الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وآله وصحبه، أما بعد:
فقد اطلعت على ما كتبه أخونا الكريم صاحب الفضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم الحمد في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة، وما خصهم الله به من العلم النافع، والعمل الصالح، والخصال الحميدة, والأخلاق الكريمة، وقد سماه: ( عقيدة أهل السنة والجماعة مفهومها _ خصائصها _ خصائص أهلها).
فألفيته كتاباً قيماً، ومفيداً، وموضحاً لعقيدة أهل السنة والجماعة، وأخلاقهم؛ فجزاه الله خيراً, وضاعف مثوبته وزادنا وإياه من العلم النافع والعمل الصالح.
وإني أنصح كل من اطلع عليه بقراءته والاستفادة منه؛ لعظم فائدته, وشرحه لأحوال أهل السنة.
والله المسؤول أن يوفقنا وجميع المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح, وأن يصلح ولاة أمر المسلمين, ويمنحهم الفقه في الدين, وأن يعيذ الجميع من مضلات الفتن, إنه سميع قريب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
حرر في 9/11/1415هـ
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
فهذه هي الطبعة الثانية من كتاب عقيدة أهل السنة والجماعة _ مفهومها _ خصائصها _ خصائص أهلها).
وقد طبعت الطبعة الأولى عام 1415هـ، وتكرر طبعها مراراً.
وقد توشحت بقراءة وتقديم سماحة شيخنا الإمام عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - وأنزله منازل السابقين المقربين.
وقد نفدت طبعات هذا الكتاب منذ عدة سنوات.
وهذه طبعة جديدة اشتملت على تصويبات، وزيادات يسيرة، والله المستعان، وعليه التكلان.
بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيْمِ
الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن والاه.
أما بعد: فإن تَعَلُّمَ العقيدة الإسلامية، والدعوة إليها أوجب الواجبات، وأهم المهمات؛ ذلك لأن قبول الأعمال متوقف على صـحة العـقيـدة، والسعـادة في الدنيا والعقـبى لا تكـون إلا بالتمسك بها، والسلامة مما ينافيها، أو يخل بها، أو يقدح بكمالها.
والعقيدة الإسلامية _متمثلة في عقيدة أهل السنة والجماعة_ هي العقيدة الصحيحة، التي ارتضاها الله لعباده، وهي عقيدة الأنبياء والمرسلين، ومن سار على نهجهم من الدعاة والمصلحين إلى يوم الدين.
وإن من الدعوة إلى هذه العقيدة أن تُبْرَزَ معالمـُها، وتنشر محاسنها، وتشهر خصائصها وخصائص أهلها، وينفى عنها ما لحق بها من تحريف الغالين وانتحال المبطلين؛ كي تستبين السبيل، ويتضح الدليل، وتقوم الحجة، وتتضح المحجة.
فهذا مما يحبّب الناس بتلك العقيدة، ويرغبهم في الإقبال عليها, ويزيد أهلها تمسكاً بها, ومحافظة عليها.
وقد يسَّر الله لي أن ألقيت دروساً في ذلك الشأن؛ فرغبت في نشرها في كتاب، وقد جاء هذا الكتاب حاملاً المسمى التالي:
عقيدة أهل السنة والجماعة
مفهومها _ خصائصها _ خصائص أهلها
أما خطة هذا الكتاب فقد جاءت بعد هذه المقدمة مشتملة على فصلين وخاتمة, وهذا بيان لما تضمنته:
الفصل الأول: مفهوم العقيدة الإسلامية، وخصائصها
وفيه: مبحثان:
المبحث الأول: مفهوم العقيدة الإسلامية
وفيه: ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف العقيدة
المطلب الثاني: ألقاب وأسماء علم العقيدة
المطلب الثالث: مصطلح أهل السنة والجماعة
المبحث الثاني: خصائص العقيدة الإِسلامية _ عقيدة أهل السنة والجماعة _
الفصل الثاني: خصائص أهل السنة والجماعة
وفيه: ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: سلامة منهجهم في التلقي، والاستدلال
المبحث الثاني: الوسطية من بين سائر الفرق
المبحث الثالث: خصائصهم الخُلقية والعملية
الخاتمة: وقد اشتملت على ملخص يسير لما جاء في غضون البحث.
فأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى _ أن ينفع بهذا العمل, وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، صواباً على سنة نبيه محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أولاً: تعريف العقيدة في اللغة: كلمة عقيدة ) مأخوذة من العقد، والربط، والشدة بقوة، ومنه الإِحكام، والإِبرام، والتماسك، والمراصّة، والتَّوثُّق.
ويطلق على العهد، وتأكيد اليمين: عقد، ويطلق على البيع: عقدٌ؛ لارتباط البائع والمشتري بهذا العقد اللازم، ومنه عقد طرفي الثوب؛ لتلازمها، ومنه عقد الإِزار؛ لأنه يشد بإحكام[1]).
ثانياً: تعريف العقيدة في الاصلاح العام: العقيدة في الاصطلاح العام تطلق على حكم الذهن الجازم، حقَّاً كان أم باطلاً.
فإن كان الحكم الذهني الجازم صحيحاً كانت العقيدة صحيحة كاعتقاد المسلمين بوحدانية الله، وإن كان باطلاً كانت العقيدة باطلة، كاعتقاد النصارى بأن الله ثالث ثلاثة.
وتطلق _أيضاً_ على الإيمان الجازم، والحكم القاطع الذي لا يتطرق إليه شك، وهي ما يؤمن به الإِنسان، ويعقد عليه ضميره، ويتخذه مذهباً وديناً يدين به، بغضِّ النظر عن صحته من عدمها[2]).
ثالثاً: العقيدة الإسلامية: هي الإيمان الجازم بالله، وملائكته، وكتبه، ورسوله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وبكل ما جاء في القرآن الكريم، والسنة الصحيحة من أصول الدين، وأموره، وأخباره، وما أجمع عليه السلف الصالح، والتسليمُ لله _ تعالى _ في الحكم، والأمر، والقدر، والشرع، ولرسوله " بالطاعة والتحكيم والإتباع[3]).
رابعاً: موضوعات علم العقيدة: العقيدة _ بمفهوم أهل السنة والجماعة _ اسم عَلَم على العِلْم الذي يُدرس ويتناول جوانب التوحيد، والإيمان، والإسلام، وأمور الغيب، والنبوات، والقدر، والأخبار، وأصول الأحكام القطعية، وما أجمع عليه السلف الصالح من أمور العقيدة كالولاء والبراء، والواجب تجاه الصحابة وأمهات المؤمنين رضوان الله عليهم أجمعين _.
ويدخل في ذلك الرد على الكفار، والمبتدعة، وأهل الأهواء، وسائر الملل والنحل، والمذاهب الهدامة، والفرق الضالة، والموقف منهم، إلى غير ذلك من مباحث العقيدة[4]).
أولا: ألقاب وأسماء علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة[5]):
لعلم العقيدة عند أهل السنة والجماعة ألقاب وأسماء ترادفه وتدل عليه, فمن ذلك ما يلي:
1 _ العقيدة _ كما مرّ _ والاعتقاد, والعقائد: فيقال: عقيدة السلف, وعقيدة أهل السنة والجماعة, وعقيدة أهل الحديث.
ومن الكتب التي تحمل هذا اللقب _ كتاب: ( شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) للالكائي ت 418 هـ، و ( عقيدة السلف أصحاب الحديث) للصابوني ت 449هـ، و ( الاعتقاد) للبيهقي ت 458هـ.
2 _التوحيد: وهو مصدر وحَّد يُوحِّد توحيداً، أي جعل الشيء واحداً؛ فالتوحيد في اللغة: هو الحكم بأن الشيء واحد.
وفي الاصطلاح: هو توحيد الله وإفراده بما يستحق من الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات.
وسمِّي علم العقيدة بالتوحيد من باب تسمية الشيء بأشرف مباحثه، ومن باب التغليب.
ومن الكتب التي أُلِّفت في العقيدة وهي تحمل هذا الاسم _ كتاب ( التوحيد من صحيح البخاري) في الجامع الصحيح للإِمام البخاري _ ت 256 هـ، وكتاب ( اعتقاد التوحيد) لأبي عبد الله محمد بن خفيف ت 371 هـ، وكتاب ( التوحيد ومعرفة أسماء الله _ عز وجل _ وصفاته على الاتفاق والتفرد) لابن مندة ت 395 هـ، وكتاب ( التوحيد) للإمام محمد بن عبد الوهاب ت 1206 هـ، ( ومن ذلك: كتاب التوحيد لابن خزيمة)[6]).
3_ السنة: والسنة في لغة العرب هي الطريقة والسيرة _ كما سيأتي _.
أما في الشرع فتطلق على عدة معان تختلف باختلاف ما وضعت له، فتطلق على علم الحديث، وتطلق على المباح، إلى غير ذلك.
أما سبب تسمية علم العقيدة بالسنة فهو اتِّباع أصحابها لسنة النبي " وأصحابه _ رضي الله عنهم _ فأصبح ذلك الاسم شعاراً لأهل السنة، فيقال: السنة والبدعة من باب التضاد، وكذلك يقال: أهل السنة والشيعة.
هذا وقد صنف العلماء كتباً في علم العقيدة سموها ( كتب السنة).
ومن تلك الكتب: ( كتاب السنة) للإمام أحمد بن حنبل ت 241 هـ، و ( السنة) للأثرم ت 273 هـ، و ( السنة) لأبي داود 275هـ، و ( السنة) لأبي عاصم ت 287، و ( السنة) لعبد الله بن أحمد ابن حنبل ت 290 هـ و ( السنة) للخلال ت 311هـ، و ( السنة) للعسال ت 349هـ، و ( شرح السنة) لابن أبي زمنين ت 399 هـ.
4_ الشريعة: يقال: الشريعة والشرعة، وهي ما سنَّ الله من الدين وأمر به؛ كالصوم، والصلاة، والحج، والزكاة.
والشريعة مشتقة من الشِّرعة وهي شاطئ البحر، ومنه قوله _ تعالى _ :
[ِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً] المائدة:48.
قيل في تفسير الآية: الشرعة: الدين، والمنهاج: الطريق[7]).
فالشريعة _ إذاً _ هي ما شرعه الله ورسوله من سنن الهدى، وأعظمها مسائل العقيدة والإِيمان.
وكلمة الشريعة ككلمة السنة تطلق على معان متعددة:
أ_ فتطلق على ما أنزله الله _ تعالى _ على أنبيائه من الأمور العلمية والعملية.
ب_ وتطلق على كل ما خص الله به كل نبي من الأحكام لأمته، مما يختلف من دعوة نبي لآخر من المنهاج، وتفصيل العبادات، والمعاملات.
ومن هنا يقال: إن الدين في أصله واحد، والشرائع متعددة.
جـ _ وتطلق أحياناً على ما شرعه الله ـ تعالى ـ لجميع الرسل من أصول الاعتقاد, والطاعة, والبر, مما لا يختلف من دعوة نبي لآخر, كما قال ـ تعالى ـ : [شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى] الشورى: 13.
د _ وتطلق بخاصة على العقائد التي يعتقدها أهل السنة من الإيمان, فسموا أصول اعتقادهم شريعة.
ومن كتب العقيدة التي تحمل هذا الاسم ـ كتاب ( الشريعة) للآجري ت 360هـ.
5_ الإِيمان: فيطلق على علم العقيدة اسم الإِيمان, ويشمل سائر الأمور الاعتقادية, قال _ تعالى _: [وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ] المائدة:5.
فالإِيمان هنا بمعنى التوحيد[8]).
ومن الكتب التي أُلِّفت في العقيدة وتحمل هذا الاسم كتاب ( الإِيمان) لأبي عبيد القاسم بن سلام, وكتاب ( الإِيمان) لابن مندة.
6_ أصول الدين أو أصول الديانة: فأصول الدين هي أركان الإسلام, وأركان الإيمان, وسائر الأمور الاعتقادية.
ومن الكتب التي أُلِّفت في العقيدة وهي تحمل هذا الاسم _ كتاب ( الإِبانة عن أصول الديانة) للأشعري ت 324هـ، و ( أصول الدين ) للبغدادي ت 429هـ.
هذا وقد نبه بعض العلماء إلى أن هذه التسمية لا تنبغي, وأن تقسيم الدين إلى أصول وفروع أمر محدث, ولم يكن في عصر السلف، وقالوا: إن هذا التقسيم لا ينضبط, وقد يجر إلى آثار غير سليمة؛ فقد يعتقد من يجهل بالإسلام، أو من يدخل في دين الإِسلام _ أن في الدين فروعاً قد يستغنى عنها, أو يقال: إن في الدين لُباباً وقشوراً.
وقال بعضهم: الأسلم أن يقال عقيدة وشريعة, أو المسائل العلمية والمسائل العملية، أو العلميات والعمليات[9]).
ثانياً: ألقاب وأسماء علم العقيدة عند غير أهل السنة والجماعة:
لعلم العقيدة ألقاب وأسماء عند غير أهل السنة والجماعة منها:
1_ علم الكلام: وهذا الإطلاق يعرف عند سائر فرق المتكلمة, كالمعتزلة, ومن نحا نحوهم.
وهذه التسمية خاطئة؛ لأن علم الكلام مصدرُه عقول البشر، وهو مبني على فلسفات الهنود و اليونان, والتوحيدُ مصدرُه الوحيُ.
وعلمُ الكلام حيرةٌ, واضطراب وجهل, وشك؛ ولهذا ذمه السلف.
والتوحيدُ علمٌ, ويقين, وإيمان؛ فهل يقارن هذا بهذا، فضلاً عن أن يسمى باسمه ؟!
2 _ الفلسفة: وهذا الاصطلاح _أيضاً_ يطلق خطأً على علم التوحيد والعقيدة.
وهذا إِطلاقٌ خاطئ؛ لأن الفلسفة مبناها على الأوهام، والأباطيل، والعقليات الخيالية, والتصورات الخرافية.
و العقيدة الإسلامية مبناها على الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه.
3_ التصوف: وهذا الإطلاق يعرف عند بعض المتصوفة, والفلاسفة، والمستشرقين.
وهو إطلاق مبتدع ؛ لأنه ينبني على شطحات المتصوفة، وخرافاتهم في العقيدة.
4_ الإلهيات: ويعرف عند أهل الكلام, والمستشرقين, والفلاسفة, كما يسمى بعلم اللاهوت, وله أقسام بالجامعات الغربية تعرف بأقسام الدراسات اللاهوتية.
5_ الميتافيزيقيا ( ما وراء الطبيعة): ويعرف عند الفلاسفة, والكتاب الغربيين, ومن نحا نحوهم.
وكل أناس يعتقدون ديناً يدينون به يسمونه ديناً وعقيدة.
أما العقيدة الإِسلامية _ إذا أطلقت _ فهي عقيدة أهل السنة والجماعة؛ لأنها هي الإِسلام الذي ارتضاه الله ـ عز وجل ـ ديناً لعباده.
وأي عقيدة مخالفة لعقيدة السلف لا تعد من الإِسلام, وإن نسبت إليه, بل هي معتقدات تنسب إلى أصحابها, والإِسلام منها براء.
وقد يسميها بعض الباحثين إسلامية من باب النسبة الجغرافية, أو التاريخية, أو لمجرد دعوى الانتماء, لكن الأمر عند التحقيق يحتاج إلى عرض على الكتاب والسنة, فما وافقهما فهو حق, وهو من دين الإسلام, وما خالفهما فيرد إلى صاحبه، وينسب إليه[10]).
أولاً:تعريف السنة : 1_ السنة في اللغة: هي الطريقة والسيرة، قال لبيد بن ربيعة - رضي الله عنة - في معلقته المشهورة:
من معشرٍ سنت لهم آباؤهم | ولكل قوم سنه وإمامها[11]) |
وقال الآخر:
ربي وفقني فلا أعدل عن | سنن الساعين في خير سنن[12]) |
قال ابن منظور: ( والسنة: السيرة حسنة كانت أو قبيحة، قال خالد بن عتبة الهذلي:
فلا تجزعن من سيره أنت سرتها | فأول راضٍ سُنَّهً من يسيرها[13]) |
2_ السنة في اصطلاح علماء العقيدة: هي الهدي الذي كان عليه الرسول _صلى الله عليه وسلم_ وأصحابه؛ علماً واعتقاداً،وقولاً، وعملاً، وهي السنة التي يجب اتباعها، ويحمد أهلها، ويذم من خالفها.
وتطلق السنة على سنن العبادات، والاعتقادات، كما تطلق على ما يقابل البدعة[14]).
( ولذلك قيل: فلان من أهل السنة: معناه من أهل الطريقة المستقيمة المحمودة)[15]).
ثانياً: تعريف الجماعة:
1_ تعريف الجماعة في اللغة: الجماعة في اللغة مأخوذٌ من مادة ( جمع)، وهي تدور حول الجمع، والإِجماع، والاجتماع وهو ضد التفرق.
قال ابن فارس: ( الجيم والميم والعين أصل واحد، يدل على تضامِّ الشيء يقال: جمعت الشيء جمعاً)[16]).
2_ الجماعة في اصطلاح علماء العقيدة: هم سلف الأمة، من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وهم الذين اجتمعوا على الحق الصريح من الكتاب والسنة[17]).
ثالثاً: أهل السنة والجماعة، وسبب تسميتهم بذلك:
1_ أهل السنة والجماعة: هم من كان على مثل ما كان عليه النبي " وأصحابه، وهم المتمسكون بسنة النبي " وهم الصحابة، والتابعون، وأئمة الهدى المتبعون لهم، وهم الذين استقاموا على الاتباع، وجانبوا الابتداع في أي مكان وأي زمان، وهم باقون منصورون إلى يوم القيامة[18]).
2_ سبب تسميتهم بذلك: سموا بذلك لانتسابهم لسنة النبي " واجتماعهم على ألا خذ بها ظاهراً وباطناً، في القول، والعمل، والاعتقاد[19]).
رابعاً: أسماء أخرى لأهل السنة والجماعة:
لأهل السنة والجماعة أسماء أخرى يعرفون بها، ومنها[20]):
1_ أهل السنة والجماعة. 2 _ أهل السنة دون إضافة الجماعة
3_ أهل الجماعة. 4 _ الجماعة.
5_ السلف الصالح.
6_ أهل الأثر: أي السنة المأثورة عن النبي ".
7 _ أهل الحديث، لأنهم هم الآخذون بحديث النبي " رواية ودراية، المتبعون لهديه " ظاهراً وباطناً.
8 _ الفرقة الناجية؛ لأنها تنجو من الشرور والبدع والضلالات في الدنيا، وتنجو من النار يوم القيامة؛ وذلك لاتباعها سنة النبي ".
9 _ الطائفة المنصورة: أي المؤيدة من الله _ سبحانه وتعالى _.
10_ أهل الاتباع؛ لاتباعهم الكتاب، والسنة، وآثار السلف الصالح.
للعقيدة الإِسلامية المتمثلة في عقيدة أهل السنة و الجماعة _ خصائص عديدة لاتوجد في أي عقيدة أخرى، و لا غرو في ذلك؛ إذ إن تلك العقيدة الإسلامية تُستمد من الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وفيما يلي بيان لتلك الخصائص:
الأولى: سلامة مصدر التلقي: وذلك باعتمادها على الكتاب والسنة، وإجماع السلف الصالح، فهي مستقاة من ذلك النبع الصافي، بعيداً عن كدر الأهواء والشبهات.
وهذه الخصيصة لا توجد في شتى المذاهب والملل والنحل غير العقيدة الإسلامية _ عقيدة أهل السنة والجماعة_؛ فاليهود والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله.
أما الصوفية فمصدر التلقي عندهم هو الكشف، والإلهام، والحدس، والرؤى، والمنامات[21]).
أما الشيعة فمصدر التلقي عندهم ما يزعمون أنه موجود في الجفر، وما يقوله أئمتهم[22]).
أما علماء الكلام فمصدر التلقي عندهم هو العقل _كما سيأتي في غضون هذا الكتاب_.
أما سائر المذاهب الفكرية والاتجاهات الباطلة كالشيوعية[23]) _ فإنها تعتمد في تقرير مبادئها على أفكار المنحرفين، وعقول الملاحدة، الذين يحكمون أهواءهم وشهواتهم في عباد الله.
أما عقيدة أهل السنة والجماعة فهي _ بحمد الله _ سالمة مسلمة من هذا الدجل والزيف.
الثانية: أنها تقوم على التسليم لله _ تعالى _ ولرسوله ": ذلك لأنها غيب، والغيب يقوم على التسليم ( ولا تثبت قدم الإِسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام)[24]).
فالإِيمان بالغيب من أعظم صفات المؤمنين التي مدحهم الله _ عز وجل _ بها، كما في قوله _ تعالى _ : [الم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ]البقرة :1_3 .
ذلك أن العقول لا تدرك الغيب, ولا تستقل بمعرفة الشرائع على سبيل التفصيل؛ لعجزها وقصورها؛ فكما أن سمع الإِنسان قاصر, وبصره كليل، وقُوَّته محدودة _ فكذلك عقله, فتعيّن الإِيمان بالغيب, والتسليم لله _ عز وجل_.
أما العقائد الأخرى فلا تسلم لله ورسوله " بل تحكمها الآراء, والعقول, والأهواء, ومنشأُ فساد الأمم والأديان إنما هو تقديم العقل على النقل, والرأي على الوحي, والهوى على الهدى[25]).
الثالثة: موافقتها للفطرة القويمة، والعقل السليم: فعقيدة أهل السنة والجماعة ملائمة للفطرة السليمة، موافقة للعقل الصريح،فالعقل الصريح الخالي من الشهوات والشبهات لا يناقض النص الصحيح السالم من العلل و القوادح.
أما العقائد الأخرى فهي أوهام وتخر صات، تعمي الفطر، وتبلِّد العقول.
ولهذا لو قدّر أن إنساناً تجرد من كلّ عقيدة، وصار قلبه خالياً من كل حق وباطل، ثم نظر في العقائد صحيحها وباطلها بعدلٍ وإنصافٍ، وفَهْم صحيح ـ لاستبان له الحق، ولأدرك أن المسوّي بين العقيدة الصحيحة وغيرها من العقائد الأخرى كالمسوِّي بين الليل والنهار[26]).
الرابعة: اتصال سندها بالرسول " والتابعين وأئمة الدين قولاً، وعملاً، واعتقاداً: وهذه الخصيصة من خصائص أهل السنة قد اعترف بها كثير من خصومها كالشيعة وغيرهم؛ فلا يوجد _ بحمد الله _ أصل من أصول أهل السنة والجماعة ليس له أصل أو مستند من الكتاب والسنة، أو عن السلف الصالح.
بخلاف العقائد الأخرى المبتدعة، فلا سند لها من الكتاب أو السنة، أو عن السلف الصالح.
الخامسة: الوضوح والسهولة والبيان: فهي عقيدة سهلة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، فلا لبس فيها، ولا غموض، ولا تعقيد، ولا التواء ؛ فألفاظها واضحة، ومعانيها بينة يفهمها العالم و العامي، والصغير والكبير ؛ فلقد جاء بها رسول الله " بيضاء نقيّة، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
ومن الأمثلة على وضوحها، ما جاء في حديث جبريل المشهور[27])؛ فلقد انتظم هذا الحديث أصول الإِسلام بمنتهى اليسر والسهولة، والوضوح والبيان.
وأمثال ذلك من الأدلة كثيرة؛ فهي أدلة قاطعة جلية واضحة، تسبق إلى الأفهام ببادئ الرأي، وأول النظر، ويشترك كافة الخلق في إدراكها، فأدلة الكتاب والسنة مثل الغذاء ينتفع به كل إنسان، بل كالماء الذي ينتفع به الصبي، والرضيع، والرجل القوي، والضعيف؛ فتلك الأدلة سائغة جلية تقنع، وتسكِّن النفوس، وتغرس في القلوب الاعتقادات الصحيحة الجازمة.
ألا ترى أن من قدر على الابتداء فهو على الإِعادة أقدر:[وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ]الروم: 27، وأن التدبير لا ينتظم في دار واحدة بِمُدَبِّرَينِ فكيف ينتظم في جميع العالم ؟! [لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا] الأنبياء: 22، وأن من خلق علم، ثم خلق كما قال _تعالى _: [أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير]الملك: 14.
فهذه الأدلة وأمثالها تجري مجرى الماء الذي جعل الله منه كل شيءٍ حيٍّ [28]).
السادسة: السلامة من الاضطراب، والتناقض، واللبس: فلا مكان فيها لشيء من ذلك مطلقاً، كيف لا، وهي وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟
فالحق لا يضطرب، ولا يتناقض، ولا يلتبس، بل يشبه بعضه بعضاً، ويشهد بعضه لبعض:[وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً] النساء:82.
أما الباطل فبالعكس من ذلك؛ فتجد بعضه يبطل بعضاً، وأهله في غاية التناقض، بل تجد الواحد منهم متناقضاً مع نفسه، متهافتاً في أقواله[29])؛ فعقيدة أهل السنة _ إذاً _ سالمة من ذلك كله .
