قواعد في صفات الله تعالى وأسمائِه الحُسْنَى وأدلتها ()

جمعية الدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات بالربوة

كتاب قيّم عبارة عن اختصار لكتب (القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى) للشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -، وهو عبارة عن قواعد علمية جامعة خاصة بضبط الأسماء والصفات وأدلتها على مذهب أهل السنة والجماعة.

|

 قواعد في صفات الله تعالى وأسمائِه الحُسْنَى وأدلتها

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما.

أما بعد: فإن الإيمانَ بأسماءِ الله وصفاته أحدُ أركان الإيمان بالله تعالى؛ وهي: الإيمان بوجود الله تعالى، والإيمان بربوبيَّته، والإيمان بألوهيَّته، والإيمان بأسمائه وصفاته.

وتوحيد الله به أحدُ أقسام التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.

فمنزلته في الدين عالية، وأهميته عظيمة، ولا يمكن أحدا أن يعبد الله على الوجه الأكمل حتى يكون على علم بأسماء الله تعالى وصفاته؛ ليعبده على بصيرة، قال الله تعالى: ﴿‌وَلِلَّهِ ‌الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف: 180]، وهذا يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة ([1]).﴿

فدعاء المسألة: أن تقدِّم بين يَدَيْ مطلوبك من أسماء الله تعالى ما يكون مناسبًا، مثل أن تقول: يا غفورُ اغفر لي، ويا رحيمُ ارحمني، ويا حفيظ احفظني، ونحو ذلك.

ودعاء العبادة: أن تتعبَّد لله بمقتضى هذه الأسماء، فتقوم بالتوبة إليه لأنه التوَّاب، وتذكره بلسانك لأنه السميع، وتتعبَّد له بجوارحك لأنه البصير، وتخشاه في السرِّ لأنه اللطيف الخبير، وهكذا.

ومن أجل ذلك حرصنا في موقع دار الإسلام على اختصار كتاب: (القواعد المُثْلَى في صفات الله تعالى وأسمائِه الحُسْنَى) ([2]) للشيخ محمد بن صالح بن عثيمين -رحمه الله- وترجمته لعدة لغات.

وهذا الكتاب قال عنه الشيخ عبدالعزيز ابن باز - رحمه الله-: "فقد اطَّلعت على المؤلَّف القيم الذي كتبه صاحب الفضيلة العلامة أخونا الشيخ محمد بن صالح العثيمين، في الأسماء والصفات، وسمَّاه (القواعد المُثْلَى في صفات الله تعالى وأسمائِه الحُسْنَى). وسمعته من أوله إلى آخره، فألفيته كتابًا جليلًا، قد اشتمل على بيان عقيدة السَّلف الصَّالح في أسماء الله وصفاته، كما اشتمل على قواعد عظيمة، وفوائد جمَّة في باب الأسماء والصفات".

وقد اشتمل الكتاب -مع التمهيد والخاتمة- على ثلاثة مباحث:

الأول: ‌‌قواعد في أسماء الله تعالى.

الثاني: ‌‌قواعد في صفات الله تعالى.

الثالث: ‌‌قواعد في أدلة الأسماء والصفات.

وكانت طريقة العمل هي اختصار للكتاب دون أي إضافة أو تعديل؛ إلا ما يقتضيه الاختصار أحيانا يسيرة؛ من زيادة حرف أو نحو ذلك لتستقيم العبارة.

ونسأل الله أن يجعله خالصا لوجه الكريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قواعد في أسماء الله تعالى

 القاعدة الأولى: أسماء الله تعالى كلها حسنى:

أي بالغة في الحسن غايته، قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الأعراف: 180]؛ وذلك لأنها متضمنة لصفات كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه، لا احتمالاً ولا تقديراً.

* مثال ذلك: "الحي" اسم من أسماء الله تعالى، متضمن للحياة الكاملة التي لم تُسبق بعدم، ولا يلحقها زوال. الحياة المستلزمة لكمال الصفات من العلم، والقدرة، والسمع، والبصر، وغيرها.

