{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
قد أرسل الله سبحانه نبيه محمداً ﷺ رحمة للعالمين، ورسوله إلى الجن والإنس جميعا، كما قال تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]،
وقال سبحانه: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } [سبأ:28]، ومحمد ﷺ رحمة الله إلى العالمين بسبب رسالته، وطاعة أوامره، واجتناب مناهيه، فمن دخل في رسالته صارت الرحمة في حقه أكثر وأكمل، ودخل الجنة، ونجا من النار، بفضل الله ورحمته.
ومن لم يدخل في رسالته فقد قامت عليه الحجة، وانتفت المعذرة، وبهذا قد رُحِم من جهة بلاغه ومن جهة إنذاره، حتى لا يقول: ما جاءني بشير ولا نذير، وهذا نوع من الرحمة به.
وأما ما يحصل من الخير من الغيث والأمن بالعهود والمواثيق وأشباه ذلك من الخيرات تقع بأسباب هذه الرسالة لجميع الناس على اختلاف أديانهم، بل إن الرحمة في الإسلام تحصل حتى للحيوان، فالإسلام دين رحمة ورسول الله ﷺ رحمة للعالمين جميعًا.
وهذه الآيات التي نذكرها هنا مما خاطب الله فيها الناس كلهم على مر العصور في القرآن الكريم بقوله: ( يا أيها الناس ) وبلغت ثمان عشرة آية نقدمها للناس كافة مع تفسير مختصر لها، وأكثره من تفسير الشيخ السعدي رحمه الله والله الموفق.
كتبه: أ.د عاصم بن عبدالله القريوتي في 20 رجب، 1443 21.02.2022
نجد في القرآن الكريم ثمان عشرة آية فيها نداء من الله لكافة الناس بقوله: {يا أيها الناس}.
إنه نداء من الله لبني الإنسان على مر العصور وفي كل الديار، وهو دلالة على الاهتمام بمضمون الخطاب وأهميته، ولاسترعاء السمع بما يقال، وتنبيه المُنادَى على أمرٍ عظيمٍ يجدر به أن يكون على وعيٍ تام به، فناداه الرحمن الرحيم الذي هو أرحم بعبده من المرء نفسه، ليتنبه لنداء خالقه.
وكل ما أمر الله به الناس فهو خير لهم في الدنيا والآخرة، وكل ما طلب منهم اجتنابه فهو شر يلحقهم في الدارين، فهو أعلم بهم وبما ينفعهم ويضرهم.
أخيرا: طالما أن المُنادِي هو الله سبحانه خالقنا ورازقنا، أليس هذا النداء بحريٍّ أن نعتني به عناية تامة؟
أيليق بنا معشر الإنسان أن نُفرِّط بما يخاطبنا به ربنا المُنعِم المتفضل علينا؟
قال اللهُ تعالى:
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }سورة البقرة (21).
دعا الله سبحانه الذي أوجد الناس جميعا من العدم، وأوجد الذين من قبلكم، إلى عبادته وحده، وحقيقة العبادة الامتثال لأوامر الله، واجتناب نواهيه، وتصديق خبره، فأمرهم تعالى بما خلقهم له، كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} أي يعبدون الله عبادة خشوع وإخلاص، حتى كأنهم ينظرون إليه ويرونه، فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم، والله سبحانه هو الذي ربى الناس بأصناف النعم فخلقكم بعد العدم، وخلق الذين من قبلكم، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة الموجبة للعبادة والشكر.
وإذا عبدتم الله وحده، فقد اتقيتم بذلك سخطه وعذابه، لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك، وصرتم من المتقين، وحصلت لكم النجاة من عذاب الله وسخطه، وبهذا تتحقق لكم السعادة في الدارين.
وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة ما سواه، كما أن الإيمان بالربوبية على الوجه الصحيح يتضمن الإيمان بإفراد الله بالخلق والرزق والتدبير، ويستلزم الإقرار بأن الله لا شريك له في العبادة، وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري سبحانه.