أما العقائد الأخرى فلا تَسَلْ عما فيها من الاضطراب والتناقض واللبس ؛ فالشيعة _مثلاً_ يقولون : ( إن الأئمة يعلمون ما كان، وما يكون، ولا يخفى عليهم الشئ، ويعلمون متى يموتون، ولا يموتون إلا بإذنهم )[30]).
فمن أصول دينهم الغلو في الأئمة، فهم يخلعون عليهم صفات لا تثبت حتى للأنبياء، ثم نراهم في أصل آخر من أصول دينهم ينقضون هذا الكلام؛ فمن أصول دينهم _أيضاً _ التَّقِيَّة.
فإذا قيل لهم: لماذا يختفي أئمتكم؟ ولماذا لا يصدعون بالحق؟
قالوا: تقية! تقية ممن ؟ قالوا: من الأعداء! أيُّ أعداء وأنتم ـ بزعمكم ـ ترون أنهم ـ أي الأئمة ـ يعلمون متى يموتون، ولا يموتون ألا بإذنهم ؟!
وقل مثل ذلك في شأن الصوفية، فما أكثر التناقض عندهم، ومن أمثلة ذلك أن منهم من يعتقد أن النبي " هو أول المخلوقات، بل يرون أن جميع الكائنات خلقت من نوره[31]).
ومع ذلك تجدهم يحتفلون بمولد النبي ".
فإذا قيل لهم: بم تحتفلون ؟ قالوا: بمولد النبي " حيث ولد عام الفيل يوم كذا وكذا ! فانظر إلى هذا التناقض، ولا تذهب بك الغرابة بعيداً؛ إذ أن التناقض دأب كل باطل ومبطل.
وقل مثل ذلك في سائر المذاهب الفكرية الضالة، فالشيوعية _ مثلاً _ قامت على الإِلحاد، والكفر بجميع الأديان، وأنه لا إله والحياة مادة، وعندما أشتد ضغط ( هتلر) على روسيا إبان الحرب العالمية الثانية، أمر المجرم ( ستالين) بفتح المعابد والتضرع إلى الله _عز وجل _.
السابعة: أنها قد تأتي بالـمَحار،ولكن لا تأتي بالـمُحال: ففي العقيدة الإِسلامية ما يبهر العقول، وما قد تحار فيه الأفهام، كسائر أمور الغيب؛ من عذاب القبر ونعيمه، والصراط، والحوض، والجنة والنار، وكيفية صفات الله _عز وجل_.
فالعقول تحار في فهم حقيقة هذه الأمور، وكيفيتها، ولكنها لاتحيلها، بل تسلّم لذلك وتنقاد، وتذعن؛ لأن ذلك صدر عن الوحي المنزل، الذي لا ينطق عن الهوى، والذي لا يأتيه الباطل من بين ولا من خلفه[32]).
أما العقائد الأخرى فإنها تشتمل على المستحيلات التي تحكم العقول بداهةً باستحالتها، وذلك كعقائد اليهود المحرفة، فاليهود _ مثلاً _ يرون أنهم شعب الله المختار, وأن الله _تعالى _ قد اختارهم واصطفاهم، وجعل باقي الشعوب حميراً يمتطيها اليهود.
فانظر إلى هذا الهراء الذي يحكم العقل بإحالته؛ إذ كيف يليق بأحكم الحاكمين أن يكون عنصريّاً منحازاً إلى شعب دون شعب؟!.
وقل مثل ذلك في شأن النصارى، فهم يقولون: إن الله ثالث ثلاثة ويقولون: باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، فكيف يكون الثلاثة واحداً؟ هذا مستحيل لايمكن تصوره.
ومن ذلك _أيضاً_ قولهم بالعشاء الرباني، وصكوك الغفران وغيرها مما تحيله العقول[33]).
( ولهذا قال طائفة من العقلاء: إن عامة مقالات الناس يمكن تصورها إلا مقالة النصارى؛ وذلك أن الذين وضعوها لم يتصوروا ما قالوا، بل تكلموا بجهل، وجمعوا في كلامهم بين النقيضين؛ ولهذا قال بعضهم: لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا عن أحدَ عشرَ قولاً.
وقال آخر: لو سألت بعض النصارى وامرأته وابنه عن توحيدهم، لقال الرجل قولاً، وامرأته قولاً أخر، وابنه قولاً ثالثاً)[34]).
وإذا أنعمتَ النظر في عقائد الفرق الضالة _ وجدت أنها تحتوي على المستحيلات؛ فالشيعة يرون أن القرآن الكريم الذي بين أيدي المسلمين، والذي تكفل الله _ عز وجل _ بحفظه يرون أنه ناقص ومحرف، وأن القرآن الكامل مع الغائب المنتظر الذي سيخرج في آخر الزمان من سرداب سامراء!
انظر أولاً إلى خرافة السرداب، ثم انظر إلى قولهم: إن القرآن الكامل مع الغائب المنتظر الذي سيخرج آخر الزمان[35]).
فما فائدة هذا القرآن الذي لن يخرج للناس إلا في آخر الزمان؟ ثم هل يليق بحكمة الله _ عز وجل _ ورحمته وعدله أن يَدَعَ الناس يعيشون بلا هدى ولا وحي، حتى إذا جاء آخر الزمان أنزل قرآناً يهديهم؟!.
أما النصيرية فلهم القِدْحُ المعلى من هذه الترهات فسائر فرقهم يعبدون عليّاً - رضي الله عنة - .
وهم مع ذلك يعظمون قاتله عبد الرحمن بن ملجم؛ لأنهم يزعمون أنه خلص اللاهوت من الناسوت![36]).
ويزعمون _ أيضاً _ أن مسكن علي بن أبي طالب - رضي الله عنة - السحاب، وإذا مر بهم السحاب، قالوا: السلام عليك يا أبا الحسن، ويقولون: إن الرعد صوته، والبرق صوطه، ومنهم من يعتقد أن عليّاً حالٌّ في القمر، وتسمى هذه الفرقة القمرية،فهم يرون أنه حالٌّ في القمر، وأنه الجزء المعتِّم من القمر، لذا فهم يقدسون القمر،ويعبدون عليّاً ممثلاً فيه.
سبحان الله! ماذا كان الرعد، والبرق، وما هذا الجزء المعتم من القمر قبل أن يولد علي؟!
ومنهم من يرى أن عليّاً حالٌّ في الشمس؛ فهم يتوجهون إلى الشمس في عبادتهم، ويعرفون بالشمسية[37]).
وإذا نظرت في عقائد البهائية وجدتها تحمل عجباً، ولا يملك العاقل إلا أن يحكم ببطلانها، واستحالتها.
ومن الأمثلة على ذلك: قِبْلَةُ البهائيين، فقبلتهم التي يتوجهون إليها عند الصلاة هو زعيمهم البهاء المازندراني، كما صرح هو بذلك.
وتتقلب القبلة حسب تنقلاته وتحركاته، فعندما كان في طهران كان سجن طهران هو قبلتهم، وإذا كان في بغداد تكون القبلة بغداد, وفي عكا تكون القبلة عكا وهكذا...
فهل رأى أحد مثل هذه الخرافة؟ ثم كيف للبهائيين أن يعرفوا قبلتهم في أسفار البهاء في وقت لم تكن الأجهزة الحديثة التي تحدد المكان موجودة ؟![38])
فالحمد لله الذي سلم عقائد أهل السنة من ذلك كله.
الثامنة: العموم والشمول، والصلاح في كل زمان ومكان وأمة وحال: فالعقيدة الإِسلامية عامة وشاملة، وصالحه في كل زمان ومكان، وأمة وحال، للأولين والآخرين، للعرب والعجم، بل إن الأمور لا تصلح إلا بها.
التاسعة: الثبات والاستقرار والخلود: فهي عقيدة ثابتة، ومستقره خالدة، فلقد ثبتت أمام الضربات المتوالية التي يقوم بها أعداء الإِسلام؛ من اليهود، والنصارى، والمجوس، وغيرهم.
فما إن يعتقد هؤلاء أن عظمها قد وهن، وأن جذوتها قد خبت، ونارها قد انطفأت _ حتى تعود جذعة ناصعة نقيه.
فهي ثابتة إلى قيام الساعه، محفوظة بحفظ الله _ تعالى _ تتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل، ورعيلاً بعد رعيل،لم يتطرق إليها التحريف،أو التبديل،أو الزيادة، أو النقصان[39]).
كيف لا، والله _ عز وجل _ هو الذي تكفل بحفظها، وبقائها ولم يكل ذلك إلى أحد من خلقه؟!.
قال _تعالى_:[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] الحجر: 9. وقال _تعالى _: [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] الصف: 8.
ومن الأمثلة الدالة على ثبات العقيدة الإِسلامية واستمرارها أن أقوال أهل السنة في الصفات، والقدر، والشفاعة، وغيرها، كل ذلك لا يزال محفوظاً كما نقل عن السلف.
بخلاف الملل الأخرى، والطوائف الضالة، والأفكار الهدامة؛ فاليهود والنصارى بدّلوا وحرفوا وغيروا، وسائر الفرق قلما يثبتون على مبدأ.
ثم إن تلك العقائد لا تملك سمة الخلود والاستمرار؛ فهي _وإن عظمت واستُحسنت_ فإنها لا تبقى زمناً طويلاً على كثرة التغيرات، واختلاف التطورات، فما إن يشتد عودها، وتقوى شوكتها حتى تبدأ بالزوال والفناء؛ لأنها من صنع البشر الناقصين في علمهم وحكمتهم.
ولا أدل على ذلك من الشيوعية التي ملأت الدنيا ضجيجاً وصراخاً، وما إن بلغت أوج مجدها حتى انفرط عقدها، وسلّ نظامها على أيدي أتباعها.
العاشرة: أنها ترفع قدر أهلها: فمن اعتقدها، وزاد علماً بها، وعملاً بمقتضاها، ودعوةً للناس إليها _ أعلا الله قدرة، ورفع له ذكره، ونشر بين الناس فضله، فرداً كان أو جماعة، ذلك أن العقيدة الصحيحة هي أفضل ما اكتسبته القلوب, وخير ما أدركته العقول؛ فهي تثمر المعارف النافعة، والأخلاق العالية، التي من اتصف بها تناهى فضله، وكمل سؤدده، وعلا بين الناس قدره.
فالفضل الحقيقي الذي لا يدانيه فضل، والشرف العالي الذي لا يبلغ شأوه شرف _ إنما هو السعي في طرق الكمال، والحرص على التحلي بالفضائل، والتخلي من الرذائل.
وهذا الفضل هو الذي يرقِّي القلوب، ويزكي النفوس، وينقي البصائر، ويوصل أهله إلى أعلى الغايات، وأسمى المقامات، وهو الذي يرفع الأمم إلى ذروة العز والشرف، حتى تحرز الحياة الطيبة في الأولى، والسعادة الباقية في الأخرى، وأصل ذلك وأساسه العقيدة الصحيحة المؤسسة على الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسوله، واليوم لآخر، والقدر خيره وشره، وما يتبع ذلك من أعمال القلوب التي مدارها على الإنابة إلى الله، وانجذاب دواعي القلب كلها إليه، مع القيام بالشرائع الظاهرة، وما يتبع ذلك من القيام بحقوق الخلق كافة[40]).
قال _تعالى_:[يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ] المجادلة: 11.
الحادية عشرة: أنها سبب للنصر والظهور والتمكين: فذلك لا يكون إلا لأهل العقيدة الصحيحة، فهم الظاهرون، وهم الناجون، وهم المنصورون كما قال " : ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)[41]).
فمن أخذ بتلك العقيدة أعزه الله، ومن تركها خذله الله، ذلك أن لانحراف العقيدة أبلغ الأثر في تصدّع كيان الأمة، وتفرق كلمتها، وتسلط أعدائها عليها.
ثم إن الأمة الزائغة عن عقيدتها الصحيحة، المنحرفة عن منهاج دينها القويم_ لا تلبث أن تهبط من عليائها، وتنزل من شامخ عزها، وتشرف على حضيض التلاشي والفناء، فتلقى صغاراً بعد شمم، وخمولاً بعد نباهة، وذلاً بعد عزة، وحطة بعد رفعة، وجهلاً بعد علم، وتقاطعاً بعد ائتلاف، وبطالةً بعد نشاط. وقد علم ذلك كل من قرأ التاريخ، فمتى حاد المسلمون عن دينهم حاق بهم ما حاق، كما حدث لهم في الأندلس وغيرها[42]).
فما الذي أضاع الأندلس، وأغرى النصارى باحتلالها وإذلال أهلها؟!
وما الذي سلط التتار حتى شنوا غاراتهم الشعواء على حاضرة الإِسلام، فراح ضحيتها قرابة المليونين، وتقوّض بسببها صرح الخلافة الإِسلامية؟ وما الذي قاد المسلمين إلى التخلف عن ركب الحضارة في هذه العصور المتأخرة فأصبحوا عالة على غيرهم، وصاروا فريسة سهلة لأعدائهم الذين تسلطوا عليهم، فاستباحوا حماهم، واستولوا على خيراتهم؟.
إن ذلك حدث لأسباب عدة أبرزها وأهمّها: زيغ العقيدة.
الثانية عشرة: السلامة والنجاة: فالسنة سفينة النجاة، فمن تمسك بها سلم ونجا، ومن تركها غرق و هلك[43]).
الثالثة عشرة: العقيدة الإسلامية عقيدة الألفة و الاجتماع: فما اتحد المسلمون، وما اجتمعت كلمتهم في مختلف الأعصار والأمصار ـ إلا بتمسكهم بعقيدتهم وأخذهم بها، وما تفرقوا واختلفوا إلا لبعدهم عنها، وانحرافهم عن سبيلها.
وهذا ما أدركه أعداؤها في القديم والحديث، حيث قاموا _ ولا يزالون _
بحملات ضارية يهدفون من ورائها إلى إضعاف العقيدة في نفوس المسلمين ؛ حتى تسود الفرقة بينهم، ويشيع الاختلاف في صفوفهم، وبالتالي يسهل القضاء عليهم، والوقوف في وجه دعوتهم.
الرابعة عشرة: أنها تحمي معتنقيها من التخبط والفوضى والضياع : فالمنهج واحد، والمبدأ واضح ثابت لا يتغير، فيسلم معتنقها من اتباع الهوى، ويسلم من التخبط في توزيع الولاء والبراء، والمحبة والبغضاء؛ ذلك أن العقيدة الصحيحة تعطيه معياراً دقيقاً لا يخطئ أبداً، فيسلم بذلك من التشتت والتشرد والضياع، فيعرف من يوالي، ويعرف من يعادي، ويعرف ما له وما عليه.
الخامسة عشرة: أنها تمنح معتنقيها الراحة النفسية والفكرية: فلا قلق في النفس،ولا اضطراب في الفكر؛ لأن هذه العقيدة تصل المؤمن بخالقه _عز وجل_ فيرضى به رباً مدبراً، وحاكماً مشرعاً، فيطمئن قلبه بقدره، وينشرح صدره لحكمه، ويستنير فكره بمعرفته.
السادسة عشرة: سلامة القصد والعمل: بحيث يَسلم مُعْتَنِقُها من الانحراف في عبادة الله _عز وجل_ فلا يعبد غير الله، ولا يرجو سواه، بخلاف أصحاب العقائد الأخرى، ففيهم المنحرفون في باب العبادة، فتجدهم يعبدون القبور، ويصرفون لها القرابين والنذور، كحال الرافضة والصوفية.
وتجد في بعض المذاهب الباطلة والاتجاهات الهدامة من يُسلِم قياده للشيطان، ويتبع ما يوحي به أئمة الكفر وأساطين الضلال.
السابعة عشرة: تؤثر على السلوك والأخلاق والمعاملة: فهذه العقيدة لها أبلغ الأثر في ذلك؛ فالناس تحكمهم وتوجههم عقائدهم.
والانحراف في السلوك والأخلاق والمعاملة _ إنما هو ناتج عن انحراف في المعتقد، فالسلوك ـ في الغالب ـ ثمرة لما يحمله الإِنسان من المعتقد، وما يدين به من دين.
وهذه العقيدة تأمر أهلها بكل خير، وتنهاهم عن كل شر، فتأمرهم بالعدل والاعتدال، وتنهاهم عن الظلم والانحراف.
الثامنة عشرة: تدفع معتنقيها إلى الحزم والجد في الأمور: بحيث لا يرون فرصة للعلم النافع والعمل الصالح إلا بادروا إليها؛ رجاءً للثواب، ولا يرون موقعاً للإِثم إلا اجتنبوه، خوفاً من العقاب؛ فتستقيم بذلك أحوال المجتمع؛ لأن من أسسها الإِيمان بالبعث والجزاء على الأعمال، قال الله _ تعالى _ :[وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ] الأنعام: 132.
التاسعة عشرة: توصل إلى تكوين أمة قوية: تبذل كل غال ورخيص، في سبيل تثبيت دينها، وتوطيد دعائمه، غير مبالية بما يصيبها في ذلك السبيل، ولا هيابة من إرجاف المرجفين، وتخذيل المخذلين.
العشرون: تبعث في نفس المؤمن تعظيم الكتاب والسنة: لأنه يعلم أن الكتاب والسنة حق وصواب، وهدى ورحمة؛ فينبعث بذلك إلى تعظيمهما، والأخذ بهما.
الحادية والعشرون: تربط المؤمن بسلفه الصالح : وأكرم به من رباط فالخير كل الخير باتباعهم، واقتفاء آثارهم، وصدق من قال :
وكل خير في اتباع من سلف | وكل شر في ابتداع من خلف |
الثانية والعشرون: تَكْفُل لمعتنقيها الحياة الكريمة: ففي ظل العقيدة الإِسلامية يتحقق الأمن والحياة الكريمة؛ ذلك أنها تقوم على الإِيمان بالله، ووجوب إفراده بالعبادة دون من سواه، وذلك _ بلا شك _ سبب الأمن والخير والسعادة في الدارين؛ فالأمن قرين الإِيمان، وإذا فقد الإِيمان فقد الأمن.
قال _تعالى_:[الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ] الأنعام 82.
فأهل التقوى والإِيمان لهم الأمن التام، والاهتداء التام في العاجل والآجل، وأهل الشرك والمعصية هم أهل الخوف وأولى الناس به، فهم مهددون بالعقوبات والنقمات في سائر الأوقات[44]).
الثالثة والعشرون: تملأ القلب بالتوكل على الله: فالعقيدة الإسلامية تأمر العبد بأن يكون قلبه مطوياً على سراج من التوكل على الله.
والتوكل في لسان الشرع إنما يراد به توجه القلب إلى الله حال العمل، واستمداد المعونة منه، والاعتماد عليه وحده، فذلك سر التوكل وحقيقته.
والذي يحقق التوكل هو القيام بالأسباب المأمور بها؛ فمن عطلها لم يصحَّ توكُّله فلم يكن التوكل داعيةً للبطالة، أو الإِقلال من العمل.
بل لقد كان له الأثر العظيم في إقدام عظماء الرجال على جلائل الأعمال التي يسبق إلى ظنونهم أن استطاعتهم وما لديهم من الأسباب الحاضرة _ يَقْصُرانِ عن إدراكها ؛ ذلك أن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المراد ودفع المكروه، بل هو أقوى الأسباب على الإِطلاق؛ فاعتماد القلب على قدرة الله، وكرمه، ولطفه يستأصل جراثيم اليأس، ومنابت الكسل، ويشد ظهر الأمل الذي يلج به الساعي أغوار البحار العميقة، ويقارع به السباع الضارية في فلواتها.
وأعظمُ التوكل على الله التوكل عليه _ عز وجل _ في طلب الهداية، وتجريد التوحيد، ومتابعة الرسول، وجهاد أهل الباطل، وحصول ما يحبه الله ويرضاه من الإِيمان، واليقين،والعلم، والدعوة، فهذا توكل الرسل وخاصة أتباعهم.
وما اقترن العزم الصحيح بالتوكل على من بيده ملكوت كل شيء إلا كانت العاقبة رشداً وفلاحاً [فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]آل عمران 159.
وما جمع قوم بين الأخذ بالأسباب وقوة التوكل على الله إلا أحرزوا الكفاية لأن يعيشوا أعزةً سعداء[45]).
الرابعة والعشرون: تحمل على العزة والكرامة: فالعقيدة الصحيحة تحمل أهلها على العزة والكرامة، والشجاعة القولية والفعلية؛ فمتى تيقن العبد أن الله هو النافع الضار، المعطي المانع، وأن من اعتز به فهو العزيز، ومن التجأ بغيره فهو الذليل، وأن الخلق كلَّهم فقراء إلى الله، لا ينفعون ولا يضرون ـ أوجب له ذلك القوةَ بالله، ودوامَ الالتجاء إليه، وتركَ الخوف مما سواه، وقطعَ الطمع إلا من فضله.
ثم إن العبد إذا علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه،وأنما كتب له لابد أن يصيبه ـ أَنِسَتْ نفسه، واطمأن قلبه, وسلم لله في جميع أموره.
وإذا سلم لله _ عز وجل _ حصل له الأمن، وزال من قلبه خوف الخلق؛ حيث وضع نفسه في حرزٍ مكين، وآواها إلى ركن شديد، فلا تنالها يدُ عدوٍّ عادٍ، ولا بغيُ باغٍ عاتٍ.
وبهذا يتحرر من رقّ المخلوقين؛ فلا يعلق قلبه بأحد منهم في جلب نفع أو دفع ضر، بل يكون الله _ وحده _ مولاه وناصره، فيستنصر ويستعين به، فيتم له من كفاية المولى، وتيسير الأمور ما لا يتم لمن لم يكن معه هذه العقيدة، ويحصل له من قوة القلب ما لا يصل إليه من لم يبلغ درجته[46]).
الخامسة والعشرون: لا تنافي العلم الصحيح: بل تؤيده، وتحث عليه، وتدعوا الناس إليه؛ فالعلم النافع الذي دل عليه الكتاب والسنة هو كل علم أوصل إلى المطالب العالية، وأثمر الثمار النافعة لافرق بين ما تعلق بالدنيا أو بالآخرة؛ فكل ما زكّى الأعمال، ورقّى الأخلاق، وهدى إلى السبيل _ فهو من العلم النافع.
والشريعة الإِسلامية _بكمالها وشمولها_ أمرت بتعلم جميع العلوم النافعة؛ من العلم بالتوحيد وأصول الدين، ومن علوم الفقه والأحكام، ومن العلوم العربية، ومن العلوم الاقتصاديه، والسياسية والحربية، والصناعية، والطبية إلى غير ذلك من العلوم التي تصلح بها الأفراد والمجتمعات.
فما من علم نافع في الدين أو الدنيا إلا أمرت به هذه الشريعة، وحثت عليه، ورَغَّبَتْ فيه، فاجتمع فيها العلوم الدينية والعلوم الكونية، وعلوم الدين وعلوم الدنيا، بل إنها جعلت العلوم الدنيوية التي تنفع _ من علوم الدين.
ولهذا لا يمكن أن تتعارض الحقائق العلمية الصحيحة مع النصوص الشرعية الصحيحة الصريحة.
وإذا ظهر في الواقع ما ظاهره المعارضة _فإما أن يكون الواقع مجرد دعوى لا حقيقة له، وإما أن يكون النص غير صريح في معارضته؛ لأن صريح النص وحقائق العلم كلاهما قطعي، ولا يمكن تعارض القطعيين.
هذا وقد غلط في هذا الباب من غلط من أهل الغلو، ومن أهل المادة؛ فالغالون اقتصروا على بعض علوم الدين، فقصروا أيما تقصير.
وأما الماديون فإنهم اقتصروا على بعض علوم الكون، وأنكروا ما سواها فألحدوا وكفروا، ومرجت عقولهم، وفسدت أخلاقهم، وصار حاصل علومهم أنها صنائع جوفاء، لا تغذي الأخلاق، ولا تزكي العقول والأرواح؛ فكان ضررها أعظم من نفعها، وشرها أكثر من خيرها؛ لأنها لم تُبْنَ على الدين الصحيح،ولم ترتبط به[47]).
السادسة والعشرون: تجمع بين مطالب الروح، والقلب، والجسد: فلا يُغَلَّب جانب من هذه الجوانب على الآخر، ولا يطغى مطلب منها على مطلب، بل كل شيء يسير بمنتهى الدقة، والتناسب، والتوازن؛ فالإسلام _ وإن عُني بتزكية الأرواح، وترقيتها في مراقي الفلاح _ لم يبخس الحواس حقها، بل قضى للأجسام لبانتها من الزينة، واللذة بالقسطاس المستقيم.
ومن شواهد ذلك أن الله عز وجل أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين؛ أمر بعبادته، والعمل الصالح الذي يرضيه، وبالأكل من الطيبات, واستخراج ما سخّره الله لعباده في هذه الحياة، فدفع القائمين بالدين الحق والعقيدة الصحيحة إلى كل علوّ ورقي، وتقدم صحيح.
ومن عرف شيئاً من أوصاف هذا الدين العظيم أدرك عظيم منّة الله على الخلق، وأن من نبذ ذلك وراء ظهره وقع في الباطل والضلال، والخيبة، والخسران، والأغلال؛ لأن العقائد الأخرى التي تخالف عقيدة الإسلام هي ما بين خرافات ووثنيات، وما بين إلحاد وماديات، تجعل أهلها كالبهائم بل هم أضل سبيلاً؛ لأن الدين الحق إذا تَرَحَّل عن القلوب تَرَحَّلَت معه الأخلاق الجميلة، وحلت محلها الأخلاق الرذيلة، فهبطت بهم إلى أسفل الدركات، وصار أكبر همهم التمتع بعاجل مباهج الحياة[48]).
