أعدها: أ.د عاصم بن عبدالله القريوتي
كلية أصول الدين – جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
مستفاد من "الدرة المختصرة في محاسن الدين الإسلامي"
للشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله
(المتوفى : 1376هـ/ 1956م)
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد خلق الله سبحانه الخلـق، وميز الإنسان بالعقل عن سائر المخلوقات، وهذا مما يحتم على الإنسان أن يفكر بكل ما يعود عليه بالنفع وبخاصة فيما بعد موته، ونحن نوقن جميعا مفارقون لهذه الدنيا لا محالة، وهذا جدير بنا أن نتساءل:
لماذا خلقنا الله؟
وإلى أين سنذهب بعد الموت؟
وكل من فكر بتجرد سيصل إن شاء الله إلى الحقيقة.
وهذا الكتاب الذي أضعه بين يديك أيها القارئ اللبيب هو تعريف بجوانب من محاسن دين الإسلام، وليس القصد منه استيعاب ذلك وتتبعه، فإنه واسع وكبير، وإنما الغرض ذكر أمثلة نافعة جعلتها على طريق السؤال والجواب تقريبا للأذهان، ولعله بمعرفة هذه المحاسن وبالكشف عن بعض الحقائق يتضح ما كان ربما خفيا.
وأصل هذا الكتاب تأليف لعالم كبير لعالم من علماء المسلمين وهو الشيخ العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله (المتوفى : 1376هـ/ 1956م) بعنوان: "الدرة المختصرة في محاسن الدين الإسلامي".
ولا يكاد عملي يغادره سوى صياغتي للأسئلة، مع تعديلات يسيرة، من تقديم وتأخير، وحذف طفيف واختصار أحيانا، وإضافة لا بد منها للربط بين الجمل والإيضاح، وأسأل الله أن يهديني وقارئه وكاتبه للحق والصواب.
كتبه بمدينة الرياض حرسها الله: عاصم بن عبدالله القريوتي
في 27 شوال، 1442 الموافق 2021-06-07
محاسن دين الإسلام
في صيغة سؤال وجواب
نعم، ولكنها كثيرة ولكن سنذكر أمثلة نافعة يستدل بها على سواها , وينفتح بها الباب لمن أراد الدخول فيه; وهي أمثلة منتشرة في الأصول والفروع والعبادات والمعاملات، وليس القصد هنا استيعاب ذلك وتتبعه , فإنه يستدعي بسطا كثيرا.
دين الإسلام مبني على أصول الإيمان المذكورة في قوله تعالى : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون }
[ سورة البقرة : الآية 136 ]
نعم فالإسلام يعترف بالحق الذي جاءوا به من عند ربهم , والتصديق برسالاتهم وعدم التفريق بينهم , وأنهم كلهم رسل الله الصادقون , وأمناؤه المخلصون ,
ما من خصلة كمال قررها الأنبياء والمرسلون إلا وقررها وأثبتها , وما من مصلحة دينية ودنيوية دعت إليها الشرائع إلا حث عليها , ولا مفسدة إلا نهى عنها وأمر بمجانبتها، يأمر بمحاسن الأعمال ومكارم الأخلاق ومصالح العباد ; ويحث على العدل والفضل والرحمة والخير , ويزجر عن الظلم والبغي ومساوئ الأخلاق . .
بفعل ما يحبه الله ويرضاه وإخلاص ذلك له وباجتناب ما أمر بتركه تزكو القلوب , وتصلح الأرواح , وتتأصل بها مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال في النفس والأسرة والمجتمع.
شرائع الإسلام الكبار بعد الإيمان بالشهادتين: إقام الصلاة , وإيتاء الزكاة , وصوم رمضان , وحج البيت الحرام .
نعم إذا تأملناها نراها عظيمة المنافع إذ فيها مرضاة الله والفوز بثوابه العاجل والآجل.
س: حسنا، فما الآثار الحميدة المتعلقة بالصلاة؟
في الصلاة الإخلاص لله والإقبال التام عليه , والثناء والدعاء والخضوع , وهي من شجرة الإيمان بمنزلة السقاية للبستان، فلولا تكرار الصلاة في اليوم والليلة ليبست شجرة الإيمان.