والحُسْنُ في أسماء الله تعالى يكون باعتبار كل اسم على انفراده، ويكون باعتبار جمعه إلى غيره، فيحصل بجمع الاسم إلى الآخر كمالٌ فوق كمالٍ.

* مثال ذلك: "العزيزُ الحكيمُ" فإنَّ الله يجمع بينهما في القرآن كثيرًا، فيكون كل منهما دالاً على الكمال الخاصِّ الذي يقتضيه، وهو العزَّة في العزيز، والحُكم والحكمة في الحكيم، والجمع بينهما دالٌ على كمال آخر، وهو أن عزَّته تعالى مقرونة بالحكمة، فعزَّته لا تقتضي ظلمًا وجورًا وسوء فعل، كما قد يكون من أعزَّاء المخلوقين؛ فإنَّ العزيز منهم قد تأخذه العزَّة بالإثم، فيظلم ويجور ويسئ التصرف؛  وكذلك حكمه تعالى وحكمته مقرونان بالعز الكامل، بخلاف حكم المخلوق وحكمته؛ فإنهما يعتريهما الذل.

 القاعدة الثانية: أسماء الله تعالى أعلام وأوصاف:

أعلام باعتبار دلالتها على الذات، وأوصاف باعتبار ما دلَّت عليه من المعاني، وهي  بالاعتبار الأول مترادفة لدلالتها على مسمى واحد، وهو الله - عزّ وجلّ -، وبالاعتبار الثاني متباينة لدلالة كل واحد منهما على معناه الخاص، فــ "الحي، العليم، القدير، السميع، البصير، الرحمن، الرحيم، العزيز، الحكيم" كلها أسماء لمسمى واحد، وهو الله سبحانه وتعالى، لكن معنى الحيَّ غير معنى العليم، ومعنى العليم غير معنى القدير، وهكذا.

 القاعدة الثالثة: أسماء الله تعالى إن دلَّت على وصف متعدٍّ، تضمنت ثلاثة أمور: 

أحدها: ثبوت ذلك الاسم لله  -عزّ وجلّ-.

الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله -عزّ وجلّ-.

الثالث: ثبوت حكمها ومقتضاها.

* مثال ذلك: "السميع" يتضمن إثبات السميع اسمًا لله تعالى، وإثبات السَّمع صفة له، وإثبات حكم ذلك ومقتضاه، وهو أنه يسمع السر والنجوى، كما قال تعالى ﴿وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾[المجادلة: 1].

وإن دلت على وصف غير متعدٍّ تضمنت أمرين:

أحدهما: ثبوت ذلك الاسم لله عز وجل.

الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله عز وجل.

* مثال ذلك: "الحي" يتضمن إثبات الحي اسمًا لله عز وجل، وإثبات الحياة صفة له.

 القاعدة الرابعة: دلالة أسماء الله تعالى على ذاته وصفاته تكون بالمطابقة، وبالتضمن، وبالالتزام.

* مثال ذلك: "الخالق" يدلُّ على ذات الله، وعلى صفة الخلق بالمطابقة، ويدلُّ على الذات وحدها وعلى صفة الخلق وحدها بالتضمن، ويدلُّ على صفتي العلم والقدرة بالالتزام.

ولهذا لمَّا ذكَرَ الله خَلْق السماوات والأرض؛ قال: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً﴾[الطلاق: 12].

 القاعدة الخامسة: أسماء الله تعالى توقيفية، لا مجال للعقل فيها:

وعلى هذا فيجب الوقوف فيها على ما جاء به الكتاب والسنة، فلا يُزاد فيها ولا يُنقص؛ لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه تعالى من الأسماء؛ فوجب الوقوف في ذلك على النصِّ، لقوله تعالى: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾[الإسراء: 36]؛ ولأن تسميته تعالى بما لم يُسَمِّ به نفسه، أو إنكار ما سمى به نفسه، جناية في حقه تعالى؛ فوجب سلوك الأدب في ذلك، والاقتصار على ما جاء به النص.

