إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى، وراقِبوه في السر والنجوى.
أيها المسلمون:
اقتضت رحمةُ العزيز الرحيم أن بعث الرسل به مُعرِّفين وإليه داعين، وكان الناس قبل البعثة في غشاوة وضلال؛ فعبدوا الأصنام والأوثان، وامتدّ أثرها إلى بيوتهم فوأَدوا البنات، وعاشوا في وَجَلٍ نفسيٍّ بسبب بُعْدهم عن الله، فأصبحوا بأزمانٍ وطيورٍ يتشاءمون.
وصف أبو رجاء العطاردي حالهم بقوله: «كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرًا خيرًا منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرًا جمعنا جثوةً من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه»؛ رواه البخاري.
فسئِمُوا من عباداتهم الباطلة وعاداتهم المقيتة فكانوا يتحيَّنون بعثة رسول بَشَّر به عيسى ابن مريم ينقذهم مما هم فيه: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} [فاطر: 42 ]، فاصطفى الله رجلًا منهم هو خيرُهم نسبًا، وأرجحُهم عقلًا، وأكملهم صفاتٍ، نشأ على الصدق والأمانة والعفاف، عرف قومُه حميدَ صفاته قبل بعثته، قال - عز وجل -: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [المؤمنون: 69 ].
وعظَّم الله شأنه ورفع ذكره، وغفر ذنبه، وحفظه وصانه، وخصَّه بالمقام المحمود وبالكوثر، وعُرِج به إلى السماء إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام، وكلَّمه من غير واسطة، وسخَّر معه الملائكة فقاتلوا معه في (حنين) و(الأحزاب)، وكان الله وملائكته معه في بدر: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال: 12 ]، وأخذ الله الميثاق على الرسل أنهم إن أدركوا محمدًا ليتبعُنّه، والجنُّ فرحت بدعوته وأمر بعضهم بعضًا باتباعه.
ولما قدِم المدينة قال البراء بن عازب - رضي الله عنه -: «فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرَحهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى خرج الصبيان يقولون: قدم رسول الله».
لاقَى المحن وقاسى الشدائد في نشر الدين، حُوصِر في الشِّعب وأخرج من بلده، وكُسِرت رباعِيَّته، وشُجَّ في وجهه وسال الدم منه، وقتل أصحابه ومكر به المشركون ليقتلوه، واجتمعوا عليه في الأحزاب, وكان يقول: «لقد أُوذِيت في الله وما يؤذَى أحد، ولقد أُخِفتُ في الله وما يخاف أحد» حديثُه وحيٌ، ومِزاحُه حقٌّ، قيل: يا رسول الله! إنك تُداعِبنا، فقال: «أجل! ولكن لا أقول إلا حقًّا».
باتباعه يُنالُ الهدى والفلاح، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إني قد تركتُ فيكم شيئين لن تضِلُّوا بعدهما: كتابَ الله وسنتي»؛ رواه مسلم.
قال الإمام مالك - رحمه الله -: «السنة مثل سفينة نوح؛ من رَكِبَها نجا، ومن تخلَّف عنها هَلَكَ، ومن لم يتّبعه ندِم».
قال - جل شأنه -: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان: 27 ].
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: «وكلما كان الرجل أتبع لمحمد - صلى الله عليه وسلم - كان أعظم توحيدًا لله وإخلاصًا في الدين، وإذا بعُد عن متابعته نقص من دينه بحسب ذلك»، وليس لأحد تشريع بعده؛ قال - سبحانه -: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36 ].
قال ابن كثير - رحمه الله -: «تُوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قُبِل، وما خالفه فهو مردودٌ على قائله».
والصحابة - رضي الله عنهم - عرفوا قدْر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجَلُّوه وعظَّمُوه وأحَبُّوه، قال عروة بن الزبير - رضي الله عنه -: «إذا أمَرهُم ابتَدَرُوا أمْرَه، وإذا تَكلَّم خفضُوا أصواتَهم عندَه، وما يُمِدُّون النظرَ إليه تعظيمًا له»؛ رواه البخاري.
وكانوا يُنصِتُون إلى حديثه يستلهِمُون الهدى منه؛ قال أبو سعيد الخدريُّ - رضي الله عنه -: «إذا تكلَّم سكت الناس كأن على رؤوسِهم الطير»، ويمتثَّلون أوامره؛ قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: «إني لا أترُكُ شيئًا من أمره؛ فإني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ».
وأكمل الله شرعه من جميع الوجوه؛ قال - جل شأنه -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3 ]، ومن وصاياه - عليه الصلاة والسلام -: «عليكُمْ بسُنَّتي»؛ رواه الترمذي.
قال أبو ذر - رضي الله عنه -: «تُوُفِّي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وما من طائرٍ يقلِّبُ جناحَيْه في السماء إلا ذَكَرَ لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - منه شيئًا».
