دين الله.
والناس سواسية كأسنان المشط الواحد في دين الله، فإنه لا فرق بين عربيٍّ ولا أعجميٍّ ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى. فلو أخبروكم أن هذا المسجد أو الكنيسة أو المعبد للأبيض فقط والأسود له مكان منفصل فهذا من البشر.
قلت لهم: تكريم المرأة والرفع من شأنها هو أمرٌ من الله، لكن قمع المرأة من البشر.
فسأل أحدهم: فلماذا المرأة المسلمة مقمعة إذًا في بعض البلدان؟
إذا افترضنا جدلاً أن المرأة المسلمة مقمعة في بعض البلدان، فالهندوسية أيضًا مقمعة والبوذية والنصرانية في نفس البلد. هذه ثقافة شعوب، وليس لها علاقة بدين الله الصحيح في شيء.
قلت لهم معقبة: دين الله الصحيح دائمًا في توافق وتناغم مع الفطرة، فمثلاً، أي مدخن للسجائر أو شارب للخمر، يطلب من أولاده دائمًا الابتعاد عن شرب الخمر والتدخين، لقناعته العميقة بخطرهما على الصحة والمجتمع.
فعندما يُحرِّم الدين الخمر مثلاً، فهذا فعلا أمرٌ من أوامر الله، لكن إذا جاء الدين ليُحرِّم الحليب مثلاً، فهذا ليس فيه منطق، فالجميع يعلم أن الحليب مفيد للصحة. إن من رحمة الله ولطفه في خلقه أن سمح لنا بأكل الطيبات، ونهانا عن أكل الخبائث.
غطاء الرأس للمرأة، والاحتشام للرجال والنساء مثلاً أمرٌ من الله، لكن تفاصيل الألوان والتصاميم من البشر. فالمرأة الصينية الريفية الملحدة و السويسرية الريفية النصرانية تلتزم بغطاء الرأس، على أساس أن الاحتشام شيءٌ فطريٌّ.
فهكذا نستطيع أن نُفرق بين الحق والباطل قبل أن نقرأ أي كتاب ديني.
الإرهاب مثلاً، منتشر بأشكال كثيرة في العالم بين طوائف جميع الديانات، وقد عشت في أفريقيا لفترة طويلة وأعلم أن هناك طوائف نصرانية تقتل وتمارس أبشع أنواع القمع والعنف باسم الدين وباسم الله، وهم يشكِّلون 4% من تعداد نصارى العالم. بينما من يمارس الإرهاب باسم الإسلام، يشكِّلون 01, 0% من تعداد المسلمين. ولا يقتصر الإرهاب على هذا، بل هو منتشر أيضًا بين طوائف البوذية والهندوسية وغيرها من الديانات الأخرى.
لكن تسليط الضوء بوسائِل الإعلام على الأمثلة السيئة من المسلمين، والجيدة من غير المسلمين، وإلقاء لقب إرهابي على المسلم الذي يقتل غيره، ولقب مريضًا نفسيًا على غير المسلم الذي يقتل الغير، هذا ما لا نقبله أبدًا.
وهذا ما قلته لصحفي فرنسي أثناء حواري معه بهذا الخصوص، قلت له: أنتم في الإعلام تلعبون دورًا خطيرًا في تشويه صورة الإسلام من خلال حرصكُم المتواصل على نقل أخبار هذه الأمثلة السيئة من المسلمين.
فقال: عذرًا، نحن لا ننقل إلا الحقيقة ولا ننقل الأخبار الزائفة.
قلت له: أنا لا أدعي أن أخباركم زائفة، أنا أقول: إنكم حين تخصصون زاويةً في مجلاتكم الإخبارية للحديث عن الأمثلة السيئة من المسلمين، عليكم أيضًا أن تخصصوا زاويةً أخرى للحديث عن غيرهم، وعندما تُلقبوا القاتل المسلم بالإرهابي، فعليكم أن تُلقبوا القاتل غير المسلم بالإرهابي أيضًا. قال: كلامك فيه كثير من الصحة.