وأخبر القرآن أن عبادة لله وحده هي دعوة الأنبياء جميعا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
قال اللهُ تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين}سورة البقرة اية168
هذا خطاب من الله للناس كلهم, أنه امتن عليهم بأن يأكلوا من جميع ما في الأرض، من حبوب, وثمار, وفواكه, وحيوانات إلا ما حرم منها تناوله، بأي وجه من الوجوه، أو معينا على محرم. على أن يكون ليس بخبيث, كالميتة والدم, ولحم الخنزير.
ولما أمرهم باتباع ما أمرهم به - إذ هو عين صلاحهم - نهاهم عن اتباع طرق الشيطان التي يأمر بها، وهي جميع المعاصي من كفر، وفسوق، وظلم، ويدخل في ذلك تناول المأكولات المحرمة، والشيطان ظاهر العداوة، فلا يريد بأمركم إلا غشكم، وأن تكونوا من أصحاب السعير، فلم يكتف ربنا بنهينا عن اتباع خطواته، حتى أخبرنا - وهو أصدق القائلين – بعداوات الشيطان الداعية للحذر منه، ثم لم يكتف بذلك، بل يأمر بأقبح الأشياء، وأعظمها مفسدة وبجميع المعاصي والقول على الله بلا علم، في شرعه، وقدره، فمن وصف الله بغير ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، أو نفى عنه ما أثبته لنفسه، أو أثبت له ما نفاه عن نفسه، فقد قال على الله بلا علم، ومن زعم أن لله ندا، وأوثانا، تقرب من عبدها من الله، فقد قال على الله بلا علم، ومن قال: إن الله أحل كذا، أو حرم كذا، أو أمر بكذا، أو نهى عن كذا، بغير بصيرة، فقد قال على الله بلا علم.
قال اللهُ تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[النساء:1]
افتتح الله تعالى هذه السورة مخاطبا الناس بالأمر بتقواه، والحث على عبادته، والأمر بصلة الأرحام، والحث على ذلك. لأن الله الَّذِي خَلَقَكنا ورزقنا ، وربانا بنعمه العظيمة، التي منها أنه خلقنا مِن نفس واحدة هي آدم عليه السلام، وخلق منها زوجها وهي حواء، ونشر منهما في أنحاء الأرض رجالا كثيرًا ونساء كثيرات، وتتم بذلك النعمة، ويحصل به السرور، وكذلك من الموجب الداعي لتقواه تساؤلكم به وتعظيمكم، حتى إنكم إذا أردتم قضاء حاجاتكم ومآربكم، توسلتم بـها بالسؤال بالله. وقرن الأمر بتقواه بالأمر ببر الأرحام والنهي عن قطيعتها، ليؤكد هذا الحق، وأنه كما يلزم القيام بحق الله، كذلك يجب القيام بحقوق الخلق، خصوصا الأقربين منهم،
وفي قوله تعالى: {وخلق مِنْهَا زَوْجَهَا } تنبيه على مراعاة حق الأزواج والزوجات والقيام به، لكون الزوجات مخلوقات من الأزواج، فبينهم وبينهن أقرب نسب وأشد اتصال، وأقرب علاقة.
والله مطلع على العباد في حال حركاتـهم وسكونـهم، وسرهم وعلنهم، وجميع أحوالهم، مراقبا لهم فيها مما يوجب مراقبته، وشدة الحياء منه، بلزوم تقواه.
قال اللهُ تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} النساء اية 170
يأمر الله تعالى جميع الناس أن يؤمنوا بعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء بالحق فمجيئه نفسه حق، وما جاء به من الشرع حق، فمجرد النظر في رسالته دليل قاطع على صحة نبوته. وكذلك النظر إلى ما جاء به من الشرع العظيم والصراط المستقيم. فإن فيه من الإخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة، والخبر عن الله وعن اليوم الآخر -ما لا يعرف إلا بالوحي والرسالة. وما فيه من الأمر بكل خير وصلاح، ورشد وعدل وإحسان، وصدق وبر وصلة وحسن خلق، ومن النهي عن الشر والفساد والبغي والظلم وسوء الخلق، والكذب والعقوق، مما يقطع به أنه من عند الله.
وأما مضرة عدم الإيمان به صلى الله عليه وسلم فيعرف بضد ما يترتب على الإيمان به. وأن العبد لا يضر إلا نفسه، والله تعالى غني عنه لا تضره معصية العاصين، لأن له سبحانه السَّمَاوَات وَالْأَرْضِ فالجميع خلقه وملكه، وتحت تدبيره وتصريفه وهو بكل شيء عليم وهو حَكِيم في خلقه وأمره. فهو العليم بمن يستحق الهداية والغواية، الحكيم في وضع الهداية والغواية موضعهما.