 القاعدة السادسة: أسماء الله تعالى غير محصورة بعدد معيَّن:

لقوله صلى الله عليه وسلم: «أسألك بكل اسم هو لك سمَّيتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علَّمته أحدًا من خلقِك، أو استأثَرت به في علم الغيب عندك». الحديث رواه أحمد وابن حبان والحاكم، وهو صحيح.

وما استأثر الله تعالى به في علم الغيب لا يمكن لأحدٍ حصره، ولا الإحاطة به.

ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم تعيين هذه الأسماء، والحديث المروي عنه في تعيينها ضعيف.

 القاعدة السابعة: الإلحاد في أسماء الله تعالى هو الميل بها عما يجب فيها، وهو أنواع:

* الأول: أن ينكر شيئاً منها أو مما دلَّت عليه من الصفات والأحكام، وإنما كان ذلك إلحادًا لوجوب الإيمان بها وبما دلت عليه من الأحكام والصفات اللائقة بالله، فإنكار شيء من ذلك ميلٌ بها عما يجب فيها.

* الثاني: أن يجعلها دالة على صفات تُشابه صفات المخلوقين؛ وذلك لأن التشبيه معنىً باطلٌ لا يمكن أن تدل عليه النصوص؛ بل هي دالة على بطلانه، فجَعْلُها دالةً عليه ميلٌ بها عمَّا يجب فيها.

* الثالث: أن يسمى الله تعالى بما لم يسمِّ به نفسه؛ وذلك لأن أسماء الله تعالى توقيفيَّة، فتسمية الله تعالى بما لم يسمِّ به نفسه ميلٌ بها عمَّا يجب فيها، كما أن هذه الأسماء التي سموه بها نفسها باطلة، ينزَّه الله تعالى عنها.

* الرابع: أن يشتق من أسمائه أسماء للأصنام؛ وذلك لأن أسماء الله تعالى مختصة به، فتسمية غيره بها على الوجه الذي يختصُّ بالله -عز وجل- ميلٌ بها عمَّا يجب فيها.

والإلحاد بجميع أنواعه مُحرَّم؛ لأن الله تعالى هدَّد الملحدين بقوله: ﴿وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[الأعراف: 180].

ومنه ما يكون شركًا أو كفرًا حسبما تقتضيه الأدلة الشرعية.


 قواعد في صفات الله تعالى

 القاعدة الأولى: صفات الله تعالى كلُّها صفات كمال، لا نقص فيها بوجه من الوجوه:

 كالحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والرحمة، والعزة، والحكمة، والعلو، والعظمة، وغير ذلك.

وقد دلَّ على هذا السَّمع، والعقل، والفطرة.

1- أما السمع:

 فمنه قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[النحل: 60]، والمثل الأعلى: هو الوصف الأعلى.

2- أما العقل:

 فوجهه أنَّ كل موجود حقيقة، فلابد أن تكون له صفة؛  إما صفة كمال، وإما صفة نقص. والثاني باطل بالنسبة إلى الرب الكامل المستحق للعبادة.

ثم إنه قد ثبت بالحس والمشاهَدة أن للمخلوق صفات كمال، وهي من الله تعالى، فمعطي الكمال أولى به.

3- أما الفطرة:

 فلأن النفوس السليمة مجبولةٌ مفطورةٌ على محبة الله وتعظيمه وعبادته، وهل تحب وتظم وتعبد إلا من علمت أنه متصف بصفات الكمال اللائقة بربوبيته وألوهيته؟

وإذا كانت الصفة نقصًا لا كمال فيها فهي ممتنعة في حق الله تعالى: كالموت والجهل، والنسيان، والعجز، والعمى، والصمم، ونحوها؛ لقوله تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾[الفرقان: 58]. وقوله عن موسى: ﴿فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى﴾[طه: 52]. وقوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْض﴾[فاطر: 44]. وقوله: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾[الزخرف: 80]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الدجال: «إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور»([3] وقال: «أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا»([4]).

وقد عاقب الله تعالى الواصفين له بالنقص، كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾[المائدة: 64].

ونزّه نفسه عما يصفون به من النقائص، فقال سبحانه: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الصافات: 180].