لا يوجد في تعاليم الإسلام ما يقود الناس إلى الإلحاد، لا يوجد في الإسلام ألغاز أو غموض تُربك العقل، الإسلام بسيط ومتين، وتتلخص تعاليمه فيما يلي:
l أن للكون إلهٌ واحدٌ أحد، وهو الله، الخالق للكون وما يحتويه، والذي ليس كمثله شيء، وعلى المسلم عبادة خالقه وحده، وذلك بالتواصل معه مباشرةً عند التوبة من ذنب أو طلب المعونة، وليس من خلال قسيس ولا قديس ولا أي وسيط. وأن رب العالمين رحيم بخلقه أكثر من الأُم بأولادها، فهو يغفر لهم كلما رجعوا وتابوا إليه. وأنه من حق الخالق أن يُعبَد وحده، ومن حق الإنسان أن يكون له صلة مباشرة بربه. فالمغفرة لا تتنافى مع العدالة، كما أن العدالة لا تمنع المغفرة والرحمة.
l أن الخالق لا يأتِ إلى الأرض في صورة إنسان ولا حيوان ولا حجر أو صنم، وليس له شريكٌ ولا ولد، وأنه تعالى أرسل الأنبياء والرسل كالمسيح وموسى ومحمد لنشر رسالة التوحيد في العالم. خلق المسيح من غير أب وخلق آدم من غير أب ولا أم، فهو يخلق ولا يلد، وأمرنا بعبادته بالتوجه إليه وحده كما فعلوا هم، فالمسلم يعبد الله كما عبد المسيح الله ولا يعبد المسيح نفسه، ويعبد الله كما عبد محمد الله ولا يعبد محمد.
l أن الإيمان بالخالق يقوم على حقيقة أن الأشياء لا تظهر بدون سبب أو بمحض الصدفة، ناهيك عن هذا الكون المادي المأهول الضخم وما فيه من مخلوقات، تمتلك وعيًا غير ملموس، وتطيع قوانين الرياضيات غير المادية. وإنه لشرح وجود كون مادي محدود، نحتاج إلى مصدر مستغني بذاته، أبدي لا يفنى ولا يزول. (بمعنى ليس كمثله شيء).
l أن الإله الخالق حي قيوم غني قادر، ليس بحاجة لأن يموت لأجل البشر، فهو الذي يمنح الحياة أو يسلبها، لذلك هو لم يَمُت متجسدًا في المسيح، كما أنه لم يُبعَث، هو الذي حمى وأنقذ رسوله عيسى المسيح من القتل والصلب، كما حمى رسوله إبراهيم من النار، وموسى من فرعون وجنوده، وكما يفعل دومًا مع عباده الصالحين في حمايتهم وحفظهم.
l أن الدرس الذي علمه الله للبشرية عند قبوله توبة آدم بسبب أكله من الشجرة المحرمة، هو بمثابة أول مغفرة لرب العالمين للبشرية، حيث أنه لا يوجد معنى للخطيئة الموروثة، فلا تزر وازرة وزر أخرى، فكل انسان يتحمل ذنبه وحده؛ وهذا من رحمة رب العالمين بنا. وأن الإنسان يُولد نقيًّا بلا خطيئة، ويكون مسؤولاً عن أعماله ابتداءً من سن البلوغ.
l أن الإنسان لن يُحاسَب عن ذنب لم يقترفه، كما أنه لن ينال النجاة إلا بإيمانه وعمله الصالح، منح الله الحياة للإنسان وأعطاه الإرادة للامتحان والابتلاء، وهو مسؤول فقط عن تصرفاته. وأن الإنسان يملك حرية الاختيار فقط في حدود معرفته وإمكانياته. الحساب مرهون بوجود المسؤولية، وإمكانية الاختيار.
فالخالق لن يُحاسِب المَرء على شكله ووضعه الاجتماعي وانتمائه القبلي. والحرية المحفوفة بالصراع والكفاح أعظم درجة وتكريم للمرء من الإنسان السعيد مسلوب الإرادة. الحساب والثواب ليس لهما معنى بدون الإرادة.
l الإيمان بكافة الرسل الذين بعثهم الله للبشر دون تمييز. وأن إنكار أي رسول أو نبي يتعارض مع أساسيات الدين. وأن جميع أنبياء الله بَشَّروا بقدوم خاتم الرسل محمد عليه الصلاة والسلام. كما أن العديد من الأنبياء والرسل الذين أرسلهم الله للأمم المختلفة ذُكرت أسمائهم في القرآن الكريم (مثل نوح، إبراهيم، إسماعيل، إسحاق، يعقوب، يوسف، موسى، داود، سليمان، عيسى إلخ….)، هناك آخرون لم يُذكروا.
