صحيح السيرة النبوية ()

إبراهيم محمد العلي

صحيح السيرة النبوية : كتابٌ جامعٌ للسيرة النبويةِ المُشرَّفة، مُرتَّبٌ حسب الوقائع والأحداث، اقتصرَ فيه مؤلِّفُه على الأحاديث الصحيحة، ومذيل بفهارس سهلة.

|

 صحيح السيرة النبوية

«مؤلف جامع للسيرة النبوية المشرفة، مرتب حسب الوقائع والأحداث اقتصر فيه مؤلفه على الأحاديث الصحيحة، مذيل بفارس سهلة» تأليف إبراهيم العلي تقديم د. عمر سليمان الأشقر راجعه د. همام سعيد دار النفائس

(/)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(1/2)


صحيح السيرة النبوية

(1/3)


الطبعة الأولى 1415 هـ - 1995 م حقوق الطبع محفوظة دار النفائس للنشر والتوزيع العبدلي - مقابل عمارة جوهرة القدس هاتف: 693940 - فاكس: 693941 ص. ب: 211511 عمان 11121 الأردن

(1/4)


ددد لو الأخ اللي راجع الكتاب كان حد اشتكى منه قبل كده في التقفيل بالنسبة للترميز ابقى نبه عليه تاني ميبقاش بخيل ويرمز على طول أي حاجة في وشه إحنا نتفحت في التفريع مش إشكال الكتاب مش هيأخر في التفريع زي الترميز من الأول البوك كان جاي 162 عنوان، بعد الترميز المفصل عدوا الـ 700 ددد كلمة مقدم الكتاب د. عمر سليمان الأشقر الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من سار على دربه واتبع هداه، وبعد: فقد فاجأني الشيخ إبراهيم العلي كثيرًا وسرني كثيرًا عندما أخبرني أنّه أنهى مشروعه في جمع صحيح السيرة النبوية من كتب السنة النبوية. وكان عظم المفاجأة وعظيم السرور لأن إتمام مشروع صحيح السيرة كان أملًا لطلبة العلم والعلماء، فإن السيرة النبوية الينبوع الثرّ الذي تستقي منه الأجيال، وتتربى عليه، وتستلهم منه الهداية والرشد، ويعتمد عليه العلماء والدعاة والوعاظ. وطالما هششنا وفرحنا عندما كان يبلغنا أن فلانًا من أهل العلم عازم على إخراج هذا العمل والقيام به، أو أن فلانًا بدأ هذا العمل ومضى فيه، ولكن مضى وقت طويل قبل أن يتحقق الأمل، ويخرج هذا العمل إلى حيز الوجود، وفي حدود علمي فإن باحثًا واحدًا من المعاصرين سبق الشيخ إبراهيم العلي إلى مثل عمله الذي تقدم له. إن كتب السنة النبوية تحوي كمًّا هائلًا من سيرة المصطفى، والمعلومات المبثوثة في كتب السنة تمتاز بالدقة والوضوح، وقد استطاع الباحث في هذا المؤلف أن يجمع شتات هذا الكم الكبير من مرويات السيرة النبوية، كما نجح في التأليف بين هذه المرويات بتقسيمها إلى موضوعات متناسقة، والميزة الكبرى لهذا المؤلف أنه

(1/5)


اقتصر فيه على الصحيح من الروايات، وابتعد عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة، التي جعلت بعض أحداث السيرة شبيهة بالخرافة والأسطورة. إن تنقية السيرة مما شابها واجب كفائي مناط بالعلماء، فالمسلمون كانوا وما يزالون يرجعون إلى كتب السير، وفيها الصحيح والضعيف والموضوع، ويأخذون تلك الروايات أخذ المصدق بها المذعن لها، ونتج عن هذا أن ينسب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقله ولم يفعله، ولم يحدث في زمانه. وانتشرت روايات السيرة التي ضمتها كتب السيرة صحيحة وضعيفة في مؤلفات العلماء، وحدث بها الدعاة والوعاظ، واستدل بها العوام وطلبة العلم، وكل هذا أحدث خللًا كبيرًا عند هؤلاء جميعًا، ومن هنا كانت الحاجة كبيرة وملحة لتنقية السيرة مما شابها، تصحيحًا للمسار، ونصحًا لله ولرسوله والمؤمنين، وإعانة للعلماء وطلبة العلم والدعاة والوعاظ، فجزى الله المؤلف خير جزائه، وأثابه على حسن صنيعه، ووفقه في طبعات قادمة إلى أن يستكمل ما فاته من صحيح الروايات، وتسديد ما لم يصب فيه، فالنقص من طبيعة البشر، وسعي المرء إلى بلوغ الكمال هو المقدور المستطاع. وقد أذن لي المؤلف جزاه الله خيرًا في إجراء ما أراه مناسبًا، فقسمت موضوعات الكتاب إلى أواب وفصول ومباحث وعدلت في العناوين التي وضعها المؤلف وصوبت الأخطاء التي وقعت عليها العين وأدركها العقل، خدمة لكتاب يبحث في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ولا يفوتني في هذه المقدمة أن أنوه بباعث الفكرة وغارسها وراعيها حتى أينعت وأثمرت، فضيلة الشيخ الدكتور همام سعيد، فالدال على الخير كفاعله. نفع الله بهذا السفر عباده في كل مكان، والحمد لله رب العالمين. د. عمر سليمان الأشقر كلية الشريعة- الجامعة الأردنية عمان- الأردن

(1/6)


كلمة مراجع الكتاب إن الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد: فقد جاء كتاب صحيح السيرة النبوية ثمرة معاناة يشعر بها دارس السيرة النبوية ومدرسها عندما يرواح بين منهجين: منهج المؤرخين ورواة السير، ومنهج المحدثين. فقد عرف عن المؤرخين وأصحاب السير التساهل في الرواية حيث يذكرون الأخبار الضعيفة والمنقطعة، مراعاة لإكمال الصورة التاريخية المتصلة الأحداث، بينما اتبع المحدثون منهج النقد الذي يميز الروايات الصحيحة من غيرها، ولو أدى الأمر إلى بتر الصورة التاريخية، وإن سلم منها أجزاء غير مكتملة. وكنت أتمنى أن أجد الوقت لاستقراء كتب الحديث وجمع مرويات السيرة فيها، وترتيبها على نسق كتب السير وفق التتابع الزمني. ولقد نقلت هذه الفكرة إلى تلميذي وأخي الشيخ إبراهيم العلي، الذي صحبني سنوات عديدة صحبة الباحث الشغوف بطلب العلم، وكان يعرض عليّ إنجازه في

(1/7)


هذا المضمار، وكان حفظه الله يستجيب للملاحظات والإضافات، فجاء هذا الجهد بعد سنوات طوال من العمل والجهد والمثابرة، فجمع الشوارد من أخبار السيرة مع ذكر الأحكام الحديثية على كثير من هذه الأحاديث، وبيان غريبها، ويمكنني القول بأن هذا الجهد سيكون إحدى البدايات المهمة في كتابة السيرة من وجهة نظر المحدثين. أسأل الله تعالى أن يجعل هذا الجهد جهدًا خالصًا لوجهه، وأن يكون نافعًا لطلاب العلم، وأن ينفع صاحبه وقارئه. والحمد لله رب العالمين الدكتور همام عبد الرحيم سعيد أستاذ الحديث في كلية الشريعة بالجامعة الأردنية سابقًا

(1/8)


مقدمة المحقق إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد؛ فالتاريخ الإسلامي يتميز بميزة خاصة عن بقية تاريخ الأمم، إذ أن كل شيء مهما بلغ من شأن يظل دائما مرتبطا بنقطة البداية التي انطلق منها أولًا. ونقطة البداية في التاريخ الإِسلامي مرتبطة بحياة نبي الإسلام وسيرته، فسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي المدخل الطبيعي لدراسة تاريخ الاسلام، وبقدر ما يحيط الدارس علمًا بهذه السيرة، ويفهم أسرارها وأخبارها بقدر ما يستطيع أن يفهم التاريخ الإسلامي في جميع مراحله في كل زمان ومكان. وأضرب مثلًا لتوضيح هذا الأمر: فشخصية النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - الفذة لا تقاس بالإنجازات التي تمت في عصره فقط، ولكن بما نتج عن هذه الإنجازات وما تحقق بعده، بقيام الفتوحات الكبرى التي تمت في عهد الخلفاء، وتأسيس دولة الإسلام العظمى الممتدة من حدود الصين شرقا إلى جبال فرنسا غربا. ولقد كان أثر هذا وما زال كبيرًا للغاية على البشر وحضاراتهم وثقافاتهم وأوضاعهم الاجتماعية والعقدية والسياسية والحربية. ولقد بنى النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - أمة جديدة، فتربية محمد - صلى الله عليه وسلم - تظهر جلية واضحة في أستاذيته حين أخرج العرب الممزقين الغارقين في ظلام الجهل، وعبادة غير الله، إلى نور التوحيد الذي جمعهم به بعد تمزق، ووحدهم به بعد تفرق، وأخرج من هذه الأمة قادة عظامًا، وجعل من الإنسان المسلم متحضرًا بعقله وإيمانه وحسن أخلاقه ومثله وأمانته، لقد صبر النبي - صلى الله عليه وسلم - على تربية أصحابه حتى هيأ

(1/9)


مجموعة من الناس عندهم القدرة على إدارة الدولة الكبرى التي ستقام بعد وفاته. إن الدارس والمتعرف على الإسلام وتاريخه وحضارته، بشكل علمي ونزيه، سيلاحظ بكل إكبار وإعجاب التأثير البالغ لمحمد عليه الصلاة والسلام في كل خلجة وحركة تمت في تاريخ المسلمين، وسيسلم بداهة -مع الأخذ بعين الاعتبار والتقدير تفاوت الأزمان والنوايا والإخلاص مع درجة الفهم- أن المحرض الأساس المسبب لكل حادث في هذا التاريخ هو الإسلام، وأن كل شيء قام بعد قيام الإسلام، إنما قام باسمه وبسببه. وما دامت سيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - مفتاحا للتاريخ الإسلامي فهي أجدر العلوم بالاهتمام والتوثيق لتقديمها في أنصع صورة وأجملها، في وقت كثرت فيه الدعوات الأرضية، واشتد فيه الظلام وظهر الباطل على الحق ظهورا آنيا، وسيطرت المادية على الإنسان فغيرت كثيرا من قيمه وجعلته لا يستقر على حال، وحتى يجد الإنسان في سيرة هذا النبي السلوك المثالي الذي تتساقط عنده دعاوى المغرضين والزائفين، ولعله يجد فيها الصورة المشرقة الحية للإنسانية الحقة، وليجد فيها الصورة المشرقة للإنسان الذي يمارس إنسانيته بكل أبعادها، ويتفاعل مع الواقع بكل معطياته، وليدرك الإنسان أيضًا إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - الذي وصل إلى قمة الكمال الإنساني كان في كل أحواله غير بعيد عن بشريته، بل عاش مشاعر هذه البشرية، شابًّا مستقيمًا في سلوكه، داعيا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأبا حانيًا، وزوجًا مثاليًا، وقائدًا حربيًّا، فقيرًا وغنيًّا، إمامًا وحكمًا مسلمًا جامعًا بين العبادة والتبتل لربه، والمعاشرة لأهله وأصحابه. وإذا كانت هذه الدراسة للسيرة ضرورية للإنسان بشكل عام، فإنها اشتد ضرورة للإنسان المسلم المعذب الحائر بين القيم التي تغزو عقله وفكره ومجتمعه، لأن السيرة إنما هي تجسيد حي لتعاليم الإسلام كما أرادها الله أن تطبق في عالم الواقع، لأن تعاليم الإسلام إنما أنزلت لتطبق في واقع الإنسان ومجتمعه، هذه الأوامر والتعاليم هي التي ينشأ الإنسان في ظلها في بحبوحة من العيش، واعتراف كامل بإنسانيته حيث تهديه هذه التعاليم في كل جانب من جوانب حياته وترشده إلى ما فيه خيره وصلاحه. ومحمد - صلى الله عليه وسلم - هو الذي كان يجسد تعاليم الإسلام في كل حادثة وظرف في شخصه حتى يكون قدوة لأصحابه ولمن يأتون بعده {لقد كان لكم في رسول الله

(1/10)


أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}. من أجل كل ما سبق ذكره كانت هذه الدراسة التوثيقية عن سيرته - صلى الله عليه وسلم - من خلال مصدر رئيسي من مصادر السيرة، هذا المصدر هو كتب الحديث ومصنفاته التي عرضت جوانب كبيرة من سيرته العطرة - صلى الله عليه وسلم -. مصادر السيرة النبوية المطهرة: إن كل من كتب في السيرة النبوية اعتمد في كتابته على مصدر أو أكثر من المصادر التالية: 1 - القرآن الكريم. 2 - كتب الحديث ومصنفاته. 3 - كتب المغازي والسير والدلائل والشمائل. 4 - كتب الأدب واللغة والشعر. ولقد أعتمدتُ في جمع هذه الدراسة على المصدر الثاني كمصدر رئيسي وأصيل في كل الأحداث. وعلى المصدر الثالث حين يتعذر عليّ أن أجد في كتب الحديث ومصنفاته ما يسد ثغرة الحديث الذي أبحث عنه. قاعدة: ما جاء في كتب الحديث الصحيحة من روايات للسيرة مقدمٌ على ما جاءَ في كتب المغازي: إن المطلوب هو اعتماد الروايات الصحيحة وتقديمها في بناء الصورة الناصعة لسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم الروايات الحسنة، ثم ما يعضدها من الضعيف، وعند التعارض يقدم الأقوى دائما، أما الروايات الضعيفة فيمكن الاعتماد عليها في إثبات حوادث تاريخية لا ينبني عليها أي حكم شرعي أو أمر في جانب العقيدة، لأن الأحكام الشرعية والأمور العقدية لا تثبت إلا بالأحاديث الصحيحة. إن السيرة النبوية مليئة بالأحكام الشرعية والتي يستفاد منها في كثير من جوانب الحياة، ولذا فيجب أن تكون ثابته بالأحاديث الصحيحة حتى يعتمد عليها، وكتب الحديث تحتوي على مادة السيرة الموثقة حسب منهج المحدثين، فلذلك يجب الاعتماد عليها وتقديمها على روايات كتب المغازي والسير والتواريخ العامة،

(1/11)


وخاصة إذا أوردتها كتب الحديث الصحيحة، لأنها ثمرة جهود جبارة قدمها المحدثون عند تمحيص الحديث ونقده سندًا ومتنا، هذا النقد والتدقيق الذي حظي به الحديث لم تحظ به الكتب التاريخية، والمعلوم أن للمحدثين مناهج وطرقًا في نقد الأحاديث ومعرفة الصحيح من الضعيف من حيث التدقيق في عدالة الرواة الذين رووا الأحاديث أو أي حادثة من الحوادث التي يعتمدونها، ويشترطون في الرواة شروطا محددة لابد من توفرها حتى تثبت عدالة الرواة فتصح روايتهم. وهذه الشروط لا تتوفر في مناهج المؤرخين في رواياتهم التاريخية فهم يتساهلون في تعاملهم مع الروايات التاريخية، ولذلك نجدهم يروون عن رواة لم تثبت عدالتهم عند المحدثين من أمثال الكلبي، وسيف بن عمر التميمي والواقدي وغيرهم من الضعفاء عند المحدثين. لذلك فقد اعتمدت هذه الدراسة على أصح الروايات، ومصنفات الحديث تحتوي على ثروة كبيرة من الأحاديث الصحيحة تكوِّن عند قارئها صورة كاملة من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لذلك كنت أقدم الرواية الموجودة في كتب الحديث على الرواية الموجودة في كتب المغازي والسير وما في الصحيح أصح. ضرورة الإسناد في قبول الرواية التاريخية وخاصة في روايات السيرة النبوية: الإسناد لا بد منه في كل أمر من أمور الدين، وعليه الاعتماد في الأحاديث النبوية وفي الأحكام الشرعية وفي المناقب والفضائل والمغازي والسير، وغير ذلك من أمور الدين المتين والشرع المبين، فشيء من هذه الأمور لا ينبغي عليه الاعتماد، ما لم يتأكد بالإسناد لا سيما بعد القرون المشهود لها بالخير. والإسناد: -هو سلسلة الرواة إلى المتن، والمتن: ما ينتهى إليه من الكلام. وقد شدد سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، على ضرورة الإسناد، وأنه مطلوب في الدين، وأنه من خصائص أمة الإسلام. أخرج مسلم في مقدمة صحيحه "1/ 87" عن عبد الله بن المبارك قوله: "الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء". وعن ابن المبارك أيضًا قال: "مثل الذي يطلب أمر دينه بلا إسناد كمثل الذي يرتقي السطح بلا سلم" ذكره الخطيب البغدادي في كتابه الكفاية ص "393".