وإذا كانت الصفة كمالًا في حال، ونقصًا في حال، لم تكن جائزة في حق الله ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق، فلا تثبتُ له إثباتًا مطلقًا، ولا تنفى عنه نفيًا مطلقًا، بل لابد من التفصيل.

فتجوز في الحال التي تكون كمالًا، وتمتنع في الحال التي تكون نقصًا، وذلك كالمكر، والكيد، والخداع، ونحوها. فهذه الصفات تكون كمالًا إذا كانت في مقابلة مَن يعاملون الفاعل بمثلها، لأنها حينئذٍ تدل على أن فاعلها قادر على مقابلة عدوه بمثل فعله أو أشد، وتكون نقصًا في غير هذه الحال، ولهذا لم يذكرها الله تعالى من صفاته على سبيل الإطلاق، وإنما ذكرها في مقابلة مَن يعاملونه ورسله بمثلها، كقوله تعالى: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ ‌الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: 30]، وقوله: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً﴾[الطلاق: 15-16].

 القاعدة الثانية: باب الصفات أوسع من باب الأسماء:

وذلك لأن كل اسم متضمن لصفة، ولأن من الصفات ما يتعلَّق بأفعال الله تعالى، وأفعاله لا منتهى لها، كما أن أقواله لا منتهى لها، قال الله تعالى : ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[لقمان: 27].

* ومن أمثلة ذلك: أن من صفات الله تعالى: المجيء، والإتيان، والنزول، إلى غير ذلك من الصفات التي لا تحصى، كما قال تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾[الفجر: 22]. وقال: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾[البقرة: 210]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا»([5]).

فنَصِفُ الله تعالى بهذه الصِّفات على الوجه الوارد، ولا نسميه بها، فلا نقول: إن من أسمائه الجائي، والآتي، والنازل، ونحو ذلك، وإن كنا نُخْبِر بذلك عنه ونَصِفه به.

 القاعدة الثالثة: صفات الله تعالى تنقسم إلى قسمين: ثبوتية، وسلبية: 

1- فالثبوتية: ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه؛ كالحياة، والعلم، والقدرة، والاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والوجه، واليدين، ونحو ذلك.

فيجب إثباتها لله تعالى حقيقة على الوجه اللائق به بدليل السمع والعقل.

أما السمع: فمنه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً﴾ [النساء: 136].

فالإيمان بالله يتضمَّن: الإيمان بصفاته.

والإيمان بالكتاب الذي نزل على رسوله يتضمن: الإيمان بكل ما جاء فيه من صفات الله.

وكون محمد صلى الله عليه وسلم رسوله يتضمن: الإيمان بكل ما أخبر به عن مرسله، وهو الله - عز وجل. 

أما العقل: فلأن الله تعالى أخبر بها عن نفسه، وهو أعلم بها من غيره، وأصدق قيلًا، وأحسن حديثًا من غيره؛ فوجب إثباتها له كما أخبر بها من غير تردد، فإن التردد في الخبر إنما يتأتي حين يكون الخبر صادرًا ممن يجوز عليه الجهل، أو الكذب، أو العيُّ بحيث لا يفصح بما يريد، وكل هذه العيوب الثلاثة ممتنعة في حق الله - عز وجل -، فوجب قبول خبره على ما أخبر به.

وهكذا نقول فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بربه، وأصدقهم خبرًا، وأنصحهم إرادة، وأفصحهم بيانًا، فوجب قبول ما أخبر به على ما هو عليه.

2- الصفات السلبية: ما نفاها الله - سبحانه - عن نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلها صفات نقص في حقه: كالموت، والنوم، والجهل، والنسيان، والعجز، والتعب.

فيجب نفيها عن الله تعالى مع إثبات ضدِّها على الوجه الأكمل؛ وذلك لأن ما نفاه الله تعالى عن نفسه فالمراد به بيان انتفائه لثبوت كمال ضدِّه، لا لمجرد نفيه؛ لأن النفي ليس بكمال إلا أن يتضمن ما يدل على الكمال؛ وذلك لأن النفي عدمٌ، والعدمُ ليس بشيء، فضلًا عن أن يكون كمالًا، ولأن النفي قد يكون لعدم قابلية المحل له، فلا يكون كمالًا. وقد يكون للعجز عن القيام به فيكون نقصًا.