فإن احتمالية كون بعض الرموز الدينية في الهندوسية والبوذية (مثل راما، كريشنا، غوتاما بوذا) أن يكونوا أنبياء أرسلهم الله هي فكرة غير مستبعدة. وقد ظهرت الفروقات بين المعتقدات عندما قدَّست الشعوب أنبيائها وعبدتها من دون الله.
l الإيمان بالكتب والعهود السابقة، التي لم يطرأ عليها أي تحريف أو تغيير، بل ويجعل الإيمان بالرسل والكتب السابقة من أسس الإسلام. ويُكرِّم ويُشرِّف كافة الرسل والأنبياء ويُبرئهم من التهم والنقائص، ويبرهن على إخلاصهم لرب العالمين ووحدانية الرسالة.
l أن النص الكامل لكتابه المقدس (القرآن الكريم)، نزل على النبي محمد بواسطة الملك جبرائيل، وكما ويؤمن المسلم بغيره من الملائكة.
l أن نص القرآن لا يزال بلغته الأصلية (العربية)، وبدون أي تغيير أو تحريف أو تبديل، ولا يزال محفوظًا كما هو حتى وقتنا هذا، وسيبقى كذلك، كما وعد رب العالمين بحفظه. وهو متداول بأيدي جميع المسلمين، ومحفوظ في صدور الكثير منهم، وأن الترجمات الحالية للقرآن بلغات متعددة والمتداولة بين أيدي الناس، ما هي إلا ترجمة لمعاني القرآن فقط.
l أن تعاليم النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأقواله، تم نقلها وتوثيقها من خلال سلسلة من الرواة الموثوقين.
l أن الانسجام المَوجود بين أجساد البشر وأرواحهم يُبين أنه من غير الممكن جعل هذه الأرواح تسكن في أجساد الحيوانات ولا يمكن لها التجول بين النباتات والحشرات (تناسخ الأرواح) ولا حتى في أشخاص. ولقد مَيّز الله الإنسان بالعقل والمعرفة وجعله خليفةً في الأرض، وفضَّله وكرَّمه ورفع من شأنه على كثير من الخلائق. ومن حكمة وعدل الخالق وجود يوم القيامة الذي سوف يبعث الله فيه الخلائق ويحاسبهم وحده، ويكون مآلهم إلى الجنة أو النار، وكل الأعمال الصالحة والسيئة سوف تُوزن في هذا اليوم.
l أن دين الله الصحيح دائمًا في توافق وانسجام مع الطبيعة البشرية، وهو دين واحد، سهل، مفهوم وبسيط، وصالح لكل زمانٍ ومكان، وأن تعدد الديانات ناتج عن اتخاذ الوسطاء بين الخالق والمخلوق في العبادة.
وعند توجه البشر لعبادة الخالق مباشرة بدون وسيط، والإيمان جميعًا بمحمد خاتم الرسل، واتباع شريعته، تتوحد القلوب على دين واحد، وهذا هو مفتاح البشرية نحو التناغم والتواؤم.
l فعل الخيرات واجتناب السيئات، مثل حق الوالدين بالإحسان لهما، ومن ثم حق الأولاد في الحصول على حياة كريمة، والمحافظة على مال اليتيم، والقسط في الوزن والمكيال، والعدل في القول والفعل، والوفاء بالعهود. والنهي عن اقتراف الفواحش أو حتى الاقتراب منها، وعدم قتل النفس البشرِية بغير حق، وهي مبادئ فطرية معنوية، وبالتالي فإن الناس مُدركون لهذه القيم بشكل طبيعي وغريزي.
l أن معاملة الناس بعضهم بعضًا بخُلقٍ حسن بهدف نفع الإنسانية وتعمير الأرض لا يُغني عن الإيمان بالخالق والالتزام بالأخلاق العالمية تحت مظلة الدين، لأن تعمير الأرض والخُلق الحسن ليسا الغاية للدين، لكنهما في الحقيقة وسيلة. غاية الدين أَن يُعرِّف الإنسان بربِّه، ثم بمصدره هو وطريقه ومصيره، ولا يتحقق حُسن النهاية والمصير إلا بالحصول على رضا رب العالمين، والسبيل إلى ذلك يكون بتعمير الأرض والخُلق الحسن.
l أنه لا يوجد كهنوت في دين الله، والدين للجميع، الناس سواسية كأسنان المشط أمام الله، فلا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح.