(1/12)


ولهذا وصف الإمام الشافعي الذي يطلب الحديث بلا إسناد كمثل حاطب الليل" يقول رحمه الله: "مثل الذي يطلب الحديث بلا إسناد كمثل حاطب الليل" جاء هذا في شرح المواهب اللدنية "5/ 453". وحاطب الليل لا يعمل على بصيرة من أمره، وإنما يسير على غير هدى، فلا يدري ما الذي يجمعه، وهذا الأمر كان موجودا في رواة الأمم السابقة الذين كانوا يفتقدون الأمانة في النقل، وينقلون الأحداث بلا إسناد، وإذا كان هذا الأمر مقبولا عند الأمم السابقة، فإنه لا يقبل في تاريخ أمتنا التي ميزها الله عزَّ وجلَّ بميزة نقل الثقات عن الثقات، حتى الوصول إلى تاريخ الحدث والذين شاهدوه مشاهدة عيانية. جاء في خلاصة الطيبي "ص 55": "الإسناد خصيصة هذه الأمة، وسنة من السنن البالغة، وطلب العلو فيه سنة أيضًا ولذلك استحبت فيه الرحلة". ولو قايسنا تاريخ أمة الإسلام بتاريخ الأمم الأخرى مثل اليهود والنصارى في النقل عن أنبيائهم لوجدنا فرقا واضحا وجليًّا، يقول ابن حزم الظاهري في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل" "2/ 81 - 82": "نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الاتصال، خص الله به المسلمين دون سائر الملل، وأما مع الإرسال والإعضال فيوجد في كثير من اليهود، ولكن لا يقربون فيه من موسى قربنا من محمد - صلى الله عليه وسلم -، بل يقفون بحيث يكون بينهم وبين موسى أكثر من ثلاثين عصرًا، وإنما يبلغون إلى شمعون ونحوه" ثم يقول: "وأما أقوال الصحابة والتابعين فلا يمكن أن يبلغ اليهود إلى صاحب نبي أصلًا، ولا إلى تابع له، ولا يمكن النصارى أن يصلوا إلى أعلى من شمعون وبولص". فإذا كان هذا الامر مقبولا عند الأمم السابقة في نقلهم للأحداث التاريخية دون ذكر أسانيدها، أو مجرد التأكد من صحة الحدث أو كذبه، فإن هذا الأمر لا يقبل البتة في أمة الإسلام، وإن الإنسان أو الكاتب الذي يقبل الأحداث التاريخية دون التأكد من وجود أسانيد لها يدخل عند المحدثين في طائفة الزمنى "المرضى" على حد تعبير عبد الله بن طاهر.

(1/13)


جاء عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال: "كان عبد الله بن طاهر إذا سألني عن حديث فذكرته له بلا إسناد، سألني عن إسناده وقال: رواية الحديث بلا إسناد من عمل الزمنى، فإن إسناد الحديث كرامة من الله تعالى لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -" شرح المواهب اللدنية للزرقاني "5/ 453". والإسناد فرض من فروض الكفاية التي لا بد منها كما يقول الشيخ علي القاري في شرحه على شرح النخبة "194": "أصل الإسناد خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة، وسنة بالغة من السنن المؤكدة، بل من فروض الكفاية وطلب العلو فيه أمر مطلوب وشأن مرغوب". وقد اهتمت كتب ومصنفات الحديث عظيم الاهتمام بالأسانيد واتصالها وعدالة رجالها، وجاءت مادة السيرة من مضمون هذه الكتب والمصنفات الحديثية بنفس الطرق والأسانيد الموثقة التي جاءت بها الأحكام الشرعية في الفقه والعبادات والمعاملات وغيرها من محتوى كتب الحديث. إن أهمية الإسناد في نقل الروايات التاريخية وخاصة السيرة النبوية عظيمة، لا ينكرها إلا غر جاهل، فلولاه لما تميز الصادق المستقيم عن الأفاك الأثيم، وإذا كان الإسناد مجموعة من الرجال، والرجال يعتريهم الخطأ والنسيان والغلط، وأحيانا تعمد الكذب والاختلاق والتزوير والافتراء، فإن علم الجرح والتعديل قد عرض لكل ما يخطر في البال من هذه الأمور التي تتعلق بأحوال الرواة، والتي يمكن أن تقدح في صحة الرواية أو الإسناد، وكما وضع علماء الجرح والتعديل شروطا لصحة وعدالة الرواة في أسانيدهم، فقد وضعوا شروطا يسبرون من خلالها صحة المتون وعدم شذوذها، فقد يصح الإسناد إلا أن المتن يكون ضعيفا، فلا تعتبر الرواية، فنشأ من كل هذه الأمور ومجموعها ما يسمى بنقد المتن. إن الإسناد الصحيح وموازينه الدقيقة يعتبر من المرتكزات الأساسية لتصحيح الخبر والرواية التاريخية، وليس هناك خبر جاء بإسناد صحيح غير معلول، لا يقبله أو يرفضه الواقع، اللهم إلا عقول أولئك الذين أغلقوها ووضعوا مفاتيحها في صناديق يملكها آخرون.

(1/14)


أهمية كتب المغازي والسير: ومع كل الاهتمام بمصادر الحديث ومصنفاته وما تحتويه من ثروة عظيمة من أحاديث السيرة فإنه لا ينبغي التقليل من دور كتب المغازي والسير، فإنها تلي القرآن الكريم والحديث الشريف، مما يعطيها قيمة علمية كبيرة، إن أوائل مصنفات السيرة قد كتب في عصر مبكر، الصحابة لا زال الكثير منهم على قيد الحياة، والصحابة على علم دقيق وواسع بالسيرة النبوية، لأنهم عاشوا أحداثها وشاركوا فيها، هذا التبكير في الكتابة قلل -إلى حد كبير- من احتمال تعرضها للتحريف أو المبالغة والتهويل أو الضياع. فسيرة موسى بن عقبة الذي توفي في عام "140" هـ وهو محدث ثقة من تلاميذ الزهري أثنى الإمام مالك رحمه الله تعالى على كتابة السيرة النبوية واعتبره أصح كتاب في المغازي يقول رحمه الله "عليكم بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة فإنها أصح المغازي"، "سير أعلام النبلاء: 6/ 115" ويقول أيضًا: "عليكم بمغازي موسى، فإنه رجل ثقة طلبها على كبر السنن، ليقيد من شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكثر كما أكثر غيره". ويقول الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء" 6/ 116": "وأما مغازي موسى بن عقبة، فهي في مجلد ليس بالكبير، سمعناها وغالبها صحيح، ومرسل جيد، لكنها مختصرة تحتاج إلى زيادة وتتمة". وقال يحيى بن معين: "كتاب موسى بن عقبة عن الزهري أصح هذه الكتب" يعني في المغازي، انظر سير أعلام النبلاء "6/ 117". إضافة إلى أهميتها التي ذكرنا، يضاف إليها ميزة أخرى، وهي أنها أوردت الكثير من الأحداث والروايات يتقدمها الأسانيد، ومعظم رواة السيرة هم من الرواة والمحدثين الذين نجد تراجم لهم في كتب الرجال، وأوضحت هذه الكتب أحوالهم، وبينت ما قيل فيهم من جرح وتعديل مما يسهل على الباحث معرفة قوة الرواية أو الحدث التاريخي أو ضعف هذا الحدث، ولذلك جاء اعتمادي على هذه الكتب في الدرجة الثانية، حين لا أجد الحدث التاريخي في كتب الحديث ومصنفاته.

(1/15)


منهجي في جمع وتصنيف هذه الدراسة: وضعت لنفسي خطة في أثناء جمعي لهذه الدراسة ألخصها في النقاط التالية: 1 - ترتيب الأحداث التاريخية للسيرة النبوية: اعتمدت في ترتيب الأحداث التاريخية للسيرة النبوية على ترتيب إمام المغازي ابن إسحاق لها في مغازيه، كما أورد ذلك ابن هشام في اختصاره لها كمصدر رئيسي، إلا إنني قد أخالف ابن إسحاق في ترتيب الأحداث التاريخية حين يثبت لي ما يخالف هذا الترتيب في مصنفات الحديث، ولتوضيح هذا الأمر أضرب مثلًا على ذلك: غزوة ذات الرقاع جاء في سيرة ابن إسحاق وجماعة من أهل المغازي أنها كانت في جمادى الأولى بعد غزوة بني النضير بشهرين، وذلك في السنة الرابعة للهجرة كما جاء في سيرة ابن هشام "3/ 151"، إلا أنني رجحت ما جاء في صحيح البخاري أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد غزوة خيبر كما في فتح الباري 7/ 416 كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع، وأيده في ذلك ابن كثير في سيرته "3/ 161"، وابن حجر كما في الفتح "7/ 418"، وابن القيم في زاد المعاد "3/ 253". 2 - رتبت الأحداث التاريخية تحت عناوين جانبية تسهل على القارئ الوصول إلى ما يريد بسرعة وسهولة. 3 - اعتمدت في نقل نص الحدث التاريخي لفظ الحديث الأكثر فائدة والأجمع للمعاني الغزيرة من خلال انتقاء هذا اللفظ من روايات الحديث الكثيرة، فبعض هذه الروايات قد يكون مختصرًا، وبعضها مطولا حسب مراد المصنف الذي أورد ذلك اللفظ. وكنت إذا وجدت هذا اللفظ في صحيح البخاري لم أتعداه إلى غيره من المصنفات، وإلا فمسلم وأصحاب السنن. 4 - خرَّجت كل الأحاديث التي ذكرتها في هذه الدراسة، وهي تزيد على التسعمائة حديث، فما كان في الصحيحين أكتفي بتخريج الحديث منهما، وقد أزيد في التخريج إذا وجدت سعة من الوقت، فأخرج الحديث من غيرهما من المصادر.

(1/16)


5 - ما لم يكن من هذه الروايات في الصحيحين فإني أخرجه من المصنفات الحديثية الأخرى، وأحكم عليه صحة أو ضعفا بناء على قواعد المحدثين، هذا إن لم أجد حكما على هذا الحديث لأحد من الأئمة السابقين، فإذا وجدت ذلك الحكم فإنني أكتفي به، ولا اتعداه مخالفا له إلا إذا تبين لي غير ذلك الحكم. 6 - إذا لم أجد الحدث التاريخي في مصادر السنة، فإني أبحث عنه في كتب المغازي والسير وأبين صحته بناء على قواعد المحدثين. 7 - في بعض الأحداث التاريخية التي لا يثبت بها حكم شرعي والتي لم أجد فيها إلا مرسل تابعي كنت أثبت ذلك النص المرسل، وأحكم عليه صحة وضعفا إلى التابعي. 8 - كنت أذكر الفوائد المستنبطة من بعض الأحاديث كما ذكرها العلماء في شروحاتهم على المصنفات الحديثية. 9 - كنت أشرح الغريب من الألفاظ الصعبة مما يسهل فهمها على القارئ في غالب الأحيان.

(1/17)


شكر وتقدير جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت أبا القاسم يقول: (لا يشكُرُ الله من لا يشكُرُ الناسَ) (1). ولذلك أنبه على أن نواة هذه الدراسة كانت فكرة من أفكار أستاذي وشيخي الدكتور همام عبد الرحيم سعيد حفظه الله ونفع بعلمه، فقمت بتنفيذها، وأعلمت أستاذي بعزمي على القيام بهذا العمل، فشجعني على الاستمرار، وما بخل علي بنصحه وتوجيهاته ومكتبته العامرة بالمصادر، فجزاه الله عني خير الجزاء. ولكل من أعانني بكلمة تشجيع أو نصيحة علمية الشكر والتقدير، سائلًا المولى عَزَّ وَجلَّ أن يجزيهم عني أحسن الجزاء. وبعد، فإنني أقدم هذ الدراسة جهدا متواضعا في خدمة السنة النبوية العطرة، وسيرة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، مع علمي بقلة بضاعتي، ووعورة الطريق، وكثرة الصعاب، إلا أن الله أعانني ووفقني لإتمام هذه الدراسة بفضله وتوفيقه، مع رجائي لكل من قرأ وكان عنده ملاحظة أو نصيحة أو فائده علميه فاتتني أن يرسلها لي، وله مني كل الشكر، وأن لا يبخل عليّ بإرسالها. وختامًا أسأل الله أن يجعل هذه الدراسة في ميزان أعمالي يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. والحمد لله رب العالمن. إبراهيم محمد العلي عمان- الأردن __________ (1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد رقم: (218) وأبو داود في الأدب، باب في شكر المعروف رقم: (4811)، والترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك رقم: (1955)، والطيالسي رقم: (2491)، وأحمد (2/ 258، 303، 388، 461، 492)، البيهقي في السنن (6/ 182) والحديث صحيح.

(1/18)


 الباب الأول أحداث ما قبل البعثة

  الفصل الأول نسب الرسول صلى الله عليه وسلم ومكانته في قومه

قال الإمام البخاري رحمه الله: "هو أبو القاسم، محمد بن عبد الله، بن عبد المطلب، بن هاشم، بن عبد مناف، بن قصي، بن كلاب، بن مرة، بن كعب، بن لؤي، بن غالب، بن فهر، بن مالك بن النضر، بن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، بن إلياس، بن مضر، بن نزار، بن معد، بن عدنان" (1). وقال البغوي في شرح السنة بعد ذكر النسب إلى عدنان: "ولا يصح النسب فوق عدنان" (2). وقال ابن القيم: بعد ذكر النسب إلى عدنان أيضًا: "إلى هاهنا معلوم الصحة، متفق عليه بين النسابين، ولا خلاف ألبتة، وما فوق عدنان مختلف فيه، ولا خلاف بينهم أنَّ عدنان من ولد إسماعيل - عليه السلام - " (3). وقد جاء عن ابن سعد في طبقاته: "الأمر عندنا الإمساك عما وراء عدنان إلى إِسماعيل" (4). وعن عروة بن الزبير أنه قال: "ما وجدنا من يعرف ما وراء عدنان ولا __________ (1) رواه البخاري في كتاب مناقب الأنصار: باب مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فتح الباري: 7/ 162، قبل رقم: 3851، شرح السنة: 13/ 193، الذهبي: السيرة النبوية: ص 1. (2) شرح السنة: 13/ 193. (3) زاد المعاد: 1/ 71. (4) ابن سعد: 1/ 58.