السابعة والعشرون: تعترف بالعقل وتحدد مجاله: فالعقيدة الإِسلامية تحترم العقل السوي، وترفع من شأنه، ولا تحجر عليه، ولا تنكر نشاطه.
والإِسلام لا يرضى من المسلم أن يطفئ نور عقله، ويركن إلى التقليد الأعمى في مسائل الاعتقاد وغيرها.
بل إنه يطلب من المسلم أن ينظر في ملكوت السموات والأرض، وأن يتدبر في نفسه، وآيات الله من حوله؛ ليدرك بها أسرار الكون، وحقائق الحياة، ويصل بواسطتها إلى كثير من أمور الاعتقاد التي هي في حدود طاقته.
بل إن الإِسلام ينعى على الذين عطّلوا عقولهم، واتبعوا ما ألفوا عليه آباءهم من غير ما تعقل، ولا تدبر، ولا بصيرة.
ومع أن الإِسلام ينظر تلك النظرة إلى العقل فهو _ أيضاً _ يحدد مجال عمل العقل؛ صيانةً للطاقة العقلية من أن تشتت أو تتبدد وراء الأمور الغيبية التي لا يستطيع العقل إدراكها، والوقوف على حقيقتها، كالذات الإلهية، والروح، والجنة والنار، وغيرها؛ ذلك أن العقل البشري له مجاله الذي يعمل فيه، فإذا ما حاول أن يتخطى هذا المجال فإنه سيضل، ويتخبط في متاهات لا قبل له بها؛ فمجال العقل كلُّ ما هو مشاهد محسوس، أما الغيبيات التي لا تقع تحت الحواس فلا مجال للعقل أن يخوض فيها، ولا يخرج عما دلت عليه النصوص الشرعية في شأنها[49]).
الثامنة والعشرون: تعترف بالعواطف الإنسانية وتوجهها الوجه الصحيحة: فالعواطف أمر غريزي ولا يتجرد منها إنسان سوي، والعقيدة الإسلامية ليست عقيدة هامدة جامدة، بل هي عقيدة حية، تعترف بالعواطف الإِنسانية وتقدرها حق قدرها.
وفي الوقت نفسه لا تطلق العنان لها، بل تُقَوِّمها وتسمو بها، وتوجهها الوجهة الصحيحة، التي تجعل منها أداة خير وتعمير، بدلاً من أن تكون معولَ هدم وتدمير.
فهذه العقيدة تهيمن على عاطفة الحب، والبغض، وسائر العواطف، وتجعل صاحب هذه العواطف متزناً في تصرفاته، حكيماً في سلوكه ومعاملاته، ينطلق في ذلك كله من قاعدة أن الله يراه، ويطلع عليه، وسيحاسبه على ما قدّم، فلا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، فلا يندفع في ثورة الحب، أو سورة الغضب إلى اقتراف فعل مرذول، أو سلوك غير مقبول، أو تجاوز لحد من حدود الله.
وبدون هذه العقيدة يتحول المجتمع إلى مجتمع تنتشر الفوضى بين أفيائه، ويسود الرعب والخوف في أرجائه، ويتحول أفراده إلى وحوش كاسرة، لا همَّ لها إلا القتل والسلب، والتدمير والتخريب.
ولقد كانت هذه هي السمةَ البارزة، التي اتسم بها المجتمع الجاهلي قبل أن تستقر العقيدة الإِسلامية في قلوب أبنائه[50]).
التاسعة والعشرون: العقيدة الإسلامية كفيلة بحل جميع المشكلات: سواء مشكلات الفرقة والشتات، أو مشكلات السياسة والاقتصاد، أو مشكلات الجهل والمرض والفقر أو غير ذلك.
فلقد جمع الله بها القلوب المشتتة، والأهواء المتفرقة، وأغنى بها المسلمين بعد العَيْلَة، وعلمهم بها بعد الجهل، وبصّرهم بعد العمى، وأطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف[51]).
لأهل السنة والجماعة خصائص منهجية علمية، وخصائص خلقية وعملية.
وتلك الخصائص تميز بها سلف هذه الأمة، ومن تبعهم بإحسان.
ولا يعني ذلك عصمة كل منتسب إلى السنة، وإنما يعني عصمةَ المنهج، وعصمةَ مجموعِ مَنْ أخذ بهذه العقيدة.
لكن قد يحصل من بعض المنتسبين للسنة خلل، أو خطأ، أو تقصير؛ فلا يتابع عليه، ولا يقتدى به، بل يبتعد عن السنة بقدر خطئه، وبعده.
وفيما يلي بيان بشيء من البسط لتلك الخصائص التي امتاز بها أهل السنة والجماعة، وذلك من خلال المباحث التالية:
المبحث الأول: سلامة منهجهم في التلقي، والاستدلال.
المبحث الثاني: وسطيتهم من بين الفِرَق.
المبحث الثالث: خصائصهم الخلقية، والعملية.
من أعظم ما يختص به أهل السنة والجماعة سلامة منهجهم في التلقي والاستدلال.
ويدخل تحت ذلك جملة من المسائل التي توضح هذا المعنى، وتؤكد أخذهم به، وفيما يلي بيان لذلك:
الأولى: الاقتصار في التلقي على الكتاب والسنة: فهم ينهلون من هذا المنهل العذب عقائدهم، وعباداتهم، ومعاملاتهم وسلوكهم، وأخلاقهم, فكل ما وافق الكتاب والسنة قبلوه وأثبتوه، وكل ماخالفهما ردوه على قائله كائناً من كان.
بخلاف أهل البدعة والضلالة الذين أعرضوا عن هذين المصدرين، سواء كانوا من الصوفية الذين أخذوا دينهم عن طريق الرؤى، والأحلام، والمكاشفات، والذوق والوجد، أو من الرافضة الذين أخذوه فيما يزعمون عن أئمتهم الذين ادعوا لهم العصمة ( وأئمتهم المهتدون كعلي والحسن والحسين _ رضي الله عنهم _ براء منهم ).
أو من أهل الكلام الذين ألهوا العقل، وجعلوه حاكماً على نصوص الوحي، أو من الذين أخذوا بالنظريات الغربية الفاجرة التي تخالف الإِسلام جملة وتفصيلاً، كبعض نظريات علم النفس[52])، وعلم الاجتماع[53]).
فأهل السنة والجماعة أغناهم الله بالكتاب والسنة عن ضلالات أهل الأرض.
الثانية: التسليم لنصوص الشرع، وفهمها على مقتضى منهج السلف: فهم يسلمون لنصوص الشرع، سواء فهموا الحكمة منها أم لا، ولا يعرضون النصوص على عقولهم، بل يعرضون عقولهم على النصوص ويفهمونها كما فهمها السلف الصالح[54]).
الثالثة: الاتباع وترك الابتداع: فهم لا يقدمون بين يدي الله ورسوله، ولا يرفعون أصواتهم فوق صوت النبي " ولا يرضون لأحد كائناً من كان أن يرفع صوته فوق صوت النبي ".
بخلاف المبتدعة الضالين، الذين ابتدعوا في الدين، مستدركين على وحي رب العالمين، ألا ساء ما يعملون.
الرابعة: الاهتمام بالكتاب والسنة: فهم يهتمون بالقرآن حفظاً، وتلاوة، وتفسيراً، وبالحديث دراية ورواية.
بخلاف غيرهم من المبتدعة الذين يهتمون بكلام شيوخهم أكثر من اهتمامهم بالكتاب والسنة.
الخامسة: ترك التفريق بين الكتاب والسنة إلا بما حدده الشارع: فالكل من عند الله، والقبول لهما على حد سواء، قال _ تعالى _: [وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى] النجم:3_4.
وقال _ عليه الصلاة والسلام _: ( ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)[55])[56]).
السادسة: احتجاجهم بالسنة الصحيحة وترك التفريق بين المتواتر والآحاد: سواء في الأحكام أو العقائد، فهم يرون حجية الحديث إذا صح عن رسول الله " ولو كان آحاداً.
بخلاف المبتدعة الذين يقولون: إن حديث الآحاد لا تثبت به عقيدة؛ لأنه لا يفيد إلا الظن، وهو في الوقت نفسه تثبت به الأحكام الشرعية عندهم[57]).
السابعة: ليس لهم إمام معظم يأخذون كلامه كله، ويَدَعُونَ ما خالفه إلا الرسول ": أما غير الرسول _صلى الله عليه وسلم_ فإنهم يعرضون كلامه على الكتاب والسنة، فما وافقهما قبل، وما لا فلا، فهم يعتقدون أن كلاً يؤخذ من قوله ويُرد إلا الرسول ".
أما غيرهم من الفرق الأخرى، ومن متعصبة المذاهب _ فإنهم يأخذون كلام أئمتهم كله حتى ولو خالف الدليل.
الثامنة: أنهم أعلم الناس بالرسول ": فهم يعلمون هديه، وأعماله، وأقواله، وتقريراته؛ لذلك فهم أشد الناس حُبَّاً له وإتباعاً لسنته. بخلاف غيرهم من أهل البدع الذين يعرفون عن أئمتهم ما لا يعرفون عن رسول الله ".
التاسعة: الدخول في الدين كله: فهم يدخلون في الدين كله، ويؤمنون بالكتاب كله، امتثالاً لقوله _ تعالى _ : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً] البقرة:208.
بخلاف الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون.
وبخلاف الذين نسوا حظاً مما ذُكِّروا به، والذين جعلوا القرآن عضين؛ فآمنوا ببعض الكتاب، وكفروا ببعض.
العاشرة: الأخذ بأوامر الإسلام بقوة : وذلك بالالتزام بها، وقبولها في الرخاء والشدة، والمنشط والمكره، وفي الغضب والرضا، وعند الأثرة.
الحادية عشرة: تعظيم السلف الصالح: فأهل السنة يعظمون السلف الصالح، ويقتدون بهم، ويهتدون بهديهم، ويرون أن طريقتهم هي الأسلم، والأعلم، والأحكم[58]).
الثانية عشرة: الجمع بين النصوص في مسالة الواحدة، ورد المتشابه إلى المحكم: فهم يجمعون بين النصوص الشرعية في المسألة الواحدة، ويردون المتشابه إلى المحكم؛ حتى يصلوا إلى الحق في المسألة.
بخلاف كثير من الطوائف التي نسيت حظاً مما ذُكِّرت به، فنظرت إلى النصوص الشرعية بعين عوراء، فضلت وأضلت؛ وذلك كحال المعطلة، والممثلة، والقدرية، والجبرية.
الثالثة عشرة: الجمع بين العلم والعبادة: بخلاف غيرهم، فإما أن يشتعل بالعبادة عن العلم، أو بالعلم عن العبادة، أما أهل السنة والجماعة فيجمعون بين الأمرين.
الرابعة عشرة: الجمع بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب: فهم لاينكرون الأسباب، ولا تأثيرها إذا ثبتت شرعاً أو قدراً، ولا يَدعون الأخذ بالأسباب وفي الوقت نفسه لا يلتفتون إليها.
فهم يرون أنه يجب على العبد _ مع الإِيمان بالله، والتوكل عليه _ أن يجتهد في العمل، وأن يأخذ بأسباب النجاة، وأن يلجأ إلى الله بأن ييسر له أمور دينه ودنياه[59]).
ولا يرون أن هناك تنافياً بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب،لأن نصوص الشرع حافلة بالأمر بالتوكل على الله، والأخذ بالأسباب المشروعة أو المباحة في مختلف شؤون الحياة، فقد أمرت بالعمل، والسعي في طلب الرزق، والتزود للأسفار، واتخاذ العدد في مواجهة العدو.
قال _ تعالى _: [فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ]الجمعة:10, وقال :[فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا] الملك :15, وقال :[وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]البقرة197, وقال: [وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ]الأنفال :60.
وقال النبي ": ( احرص على ما ينفعك،واستعن بالله ولا تعجز،وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فان لو تفتح عمل الشيطان )[60]).
هذا هو مقتضى الأدلة النقلية والعقلية والواقعية؛ لأن الله _ تعالى _ ربط الأسباب بالمسببات، وجعل للمسببات أسباباً، وللمقاصد طرقاً ووسائل تحصل بها، وقرر هذا في النظر والعقول، ونفذه في الواقع، وقرره في المنقول[61]).
فليسوا كالذين ينكرون الأسباب، وينفون تأثيرها، ولا الذين جعلوا ما ليس سبباً في الشرع أو القدر سبباً، كحال الخرافيين الذين يرون تأثير الكواكب في الحوادث الأرضية، وكحال الذين يرون أن تربة كربلاء _ وخصوصاً التربة التي عند قبر الحسين _ شفاء من كل داء[62]).
وليسوا _ أيضاً _ كحال الذين ركنوا إلى الأسباب، وتركوا التوكل على الله، ولا كحال الذين تركوا الأخذ بالأسباب زعماً منهم أن فعلها ينافي التوكل، وأن ترك الأخذ بها أعلى مقامات التوكل.
فهذا كله ضلال وباطل؛ ولهذا قال بعض العلماء: ( الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع)[63]).
الخامسة عشرة: الجمع بين التوسع في الدنيا والزهد بها: فأهل السنة والجماعة لاينكرون على من يتوسع في الدنيا، ويسعى في كسب الرزق، بل يرون أنه ينبغي للإنسان أن يكفي نفسه ومن يعول، ويستغني عن الناس، ويقطع الطمع عما في أيديهم، على ألا تكون الدنيا أكبر همه، ولا مبلغ علمه، وعلى ألا يكتسب المال من غير حله، أو أن يكون عن الواجبات في شغل شاغل.
كما لا يعيبون على من آثر الكفاف، ورضي بالقليل من متاع الدنيا؛ لأنهم يرون أن الزهد إنما هو زهد القلب، وهو أن يترك الإنسان ما لا ينفع في الآخرة.
أما إذا توسع العبد في الدنيا، وجعلها في يده لا في قلبه؛ بحيث يرفد بها الإِخوان، ويتصدق على الفقراء والمساكين، ويعين بها على نوائب الحق _ فهذا من فضل الله الذي يؤتيه من يشاء.
( وذلك كحال الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن ابن عوف، وغيرهم من أثرياء المهاجرين والأنصار _ رضي الله عنهم)[64]).
وكحال ابن المبارك - رحمه الله - فلقد كان من أغنى أهل زمانه، وهو في الوقت نفسه من أزهدهم إن لم يكن أزهدهم، فالله عز وجل آتاه مالاً فسلطه على هلكته في الحق.
وهكذا نجد من أهل السنة من هو فقيرٌ متعففٌ راضٍ بالقليل.
فلم ينكر هؤلاء على أولئك، ولا أولئك على هؤلاء.
بخلاف غيرهم من أهل الدنيا الذين يعيشون لها، ويكدحون من أجلها، فهي أكبر همهم، ومبلغ علمهم، فلا يعادون إلا لها، ولا يوالون إلا عليها، وتجدهم يواصلون كلال الليل بكلال النهار، حرصاً على جمع المال من أي مكان وعن أي طريق، غير مبالين في حل الكسب من حرمته.
وبخلاف البطالين من أهل التصوف وغيرهم من الذين يعيشون عالة على الناس، ولا يرون الزهد إلا بترك الدنيا والإعراض عنها بالكلية، ويرون أن الاشتغال بطلب الرزق مناف للزهد.
ولهذا لم يذكر الله _ تعالى _ التجارة في معرض الحط في شأنها إلا حيث شغلت عن طاعة كما في قوله _ جل وعلا _: [وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] الجمعة:11.
ولمَّا لَمْ تشغل عن طاعته، ولم يؤثرها أهلها على واجبات الدين ذكرها الله _ عز وجل _ ولم يهتضم من حقها شيئاً، فقال: [رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ] النور:37.
فاثبت لهؤلاء الكُمَّل أنهم تجار وباعة، ولكنهم لم يشتغلوا بضروب منافع التجارة عن فرائض الله.
وكما أذن الإسلام في اكتساب الأموال، واستثمار أرباحها في وجوهها المعتدلة _ أذن في الاستمتاع بها، وترويح الخاطر بنعيمها؛ شريطة الاقتصاد.
قال_ تعالى _: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ] الأعراف:32, وقال في الآية التي قبلها: [وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] الأعراف :31.
وأما الآيات الواردة في سياق التزهيد، والحط من متاع الحياة الدنيا فلا يقصد منها ترغيب الإِنسان ليعيش مجانباً للزّينة، ميت الإرادة عن التعلق بشهواته على الإِطلاق.
وإنما يقصد منها حكم أخرى، كتسلية الفقراء الذين لا يستطيعون ضرباً في الأرض، ومَنْ قصرت أيديهم عن تناولها؛ لئلا تضيق صدورهم على آثارها أسفاً.
ومنها تعديل الأنفس الشاردة، وانتزاع مافي طبيعتها من الشَّرَهِ والطمع؛ لئلا يخرجا بها عن قصد السبيل، ويتطوَّحا بها في الاكتساب إلى طرق غير لائقة؛ فاستصغار متاع الدنيا، وتحقيرها لذائذها في نفوس الناس يرفعهم عن الاستغراق فيها، ويُكْبِرُ بهممهم عن جعلها قبلة يولون وجوههم شطرها حيثما كانوا.
ومتى عكف الإنسان على ملاذِّ الحياة، ولم يصحُ قلبه عن اللهو بزخارفها _ ماتت عواطفه، ونسي أو تناسى من أين تؤتى المكارم والمرؤة، ودخل مع الأنعام في حياتها السافلة.
وأما ما ثبت عن بعض السلف من نبذ الزينة والإِعراض عن العيش الناعم عند القدرة عليه، أو في حال وجوده _ فلا يريدونه قربة بنفسه، وإنما يبتغون به الوسيلة إلى رياضة النفس، وتدريبها على مخالفة الشهوات؛ لتستقر تحت طوع العقل بسهولة، وتتمكن من طرح أهوائها الزائغة بدون كلفة[65]).
السادسة عشرة: الجمع بين الخوف والرجاء والحب: فأهل السنة والجماعة يجمعون بين هذه الأمور، ويرون أنه لا تنافي ولا تعارض بينها، قال _ تعالى _ في وصف صفوة عباده: [إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ] الأنبياء:90.
وقال في معرض الثناء على عبادة المؤمنين: [ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] السجدة:16, وقال: [أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ] الزمر:9, وقال: [وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ] الإسراء 57.
وأمرنا أن نعبده بالخوف، والرجاء كما في قوله: [وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً] الأعراف: 56.
هذه طريقة أهل السنة والجماعة في هذا الباب[66]).
بخلاف من لا يجمعون بين الخوف والحب والرجاء، وإنما يأخذون بعبادة من هذه، ويدعون ما سواها.
فغلاة الصوفية _مثلاً_ يقولون: نحن نعبد الله لا خوفاً من عقابه ولا طمعاً في ثوابه، وإنما نعبد الله حبّاً لذاته فحسب، كما عبر بذلك كثير منهم كرابعة العدوية التي تقول:
أحبـك حبيــن حـبَّ الهـــوى | وحُبـــّـاً لأنــك أهل لذاكــــــــا | |
فأما الـذي هو حـب الهـوى | فشـغلي بذكـرك عمن ســواكا | |
وأمــا الــذي أنت أهل لــــه | فكَشفُكَ لي الحجب حتى أراكا[67]) |
وكما قال ابن عربي الصوفي :
أدين بدين الحب أنَّى توجهت | ركائبه فالحبُّ ديني وإيماني[68]) |
ولا شك أن هذا مسلك باطل، وطريقة فاسدة، ولها آثار وخيمة، منها الأمن من مكر الله، وغايته الخروج من الملة؛ فالذي يتمادى في التفريط في الخطايا ويرجو رحمة ربه بلا عمل _ يقع في الغرور، والأماني الباطلة، والرجاء الكاذب.
أما الخوارج فعبدوا الله بالخوف وحده، ولم يجعلوا تعبدهم لله _ عز وجل _ مقروناً بالمحبة؛ لذا لا يجدون للعبادة لذة، ولا إليها رغبة، فتكون منزلة الخالق عندهم كمنزلة سلطان جائر، أو ملك ظالم.
وهذا مما يورث اليأس والقنوط من رحمة الله، وغايته إساءة الظن بالله، والكفر به _ سبحانه وتعالى _.
أما أهل السنة والجماعة فيرون _ كما مضى _ أنه لابد من الجمع بين الخوف والحب والرجاء، فالخوف يستلزم الرجاء، ولولا ذلك لكان قنوطاً ويأساً والرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمناً من مكر الله.
وهناك مقولة مشهورة عند السلف، وهي قولهم: ( ومن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري[69])، ومن عبد بالرجاء فهو مرجىء، ومن عبده بالخوف، والحب، والرجاء فهو مؤمن موحِّد)[70]).
السابعة عشرة: الجمع بين الرحمة واللين والشدة والغلظة: قال _تعالى_ في وصف الصحابة _ رضي الله عنهم _: [أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ] الفتح:29.
وقال في وصف عباده المؤمنين الذين يحبهم ويحبونه: [أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ] المائدة:54.
ثم إن نبينا محمداً " وهو نبي الرحمة، وهو في الوقت نفسه نبي الملحمة، وهو كذلك الضحوك القتَّال[71])، وقد قيل في وصفه:
فما حملت من ناقة فوق ظهرها | أبرّ و أوفى ذمة من محمد |
كما قيل فيه أيضا :
فما حملت من ناقة فوق ظهرها | أشد على أعدائه من محمد |
فلا غرو أن يكون هذا وصف خاصة أمته _ أهل السنة والجماعة _؛ فهو قدوتهم وأسوتهم.
بخلاف غيرهم ممن عكس الأمر، فتنكر للمؤمنين، وأغلظ لهم القول، وتودد للكافرين والمبتدعة والمنافقين، وتلطف لهم، وألان لهم الجانب.
وبخلاف الذين يأخذون جانباً من هدي السلف، ويدعون الجانب الأخر، فيأخذون بالشدة في جميع أحولهم، أو يأخذون بالين في جميع أحوالهم.
فأهل السنة يجمعون بين هذا وهذا، وكل في موضعه حسب ما تقتضي المصلحة، ومقتضيات الأحوال، ومراعاة أن الأصل فيهم الرفق، واللين، والأخذ بالحسنى.
الثامنة عشرة: الجمع بين العقل والعاطفة: فعقولهم راجحة، وعواطفهم صادقة، ومعاييرهم منضبطة، فلم يغلّبوا جانب العقل على العاطفة، ولا جانب العاطفة على جانب العقل، وإنما جمعوا بينهما على أكمل وجه وأتمه.
فليسوا كالمعتزلة الذين جمدوا، وتعاملوا مع نصوص الشرع بكل برود وهمود، ولا كالصوفية الذين ساحوا بفنائهم[72]) وانبساطهم[73]) المزعوم، وليسوا كالذين قادتهم عاطفة الحب لآل البيت _ رضي الله عنهم _ إلى أن غلوا فيهم فعبدوهم، ولا كالخوارج الأجلاف الذين قادتهم عاطفة الكره إلى أن كفروا عليّاً ومعاويةً ومن معهما من الصحابة _ رضي الله عنهم _ واستحلوا دماءهم.
ثم إن أهل السنة أضبط الناس لأنفسهم؛ فليسوا ممن يستفزهم كل ناعق، ويستثيرهم كل مبطل، فيحدث عندهم ردود فعل غير منضبطة، كالجبرية التي خرجت رَدَّةَ فعل للقدرية، وكالمرجئة التي خرجت ردة فعل للخوارج.
التاسعة عشرة: التوافق في وجهات النظر وردود الأفعال: فأهل السنة والجماعة تتفق _في الأغلب_ وجهات نظرهم، وردود أفعالهم، حتى ولو تباعدت أعصارهم وأمصارهم، وهذا ناتج عن وحدة المصدر.
بخلاف غيرهم من أهل البدع الذين تختلف مواقفهم تبعاً لأهوائهم.
العشرون: اتفاقهم في أصول الاعتقاد: فالسلف الصالح لا يختلفون _بحمد الله_ في أصل من أصول الدين، وقواعد الاعتقاد؛ فقولهم في أسماء الله وصفاته وأفعاله واحد، وقولهم في الإيمان وتعريفه ومسائله واحد، وقولهم في القدر واحد، وهكذا في باقي الأصول، وإن اختلفت ألفاظهم في بعض المسائل؛ فذلك اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد.
واختلاف أهل السنة إنما كان في الاجتهاديات من أمور الأحكام، أو فرعيات المسائل الملحقة بالعقيدة، مما لم يقطع به نص قاطع، وذلك كمسالة رؤية النبي " لربه في المعراج، هل كانت يقظة أو مناماً؟ ومسالة رؤية الله _تعالى_ في المنام، ومسالة ابن صياد هل هو الدجال الذي يخرج في آخر الزمان أو غيره ؟ ونحو ذلك...