قال اللهُ تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا}
سورة النساءاية 174
أي قد جاءكم أيها الناس من ربكم برهان جلىّ يبين لكم حقيقة الإيمان به وبجميع ما أنتم فى حاجة إليه من أمر دينكم مؤيد بالدلائل والبينات، ألا وهو النبي الأمي الذي هو برهان على حقيقة ما جاء به بسيرته العملية، ودعوته التشريعية، قام به النبي على أتم وجه وأكمل طريق- وهو برهان على عناية الله به، وتأييده إياه بوحيه وهديه.
وأنزلنا إليكم بما أوحينا إليه كتابا هو كالنور فى الهداية للناس، مبينا لكل ما أنزل لبيانه من توحيد الله وربوبيته وهو المقصد الأعلى الذي بعث به جميع الرسل ليهديكم بها إلى الصراط المستقيم، والوصول إلى جنات النعيم .
وهذا القرآن قد اشتمل على علوم الأولين والآخرين والأخبار الصادقة النافعة، والأمر بكل عدل وإحسان وخير، والنهي عن كل ظلم وشر، فالناس في ظلمة إن لم يستضيئوا بأنواره، وفي شقاء عظيم إن لم يقتبسوا من خيره.
قال اللهُ تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} سورة الأعراف آية 158
قُلْ يا محمد لجميع الناس من عرب وعجم إني رسول الله إليكم كافة لا إلى قومي خاصة بأن الله سبحانه هو الذي له التصرف في السموات والأرض وتدبير العالم كله، فهو المعبود وحده لا إله إلا هو.
فآمنوا أيها الناس جميعا بالله الواحد في ربوبيته وألوهيته الذي يحيى كل ما تحلّه الحياة ويميت كل ما يعرض له الموت بعد الحياة، وهذا أمر مشاهد كل يوم.
وآمنوا برسوله النبي الأمي الذي بعثه في الأميين رسولا إلى الخلق أجمعين، يعلمهم الكتاب والحكمة ويطهرهم من خرافات الشرك والجهل والتفرق والتعادي ليكونوا بهدايته أمة واحدة يتحقق بها الإخاء البشرى العام، وقد بشر بهذا النبي الأنبياء صلوات الله عليهم، لأنه المتمم لما بعثوا به من هداية الناس.
وهذا النبي محمد يؤمن بتوحيد الله وكلماته التشريعية التي أنزلها لهداية خلقه على ألسنة رسله وهي مظهر علمه ورحمته، وكلماته التكوينية التي هي مظهر إرادته وقدرته وحكمته، وبعد أن أمرهم سبحانه بالإيمان أمرهم بأن يسلكوا طريقه، ويقتفوا أثره في كل ما يأتي وما يذر من أمور الدين رجاء اهتدائكم بالإيمان وباتباعه إلى ما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة .
قال اللهُ تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} سورة يونس 23.
لما أنجى الله الكافرين من الشدائد والأهوال استمروا بالفساد وبالمعاصي، خاطبهم الله لغفلتهم عن أنفسهم:
أما كفا كم بشرودكم عن الإخلاص لله، وبغيا على المستضعفين منكم اغترارا بقوتكم وكبريائكم، إنما بغيكم في الحقيقة على أنفسكم، لأن عاقبة وباله عائدة إليكم، وإنما تتمتعون ببغيكم متاع الحياة الدنيا الزائلة التي تنقضي سراعا، والعقاب باق، ثم إنكم ترجعون إلينا بعد هذا التمتع القليل فننبئكم بما كنتم تعملون من البغي والظلم والتمتع بالباطل ونجازيكم به. فلما أنجاهم الله من الشدائد والأهوال إذا هم يعملون في الأرض بالفساد وبالمعاصي.
يا أيها الناس إنما وَبالُ بغيكم راجع على أنفسكم، لكم متاع في الحياة الدنيا الزائلة، ثم إلينا مصيركم ومرجعكم، فنخبركم بجميع أعمالكم، ونحاسبكم عليها.