(1/19)


قحطان إلا تخرصًا" (1). قال الذهبي رحمه الله في كتابه السيرة النبوية: "وعدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام بإجماع الناس، لكن اختلفوا فيما بين عدنان وإِسماعيل من الآباء" (2). أما عن نسبه - عليه السلام - في قومه فقد كان في خيرهم قبيلة، وكان أشرَفهم أرومة كما جاء في الصحيح من حديثه عليه الصلاة والسلام: 1 - فعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) (3). 2 - ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (بعثتُ من خير قرون بني آدم قرنًا فقرنًا، حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه) (4). 3 - ومن حديث عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب قال: أتى أناس من الأنصار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إنا لنسمع من قومك حتى يقول القائل منهم إنما مثل محمَّد مثل نخلة نبتت في كباء (5)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أيها الناس من أنا؟ قالوا أنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: أنا محمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب -قال فما سمعناه، قط ينتمي قبلها- إلا إن الله -عَزَّ وَجَلَّ - خلق خلقه، فجعلني من خير خلقه، ثم فرقهم فرقتين، فجعلني من خير الفرقتين، ثم جعلهم قبائل، فجعلني من خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتًا، فجعلني من خيرهم بيتًا، وأنا __________ (1) ابن سعد: 1/ 58. (2) الذهبي في السيرة النبوية: ص1. (3) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل: باب فضل نسب النبي - صلى الله عليه وسلم -، رقم: 2776، شرح السنة: 3613، والترمذي في سننه، أبواب المناقب: باب ما جاء في فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم: 3606 وقال حسن صحيح، انظر الفتح الرباني: 20/ 179، وانظر أحمد في المسند: 4/ 107، والخطيب في تاريخ بغداد: 13/ 64. (4) أخرجه البخاري في المناقب، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم: (3557)، وأحمد في المسند: 5/ 373، 417 وابن سعد: 1/ 25. (5) الكباء: الكناسة.

(1/20)


خيركم بيتًا، وخيركم نفسًا) (1). 4 - ومن حديث الأشعث بن قيس رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وفد، ولا يروني إلا أفضلهم، فقلت: يا رسول الله! ألستم منا؟ فقال: (نحن بنو النضر بن كنانة، لا نقفو أمنا، ولا ننتفي من أبينا) فكان الأشعث يقول: "لا أوتى برجل نفى قريشًا من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد" (2). 5 - ومن حديث أبي سفيان رضي الله عنه حين سأله هرقل وقال له: "كيف نسبه فيكم، قلت: هو فينا ذو نسب". وقول هرقل: "وسألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها" (3). __________ (1) أخرجه الترمذي في أبواب المناقب: باب ما جاء في فضل النبي رقم 3607 - 3608، وأحمد في المسند: 4/ 166، من طريق عبد الله بن الحارث بن نوفل به، وقال الهيثمي في المجمع: 8/ 215 - 216: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح". والحديث صحيح. (2) أخرجه ابن ماجه في الحدود: باب من نفى رجلًا من قبيلة: 2612، وأحمد في المسند: 5/ 211، 212 من طريق حماد بن سلمة، عن عقيل بن طلحة السلمي، عن مسلم بن هيضم، عن الأشعث بن قيس به، وقال البوصيري في الزوائد: إسناد صحيح، رجاله ثقات، لأن عقيل بن طلحة وثقه ابن معين والنسائي، وذكره ابن حبان في الثقات، وباقي رجال السند على شرط مسلم. قلت: وفي السند قوله: (لا يرون أني أفضلهم) من غير إلا وفيه تصحيف، والعبارة الصحيحة ما أثبتناه. لا نقفو أمنا: أي لا نتهمها، ولا نقذفها (3) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي، حديث رقم: (7)، وسيأتي تخريجه في رسائل الرسول إلى الملوك والقياصرة.

(1/21)


 الفصل الثاني البشارة بالرسول صلي الله عليه وسلم

  المبحث الأول: صفته في التوراة وتبشير اليهود به

6 - عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فقلت: "أخبرني عن صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التوراة، فقال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن: "يا أيها النبيّ إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بِفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا" (1). 7 - ومن حديث كعب الأحبار قال: "إني أجد في التوراة مكتوبًا: محمَّد رسول الله، لا فظ ولا غليظ، ولا سَخَّاب في الأسواق، ولا يجزي السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، أمته الحمادون، يحمدون الله في كل منزلة، ويكبِّرونه على كل نجد، يأتزرون إلى أنصافهم، ويوضئون أطرافهم، صفُّهم في الصلاة، وصفُّهم في القتال سواء، مناديهم ينادي في جو السماء، لهم في جوف الليل دوي كدوي النحل، مولده بمكة، ومهاجره بطابة، وملكه بالشام" (2). __________ (1) أخرجه البخاري في كتاب البيوع في الأسواق: 2125، وفي التفسير حديث: 4838، وأخرجه أيضًا في كتاب الأدب المفرد حديث: 246، 247، والبيهقي في دلائل النبوة: 1/ 374 - 375، من طريق هلال بن علي، عن عطاء بن يسار. حرزًا للأميين: حافظًا لهم، والسخاب: رفع الصوت بالخصام. حتى يقيم به الملة العوجاء: ملة إبراهيم التي غيرتها العرب عن استقامتها. (2) أخرجه الدارمي في المقدمة: 1/ 4 - 5 من طريق الأعمش عن أبي صالح قال: قال كعب: ورجاله ثقات، وجاء في دلائل النبوة للبيهقي: 1/ 377، عن أم الدرداء قالت: قلت لكعب الأحبار -وذكر شبيهًا بهذا البيهقي وقد جاء عند الدارمي: 1/ 6، من طريق معاوية بن صالح عن أبي فروة، عن ابن عباس، أنه سأل كعب الأحبار.

(1/22)


8 - ومن حديث سلمة بن سلامة بن وقش رضي الله عنه: وكان من أصحاب بدر قال: "كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل قال: فخرج علينا يومًا من بيته قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بيسير، فوقف على مجلس عبد الأشهل، قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيه سنًّا عليَّ بردة مضطجعًا فيها بفناء أهلي فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار، فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان، لا يرون أن بعثًا كائن بعد الموت. فقالوا له: ويحك يا فلان، ترى هذا كائنًا أنَّ الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، ويجزون فيها بأعمالهم؟ قال: نعم، والذي يحلف به، وَلوَدَّ أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه، ثم يدخلونه إياه، فيطبق به عليه، وأن ينجو من تلك النار غدًا. قالوا له: ويحك، وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكة واليمن. قالوا: ومتى تراه؟ قال: فنظر إليَّ -وأنا من أحدثهم سنًّا- فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه". قال سلمة: "فوالله ما ذهب الليل والنهار، حتى بعث الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو حيٌّ بين أظهرنا، فآمنا به، وكفر به بغيًا وحسدًا، فقلنا: ويلك يا فلان، ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى: وليس به" (1). __________ (1) أخرجه ابن هشام في السيرة: 1/ 212 من طريق ابن إسحاق، قال: حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عرف، عن محمود بن لبيد، عن سلمة به، فصرح ابن إسحاق بالتحديث فانتفت شبهة التدليس". ومن طريق ابن إسحاق أخرجه أحمد في المسند: 3/ 467، والطبراني في الكبير حديث: 6327، والبخاري في التاريخ الكبير: 2/ 2 / 68 - 69، وأبو نعيم في الدلائل:191، والحاكم في المستدرك: 3/ 417 - 418، والبيهقي في الدلائل: 2/ 78 - 79 وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في المجمع: 8/ 230. رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق، وقد صرح بالسماع". فالحديث صحيح. يأسها من بعد إنكاسها: يأسها من الاستماع في السماع، أو استراق السمع بعد أن كانت قد ألفته، فانقلبت عن الاستراق، وقد يئست من السماع. القلاص: جمع قلوص: وهي الفيتة من النياق. جليح: الوقح المكافح بالعداوة.

(1/23)


 المبحث الثاني: أخبار الكهان عن بعثته

9 - من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "ما سمعت عمر بشيء قط يقول: إني لأظنه كذا، إلا كان كما يظنُّ. بينما عمر جالس إذ مر به رجل جميل، فقال عمر: "لقد أخطأ ظني أو إن هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم، عليَّ الرجل، فدعي، له، فقال له ذلك. فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم. قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني. قال: كنت كاهنهم في الجاهلية. قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال: بينما أنا يومًا في السوق، جاءتني أعرف منها الفزع، فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها ... ويأسها من بعد إنكاسها ولحوقها بالقلاص وأحلاسها قال: صدق، بينما أنا نائم عند آلهتهم، إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ لم أسمع صارخًا قط أشد صوتًا منه يقول: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح يقول: لا إله إلا الله فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله. فقمت، فما نشبنًا أن قيل: هذا نبي" (1). 10 - ومن حديث جابر رضي الله عنه قال: "أن أول خبر قدم علينا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن امرأة كان لها تابع قال: فأتاها في صورة طير، فوقع على جذع لهم، قال: فقالت: ألا تنزل فنخبرك وتخبرنا، قال: إنه قد خرج رجل بمكة حرم علينا الزنا، ومنع منا القرار" (2). __________ (1) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة، باب إسلام عمر: 3653، ومناقب الأنصار: 3866 والبيهقي في الدلائل: 2/ 248. وابن أبي خثيمة في تاريخه، والروياني في مسنده، كما عزاه إليهما ابن حجر في الإصابة: (2/ 95). (2) أخرجه أحمد في المسند: 3/ 356، عن طريق إبراهيم بن أبي العباس أبو المليح، حدثنا عبد الله بن محمَّد بن عقيل به، وأبو نعيم في الدلائل: 1/ 107 حديث: 56، وابن سعد في الطبقات: 1/ 189، وقال الهيثمي في المجمع: 8/ 243: رواه أحمد والطبراني في الأوسط، ورجاله وثقوا.

(1/24)


 المبحث الثالث تبشير النبيين به وكيف كان أول أمره

11 - من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: "قلت يا نبي الله ما كان أول بدء أمرك؟ " قال: (دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي نورًا أضاءت منه قصور الشام) (1). 12 - ومن حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين، وإنَّ آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بتأويل ذلك، دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، وكذلك ترى أمهات النبيين صلوات الله عليهم) (2). __________ (1) أخرجه أحمد في المسند: 5/ 262. والطبراني في المعجم الكبير: 7729. والبيهقي في الدلائل: 1/ 84 وابن سعد في الطبقات: 1/ 102 من طريق فرج بن فضالة، عن لقمان بن عامر، عن أبي أمامة. وقال الهيثمي في المجمع: 8/ 222 وإسناد أحمد حسن، وله شواهد تقويه". قلت: ومن هذه الشواهد الحديث الذي يليه عن العرباض بن سارية رقم: 12، وحديث عتبه بن عبد السلمي برقم: 24 ومن حديث خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر شبيهًا بهذا بزيادة، أخرجه الحاكم: 2/ 600، والبيهقي في الدلائل: 1/ 84، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال ابن كثير في البداية: 2/ 256 صرح ابن إسحاق بالتحديث فيها، وهذا إسناد جيد قوي. قلت: فالحديث حسن لشواهده. (2) أخرجه أحمد: 4/ 127، 128، والطبراني في الكبير: 18/ 252، والبيهقي في الدلائل: 1/ 80، والبزار كما في كشف الأستار: 3/ 112 - 113. حديث: 2365 من طريق سعيد بن سويد، عن عبد الأعلى بن هلال، عن العرباض به. وأخرجه الحاكم: 2/ 600 من طريق سعيد بن سويد، وعنده رجل ضعيف هو ابن أبي مريم. وقال الهيثمي في المجمع: 8/ 223 رواه أحمد، والطبراني نحوه، والبزار وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد، ووثقه ابن حبان. وللحديث شواهد انظرها في الحديث الذي قبله، ومن حديث ميسرة: أخرجه أحمد: 5/ 59، والحاكم: 2/ 608 - 609، والبيهقي في الدلائل: 1/ 84 - 85.

(1/25)


 الفصل الثالث حالة المجتمع الجاهلي قبل البعثة النبوية

13 - حديث أم سلمة رضي الله عنها في قصة الهجرة إلى الحبشة ومحاورة جعفر رضي الله عنه للنجاشي وقوله: "أيها الملك كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنَّا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله تعالى لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان. وأمر بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة" (1). 14 - حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن، الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة" (2). 15 - من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "إن النكاح في الجاهلية كان على أربع أنحاء: فنكاح منها نكاح اليوم: يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته، فيصدقها ثم ينكحها. ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدًا، حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل __________ (1) الحديث صحيح انظر حديث رقم: 94. (2) أخرجه مسلم في الجنائز، باب التشديد في النياحة، حديث: 934. وأحمد: 5/ 342، 343، 344، والبيهقي في السنن: 4/ 63، والحاكم في المستدرك: 1/ 383، وقد جاء من حديث أبي هريرة شبيهًا بهذا الحديث، وأخرجه الترمذي: 1004، والطيالسي: 2395، وأحمد: 2/ 291، 414، 415، 455، 526، 531، والبزار، وقال الهيثمي في المجمع: 3/ 13، رواه البزار، وإسناده حسن.

(1/26)


ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع. ونكاح آخر: يجتمع الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت، ووضعت، ومر ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به الرجل. والنكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها، وهنَّ البغايا كن ينصبن علي أبوابهن رايات تكون علمًا، فمن أرادهنَّ دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها، ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاطه به، ودعي ابنه، لا يمتنع من ذلك. فلما بُعث محمد بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم" (1). __________ (1) أخرجه البخاري في النكاح، باب من قال لا نكاح إلا بولي: رقم: 5127، وأبو داود في الطلاق، باب في وجوه النكاح التي كان يتناكح بها أهل الجاهلية: 2272، والبيهقي في سننه: 7/ 110، 190.

(1/27)


الباحثون عن الدين الحق في الجاهلية زيد بن عمرو بن نُفيل 43 - من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالمًا من اليهود فسأله عن دينهم فقال: إني لعليّ أن أدين دينكم فأخبرني، فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. قال زيد: ما أفرُّ إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئًا، وأنَّى أستطيعه؛ فهل تدلني على غيره؟ قال ما أعلمه إلا أن يكون حنيفًا. قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ولا يعبد إلا الله. فخرج زيد فلقي عالمًا من النصارى فذكر مثله، فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال: ما أفرُّ إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئًا أبدًا، وأنَّى أستطيع؟ فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفًا. قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ولا يعبد إلا الله، فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم عليه السلام خرج، فلما برز رفع يديه، فقال: اللهم إني أشهد أني على دين إبراهيم" (1). 44 - من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: "رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائمًا مسندًا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري، وكان يحيي الموؤودة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها، أنا أكفيك مؤونتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤنتها" (2). __________ (1) رواه البخاري في مناقب الأنصار، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل، رقم: 3827، فتح الباري: 7/ 142. (2) رواه البخاري في مناقب الأنصار، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل رقم: 3828 فتح الباري: 7/ 143 معلقًا، ووصله الحاكم في المستدرك: 3/ 440، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، بل أخرجاه كما سبق ذكر.، وقال الحافظ: وصله جماعة ذكرهم في الفتن.