فهذه الأمور ونحوها ليست من أصول الاعتقاد، والخلاف فيها دائر مع النصوص، ولم يقل أحد من السلف فيها برأيه[74]).
بخلاف أهل البدع، فإنهم لا يوافقون أهل السنة في الأصول أو بعضها، بل إنهم أَنْفُسَهم لا يتفقون على أصولهم، بل إن الفرقة الواحدة منهم لا يتفق أفرادها كل الاتفاق على أصل من أصولهم.
قال الإمام ابن قتيبة - رحمه الله - متحدثاً عن أهل الكلام: ( وقد كان يجب _مع ما يدَّعون من معرفة من القياس، وإعداد آلات النظر_ أن لا يختلفوا كما لا يختلف الحُسّاب، والمُسّاح، والمهندسون؛ لأن آَلَتَهُمْ لا تدل إلا على عدد واحد، وإلا على شكل واحد، وكما لا يختلف حذاق الأطباء في الماء في نبض العروق؛ لأن الأوائل قد وقفوهم من ذلك على أمر واحد.
فما بالهم[75]) أكثر الناس اختلافاً، لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحد في الدين؟.
فـ ( أبو الهذيل العلاّف)يخالف ( النظام)، و ( النجار) يخالفهما، و ( هشام بن الحكم) يخالفهم، وكذلك ( ثمامة)، و ( مويس)، و ( هاشم الأوقص) و ( عبيد الله بن الحسن )، و ( بكر العمي)، و ( حفص)، و ( قبة) وفلان وفلان.
ليس منهم واحد إلا وله مذهب في الدين يدان برأيه، وله عليه تبع.
قال أبو محمد[76]): ولو كان اختلافهم في الفروع والسنن لاتسع لهم العذر عندنا _ وإن كان لاعذر لهم مع ما يدَّعونه لأنفسهم _ كما اتسع لأهل الفقه، ووقعت لهم الأسوة بهم.
ولكن اختلافهم في التوحيد، وفي صفات الله _ تعالى _ وفي قدرته, وفي نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، وعذاب البرزخ، وفي اللوح، وفي غير ذلك من الأمور التي لا يعلمها نبي إلا بوحي من الله _ تعالى _.
ولن ينعدم هذا من ردّ مثل هذه الأصول إلى استحسانه، ونظره، وما أوجبه القياس عنده؛ لاختلاف الناس في عقولهم، وإرادتهم، واختياراتهم؛ فانك لا تكاد ترى رجلين متفقين، حتى يكون كل واحد منهما يختار ما يختاره الآخر، ويرذل مايرذله الآخر _ إلا من جهة التقليد)[77]).
فالوسطية من أعظم ما يتميز به أهل السنة والجماعة، فكما أن أمة الإسلام وسط بين الأمم التي تجنح إلى الغلو الضار، والأمم التي تميل إلى التفريط المهلك _ فكذلك أهل السنة والجماعة متوسطون بين فرق الأمة المبدعة التي انحرفت عن الصراط المستقيم[78]).
وتتجلى وسطية أهل السنة والجماعة في شتى الأمور؛ سواء في باب العقيدة،
أو الأحكام، أو السلوك، أو الأخلاق، أو غير ذلك.
ومن مظاهر تلك الوسطية مايلي :
أولاً: أنهم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل وأهل التمثيل: فأهل التعطيل أنكروا الصفات ونفوها، وأهل التمثيل أثبتوها وجعلوها مماثلة لصفات المخلوقين.
أما أهل السنة والجماعة فهم يثبتون الصفات لله _تعالى_ إثباتاً بلا تمثيل، وينزهونه عن مماثلة المخلوقات تنزيهاً بلا تعطيل.
فجمعوا أحسن ما عند الفريقين: التنزيه والإثبات، وتركوا ما أخطأوا وأساؤوا فيه من التعطيل والتمثيل[79]).
ثانياً: وسط في باب الوعد بين المرجئة وبين الوعيدية: فالمرجئة قالوا: لا يضر مع الإِيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وزعموا أن الإِيمان مجرد التصديق بالقلب، وإن لم ينطق به، وأخروا الأعمال عن الإِيمان، وجَوَّزوا أن يعذب الله المطيعين، وينَعِّم العاصين.
أما الوعيدية فهم القائلون بأن الله يجب عليه عقلاً أن يعذب العاصي، كما يجب عليه أن يثيب المطيع، فمن مات على كبيره ولم يتب منها لا يجوز عندهم أن يغفر الله له.
أما أهل السنة فوسط بين نفاة الوعيد من المرجئة، وبين موجبيه من الوعيدية، فمن مات على كبيرة عندهم فأمره مفوض إلى الله، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه، وإذا عاقبه بها فإنه لا يخلد خلود الكفار، بل يخرج من النار، ويدخل الجنة[80]).
ثالثاً: وسط في مسالة التكفير: وهذه المسالة داخلة في الفقرة التي تليها، فبينما تجد فريقاً يتسرعون في إطلاق الكفر، فيُكفِّرون بالكبيرة، ولا يحكمون بإسلام من نطق بالشهادتين، وصلَّى، وصام، وأدى فرائض الإسلام _ مالم يتحققوا إسلامه بشروط حدّدوها لم ترد في الكتاب ولا السنة _ وذلك كحال الخوارج ومن سار على نهجهم _ تجد فريقاً آخر فرّط أيما تفريط، فمنع التكفير البتة، ورأى أن من تلفظ بالشهادتين لا يمكن تكفيره بحال، بل قالوا: إنه لا يجوز تكفير شخص بعينه، وإنما إطلاق الكفر يكون على الأعمال.
ومن هنا فهم لا يكفرون أحداً أبداً حتى المرتدين، ومدعي النبوة، وجاحدي وجوب الصلاة، ونحو ذلك من الأمور التي أجمع أهل العلم على خروج أصحابها من دائرة الإِسلام..
أما أهل السنة فقد هداهم الله لما اختلف فيه من الحق بإذنه؛ لالتزامهم بالدليل الشرعي؛ فهم لا يمنعون التكفير بإطلاق، ولا يكفرون بكل ذنب، ولم يقولوا: إن تكفير المعين غير ممكن، ولم يقولوا بالتكفير بالعموم دون تحقق شروط التكفير، وانتفاء موانعه في حق المعين، ولم يتوقفوا في إثبات وصف الإِسلام لمن كان ظاهره التزام الإِسلام، أو ظهر منه إرادة الدخول فيه.
بل يحسنون الظن بأهل القبلة الموحدين، وبمن دخل في الإِسلام، أو أراد الدخول فيه، ويرون أن الإسلام يثبت بأدنى بينة، والتكفير ينتفي بأدنى شبهة.
ومن أتى بمكفر، واجتمعت فيه الشروط، وانتفت في حقِّه الموانع _ فإنهم لايتحرجون من تكفيره؛ لأنهم يرون أن التكفير ليس حقاً لأحد، وإنما هو حق لله ورسوله؛ فلا يكفرون إلا من كفره الله ورسوله ".
على أنهم لا يرون أن تكفير المعين كلأٌ مباح، بل يرون أنه شأن أهل العلم، والبصيرة، والركانة[81]).
رابعاً: وسط في باب أسماء الدين والإِيمان، أو مسألة الأسماء والأحكام بين الخوارج والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية: والمراد بالأسماء هنا: أسماء الدين، مثل: مؤمن، ومسلم، وكافر، وفاسق.
والمراد بالأحكام أحكام أصحابها في الدنيا والآخرة.
فالخوارج والمعتزلة ذهبوا إلى أنه لا يستحق اسم الإيمان إلا من صَدَّقَ بجنانه، وأقر بلسانه، وقام بجميع الواجبات، واجتنب جميع المحرمات.
وعلى هذا فمرتكب الكبيرة عندهم لا يسمى مؤمناً باتفاق الفريقين.
ولكنهم اختلفوا: هل يسمى كافراً أو لا؟
فالخوارج يسمونه كافراً، ويستحلون دمه وماله.
أما المعتزلة، فقالوا: إن مرتكب الكبيرة خرج من الإِيمان، ولم يدخل في الكفر، فهو بمنزلة بين المنزلتين.
أما في أحكام الآخرة فاتفق الفريقان على أن من مات على كبيرة ولم يتب منها ـ فهو مخلد في النار.
أما المرجئة فكما سبق بيان مذهبهم من أن الإيمان مجرد التصديق، وأنه لايضر مع الإِيمان معصية، فمرتكب الكبيرة عندهم مؤمن كامل الإِيمان، ولا يستحق دخول النار.
أما أهل السنة والجماعة فمذهبهم وسط بين هذين المذهبين، فمرتكب الكبيرة عندهم مؤمن بإِيمانه، فاسق بكبيرته، أو هو مؤمن ناقص الإِيمان، ويسمونه فاسقاً مِلِّياً قد نقص إيمانه بقدر ما ارتكب من معصية، فلا ينفون عنه الإِيمان أصلاً كالخوارج والمعتزلة، ولا يقولون: بأنه كامل الإيمان كالمرجئة.
وحكمه في الآخرة عندهم أنه قد يتجاوز الله عنه، فيدخل الجنة ابتداءً، أو يعذبه بقدر معصيته ثم يخرجه، ويدخله الجنة كما سبق[82]).
خامساً: وسط في باب القدر بين القدرية والجبرية: فالقدرية قالوا: إن العبد مستقل بعمله في الإِدارة والقدرة، وليس لمشيئة الله _ تعالى _ وقدرته في ذلك أثر.
ويقولون: إن أفعال العباد ليست مخلوقة لله، وإنما العباد هم الخالقون لها[83]).
والجبرية غلوا في إثبات القدر،حتى انكروا أن يكون للعبد فعلٌ حقيقةً، بل هو في زعمهم لا حرية له، ولا فعل، كالريشة في مهب الريح، وإنما تسند إليه الأفعال مجازاً، فيقال: صلى، وصام، وقتل، وسرق، كما يقال: طلعت الشمس، وجرت الريح، ونزل المطر[84]).
أما أهل السنة والجماعة فتوسطوا وقالوا: نثبت للعبد مشيئة يختار بها، ومشيئته وقدرته واقعتان بمشيئة الله تابعتان لها؛ لقوله _ تعالى_: [لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ*وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ]التكوير: 28_29.
ويقولون _أيضاً_: العباد فاعلون، والله خالق أفعالهم، قال _ تعالى _: [وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ] الصافات : 96.
فأفعال هي من الله خلقاً وإيجاداً وتقديراً، وهي من العباد فعلاً وكسباً[85]).
سادساً: وسط في محبة النبي " بين الغالين والجافين: فأهل السنة والجماعة يحبون الرسول " ويعتقدون أنه خير البشر، وأنه سيد المرسلين، وخاتم النبيين، ويرون أن أكمل المؤمنين إيماناً أكملهم محبة وإتباعا للرسول ".
وهم مع ذلك يعتقدون أنه بشر، لا يملك لنفسه _ فضلاً عن غيره _ نفعاً ولا ضراً إلا بما أقدره الله عليه، ويعتقدون أنه مات، وأن دينه باق إلى قيام الساعة.
بخلاف الذين غلوا فيه، فرفعوه فوق منزلته، واعتقدوا أنه يجيب من دعاه، فصرفوا له العبادة من دون الله.
وذلك كحال غلاة الصوفية الذين يقول قائلهم وهو البوصيري في شأن النبي _صلى الله عليه وسلم_:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذُ به | سواك عند حلول الحادث العَمم | |
فإن من جودك الدنيا وضرّتَها | ومن علومك علمَ اللوح والقلم[86]) |
ويقول _أيضاً_ في حقه ":
إن لم يكن في معادي آخذاً بيدي | فضلاً وإلا فقلْ يا زلةَ القدمِ[87]) |
إلى غير ذلك من الغلو.
وبخلاف الذين جفوا في حق رسول الله " فأعرضوا عن شرعه، ولم يحكِّموه فيما شجر بينهم، أو الذين ادّعوا أن شريعته قد نسخت بشريعة أخرى كحال غلاة الباطنية الذين يقول قائلهم وهو شاعر علي بن الفضل الباطني مبيناً مذهبهم :
خُذي الدفَّ يا هذه واضربي | وغني هزاريك ثم اطربي | |
تولى نبي بني هاشــــــــــــــم | وهذا نبـــــــي بني يعرب | |
لكل نبيٍّ مضى شرعــــــــــةٌ | وهذي شريعة هذا النبي | |
فقد حطَّ عنا فروض الصلاة | وفرض الصيام فلم نتعب | |
إذا الناس صلوا فلا تنهضي | وإن صوَّموا فكلي واشربي | |
ولا تطلبي الحج عند الصفا | ولا زورة القبر في يثرب[88]) |
إلى آخر ما قاله من ذلك الكفر الصراح البواح.
وكذلك حال الذين يرون أن شريعته _ عليه الصلاة والسلام _ لا تتلاءم مع الحضارة، ولا تفي بمتطلبات العصر.
أما أهل السنة فتوسطوا _ كما مر _ فيرون أنه عبد الله ورسوله، كما أمر أن نقول عنه، فلم يجفوا في حقه، ولم يغلوا، بل أنزلوه منزلته اللائقة به[89]).
سابعاً: وسط في أصحاب رسول الله " بين الرافضة والخوارج: فالرافضة يسبون الصحابة _ رضي الله عنهم_ ويلعنونهم، وربما كفروهم، أو كفروا بعضهم، والغالبية منهم _ مع سبهم لكثير من الصحابة والخلفاء _ يغلون في علي وأولاده _ رضي الله عنهم _ ويعتقدون فيهم الإِلهية.
وأما الخوارج فقد قابلوا هؤلاء الروافض، فكفروا عليّاً ومعاوية، ومن معهم من الصحابة، وقاتلوهم، واستحلوا دماءهم وأموالهم.
وأما أهل السنة والجماعة فكانوا وسطاً بين غلو هؤلاء، وجفاء هؤلاء، فهداهم الله إلى الاعتراف بفضل الصحابة، وأنهم أكمل الأمة إيماناً وإسلاماً وعلماً وحكمة، ولكنهم لم يغلوا فيهم، ولم يعتقدوا عصمتهم، بل أحبوهم لحسن صحبتهم، وعظم سابقتهم، وحسن بلائهم في نصرة الإِسلام، وجهادهم مع رسول الله "[90]).
ثامناً: وسط في باب العقل بين الذين ألّهوه وبين الذين ألغوه: فأهل السنة والجماعة لا يغلون العقل، ولا ينكرونه، ولا يحجرون عليه، بل يعتقدون أن للعقل مكانةً ساميةً، وأن الإِسلام يقدر العقل، ويتيح له مجالات العلم، والنظر، والتفكير.
وفي الوقت نفسه لا يؤلِّهون العقل، ولا يجعلونه حاكماً على نصوص الوحي، بل يرون أن العقل حدّاً لابد أن يقف عنده؛ فالله _ عز وجل _ جعل للعقول حدّاً لا تتعداه، ولا يمكنها مجاوزته.
أما غيرهم فما بين مُفْرِطٍ ومفرِّط في هذا الباب، فالمعتزلة والفلاسفة، وأهل الكلام عموماً _ألّهوا العقل، وجعلوه مصدراً للتلقي، فما وافق العقل _ أو ما يسمونه بالقواطع العقلية _ قبلوه واخذوا به، وما خالف ذلك ردّوه أو أوّلوه[91])، مع أن عقولهم مختلفة، ومداركهم متفاوتة، بل إن الواحد منهم قد يختلف مع نفسه.
وأما أهل الخرافة والدجل فقد ألغوا العقل، وقبلوا ما لا يقبل ولا يعقل.
وذلك كحال كثير من الصوفية الذين تنطلي عليهم أكثر الأباطيل والأغاليط.
فالتجانية _ وهي أحدى الطرق الصوفية _ يعتقدون أن من رأى شيخ الطريقة أحمد التجاني دخل الجنة!! [92]).
كيف يكون ذلك وأفضل البشر رسول الله " رآه من رآه من الكفار ومع ذلك لم تنفعهم تلك الرؤية شيئاً لما كفروا بالله _ عز وجل _ كأبي لهب وأبي جهل ؟!
وبالجملة فكل من تنكب الصراط المستقيم لابد أن ينحرف في باب العقل، سواء كان ذلك في شأن الأفراد أو الجماعات، حتى ولو كان أولئك على مستوى عالٍ من توقد الذهن، وحدة الذكاء؛ فالعقل الحقيقي إنما هو عقل الرشد لا عقل الإِدراك، والذكاء وتوابعه إذا لم يصرف فيما خلق له العبد وصار وبالاً على أهله.
تاسعاً: وسط في التعامل مع العلماء: فأهل السنة يحبون علماءهم ويُجِلونهم، ويتأدبون معهم، ويذبُّون عنهم، ويحسنون الظن بهم، وينشرون محامدهم، ويسعون إليهم، ويأخذون عنهم، ويصدرون عن رأيهم؛ لعلمهم أن العلماء هم ورثة الأنبياء والقائمون بمهمة الدعوة والإبلاغ، وهم مفزع الأمة _بعد الله_ عند الشدائد؛ فكان واجباً على الأمة موالاتهم، وإنزالهم منازلهم، وقدرهم حق قدرهم.
ثم إنهم في الوقت نفسه يرون أن العلماء بشر غير معصومين، بل يجوز عليهم _في الجملة_ الخطأ، والنسيان، والهوى، وأن ذلك لا ينقص من أقدارهم، ولا يُسوِّغ ترك الأخذ عنهم.
وهم _كذلك_ لا يسارعون في تخطئة العلماء، بل يثبتون في ذلك، فإذا ثبت عندهم أن العالم الفلاني قد زَلَّ فإنهم لا يوافقونه على زلته، ولا يتتبعونها، ولا يتخذونها ذريعة للنيل منه، والوقيعة فيه، بل يطوونها ولا ينشرونها، إلا إذا عمت البلوى بها، وخُشي أن يضل الناس بسببها؛ فإنهم حينئذ يردون على ذلك العالم مقالته، مع الاحتفاظ له بمكانته، ومع ملاحظة أن لا يرد عليه إلا من هو أهل لذلك، وأن ينصبَّ الرد على المقالة لا الشخص، وأن يلتمس له أحسن المخارج، وأن يحمل كلامه على أحسن المحامل.
بخلاف الذين حطوا من أقدار العلماء، فلم يرفعوا بهم رأساً، ولم يرعوا لهم حقاً كحال الخوارج ومن شاكلهم.
وبخلاف الذين قدسوا علماءهم، وغالوا فيهم، ورفعوهم فوق منزلتهم، فقلدوهم تقليداً مطلقاً، فلم يجعلوا الدليل والحق رائدهم، بل جعلوا رائدهم قول الشيخ، وذلك كحال الذين غلوا في أئمتهم بل جعلوا لهم مقاماً لم يبلغه نبي مرسل، ولا ملك مقرب، فاعتقدوا فيهم العصمة، ونزهوهم عن الخطأ، والسهو، والنسيان.
وكذلك غلاة الصوفية الذين يغلون في مشايخهم، ويرون أن من قال لشيخه: لمَ؟ فقد كفر.
ويقولون: إذا كنت عند الشيخ فكن كالميت بين يدي الغاسل.
وبخلاف الذين رأوا للعلماء منزلة عالية، لكنهم لم يعاملوهم على أنهم بشر يقع منهم الخطأ والنسيان والهوى، بل تعاملوا معهم على أنه لا ينبغي لهم أن يخطئوا أبداً، فما إن يروا خطأ من عالم حتى يعظموا ذلك الخطأ، ويكبروه ويطيروا به كل مطار، ويجعلوه ذريعة للوقيعة فيه، والتشهير به، والنيل منه، وتزهيد الناس به، فجمعوا بين متناقضين، وقادهم إفراطهم إلى التفريط؛ حيث عظموا العلماء وأحلوهم مكاناً لا يتصور منهم الخطأ، ثم هم يهدرون مكانة العلماء بالوقيعة فيهم إن أخطأوا، والتشهير بهم إن زلوا، هذا إن لم يختلقوا الخطأ على العلماء [93]).
عاشراً: وسط في التعامل مع ولاة الأمور: فأهل السنة في هذا الباب وسط بين المفْرطين والمَفرّطين، فليسوا كالمفرطين الغلاة، الذين يدينون بالخوارج على أئمة الجور، ويرون أنهم _ وحدهم _ هم سبب الشر والفساد، وأن الخروج عليهم كفيل بإصلاح الأحوال.
وذلك كحال الخوارج الذين يرون أن الفساد سببه الولاة، وأن الخروج عليهم واجب متعين، وأن الوسيلة الوحيدة للإصلاح عندهم _ كما يشهد تأريخهم _ هو الخروج على أئمة الجور، بل ربما خرجوا على أئمة العدل، كما فعلوا مع علي - رضي الله عنة - [94]).
وكحال المعتزلة الذين جعلوا الخروج على الأئمة أصلاً من أصول دينهم[95]).
وليسوا كالمدّاحين، المنافقين، الذين يغالون في الولاة، ويمدحونهم بما ليس فيهم، وربما ادّعوا لهم العصمة، وخلعوا عليهم صفات لا تليق إلا بربّ العالمين، وأطاعوهم بكل ما أمروا به حقاً كان أم باطلاً.
كما فعل الوزير الرافضي ابن العلقمي مع آخر بني العباس المستعصم، عندما غشّه، وخدعه، وزيّن له باطله وسوء عمله، وأشار عليه بتقليص جيشه، ثم بعد ذلك قاده إلى الهاوية عندما أشار عليه بأن يخرج بخاصته للتفاوض مع ( هولاكو) زعيم التتار، ثم بعد ذلك تمكن ( هولاكو) من الخليفة وقتل من معه، فكان غنيمة باردة له ولجنده، ثم بعد ذلك فعل التتار ببغداد ما فعلوا [96]).
وقل مثل ذلك في شأن النصير الطوسي الذي كان يدبّج القصائد الطوال في مدح الخليفة الآنف الذكر، وعندما تمكن ( هولاكو) أشار الطوسي عليه بقتل الخليفة [97]).
وقل مثل ذلك في شأن كثير ممن يؤلهون الولاة، ويخلعون عليهم صفات الربوبية والألوهية، كما قال ابن هانئ الأندلسي في مدح المعز لدين الله العبيدي :
ما شئت لا ما شاءت الأقدار | فاحكم فأنت الواحد القهّار | |
وكأنما أنت النبي محمـــــــد | وكأنما أنصارك الأنصار[98]) |
وكما قال أحدهم عندما زلزلت مصر في عهد أحد السلاطين _ معللاً سبب ذلك الزلزال، بأنه بسبب عدل ذلك السلطان، قال:
ما زلزلت مصر من سوء يراد بها | لكنها رقصت من عدله فرحا[99]) |
أما أهل السنة والجماعة فتمسكوا بالحق، وتعاملوا مع ولاة الأمور على وَفْقِ ما جاء في نصوص الشرع.
فهم يدينون لولاتهم بالسمع والطاعة، في المنشط والمكره، وفي العسر واليسر، وعلى أثرة عليهم، ما لم يؤمروا بمعصية، فإن أمروا بمعصية فيرون أنه لا سمع ولا طاعة؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنما تكون الطاعة بالمعروف.
كما أنهم يدينون بالنصيحة لولاة الأمر، ويتعاونون معهم على البر والتقوى وإن كانوا فجّاراً؛ لأن هدفهم الوحيد تحصيل المنافع وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها؛ فلا يمتنعون من إعانة الظالم على الخير، وترغيبه فيه، فيشاركون الأئمة الظلمة في الخير، ويفارقونهم في الشر.
ولذلك فهم يرون إقامة الجمع والجماعات والأعياد معهم، ويرون أن الجهاد ماضٍ إلى قيام الساعة مع كل برّ وفاجر[100]).
ثم أنهم لا ينزعون يداً من طاعة ولا ينازعون الأمر أهله.
كما أنهم لا يدينون بالخروج على أئمة الجور _ فضلاً عن أئمة العدل _ إلا إذا رأوا كفراً بواحاً عندهم فيه من الله برهان، وكان لديهم قوة منعة، ولم يترتب على الخروج مفسدة أعظم، لئلا يجرّوا الأمة إلى البلايا والرزايا.
وخير مثال تطبيقي لتعامل أهل السنة مع ولاة الأمر ما قام به الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - إبان القول بفتنة خلق القرآن؛ فلقد أوذي، فلم تلن له قناة، ولم يفتّ له عضد، ولم يتوان عن قول الحق، بل صدع به، وتحمّل تبعات ذلك.
وفي الوقت نفسه، لم يأمر أتباعه بالخروج على ولاة الأمر، بل نهاهم عن ذلك، وحذرهم أشد التحذير.
ومن الأمثلة على ذلك ما كان من أمر شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه الله - فلقد أوذي من قبل السلطة بسبب نشره لعقيدة السلف، وتقريره لها، ورده على سائر الطوائف والفرق الضالة، وسجن بسبب ذلك، ولاقى الويلات إثر الويلات، فما سكت عن الحق، وما تخلى عما يدعوا إليه، كما أنه لم يأمر بالخروج على الأئمة، بل كان شديداً في التحذير منه [101]).
حادي عشر: وسط في كرامات الأولياء: فمن أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء، وما يجريه الله على أيديهم من خوارق العادات، من أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثير[102]).