قال اللهُ تعالى:
}يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } سورة يونس57
قل للناس أيها الرسول: قد جاءكم كتاب جامع لكل ما تحتاجون إليه من الموعظة الحسنة بذكر ما يرقّ له القلب فيبعثه على فعل ما أمر الله وترك ما نهى الله عنه، وهو الشفاء لما في القلوب من أدواء الشرك والنفاق وسائر الأمراض التي يشعر من أحبّها بضيق الصدر كالشك في الإيمان والبغي والعدوان وحب الظلم وبغض الحق والخير.
وفي القرآن الهدى إلى طريق الحق واليقين والبعد من الضلال في الاعتقاد والعمل، وهو رحمة للمؤمنين وهي ما تثمر لهم هداية القرآن وتفيضه على قلوبهم، ومن آثارها بذل المعروف وإغاثة الملهوف وكف الظلم ومنع التعدي والبغي.
و القرآن ﴿ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النمل: 2]،
و ﴿ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ﴾ [لقمان: 3]،
و ﴿ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [غافر: 54]،
و ﴿ َهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 102].
مَن اهتدى بالقرآن في أيِّ مجال مِن مجالات الدنيا والآخرة، فإنه يُهْدى للأصْوَب والأقْوم والأحْسن.
وجاء وصفُ القرآن بالهداية وخُصَّ به المؤمنون أو المتقون أو المحسنون؛ لأنهم قبلوا هداه، وعملوا بمقتضاه، وإلا فالقرآن هدًى للناس جميعًا، لكن الكفَّار والمنافقين استبدلوا به غيرَه في الاهتداء، فلم ينتفعوا باطلاعهم عليه، ولا بقراءتهم لآياته؛ ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ [فصلت: 44].
.
قال اللهُ تعالى:
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } سورة يونس{104}
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، سيد المرسلين، وإمام المتقين وخير الموقنين أن يقول للناس إِنْ كُنْتُمْ في ريب واشتباه في ديني، الذي أدعوكم إليه ولم يتبين لكم أنه الحق، فاسمعوا وصفه، واعرضوه على عقولكم، وانظروا فيه، لتعلموا أنه لا مدخل فيه للشك، بل لدي العلم اليقيني أنه الحق، وأن ما تدعون من دون الله باطل، ولي على ذلك، الأدلة الواضحة، والبراهين الساطعة.
وأني لا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأنداد، والأصنام وغيرها، لأنها لا تخلق ولا ترزق، ولا تدبر شيئًا من الأمور، وإنما هي مخلوقة مسخرة، ليس فيها ما يقتضي عبادتها.
وَلَكِنْي أَعْبُدُ اللَّهَ الذي خلقكم، وهو الذي يميتكم، ثم يبعثكم، ليجازيكم بأعمالكم، فهو الذي يستحق أن يعبد، ويصلى له ويخضع ويسجد، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
قال اللهُ تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} سورة يونس آية 108
قل لهم أيها الرسول مخاطبا جميع الناس، من حضر منهم فسمع هذه الدعوة منك ومن ستبلغه عنك: قد جاءكم من ربكم هذا القرآن الصادق المؤيد بالبراهين، الذي لا شك فيه بوجه من الوجوه، وهو الحق المبيّن لحقيقة هذا الدين، وقد أوحى به إلى رجل منكم، وفيه تبيان لكل شيء من أنواع الأحكام والمطالب الإلهية والأخلاق المرضية، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فَمَنِ اهْتَدَى بهدى الله بأن علم الحق وتفهمه، وآثره على غيره فلِنَفْسِهِ وإنما ثمرة أعمالهم راجعة إليه، لأنه يفوز بالسعادة في دنياه ودينه، وذلك إنما يكون بعمله لا بعمل غيره.
وأما من اعوجّ عن الحق الذي أتاه من عند الله وأعرض عن كتابه وعن آياته في الأنفس والآفاق، فإنما وبال ضلاله على نفسه، بما يفوته من فوائد الاهتداء في الدنيا، وما يصيبه من العذاب على كفره وجرائمه في الآخرة.