الصلاة تحتوي على الاشتغال بذكر الله الذي هو أكبر من كل شيء، وأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.
في الزكاة الثقة بخلف الله لما ينفق والرجاء لثوابه وتصديق موعوده، والشكر لله على ما أولاه من الإنعام.
الذي يخرج الزكاة يتحلى بأخلاق الكرام من السخاء والجود والبعد عن أخلاق اللئام ، وبحفظ المال من المنغصات الحسية والمعنوية.
في الزكاة الإحسان إلى الناس ومواساة المحتاجين, ودفع حاجة الفقراء، وسداد مصالح المحتاج إليها.
الصيام لله , اختصه لنفسه من بين سائر الأعمال، ومن حكم الصوم تقوية داعي الإخلاص وتحقيق محبته على محبة النفس وفيه تمرين النفوس على ترك محبوبها , الذي ألفته , حبا لله , وتقربا إليه , وتعويد النفوس وتمرينها على قوة العزيمة والصبر.
الحج طلب لرضى الله وتعظيم وخضوع تام لله وتذكر لأحوال الأنبياء والمرسلين والأصفياء والمخلصين وتقوية الإيمان بهم , وشدة التعلق بمحبتهم من بذل الأموال وتحمل المشقات وفيه التنوع في عبوديات الله في تلك المشاعر.
في الحج التعارف بين المسلمين والسعي في جمع كلمتهم واتفاقهم على مصالحهم الخاصة والعامة مما لا يمكن تعداده , فإنه من أعظم محاسن الدين وأجل الفوائد الحاصلة للمؤمنين.
نعم أمر الشارع بالاجتماع والائتلاف ونهى وحذر من التفرق والاختلاف وفي هذا الأصل الكبير من نصوص الكتاب والسنة شيء كثير.
يترتب على الاجتماع والاتحاد كثير من المصالح الدينية والدنيوية , وتندفع به كثير من المضار والمفاسد، ولا يخفى أيضا أن القوة المعنوية المبنية على الحق , هذا أصلها الذي تدور عليه.
الذي كان عليه المسلمون في صدر الإسلام هو استقامة الدين وصلاح الأحوال والعزة التي لم يصل إليها أحد سواهم موقنين أشد اليقين بالاجتماع والاتحاد وأنها روح دينهم.
دين الإسلام دين رحمة وبركة وإحسان، وحسن معاملة ودعوة إلى الإحسان, وحث الإسلام على منفعة نوع الإنسان، ونهى عن كل ما يضاد ذلك، فصار بهذا نورا وضياء بين ظلمات الظلم والبغي وسوء المعاملة وانتهاك الحرمات، حتى جذب قلوب من كانوا قبل معرفته ألد أعدائه حتى استظلوا بظله الظليل.
الإسلام هو الذي عطف وحنا على أهله , حتى صارت الرحمة والعفو والإحسان تتدفق من قلوبهم على أقوالهم وأعمالهم , وتخطاهم إلى أعدائه , حتى صاروا من أعظم أوليائه . فمنهم من دخل فيه بحسن بصيرة وقوة وجدان , ومنهم من خضع له ورغب في أحكامه وفضلها على أحكام أهل دينه , لما فيها من العدل والرحمة .
نعم، دين الإسلام يحوي أحكاما أصولية وفروعية , صالحة لكل زمان ومكان، وتقبلها الفطر والعقول , وتنقاد لها بوازع الحق والصواب.
أخبار دين الإسلام كلها حق وصدق , لم يأت، ويستحيل أن يأتي بما ينقضها أو يكذبها.بل العلوم الحقة كلها تؤازرها وتؤيدها , وهي أعظم برهان على صدقها . وقد حقق المحققون المنصفون أن كل علم نافع , ديني أو دنيوي أو سياسي , فقد دل عليه القرآن دلالة لا ريب فيها.