l أن من أحد صفات رب العالمين الحكمة، فهو لا يخلق شيئًا عبثًا بدون غاية أو هدف، فهو خلقنا ليرحمنا ويسعدنا ويعطينا، وكل الصفات البشرية الجميلة مشتقة من صفاته. وأن وجودنا في هذه الدنيا هو لهدف وغاية سامية، وهي معرفة الله عز وجل، والتوجه إليه بالتوبة والاستعانة به مباشرة.
l أن القاعدة هي الخير والشر هو الاستثناء. فالأشياء المنظمة ستنهار وتتلاشى دائمًا ما لم يجمعها شيء من الخارج أو أن تكون جيدة على نطاق واسع كما هي، دون أن يُنظم الخالق هذه الظواهر العشوائية التي تظهر في الأشياء الرائعة مثل الجمال والحكمة والفرح والحب.
l أن الخالق وضع قوانين الطبيعة والسنن التي تحكمها، وهي تصون نفسها بنفسها عند ظهور فساد أو خلل بيئي وتحافظ على وجود هذا التوازن بهدف الإصلاح في الأرض واستمرار الحياة على نحو أفضل. وأن ما ينفع الناس والحياة هو الذي يمكث ويبقى في الأرض. وعندما يقع في الأرض من كوارث يتضرر منها البشر كالأمراض، البراكين، الزلازل والفيضانات، تتجلى أسماء الله وصفاته، على سبيل المثال اسم الله القوي، الشافي والحفيظ، في شفائه للمريض وحفظه للناجي، أو تجلي اسمه العدل في عقاب الظالم لغيره والعاصي، ويتجلى اسمه الحكيم في ابتلاء وامتحان غير العاصي، والذي يُجازى عليه بالإحسان إن صبر وبالعذاب إن ضجر، وبذلك يتعرف الإنسان على عظمة ربه من خلال هذه الابتلاءات تمامًا كما يتعرف على جماله من خلال العطايا. فإن لم يعرف الإنسان إلا صفات الجمال الإلهي فكأنه لم يعرف الله عز وجل.
l أن الذي يقع من ابتلاءات هو إرادة الله، والذي أراده الله وقع، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة والحكمة المطلقة متعلقة بالخير المطلق، حيث أنه لا يوجد شر مطلق بالوجود، وأن الحياة الدنيا التي يعيشها الإنسان، ليست إلا لحظة مقارنة بالحياة الأخرى الأبدية، إن مات طفلاً أو كهلاً، معذبًا أو منعمًا، ومن ثم يهون كل ما عاناه في الدنيا بغمسة واحدة في نعيم الجنة، وأن الحياة الدنيا بداية لرحلة أبدية يستأنفها الإنسان بعد الموت بالبعث والحساب، ومن ثم الجزاء.
l أن عظمة الدين، في شموليته وبساطته، فمصطلح الإسلام غير مرتبط بأي شخص أو مكان أو جماعة خاصة، ولكنه يعكس العلاقة مع رب العالمين.
l ومن تعاليمه:
دوام التواصل مع رب العالمين عن طريق الصلاة.
تَقوية إرادة الإنسان وتَحكُّمه بنفسه، وتنمية مَشاعر الرحمة والتآلف مع الآخرين عنده، بالصيام.
إنفاق نسبة بسيطة من مدخراته للفقراء والمساكين عن طريق الزكاة، وهي عبادة تساعد الإنسان على تغليب صفات البذل والعطاء على نوازع الشُّح والبخل.
التجرد والتفرغ للخالق في وقت ومكان مُعين، من خلال أداء مناسك ومشاعر واحدة لكافة المسلمين المقتدرين ماديًا وصحيًا، عن طريق الحج إلى مكة، وهي رمز للوحدة في التوجه للخالق، على اختلاف الانتماءات البشرية وثقافاتهم ولغاتهم ودرجاتهم وألوانهم.
l أن علاقة الإنسان بخالقه يجب أن تكون أفضل وأقوى من أي علاقة، فلذلك فالمسلم يجب أن يحرص على تطبيق تعاليم الإسلام، وهذه العلاقة هي العلاقة الحقيقية التي ستجلب له الخير كله واحترام الآخرين.
l أن كثيرًا من الناس يمرون بفترة يعتريها الشك والبحث والضياع، ولا يجدون السلام التام والراحة، إلا بعد أن يجدوا طريقهم لرب العالمين. تماماً كطفل ضائع يبحث عن والدته، وعندما يجدها يشعر بالسكينة ويكتشف أن هذا الأمان الذي كان يبحث عنه.