(1/28)


45 - أ - ومن حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي زيد ابن عمرو بن نفيل بأسفل بَلدح قبل أن ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي، فَقُدِّمت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - سفرة، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل ما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه. وإن زيد بن عمرو بن نفيل كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله، إنكارًا لذلك وإعظامًا له" (1). 45 - ب - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: "كنت من أهل فارس من أهل أصبهان، من قرية يقال لها جَيٌّ، وكان أبي دِهْقَان أرضه، وكان يحبني حبًّا شديدًا لم يحبه شيئًا من ماله ولا ولده، فما زال به حبُّه إيّايَ حتى حبسني في البيت كما تحبس الجارية. واجتهدت في المجُوسِيَّة حتى كنت قطن النَّار (الذي يُوقدُهَا) ولا يَتْرُكُها تَخْبُو ساعة، فكنت كذلك لا أعلم من أمر الناس شيئًا إلا ما أنا فيه، حتَّى بنى أبي بنيانًا له، وكانت له ضيعة فيها بعض العمل، فدعاني فقال: أي بني، إنه قد شغلني ما ترى من بنياني عن ضيعتي هذه، ولا بدَّ لي من إطلاعها، فانطلق إليها فأمرهم بكذا وكذا ولا تحتبسنَّ عنِّي، فإنك إن احتبست عنِّي شغلتني عن كلِّ شيءٍ. فخرجت أريد ضَيعته، فمررت بكنيسة النصارى، فسمعت أصواتهم فيها، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: هؤلاء النصارى يصلون. فدخلت أنظر فأعجبني ما رأيت من حالهم. فوالله ما زلت جالسًا عندهم حتى غربت الشمس. وبعث أبي في طلبي في كل وجهة حتى جئته حين أمسيت ولم أذهب إلى ضيعته، فقال أبي: أين كنت؟ ألم أكن قلت لك؟ فقلت: يا أبتاه مررت بناس يقال لهم النَّصارى، فأعجبني صلواتهم ودعاؤهم، فجلست أنظر كيف يفعلون. فقال: أيْ بُنَي دينك ودين آبائك خيرٌ من دينهم. فقلت: لا والله ما هو بخير من دينهم، هؤلاء قومٌ يعبدون الله ويدعونه ويصلون له، ونحن إنما نعبد نارًا نوقدها بأيدينا، إذا تركناها ماتت. فخافني، فجعل في رجْليَّ حديدًا، وحبسني في بيت عندَهُ، فبعثتُ إلى النصارى، فقلت لهم: أين أصْلُ هذا الدين الذي أراكم __________ (1) رواه البخاري في مناقب الأنصار، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل رقم: 3826، فتح الباري: 7/ 142.

(1/29)


عليه؟ فقالوا: بالشام. فقلت: فإذا قدم عليكم من هناك ناسٌ فآذنُونِي، قالوا: نفعل. فقدم عليهم ناسٌ في تجارتهم. فبعثوا إليَّ أنَّه قد قدم علينا تجار من تجارنا. فبعثت إليهم إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الخروج فآذِنُوني. فقالوا: نفعل. فلما قضوا حوائجهم وأرادوا الرَّحيل بعثوا إليَّ بذلك، فطرحت الحديد الذي في رجليَّ ولحقت بهم، فانطلقت معهم حتى قدمت الشام. فلما قدمتها، قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟ فقالوا: الأسقُف صاحب الكنيسة. فجئته، فقلت له: أحببت أن أكون معك في كنيستك، وأعبد الله معك، وأتعلم منك الخير. قال: فكن معي. قال: فكنت معه، وكان رجل سَوْءٍ؛ كان يأمرهم بالصَّدقة ويرغِّبهم فيها. فإذا جَمعوها إليه اكْتَنَزَهَا ولم يعطها المساكين. فأبغضته بغضًا شديدًا لما رأيت من حاله، فلم ينْشَب أن مات، فلما جاءُوا ليدفنوه قلت لهم: إن هذا رجل سَوْءٍ؛ كان يأمركم بالصدقة ويرغِّبكم فيها، حتى إذا جمعتموها إليه اكتَنَزَها ولم يعطها المساكين. فقالوا: وما علامة ذلك؟ فقلت: أنا أخرج لكم كنزه. فقالوا: فهاته. فأخرجت لهم سبع قلالٍ مملوءَة ذهبًا وَوَرِقًا. فلمَّا رأوا ذلك قالوا: والله لا يدفن أبدًا. فصلبوه على خشبة ورموه بالحجارة، وجاءُوا برجل آخر فجعلوه مكانه. فلا والله يا ابن عبَّاس، ما رأيتُ رجلًا قط لا يصلي الخمس أرى أنَّه أفضَل منه أشدَّ اجتهادًا، ولا أزْهَدَ في الدُّنيا، ولا أدأب ليلًا ولا نهارًا منه. ما أعلمني أحببت شيئًا قط، قبله، حُبَّه. فلم أزل معه حتى حضرته الوفاة. فقلت: يا فلان، قد حضرك ما ترى من أمر الله، وإني والله ما أحببت شيئًا، قط، حُبَّك، فماذا تأمرني؟ إلى من توصيني؟ فقال: أي بني، والله ما أعلمه إلا رجلًا بالموُصل فائته، فإنك ستجده على مثل حالي. فلما مات (وغُيِّب) لحقت بالموصل، فأتيت صاحبها، فوجدته على مثل حاله من الاجتهاد والزَّهادَة في الدنيا، فقلت له: إن فلانًا أوصاني إليك أن آتيك وأكون معك. قال: فأقم أي بني. فأقمت عنده على مثل أمر صاحبه، حتى حضرته الوفاة. فقلت له: إنَّ فلانًا أوصاني إليك وقد حَضَرَك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصيني، فقال: والله ما أعلمه، أي بني، إلا رجلٌ بنصيبين وهو على مثل ما نحن عليه، فالحقْ به، فلما دفناه. لحقت بالآخر فقلت له: يا فلان، إن فلانًا أوصاني إلى فلان، وفلان أوصاني إليك. قال: فأقم يا بني.

(1/30)


فأقمت عنده على مثل حالهم حتى حضرته الوفاة. فقلت له: يا فلان، إنَّه قد حضرك من أمر الله ما ترى، وقد كان فلانٌ أوصاني إلى فلانٍ، وأوصاني فلانٌ إلى فلان، وأوصاني فلان إليك، فإلى من توصيني؟ قال لي: أي بنيّ، والله ما أعلم أحدًا على مثل ما نحن عليه إلا رجل بعمُّورية من أرض الرُّوم، فأتِهِ، فإنك ستجده على مثل ما كنا عليه. فلما وَارَيْتُهُ، خرجت حتى قدمت على صاحب عَمُّوريَّة، فوجدته على مثل حالهم، فأقمت عنده، واكتسبت حتى كان لي غنَيمةٌ وبقرات. ثم حضرته الوفاة. فقلت: يا فلان، إن فلانًا كان أوصاني إلى فلان، وفلانٌ إلى فلان، وفلان إليك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله تعالى، فإلي من توصيني؟ قال: أي بني، والله ما أعلمه بقي أحد على مثل ما كنا عليه آمرك أن تأتيه. ولكنَّه قد أظلك زمان نَبي يبعث من الحرم، مُهاجَرُهُ بين حَرَّتيْن، إلى أرض سِبِخةٍ ذات نخيل، وإنَّ فيه علامات لا تخفى: بين كتفيه خاتم النبوَّة، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة. فإن استطعت أن تَخْلص إلى تلك البلاد فافعل، فإنه قد أظلك زمانه. فلما واريناه، أقمت حتى مَرَّ رجالٌ من تجار العرب من كَلبٍ، فقلت لهم: تحملوني معكم حتى تقدموا بي أرض العرب، وأعطيكم غنيمتي هذه وبقراتي؟ قالوا: نعم. فأعطيتهم إياها، وحملوني حتى إذا جاءُوا بي وادي القرى ظلموني فباعوني عَبدًا من رجل من يهود، بوادي القُرى. فوالله لقد رأيت النخل، وطمعت أن تكون البلد الذي نَعَتَ لي صاحبي وما حقت عندي، حتى قدم رجل من بني قُريظة، من يهود وادي القرى، فابتاعني من صاحبي الذي كنت عنده، فخرج بي حتى قدم المدينة. فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفت نعمته، فأقمت في رِق مع صاحبي. وبعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بمكة لا يذكر لي شيئًا من أمره مع ما أنا فيه من الرِّق حتى قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قُباء، وأنا أعمل لصاحبي في نخلة له. فوالله إني لفيها إذ جاءَ ابن عم له، فقال: يا فلان قاتل الله بني قَيْلة، ووالله إنهم الآن لفي قُباءَ مجتمعون على رجل من مكة، يزعمون أنه نبي، فوالله ما هو إلا أن سمعتها، فأخذتني "العُرَوَاءُ" -يقول "الرِّعدة"- حتى ظننت لأسقطن على صاحبي. ونزلت أقول: ما هذا الخبر؟ ما هو؟ فرفع مولاي يده، فلكمني

(1/31)


لكمة شديدة، وقال: ما لك ولهذا؟ أقبل قِبَلَ عملك. فقلت: لا شيء، إنما سمعت خبرًا فأحببت أن أعلمه. فلمَّا أمسيت، وكان عندي شيءٌ من طعام، فحملته وذهبت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو بِقُباء، فقلت: إنه قد بلغني أنك رجل صالح، وأن معك أصحابًا لك غرباء، وقد كان عندي شيء للصدقة، فرأيتكم أحقَّ مَنْ بهذه البلاد (به) فها هو ذا فكل منه. فأمسك رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - بيده، وقال: لأصحابه: كُلوا، ولم يأكل. فقلت في نفسي هذه خلة مما وصَفَ لي صاحبي. ثم رجعت، وتحوَّل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، إلى المدينة فجمعت شيئًا كان عندي ثم جئته به، فقلت: إن قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية وكرامة ليست بالصدقة. فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسول-، وأكل أصحابه. فقلت: هذه خلتان. ثم جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتبع جنازة وعلي شملتان لي وهو فى أصحابه، فاستدرت به لأنظر إلى الخاتم في ظهره، فلما رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، اسْتَدْبَرْتُه عَرَفَ أني أسْتَتْبِتُ شيئًا قد وُصف لي، فوضع رداءَه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم بين كتفيه كما وصف لي صاحبي فأكْبَبْتُ عليه أقبله وأبكي. فقال: تحوَّل يا سلمان هكذا. فتحولت فجلست بين يديه. وأحب أن يُسْمِع أصحَابه حديثي عنه. فحدَّثته يا ابن عباس كما حدَّثتك. فلما فرغت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كاتب يا سلمان. فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها، وأربعين أوقية. وأعانني أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بالنخل: ثلاثين وَدِيَّة (1). وعشرين وَديَّة، وَعَشْرٍ، كل رجل منهم على قدر ما عنده. فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فقِّرْ لها (2) فإذا فرغت فآذني حتى أكون الذي أضعها بيدي. ففقرتها وأعانني أصحابي -يقول حَفَرْتُ لها حيث توضع- حتى فرغنا منها. ثم جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله، قد فرغنا منها فخرج معي حتى جاءَها، وكنا نحمل إليه الوَديَّ، ويضعه بيده، ويُسَوَّي عليها. فوالذي بعثه بالحق ما ماتت منها وَدِيَّة واحدةٌ. وبقيت عليَّ الدراهم. فأتاه رجل من بعض المعادن بمثل البَيْضة من الذهب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أين الفارس المسلم المكَاتب؟ فَدعِيتُ له، فقال: خذ هذه يا سلمان، فأدها مما عليك. فقلت: يا __________ (1) الودية: النخلة الصغيرة. (2) فقر لها: أي أحفر.

(1/32)


رسول الله، وأين تقع هذه مما علي؟ قال: فإن الله تعالى سيؤدي بها عنك. فوالذي نفس سلمان بيده لوَزَنْتُ لهم منها أربعين أوقيَّة، فأدَّيتها إليهم وعتق سلمان. وكان الرِّق قد حبسني حتى فاتني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بدْرٌ وأحُدٌ، ثم عتقت فشهدت الخندَق، ثم لم يفتني معه مشهد (1) __________ (1) أخرجه أحمد في المسند: 5/ 441 - 444، وابن هشام في السيرة: 1/ 228 - 235، والبيهقي في الدلائل: 2/ 92 - 97 والخطيب في التاريخ: 1/ 164 - 169، وأبو نعيم في دلائل النبوة: 199، وابن سعد في الطبقات: 4/ 75 - 80، والطبراني في الكبير برقم: 6065، جميعًا من طريق ابن إسحاق، حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن ابن عباس عن سلمان به. وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث فزالت شبهة التدليس والإسناد حسن.

(1/33)


 الفصل الرابع قصة حفر زمزم

16 - من حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه- قال: "قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال لي: احفر طيبة. قلت: وما طيبة؟ قال: ثم ذهب عني. قال: فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر برَّة، قال: قلت وما برَّة؟ قال: ثم ذهب عني. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني. فقال: احفر المضنونة. قال: قلت: وما المضنونة؟ قال: ثم ذهب عني. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه. فجاءني فقال: احفر زمزم. قال: قلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف أبدًا، ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النمل. قال: فلما بين شأنها، ودلَّ على موضعها، وعرف أنه قد صدق، غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، وليس معه يومئذ ولد غيره، فحفر فيها، فلما بدا لعبد المطلب الطيُّ كبَّرَ، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب إنها بئر أبينا إسماعيل، وإنَّ لنا فيها حقًّا، فأشركنا معك فيها. قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم، وأعطيته من بينكم. قالوا له: فأنصفنا، فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها، قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه. قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيم، قال: نعم، وكانت بأشراف الشام. فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أمية، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، فخرجوا والأرض إذ ذاك مفاوز، حتى إذا كانوا ببعضها نفد ماء عبد المطلب وأصحابه، فعطشوا حتى استيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من كانوا معهم فأبوا عليهم،

(1/34)


وقالوا: إنا بمفازة وإنا نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم. فقال عبد المطلب: إني أرى أن يحفر كلُّ رجل منكم حفرته لنفسه بما لكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه، حتى يكون آخرهم رجلًا واحدًا، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعه. فقالوا: نعم ما أمرت به. فحفر كل رجل لنفسه حفرة، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشًا. ثمَّ إنَّ عبد المطلب قال لأصحابه: والله إنَّ إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا ضرب في الأرض، ولا نبتغي لأنفسنا لعجز، فعسى الله أن يرزقنا ماءً ببعض البلاد، ارتحلوا. فارتحلوا حتى إذا بعث عبد المطلب راحلته انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبَّر عبد المطلب، وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه، واستسقوا حتى ملأوا أسقيتهم، ثم دعا قبائل قريش -وهم ينظرون إليهم في جميع هذه الأحوال- فقال: هَلمُّوا إلى الماء فقد سقانا الله، فجاءوا فشربوا، واستقوا كلهم، ثم قالوا: قد والله قضى لك علينا، والله ما نخاصمك في زمزم أبدًا، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة هو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدًا. فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخَلَّوا بينه وبين زمزم". قال ابن إسحاق: فهذا ما بلغني عن علي بن أبي طالب في زمزم (1). _________ (1) أخرجه ابن إسحاق بسنده، فقال: حدثني يزيد بن حبيب المصري، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن عبد الله بن زرير أنه سمع علي بن أبي طالب، فذكره .... انظر السيرة النبوية لابن هشام: 1/ 142 - 155. والسير والمغازي لابن إسحاق صفحة: 24 - 25 تحقيق سهيل زكار. والبيهقي في الدلائل: 1/ 93 - 95، من طريق ابن إسحاق، وقد صرح ابن إسحاق بالسماع، فسنده صحيح، وله شاهد من مرسل الزهري عند عبد الرزاق في المصنف، حديث رقم: 9718، 5/ 314، ورواه ابن سعد في طبقاته: 1/ 83 - 85 من طريق الواقدي، وهو ضعيف. فالحديث بهذا صحيح من طريق البيهقي وابن هشام.