س: هل في شريعة الإسلام ما يستحيل تصوره عقلا ؟
ليس في شريعة الإسلام ما تحيله العقول , وإنما فيه ما تشهد العقول الزكية بصدقه ونفعه وصلاحه، وهذا من أكبر الأدلة على أن ما عند الله محكم ثابت صالح لكل زمان ومكان، وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
أوامر الإسلام ونواهيه كلها عدل لا ظلم فيها , فما أمر بشيء إلا وهو خير خالص أو راجح , وما نهى إلا عن الشر الخالص أو الذي مفسدته تزيد على مصلحته . وكلما تدبر اللبيب أحكامه ازداد إيمانا بهذا الأصل أو علم إنه تنزيل من الله الحكيم الحميد، وأن دين الإسلام هو الدين الحق .
الجهاد الذي جاء به لإسلام يقصد به دفع عدوان المعتدين على حقوق هذا الدين وعلى رد دعوته , وهو أفضل أنواع الجهاد . ولم يقصد به جشع ولا طمع ولا أغراض نفسية.
من نظر إلى القرآن والسنة وتأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع أعدائهم , عرف بلا شك أن الجهاد يدخل في الضروريات ودفع عادية المعتدين.
لا يستقيم الدين إلا باستقامة أهله على أصوله وشرائعه , وامتثال أوامره التي هي الغاية في الصلاح واجتناب نواهيه التي هي شر وفساد، ولكيلا تزين لبعضهم نفوسهم الظالمة التجرؤ على بعض المحرمات والتقصير عن أداء المقدور عليه من الواجبات كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الضروريات للحفاظ على دينهم.
فيه تقويم المعوجين من أهله وتهذيبهم، وقمعهم عن رذائل الأمور وحملهم على معاليها، لأن إطلاق الحرية لهم - وهم قد التزموه ودخلوا تحت حكمه وتقيدوا بشرائعه - من أعظم الظلم والضرر , عليهم وعلى المجتمع , خصوصا الحقوق الواجبة المطلوبة شرعا وعقلا وعرفا.
ما جاء به الإسلام من إباحة البيوع والإجارات والشركات وأنواع المعاملات التي تتبادل فيها المعاوضات بين الناس في الأعيان والديون والمنافع وغيرها، لاشتماله على المصالح في الضروريات والحاجيات والكماليات , وفسحت للعباد فسحا صلحت به أمورهم وأحوالهم واستقامت معايشهم.
شرطت الشريعة في حل هذه الأشياء الرضا من الطرفين، واشتمال العقود على العلم, ومعرفة المعقود عليه، وموضوع العقد، ومعرفة ما يترتب عليه من الشروط.
منعت الشريعة الإسلامية كل ما فيه ضرر وظلم من أقسام الميسر والربا والجهالة. فمن تأمل المعاملات الشرعية رأى ارتباطها بصلاح الدين والدنيا ; وشهد لله بسعة الرحمة وتمام الحكمة.
جاء الإسلام بإباحة الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح وغيرها، فكل طيب نافع فقد أباحه الشارع من أصناف الحبوب والثمار ولحوم الحيوانات البحرية مطلقا والحيوانات البرية.
لم يمنع الإسلام منها إلا كل خبيث ضار على الدين أو العقل أو البدن أو المال، فما أباحه فإنه من إحسانه سبحانه ومحاسن دينه . وما منعه فإنه من إحسانه , حيث منعهم مما يضرهم , ومن محاسن دينه , حيث إن الحسن تابع للحكمة والمصلحة ومراعاة المضار .
الزواج من أكبر النعم ومن الضروريات، وأباح الإسلام للرجل أن ينكح ما طاب له من النساء مثنى وثلاث ورباع , لما في ذلك من مصلحة الطرفين ودفع ضرر الجانبين.
لم يبح للرجل الجمع بين أكثر من أربع زوجات لما يترتب على ذلك من الظلم وترك العدل , مع أنه حثه عند خوف الظلم وعدم القدرة على إقامة حدود الله في الزوجية , على الاقتصار على واحدة , حرصا على نيل هذا المقصود.
خشية عيشة كل طرف من الزوجين بلا تلاوم ولا توافق وللبقاء في ضنك الحال وشدة العسر شرع الله الطلاق فقال: { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته } [ سورة النساء : الآية 130 ] وهو من الضروريات.