والكرامة: أمرٌ يجريه الله؛ لحجة، أو حاجة، مختص بأوليائه، خارق لعادة غيرهم، سالم من المعارضة بمثله، أو أقوى منه[103]).
والمعجزة: أمر يجريه الله، خارق لعادة الثقلين، مختص بالأنبياء، سالم من المعارضة.
وهما يتفقان في كونهما من خوارق العادات، وأن الكرامات داخلة في باب المعجزات، إذ هي ثمرة اتباع الأنبياء، أو أن كلَّ واحدة منهما لا يشترط فيها التحدي، أو عدمه.
وبينهما فروق كثيرة جلية تميز كل واحدة منهما عن الأخرى؛ فالكرامات دون المعجزات في جنسها، وقدرها، والكرامات لا تدل على العصمة، ولا على وجوب الطاعة بخلاف المعجزة.
ثم إن المعجزة خارقة للعادة مطلقاً، بمعنى أنها خارقة لعادة الثقلين.
في حين أن الكرامة خارقة لغيرهم عدا الأنبياء، وإن كانت معتادة للأنبياء.
والكرامة تنال بأسباب كالصلاح، ونحوه، في حين أن المعجزة اصطفاء، واختيار[104]).
وأهل السنة وسط في هذا الباب بين الذين أنكروا الكرامات وبين الذين غالوا فيها، وجعلوا ما ليس منها داخلاً فيها.
فالفلاسفة أنكروا كرامات الأولياء كما أنكروا معجزات الأنبياء؛ فزعموا أنها قوى نفسانية[105]).
والمعتزلة أنكروا الكرامات، بدعوى التباسها بالمعجزة.
وعمدتهم في ذلك أن الكرامة خارقة للعادة عند من يقول بوقوعها؛ فتكون كالمعجزة من جهة انخراقِ العادةِ، والخارقُ _بزعمهم_ لا يظهر إلا على أيدي الأنبياء، ومن هنا أنكروا الكرامة[106]).
وأما الدجاجلة المشعوذون من الصوفية وغيرهم _ فأدخلوا في الكرامات ما ليس منها؛ من نحو ما يقومون به من أعمال ومخاريق، وأحوال شيطانية _ كدخول النيران، وضرب أنفسهم بالسلاح، والظهور بالمظاهر الغريبة، ونحو ذلك.
ولاشك أن هذه ليست من الكرامات؛ فإن الكرامة إنما تكون لأولياء الرحمن، وهؤلاء هم أولياء الشيطان [107]).
ثاني عشر: وسط في باب الشفاعة: فالخوارج والمعتزلة ينكرون شفاعة النبي " وغيره لأهل الكبائر، ويقْصُرون الشفاعة على التائبين من المؤمنين؛ لأن إثبات الشفاعة للفساق ينافي مبدأ الوعيد في مذهبهم؛ فهم يرون وجوب إنفاذ الوعيد لمن استحقه، ولا يرون الشفاعة له من النبي " وغيره.
ويقابل غلوَّ هؤلاء في نفي الشفاعة غلوٌّ في إثباتها.
وذلك كغلو النصارى والمشركين، ومن نحا نحوهم، فهؤلاء جعلوا لمن يعظمونهم شفاعة عند الله في الآخرة كشفاعتهم في الدنيا، فيرون أن هؤلاء المعظمين يشفعون لهم عند الله يوم القيامة شفاعةً مستقلة.
أما أهل السنة فتوسطوا في هذا الباب؛ فلم ينفوا كل شفاعة، ولم يثبتوا كل شفاعة.
بل أثبتوا من الشفاعة ما دل عليه الدليل من الكتاب والسنة، ونفوا منها ما نفاه الدليل.
فالشفاعة المثبتة عندهم هي التي تطلب من الله _ عز وجل _ وهي التي تكون للموحدين بعد إذن الله للشافع، ورضاه عن المشفوع له؛ فلا تطلب من غير الله، ولا تكون إلا بعد أذنه ورضاه.
فهذه الشفاعة يثبتها أهل السنة بأنواعها، بما في ذلك الشفاعة لأهل الكبائر.
أما الشفاعة المنفية عند أهل السنة فهي التي نفاها الشرع، وهي التي تطلب من غير الله استقلالاً، ولم تتوافر فيها شروط الشفاعة [108]).
لأهل السنة خصائص خلقية، وعملية يمتازون بها عن غيرهم، وفيما يلي بيان لذلك:
الأولى: العدل: فالعدل من أعظم الميزات لأهل السنة، فهم أعدل الناس، وأولاهم بامتثال قول الله _ عز وجل _: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ] النساء:135 , وقوله: [وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى] الأنعام :152.
حتى إن الطوائف إذا تنازعت احتكمت إلى أهل السنة، وإذا لم يعدل أهل السنة فمن يعدل ؟!
فهم لا يظلمون أحدا، ولايغمطونه حقه كائناً من كان، وإن أردت الدليل فالق نظرة على كتب الرجال والجرح والتعديل _ تَرَ ما يؤكد ذلك، ويبرهن عليه.
ومن مظاهر عدلهم أنهم لا يكفرون كل من كفرهم.
الثانية: الأمانة العلمية: فالأمانة زينة العلم، وروحه الذي يجعله زاكي الثمر، لذيذ المطعم، وإذا قلبت النظر في تراجم رجال العلم وجدت البون الشاسع بين أهله وغيرهم من حيث الأمانة العلمية[109]).
وأهل السنة والجماعة لهم القدح المعلى في هذا الجانب؛ فهم أكثر الناس أمانة في العلم، وأحرصهم على التحلي بتلك الحلية.
ومن مظاهر الأمانة العلمية عندهم _ الأمانة في النقل، والبعد عن التزوير، وقلب الحقائق، وبتر النصوص، وتحريفها، فإذا نقلوا عن مخالف لهم نقلوا كلامه تاماً، فلا يأخذون ما يوافق ما يذهبون إليه، ويَدَعُون ماسواه؛ كي يدينوا المنقول عنه.
وإنما ينقلون كلامه تامَّاً غير منقوص؛ فان كان حقَّاً أقروه، وإن كان باطلاً ردّوه، وإن كان فيه وفيه، قبلوا الحق وردّوا الباطل، كل ذلك بالدليل القاطع، والبرهان الساطع.
ومن مظاهر الأمانة العلمية عندهم أنهم لا يحمِّلون الكلام ما لا يحتمل، وأنهم يذكرون مالهم وما عليهم، وأنهم يرجعون للحق إذا تبيّن، ولا يفتون، ولا يقضون إلا بما يعلمون.
كما أنهم أحرص الناس على نسبة الكلام إلى قائله، وأبعدهم من نسبته إلى غير قائله.
أما أهل الأهواء فلا تسلْ عن تفريطهم بهذا الجانب، فما أكثر إتباع الهوى عندهم، والحكم بالمتشابه، وتحكيم العوائد، وزخرفة الباطل، والاستدلال المقلوب أو الأعور، وبتر النصوص أو النقول، ودعوى مخالفة النص للمعقول، والتعصّب المذهبي، والتهويل بدعوى الإِجماع، ونسبة الكتب إلى غير مؤلفيها، وتحريف الكلم عن مواضعه، ومن بعد مواضعه[110]).
الثالثة: لا يتسمون إلا باسم الإسلام، والسنة والجماعة: فهذا من أبين الفروق بين أهل السنة والجماعة وبين أهل البدعة والفرقة؛ فأهل السنة ينتمون للسنة والجماعة، وأهل الأهواء والبدع كل طائفة منهم تنتسب إلى شخص من أهل البدع ورؤوس الضلال كالجهمية، أو إلى شخص خالف السلف في بعض الأصول كالكلابية، والأشعرية، والماتريدية، أو إلى أصل من أصول الضلالة، كالقدرية، والجبرية، والمرجئة، أو إلى وصف يدل على حقيقتهم وشعارهم كالرافضة، والصوفية، والفلاسفة، والباطنية، والمعتزلة وغيرهم.
ولهذه القاعدة استثناءات؛ فقد ينتسب بعض أهل السنة إلى إمام من أئمتها، كالإمام أحمد، وهذا أمر ارتضاه السلف، بل الأمة جميعها قد اشتهر عندها هذا، حتى أهل البدع متفقون على أن الانتساب للإمام أحمد يعني الانتساب للسنة.
وكذلك يشذ عن هذه القاعدة انتساب بعض أهل البدع لأشخاص من أئمة السنة زوراً وبهتاناً، كانتساب المعتزلة للصحابة الذين اعتزلوا الفتنة، وكانتساب الصوفية إلى أهل الصفة، وكانتساب العلويين النصيريين الباطنيين إلى علي - رضي الله عنة - .
ومع ذلك فإن الانتساب لأئمة السنة لا يعني إلا الانتساب إلى السنة نفسها؛ لأنهم قدوة مهتدون.
أما الانتساب لأهل البدعة وأئمتها فإنما يعني الانتساب لأشخاصهم، وعقائدهم الخاصة المبتدعة[111]).
الرابعة: ترك الخصومات في الدين، ومجانية أهل الخصومات: لأن الخصومات مدعاةٌ للفرقة، والفتنة، ومجلبة للتعصب وأتباع الهوى، ومطيّةٌ للانتصار للنفس، والتشفي من الآخرين، وذريعة للقول على الله بغير علم.
ولما كان هذا هو شأن الجدل والخصومات ابتعد عنها السلف الصالح، وحذروا منها، وورد عنهم آثار كثيرة في ذلك.
أخرج الآجري بسنده عن مسلم بن يسار أنه قال: ( إياكم والمراء؛ فإنه ساعة جهل العالم، وبها يبتغي الشيطان زلته )[112]).
وأخرج أن عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - قال: ( من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل )[113]).
وقال جعفر بن محمد - رحمه الله - : ( إياكم والخصومات؛ فإنها تشغل القلب؛ وتورث النفاق )[114]).
وقال ثابت بن قرة - رحمه الله - : ( إياكم وهذه الخصومات؛ فإنها تحبط الأعمال)[115]).
وقيل للحكم بن عتيبة الكوفي : ( ما اضطر الناس إلى هذه الأهواء ؟ قال الخصومات)[116]).
وما أجمل قول الشافعي - رحمه الله - حين قال:
قــــالوا سكتَّ وقد خوصمتَ قلتُ لهم لهم | إن الجــواب لبــاب الشــرِّ مفتـاح | |
والصمتُ عن جاهلٍ أو أحمقٍ شرفٌ شرف | وفيه أيضاً لصون العرض إصلاحُ | |
أما ترى الأُسْدَ تُخْشى وهي صامتةٌ | والكلب يُخسى لعمـري وهو نَبـَّاحُ[117]) |
الخامسة: البعد عن مجادلة أهل البدع أو مجالستهم، أو عرض شبههم إلا على سبيل التنفيذ لها: لأن مجالستهم ومجادلتهم ممرضة للقلوب، وسبب لاستحسان أقوالهم وبدعهم، ومدعاة لانتشار أمرهم وعلو شأنهم.
ولهذا قال رجل لأيوب السختياني - رحمه الله - : ( يا أبا بكر أسألك عن كلمة، فولى أيوبُ، وجعل يشير بإصبعه: ولا نصف كلمة)[118]).
وجاء رجل إلى الحسن - رحمه الله - فقال: ( يا أبا سعيد تعالَ أخاصمْك في الدين.
فقال الحسن: أما أنا فقد أبصرت ديني، فإن كنت أضللت دينك فالتمسه)[119]).
أما إذا كان الجدال بالحق، وبالتي هي أحسن، وكان مراداً به كشف الشبه، والوصول إلى الحق _ فإنهم يسعون له، ويسارعون إليه.
السادسة: البعد عن القيل، والقال، وكثرة السؤال: وذلك امتثالاً لقوله ": ( إن الله _تبارك وتعالى _ يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا لمن ولاه الله أمركم.
ويكره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال )[120]).
فالقيل والقال، وكثرة السؤال مدعاة للتشدد والتنطع، والتقعر، والتنقيب، والاعتراض، والتعنت، والسؤال عما لا ينبغي السؤال عنه، ولا الخوض فيه.
قال _ تعالى _: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ] المائدة : 101.
وقال النبي ": ( ذروني ما تركتم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم؛ فما نهيتكم عنه فاجتنبوه،وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم )[121]).
أما إذا كان الإِنسان يسأل عما يهمه من أمر دينه فهذا هو الذي أمرنا بالسؤال عنه، وإنما شفاءُ العيِّ السؤال، قال الله _تعالى_:[فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ا لأنبياء: 7.
أما من سأل متعنتاً غير متفقه ولا متعلم فهو الذي لا يحل قليل سؤاله، ولا كثيره[122]).
السابعة: يكرهون الحديث والخوض فيما لا طائل تحته ولا عمل وراءه: لأن هذا الصنيع يقتل الأوقات، ويبدد الطاقات، ويقود إلى البطالة والكسل، وترك العمل.
فأهل السنة أضنُّ الناس بأوقاتهم، فلا يرضون أن يضيعوها بما لا ينفع أو ربما ضر.
بخلاف غيرهم من أهل البدع، الذين يشغلون أنفسهم بما لا طائل تحته، ولا عمل وراءه.
( قال سفيان بن عيينة: سأل رجل شبرمة عن الإِيمان فلم يجبه، ثم تمثل بهذين البيتين:
إذا قلت جدوا في العبادة واصبروا | أصروا وقالوا للخصومة أفضل | |
خلافاً لأصحاب النبي وبدعة | وهم بسبيل الحق أعمى وأجهل[123]) |
الثامنة: ما عند الطوائف الأخرى من كمال فعند أهل السنة أتمه وأكمله: قال شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله _ : ( من المعلوم أن أهل الحديث يشاركون كل طائفة فيما يتحلون به من صفات الكمال، ويمتازون عنهم بما ليس عندهم؛ فإن المنازع لهم لابد أن يذكر فيما يخالفهم فيه طريقاً أخرى، مثل المعقول، والقياس، والرأي، والكلام، والنظر، والاستدلال والمحاجة، والمجادلة، والمكاشفة، والمخاطبة، والوجد، والذوق، ونحو ذلك.
وكل هذه الطرق لأهل الحديث صفوتُها، وخلاصتُها؛ فهم أكمل الناس عقلاً، وأعدلهم قياساً، وأصوبهم رأياً، وأسدهم كلاماً، وأصحهم نظراً، وأهداهم استدلالاً، وأقومهم جدلاً، وأتمهم فراسةً وأصدقهم إلهاماً، وأَحَدُهم بصراً ومكاشفةً، وأصوبهم سمعاً ومخاطبةً، وأعظمهم وأحسنهم وجداً وذوقاً.
وهذا هو للمسلمين بالنسبة إلى سائر الأمم، ولأهل السنة والحديث بالنسبة إلى سائر الملل؛ فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحدَّ وأسدَّ عقلاً)[124]).
التاسعة: أمرهم شورى بينهم: قال _تعالى_: مثنياً على عباده المؤمنين: [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] الشورى:38.
وهذا يشمل أمورهم الدينية والدنيوية، الخاصة والعامة[125]).
كذلك أمر سبحانه نبيه " مع وفور عقله وسداد رأيه بالشورى، فقال _سبحانه _: [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] آل عمران:159.
وكان النبي " كثيرَ المشاورة لأصحابه، وكان أصحابه _رضي الله عنهم _ يتشاورون فيما بينهم؛ لذلك فأهل السنة أكثر الناس شورى، وأبعدهم عن التفرد والاستبداد؛ امتثالاً لأمر الله _ عز وجل _ وإتباعاً لرسوله " ولعلمهم بفضائل الشورى وعوائدها الجمة؛ فهي تزرع الألفة بين المتشاورين، وتقوي الروابط بين المسلمين؛ فإنهم متى شعروا بوحدة الهدف والمصلحة قاموا بتحقيق ذلك، ومتى شعروا بارتباط المصالح قويت بينهم المحبة، وتوثقت عرى الألفة، وزالت موجبات العداوة.
يروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنة - أنه قال: ( نعم المؤازرة المشاورة، وبئس الاستعداد الاستبداد )[126]).
ثم إن الرأي الواحد يعتريه ما يعتريه من النقص والخطأ، فإذا كثرت الآراء واتفقت، وحصل التعاون أصابوا الصواب، وأدركوا النجاح.
لذا فأهل السنة والجماعة أمرهم شورى بينهم، فهم يتشاورون فيما ينوبهم من نوائب، وما ينزل بهم من نوازل أفراداً كانوا أم جماعات، فيفيد بعضهم من بعض، فتتحقق بذلك المصالح، وتدرأ المفاسد، ويحصل رضا الرب _ جلا وعلا_ وإتباع النبي".
بخلاف الذين ذهبت بهم خيالات الغرور كل مذهب، فاعتَدُّوا بأنفسهم أكثر من اللازم، فلم يرعوا للشورى حقها، ولم يقدروها قدرها، فما أكثر خطأهم، وما أقل صوابهم.
العاشرة: الإنفاق في سبيل الله: فأهل السنة أكثر الناس إنفاقاً في سبيل الله، وبذلا في كافة طرق الخير؛ لعلمهم أن المال مال الله، وأن الله مستخلفهم فيه، وسائلهم عنه، وأنه _ سبحانه _ قد حثّهم على الإنفاق في سبيله، ووعد على ذلك بالثواب الجزيل في الدنيا والآخرة، كما أنه _ عز وجل _ حذر من البخل، وتوعد من بخل بالعقاب العاجل والآجل، فهم ينفقون رغبة بما عند الله من جزيل الثواب، وخوفاً مما لديه من شديد العقاب، ثم هم يخشون إن لم ينفقوا في سبيل الله أن يستبدلهم الله قوماً غيرهم، ثم لا يكونوا أمثالهم.
لذا فهم ينفقون الأموال الطائلة في عمارة المساجد، ومساعدة الفقراء والمحتاجين، وفي سبيل تبليغ دين الله، والدعوة إلى سبيله، وإعانة الدعاة المخلصين الداعين إلى الله على بصيرة، وفي نشر الكتب النافعة، إلى غير ذلك من وجوه البر والإحسان.
أما غيرهم فقد ينفق الكثير من الوقت والمال كالنصارى وضُلاَّل الفرق وغيرهم، ولكن في سبيل من؟
إنهم ينفقون أموالهم للصد عن سبيل الله، أو لنشر البدع والضلالات، أو لمحاربة أولياء الله، [فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] الأنفال: 36.
الحادية عشرة: الجهاد في سبيل الله: فمن أصول أهل السنة والجماعة أن الجهاد ماض إلى قيام الساعة مع الأمراء أبراراً كانوا أم فجاراً.
فأهل السنة والجماعة هم أهل الجهاد، وهم الذين يقومون به خير القيام، وهم الذين يسعون إلى إحيائه في كافة صوره وأنواعه.
فهم يقومون بالجهاد الذي يقصد به صلاح المسلمين وإصلاحهم، في عقائدهم، وأخلاقهم، وآدابهم، وجميع شؤونهم الدينية والدنيوية، وفي تربيتهم العلمية والعملية، وهذا النوع هو أصل الجهاد وقوامه.
ويقومون _أيضاً_ بالجهاد الذي يقصد به دفع المعتدين على الإسلام والمسلمين، من الكفار والمنافقين والملحدين وكافة أعداء الدين، فهم يجاهدون بالحجة والبرهان، ويجاهدون بالسلاح المناسب في كل زمان ومكان[127]).
فكم شهدت لهم في النصر من عزمة، وكم أذاقوا أعداء الإسلام من كاس للهزيمة مرّة، وكم نصروا من مظلوم، وكم ردّوا من حقٍّ سليب.
قال _تعالى_ في وصف عباده المؤمنين:[مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] الأحزاب:23.
هذا هو نعت الرجال من المؤمنين؛ الصدق الكامل فيما عاهدوا الله عليه من القيام بالدين، وإنهاض أهله، ونصره بكل ما يقدرون عليه من مال، ومقال، وبدن، وظاهر، وباطن.
ومِنْ وصْفِ هؤلاء المؤمنين الثباتُ التامُّ، والصبر والشجاعة، والمضيُّ بكل وسيلة بها نصر للدين، فمنهم الباذل نفسه، ومنهم الباذل ماله، ومنهم الحاثُّ لإِخوانه على القيام بكل مستطاع من شؤون الدين، ومنهم الساعي بينهم بالنصيحة، والتآلف، والاجتماع، ومنهم المنشّط بقوله، وجاهه، وحاله، ومنهم الفذ الجامع لذلك كله، فهؤلاء هم أهل الدين، وخيار المسلمين، بهم قام الدين، وبه قاموا، وهم الجبال الرواسي في إيمانهم وجهادهم وصبرهم، لا يردُّهم عما يرومون نيله رادٌّ، ولا يصدهم عن سلوك سبيله صادّ، تتوالى عليهم الكوارث والمصائب، فيتلقونها بقلوب ثابتة، وصدور منشرحة؛ لعلمهم بما يترتب على ذلك من الخير والفلاح، والثواب والنجاح[128]).
بخلاف المتشائمين المتخاذلين، والجبناء المرجفين ممن ضعف إيمانهم، وعميت بصائرهم، فلا ترى فيهم إعانة، ولاحس منهم جدَّاً، ولا تسمع لهم ركزاً، وقد ملكهم البخل، واستحوذ عليهم الجبن، واستبدّ بهم اليأس، ففيهم الساعي بين المسلمين بالعداوات، وفيهم المرجف والمخذل، وفيهم المتشائم الذي ذهب به التشاؤم كل مذهب، فما إن يرى ما عليه المسلمون من الضعف، وتربص الأعداء إلا ويقطع الأمل من رفعة الإسلام، ويجزم أن المسلمين إلى ضياع واضمحلال.
ولقد غلط هؤلاء أعظم غلط؛ فإن هذا الضعف عارض، وله أسباب، وبالسعي في زوال أسبابه تعود عزة الإسلام كما كانت.
وما ضعف المسلمون إلا لأنهم خالفوا كتاب ربهم، وسنّة نبيهم محمد " وتنكّبوا السنن الكونية التي جعلها الله مادة حياة الأمم، فإذا رجعوا إلى ما مهده لهم دينهم فإنهم لابد أن يصلوا إلى الغاية كلها أو بعضها.
وهذا المذهب المهين _ وهو التشاؤم والكسل _ لا يعرفه الإِسلام، ولا يرتضيه لأهله، بل يحذر منه أشد التحذير، ويبين للناس أن النجاح مأمول، وأن مع العسر يسراً.
ويقابل هؤلاء المخاذلين المتشائمين المرجفين طائفة يُؤَمِّلون آمالاً عظيمة، ويدّعون دعاوى عريضة، ويقولون ما لا يفعلون، فتراهم يتحدثون عن أمجاد الإِسلام ورفعته، وأن العاقبة الحميدة ستكون له، وأن الرجوع إلى تعاليمه وهدايته هو السبب الوحيد لعلوِّ أهله ورفعتهم.
ولكن هؤلاء لا يقدمون لدينهم أدنى منفعة بدنية أو مالية، ولا يقومون بأية أعمال جديّة؛ لتحقيق ما يدّعون، وما به يقولون[129]).
أما أهل الحق، أما أهل الصدق فقد سبق بيان ما يقومون به؛ فدأبهم الجهاد في سبيل الله، ومراغمة أعداء الله، جلاداً بالسيف والسنان، وجدالاً بالقلم واللسان.
أما الطوائف الأخرى فقد تنكبوا سواء الصراط في هذا الباب.
فالخوارج _ على سبيل المثال _ هادنوا أهل الأوثان، وفوَّقوا سهامهم نحو أهل الإيمان.
أما الرافضة فَكسروا سيوفهم، واستبدلوها بسيوف من خشب، زعماً منهم أن الجهاد لا يكون إلا مع الإمام المعصوم، ولهذا سموا بالخشبية[130]) !.
وليتهم وقفوا عند هذا الحد، والتزموا بهذا المبدأ، بل إنهم يطعنون المسلمين بالأعجاز والظهور، ويظاهرون عليهم كل ملحد وكفور، فما من عدو يحارب المسلمين إلا وقفوا معه، ولا يجدون فرصة للنيل من المسلمين إلا بادروا إليها، ولا يصادفون منهم غِرّةً إلا أصابوهم من خلالها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : ( ولهذا كان الرافضة من أعظم الأسباب في دخول الترك الكفار إلى بلاد الإسلام.
أما قصة الوزير ابن العلقمي وغيره كالنصير الطوسي مع الكفار وممالأتهم على المسلمين _ فقد عرفها الخاصة والعامة.
وكذلك من كان منهم في الشام ظاهروا المشركين على المسلمين، وعاونوهم معاونة عرفها الناس.
وكذلك لما انكسر عسكر المسلمين لما قدم غازان ظاهروا الكفار النصارى وغيرهم من أعداء المسلمين، وباعوا أولاد المسلمين بيع العبيد، وحاربوا المسلمين محاربة ظاهرة، وحمل بعضهم راية الصليب، وهم كانوا أعظم الأسباب في استيلاء النصارى قديماً على بيت المقدس حتى استنقذه المسلمون منهم)[131]).