يستخدم النصارى واليهود والمسلمون في الشرق الأوسط كلمة (الله) إشارة إلى الإله، وهي تعني الإله الواحد الحق، إله موسى والمسيح، وقد عرَّف الخالق عن نفسه في القرآن الكريم باسم "الله" وأسماء وصفات أخرى. لقد ذُكرت كلمة "الله" في النسخة القديمة للعهد القديم 89 مرة (سفر التكوين 2:4) وغيرها الكثير. وقد تكلم بعض العلماء اليوم عن استخدام كلمة (الله) كإشارة إلى الإله الواحد الأحد في النسخ القديمة لكتب الهندوسية باللغة السنسكريتية ("Allah" in Rigveda Book 2 Hymn I verse II).
القرآن الكريم هو آخر الكتب التي اُرسلت من الخالق، حيث إن المسلمين يؤمنون بالنسخ الأصلية لكافة الكتب التي أُرسلت قبل القرآن (صحف إبراهيم، الزبور، التوراة والإنجيل...وغيرها). يعتقد المسلمون أن الرسالة الحقيقية لجميع الكتب كانت التوحيد الخالص (الإيمان بالله وعبادته وحده مباشرة، وليس من خلال قديس ولا قسيس، وليس له ولد، ولا يتجسد في صورة بشر أو حجر)، غير أن القرآن بخلاف الكتب السماوية السابقة لم يكن محتكرًا على فئة أو طائفة معينة دون أخرى، ولا يوجد منه نسخ مختلفة، ولم يتم أي تغيير عليه بل هو نسخة واحدة لجميع المسلمين، و القرآن يُتلى في الصلوات ويُرجع إليه في جميع الشؤون الحياتية، المسلمون في جميع أنحاء العالم يَتلون القرآن كما كان يُتلى في زمن النبي محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه، دون تغيير. والترجمات المتداولة للقرآن ما هي إلا ترجمة لمعاني القرآن فقط.
استخدام الخالق لكلمة "نحن" في التعبير عن ذاته في كثير من آيات القرآن الكريم تُعبر عن القوة والعظمة في اللغة العربية، وكذلك في اللغة الإنجليزية تسمى "نحن الملكية" حيث يستخدم ضمير الجمع للإشارة لشخص في منصب كبير (كالملك، العاهل أو السلطان). غير أن القرآن كان دومًا يُشدّد على وحدانية الله فيما يتعلق بالعبودية.
إن الفرصة لا زالت موجودة ما دام الإنسان على قيد الحياة، وهي فرصة الإيمان بالخالق الواحد الأحد وعبادته وحده.
إن اعتناق دين الإسلام سهل وبسيط. كل ما يجب فعله هو: الشهادة لله بالوحدانية ولنبيه محمد بالرسالة والعمل بمقتضاها، وذلك من خلال قول جملة معروفة بشهادة الإيمان، وهي:
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله
وأشهد أن جميع رسل الله حق
وأشهد أن الجنة حق والنار حق.
- www.islamhouse.com
- www.quranenc.com
- www.fatensabri.com
يعنى هذا الكتاب بإثبات أن الحقيقة مطلقة شئنا أم أبينا، وأن الدين واحد،
أذكر تعليقًا لطيفًا من مسن ألماني عندما شرحت له تعريف دين الإسلام أن قال لي:
هذا دين جديد لم أسمع به من قبل، وهو منطقي وتتوحد به البشرية. أنا أعيش بين مسلمين لكن لم أفهم الإسلام بهذه الصورة أبدًا.
قلت له: هذا هو الدين العالمي القديم الجديد والأبدي منذ عهد آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وهو: عبادة خالق الكون واللجوء إليه مباشرة. وهو الخالق الواحد الأحد الذي خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق المسيح من غير أب، فهو الذي يخلق ولا يلد. وعلى البشر الايمان بأنبياء الله جميعهم بلا استثناء من أدم الى محمد بما فيهم موسى والمسيح عليهم صلوات الله آجمعين.
وعلى البشر أيضًا ترك عبادة الأصنام وترك عقيدة الثالوث، وترك اللجوء إلى الوسطاء من قساوسة وقديسين وأولياء، وعدم اللجوء إلى القبور وعدم اللجوء إلى نبي الله محمد أو لأي فرد من آل بيته، أو اللجوء لأي من أنبياء الله بالطلب والاستغاثة.