* مثال ذلك: قوله تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوت﴾[الفرقان: 58]، فنفي الموت عنه يتضمن كمال حياته.

 القاعدة الرابعة: الصفات الثبوتية صفات مدح وكمال، فكلما كثرت وتنوعت دلالتها ظهر من كمال الموصوف بها ما هو أكثر.

ولهذا كانت الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر بكثير من الصفات السلبية.

أما الصفات السلبية فلم تذكر غالبًا إلا في الأحوال التالية:

* الأولى: بيان عموم كماله، كما في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11]، ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾[الإخلاص: 4].

* الثانية: نفي ما ادعاه في حقه الكاذبون، كما في قوله: ﴿أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً﴾[مريم: 92].

* الثالثة: دفع توهم نقص من كماله فيما يتعلق بهذا الأمر المعين، كما في قوله: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ﴾[الأنبياء: 16].

 القاعدة الخامسة: الصفات الثبوتية تنقسم إلى قسمين: ذاتية وفعلية: 

1-فالذاتية: هي التي لم يزل ولا يزال متصفًا بها: كالعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والعزة، والحكمة، والعلو، والعظمة. ومنها الصفات الخبرية: كالوجه، واليدين، والعينين.

2-الفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته، إن شاء فعلها، وإن شاء لم يفعلها: كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا.

وقد تكون الصفة ذاتية فعلية باعتبارين؛ كالكلام، فإنه باعتبار أصله صفة ذاتية؛ لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال متكَلِّمًا. وباعتبار آحاد الكلام صفة فعلية؛ لأن الكلام يتعلق بمشيئته، يتكلم متى شاء بما شاء، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[يس: 82].

وكل صفة تعلقت بمشيئته تعالى فإنها تابعة لحكمته. وقد تكون الحكمة معلومة لنا، وقد نعجز عن إدراكها؛ لكننا نعلم علم اليقين أنه - سبحانـه - لا يشاء شيئًا إلا وهو موافق للحكمة، كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشـَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾[الإنسان: 30].

 القاعدة السادسة: يلزم في إثبات الصفات التخلي عن محذورين عظيمين؛ أحدهما: التمثيل، والثاني: التكييف.

فأما التمثيل: فهو اعتقاد المثبت أن ما أثبته من صفات الله تعالى مماثل لصفات المخلوقين، وهذا اعتقاد باطل بدليل السمع والعقل. 

أما السمع: فمنه قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[الشورى: 11]، وقوله: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً﴾[مريم: 65].

وأما العقل فمن وجوه:

الأول: أنه قد عُلم بالضرورة أن بين الخالق والمخلوق تبيانًا في الذات، وهذا يستلزم أن يكون بينهما تباين في الصفات؛ لأن صفة كل موصوف تليق به.

الثاني: أن يُقال: كيف يكون الرب ُّالخالق الكامل من جميع الوجوه مشابهًا في صفاته للمخلوق المربوب الناقص المفتقر إلى مَن يُكَمِّله؟! وهل اعتقاد ذلك إلا تنقص لحق الخالق؟! فإن تشبيه الكامل بالناقص يجعله ناقصًا.

الثالث: أننا نشاهد في المخلوقات ما يتفق في الأسماء ويختلف في الحقيقة والكيفية، فنشاهد أن للإنسان يدًا ليست كيد الفيل، وله قوة ليست كقوة الجمل، مع الاتفاق في الاسم، فهذه يد وهذه يد، وهذه قوة وهذه قوة، وبينهما تباين في الكيفية والوصف، فعُلِم بذلك أن الاتفاق في الاسم لا يلزم منه الاتفاق في الحقيقة.

والتشبيه كالتمثيل، وقد يُفرَّق بينهما بأن التمثيل التسوية في كل الصفات، والتشبيه التسوية في أكثر الصفات؛ لكن التعبير بنفي التمثيل أولى لموافقة القرآن: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[الشورى: 11].