وما أنا بموكّل من عند الله بأموركم، ولا بمسيطر عليكم، فأكرهكم على الإيمان، وأمنعكم بقوتي من الكفر والعصيان، ولا أملك لكم ضرا ولا نفعا، وما أنا إلا رسول مبلغ إليكم أمر ربكم، بشير لمن اهتدى، ونذير لمن ضل وغوى، ولست الذي أحفظ أعمالكم وأحاسبكم عليها، فانظروا لأنفسكم، ما دمتم في مدة الإمهال.
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } سورة الحج:1
يخاطب الله سبحانه الناس كافة، بأن يتقوا ربهم، الذي رباهم بالنعم الظاهرة والباطنة، بأن يحذروا عقاب ربهم، فعليكم أن تطيعوه ولا تعصوه، بفعل ما أمركم به من الواجبات، وترك الشرك والفسوق وسائر المحرمات.
ثم ذكر ما يعينهم على التقوى، ويحذرهم من تركها، وهو الإخبار بأهوال القيامة، الذي لا يقدر قدره، ولا يبلغ كنهه، ذلك بأنها إذا وقعت الساعة، رجفت الأرض وارتجت، وزلزلت زلزالها، وتصدعت الجبال واندكت، وذلك اليوم تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ مع أنها مجبولة على شدة محبتها لولدها، خصوصا في هذه الحال، التي لا يعيش إلا بها، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا من شدة الفزع والهول، وتحسبهم سكارى من الخمر وليسوا سكارى، وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ، قد أذهب عقولهم، وفرغ قلوبهم.
قال اللهُ تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بهيج} سورة الحج آية5
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شك واشتباه، وعدم علم بوقوع البعث، مع أن الواجب عليكم أن تصدقوا ربكم، وتصدقوا رسله في ذلك، ولكن إذا أبيتم إلا الريب، فهاكم دليلين عقليين تشاهدونهما، كل واحد منهما، يدل دلالة قطعية على ما شككتم فيه، ويزيل عن قلوبكم الريب.
أحدهما: الاستدلال بابتداء خلق الإنسان، وأن الذي ابتدأه سيعيده، وذلك بخلقه من تراب،
ثُمَّ من مَنِيٍّ، وهذا ابتداء أول التخليق، ثُمَّ تنقلب تلك النطفة، بإذن الله دما أحمر، ينتقل الدم قطعة لحم، بقدر ما يمضغ، وتلك المضغة تارة تكون مصورا منها خلق الآدمي، وتارة، بأن تقذفها الأرحام قبل تخليقها.
وهذا ليبين الله أصل نشأتكم، مع قدرته تعالى، على تكميل خلقه في لحظة واحدة، ولكن ليبين لكم كمال حكمته، وعظيم قدرته، وسعة رحمته.
و نبقي في الأرحام من الحمل، الذي لم تقذفه الأرحام، ما نشاء إبقاءه إلى أجل مسمى، وهو مدة الحمل. ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ من بطون أمهاتكم طِفْلًا لا تعلمون شيئا، وليس لكم قدرة، وسخرنا لكم الأمهات، وأجرينا لكم في ثديها الرزق، ثم تنتقلون طورا بعد طور، حتى تبلغوا أشدكم، وهو كمال القوة والعقل.
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى من قبل أن يبلغ سن الأشد، ومنكم من يتجاوزه فيرد إلى أخس العمر وأرذله، وهو سن الهرم والتخريف، الذي به يزول العقل، ويضمحل، كما زالت باقي القوة، وضعفت.
وهذا لأجل أن لا يعلم هذا المعمر شيئا مما كان يعلمه قبل ذلك، وذلك لضعف عقله، فقوة الآدمي محفوفة بضعفين، ضعف الطفولية ونقصها، وضعف الهرم ونقصه.
والدليل الثاني، إحياء الأرض بعد موتها، وَتَرَى الْأَرْضَ خاشعة مغبرة لا نبات فيها، ولا خضر، فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ تحركت بالنبات ارتفعت بعد خشوعها وذلك لزيادة نباتها، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ صنف من أصناف النبات يبهج الناظرين، ويسر المتأملين، فهذان الدليلان قاطعان لا يحتملان الشك والريب.