وتقصير المسلمين في تبليغ الرسالة الصحيحة للإسلام، أو تصرفات بعض المسلمين السيئة مع غير المسلمين، أو تقاعسهم في مواكبة الركب العلمي بعد أن كانوا رواد العلم المادي والمؤسسين له ليس له علاقة في الدين الصحيح في شيء. فدين الإسلام دين مثالي، لكن المسلمين غير مثاليين.
[1] http://www.kaheel7.com/ar/index.php/2012-12-04-18-20-16/1550-2013-12-06-17-24-34
[2] https://youtu.be/j2XxN8vZ1Cg
[3] " أن النتيجة العامة التي انتهت إليها اللجنة من البحث هي أن كثرة الهنود الغالبة تعتقد عقيدة راسخة في كائن واحد أعلى". موسوعة قصة الحضارة، ول ديورانت، مجلد 3 ص 209.
[4] https://www.google.com/amp/s/www.dailymail.co.uk/sciencetech/article-7088057/amp/Most-atheists-agnostics-BELIEVE-supernatural-underlying-forces-good-evil.html
[5] https://www.sokaglobal.org/resources/study-materials/buddhist-concepts/the-simultaneity-of-cause-and-effect.html#:~:text=Buddhism%20teaches%20that%20the
[6] https://aawsat.com/home/article/3323701/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%85-%D9%8A%D8%A8%D8%B1%D9%87%D9%86-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%88%D8%AC%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D9%84%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%84%D9%89
[7] Windeland, history of philosophy. Page 496
[8] https://fb.watch/ba2zErGFFG/
[9] كتاب الله، العلم، البراهين.
https://arabicpost.net/%D8%AB %D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9/2021/12/03/%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%85-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%8A%D9%86/
[10] نظرية داروين تنص على أن نشأة الإنسان كانت نتيجة أخطاء متتالية في المادة الوراثية.
[11] اقتباس من كتاب "الهند في المسيحية البدائية"، صفحة 85.
[12] Gospel of Buddha by Carus pg.217 and 218 (from Ceylon sources)
[13] "Arshagyanam" (Page282)
[14] Prophecy on The Coming of Prophet Muhammad in Other Scriptures – Zakir Naik
[15]Atharva Veda، Book (Kuntap Sukta) book 20 Hymn 127 verses 1-2
[16] كتاب بين الشرق والغرب. علي عزت بيجوفتش.
[17] كتاب شغاء لما في الصدور. د. هيثم طلعت.
[18] كتاب النهر الخارج من جنة عدن، ريتشارد دوكنز، ص95-96.
[19] https://kaheel7.net/?p=15851
[20] المرأة السعودية الأولى دلالاً والثالثة جمالاً عالميًا. https://www.alarabiya.net/articles/2012%2F04%2F17%2F208336
[21]Daily Star English news paper
.Influencer defies trolls who tell her to cover up
[22]woman shares ‘embarrassing’ experience being denied entry onto a party bus because of her weight independent news
[23] كتاب مدينة السلام.
[24] ترجمه الي العربية: عادل زعيتر. صدر عام 1883.
[25] كتاب إساءة الحضارة الرأسمالية والشيوعية إلى الله.د. غازي عناية.
[26] ج.كراوثر: قصة العلم . ترجمة يمنى الخولي و بدوي عبد الفتاح . ص57.
[27] جوستاف لوبون. حضارة العرب. ترجمه الي العربية: عادل زعيتر. صدر عام 1883.
[28] كتاب محاسن اﻹسلام. أحمد يوسف السيد.
[29] كتاب تاريخ الحضارة.
[30] كتاب نظرات في تاريخ الإسلام.
[31]https://www.almasryalyoum.com/news/details/1392598
[32] http://iswy.co/e140ib
[33] https://arabicpost.net/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9/2019/08/02/%D9%8A%D9%87%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%86%D8%AF%D9%84%D8%B3-%D9%8A%D9%87%D9%88%D8%AF-%D8%B3%D9%81%D8%A7%D8%B1%D8%AF%D9%8A%D9%85/
[34] كتاب التتار والمغول ( ص/150 – 154 ).
[35] كتاب الهويات القاتلة.
[36] الإسلام كبديل، مراد هوفمان.