وقال: ( ودع ما يسمع وينقل عمّن خلا، فلينظر كل عاقل فيما يحدث من زمانه، وما يقرب من زمانه من الفتن والشرور والفساد في الإِسلام، فإنه يجد معظم ذلك من قبل الرافضة، وتجدهم أعظم الناس فتنة وشراً، وأنهم لا يقعدون عما يمكنهم من الفتن والشر، وإيقاع الفساد بين الأمة)[132]).
الثانية عشرة: الاهتمام بأمور المسلمين: فأهل السنة والجماعة أكثر من يهتم بأمور المسلمين، فهم يسعون في نصرتهم، وأداء حقوقهم وكف الأذى عنهم ورفع الظلم الواقع عليهم، ويشاركونهم أفراحهم، ويشاطرونهم أتراحهم، منطلقين بذلك من قوله _ تعالى _:[وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ] التوبة:71.
وقوله ": ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)[133])، وقوله ": ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) وشبّك بين أصابعه[134]).
الثالثة عشرة: الحرص على جمع كلمة المسلمين على الحق: فهم حريصون كل الحرص على وحدة المسلمين، ولمِّ شعثهم، وجمع كلمتهم على الحق، وإزالة أسباب النزاع والفرقة بينهم؛ لعلمهم أن الاجتماع رحمه، والفرقة عذاب؛ ولأن الله أمر بالائتلاف، ونهى عن الاختلاف كما في قوله _ تعالى _: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ*وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ] آل عمران: 102_103.
بخلاف الذين يسعون للفرقة بين المسلمين، ويبذرون بذور الشقاق في صفوفهم، فيفرقونهم عند أدنى نازلة، ويحز بونهم ويؤلبون بعضهم على بعض، ويغرون بعضهم ببعض.
الرابعة عشرة: حسن الخلق: فأهل السنة والجماعة أحسن الناس أخلاقاً، وأكثرهم حلماً وسماحة وتواضعاً، وأحرصهم دعوة إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال؛ فهم يعتقدون أن أكمل الناس إيمان أحسنهم أخلاقا، فيندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإِحسان إلى اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، والرفق بالمملوك.
وينهون عن الفخر، والخيلاء، والبغي، والاستطالة عن الخلق بحق أو بغير حق ويأمرون بمعالي الأمور، وينهون عن سفسافها[135]).
الخامسة عشرة: سعة الأفق: فهم أوسع الناس أفقاً، وأبعدهم نظراً، وأرحبهم بالخلاف صدراً، وأكثرهم للمعاذير التماساً[136]).
وهم لا يأنفون من سماع الحق، ولا تحرج صدورهم من قبوله، ولا يستنكفون من الرجوع إليه، والأخذ به.
ثم إنهم لا يُلزمون الناس باجتهاد اتهم، ولا يضللون كل من خالفهم، ولا تضيق أعطا نهم في الأمور الاجتهادية, التي تختلف فيها أفهام الناس.
وهم كذلك يحرصون على المصالح الكبرى، ولو أدى بهم ذلك ارتكاب بعض المفاسد الصغرى.
وكما أنهم يحرصون على تصحيح الأخطاء، حتى لا تضل الأمة _ فهم كذلك يحرصون على إلا تفترق الأمة عند أدنى نازلة.
ومن مظاهر سعة الأفق عندهم بعدهم عن التعصب المقيت، والتقليد الأعمى، والحزبية الضيقة.
السادسة عشرة: الأدب في الخلاف: فأهل السنة قد يتناظرون، وقد يختلفون في بعض المسائل الاجتهادية، مع بقاء الألفة والمودة والمحبة فيما بينهم.
وقد يحتاجون إلى الرد على بعض، ولكن في حدود الأدب واللياقة، بعيداً عن الإسفاف والصفاقة؛ لأن الله _ عز وجل _ أمرنا ألا نجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، فما الشأن مع المسلمين ؟! بل مع خاصة المسلمين ؟![137]).
السابعة عشرة: علو الهمة: فأهل السنة أعلى الناس همةً، وأكثرهم حرصاً على نشدان المعالي وتطلاب الكمال، وأبعدهم عن الدنايا، والصغائر، ومحقرات الأمور.
ومن أعظم مظاهر علو الهمة عندهم _ حرصهم على طلب العلم، وتبليغه للناس.
ولا أدل على ذلك من حال علماء الحديث الذين كانوا يواصلون كلال الليل بكلال النهار، ويقطعون من أجله المفاوز والقفار بهمة لا تني، وعزمة لا تنثني، وبنفوس أبيّة، وهمم عليّة، لا تقنع بالدون، ولا ترضى من ذلك بالقليل، حتى حفظ الله بهم الدين، فنفوا عنه زيف الغالين، وانتحال المبطلين؛ فاستمرت بذلك الشريعة الغراء غضة طرية، تنقلها الأجيال، وتنهل من ينبوعها العذب، ومعينها الصافي.
ثم إنهم أعز الناس نفوساً، وأشدهم للضيم إباءً، وأعظمهم على الأمة غيرةً، وأبعدهم عن الطمع وجهة، لا تتجارى بهم الأهواء، ولا تسترقهم الأطماع، ولا يسيرون إلا وفق ما يمليه عليهم إيمانهم والحق الذي يحملونه، ويدعُون الناس إليه؛ يغارون على الأمة في دينها، ويأبون أن تمسَّها لفْحةٌ من ضيم, أو أن يهتضم حق من حقوقها، أو أن يغتصب شبر من أوطانها.
الثامنة عشرة: الاعتدال حال السراء والضراء: فأهل السنة والجماعة يلزمون الاعتدال حال السراء والضراء؛ لسلامة معتقداتهم، ولقوة إيمانهم ويقينهم، ولكبر نفوسهم, وعلو هممهم؛ فلا تبطرهم النعمة، ولا تُقَنِّطهم المصيبة، ولا يحملهم الغنى الأشر والبطر، ولا ينحط بهم الفقر إلى الذلة والخنوع، إن تولوا لم تَطِش الولاية بهم في زهو، وإن عزلوا لم ينزل بهم العزل في حسرة.
فهم في أحوالهم كلها يتقلبون مسرورين مغتبطين، فيتلقون المسارّ والمحابَّ بقبول لها، وشكر لله عليها، واستعمالٍ لها بما ينفع، واستعانة بها على أمور الدين والدنيا.
فيحصل لهم من جراء الفرح بها، ورجاء خيرها وبركاتها _ أمورٌ عظيمةٌ تتضاعف بها مسراتهم.
ويتلقون المكاره والمضار، والهموم والغموم بالرضا والشجاعة التامة، وبالمقاومة لما يمكنهم مقاومته، وتخفيف ما يمكن تخفيفه، وبالصبر الجميل لما لا بدَّ لهم منه.
وبذلك يحصل لهم من آثار المكاره _ من التجارب، والقوة، والرجاء، والصبر، والاحتساب _ أمور عظيمة تضمحل معها المكاره، وتحل محلها المسار والآمال الطيبة[138]).
قال _ تعالى _ :[إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً* إِلَّا الْمُصَلِّينَ] المعارج: 19_22.
وقال الرسول ": ( عجبا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله خير، وليس ذاك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)[139]).
قال كعب بن زهير - رضي الله عنة - في قصيدته المشهورة _ البردة _ عن الصحابة _ رضي الله عنهم _ :
لا يفرحون إذا نالت رماحهم | قوماً وليسوا مجازيعاً إذا نيلو[140]) |
فهو يمدح الصحابة _ رضي الله عنهم _ بأنهم لا يفرحون من نيلهم عدواً؛ فتلك عادتهم، ولا يجزعون إذا نالهم العدو؛ لأن عادتهم الصبر والثبات.
وقال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنة - : ( أصبحت والسراء والضراء مطيتان على بابي، لا أبالي على أيهما ركبت)[141]).
( وروي أن عمر بن عبد العزيز لما دَفَن ولده عبد الملك وعاد _ مرّ بقوم يرمون فلما رأوه امسكوا، فقال: ارموا، ووقف؛ فرمى أحد الرامِيَيْن فَأَخْرَج[142])، فقال له عمر: أخرجت فقصِّر.
وقال للآخر:ارم، فرمى، فقصَّر، فقال له عمر: قصَّرت فبلِّغ.
فقال له مسلمة: يا أمير المؤمنين، أتفرغ قلبك إلى ما تَفَرّغْتَ له، وإنما نفضت يدك الآن من تراب قبر ابنك، ولم تَصِلْ إلى منزلك ؟.
فقال له عمر: يا مسلمة ! إنما الجزع قبل المصيبة، فإذا وقعت فالْهُ عما نزل بك)[143]).
( وروي أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه بعض الناس يعزيه بموت ابنه عبدالملك، فقال عمر لكاتبه: اكتب، ودقِّق القلم: أما بعد فإن هذا أمر كُنّا وطَّنَّا نفوسنا عليه، فإذا نزل بنا لم نكرهه، والسلام )[144]).
هذا هو وصف الكُمَّل أهل السنة والجماعة، وهذا هو دأبهم في استقبال تقلبات الحياة.
كيف لا، وقدوتهم في ذلك رسول الله "؟.
فلقد كان نهجاً يقتفي، وقدوةً تحتذى في اعتداله حال السراء والضراء.
قال ابن القيم - رحمه الله - : ( فإذا جئت إلى النبي " وتأملت سيرته مع قومه وصبره في الله، واحتماله مالم يحتمله نبي قبله، وتلون الأحوال عليه من سِلْم، وخوفٍ، وغنىً، وفقرٍ، وأمن، وإقامة في وطنه، وظعن عنه، وتركه لله، وقتل أحبابه وأوليائه بين يديه، وأذى الكفار له بسائر أنواع الأذى من القول، والفعل، والسحر، والكذب، والافتراء عليه والبهتان، وهو _مع ذلك كله_ صابر على آمر الله، يدعو إلى الله، فلم يؤذَ نبيٌّ ما أوذي، ولم يحتمل في الله ما احتمله، ولم يُعْطَ نبيٌّ ما أعطيه، فرفع الله له ذكره، وقرن اسمه باسمه، وجعله سيد الناس كلهم، وجعله أقرب الخلق إليه وسيلة، وأعظمهم عنده جاهاً، وأسمعهم عنده شفاعة، وكانت تلك المحن والابتلاء عَيْنَ كرامته، وهي مما زاده الله شرفاً وفضلاً، وساقه بها إلى أعلى المقامات )[145]).
هذه هي حاله " في سرائه وضرائه، ومع ذلك كله كان مثالاً في الاعتدال حال تقلبات الأحوال، فقام بالدعوة خير قيام، ومضى في سبيلها لا يأخذه يأس، ولا يقعد به ملل، ولا يثنيه جزع، فظهر دين الله بهذا العزم الذي تخمد النار ولا يخمد، وينام المشرفي ولاينام.
ثم إن عيشته يوم كان يتعبد في غار حراء كعيشته يوم أَظَلَّت رايته البلاد العربية، وأطلت على ممالك قيصر من ناحية تبوك[146]).
أما الذين جعلوا الدنيا غايتهم: لها يعملون، ولها يطلبون، لا غاية لهم سواها، ولا إيمان لهم بغيرها _ فإنهم يتلقون تقلبات الحياة كما تتلقاها البهائم؛ فعند النعماء يبطرون ولا يشكرون، وعند الضراء يجزعون ويقنطون، فتجتمع عليهم الآلام الظاهرة، ولآلام القلبية الباطنة[147]).
التاسعة عشرة: تعاونهم فيما بينهم، وتكميل بعضهم بعضاً: فهم يعلمون أن دين الله واحد، وأنه كلٌّ لا يتجزأ، ويدركون أنه لا يستطيع أحد _ مهما أوتي من علم وقوة _ أن يقوم بالدين كله؛ لذلك فهم يسعون لإِقامة دين الله، ونشره بين الخلق، والأخذ به كله، مدركين أن ذلك لن يتم إلا بالتعاون، وإفادة بعضهم من بعض؛ فهذا يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا يقوم على نشر العلم, وبثه بين الناس، وتربيتهم عليه، وهذا ينبري لتربية الشباب, والاهتمام بقضاياهم، وهذا ينبري للرد على الكفار والمبتدعة وأهل الأهواء، وهذا يشتغل بأمور الأخلاق والسلوك، وهذا يهتم بأحوال المسلمين، وذاك الفَذَّ الجامع لأكثر تلك الخصال، وهكذا دواليك.
ومع ذلك فلا ينكر بعضهم على بعض، طالما أن كل واحد يعمل ما في وسعه ومقدوره؛ فالكل على خير وهدى وسنة.
العشرون: التربية المتكاملة المتوازنة: فهم يربون أتباعهم على العلم والعمل، ويبدأون بهم بالأهم فالمهم، ولا يغلبون جانباً على جانب، فلا يربونهم على العلم دون العمل، أو العمل دون العلم، ولا يربون هم على التعصب والتحزب، ولا على التعالي واحتقار الآخرين، كما لا يربونهم على الذلة والتبعة المطلقة.
الحادية والعشرون: أهل السنة هم الذين يجددون للأمة أمر دينها: فهم الذين يعملون على إحياء الدين، ويسعون لدفع الغربة عنه، وتجديد ما أندرس من معالمه.
ولو نظرنا إلى المجددين في تاريخ الإسلام لوجدنا أنهم من أهل السنة والجماعة، كعمر بن عبد العزيز، والأئمة الأربعة، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، ( وغيرهم من أهل العلم والإيمان )* _رحمهم الله ورضي عنهم _.
الثانية والعشرون: هم أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بمراتب الإِنكار الثلاث: باليد ثم باللسان، ثم بالقلب، تبعاً للقدرة والمصلحة، ويسلكون في ذلك أقرب طريق يحصل به المقصود، بالرفق، والتيسير، والسهولة، متقربين بنصيحة الخلق إلى الله، قاصدين نفع الخلق، وإيصالهم إلى كل خير، وكفهم عن كل شر، محافظين بذلك على خيرية هذه الأمة، حريصين على دفع العذاب عنها.
الثالثة والعشرون: هم أهل الدعوة إلى الله: فهم يدعون إلى دين الإِسلام، بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ويسلكون في ذلك شتى الطرق المشروعة والمباحة؛ حتى يعرف الناس ربهم، ويعبدوه حق عبادته.
فلا أحد أحرص منهم على هداية الخلق، ولا أحد أرحم منهم بالناس.
الرابعة والعشرون: هم القدوة الصالحون: لأن فيهم الصديقين، والشهداء والمجاهدين، ومنهم أعلامَ الهدى، ومصابيح الدجى، وأولي المناقب المأثورة والفضائل المذكورة، وفيهم أئمة الدين، الذين أجمع الناس على هدايتهم.
فمن هنا يجد الإنسان فيهم القدوة الحسنة أيَّاً كان؛ فإن كان مجاهداً وجد من يقتدي به منهم، وإن كان محباً للعلم راغباً فيه وَجَدَ في سيرهم من يسير على نهجه، وهكذا...
الخامسة والعشرون: هم الغرباء: الذين يُصلِحون ما أفسد الناس، ويصلُحون إذا فسد الناس.
السادسة والعشرون: هم الفرقة الناجية: التي تنجو من البدع والضلالات في هذه الدنيا، وتنجو من عذاب الله يوم القيامة.
السابعة والعشرون: وهم الطائفة المنصورة: لأن الله معهم، وهو مؤيدهم وناصرهم.
الثامنة والعشرون: وهم الظاهرون إلى قيام الساعة: فهم معروفون بارزون مستعلون، وهم ثابتون على ما هم عليه من الحق والدين، وهم غالبون متمكنون؛ فقد جعل الله حُجّتهم ظاهرة، وكلمتهم هي العليا.
التاسعة والعشرون: تعظيم الأمة لهم: فالله _ عز وجل _ قد طرح لهم القبول في الأرض، فالأمة تثق بهم، وتسمع كلامهم، وتأخذ أقوالهم؛ لأنهم أقرب الناس إلى الصواب وأكثرهم تحرياً للحق.
الثلاثون: هم الذين يحزن الناس لفراقهم: وما ذاك إلا لشفقتهم على الناس وحرصهم على بذل الخير ونشره، فالناس يفقدونهم إذا ماتوا، ويحزنون لفرقهم أشد الحزن.
ولا أدل على ذلك من جنائز أئمة أهل السنة المشهودة، والتي يشهدها الجمع الغفير من الناس، والتي تدل على مكانتهم في القلوب، وانجذاب الناس إليهم.
كما حصل في جنازة إمام أهل السنة أحمد بن حنبل[148]) وجنازة شيخ الإسلام ابن تيمية _ رحمهما الله تعالى _.
الحادية والثلاثون: أصبر الناس على أقوالهم ومعتقداتهم، ودعوتهم[149]): فلا يَفتُّ لهم عضد، ولا تلين لهم قناة، ولا يَدَعُون الجهل ينتشر والشر يسيطر، ولا يستسلمون للواقع المر الأليم، بل يسعون بكل ما يستطيعون، وبكل وما أوتوا من قوة في سبيل نشر الدعوة, ورفع الجهل عن الناس، وتغير الواقع إلى الأفضل والأكمل بالطرق المشروعة والمباحة، محتسبين بذلك الأجر والمثوبة عند الله _ عز وجل _ صابرين على ما يلقونه من أذى ومصاعب، غير مبالين بإرجاف المرجفين، وتخذيل المخذلين.
ولا أدل على ذلك من موقف إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد ابن حنبل - رحمه الله - إبان فتنة بخلق القرآن، فلقد أوذي، وجلد، وسجن؛ كي يرجع عن قوله، ويقول بخلق القرآن، فما كان منه ألا أن ثبت وصبر، حتى نصر الله به الإسلام، وقمع به البدعة.
وكذلك حال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حيث دعا إلى السنة والإِسلام الصحيح، وجادل أهل الباطل باللسان، وجالدهم بالسنان، بهمة وقادة، وعزمة وثابة، حتى نصر الله به السنة، وكسر به البدعة، وجدّد به الدين، جعله شجى في حلوق المبتدعة والملحدين.
وكذلك حال شيخ الإسلام مجدد القرن الثاني عشر الهجري الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - فلقد خرج هذا الإمام في مجتمع يعج بالشرك والبدع والضلالات، فقام لله، ودعا إلى سبيل الله، وشَمَّر عن ساعد الجد، واستفرغ لذلك الطاقة والجهدّ، فهدى الله به قلوباً غلفاً، وآذاناً صماً وأعيناً عمياً، وأبان به المحجة، وأقام على الناس الحجة.
الثانية والثلاثون: يدينون بالنصيحة لله، ولكتابه، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم: منطلقين بذلك من قول النبي ": ( الدين النصيحة ), قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: ( لله ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم)[150]).
فهم ينصحون لله إيماناً به، وقياماً بحقه، وعبوديةً له ظاهراً وباطناً.
وينصحون لكتاب الله بالإِقبال عليه تلاوة، وحفظاً، وتدبراً، وتعلماً لألفاظه ومعانيه، وعملاً به، ودعوة للناس إليه.
وينصحون للرسول " بمحبته، وتعظيمه، وتوقيره، والإقتداء به، والاهتداء بهديه، وإتباع سنته، والذب عنه، ونصرة دينه، وتقديم قوله على قول كل أحد من البشر.
وينصحون لأئمة المسلمين _ من الإِمام الأعظم إلى من دونه ممن لهم ولاية خاصة أو عامة _ باعتقاد ولايتهم، وبالسمع والطاعة لهم بالمعروف، وببذل المستطاع لإِرشادهم، وتنبيههم لما فيه صلاحهم وصلاح الأمة جمعاء، وبتحذيرهم مما فيه ضرر عليهم وعلى الأمة.
وينصحون لعامة المسلمين بمحبتهم، ومحبة الخير لهم، والسعي في إيصال النفع لهم، وبكراهية الشر والمكروه لهم، والسعي في دفعه ودفع أسبابه عنهم.
وينصحون لهم _ أيضاً _ بتعليم جاهلهم، ووعظ غافلهم، ونصحهم في أمور دينهم ودنياهم، والتعاون معهم على البر التقوى[151]).
الثالثة والثلاثون: لا يوجبون على العاجز في معرفتة العلم ما يجب على القادر: فهم يؤمنون بكل ما جاء في الكتاب والسنة، ولكنهم يفرقون بين العاجز والقادر في معرفة ذلك على وجه التفصيل والإِجمال.
الرابعة والثلاثون: لا يمتحنون الناس بما ليس من عند الله ورسوله ": فلا يمتحنون الناس بما ليس بالمشتبهات، ولا بدقائق الأمور، ولا بالألفاظ المجملة المحتملة؛ فالمعيار عندهم إنما يكون بالأمور الواضحة الصريحة التي لا لبس فيها ولا غموض.
الخامسة والثلاثون: يسعون في طلب الكمال، ولا يطالبون بالمستحيل: فأهل السنة يسعون للأكمل، ويبحثون في كل شيء عن الأمثل، ويعملون ما بوسعهم لتحصيل المنافع وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها.
وفي الوقت نفسه لا يطالبون بالمستحيل، ولا يرومون مالا طاقة لهم به، ولا قدرة لهم عليه.
ومن الأمثلة التي توضح ذلك أن أهل السنة يرون أن إمامة المسلمين في الصلاة يتقدم لها الأقرا للقرآن، ثم من هو أقل منه وهكذا...
فإذا لم يوجد في مكان ما إلا مجموعة من الفساق _ فالمتعين أن يصلي بهم أقلهم فسقاً وهكذا...
وكذلك الحال بالنسبة للمنكرات؛ فهم يسعون لإِزالتها، ويطمحون لقطع دابرها بالكلية، فإن لم يستطيعون القضاء عليها جميعها _ قضوا على مايستطعون منها، واجتهدوا في محاولة القضاء على الباقي، وهكذا...
أما غيرهم فإن تَطَلُّبهم للكمال قد يجرهم إلى المطالبة بالمستحيل، كما حصل للخوارج عندما حلوا بيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- رضي الله عنة - لأنه حكَّم الرجال في كتاب الله _ بزعمهم _ وقالوا: لا نريد إلا مثل عمر بن الخطاب - رضي الله عنة - .
ولكن من أين يؤتى بمثل عمر؟ فهذا طلب في غير محله، وهذا علي أفضل أهل زمانه.
فتركوا علياً وحلوا البيعة، وَلَيْتَهُمْ عندما فعلوا ذلك بايعوا أحد الصحابة كابن عمر، وسعيد بن زيد أو غيرهم من الصحابة الأحياء آنذاك.
بل إن الغلو والإفراط قادهم إلى التفريط، فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، ( فبايعوا شيت بن ربعي مؤذن سجاح أيام ادعت النبوة بعد موت النبي" حتى تداركه الله برحمته، ففر منهم، وتبين له ضلالتهم، فلم يقع اختيارهم إلا على عبد الله بن وهب الراسبي أعرابي بوال على عقيبه، لا سابقة ولا صحبة، ولافقه، ولاشهد الله له بخبر )[152]).
وهذه الحالة تحصل كثيراً؛ فتجد بعض الغالين يتطلب الكمال، ولكن لا يسعى إلى تحصيله، أو تجده يضع في ذهنه صوره خيالية مغرقة في المثالية، فإن حصل له كل ما يريد وإلا قعد بدون سعي، أو جهد، أو تسديد، أو مقاربة.
السادسة والثلاثون: لا يوالون ولا يعادون إلا على أساس الدين: فلا ينتصرون لأنفسهم، ولا يغضبون لها، ولا يوالون لِعُبِّيَّةٍ[153]) جاهلية، أو عصبية مذهبية، أو راية حزبية، وإنما يوالون على الدين، فولاؤهم لله، وبراؤهم لله، ومواقفهم ثابتة، لا تتبدل ولا تتغير[154]).
السابعة والثلاثون: محبة بعضهم لبعض، وترحم بعضهم لبعض: فأهل السنة والجماعة متوادون متحابون، يترحم بعضهم على بعض، ويدعو بعضهم لبعض.
وما ذاك إلا لحسن معتقداتهم وصلاح أعمالهم، والله _ عز وجل _ تأذن للذين آمنوا وعملوا الصالحات أن يجعل لهم وُدَّاً.
وأخبر _ عز وجل _ أن المؤمنين يترحم بعضهم على بعض، ويدعوا بعضهم لبعض.
قال الله _ تعالى _:[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً] مريم:96، وقال:[وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ] الحشر:10.
بخلاف غيرهم من الأمم الكافرة، والفرق الضالة، التي أغرى الله بينها العداوة والبغضاء، والتي كلما دخلت أمة منها لعنت أختها.
فالنصارى الذين نسوا حظاً مما ذكروا به أغرى الله بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، فكلما اجتمعت كنائسهم للاتفاق والوفاق زادت بينهم الفجوة، واتسعت الهوة.
وكذلك الشيوعيون الملاحدة كلما جاء زعيم من زعمائهم لعن من كان قبله من الزعماء، وسفه أحلامهم، وسبهم، وشتمهم.
وكذلك الحال بالنسبة لفرق الضلالة، فليسوا على وفاق ولا اتفاق.
الثامنة والثلاثون: سلامتهم من تكفير بعضهم لبعض: فأهل السنة سالمون من ذلك، فهم يردون على المخالف منهم، ويوضحون الحق للناس، فهم يُخطِّئون، ولا يكفرون، ولا يبدعون، ولا يفسقون إلا من استحق ذلك.