قال اللهُ تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} سورة الحج آية 73
بعد أن ذكر الله ما سلف عن عبادة غير الله بلا حجة لهم عليه من الوحى، ولا دليل عليه من العقل- ذكر هنا ما يدل على إبطاله ويؤكد جهلهم بمقام الألوهية، فضرب لهم مثلا أنه لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأوثان على أن يخلقوا ذبابة واحدة على صغر حجمها وحقارة شأنها ما قدروا وما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
بل ذكر الله أشد من ذلك أنه لو يسلب الذباب الآلهة والأوثان شيئا مما عليها من طيب وما أشبهه- لا تستنقذ ذلك منه على ضعفه لعجزهم وعجز آلهتهم، وهذا إيماء إلى أنهم قد بلغوا غاية الجهالة، وأشركوا بالله القادر على كل شيء
هذا مثل ضربه الله لجميع الناس لبيان قبح عبادة الأوثان، ونقصان عقول من عبدها، وضعف الجميع، فقال: ليزداد المؤمنون علما وبصيرة، والكافرون تقوم عليهم الحجة، فألقوا إليه أسماعكم، وتفهموا ما احتوى عليه، ولا يصادف منكم قلوبا لاهية، وأسماعا معرضة، بل ألقوا إليه القلوب والأسماع.
والقرآن الكريم يذكر الأمثال لإبراز للمعاني المقصودة في قالب الأشياء المحسوسة لتأنس بها النفس وتستنزل الوهم عن معارضة العقل، والحكيم علام الغيوب يعلم حكمة هذا، فلا يترك ضرب المثل بالبعوضة وما دونها حين تدعو المصلحة إلى ذلك.
قال الله تعالى:
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}
سورة لقمان آية33
يأمر تعالى الناس جميعا بامتثال أوامره، وترك زواجره، ويستلفتهم لخشية يوم القيامة، اليوم الشديد الذي لا يهم كل أحد إلا نفسه فلا يغني فيه والد عن ولده ولا مولود عن أبيه شيئًا، ولا يزيد في حسناته ولا ينقص من سيئاته، لأن الأمور كلها بيد من لا يغالب، ومن لا تنفع عنده الشفاعة والوسائل التي تنفع في الدنيا، بل لا تجدى عنده إلا وسيلة واحدة، وهي العمل الصالح الذي قدمه المرء في حياته الأولى.
واعلموا أن مجيء هذا اليوم حق، لأن الله قد وعد به، ولا خلف لوعده، وحذرهم من أن ينخدعوا بزينة هذه الحياة ولذاتها، فتميلوا إليها وتدّعوا الاستعداد لما فيه خلاصكم من عقاب الله في ذلك اليوم.
وأن لا تنخدعوا بالشيطان، فيحملنّكم على المعاصي بتزيينها لكم، ثم إرجاء التوبة إلى ما بعد ذلك، ثم هو ينسينكم ذلك اليوم.
قال اللهُ تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} سورة فاطر آية3
يأمر الله تعالى، جميع الناس أن يذكروا نعمته عليهم، بالقلب اعترافا، وباللسان ثناء، وبالجوارح انقيادا، فإن ذكر نعمه تعالى داع لشكره، ثم نبههم على أصول النعم، وهي الخلق والرزق، فهو الذي بيده أرزاقكم وأقواتكم، وهذا دليل على ألوهيته وعبوديته.
فإلى أي وجه تصرفون عن عبادة الله الواحد الأحد الرازق خالق جميع الأشياء لا إله غيره ولا رب سواه لعبادة المخلوق ؟
وكيف تنقلبون عن عبادته، والإيمان به وحده، مع قيام البرهان الساطع، والدليل الواضح، وتعبدون غيره من الأصنام التي لا تخلق شيئا وهي مخلوقة منحوتة بأيديكم؟
قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُور}ُ سورة فاطر: آية 5
يخاطب الله الناس بأِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث والجزاء على الأعمال حَقٌّ لا شك فيه، ولا مرية، ولا تردد، قد دلت على ذلك الأدلة السمعية والبراهين العقلية، فإذا كان وعده حقا، فتهيئوا له، وبادروا أوقاتكم الشريفة بالأعمال الصالحة، ولا يقطعكم عن ذلك قاطع، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا بلذاتها وشهواتها ومطالبها النفسية، فتلهيكم عما خلقتم له.