نعم شرع الله ورسوله بين الخلق من الحقوق التي هي صلاح وخير وإحسان وعدل وقسط وترك للظلم وذلك كالحقوق التي أوجبها وشرعها للوالدين والأولاد والأقارب والجيران والأصحاب والمعاملين.
لكل واحد من الزوجين على الآخر حقوق ضروريات وكماليات , فيها من الخير وزوال الشر , ووجدت فيها من المنافع العامة والخاصة والألفة وتمام العشرة ما يشهدك أن هذه الشريعة كفيلة بسعادة الدارين . وترى فيها هذه الحقوق تجري مع الزمان والمكان والأحوال والعرف , وتراها محصلة للمصالح , حاصلا فيها التعاون التام على أمور الدين والدنيا جالبة للخواطر , مزيلة للبغضاء والشحناء . وهذه الجمل تعرف بالاستقراء والتتبع لها في مصادرها ومواردها.
قد وضعها الله بنفسه بحسب ما يعلمه من قرب النفع وما يحب العبد عادة أن يصل إليه ماله , وما أشار تعالى إلى حكمة ذلك بقوله : { لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا } [ سورة النساء : الآية 11 ] هو أولى ببره وفضله , مرتبا ذلك ترتيبا تشهد العقول الصحيحة بحسنه , وأنه لو وكل الأمر إلى آراء الناس وأهوائهم وإراداتهم لحصل بسبب ذلك من الخلل والاختلال وزوال الانتظام وسوء الاختيار ما يشبه الفوضى.
جعل الشارع للعبد أن يوصي بعد موته في جهات البر والتقوى بشيء من ماله فيما ينفعه لآخرته , وقيد ذلك بالثلث فأقل لغير وارث , لئلا تصير الأمور التي جعلها الله قياما للناس ملعبة يتلاعب بها قاصرو العقول والديانة عند انتقالهم من الدنيا .
الجرائم والتعدي على حقوق الله وحقوق عباده من أعظم الظلم الذي يخل بالنظام , ويختل به الدين والدنيا . فوضع الشارع للجرائم والتجرؤات حدودا تردع عن مواقعتها ; وتخفف من وطأتها , من القتل والقطع والجلد وأنواع التعزيرات .
الشرور لا يمكن أن تقاوم وتدفع دفعا كاملا إلا بالحدود الشرعية التي رتبها الشارع بحسب الجرائم قلة وكثرة وشدة وضعفا، وكلها فيها من المنافع والمصالح الخاصة والعامة ما يعرف به العاقل حسن الشريعة .
ما جاءت به الشريعة من الأمر بالحجر على الإنسان عن التصرف في ماله إذا كان تصرفه مضرا به أو بغيره . وذلك كالحجر على المجنون والصغير والسفيه ونحوهم , والحجر على الغريم لمصلحة غرمائه .
لما منعت الشريعة الإنسان من التصرف في ماله الذي كان في الأصل مطلق التصرف فيه , ولكن لما كان تصرفه ضرره أكثر من نفعه وشره أكبر من خيره حجر عليه الشارع حجرا للتصرفات في ميدان المصالح , وإرشادا للعباد أن يسعوا في كل تصرف نافع غير ضار .
جاءت الشريعة بالوثائق التي يتوثق بها أهل الحقوق . وذلك كالشهادة التي تستوفى بها الحقوق , وتمنع التجاحد , ويزول بها الارتياب , وكالرهن والضمان والكفالة التي إذا تعذر الاستيفاء ممن عليه الحق رجع صاحب الحق إلى الوثيقة التي يستوفى منها . ولا يخفى ما في ذلك من المنافع المتنوعة ; وحفظ الحقوق وتوسيع المعاملات وردها إلى القسط والعدل , وصلاح الأحوال , واستقامة المعاملات . فلولا الوثائق لتعطل القسم الأكبر من المعاملات , فإنها نافعة للمتوثق , نافعة لمن عليه الحق من وجوه متعددة معروفة .