وأما التكييف: فهو أن يعتقد المثبت أن كيفية صفات الله تعالى كذا وكذا، من غير أن يقيِّدها بمماثل. وهذا اعتقاد باطل بدليل السمع والعقل.

أما السمع: فمنه قوله تعالى: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً﴾[طه: 110]، وقوله: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾[الإسراء: 36].

ومن  المعلوم أنه لا علم لنا بكيفية صفات ربنا؛ لأنه تعالى أخبرنا عنها ولم يخبرنا عن كيفيتها، فيكون تكييفنا قَفْوًا لما ليس لنا به علم، وقولاً بما لا يمكننا الإحاطة به.

وأما العقل: فلأن الشيء لا تعرف كيفية صفاته إلا بعد العلم بكيفية ذاته، أو العلم بنظيره المساوي له، أو بالخبر الصادق عنه، وكل هذه الطرق منتفية في كيفية صفات الله - عز وجل - فوجب بطلان تكييفها.

وحينئذ يجب الكف عن التكييف تقديرًا بالجنان، أو تقريرًا باللسان، أو تحريرًا بالبنان.

ولهذا لما سُئل مالك -رحمه الله تعالى- عن قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾[طه: 5] كيف استوى؟ أطرق -رحمه الله- برأسه حتى علاه الرحضاء (العرق)، ثم قال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".

وقد مشى أهل العلم على هذا الميزان. وإذا كان الكيف غير معقول ولم يرد به الشرع فقد انتفى عنه الدليلان العقلي والشرعي؛ فوجب الكف عنه.

 القاعدة السابعة: صفات الله تعالى توقيفية لا مجال للعقل فيها([6]).

فلا نثبت لله تعالى من الصفات إلا ما دلَّ الكتاب والسنة على ثبوته، قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "لا يُوصَف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث".

ولدلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفة ثلاثة أوجه: 

الأول: التصريح بالصفة:  كالعزة، والقوة، والرحمة، والبطش، والوجه، واليدين، ونحوها. 

الثاني: تضمن الاسم لها؛ مثل: الغفور متضمن للمغفرة، والسميع متضمن للسمع، ونحو ذلك.

الثالث: التصريح بفعل أو وصف دال عليها:  كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين العباد يوم القيامة، والانتقام من المجرمين، الدال عليها قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾[طه: 5]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا». الحديث([7]).

وقول الله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً﴾[الفجر: 22]، وقوله: ﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾[السجدة: 22].

قواعد في أدلة الأسماء والصفات

 القاعدة الأولى: الأدلة التي تُثبتُ بها أسماء الله تعالى وصفاته، هي: كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تثبت أسماء الله وصفاته بغيرهما.

وعلى هذا: فما ورد إثباته لله تعالى من ذلك في الكتاب أو السنة وجب إثباته، وما ورد نفيه فيهما وجب نفيه، مع إثبات كمال ضدِّه، وما لم يرد إثباته ولا نفيه فيهما وجب التوقف في لفظه، فلا يُثبت ولا ينفى؛ لعدم ورود الإثبات والنفي فيه.

وأما معناه فيُفصَّل فيه، فإن أريد به حق يليق بالله تعالى فهو مقبول، وإن أريد به معنى لا يليق بالله عز وجل وجب رده.

فمما ورد إثباته لله تعالى: كل صفة دل عليها اسم من أسماء الله تعالى دلالة مطابقة أو تضمُّن أو التزام.

- ومنه: كل صفة دل عليها فعل من أفعاله؛ كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين عباده يوم القيامة، ونحو ذلك من أفعاله التي لا تُحصى أنواعها، فضلًا عن أفرادها، ﴿وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾[إبراهيم: 27].

- ومنه: الوجه، والعينان، واليدان، ونحوها.

- ومنه: الكلام، والمشيئة، والرِّضا، والمحبة، والغضب، والكراهة، ونحوها.