كما لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الشَّيْطَانُ الذي هو عدوكم في الحقيقة ولتكن منكم عداوته على بال، ولا تهملوا محاربته كل وقت، فإنه يراكم وأنتم لا ترونه، وهو دائما لكم بالمرصاد، لأن غايته ومقصوده ممن تبعه، أن يهان غاية الإهانة بالعذاب الشديد.
قال الله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النّاسُ أَنتُمُ الفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَميدُ﴾ [فاطر: ١٥].
يخاطب تعالى جميع الناس، ويخبرهم بحالهم ووصفهم، وأنهم فقراء إلى الله في إيجادهم، فلولا إيجاده إياهم، لم يوجدوا، وفقراء في إعدادهم بالقوى والأعضاء والجوارح، التي لولا إعداده إياهم بها ، لما استعدوا لأي عمل كان.
وفقراء في إمدادهم بالأقوات والأرزاق والنعم الظاهرة والباطنة، فلولا فضله وإحسانه وتيسيره الأمور، لما حصل لهم من الرزق والنعم شيء.
وفقراء في صرف النقم عنهم، ودفع المكاره، وإزالة الكروب والشدائد. فلولا دفعه عنهم، وتفريجه لكرباتهم، وإزالته لعسرهم، لاستمرت عليهم المكاره والشدائد.
وفقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية، وأجناس التدبير.
وفقراء إليه، في تألههم له، وحبهم له، وتعبدهم، وإخلاص العبادة له تعالى، فلو لم يوفقهم لذلك، لهلكوا، وفسدت أرواحهم، وقلوبهم وأحوالهم.
وفقراء إليه، في تعليمهم ما لا يعلمون، وعملهم بما يصلحهم، فلولا تعليمه، لم يتعلموا، ولولا توفيقه، لم يصلحوا.
فهم فقراء إليه، بكل معنى، وبكل اعتبار، سواء شعروا ببعض أنواع الفقر أم لم يشعروا، ولكن الموفق منهم، الذي لا يزال يشاهد فقره في كل حال من أمور دينه ودنياه، ويتضرع له، ويسأله أن لا يكله إلى نفسه طرفة عين، وأن يعينه على جميع أموره، ويستصحب هذا المعنى في كل وقت، فهذا أحرى بالإعانة التامة من ربه وإلهه، الذي هو أرحم به من الوالدة بولدها.
وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ أي: الذي له الغنى التام من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق، وذلك لكمال صفاته، وكونها كلها، صفات كمال، ونعوت وجلال، ومن غناه تعالى، أن أغنى الخلق في الدنيا والآخرة، كما أنه الحميد في ذاته، وأسمائه، لأنها حسنى، وأوصافه، لكونها عليا، وأفعاله لأنها فضل وإحسان وعدل وحكمة ورحمة، وفي أوامره ونواهيه، فهو الحميد على ما فيه، وعلى ما منه، وهو الحميد في غناه الغني في حمده .
قال اللهُ تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} سورة الحجرات آية13
يخبر الله تعالى الناس كلهم بأنه خلق بني آد، من أصل واحد، وجنس واحد، وكلهم من ذكر وأنثى، ويرجعون جميعهم إلى آدم وحواء، وربهم واحد.
وجعلهم الله شعوبًا وقبائل صغارًا وكبارًا، وذلك لأجل أن يتعارفوا، فإنهم لو استقل كل واحد منهم بنفسه، لم يحصل بذلك التعارف الذي يترتب عليه التناصر والتعاون، والتوارث، والقيام بحقوق الأقارب، وجعلهم الله شعوبًا وقبائل، لأجل أن تحصل هذه الأمور وغيرها، مما يتوقف على التعارف، ولحوق الأنساب.
ثم بين أن الكرم والتفاضل بينهم لا يكون لقبيلة على أخرى، ولا شعب على آخر، إذ لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود، ولا للانتساب لدولة على أخرى، إذ إنما أكرمهم عند الله أتقاهم، وهو أكثرهم طاعة وانكفافًا عن المعاصي، لا أكثرهم قرابة وقومًا، ولا أشرفهم نسبًا.
والله تعالى عليم خبير، يعلم من يقوم منهم بتقوى الله ظاهرًا وباطنًا، فاجعلوا التقوى زادكم لدى معادكم.
انتهى ولله الحمد