القرض والعارية ونحوهما من الإحسان الذي يكسب صاحبه الأجر عند الله والمعروف عند الناس ; ثم يرجع إليه ماله بعينه أو بدله , فيكون مكسب هذا النوع أجل المكاسب دون أن يلحق صاحبه ضرر وذلك.
الإحسان بهذا إضافة إلى الأجر عند الله يتبعه من الخير والبركة وانشراح الصدر , وحصول الألفة والمودة بين الناس.
الأصول والقواعد التي جعلها الشارع أسسا لفصل الخصومات وحل المشاكل وترجيح أحد المتداعيين على الآخر أصول مبنية على العدل والبرهان , واطراد العرف وموافقة الفطر .
نعم، قد جعل الإسلام البينة على كل من ادعى شيئا أو حقا من الحقوق , فإذا أتى بالبينة التي ترجح جانبه وتقويه ثبت له الحق الذي ادعى به , ومتى لم يأت إلا بمجرد الدعوى حلف المدعى عليه على نفي الدعوى ولم يتوجه للمدعى عليه حق .
جعل الشارع البينات بحسب مراتب الأشياء وجعل القرائن المبينة والعرف المطرد بين الناس من البينات . فالبينة اسم جامع لكل ما يبين الحق ويدل عليه , وجعل عند الاشتباه وتساوي الخصمين طريق الصلح العادل المناسب لكل قضية طريقا إلى حل المشاكل والمنازعات . فكل طريق لا ظلم فيه ولا يدخل العباد في معصية الله , وهو نافع لهم , فقد حث عليه إذا كان وسيلة إلى فصل الخصومات وقطع المشاجرات .
لقد ساوى الإسلام بين القوي والضعيف, والرئيس والمرءوس في جميع الحقوق وأرضى الخصوم بسلوك طرق العدل وعدم الحيف والظلم .
س: ما أحسن الوسائل لتحقيق العدل والخير والصلاح ورقي الأمم؟
جاءت الشريعة بالأمر بالشورى والثناء على المؤمنين بأن جميع أمورهم الدينية والدنيوية الداخلية والخارجية شورى بينهم. وهذا الأصل الكبير قد جمع العقلاء على استحسانه , وعلى أنه هو السبب الوحيد في سلوك أصلح الأحوال وأحسن الوسائل لحصول المقاصد وإصابة الصواب , وسلوك طرق العدل , وأنه أرقى للأمم العاملة عليه في تحصيل كل خير وصلاح
لما كان المسلمون قد طبقوا هذا الأصل في صدر الإسلام على أمورهم الدينية والدنيوية كانت الأمور مستقيمة والأحوال في رقي وازدياد، فلما انحرفوا عن هذا الأصل ما زالوا في انحطاط في دينهم ودنياهم حتى وصلت بهم الحال إلى ما ترى . فلو راجعوا دينهم في هذا الأصل وغيره لأفلحوا ونجحوا.
نعم، وهذا الأصل في الكتاب والسنة منه شيء كثير , يحث الله ورسوله على القيام بالأمرين , وأن كل واحد منهما ممد للآخر ومعين عليه ; والله تعالى خلق الخلق لعبادته والقيام بحقوقه وأدر عليهم الأرزاق ونوع لهم أسباب الرزق وطرق المعيشة ليستعينوا بذلك على عبادته , وليكون ذلك قياما لداخليتهم وخارجيتهم . ولم يأمر بتغذية الروح وحدها وإهمال الجسد ; كما أنه نهى عن الاشتغال باللذات والشهوات وتقوية مصالح القلب والروح .
جعل الإسلام العلم والدين والولاية والحكم متآزرات متعاضدات . فالعلم والدين يقوم الولايات وتنبني عليه السلطة والأحكام , والولايات كلها مقيدة بالعلم والدين , الذي هو الحكمة , وهو الصراط المستقيم , وهو الصلاح والفلاح والنجاح , فحيث كان الدين والسلطة مقترنين متساعدين فإن الأمور تصلح والأحوال تستقيم , وحيث فصل أحدهما عن الآخر اختل النظام وفقد الصلاح والإصلاح ووقعت الفرقة وتباعدت القلوب وأخذ أمر الناس في الانحطاط.