(1/35)


 الفصل الخامس أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة

  المبحث الأول: مولده صلى الله عليه وسلم

ولد في ربيع الأول يوم الإثنين بلا خلاف، والأكثرون على أنه ليلة الثاني عشر منه (1). وقال خليفة بن خياط: والمجمع عليه أنه - عليه السلام - ولد عام الفيل (2). 17 - من حديث قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف رضي الله عنه قال: "ولدت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل، فنحن لِدَّان، ولدنا مولدًا واحدًا" (3). 18 - ومن حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه عن صوم يوم الاثنين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ذاك يوم ولدت فيه، ولوم بعثت أو أنزل عليَّ فيه) (4). 19 - ومن حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: "ولد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين، وخرج مهاجرًا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، ورفع الحَجَرَ الأسود يوم الاثنين" (5) 20 - ومن حديث ابن عباس وجابر رضي الله عنهم أنهما قالا: "ولد رسول __________ (1) انظر سيرة ابن هشام: 1/ 158، تاريخ الطبري: 2/ 154 - 157، الاستيعاب: 1/ 30 - 31، البداية والنهاية: 2/ 259 - 262، دلائل النبوة لأبي نعيم: 1/ 40، دلائل النبوة للبيهقي: 1/ 89 - 94. (2) السيرة النبوية لابن كثير: 1/ 203. (3) أحمد: 4/ 215، والترمذي في المناقب باب ما جاء في ميلاد النبي - صلى الله عليه وسلم - بزيادة: 3619 وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمَّد بن إسحاق، وقد صرح بالتحديث، فانتفت الشبهة في التدليس" قلت وبذلك يصح الحديث. (4) مسلم: كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر: 1162 وأبو داود في الصيام، باب في صوم الدهر تطوعًا رقم: 2426. (5) أخرجه أحمد: 1/ 277، والطبراني في الكبير: 12984 من طريق ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش الصنعاني به، ومن الرواة عن ابن لهيعة عمرو بن خالد عند الطبراني، وقد سمع من ابن لهيعة قبل اختلاطه، فالحديث بهذا حسن، وله شواهد، انظر ما بعده:20. وقال الهيثمي في المجمع: 1/ 196، وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، وبقية رجاله ثقات من أهل الصحيح.

(1/36)


الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات". هذا هو المشهور عند الجمهور. والله أعلم (1). 21 - ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل" (2).

 المبحث الثاني: مرضعاته عليه الصلاة والسلام

ثويبة مولاة أبي لهب مولاة بني هاشم 22 - من حديث زينب ابنة أبي سلمة أنَّ أمَّ حبيبة رضي الله عنها أخبرتها أنها قالت: "يا رسول الله، انكح أختي بنت أبي سفيان، فقأل: أو تحبين ذلك؟ فقالت: نعم، لست لك بِمُخْلِيةً، وأحَبُّ من شاركني في خير أختي". فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّ ذلك لا يحلُّ لي. قلت: فإنا نُحَدَّثُ أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. قال: بنت أم سلمة؟ قلت: نعم. فقال: لو أنَّها لم تكن ربيبتي في حجري ما حَلَّت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تَعْرضَنَّ عليَّ بناتكن، ولا أخواتكن) (3). __________ (1) ابن أبي شيبة في مصنفه، وإسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح، انظر السيرة النبوية، لابن كثير: 1/ 199. (2) رواه الطبراني في الكبير: 12432، والبيهقي في دلائل النبوة: 1/ 10، والبزار كما في كشف الأستار: 1/ 121، حديث: 226 عن طريق يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن سعيد بن جبير به. وقال الهيثمي في المجمع: 1/ 196: رواه البزار والطبراني في الكبير ورجاله موثقون. (3) رواه البخاري، كتاب النكاح، باب: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} رقم: 5101، فتح الباري: 9/ 140، مسلم: 1449، الرضاع، باب تحريم الربيبة وأخت المرأة، وأبو داود: 2056 النكاح، وباب يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وابن ماجه: 1939كتاب النكاح، باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، والنسائي في النكاح، باب تحريم الجمع بين الأختين: 6/ 96، وابن سعد في الطبقات: 1/ 108. قمراء: القمرة لون البياض إلى الخضرة. وأدمت: حدثت في ركبها جروح دامية باصطكاكها، والشارف: الناقة المسنة. وبض: سال منه الماء شبه العرق أي قليلًا قليلًا، شهباء: مجدبة لا خضرة فيها ولا مطر.

(1/37)


حليمة السعدية 23 - من حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما: قال: "لما وُلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدمت حليمة بنت الحارث، في نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسون الرضعاء بمكة. قالت حليمة: فخرجت في أوائل النسوة على أتان لي، قمراء، ومعي زوجي الحارث بن عبد العزى، أحد بني سعد بن بكر، ثم أحد بني ناضرة، قد أدمت أتاننا، ومعي بالركب شارف والله ما تبض بقطرة لبن، في سنة شهباء. قد جاع الناس حتى خلص إليهم الجهد، ومعي ابن لي، والله ما ينام ليلنا، وما أجد في يدي شيئًا أعلله به، إلا أنا نرجوا الغيث، وكانت لنا غنم، فنحن نرجوها. فلما قدمنا مكة فما بقي منا أحد إلا عرض عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَكَرهَتْهُ، فقلنا: إنه يتيم، وإنما يكرم الظئر، ويحسن إليها الوالد، فقلنا: ما عسى أن تصنع بنا أمه أو عمه أو جده، فكلُّ صواحبي أخذ رضيعًا، فلما لم أجد غيره، رجعت إليه، وأخذته، والله ما أخذته إلا إني لم أجد غيره، فقلت لصاحبي: والله لآخذنَّ هذا اليتيم من بني عبد المطلب، فعسى الله أن ينفعنا به، ولا أرجع من بين صواحبي ولا آخذ شيئًا، فقال: قد أصبت. قالت: فأخذته، فأتيت به الرَّحْلَ، فوالله ما هو إلا أن أتيت به الرَّحْلَ، فأمسيت أقبل ثدياي باللبن، حتى أرويته، وأرويت أخاه، وقام أبوه إلى شارفنا تلك يلمسها، فإذا هي حافل، فحلبها، فأرواني وروي، فقال: يا حليمة، تعلمين والله لقد أصبنا نسمة مباركة، ولقد أعطى الله عليها ما لم نتمنَّ، قالت: فبتنا بخير ليلة، شباعًا، وكنا لا ننام ليلنا مع صبينا. ثم اغتدينا راجعين إلى بلادنا أنا وصواحبي، فركبت أتاني القمراء، فحملته معي، فوالذي نفس حليمة بيده لقطعَتْ الركب حتى أن النسوة ليقلن: أمسكي علينا، أهذه أتانك التي خرجت عليها؟ فقلت: نعم، فقالوا: إنها كانت أدمت حين أقبلنا فما شأنها؟ قالت، فقلت: والله حملت عليها غلامًا مباركًا. قالت: فخرجنا، فما زال يزيدنا الله في كل يوم خيرًا، حتى قدمنا والبلاد سِنَةٌ، ولقد كان رعاتنا يسرحون ثم يريحون، فتروح أغنام بني سعد جياعًا، وتروح غنمي شباعًا، بِطانًا، حفلًا، فنحتلب، ونشرب، فيقولون: ما شأن

(1/38)


غنم الحارث بن عبد العزى، وغنم حليمة تروح شباعًا حفلًا، وتروح غنمكم جياعًا؟ ويلكم اسرحوا حيث تسرح غنم رعاؤهم، فيسرحون معهم، فما تروح إلا جياعًا، كما كانت، وترجع غنمي كما كانت. قالت: وكان يُنسب شبابًا ما يشبه أحد من الغلمان، يشب في اليوم شباب الغلام في الشهر، ويشب في الشهر شباب السنة، فلما استكمل سنتين أقدمناه مكة، أنا وأبوه، فقلنا: والله لا نفارقه أبدًا ونحن نستطيع، فلما أتينا أمه، قلنا: أي ظئر! والله ما رأينا صبيًّا قط أعظم بركة منه، وإنا نتخوف عليه وباء مكة وأسقامها، فدعيه نرجع به حتى تبرئي من دائك، فلم نزل بها حتى أذنت، فرجعنا به، فأقمنا أشهرًا ثلاثة أو أربعة. فبينما هو يلعب خلف البيوت هو وأخوه في بُهْم له، إذ أتى أخوه يشتدُّ، وأنا وأبوه في البدن، فقال: إن أخي القرشي، أتاه رجلان عليهما ثياب بيض، فأخذاه واضطجعاه، فشقَّا بطنه، فخرجت أنا وأبوه يشتدُّ، فوجدناه قائمًا، قد انتقع لونه، فلما رآنا أجهش إلينا، وبكى، قالت: فالتزمته أنا وأبوه، فضممناه إلينا، فقلنا: ما لك بأبي أنت؟ فقال: أتاني رجلان وأضجعاني، فشقا بطني، وصنعا به شيئًا، ثم رداه كما هو، فقال أبوه: والله ما أرى ابني إلا وقد أصيب، إلحقي بأهله، فرديه إليهم قبل أن يظهر له ما نتخوف منه. قالت: فاحتملناه، فقدمنا به على أمه، فلما رأتنا أنكرتْ شأننا، وقالت: ما رجعكما به قبل أن أسألكماه، وقد كنتما حريصين على حبسه؟ فقلنا: لا شيء إلا أن قد قض الله الرضاعة وسرّنا ما نرى، وقلنا: نؤويه كما تحبون أحبَّ إلينا، قال: فقالت: إن لكما شأنًا فأخبراني ما هو، فلم تدعنا حتى أخبرناها، فقالت: كلا والله، لا يصنع الله ذلك به، إن لابني شأنًا، أفلا أخبركما خبره، إني حملت به، فوالله ما حملت حملًا قط، كان أخف علي منه، ولا أيسر منه، ثم أريت حين حملته خرج مني نور أضاء منه أعناق الإبل ببصري -أو قالت: قصور بصرى- ثم وضعته حين وضعته، فوالله ما وقع كما يقع الصبيان، لقد وقع معتمدًا بيديه على الأرض رافعًا رأسه إلى السماء فدعاه عنكما فقبضه وانطلقنا" (1). __________ (1) رواه ابن حبان كما في الموارد: 512، 513، والطبراني في الكبير: 24/ 212 - 215، والبيهقي في الدلائل: 1/ 133 - 136، والسيرة النبوية بشرح الخشني: 1/ 214 وإسحاق بن راهويه في مسنده كما في المطالب العالية: 4/ 167 - 171، وأبو يعلى كما في مجمع الزوائد: 8/ 221 جميعًا من طريق بن إسحاق، وقد صرح ابن إسحاق بالسماع في رواية السيرة، وقال الهيثمي في المجمع: 8/ 227، رواه =

(1/39)


 المبحث الثالث: شق صدره وذر السكينة على قلبه

سبق ذكرها في الحديث السابق 24 - من حديث عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه: "أنَّ رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: كيف كان أول شأنك يا رسول الله؟ قال: (كانت حاضتني من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بُهْم لنا، ولم نأخذ معنا زادًا. فقلت: يا أخي، اذهب فأتنا بزاد من عند أمنا. فانطلق أخي، ومكثت عند البهم، فأقبل طيْرَان أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم، فأقبلا يبتدراني، فأخذاني، فبطحاني إلى القفا، فشقَّا بطني، ثم استخرجا قلبي، فشقاه فأخرجا منه علقتين سوداوين، فقال أحدهما لصاحبه: -قال: يزيد في حديثه- أفتني بماء ثلج، فغسلا به جوفي، ثم قال: أئتني بماء برد، فغسلا به قلبي، ثم قال: أئتني بالسكينه، فَذَرَّاها في قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه: خِطه، فخاطه وختم عليه بخاتم النبوة. فقال أحدهما لصاحبه: اجعله في كِفَّةٍ، واجعل ألفًا من أمته في كفة، فإذا أنا أنظر إلى الألف فوقي، أشفق أن يخرَّ عليَّ بعضهم، فقال: لو أن أمته وزنت به لمال بهم، ثم انطلقا وتركاني. وفَرقَتُ فرقًا شديدًا، ثم انطلقت إلى أمي، فأخبرتها بالذي لقيته، فأشفقت عليَّ أن يكون ألبس بي قالت: أعيذك بالله، فرحَّلت بعيرًا لها، فجعلتني أو فحملتني على الرحل، وركبت خلفي حتى بلغنا إلى أمي فقالت: أديت أمانتي وذمتي، وحدثتها بالذي لقيت، فلم يرعها ذلك، فقالت لي: رأيت خرج مني نور، أضاءت منه قصور الشام) (1). __________ = أبو يعلى، والطبراني بنحوه إلا أنه قال: حليمة بنت أبي ذؤيب، ورجالهما ثقات، قلت ولكثير من مقاطع الحديث شواهد تقويها ولذلك فالحديث حسن لشواهده. وناقة حافل: كثير لبنها. لقطعت: سبقت. (1) رواه أحمد في المسند: 4/ 184 - 185، والحاكم في المستدرك: 2/ 616 - 617، والطبراني في الكبير ددد 17/ 131،ددد والدارمي في المقدمة، باب كيف كان أول شأن النبي: 1/ 8، جميعًا من طريق بقية، حدثني بحير بن سعد عن خالد بن معدان، عن ابن عمرو السلمي، عن عتبة بن عبد السلمي، وقد صرح بقية بالتحديث عندهم جميعًا إلا عند الدارمي، وبقية إذا روى عن بحير فهو معتد به، ومقبول وموثق، =

(1/40)


25 - وقد جاء من حديث أنس رضي الله عنه باختصار أكثر فقال: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل - صلى الله عليه وسلم - وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشقَّ عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظُّ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه "يعني ظئره" فقالوا: إن محمدًا قد قتل، فاستقبلوه، وهو منتقع اللون". قال أنس: "وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره" (1). وقد حدثت أيضًا حادثة شقِّ الصدر مرة أخرى في رحلة الإسراء والمعراج، وسيأتي تفصيلها هناك فانظرها.