ومما ورد نفيه عن الله سبحانه لانتفائه وثبوت كمال ضده: الموت، والنوم، والسِّنة، والعجز، والظلم، وأن يكون له مثيل أوكفؤٌ، أو نحو ذلك.

ومما لم يرد إثباته ولا نفيه لفظ: (الجهة)، فلو سأل سائل: هل نثبت لله تعالى جهة؟

قلنا له: لفظ الجهة لم يرد في الكتاب والسُّنة إثباتًا ولا نفيًا، ويُغني عنه ما ثبت فيهما من أن الله تعالى في السماء. وأما معناه فإما أن يُراد به جهة سفل، أو جهة علو تحيط بالله، أو جهة علو لا تحيط به.

فالأول باطل؛ لمنافاته لعلو الله تعالى الثابت بالكتاب والسنة، والعقل والفطرة، والإجماع.

والثاني باطل أيضًا؛ لأن الله تعالى أعظم من أن يحيط به شئ من مخلوقاته.

والثالث حق؛ لأن الله تعالى العليَّ فوق خلقه، ولا يحيط به شئ من مخلوقاته.

ودليل هذه القاعدة السمع والعقل. 

فأما السمع: فمنه قوله تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾[الأنعام: 155]، وقوله: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾[الحشر: 7]، ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾[النساء: 59].

إلى غير ذلك من النصوص الدالة على وجوب الإيمان بما جاء في القرآن والسنة.

وأما العقل فنقول: إن تفصيل القول فيما يجب أو يمتنع أو يجوز في حق الله تعالى من أمور الغيب التي لا يمكن إدراكها بالعقل، فوجب الرجوع فيه إلى ما جاء في الكتاب والسنة.

 القاعدة الثانية: الواجب في نصوص القرآن والسنة إجراؤها على ظاهرها دون تحريف،  لاسيما نصوص الصفات حيث لا مجال للرأي فيها.

ودليل ذلك: السمع، والعقل.

أما السمع: فقوله تعالى ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[يوسف: 2]، وهذا يدل على وجوب فهمه على ما يقتضيه ظاهره باللسان العربي إلا أن يمنع منه دليل شرعي.

وقد ذمَّ الله تعالى اليهود على تحريفهم، وبيَّن أنهم بتحريفهم من أبعد الناس عن الإيمان، فقال: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾[النساء: 46] الآية.

وأما العقل: فلأن المتكلِّم بهذه النصوص أعلم بمراده من غيره، وقد خاطبنا باللسان العربي المبين؛ فوجب قبوله على ظاهره، وإلا لاختلفت الآراء وتفرَّقت الأمة.

 القاعدة الثالثة: ظواهر نصوص الصفات معلومة لنا باعتبار ومجهولة لنا باعتبار آخر، فباعتبار المعنى هي معلومة، وباعتبار الكيفية التي هي عليها مجهولة.

وقد دلَّ على ذلك: السَّمع والعقلُ. 

أما السمع: فمنه قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو لْأَلْبَابِ﴾[ص: 29].

والتدبر لا يكون إلا فيما يمكن الوصول إلى فهمه؛ ليتذكَّر الإنسان بما فهمه منه.

وكون القرآن عربيًا ليعقله مَن يفهم العربية يدل على أن معناه معلوم، وإلا لما كان فرق بين أن يكون باللغة العربية أو غيرها.

وبيان النبي صلى الله عليه وسلم القرآن للناس شامل لبيان لفظه وبيان معناه.

وأما العقل: فلأن من المُحال أن يُنزلَ الله تعالى كتابًا أو يتكلم رسوله صلى الله عليه وسلم بكلام  يقصد بهذا الكتاب وهذا الكلام أن يكون هداية للخَلق، ويبقى في أعظم الأمور وأشدِّها ضرورة مجهول المعنى، بمنزلة الحروف الهجائية التي لا يُفهم منها شيء؛ لأن ذلك من السَّفه الذي تأباه حكمة الله تعالى، وقد قال الله تعالى عن كتابه: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾[هود: 1].

هذه دلالة السمع والعقل على علمنا بمعاني نصوص الصفات.