بخلاف غيرهم من الطوائف الأخرى كالخوارج الذين يكثر فيهم الاختلاف والتضليل والتكفير؛ ( ولهذا نجدهم يكفر بعضهم بعضاً عند أقل نازلة تنزل بهم من دقائق الفتيا، وصغارها )[155]).
التاسعة والثلاثون: سلامتهم في العموم من التلبس بالبدع والشركيات والكبائر: فأهل السنة والجماعة أسلم الناس وقوعاً في البدع، ولا تكون فيهم الشركيات.
أما المعاصي والكبائر، فقد يقع فيه طوائف من أهل السنة، كما أنه قد يوجد عند بعض أهل السنة شيء من الجور، والظلم، والجهل، إلا أن هذه الأمور في أهل السنة قليلة بالنسبة إلى غيرهم.
فما عند أهل السنة من ظلم، أو جور، أو جهل، أو غير ذلك من المخالفات_ فعند الفرق الأخرى أكثر منه، وما عند أهل البدع من علم وعدل، وخير، وشجاعة، وعبادة، وجهاد _ فعند أهل السنة أكمله وأتمه[156]).
ثم إن ارتكاب المخالفات من قِبَل الأفراد من أهل السنة _ يُعدُّ خروجاً عن القاعدة، وشذوذاً عن الأصل.
وإن أهل تلك المخالفات لا يُعدون من القدوات، ولا يقرون على ما يرتكبون من بدع، أو كبائر، أو غيرها.
بخلاف غيرهم من الطوائف الأخرى كالرافضة _ مثلاً_ فهم يرون أن تعظيم القبور، وتشييد القباب عليها من الدين، ويرون أن النفاق والكذب الذي يسمونه تقيةً تسعةُ أعشارِ الدين، وأن من لا تقية له لا دين له[157]).
وكذلك النصيرية الذين يقدسون الخمر ويعدونها من شرائع دينهم[158]).
الأربعون: سلامة قلوبهم والسنتهم لأصحاب الرسول ": فقلوبهم عامرة بحبهم، والسنتهم تلهج بالثناء عليهم، فأهل السنة يرون أن الصحابة خير القرون؛ لأن الله _عز وجل _ زكاهم، وكذلك رسوله " ويرون أن الكلام فيما شجر بينهم ليس هو الأصلَ، بل ا لاصل الاعتقادي عند أهل السنة هو الإِمساك عما شجر بينهم.
ويرون أنه إذا دعت الحاجة إلى ذكر ما شجر بينهم فلا بد من التحقق والتثبت من الروايات المذكورة حول الفتنة التي وقعت بينهم؛ ذلك أن هذه الروايات دخلها الكذب والتحريف.
ثم إذا صحت الرواية عندهم في ميزان الجرح والتعديل، وكان ظاهرها القدحَ في الصحابة فإنهم يحملون ذلك على أحسن المحامل، ويلتمسون لهم أحسن المخارج والمعاذير.
ويرون _ أيضاً _ أن ما ثبت عن الصحابة فيما شجر بينهم أنهم فيه مجتهدون؛ وذلك أن القضايا كانت مشتبهة؛ فلشدة اشتباهها تباينت اجتهاداتهم فيها؛ فهم مابين مجتهد مصيب فله أجران، ومجتهد مخطىء فله أجر، وثالث اشتبه عليه الحق فآثر الاعتزال.
ويرون أن الصحابة _ رضي الله عنهم _ ندموا لِمَا آل إليه الأمر، وحزنوا لذلك حزناً شديداً؛ لأنه لم يخطر ببالهم أنه سيصل إلى ما وصل إليه.
وأهل السنة _ أيضاً_ يرون أن الصحابة خير الناس حتى في حال القتال والفتنة والاختلاف؛ فبرغم ما حصل بينهم لم يكفِّر بعضهم بعضاً، ولم يُبَدِّع بعضهم بعضاً، بل كانوا يثنون على بعض، ويلتمسون المعاذير لبعض، ويترحم بعضهم على بعض، ويأخذون العلم من بعض.
وأهل السنة مع ذلك كله لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم من كبائر الذنوب وصغائرها، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولكن لهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم.
وما ينكر على بعضهم إنما هو جزء يسير ينغمر في بحر حسناتهم.
هذا في الذنوب المحققة، فكيف بالأمور الاجتهادية التي إن أصابوا فيها فلهم أجران، وإن اخطأوا فلهم أجر واحد؟[159]).
الحادية والأربعون: سلامتهم من الحيرة والاضطراب، والتخبط والتناقض: فأهل السنة والجماعة أكثر الناس رضاً ويقيناً، وطمأنينة، وأيماناً، وأبعدهم عن الحيرة والاضطراب، والتخبط والتناقض.
حتى إنه ليوجد عند عوام أهل السنة من برد اليقين، وحسن المعتقد، والبعد عن الحيرة _ ما لا يوجد عند علماء الطوائف الأخرى، وحذاقهم من أهل الكلام وغيرهم، وممن اضطربوا في تقرير عقائدهم، فحاروا وحيروا، وتعبوا وأتعبوا[160]).
ولم يكن ذلك ليحصل لهؤلاء لولا أنهم التمسوا الهدى من غير مظانه.
ومما يدل على حيرتهم ما جاء على ألسنة حُذاق أهل الكلام الذين بلغوا فيه فلم يرجعوا بفائدة، ولم يعودوا بعائدة، فهذا الرازي أحد أكابر علم الكلام ينوح على نفسه، ويبكي عليها قائلاً:
نـهايـةُ أقدامِ العقـول عــــقـالُ | وغاية سعي العالمين ضـــلال | |
وأرواحنا في وحشة من جسومنا | وغاية دنيـانا أذىً ووبــال | |
ولم نستفد من بحثنا طـول عُمْرنا | سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا | |
وكم قـد رأينا من رجــــال ودولة | فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا | |
وكم من جبال قد علت شرفاتها | رجـال فزالوا والجبال جـــبال[161]) |
وقال: ( لقد تأملت الطرقَ الكلاميةَ، والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تُروي غليلاً.
ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن؛ أقرأ في الإثبات: [الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى] طه:5، [إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ] فاطر:10.
وأقرأ في النفي: [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] الشورى: 11، [وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً]طه:110)[162]).
وقال:
العلم للرحمن جل جلاله | وسواه في جهلاته يتغمغم | |
ما للتراب وللعلوم وإنما | خـلـقت لتعلـم أنها لاتـعلم |
وممن اعترف منهم بالوقوع بالحيرة، والأمور المشكلة المتعارضة ابن أبي الحديد المعتزلي، وهو من كبرائهم، قال بعد عظيم توغله في علم الكلام:
فـيك يا أغـلـوطةَ الفِكَـر | حار أمري وانقضى عُمُري | |
سافرت فيك العقولُ فما | ربحت إلا أذى الـسـفــــــــر | |
فلحى الله الألى زعـموا | أنـك الـمعـروف بالنـظــــــر | |
كذبوا إن الذي زعـمـوا | خـارج عـن قـوة الـبشــــــر |
وقال أيضاً:
فإذا الذي استكثرت منه الـــ | جاني عليّ عظائم المحن | |
فظـللـت في تيهٍ بـلا عَـلَـم | وغرقت في بحرٍ بلا سفن |
ومنهم الشهرستاني الذي قال:
لعمري لقد طُفت المعاهدَ كلَّها | وَقَلَّبْتُ طرفي بين تلك المعالم | |
فلم أرى إلا واضعاً كفَّ حائر | على ذقـنٍ أو قارعاً سنَّ نـادم |
وقد ردّ عليه محمد بن إسماعيل الأمير بقوله:
لعلك أهملت الطواف بمعهد الر | سول ومن لاقاه من كل عالم | |
فما حار من يهدي بهدي محمدٍ | ولسـت تراه قارعاً سـنّ نادم |
وقال أحدهم:
تجاوزت حد الأكثرين إلى العلا | وسافرت واستبقيتهم في المراكز | |
ولَجّجْتُ في الأفكار ثم تراجح اخـ | تياري إلى استحسان دين العجائز |
ومن الذين خاضوا في علم الكلام وندموا على ذلك الجويني، والغزالي، والخسروشاهي، وغيرهم[163]).
ومن المتأخرين الذين خاضوا في علم الكلام فلم يرجعوا منه بفائدة بل وقعوا في الحيرة والشك _ الإمام الشوكاني - رحمه الله - فإنه حدث عن نفسه فقال: ( ها أنا أخبرك عن نفسي وأوضح لك ما وقعت فيه أمس, فإني في أيام الطلب، وعنفوان الشباب شغلت بهذا العلم، الذي سموه تارة علم الكلام وتارة علم التوحيد، وتارة علم أصول الدين، وأكببت على مؤلفات الطوائف المختلفة منهم، ورمت الرجوع بفائدة، والعودة بعائدة، فلم أظفر بغير الخيبة والحيرة، وكان ذلك من الأسباب التي حبّبت إليّ مذهب السلف، على أني كنت قبل ذلك عليه، ولكن أردت أن أزداد منه بصيرة وشغفاً، وقلت عن ذلك في تلك المذاهب :
وغاية ما حَصَّلْتُه من مباحثي | ومن نظري من بعد طول التدبر | |
هو الوقف ما بين الطريقين حيرة | فما علم من لم يلق غيرُ التَّحيُّر | |
على أنني قد خضت فيه غماره | وما قنعت نفسي بغير التبحر[164]) |
ويقول ابن تيمية في معرض حديث له عن حيرة المتكلمين: ( ويقول الآخر منهم: لقد خضت البحر الخضمَّ، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه.
والآن إن لم يتداركني الله برحمة منه فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي).
ويقول الآخر منهم[165]): أكثر الناس شكَّاً عند الموت أصحاب الكلام)) [166]).
وبالجملة فالكلام في ذمِّ السلف للكلام، وبيانهم لحيرة أهله، وكثرة اضطرابهم يطول، والمقام لا يتسع للبسط[167]).
هذا هو شأن من ضل من أهل الفرق الإسلامية.
أما الكفار الذين تنكبوا الصراط المستقيم من الملاحدة وغيرهم _ فلا تسل عن بؤسهم وشقائهم؛ فهم يعيشون أدنى دركات الشقاء والنكد، فلقد سلبوا الأمن، وشاعت فيهم الأمراض النفسية والعصبية، وفتكت بهم أمراض الشذوذ الجنسي، وكثر فيهم الرعب، وانتشر فيهم الانتحار والرغبة في التخلص من الحياة.
ولقد عبر عن ذلك العذاب الذي يعانونه ـ فريق كبير من فلاسفة الملحدين.
فها هو الفيلسوف الألماني المشهور فريدريك نيتشه) بعد أن ألغى من فكره عقيدة الإِيمان بالله، وحكمة الابتلاء، وأن وراء هذه الحياة الدنيا حياة أخرى هي دار الخلود والجزاء والحساب _ ها هو يعرب عن دخيلة نفسه، وما يعانيه من عذاب وشقاء فيقول: ( إنني أعلم جيد العلم لماذا كان الإِنسان هو الحيوان الوحيد الذي يضحك؛ لأنه الذي يعاني أشد العناء؛ فاضطره ذلك أن يخترع الضحك)[168]).
وها هو الفيلسوف الإنجليزي المشهور هربارت سبنسر) الذي تدرس نظرياته التربوية في كثير من بقاع العالم، حتى في بلاد الإسلام ! ( لما دنا من الموت نظر وراءه يستعرض حياته، فإذا هي في نظره أيام تنقضي كلها في كسب الشهرة الأدبية، دون أن يتمتع بشيء من الحياة نفسها، فضحك من نفسه وسخر، وتمنى لو أنه قضى تلك الأيام الدابرة في حياة بسيطة سعيدة.
ولما حضرته الوفاة كان على يقين بأنه لم يعمل في حياته إلا عبثاً)[169]).
وهذا فيلسوف التشاؤم الملحدآرثر شوبنهور) عندما عزل عن تصوره مسألة الإِيمان بالله واليوم الآخر، ورفض حكمة الابتلاء نظر إلى الحياة نظرة ملؤها التشاؤم، ورأى أن طيبات الحياة كلها عبث، وأن مقاصد الناس تسير إلى الإِخفاق؛ ومن أقواله في ذلك: ( إننا لو تأملنا الحياة المصطخبة لرأينا الناس جميعا يشتغلون بما تتطلبه من حاجة وشقاء، ويستنفذون كل قواهم؛ لكي يرضوا حاجات الدنيا التي لا تنتهي، ولكي يمحوا أحزانها الكثيرة)[170]).
وهذا الفيلسوف الفرنسي الملحد الوجودي اليهودي جان بول سارتر) عندما كفر بالله، واليوم الآخر، وأصبح ينظر إلى الحياة من منظوره الوجودي المادي _ صار لا يرى الوجود كله إلا من دوائر القلق، والمتاعب، والغثيان، والآلام. وكتب في ذلك جملة قصص ومسرحيات ضمنها آرائه الفلسفية الوجودية، التي تتقيأ المكاره، والتي أبرز فيها الحياة تافه، حقيرة، مخيفة، مملوءة بالشقاء، مشحونة بالآلام.
( وحين حضره الموت سأله من كان عنده: ترى إلى أين قادك مذهبك ؟ فأجاب في أسى عميق ملؤه الندم: إلى هزيمة كاملة)[171]).
أين هؤلاء من أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - إذ يقول: ( أصبحت ومالي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر) ؟ ! [172]).
وأين هم من شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عندما اقتيد إلى السجن فقال كلمته المشهورة: ( ما يصنع أعدائي بي ؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني؛ أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة)[173]).
ويقول أيضاً: ( إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة)[174]).
الثانية والأربعون: أن الضالين والمبتدعين يرجعون إليهم: فإذا تاب الواحد من هؤلاء ونزع عن غيه، أو تاب من بدعته، ورجع إلى الحق _ قيل في حقه: عاد إلى السنة وإلى منهج أهل السنة.
الثالثة والأربعون: رفضهم التأويل المذموم: الذي هو في حقيقته صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى احتماله المرجوح لغير دليل.
وهذا النوع من التأويل هو الذي ذمه السلف وحذروا منه، ولهذا فأهل السنة يرفضونه ولا يقبلونه؛ لعلمهم بخطرة، وإدراكهم لضرره، فهو عدو الرسالات؛ فبسببه قتل عثمان - رضي الله عنة - وبسببه اعتزلت المعتزلة، وترفضت الرافضة، وخرجت الخوارج[175]).
الرابعة وأربعون: الاعتقاد الجازم بأنه لا يسع أحد الخروج عن شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم - : فهم يرون أن العبد لا ينفك عن عبوديته لرب العالمين، ولا يجوز له بحال من الأحوال أن يدين بدين غير الإسلام، أو أن يتبع شريعة غير شريعة النبي ".
بل يرون أن العبد يجب عليه أن يعبد ربه حتى يأتيه اليقين: [وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ] الحجر: 99.
واليقين هنا هو الموت.
خلافاً للذين يتحاكمون لغير الشريعة الإسلامية، وخلافاً لمن يرون أن الشريعة قد نسخت بشريعة أخرى، كما تتدعي ذلك البابية[176])، والبهائية[177])، والقاديانية[178])، وخلافاً للصوفية الذين يرون أن العبد إذا ترقى في مقام الشهود للحقيقة الكونية زالت عنه الحجب، وأتاه اليقين، ورفعت عنه التكاليف الشرعية، فلم يعد له حاجه بعد ذلك إلى صلاة أو صيام، أو غير ذلك عياذاً بالله من الزندقة.
الخامسة وأربعون: التثبت في الأخبار، والبعد عن التسرع في إطلاق الأحكام: انطلاقاً من قوله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] الحجرات: 6.
بخلاف الذين يسارعون في إطلاق الأحكام، ويتهافتون على إلصاق التهم بالأبرياء، فيفسِّقون، ويبدعون، ويكفرون بالتهمة والظنة، من غير ما برهان أو بينة[179]).
السادسة والأربعون: التورع في الفتيا: إقتداءً بالصحابة الكرام _ رضي الله عنهم_ فقد كانوا يتدافعون الفتيا؛ لعلمهم بخطر القول على الله بغير علم، فهم يتورعون عنها، إيثاراً للسلامة؛ وخوفاً من القول على الله بغير علم.
السابعة والأربعون: الحرص على تزكية النفوس: فأهل السنة والجماعة أحرص الناس على تزكية أنفسهم بطاعة الله _عز وجل_ دون ما إفراط أو تفريط، فهم يُعنَون بإصلاح ظواهرهم، وبواطنهم، ويتقربون إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فيحرصون على أداء الصلوات المكتوبة، وأداء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً.
كما أنهم يبادرون ويسابقون إلى الأعمال الصالحة، من كثرة الذكر والنوافل، والصدقات، وغيرها من العبادات[180]).
الثامنة والأربعون: العمل على مرضاة الله في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت: فأفضل العبادات عندهم في وقت الجهاد _ الجهاد، وإن آل بهم الأمر إلى ترك الأذكار والأوراد، وفي حالة اشتداد الحاجة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر_ القيام بذلك الأمر، وفي حالة قدوم الضيف القيام على إكرامه وخدمته، وهكذا...
بخلاف غيرهم ممن لا يستطيع الخروج عن النوع الذي ألفه من العبادة.
أما أهل السنة فلا يزالون متنقلين في مراتب العبودية ومنازلها، ومقاماتها.
التاسعة والأربعون: أنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون وأجيال: [181]) وهذا شيء مشاهد محسوس؛ لأنه الإيمان الصحيح الثابت يقوي الإدراك، ويشحذ القريحة، ويزيد العلم والإيمان، ويبارك في الأعمال وإن قلت، وفي الأوقات وإن قصرت.
قال _تعالى _: [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ] البقرة: 282، وقال: [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ] محمد: 17، وقال: [وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً] النساء 66_ 68.
الخمسون: حصول البشرى عند الممات: وذلك لإيمانهم بالله، واستقامتهم على أمره، قال _ تعالى _:[إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ] فصلت: 30.
الحادية والخمسون: وجل القلوب ودمع العيون: فهم أصحاب قلوب حية، وعيون من خشية الله دامعة، تتأثر بالقرآن الكريم، وترق عند سماع المواعظ؛ وذلك لما في قلوبهم من خشية الله وتعظيمه.
بخلاف غيرهم من غلاظ الأكباد، وقساة القلوب، وبخلاف الذين يتصنعون البكاء كحال الذين يعوّدون أولادهم البكاء في المآتم، فإذا كبروا اعتادوا البكاء متى شاؤوا؛ فبكائهم أمر اختياري، وحزنهم حزن مخترع[182]).
الثانية والخمسون: بياض الوجوه وبهاؤها في الدنيا والآخرة: فبياض الوجوه وبهاؤها ملازم لأهل السنة والطاعة، وسواد الوجوه وظلمتها ملازم لأهل البدعة والمعصية، وصدق الشافعي - رحمه الله - إذ يقول:
وعلى الفتى لطباعه | سمةٌ تلوح على جبينه[183]) |
فبياض الوجوه وبهاؤها يحصل لأهل السنة في الدنيا وفي الآخرة ؛ أما في الدنيا فتبيض وجوههم وتشرق ويزداد بهاؤها؛ بسبب ما لديهم من حسن المعتقد، وطهارة القلوب، وصلاح الأعمال؛ فإن ذلك يؤثر في ظاهر الإنسان أيما تأثير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : ( فكلما كثر البر والتقوى قوي الحسن والجمال، وكلما قوي الإِثم والعدوان قوي القبح والشين، حتى ينسخ ذلك ما كان للصورة من حسن وقبح؛ فكم ممن لم تكن صورته حسنة، ولكن من الأعمال الصالحة ما عظم به جماله وبهاؤه، حتى ظهر ذلك على صورته.
ولهذا يظهر ذلك ظهوراً بيّناً عند الإِصرار على القبائح في آخر العمر عند قرب الموت؛ فنرى وجوه أهل السنة والطاعة كلما كَبِروا ازداد حسنها وبهاؤها، حتى يكون أحدهم في كبره أحسن وأجمل منه في صغره.
ونجد وجوه أهل البدعة والمعصية كلما كبروا عظم قبحها وشينها، حتى لا يستطيع النظر إليها من كان منبهراً بها في حال الصغر لجمال صورتها.
وهذا ظاهر لكل أحد فيمن يعظم بدعته وفجوره، مثل الرافضة وأهل المظالم والفواحش من الترك ونحوهم، فإن الرافضي كلما كبر قبح وجهه، وعظم شينه، حتى يقوى شبهه بالخنزير، وربما مسخ خنزيراً كما قد تواتر عنهم)[184]).
وأما في الآخرة فتبيض وجوه أهل السنة إذا أقدموا على ربهم، وقال _تعالى_: [يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ] آل عمران : 106.
قال ابن عباس _ رضي الله عنهما _: ( تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدع والفرقة)[185]).
الثالثة والخمسون: مضاعفة الحسنات ورفعة الدرجات: فمن أسباب مضاعفة الحسنات، ورفعة الدرجات _ بل هو أساسها وأصلها _ صحة العقيدة، وقوة الإيمان.
وأهل السنة والجماعة أصح الناس عقيدة، وأقواهم إيمانا؛ ولذلك فأعمالهم تضاعف مضاعفة كبيرة، ودرجاتهم ترفع وتعلو علواً لا يدانيه أحد، ولا يشاركهم فيه إلا من كان على مثل ماهم عليه من العقيدة والإيمان.
( ولهذا كان السلف يقولون: أهل السنة والجماعة إن قعدت بهم أعمالهم قامت بهم عقائدهم، وأهل البدع إن كثرت أعمالهم قعدت بهم عقائدهم.
ووجه الاعتبار أن أهل السنة مهتدون، وأهل البدع ضالون، ومعلومٌ الفَرْق بين من يمشي على الصراط المستقيم، وبين من هو منحرف عنه إلى طريق الجحيم)[186]).
هذه مآثر أهل السنة والجماعة، وهذه خصائصهم التي تميزوا بها على غيرهم، وتلك هي الخصال التي تَمَثَّلها سلفنا الصالح _رحمهم الله ورضي عنهم_ فنالوا الخيرات، وحصلوا على البركات.
ولا يعني ذلك أن أهل السنة والجماعة معصومون، لا، بل إن منهجهم هو المعصوم، وجماعتهم هي المعصومة.
أما آحادهم فقد يقع منهم الظلم، و البغي، والعدوان، وارتكاب المعاصي، ولكنه قليل بالنسبة لغيرهم، ولا يقر من فعل ذلك منهم _كما مر_.
ومن فعل شيئاً من تلك المخالفات فإنه يبتعد عن هدي أهل السنة والجماعة بقدر تلك المخالفة، ويفوته من الخير بقدر بُعده عن السنة.
الحمد لله بنعمته تتم الصالحات، وبعد:
ففي خاتمة البحث هذا إجمال لأهم ما ورد فيه:
1_ العقيدة في الاصطلاح العام هي ما يؤمن به الإِنسان، ويعقد عليه قلبه، حقاً كان أم باطلاً.
2_ العقيدة الإِسلامية هي الإيمان الجازم بالله، وملائكته، وكتبه، ورسوله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، وبكل ما جاء في الكتاب والسنة من أصول الدين، وأخباره، وما أجمع عليه السلف الصالح، والتسليم لله في الحكم والأمر، والشرع، والقدر، ولرسوله " بالطاعة والاتباع.
3_ لعلم العقيدة أسماء عند أهل السنة منها: التوحيد، والإيمان، و السنة، والشريعة، والعقيدة.
4_ لعلم العقيدة عند غير أهل السنة أسماء عديدة منها: علم الكلام، والفلسفة، والتصوف، والإلهيات، وما وراء الطبيعة.
5_ أهل السنة والجماعة هم من كان على مثل ماكان عليه النبي " وأصحابه.
6_ سمي أهل السنة والجماعة بهذا الاسم؛ لانتسابهم لسنة النبي " واجتماعهم على الأخذ بها ظاهراً وباطناً، في القول، والعمل، والاعتقاد.
7_ لأهل السنة والجماعة أسماء أخرى يعرفون بها، منها: أهل السنة، وأهل الجماعة، والجماعة، والسلف الصالح، وأهل الحديث، وأهل الأثر، والفرقة الناجية، والطائفة المنصورة، وأهل الاتباع.
8_ للعقيدة الإسلامية _ عقيدة أهل السنة والجماعة _ خصائص عديدة منها: سلامة مصدر التلقي، وموافقتها للفطرة القويمة، والعقل السليم، والوضوح والبيان، والسلامة من التناقض والاضطراب، والثبات والاستقرار والخلود، والعموم والشمول، والصلاح لكل زمان ومكان وأمة، وأنها تمنح معتنقيها الراحة النفسية، وأنها ترفع قدر أهلها، وأنها سبب للظهور والتمكين، وأنها لا تنافي مع العلم الصحيح، وأنها تجمع بين مطالب الروح والجسد، وأنها تعترف بالعقل وتحدد مجاله، وتعترف بالعواطف وتوجهها الوجهة الصحيحة.
9_ لأهل السنة والجماعة خصاص عديدة يمتازون بها عن غيرهم.