العلوم مهما اتسعت والمعارف مهما تنوعت والاختراعات مهما عظمت وكثرت , فإنه لم يرد منها شيء ينافي ما دل عليه القرآن , ولا يناقض ما جاءت به الشريعة . فالشرع لا يأتي بما تحيله العقول وإنما يأتي بما تشهد العقول الصحيحة بحسنه أو بما لا يهتدي العقل إلى معرفته جملة أو تفصيلا .
من نظر إلى منبع هذا الدين , رأى كيف ألف جزيرة العرب على افتراق قلوبها وكثرة ضغائنها وتعاديها , وكيف ألفهم وجمع قاصيهم لدانيهم , وأزال تلك العداوات , وأحل الأخوة الإيمانية محلها . ثم اندفعوا في أقطار الأرض يفتحونها قطرا قطرا , وفي مقدمة هذه الأقطار أمة فارس والروم أقوى الأمم وأعظمها ملكا وأشدها قوة وأكثرها عددا وعددا , ففتحوهما وما وراءهما بفضل دينهم وقوة إيمانهم ونصر الله ومعونته لهم , حتى وصل الإسلام مشارق الأرض ومغاربها , فصار هذا يعد من آيات الله وبراهين دينه ومعجزات نبيه , وبهذا دخل الخلق فيه أفواجا ببصيرة وطمأنينة لا بقهر ولا إزعاج .
هذا الادعاء بأن انتشار الإسلام وفتوحه الخارقة للعادة مبني على أمور مادية محضة , حللوها بمزاعمهم الخاطئة . ويرجع تحليلها إلى ضعف دولة الأكاسرة ودولة الرومان وقوة المادة في العرب , وهذا مجرد تصوره كاف في إبطاله . فأي قوة في العرب تؤهلهم لمقاومة أدنى حكومة من الحكومات الصغيرة في ذلك الوقت ؟ فضلا عن الحكومات الكبيرة الضخمة , فضلا عن مقاومة أضخم الأمم في وقتها على الإطلاق وأقواها وأعظمها عددا وعدة في وقت واحد , حتى مزقوا الجميع كل ممزق , وحلت محل أحكام هؤلاء الملوك الجبابرة أحكام القرآن والدين العادلة , التي قبلها وتلقاها بالقبول كل منصف مريد للحق . فهل يمكن تفسير هذا الفتح المنتشر المتسع الأرجاء بتفوق العرب في الأمور المادية المحضة ؟ وإنما يتكلم بهذا من يريد القدح في الدين الإسلامي أو من راج عليهم كلام الأعداء من غير معرفة للحقائق.
يفسر بقاء هذا الدين على توالي النكبات وتكالب الأعداء عليه بأنه من آيات الله الدالة على أن هذا الدين دين الله الحق , فلو ساعدته قوة كافية ترد عنه عادية العادين وطغيان الطاغين لم يبق على وجه الأرض دين سواه ولقبله الخلق من غير إكراه ولا إلزام , لأنه دين الحق ودين الفطرة ودين الصلاح والإصلاح , لكن تقصير أهله وضعفهم وتفرقهم وضغط أعدائهم عليهم هو الذي أوقف سيره ; فلا حول ولا قوة إلا بالله.
دين الإسلام مبني على العقائد الصحيحة النافعة وعلى الأخلاق الكريمة المهذبة للأرواح والعقول , وعلى الأعمال المصلحة للأحوال , وعلى البراهين في أصوله وفروعه , وعلى نبذ الوثنيات والتعلق بالمخلوقين والمخلوقات وإخلاص الدين لله رب العالمين , وعلى نبذ الخرافات والخزعبلات المنافية للحس والعقل المحيرة للفكر , وعلى الصلاح المطلق , وعلى دفع كل شر وفساد , وعلى العدل ورفع الظلم بكل طريق , وعلى الحث على الرقي لأنواع الكمالات.
إن محاسن الإسلام يطول تفصيل تبيانها وما ذكرناه يحتوي على أصول وقواعد يعرف بها ما للإسلام من الكمال والعظمة والإصلاح الحقيقي لكل شيء.
تم بحمد الله وتوفيقه.