 المبحث الرابع: وفاة أمه - عليه السلام - وزيارته قبرها بعد البعثة

26 - قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: "أنَّ أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفيت وهو ابن ست سنين بالأبواء بين مكة والمدينة. كانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهي راجعة به إلى مكة" (2). 27 - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور، فإنها تذكر الموت" (3). __________ = وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي. وقال الهيثمي في المجمع: 8/ 222 إسناد أحمد حسن، وللحديث شواهد سبق ذكرها تحت رقمي: 11 - 12، فالحديث صحيح. (1) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقم: 261، أحمد في المسند:3/ 121، 149، 228، والحاكم في المستدرك: 2/ 116 - 117، والبيهقي في الدلائل: 2/ 7 - 8، والدارمي في المقدمة، باب كيف كان أول شأن النبي: 1/ 8 - 9. ومعنى منتفع اللون: متغير اللون. والمخيط: الإبرة. لأمه: جمعه، وضم بعضه إلى بعض. (2) ابن هشام في السيرة: 1/ 168، عن ابن إسحاق، ورجاله ثقات، وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث، فزالت شبهة تدليسه، ابن كثير: 1/ 235. (3) رواه مسلم في الصحيح، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه - عزَّ وجلَّ - في زبارة قبر أمه الحديث رقم: 976، 2/ 671.

(1/41)


 المبحث الخامس: كفالة جده وحبه له

28 - من حديث كندير بن سعيد عن أبيه قال: حججت في الجاهلية فهذا رجل يطوف بالبيت وهو يرتجل يقول: رب رد راكبي محمدًا ... رده لي واصطنع عندي يدًا قلت: من هذا يعني؟ قال: عبد المطلب بن هاشم ذهبت إبل له، فأرسل ابن ابنه في طلبتها، فاحتبس عليه، ولم يرسله في حاجة قط إلا جاء بها، قال: فما برحت حتى جاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجاء بالإبل فقال: يا بني، لقد حزنت عليك كالمرأة حزنًا لا يفارقني أبدًا" (1).

 المبحث السادس: رعيه الغنم وعصمة الله له من الزلل

29 - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة) (2). 30 - ومن حديث جابر رضي الله عنه: قال كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نجتني الكباث، فقال: (عليكم بالأسود منه، فإنه أطيبه قال: قلنا: وكنت ترعى الغنم يا رسول الله؟ قال: (نعم، وهل من نبيّ إلا قد رعاها) (3). 31 - من حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمُّون به، إلا مرتين من الدهر، كلتيهما يعصمني الله منهما، قلت ليلة لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في __________ (1) أخرجه الطبراني في الكبير: 5524، والبيهقي في دلائل النبوة: 2/ 20 - 21 وابن سعد في الطبقات: 1/ 111، والحاكم في المستدرك: 2/ 603، 604، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل: 2/ 3 / 173، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في "المجمع: 8/ 224: رواه أبو يعلى، والطبراني، وإسناده حسن. وعزاه السيوطي في الخصائص: 1/ 81 إلى البخاري في تاريخه، وابن عدي وأبو نعيم، وابن مندة. (2) رواه البخاري في كتاب الإجارة، باب: رعى الغنم على قراريط، فتح البارى: 4/ 441، رقم 2262، وابن ماجه في سنته، كتاب التجارات، باب الصناعات، رقم: 2149، وابن سعد: 1/ 145. (3) أخرجه البخاري في الأطعمة، باب الكباث، حديث: 5453، ومسلم في الأشربة، باب فضيلة الأسود من الكبات، حديث: 2050.

(1/42)


أغنام لأهله يرعاها: (أبصر إلى غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة، كما يسمر الفتيان، قال: نعم، فخرجت، فجئت أدنى دار من دور مكة، سمعت غناء، وضرب دفوف، ومزامير، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: فلان تزوج فلانة، لرجل من قريش تزوج امرأة من قريش، فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا حر الشمس، فرجعت فقال: ما فعلت؟ فأخبرته. ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، ففعل، فخرجت، فسمعت مثل ذلك، فقيل لي مثل ما قيل لي، فلهوت بما سمعت حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا مسُّ الشمس، ثم رجعت إلى صاحبي فقال: فما فعلت؟ قلت: ما فعلت شيئًا. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فوالله ما هممت بعدها بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته" (1).

 المبحث السابع: قصة بحيرا الراهب

32 - من حديث أبي موسى الأشعري: قال: "خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا، فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يسيرون، فلا يخرج إليهم، ولا يلتفت. قال: فهم يحلون رحالهم، فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء، فأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين، فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خرَّ ساجدًا، ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة. ثم رجع فصنع لهم طعامًا، فلما أتاهم به، وكان هو في رعية الإبل قال: أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى __________ (1) أخرجه أبو نعيم في الدلائل: 128، والبيهقي في الدلائل: 2/ 33، والبزار كما في الكشف برقم: 2403، وابن حبان في صحيحه كما في الإحسان: 8/ 56، رقم: 6239، وانظر المطالب العالية: 4/ 178. رقم 4259. وقال البوصيري: رواه إسحاق بن راهويه بإسناد حسن، وابن حبان في صحيحه، وهكذا رواه محمد بن إسحاق في السيرة، وقال ابن حجر: هذه الطريق حسنة جليلة، وما روي في شيء من المسانيد الكبار إلا في مسند إسحاق، هذا وهو حديث حسن فصل، ورجاله ثقات. وقال الهيثمي في للجمع: 8/ 226 رواه البزار ورجاله ثقات. وأخرجه الحاكم في المستدرك: 4/ 245. وقال: حديث صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.

(1/43)


فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه. قال: فبينما هو قائم عليهم، وهو يناشدهم أن لا يذهبوا به إلى الروم فإن الروم إذا عرفوه بالصفة فيقتلونه، فالتفتَ فإذا سبعة قد أقبلوا من الروم، فاستقبلهم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جاءنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس، وإنا قد أخبرنا خبره، بعثنا إلى طريقك هذا، فقال: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: إنما اخترنا خيره لك لطريقك هذا، قال: أفرأيتم أمرًا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا. قال: فبايعوه وأقاموا معه. قال: أنشدكم الله أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب وبعث معه (أبا بكر وبلالًا) وزوده الراهب من الكعك والزيت" (1). __________ (1) أخرجه الترمذي فى المناقب، باب ما جاء في بدء نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -: 3620، وابن أبي شيبة في مصنفه: 18390، وأعلام النبوة للماوردي: 155 - 156، وأبو نعيم في الدلائل: 51 - 54، والطبري في تاريخه: 2/ 277 - 279، والبيهقي في دلائل النبوة: 1/ 307 - 312 والحاكم في المستدرك: 2/ 615، والسيرة النبوية، للذهبي ص: 28. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخبن، ولم يخرجاه. وقال الذهبي: أظنه موضوعًا وبعضه باطل. وقال الترمذي: حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وانظر نقد ابن كثير لهذا الحديث في السيرة النبوية له: 1/ 243، وقد تكلم عليه الذهبي في السيرة النبوية له ص: 28. وقال: حديث منكر جدًّا، وذكر مجموعة من الأسباب التي توضح قوله هذا. وتكلم عليه شبيها بما قال الذهبي، ابن سيد الناس في عيون الأثر ص: 55، وقال ابن حجر في الإصابة: رجاله ثقات، وذِكْرُ أبي بكر وبلال فيه غير محفوظ، ونقل الشيخ الألباني تصحيحه عن الجرزي ومال إلى تصحيحه في تعليقه على فقه السيرة (ص: 68)، قلت: وسنده صحيح رجاله ثقات، وذكر بلال وأبي بكر فيه غلط واضح كما قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: (1/ 76) ولعلها مدرجة فيه ووهم من أحد الرواة كما قال الحافظ ابن حجر.

(1/44)


 المبحث الثامن: مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول

33 - من حديث عبد الرحمن بن عوف قال - عليه السلام -: شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي حمر النعم، وأني أنكثه) (1). وحلف الفضول هو كما قال محمد بن إسحاق: وتداعت قبائل من قريش إلى حلف، فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان، لشرفه وسنه. وكان حلفهم عنده بنو هاشم وبنو عبد المطلب وبنو أسد بن عبد العزى، وزهرة ابن كلاب، وتيم بن مرة. فتعاهدوا وتعاقدوا على أن لا يجدوا مظلومًا من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا كانوا معه، وكانوا على من ظلمه حتى يردوا عليه مظلمته. فسَمَّت قريشًا ذلك الحلف حلف الفضول"

 المبحث التاسع: زواجه من خديجة وبيان عظم منزلتها

34 - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر خديجة، وكان أبوها يرغب عن أن يزوجه، فصنعت طعامًا وشرابًا، فدعت أباها وزُمَرًا من قريش، فطعموا وشربوا حتى ثملوا، فقالت خديجة لأبيها: "إن محمد ابن عبد الله يخطبني فزوجني إياه، فزوجها إياه، فخلقَتْهُ، وألبسته حلة، وكذلك كانوا يفعلون بالآباء، فلما سرى عنه سكره نظر، فإذا هو مخلَّق، وعليه حلَّة، فقال ما شأني؟ ما هذا؟ فقالت: زوجتني محمد بن عبد الله، قال: أزوج يتيم أبي طالب، لا لعمري. فقالت خديجة: أما تستحي، تريد أن تسفه نفسك عند قريش، تخبر الناس أنك كنت سكران؟ فلم تزل به حتى رضي) (2). 35 - ويؤيده ما جاء من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه بنحو اللفظ __________ (1) أخرجه أحمد: 1/ 190، 193، وأبو يعلى رقم: 844، 845، 846، والبزار كما في كشف الأستار: 1914، 3308. وقال الهيثمي في المجمع: 8/ 172: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، ورجال حديث عبد الرحمن بن عوف رجال الصحيح". وقال الشيخ الساعاتي في الفتح الرباني: 21/ 9 الحديث إسناده صحيح. (2) أخرجه أحمد في المسند: 1/ 312 والبيهقي في الدلائل: 2/ 73، مختصرًا والطبراني في الكبير رقم: 12838. وقال الهيثمي: 9/ 220: رواه أحمد، والطبراني، ورجال أحمد والطبراني رجال الصحيح.

(1/45)


السابق ببعض زياده (1). وهذا يردُّ ما جاء عن المؤملي أن الذي زوج خديجة هو عمها عمرو بن أسد، لأن المؤملي متروك، لا يعتد بكلامه ... (2). 36 - وعن الزهري قال: "لم يتزوج رسول الله على خديجة حتى ماتت" (3). 37 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأرض أربعة خطوط، فقال: (أتدرون ما هذا؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ومريم بنة عمران، وآسية بنة مزاحم امرأة فرعون) (4). 38 - ومن حديث علي بن أبي طالب قال - عليه السلام -: (خير نسائها مريم وخير نسائها خديجة) (5). 39 - ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أتى جبريل - عليه السلام - النبي فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام وطعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صَخَبَ فيه، ولا نَصَب" (6). __________ (1) أخرجه الطبراني في الكبير برقم: 1858، والبزار كما في الكشف رقم: 2657 قال الهيثمي في المجمع: 9/ 222: أخرجه الطبراني والبزار، ررجال الطبراني رجال الصحيح غير أبي خالد الوالبي، وهو ثقة، ورجال البزار أيضًا رجال الصحيح غير أحمد بن يحيى الصوفي، وهو ثقة، لكنه ليس من رجال الصحيح، وقال ابن حجر: وكذا شيخ الطبراني، فكان ينبغي أن يقول: ورجالهما رجال الصحيح سوى شيخيهما وأبي خالد الوالبي. (2) مجمع الزوائد: 9/ 221. (3) قال الهيثمي في المجمع: 9/ 220: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. (4) أخرجه أحمد: 1/ 316، 322، والطبراني في الكبير: 11928، والحاكم: 1853، وأبو يعلى في مسنده رقم: 2722، وأحمد في فضائل الصحابة: 1339، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه الحافظ ابن حجر في الفتح: 7/ 133. وقال الهيثمي في المجمع: 9/ 221 رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني، ورجالهم رجال الصحيح. (5) رواه البخاري في مناقب الأنصار، باب تزويج النبي خديجة: 3815، ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضائل خديجة أم المؤمنين: 2430، والترمذي في المناقب، باب خديجة: 3877، والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف: 7/ 395، وأحمد في المسند: 1/ 161، 132، 143، وفي فضائل الصحابة: 1563. (6) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار، باب تزويج خديجة وفضلها، فتح الباري رقم: 3820، 7/ 133 - 134، ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضائل خديجة أم المؤمنين: 2432، والترمذي في المناقب، باب فضل خديجة رقم: 3876، وأحمد في المسند: 2/ 231، والحاكم في المستدرك:3/ 185، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي فيه، وليس الأمر كما قالاه، فقد أخرجه الشيخان كما ترى.

(1/46)


 المبحث العاشر: مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة

40 - من حديث أبي الطفيل رضي الله عنه قال: "كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم، وكانت قدر ما يفتحها العناقة، وكانت غير مسقوفة، إنما توضع ثيابها عليها ثم تسدل سدلًا عليها، وكان الركن الأسود موضوعًا على سورها تأدبًا، وكانت ذات ركنين كهيأة الحلقة. فأقبلت سفينة من أرض الروم، حتى إذا كانوا قريبًا من جدة، تكسرت السفينة، فخرجت قريش ليأخذوا خشبها، فوجدوا روميًّا عندها، فأخذوا الخشب أعطاهم إياه. وكانت السفينة تريد الحبشة، وكان الرومي الذي في السفينة نجارًا، فقدموا، وقدموا بالرومي، فقالت قريش: نبني بهذا الخشب الذي في السفينة بيت ربنا. فلما أرادوا هدمه، إذا هم بحية على سور البيت مثل قطعة الحائر، سوداء الظهر، بيضاء البطن، فجعلت كلما دنا أحد إلى البيت ليهدمه أو يأخذ من حجارته، سعت إليه فاتحة فاها. فاجتمعت قريش عند المقام، فعجُّوا إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- فقالوا: ربنا لم ترع، أردنا تشريف بيتك، فإن كنت ترضى بذلك، وإلا فافعل ما بدا لك. فسمعوا خوارًا في السماء، فهذا بطائر أسود الظهر، أبيض البطن والرجلين، أعظم من البشر، فغرز مخاليبه في رأس الحية، حتى انطلق بها يجر ذنبها، أعظم من كذا وكذا ساقطًا، فانطلق نحو أجياد، فهدمتها قريش، وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي تحملها قريش على رقابها، فرفعوها في السماء عشرين ذراعًا. فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يحمل حجارة من أجياد، وعليه نمرة، فضاقت عليه النمرة، فذهب يضع النمرة على عاتقه، فتُرَى عورتُه من صغر النمرة، فنودي يا محمد، خَمِّر عورتك، فلم ير عريانًا بعد ذلك، وكان يرى بين بناء الكعبة وبين ما أنزل عليه خمس سنين، وبين مخرجه وبنيانها خمس عشرة سنة" (1). __________ (1) أخرجه الطبراني في الكبير بطوله، وأحمد طرفًا منه، ورجالهما رجال الصحيح كما قال الهيثمي في المجمع:3/ 289. انظر المطالب العالية: 4/ 182 برقم: 4266، والفتح الرباني: 20/ 198 - 199 والرضم: الصخور، والنمرة: الكساء المخطط.