وبعد وفاته - عليه الصلاة والسلام - رحل الصحابة في الأوطان لجمع ما فاتهم منها؛ قال جابر - رضي الله عنه-: «بلغني عن رجلٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثٌ سمِعَه من النبي - صلى الله عليه وسلم - فاشتريتُ بعيرًا، ثم شدَدتُ رحلي فسِرتُ إليه شهرًا حتى قدِمتُ الشام، فأخذتُ منه الحديث».
وتوالَى العلماء على حِفظ سنَّته، وتأصيل الأصول والقواعد لها، وجمع المجاميع والمسانيد، والسنن والآثار، وكتب الجرح والتعديل، لاقَوْا في ذلك الشدائد والأخطار، وسطروا للتاريخ العجب في الصبر والجلد؛ قال ابن الجوزي - رحمه الله -: «طاف الإمام أحمد - رحمه الله - الدنيا سنين حتى جمع المسند، ورحل بقيُّ بن مخلد من الأندلس إلى بغداد على قدميه؛ حتى يسمع الحديث من الإمام أحمد».
ومن قدَّم عقلَه وهواه على سنته ضلَّ، وما أفسد الأمةَ إلا تأويلُ النصوص والطعنُ فيها، وكان الصحابة - رضي الله عنهم - مع رجحان عقولهم وفهومهم للنصوص يُقدِّمون الاتباع والإذعان على آرائهم؛ قبَّل عمر - رضي الله عنه - الحجر الأسود، وقال: «إني لأعلم أنك حجرٌ لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقبِّلُك ما قبَّلتُك»، وقال علي - رضي الله عنه -: «لو كان الدين بالرأي لكان أسفلُ الخُفِّ أولى بالمسح من أعلاه».
قال ابن القيم - رحمه الله -: «ومن الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يُسْتشكلَ قولُه؛ بل تُستشكَل الآراء لقوله، ولا يُعارَض نصُّه بقياس؛ بل تُهدَر الأقيِسة وتُلقَى لنصوصه، ولا يُحرَّف كلامه عن حقيقته لخيال يُسمِّيه أصحابُه: المعقول، ولا يُوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد، ومن خالف أمره توعَّدَه الله بمصيبةٍ أو عذابٍ؛ قال - جل شأنه -: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63 ].
ودينه - عليه الصلاة والسلام - متينٌ، من طَعَنَ فيه أو لَمَزَ شيئًا منه أو سخِر منه هلك؛ قال - جل شأنه -: {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66 ].
وفي مواطن إلقاء الشبهات يكون التمسُّك بالسنة ألزَم، واتباعُها أوجَب؛ قال ابن حجر - رحمه الله -: «لا يُلتَفَت إلى الآراء - ولو قوِيَت - مع وجود سنة تخالفها».
فالواجب على العبد تقديمُ الوحي على العقل، وتعظيم سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في النفوس، وتلقِّيها بالقبول والرضا، وكمال التسليم والانقياد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20 ].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون:
حفِظَ الله سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ووصلت إلينا شريعةً بيضاءَ غرَّاء، قال - عليه الصلاة والسلام -: «تركْتكُم على مثلِ البيضاءِ ليلُها كنهارِها لا يزيغُ عنها إلا هالك»؛ رواه ابن أبي عاصم.
والفلاحُ بالعمل بوصيته - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسَّكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ»؛ رواه الترمذي.
قال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: «عليك بلُزوم السنة؛ فإنها لك - بإذن الله – عصمة».
وتعظيم سنته - عليه الصلاة والسلام - تقتضي التسليم وعدم طلب الهدى من غير طريقه، وحسن الاتباع فيما بلَّغه عن ربه، ولا سعادةَ للعباد ولا هداية ولا نجاة في الدنيا والآخرة إلا بتعظيم كتاب الله وسنة نبيه - عليه الصلاة والسلام - اعتقادًا وقولًا وعملًا.
وحقُّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته: إبلاغُ رسالته للناس على وفْق ما جاء به؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «بلِّغوا عني ولو آيةً»؛ رواه البخاري.
فاجتهِدوا في طاعة ربكم وإبلاغ سنة نبيكم - عليه الصلاة والسلام - والاهتداء بخير الهُدَى هَدْيه - صلى الله عليه وسلم -.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: {إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56 ].
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدلون: أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنَّا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعلِ اللهم هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائرَ بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك الاتباع، ونعوذ بك اللهم من الابتداع، اللهم وفِّقنا لما تحبه وترضاه يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك التوفيق والسعادة في الدنيا والآخرة، اللهم ألهِمنا الصواب ووفِّقنا للحق، وجنِّبنا الهوى والفتن يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفِّق إمامنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، ووفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله:
{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90 ].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكرْكم، واشكروه على آلائه ونعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.