وهذه الخصائص تتجلى في سلامة منهجهم في التلقي والاستدلال، وفي وسطيتهم بين سائر الفِرَق، وفي مزاياهم الخلقية، والعملية.
وقد ورد في البحث تفصيل لما يدخل تحت الخصائص.
هذا ملخص لأهم ما ورد في هذا البحث، وهذه صورة عامة لما احتواه وتضمنه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد واله وصحبه أجمعين.
([1]) انظر معجم مقاييس اللغة لابن فارس 4/86_90، ولسان العرب 3/296_300، والقاموس المحيط 383_384.
([2]) انظر مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة، للشيخ د. ناصر العقل ص9.
([3]) انظر المرجع السابق ص9_10.
([4]) انظر المرجع السابق ص9_10.
([5]) انظر مباحث في عقدة أهل السنة والجماعة ص 10_11، ومفهوم أهل السنة والجماعة عند أهل السنة والجماعة د. ناصر العقل، ومقدمات في الاعتقاد للشيخ د. ناصر القفاري ص5_11.
([6]) من تعليقات سماحة الشيخ عبدالعزيز ابن باز×.
([7]) انظر معجم مقاييس اللغة مادة شرع 3/262_263، ولسان العرب 8/176.
([8])انظر الوجوه والنظائر في القرآن الكريم، د. سليمان القرعاوي ص187.
([9]) انظر تبصير أولي الألباب ببدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب، للشيخ محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم.
([10]) انظر مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة ص11، ومقدمات في الاعتقاد ص 4_5.
([11]) ديوان لبيد بن ربيعة ص179.
([12]) هذا البيت مجهول القائل، ويستشهد به النحاة على وجوب نصب الفعل المضارع بعد فاء السببية المسبوقة بطلب محض، ونوع الطلب ههنا: الدعاء. انظر شرح ألفية ابن مالك لابن الناظم ص678، وشرح التصريح على التوضيح لخالد الأزهري 2/239.
([13]) لسان العرب 13/225.
([14]) مباحث في عقيدة أهل السنة ص13.
([15]) لسان العرب 3/226.
([16]) معجم مقاييس اللغة 1/479، مادة جمع.
([17]) انظر شرح العقيدة الواسطية، للشيخ د. محمد خليل هراس، ص61، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص382.
([18]) انظر مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة ص13_14.
([19]) انظر شرح العقيدة الواسطية، للشيخ د. صالح الفوزان ص 10، وفتح رب البرية بتلخيص الحموية، للشيخ محمد ابن عثيمين ص 10.
([20]) انظر شرح العقيدة الطحاوية ص512، وشرح الواسطية، للشيخ صالح الفوزان ص 9_10 ومباحث في عقيدة أهل السنة ص 14_16.
([21]) انظر تفصيل ذلك في مصرع التصوف للبقاعي، وهذه هي الصوفية للشيخ عبدالرحمن الوكيل، والتصوف المنشأ والمصادر للشيح إحسان إلهي ظهير.
([22]) انظر الرد الكافي على مغالطات الدكتور علي عبدالواحد وافي، لإحسان إلهي ظهير ص 211_216، وأصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية، د. ناصر القفاري 2/586و588_609، ومسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة، د. ناصر القفاري 1/247.
([23]) انظر الكيد الأحمر، عبد الرحمن حبنكة الميداني، والشيوعية في موازين الإسلام، لبيب السعيد، ونقد أصول الشيوعية، للشيخ صالح بن سعد اللحيدان، والشيوعية للكاتب.
([24]) شرح العقيدة الطحاوية ص201.
([25]) انظر المهدي حقيقة لا خرافة، للشيخ محمد بن إسماعيل ص14.
([26]) انظر الأدلة والقواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين، للشيخ ابن سعدي ص309.
([27]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان 1/36_38، رقم 8.
([28]) انظر ترجيح أساليب القرآن على آساليب اليونان، لابن الوزير ص21_22.
([29]) انظر الأدلة والقواطع والبراهين ص348.
([30]) الموجز في المذاهب والأديان المعاصرة د. ناصر العقل، د. ناصر القفاري ص 124، وعقيدة الإمامية عند الشيعة الاثني عشرية، د. علي السالوس ص 80_85. وعقيدة الإمامية عند الجعفرية في ضوء السنة للسالوس، وبذل المجهود في مشابهة الرافضة لليهود، عبدالله الجميلي 2/456_468، وانظر الخطوط العريضة لمحب الدين الخطيب، تحقيق محمد مال الله ص69، والشيعة والسنة لإحسان إلهي ظهير ص66، والشيعة الإمامية الاثني عشرية في ميزان الإسلام، ربيع بن محمد السعودي ص190_193، والخميني وتفضيل الأئمة على الأنبياء، محمد مال الله.
([31]) انظر هذه هي الصوفية، للشيخ عبدالرحمن الوكيّل ص 74_75.
([32]) انظر درء تعارض العقل والنقل 3/147، والفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 89، والدرة المختصرة في محاسن الدين الإسلامي لابن سعدي ص 40.
([33]) =العشاء الرباني+: عقيدة من عقائد النصارى الباطلة، وحقيقته: أنهم يزعمون أن المسيح قد جمع الحواريين في الليلة التي سبقت صلبه، وأنه قد وزع عليهم خمراً وخبزاً كسّره بينهم؛ ليأكلوه؛ إذ إن الخمر يشير إلى دم المسيح، والخبز يشير إلى جسده _ كما يزعمون _ فمن أكل الخبز، وشرب الخمر في الكنيسة يوم الفصح _ أحد أعيادهم _ فإن ذلك يستحيل فيه _ أي يتحول _ فكأنه قد حلَّ في جوفه لحم المسيح ودمه، وأنه قد امتزج في تعاليمه بذلك. =
= وهذه العقيدة مما لا يتردد العقل في إنكارها؛ إذ كيف يتصور استحالة خبز وخمر إلى لحم ودم في حين أن الآكلين يتذوقون طعم الخبز الخمر العادي؟!.
ثم إن جسد المسيح واحد، وموائد العشاء تعد بالآلاف سنوياً وفي أماكن متفرقة؛ فكيف يتفرق جسده ودمه عليها جميعا؟.
=أما صكوك الغفران+ فهي إحدى مهازل الكنيسة، وهي حماقة يترفع عنها من لديه أدنى مُسكة من عقل.
تلك هي توزيع الجنة، وعرضها للبيع في مزاد علني، وكتابة وثائق للمشترين تتعهد الكنيسة فيها بأن تضمن للمشتري غفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبراءته من كل جرم وخطيئة سابقة ولاحقة.
فإذا تسلم المشتري صك غفرانه ووضعه في محفظته أبيح له كل محظور، وحل له كل حرام!! انظر محاضرات في النصرانية، للشيخ محمد أبو زهرة ص114_115.
([34]) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية 2/155، وانظر هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن القيم ص 321.
([35])انظر الرد على الرافضة، للشيخ محمد بن عبدالوهاب ص 31_32.
([36])انظر الحركات الباطنية في العالم الإسلامي د. محمد بن أحمد الخطيب ص365
([37]) انظر النصيرية د. سهير الفيل 2/93_103.
([38]) انظر البهائية نقد وتحليل إحسان إلهي ظهير ص 150، وانظر عقيدة ختم النبوة، د. محسن عبدالحميد، والبهائية لمحب الدين الخطيب والبهائية للكاتب ص14_15.
([39]) انظر ثبات العقيدة الإسلامية أمام التحديات، للشيخ عبدالله الغنيمان.
([40]) انظر تنزيه الدين وحملته ورجاله لابن سعدي ص 444، والأدلة والقواطع والبراهين ص 303، والعظمة لمحمد الخضر حسين ص 24.
([41]) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة 3/1524.
([42]) انظر ذم الفرقة والاختلاف في الكتاب والسنة، للشيخ عبدالله الغنيمان ص 15.
([43]) انظر نقض المنطق لابن تيمية ص 48.
([44]) انظر في ظل الشريعة الإسلامية يتحقق الأمن والحياة الكريمة للمسلمين، لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز ص6_30.
([45]) انظر الفوائد لابن القيم ص 129_130، والحرية في الإسلام ص 33، ورسائل الإصلاح، لمحمد الخضر حسين 1/58، 59، 70.
([46]) انظر الرياض الناضرة، لابن سعدي ص 8.
([47]) انظر الدين الصحيح يحل جميع المشاكل، للشيخ السعدي ص 20، وانظر الدلائل القرآنية في أن العلوم النافعة داخلة في الدين الإسلامي، لابن سعدي ص 6. ومجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد ابن عثيمين 3/77.
([48]) انظر الدين الصحيح يحل جميع المشاكل ص 16، والدرة المختصرة في محاسن الدين الإسلامي ص37_38، والحرية في الإسلام، للشيخ محمد الخضر حسين ص41.
([49]) انظر العقيدة الإسلامية بين العقل والعاطفة، د. أحمد الشريف ص 4، 74_79.
([50]) انظر المرجع السابق ص4، 104_105.
([51]) انظر الدين الصحيح يحل جميع المشاكل.
([52]) انظر حصوننا مهددة من داخلها، د. محمد محمد حسين، ص 15_39.
([53]) انظر المرجع السابق، ص 59_96.
([54]) انظر قواعد الاستدلال على مسائل الاعتقاد، ص 143_167.
([55]) رواه الإمام أحمد في المسند 4/130_131، ورواه أبو داود 5/13 برقم (4605) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2643).
([56]) انظر منزلة السنة في الإسلام، وبيان أنه لا يستغنى عنها بالقرآن، للشيخ العلامة الألباني.
([57]) انظر أخبار الآحاد في الحديث النبوي، للشيخ عبدالله بن جبرين، والأدلة والشواهد على وجوب الأخذ بخبر الواحد في الأحكام والعقائد، للشيخ سليم الهلالي.
([58]) انظر حكم مخالفة أهل السنة في تقرير مسائل الاعتقاد ص 36.
([59]) انظر شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري، للشيخ عبدالله الغنيمان 2/629.
([60]) صحيح مسلم (2664).
([61]) انظر مجموع الفتاوى 8/284_285، والرياض الناضرة لابن سعدي ص 125_126، والسنن الإلهية د. عبدالكريم زندان ص 21_33.
([62]) انظر تفضيل زيارة قبر الحسين ÷ على حج بيت الله الحرام، د. عبدالمنعم السامرائي، ص 13.
([63]) انظر شرح العقيدة الطحاوية ص460.
([64]) من تعليقات سماحة الشيخ ابن باز ×.
([65]) انظر الحرية في الإسلام ص32، و38_39.
([66]) انظر مدارج السالكين لابن القيم، 3/11_18، و507_513، وطريق الهجرتين لابن القيم ص449_450.
([67]) الصوفية في نظر الإسلام _ دراسة وتحليل لسميح عاطف الزين، ص 257.
([68]) الشعر الصوفي إلى مطلع القرن التاسع للهجرة، د. محمد بن سعيد ابن حسين، ص 172.
([69]) نسبة إلى حروراء مدينة في العراق، وهي موطن الخوارج الأوائل.
([70]) العبودية لابن تيمية، ص 128.
([71]) انظر زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم 1/87.
([72]) الفناء مصطلح صوفي يراد به: أن يفنى عن شهود ما سوى الله _ تعالى _ فيفنى بمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته.
وهناك فناء آخر عندهم وهو الفناء عن وجود السوى بحيث يرى أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق، وأن الوجود واحد بالعين، فهذا قول أهل الإلحاد والاتحاد الذين هم من أضل العباد. انظر التدمرية، لابن تيمية، تحقيق محمد بن عودة السعوي ص 221_222.
([73]) الانبساط مصطلح صوفي _ أيضاً _، ومعناه ترك الأدب مع الله _ تعالى _، بحيث يرون أن العبد يصل إلى مرتبة يترك فيها الأدب مع الله، ويلغي الكلفة بينه وبينه. انظر شرح العقيدة الطحاوية ص213، ومدارج السالكين، لابن القيم 2/336_340.
([74]) انظر مقدّمات في الأهواء والافتراق والبدع، ص 90_91.
([75]) يعني: أهل الكلام.
([76]) هو: ابن قتيبة.
([77]) تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص 20_21.
([78]) انظر شرح العقيدة الواسطية للهراس، ص 184.
([79]) انظر المرجع السابق، ص 186.
([80]) انظر التنبيهات اللطيفة على ما احتوت عليه العقيدة الواسطية من المباحث المنيفة، للشيخ ابن سعدي ص 62، وشرح الواسطية لهراس ص 188_189.
([81]) انظر مجموع الفتاوى 28/500_508، وضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة، للشيخ عبدالله بن محمد القرني، ص 9_10، وظاهر ة التكفير _ تاريخها _ خطرها _ أسبابها _ علاجها، للأمين الحاج محمد أحمد ص 7.
([82]) انظر شرح الواسطية للهراس، ص 190_191.
([83]) انظر المختار في أصول السنة لابن البنا، تحقيق د. عبدالرزاق العباد ص 87، ومجموع الفتاوى 8/258، والاستقامة 1/147، و 179، وانظر شرح الواسطية للهراس ص 229_ 230، والدرة البهية لابن سعدي ص 17_18، والمعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها، د. عواد المعتق ص 151_ 158، والإيمان بالقضاء والقدر للمؤلف ص 173.
([84]) انظر مجموع الفتاوى 8/256، وشرح نونية ابن القيم للهراس 1/372، وشرح الواسطية للهراس ص 230.
([85]) انظر الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة لابن قتيبة ص 21، والاعتقاد للبيهقي ص 73، والنبوات لابن تيمية ص 437، ودرء تعارض العقل والنقل 1/85_86، وانظر الإيمان بالقضاء والقدر للمؤلف ص 175.
([86]) مجموع مهمات المتون في مختلف الفنون والعلوم ص 90.
([87])المرجع السابق ص 90.
([88]) وقيل: إن القائل هو علي بن الفضل نفسه وليس شاعره، انظر كشف أسرار الباطنية، للشيخ محمد بن مالك بن أبي الفضل الحمادي اليمني ص 55، والحركات الباطنية د. محمد الخطيب ص 66.
([89]) انظر محبة الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ بين الاتباع والابتداع، عبدالرؤوف عثمان.
([90])انظر شرح الواسطية للهراس ص 192_ 193.
([91]) انظر نقض المنطق لابن تيمية ص 49.
([92]) انظر التجانية، للشيخ علي الدخيل الله ص 238.
([93]) انظر رفع الملام عن الأئمة الأعلام لشيخ الإسلام ابن تيمية، وانظر _ أيضاً _ قواعد في التعامل مع العلماء، للشيخ عبدالرحمن اللويحق.
([94]) انظر الفصل في الأهواء والملل والنحل، لابن حزم 4/237_238، والتكفير جذوره _ أسبابه _ مبرراته، د. نعمان السامرائي ص 27_32.
([95]) انظر المعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها، ص 273_276.
([96]) انظر البداية والنهاية لابن كثير 13/226_232.
([97]) انظر المرجع السابق، الصفحات نفسها.
([98]) ديوان ابن هانئ الأندلسي ص 146.
([99]) البيت لمحمد بن عاصم. انظر وفيات الأعيان لان خَلِّكان 4/103.
([100]) انظر التنبيهات اللطيفة لابن سعدي ص104.
([101]) انظر شرح السنة للبربهاري ص 28_29، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 35/5_17، وأعلام السنة المنشورة، للشيخ حافظ الحكمي ص 189_191.
([102]) انظر مجموع الفتاوى 3/156.
([103]) انظر مجموع الفتاوى 16/293_298، والنبوات لابن تيمية 1/141_142، 2/841، و1035، و1082، والفرقان ص113.
([104]) انظر تفصيل الكلام في ذلك إلى الباب الثاني من (موقف ابن تيمية من خوارق العادات والمخالفين فيها) للكاتب، وهي رسالة علمية _دكتوراه_.
([105]) انظر تفصيل قولهم في الرسالة الصفدية لابن تيمية.
([106]) انظر شرح الأصول الخمسة للقاضي عبدالجبار ص568_572، والمغني في أبواب التوحيد _العدل_ للقاضي عبدالجبار 15/218، 223_224، و241_242.
([107]) انظر شرح الواسطية للهراس ص 252_254، وانظر تفصيل ذلك في الباب الثالث من كتاب (موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من خوارق العادات).
([108]) انظر شرح العقيدة الطحاوية ص 229_239، وشرح الواسطية للهراس ص 216_217، والشفاعة، للشيخ مقبل الوادعي ص 11_13، والمعتزلة وأصولهم الخمسة، ص 235_247، وأصول مذهب الشيعة، د. ناصر القفاري 2/629_637.
([109]) انظر رسائل الإصلاح 2/13.
([110]) انظر تحريف النصوص من مآخذ أهل الأهواء في الاستدلال، للشيخ د. بكر أبو زيد ص 6_7، وانظر حكم الانتماء، د. بكر أبو زيد ص 54، ورسائل الإصلاح ص 13_21.
([111]) انظر درء تعارض العقل والنقل 5/5_7، ومقدمات في الأهواء والافتراق والبدع، د. ناصر العقل ص 109_110.
([112]) الشريعة للآجري ص 56، وانظر الحجة في بيان المحجة للأصبهاني 1/280.
([113]) الشريعة للآجري ص 56، وانظر الحجة في بيان المحجة للأصبهاني 1/280.
([114]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 1/128_129.
([115]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/129.
([116]) الحجة في بيان المحجة 1/285.
([117]) ديوان الشافعي ص 88، تحقيق د. محمد عبد المنعم خفاجي.
([118]) أخرجه الآجري في الشريعة ص 57، وانظر البدع والنهي عنها، لابن وضّاح القرطبي، ص 47_53.
([119]) أخرجه الآجري في الشريعة ص 57، وانظر البدع والنهي عنها، ص 47_53.
([120]) رواه أحمد 2/327، ومسلم (1715).
([121]) رواه البخاري (7288).
([122]) انظر شرح الطحاوية ص 262.
([123]) الحجة في بيان المحجة 1/285.
([124]) نقض المنطق ص 7_8، واقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لابن تيمية 1/64، وحكم مخالفة أهل السنة في تقرير مسائل الاعتقاد، ص46_48.
([125]) انظر الرياض الناضرة، لابن سعدي، الفصل الثاني عشر ص 59، ووجوب التعاون بين المسلمين، لابن سعدي، ص 13_15.
([126]) أدب الدنيا والدين، للماوردي، ص 300.
([127]) انظر وجوب التعاون بين المسلمين، للشيخ عبدالرحمن ابن سعدي، ص7_8.
([128]) انظر وجوب التعاون بين المسلمين، ص11، والجهاد في سبيل الله، للشيخ عبدالرحمن ابن سعدي، ص 7_8.
([129]) انظر المرجع السابق.
([130]) انظر السنة للخلال ص497.
([131]) منهاج السنة 7/414.
([132]) منهاج السنة 6/372.
([133]) رواه البخاري (6011) ومسلم (2586).
([134]) رواه البخاري (2446) ومسلم (2585).
([135]) انظر خاتمة العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية.
([136]) انظر رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لشيخ الإسلام ابن تيمية، والرد على المخالف من أصول الإسلام، للشيخ د. بكر أبو زيد، ص 60.
([137]) انظر أدب الخلاف، للشيخ د. صالح بن حميد.
([138]) انظر تنزيه الدين وحملته ص 450، والأدلة والقواطع والبراهين ص 343، والوسائل المفيدة للحياة السعيدة لابن سعدي ص 483، ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبدالرحمن بن سعدي.
([139]) رواه مسلم (2999).
([140]) ديوان كعب بن زهير ص 116، من قصيدته المشهورة بـ =بانت سعاد+.
([141]) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبدالعزيز الخليفة الخائف الخاشع، لعمر ابن محمد الخضر المعروف بالملاء، تحقيق د. محمد صديقي البورنو 2/436.
([142]) أخرج: أي جعل الرمية أبعد من الهدف، أما التقصير فبخلافه.
([143]) الكتاب الجامع 2/437.
([144])الكتاب الجامع 2/437_438.
([145]) مفتاح دار السعادة 1/301.
([146]) انظر العظمة ص 25_26.
([147]) انظر الأدلة والقواطع والبراهين ص 343.
([148]) انظر مناقب الإمام أحمد بن حنبل لابن الجوزي ص 413_418.
([149]) انظر نقض المنطق ص 42_43.
([150]) أخرجه مسلم (55).
([151]) انظر شرح السنة، للبربهاري ص 37، وجامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي، 1/215_225، والرياض الناضرة ص 39_43، وبهجة قلوب الأبرار، لابن سعدي شرح الحديث الثالث.
([152]) الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 4/238.
([153]) العِبِّيِّة، والعُبِّيَّة: الكبر والفخر، وعبية الجاهلية: نخوتها. انظر لسان العرب 1/574_575.
([154]) انظر الموالاة والمعاداة في الشريعة الإِسلامية، للشيخ محماس الجلعود.
([155]) الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/237.
([156]) انظر نقض الممنطق لابن تيمية ص 7_8.
([157]) انظر الخطوط العريضة، لمحب الدين الخطيب تعليق محمد مال الله ص 23، والشيعة والسنة، لإحسان إلهي ظهير ص 153_154، والحركات الباطنية، د. محمد الخطيب ص 53.
([158]) انظر الباكورة السليمانية في كشف أسرار الديانة العلوية النصيرية لسليمان الأذني ص 75، وانظر الحركات الباطنية ص 369، والنصيرية، د. سهير الفيل ص 108.
([159]) انظر اعتقاد أهل السنة في الصحابة، للشيخ محمد بن عبدالله الوهيبي ص 77_94.
([160]) انظر نقض المنطق ص 26_41.
([161]) انظر وفيات الأعيان 4/250، ودرء تعارض العقل والنقل 1/160، والفتوى الحموية الكبرى لابن تيمية ص191_192.
([162]) الفتوى الحموية الكبرى ص191_192.
([163])انظر تفصيل ذلك في مجموع الفتاوى 4/72_75، ونقض المنطق 25_26، ودرء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية 1/159_162، وكتاب الصفدية 1/292_295، وشرح العقيدة الطحاوية ص 208_210، وترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان، لابن الوزير ص 44_45، و112_113، والكواشف الجلية ص 511_514.
([164]) انظر التحف في مذاهب السلف، للشوكاني 2/93، وأدب الطلب للشوكاني ص 146_147.
([165]) أشار ابن تيمية في موضع آخر إلى أن القائل أبو حامد الغزالي. انظر نقض المنطق لابن تيمية، ص25.
([166]) الفتوى الحموية ص194_195.
([167]) انظر الفتوى الحموية ص196_200، و 555_556، وانظر حلية الأولياء، وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم، ط3، 1400هـ، دار الكتاب العربي، بيروت، 9/116، والحجة في بيان المحجة، وشرح عقيدة أهل السنة، إملاء الحافظ قوام السنة أبي القاسم إسماعيل بن محمد التيمي الأصبهاني، تحقيق ودراسة د. محمد بن ربيع المدخلي، ومحمد محمود أبو رحيم، ط1، 1411هـ، دار الراية للنشر والتوزيع 1/208.
([168]) كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة، لعبدالرحمن الميداني ص 560.
([169]) المرجع السابق ص 560_561.
([170]) المرجع السابق ص 561.
([171]) المرجع السابق ص 359، وانظر ص 562، من الكتاب نفسه، وانظر المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها، د. عبدالرحمن عميرة ص 221_225، والوجودية للكاتب ص 15_16.
([172]) جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي 1/287، وانظر سيرة عمر ابن عبدالعزيز لابن عبدالحكم ص 97.
([173]) ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب الحنبلي 2/402، وانظر الوابل الصيب، لابن القيم ص 69.
([174]) الوابل الصيب، لابن القيم ص 69، والشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية، لمرعي الكرمي الحنبلي ص 34.
([175]) انظر الصواعق المرسلة على الطائفة الجهمية والمعطلة لابن قيم الجوزية، تحقيق د. أحمد بن عطية الزهراني، و د. علي بن ناصر الفقيهي 1/77_93.
([176]) انظر البابية عرض ونقد، إحسان إلهي ظهير، والبابية للكاتب 23_24.
([177]) انظر حقيقة البابية والبهائية، د. محسن عبدالحميد.
([178]) انظر القاديانية، إحسان إلهي ظهير ص 34_48 و 94_123، والقاديانية للكاتب ص20_23.
([179]) انظر تصنيف الناس بين الظن واليقين، للشيخ د. بكر أبو زيد.
([180]) انظر تزكية النفس لابن تيمية.
([181]) انظر نقض المنطق، لابن تيمية ص 8، واقتضاء الصراط المستقيم 1/64، وهداية الحيارى ص 234_248.
([182]) انظر بطلان عقائد الشيعة، للتونسوي ص 111.
([183]) ديوان الشافعي، تحقيق محمد عفيف الزعبي ص 85.
([184]) الاستقامة لابن تيمية 1/365_366، وانظر الصارم المسلول لابن تيمية ص 587.
([185]) مجموع الفتاوى 3/278.
([186]) الفتاوى السعدية، لابن سعدي ص 36.