(1/47)


41 - من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره، فقال له العباس عمه: يا ابن أخي، لو حللت إِزارك، فجعلته على منكبك، دون الحجارة؛ قال: فحلَّه، فجعله على منكبه، قال: فسقط مغشيًّا عليه، فما رؤي بعد ذلك اليوم عريانًا" (1).

 المبحث الحادي عشر: تحكيم قريش الرسول صلى الله عليه وسلم في رفع الحجر

42 - من حديث عليّ قال: "لما أرادوا أن يرفعوا الحجر "يعني قريشًا" اختصموا فيه، فقالوا: يحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة، قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول من خرج عليهم، فجعلوه في مرط، ثم رفعه جميع القبائل كلها، ورسول الله يومئذ رجل شاب يعني قبل البعثة" وفي رواية قال: "لما رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قد دخل قالوا: قد جاء الأمين" (2).

 المبحث الثاني عشر: تسليم الحجر عليه قبل النبوة

46 - من حديث جابر بن سمرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إنّي لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن" (3). __________ (1) أخرجه البخاري في الصلاة، باب كراهية التعري في الصلاة. وغيرها، حديث: 364، وفي الحج باب فضل مكة وبنيانها حديث: 1582، وفي مناقب الأنصار، باب بنيان الكعبة حديث: 3829، ومسلم في الحيض، باب الاعتناء بحفظ العورة حديث:340، وأحمد في المسند: 3/ 310 - 313 كلهم من طريق عمرو بن دينار عن جابر. (2) المطالب العالية رقم: 4267، وفي مجمع الزوائد: 8/ 229، قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح، عمير بن حفص بن عمر الضرير، وخالد بن عرعره كلاهما ثقة. ويشهد له حديث السائب بن عبد الله عند أحمد: 3/ 425، وقال الهيثمي فيه: 3/ 292،291 "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، غير هلال بن خباب، ومو ثقة وفيه كلام" ورواه أيضًا الحاكم، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. (3) رواه مسلم في الصحيح، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة رقم: 2277.

(1/48)


 الباب الثاني البعثة النبوية

 الفصل الأول الوحي

 المبحث الأول: بدء الوحي

في سن الأربعين أوحي إلى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فنزل عليه الوحي في غار حراء بالرسالة السماوية الخالدة. 47 - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن أربعين، وكان بمكة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشرًا، فمات وهو ابن ثلاث وستين" (1). 48 - ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لخديجة رضي الله عنها: (إني أرى ضوءًا، وأسمع صوتًا، وإني أخشى أن يكون بي جنون). قالت: "لم يكن الله ليفعل ذلك بك يا ابن عبد الله: ثم أتت ورقة بن نوفل، فذكرت ذلك له فقال: "إن يكن صادقًا فإنَّ هذا ناموس مثل ناموس موسى، فإن بعث وأنا حي فسأعزره، وأنصره، وأؤمن به" (2). 49 - ومن حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح (3)، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنَّث فيه "وهو تعبد الليالي ذوات العدد" قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى __________ (1) رواه البخاري في مناقب الأنصار، باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة إلى المدينة، رقم: 3902، فتح الباري: 7/ 227، ومسلم في كتاب الفضائل، باب كم أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة رقم: 2351، وأحمد في المسند، انظر الفتح الرباني: 20/ 209، وانظر شرح السنة للبغوي: 3733. (2) رواه أحمد في المسند: 1/ 312، وقال الهيثمي في المجمع: 8/ 255: رواه أحمد متصلًا ومرسلًا، والطبراني بنحوه، وزاد: ورجال أحمد رجال الصحيح، وصححه أحمد شاكر برقم: 2846. (3) فلق الصبح: ضياء الصبح، وهذا يقال في الشيء الواضح البين.

(1/49)


خديجة، فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء. فجاءه الملك، فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني (1) حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} (2) فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني (3)، زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع (4)، فقال لخديجة، وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ (5)، وتكسب المعدوم (6)، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق (7)، فانطلقت به خديجة، حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، فيكتب الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ما ترى؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى: فقال له ورقة: هذا الناموس (8) الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعًا (9)، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أو مخرجيَّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا (10)، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي". __________ (1) غطني: عصرني وضمني، الجهد: المشقة. (2) (العلق: 1 - 3). (3) زملوني: غطوني بالثياب ولفوني بها. (4) الفزع: الخوف. (5) تحمل الكل: تنفق على الضعيف واليتيم والعيال، والكل: أصله الثقل والإعياء. (6) تكسب المعدوم: تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد ومكارم الأخلاق. (7) تعين على نوائب الحق: أنك لا يصيبك مكروه لما جعل الله فيك من مكارم الأخلاق وكرم الشمائل. (8) الناموس: هو جبريل - عليه السلام -، ومعنى الناموس: صاحب سر الخير. (9) الجذع: الشاب القوي. (10) نصرًا مؤزرًا: قويًّا بالغًا.

(1/50)


 المبحث الثاني: فترة الوحي

وعند الإِمام أحمد زيادة لطيفة في شدة حزن النبي لفتور الوحي، تقول الزيادة "وفتر الوحي حتى حزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا حزنًا غدا منه مرارًا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه، تبدى له جبريل - عليه السلام - فقال له: يا محمَّد إنك رسول الله حقًّا، فيسكن ذلك جأشه، وتقرُّ نفسه عليه الصلاة والسلام، فيرجع، فإذا طالت عليه، وفتر الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل - عليه السلام - فقال له مثل ذلك" (1). 50 - من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يحدث عن فترة الوحي: (بينما أنا واقف، فرفعت رأسي إلى السماء، فهذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسيه بين السماء والأرض، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فَجُئِثتُ منه فرقًا، فرجعت، فقلت: زملوني زملوني دثروني، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (2). ثم تتابع الوحي (3). فيكون أول ما أنزل من القرآن ابتداءً {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، وأول ما نزل من القرآن بعد فترة الوحي وعودة جبريل للنزول على النبي - صلى الله عليه وسلم - {يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} والله أعلم. 51 - ومن حديث جندب بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال: "اشتكى __________ (1) رواه البخاري في كتاب بدء الوحي، باب حدثنا يحيى بن بكير رقم: 3 فتح الباري: 1/ 22 في كتاب الأنبياء، باب {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى}، وفي التفسير، باب تفسير صورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} رقم: 4953، فتح الباري: 8/ 715، وفي التعبير، باب أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة. ورواه مسلم في كتاب الإيمان، باب بدء الوحي رقم: 160، وأحمد في المسند: 6/ 233، وانظر الفتح الرباني: 20/ 207 - 209. (2) (المدثر 1 - 5). (3) رواه البخاري في كتاب بدء الوحي، باب: حديث رقم: فتح البارى: 1/ 27 وفي التفسير، باب تفسير سورة العلق، رقم: 4959 فتح الباري: 8/ 715، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي، حديث رقم: 161، وفي كتاب الفضائل باب عرق النبي - صلى الله عليه وسلم - في البرد، وحين يأتيه الوحي، حديث رقم: 2333، وأحمد في المسند: 3/ 325، 377، والموطأ: 1/ 202،203، في القرآن باب ما جاء في القرآن. جئثت: ذعرت.

(1/51)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يقم ليلة أو ليلتين أو ثلاثًا فقالت امرأة: ما أرى شيطانك إلا تركك، فأنزل الله {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (1) (2).

 المبحث الثالث: كيف كان يأتي الوحي الرسول صلى الله عليه وسلم

52 - من حديث عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الحارث بن هشام سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحيانًا يأتيني في مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليَّ، فينفصم عني، وقد وعيت ما قال: وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا، فيكلمني فأعي ما يقول، قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشاتي الشديد البرد، فينفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقًا" (3).

 المبحث الرابع: تصديق ورقة بن نوفل بالرسول صلى الله عليه وسلم

53 - من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا تسبوا ورقة، فإني رأيت له جنة أو جنتين) (4). 54 - ومن حديث عائشة أن خديجة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ورقة بن نوفل فقال: (قد رأيته فرأيت عليه ثياب بياض، فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بياض) (5). __________ (1) رواه البخاري، في فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي: 4983، ومسلم في الجهاد والسير، باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأذى: 1797، والترمذي في تفسير القرآن، باب سورة الضحى: 3349، والطيالسي: 2/ 25، وأحمد في المسند: 4/ 311، 312، 313، والحميدي في منده: 2/ 342، والطبراني في الكبير: 1709 - 1712. الصلصة: صوت الحديد إذا وقع بعضه على بعض. ينفصم عنه: يقلع عنه. (2) سورة الضحى: 1 - 3. (3) رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب رقم: حديث رقم: 2، ومسلم في الفضائل، باب عرق النبي - صلى الله عليه وسلم - في البرد وحين يأتيه الوحي، رقم: 2333. (4) رواه الحاكم في المستدرك: 2/ 609، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وواففه الذهبي وهو كما قالا، وقال ابن كثير في السيرة: 4/ 398 وإسناده جيد، وانظر صحيح الجامع الصغير: 7197، والأحاديث الصحيحة: 405، وقال: صحيح. (5) وقال ابن كثير في السيرة: 1/ 397 هذا إسناد حسن، لكن رواه الزهري وهشام عن عروة مرسلًا.

(1/52)


الفصل الثاني أول الناس إسلامًا 55 - من حديث بريدة الأسلمي - رضي الله عنه - قال: "أوحي إلى رسول - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين وصلى عليّ يوم الثلاثاء" (1). 56 - ومن حديث عفيف الكندي - رضي الله عنه - قال: "كنت امرءًا تاجرًا، فقدمت الحج، فأتيت العباس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التجارة، وكان امرءًا تاجرًا، فوالله إني لعنده بمنى إذ خرج رجل من خباء قريب منه، فنظر إلى الشمس، فلما رآها مالت، قام يصلي، ثم خرجت امرأة من ذلك الخباء الذي خرج ذلك الرجل منه، فقامت خلفه تصلي، ثم خرج غلام حين ناهز الحلم من ذلك الخباء، فقام معه يصلي. قال: فقلت للعباس: يا عباس ما هذا؟ قال: هذا محمَّد ابن أخي عبد الله بن عبد المطلب قال: قلت: من هذه المرأة قال: هذه امرأته خديجة ابنة خويلد. قال: فقلت من هذا الفتى قال: هذا علي بن أبي طالب ابن عمه. قال: قلت: فما هذا الذي يصنع؟ قال: يصلي، وهو يزعم أنه نبي، ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الفتى، وهو يزعم أنه ستفتح عليه كنوز كسرى وقيصر. قال: فكان عفيف وهو ابن عم الأشعث بن قيس يقول -وأسلم بعد فحسن إسلامه: لو كان الله رزقني الإِسلام يومئذ، فكون ثانيًا مع علي بن أبي طالب" (2). 57 - ومن حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "أول من صلى مع النبي __________ (1) رواه الحاكم في المستدرك: 3/ 112، وصححه، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (2) رواه أحمد: 1/ 209 - 210، والحاكم في المستدرك: 3/ 183، فقال صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وابن سعد في الطبقات، والنسائي في الخصائص: 17 - 18، وذكره الحافظ في الإصابة، وعزاه للبغوي وأبي يعلى، ورواه الطبري في تاريخه: 2/ 212 - 213، والبخاري في التاريخ الكبير: 4/ 1 / 74 - 75، وابن عبد البر في الاستيعاب، وقال ابن عبد البر: حديث حسن جدًّا، وقال الهيثمي: 9/ 103 رواه أحمد وأبو يعلى بنحوه، والطبراني ورجال أحمد ثقات: انظر أبا يعلى رقم: 1547.

(1/53)


- صلى الله عليه وسلم - بعد خديجة علي" (1). 58 - ومن حديث سلمان - رضي الله عنهما - قال: "أول هذه الأمة ورودًا على نبيها - صلى الله عليه وسلم - أولها إسلامًا علي بن أبي طالب" (2). 59 - ومن حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنهما - قال: "أول من صلى (وفي لفظ) أول من أسلم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي" (3). 60 - من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنهما - في قصة ما حصل بين أبي بكر وعمر من الخصومة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّ الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟) (4). 61 - من حديث عمار - رضي الله عنه - قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما معه إلا خمس أعبد، وامرأتان، وأبو بكر". وفي هذا الحديث أن أبا بكر أول من أسلم من الأحرار مطلقًا (5). وهو قول ابن عباس، وإبراهيم النخعي، ومحمد بن كعب، ومحمد بن سيرين، وسعد بن إبراهيم، وهو المشهور عند جمهور أهل السنة (6). ولا منافاة في ذلك، "فإن أبا بكر أول من أسلم من الرجال، وعليًّا أول من أسلم من الصييان، وخديجة أول من أسلم من النساء، وزيد بن حارثة أول __________ (1) رواه الترمذي: 3734 في المناقب، باب مناقب علي، والطيالسي: 2753، وأحمد: 330/ 1 - 331، وقال الساعاتي في الفتح: 20/ 214، وسنده جيد. (2) قال الهيثمي: 9/ 102: رواه الطبراني: 6174 ورجاله ثقات، والحاكم في المستدرك: 3/ 136. (3) رواه الترمذي: 3735 في المناقب، باب مناقب علي بن أبي طالب، وأحمد: 4/ 368 - 371، والطيالسي: 678، والحاكم: 3/ 136، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. قلت: وهو كما قالوا، وقد وقع في آخره عند الترمذي: "قال عمرو بن مرة: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فأنكره، وقال: أول من أسلم أبو بكر الصديق". ويشهد له حديث ابن عباس السابق. (4) رواه البخاري في "فضائل الصحابة" باب قول النبي: (لو كنت متخذًا خليلًا) رقم: 3661 فتح الباري: 7/ 18. (5) رواه البخاري في "فضائل الصحابة" باب قول النبي: (لو كنت متخذًا خليلًا) رقم: 7660، فتح الباري: 7/ 18. (6) سيرة ابن كثير: 1/ 435، فتح الباري: 7/ 24.

(1/54)


من أسلم من الموالي". وهذا قول أبي حنيفة - رضي الله عنه - (1). أما الأعبد الذين ذكروا في حديث عمار فهم بلال بن رباح، وزيد بن حارثة، وعامر بن فهيرة، مولى أبي بكر، فإنه أسلم قديمًا مع أبي بكر، وأبو فكيهة مولى صفوان بن أمية، وشقران مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -. والمرأتان فخديجة، والأخرى أم أيمن أو سمية (2). وقد كان من أوائل من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابي عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - عنه. 62 - عن عمرو بن عبسة - رضي الله عنه -: قال: قلت: "يا رسول الله، من معك على هذا الأمر؟ قال: (حر وعبد) قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال، ثم قال له: (ارجع إلى قومك حتى يمكن الله -عَزَّ وَجَلَّ- لرسوله) قال: وكان عمرو بن عبسة يقول: "لقد رأيتني وإني لربع الإِسلام" (3). __________ (1) سيرة ابن كثير: 1/ 437، والترمذي في المناقب، باب مناقب علي رقم: 3735، وقال: كذا قال بعض أهل العلم. (2) فتح الباري: 7/ 24. (3) رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب إسلام عمرو بن عسة، رقم: 832 مطولًا، والإمام أحمد في مناقب عمرو بن عبسة في "فضائل الصحابة" انظر الفتح الرباني: 20/ 215.