وأما دلالتهما على جهلنا لها باعتبار الكيفية فقد ذكرت في القاعدة السادسة من قواعد الصفات (يلزم في إثبات الصفات التخلي عن محذورين عظيمين؛ أحدهما: التمثيل. والثاني: التكييف).

 القاعدة الرابعة: ظاهر النصوص ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني، وهو يختلف بحسب السياق، وما يضاف إليه الكلام، فالكلمة الواحدة يكون لها معنى في سياق، ومعنى آخر في سياق، وتركيب الكلام يفيد معنى على وجه ومعنى آخر على وجه.

فلفظ (القرية) -مثلًا -: يراد به القوم تارة، ومساكن القوم تارة أخرى.

فمن الأول قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً﴾[الإسراء: 58].

ومن الثاني: قوله تعالى عن الملائكةِ ضيفِ إبراهيم: ﴿إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ﴾[العنكبوت: 31].

وتقول: صنعتُ هذا بيدي، فلا تكون اليد كاليد في قوله تعالى: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ﴾[ص: 75]؛ لأن اليد في المثال أضيفت إلى المخلوق فتكون مناسبة له، وفي الآية أضيفت إلى الخالق فتكون لائقة به، فلا أحد سليم الفطرة صريح العقل يعتقد أن يد الخالق كيد المخلوق أو بالعكس.

وقد أجمعوا - أي السلف الذين اجتمعوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والذين لا يَصْدُقُ لقب أهل السنة والجماعة إلا عليهم - على ذلك كما نقله ابن عبد البر - رحمه الله- فقال: "أهل السنة مُجِمعُون على الإقرار بالصِّفات الواردة كلِّها في القرآن الكريم والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يُكَيِّفُون شيئًا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة".

وهذا هو المذهب الصحيح والطريق القويم الحكيم، لوجهين:

الأول: أنه تطبيق تام لما دل عليه الكتاب والسنة من وجوب الأخذ بما جاء فيهما من أسماء الله وصفاته.

الثاني: أن يُقال: إن الحق إما أن يكون فيما قاله السلف، أو فيما قاله غيرهم، والثاني باطل؛ لأنه يلزم منه أن يكون السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان تكلموا بالباطل تصريحًا أو ظاهرًا، ولم يتكلموا مرة واحدة لا تصريحًا ولا ظاهرًا بالحق الذي يجب اعتقاده. وهذا يستلزم أن يكونوا إما جاهلين بالحق، وإما عالمين به لكن كتموه، وكلاهما باطل، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم، فتعين أن يكون الحق فيما قاله السلف دون غيرهم.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممَّن رأى الحقَّ حقًا واتَّبعَه، ورأى الباطل باطلًا واجتنبه، وأن يجعلنا هُداة مهتدين، وصُلَحَاء مصلحين، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويَهَب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.

والحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على نبي الرحمة، وهادي الأمة إلى صراط العزيز الحميد بإذن ربهم، وعلى آله وأصحابه، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.



([1]) من مقدمة الشيخ رحمه الله للكتاب.

([2]) طبعة مدار الوطن، عام 1429.

([3]) رواه البخاري، رقم (1317)، ومسلم، رقم (3392).

([4]) رواه البخاري، رقم (2992)، ومسلم، رقم (2704).

([5]) رواه البخاري، رقم (1145)، ومسلم، رقم (758).

([6]) قال الشيخ عبدالرحمن البراك -حفظه الله- في تعليقه على القواعد المثلى (87-88): "يريد أنَّ العقل لا يستقل بإثبات شيءٍ من الصفات بحيث يقال: هذه الصفة ثبتت بالعقل، ولم يدلَّ عليها السمع؛ فهذا لا يكون. ... فإذا قيل: إنَّ الصفات قسمان: عقلية وسمعية، أو خبرية؛ فالمراد بالعقلية: ما دلَّ عليه العقل مع دلالة السمع؛ والمراد بالخبرية: ما دلَّ عليه الخبر فقط...والله أعلم".

([7]) رواه البخاري، رقم (1145)، ومسلم، رقم (758).