(1/55)


 الفصل الثالث الجهر بالدعوة

63 - من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (1) خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى صعد الصفا، فهتف: يا صباحا، فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا إليه، فقال: (أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلًا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جَرَّبنا عليك كذبًا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد). قال أبو لهب: تبا لك ما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام، فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (2). 64 - ومن حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (يا فاطمة بنت محمَّد، يا صفية بنت عبد المطلب، يا بني عبد المطلب، لا أملك لكم من الله شيئًا، سلوني من مالي ما شئتم) (3). 65 - ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزل عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قال: (يا معشر قريش، أو كلمة نحوها اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنكم من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمَّد، سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئًا) (4). __________ (1) (سورة الشعراء: 214). (2) رواه البخاري في التفسير، سورة الشعراء، باب: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} رقم: 4770 فتح الباري: 8/ 501، وفي سورة تبت رقم: 4971، 4972 فتح الباري: 8/ 737، وفي الأنياء، باب من انتسب إلى آبائه في الإِسلام والجاهلية، وفي الجنائز، باب ذكر شرار الموتي، ومسلم في الصحيح، كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} رقم: 208، أحمد في مسنده: 1/ 281، الفتح الرباني: 20/ 216، وابن جرير في التاريخ: 2/ 216. (3) مسلم في الصحيح، كتاب الإيمان، باب قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} رقم: 205. (4) البخاري في التفسير، سورة الشعراء باب {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} رقم:4771 فتح الباري: 8/ 551، وفي الأنبياء، باب من انتسب إلى آبائه في الإسلام والجاهلية، وفي الوصايا، باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب.

(1/56)


 الفصل الرابع موقف قريش مما جاءهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم –

 المبحث الأول: قريش تطلب من أبي طالب الحد من نشاط الرسول

66 - من حديث عقيل بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: "جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إنَّ ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا، فقال: يا عقيل، انطلق فأتني بمحمد، فاستخرجته من كنس، أو قال خنس، يقول: بيت صغير، فجاء به في الظهيرة في شدة الحر. فلما أتاهم قال: إنَّ بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فاتته عن أذاهم. فحلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببصره إلى السماء فقال: (ترون هذه الشمس). قالوا: نعم، قال: (فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشعلوا منه بشعلة) وفي رواية: (والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحد من هذه الشمس شعلة من نار). فقال أبو طالب: "والله ما كذب ابن أخي قط، فارجعوا راشدين" (1). __________ (1) المطالب العالية: 4278، ورواه أبو يعلى وإسناده صحيح، والطبراني في الأوسط والكبير. وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 15: رواه أبو يعلى باختصار يسير من أوله، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح.

(1/57)


 المبحث الثاني: الوليد بن المغيرة وقوله في القرآن

67 - من حديث عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن الوليد بن المغيرة جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقد له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم، إنَّ قومك يريدون أن يجمعوا لك مالًا فقال: لِمَ؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدًا لتعرض ما قبله. قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالًا. قال: فقل فيه قولًا يبلغ قومك إنك منكر له. قال: وماذا أقول؟ فوالله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجنَّ، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، والله إنَّ لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله؛ لأنه ليعلو ولا يعلى؛ لأنه ليحطم ما تحته. قال: لا يرض عنك قومك حتى تقول فيه. قال: قف عني حتى أفكر فيه، فلما فكَّر، قال: إن هذا إلا سحر يؤثر. يأثره عن غيره، فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} (1) (2).

 المبحث الثالث: صور من أذى قومه له

وسيأتي تفصيل أكثر ولكن نذكر بعضه هنا لمناسبته للأحداث في هذا المبحث. 68 - من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: "حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يومًا في الحِجْر، فذكروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صرنا منه على أمر عظيم أو كما قالوا. __________ (1) سورة المدثر: (11 - 13). (2) رواه الحاكم في المستدرك: 2/ 507، وقال صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وانظر: البداية والنهاية: 3/ 60، والبيهقي في دلائل النبوة: 1/ 556.

(1/58)


قال. فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مرَّ بهم طائفًا بالبيت، فلما أن مر بهم غمزوه ببعض ما يقول، قال: فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضي، فلما مرَّ بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فقال: (تسمعون يا معشر قريب، أما والذي نفس محمَّد بيده لقد جئتكم بالذبح)، فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدَّهم فيه وصاة من قبل ذلك ليرفأه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم، انصرف راشدًا، فوالله ما كنت جهولًا. قال: فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا، كما كان يبلغهم عنه من عيب آلهتهم ودينهم، قال: فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (نعم أنا الذي أقول ذلك)، قال: فلقد رأيت رجلًا منهم أخذ بمجمع ردائه، قال: وقام أبو بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - دونه يقول وهو يبكي: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأشدُّ ما رأيت قريشًا بلغت منها" (1). وقوله "فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشًا بلغت منه" لا يعني أن النبي لم يؤذ أشد من ذلك، ولكن قال ذلك لما رأى هو، وليس لما رأى غيره. __________ (1) رواه أحمد في المسند: 2/ 218 بإسناد صحيح، صرح فيه ابن إسحاق بالتحديث، وأخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب لو (كنت متخذًا خليلًا) رقم: 3678 فتح الباري: 7/ 22 مختصرًا، وأشار البخاري إلى رواية ابن إسحاق هذه، وقال: وصله أحمد من طريق إبراهيم بن سعد، والبزار من طريق بكر بن سليمان، كلاهما عن ابن إسحاق بهذا السند، وانظر أطرافه عند البخاري: 3856، 4815، وقال الهيمثي في المجمع: 6/ 16 رواه أحمد، وقد صرح ابن إسحاق بالسماع، وبقية رجاله رجال الصحيح وقال أيضًا: في الصحيح، طرف منه.

(1/59)


 المبحث الرابع: الدخول في الإسلام على الرغم من الأذى

1 - إسلام حمزة - رضي الله عنه - جاء في قصة إسلامه عليه رضوان الله عليه آثار مرسلة بأسانيد رجالها ثقات: 69 - عن محمَّد بن كعب القرظي قال: "كان إسلام حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - حَمِيَّةً، وكان يخرج من الحرم فيصطاد، فإذا رجع مر بمجلس قريش، وكانوا يجلسون عند الصفا والمروة، فيمر بهم فيقول: رميت كذا وكذا، وصنعت كذا وكذا، ثم ينطلق إلى منزله، فأقبل من رميه ذات يوم، فلقيته امرأة فقالت: يا أبا عمارة، ماذا لقي ابن أخيك من أبي جهل بن هشام! شتمه، وتناوله، وعمل وفعل. فقال: هل رآه أحد؟ قالت: أي والله، لقد رآه ناس. فأقبل حتى انتهى إلى ذلك المجلس عند الصفا والمروة، فإذا هم جلوس وأبو جهل فيهم. فاتكأ على قوسه، وقال: رميت كذا وكذا، وفعلت كذا وكذا، ثم جمع يديه بالقوس، فضرب بها بين أذني أبي جهل فوق سنتها، ثم قال: خذها بالقوس، وأخرى بالسيف: وأشهد أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه جاء بالحق من عند الله. قالوا: يا أبا عمارة إنه سبَّ آلهتنا، وإن كنت أنت، وأنت أفضل منه، ما أقررناك وذاك، وما كنت يا أبا عمارة فاحشًا" (1). وقد جاء من حديث ابن إسحاق عن رجل من أسلم، فذكر القصة أطول مما ذكرت هنا (2). __________ (1) قال الهيثمي في المجمع: 9/ 267، رواه الطبراني مرسلًا، ورجاله رجال الصحيح، وقد جاء بنحوه عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق حليف بني زهرة، وقال الهيثمي: 9/ 267 رواه الطبراني مرسلًا، ورجاله ثقات. ومجموع الطرق المرسلة تفيد الحديث قوة وصحة. (2) رواه الحاكم في المستدرك:3/ 192 - 193، وابن كثير في السيرة: 1/ 445 - 446، وقال: وهكذا رواه البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق فذكره، انظر دلائل النبوة للبيهقي: 2/ 213 - 214 والسيرة النبوية لابن هشام:1/ 360.

(1/60)


2 - إسلام أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - 70 - من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "لما بلغ أبا ذر مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي، فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله، ثم ائتني. فانطلق الأخ حتى قدمه وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلامًا ما هو بالشعر. فقال: ما شفيتني مما أردت. فتزود، وحمل سنة له فيها ماء، حتى قدم مكة، فأتى المسجد، فالتمس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، حتى أدركه بعض الليل (اضطجع)، فرآه علي فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه، فلم يسأل واحدًا صاحبه عن شيء حتى أصبح، قام احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظلَّ ذلك اليوم، ولا يراه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به عليٌّ فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه، فذهب به معه، لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان يوم الثالث فعاد علي على مثل ذلك، فأقام معه، فقال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهدًا وميثاقًا لترشدني فعلت. ففعل، فأخبره. قال: فإنه حقٌّ، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئًا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي. ففعل، فانطلق يقفوه (1)، حتى دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودخل معه، فسمع من قوله، وأسلم مكانه. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري. قال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم. فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ثم قام القوم فضربوه حتى أوجعوه. وأتى العباس فأكب علي، قال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم إلى الشام؟ فأنقذه منهم. __________ (1) يقفو: يتبعه.

(1/61)


ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه وثاروا إليه، فأكب العباس عليه" (1). وقد جاءت قصة إسلامه مبسوطة أكثر عند مسلم (2) من حديث عبد الله بن الصامت، وفيها زيادات كثيرة، فانظر التوفيق بين الروايتين في فتح الباري (3) للحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى. 3 - إسلام ضماد الأزدي 71 - من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "إن ضمادًا قدم مكة، وكان من أزد شنوءه، وكان يرقى من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمدًا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، قال: فلقيه، فقال: يا محمَّد، إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله. أما بعد) قال: "فقال: أعد عليَّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاموس البحر. قال: فقال: (هات يدك أبايعك على الإِسلام)، قال: فبايعه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وعلى قومك)، قال: وعلى قومي. قال: فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية فمروا بقومه، فقال صاحب السرية للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئًا؟ فقال: رجل من القوم: أصبت منهم مطهرة، فقال: ردها فإنَّ هؤلاء قوم ضماد (4). __________ (1) رواه البخاري في مناقب الأنصار، باب إسلام أبي ذر، رقم: 3861، فتح البارى: 7/ 173، ورواه مسلم في كتاب "فضائل الصحابة" باب فضائل أبي ذر رقم: 2474. (2) رواه مسلم كتاب "فضائل الصحابة" باب فضائل أبي ذر، رقم: 2474. (3) فتح الباري: 7/ 174 - 275، مناقب الأنصار، باب إسلام أبي ذر، رقم: 3861. (4) رواه مسلم في كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، رقم: 868، ورواه أحمد في المسند: 1/ 302، 350،393، 432، 3/ 371، والحاكم: 3/ 54 - 55 وصححه، ووافقه الذهبي، وابن سعد: 1/ 299، وسنده قوي، وابن هشام: 2/ 573 - 575، والفتح الرباني: 21/ 208. =

(1/62)


 المبحث الخامس: عتبة يعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم المناصب والمال والنساء

72 - من حديث جابر بن عبد الله: قال: "اجتمعت قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه، ولينظر ما يرد عليه. قالوا: ما نعلم أحدًا غير عتبة بن ربيعة. قالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة، فقال: يا محمَّد أنت خير أم عبد الله؟ فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك، قد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، أما والله ما رأينا سخطة أشأم على قومك منك، فرقَّت جماعتنا، وشَتَّتتَ أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى طار فيهم أنَّ في قريش ساحرًا، وأن في قريش كاهنًا، ما ينتظر إلا مثل صيحة الحبلى بأن يقوم بعضنا لبعض بالسيوف حتى نتفانى. أيها الرجل، إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أغنى قريش رجلًا، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش فنزوجك عشرًا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفرغت، قال: نعم، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حتى بلغ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فقال عتبة: حسبك ما عندك غير هذا. قال: لا. فرجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك. فقال: ما تركت شيئًا أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته، قالوا: هل أجابك، قال: نعم، قال: والذي نصبها بنية ما فهمت شيئًا مما قال غير أنه قال: أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، قالوا: ويلك يكلمك بالعربية، فلا تدري ما قال. __________ = ومعنى يرقي: من الرقية، وهي العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة. والمراد بالريح هنا: الجنون، ومس الجنون ومس الجن. وقوله فهل لك؟: أي فهل لك رغبة في رقيتي، وهل تميل إليها؟ قاموس البحر: وسطه، وقال ابن دريد: لجته.

(1/63)


قال: لا والله، ما فهمت مما قال غير ذكر الصاعقة (1).

 المبحث السادس: قريش وطلبهم الآيات والمعجزات

وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إلا بَشَرًا رَسُولًا} (2). 73 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (قالت قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم - ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا ونؤمن بك. قال: وتفعلون؟ قالوا: نعم. قال فدعا: فأتاه جبريل فقال: إن ربك -عَزَّ وَجَلَّ- يقرأ عليك السلام، ويقول: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبًا، فمن كفر بعد ذلك منهم عذبته عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم أبواب التوبة والرحمة. فقال: بل باب التوبة والرحمة. فأنزل الله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إلا تَخْوِيفًا} (3) (4). __________ (1) أخرجه أبو يعلى في مسنده: 1818، وابن هشام في السيرة: 1/ 293 - 294، والبيهقي في الدلائل: 1/ 230 - 231، وأبو نعيم في دلائل النبوة برقم: 182، وابن أبي شيبة في المصنف: 14/ 295 - 296، وعبد بن حميد كما في المنتخب: 1123، والحاكم، في المستدرك: 2/ 253. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وقال الهيمثي في المجمع: 6/ 19 - 20 رواه أبو يعلى، وفيه الأجلح الكندي، وثقه ابن معين وغيره وضعفه النسائي وغيره، وبقية رجاله ثقات. قلت: الأجلح ضعفه أبو حاتم، والنسائي وأحمد، ووثقه ابن معين والعجلي، ورضيه ابن عدي فهو حسن الحديث إن شاء الله. (2) (سورة الإسراء: 90 - 93). (3) (سورة الإسراء: 95). (4) رواه أحمد في المسند: 1/ 258، والحاكم في المستدرك: 2/ 362، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال ابن كثير في تفسيره: رواه الإِمام أحمد، وابن مردويه، والحاكم في مستدركه من حديث سفيان الثوري، وعزاه في البداية والنهاية: 3/ 52، للنسائي، وقال: إن سنده جيد، وذكر في السيرة: 1/ 483 إسنادين له: ثم قال: هذان إسنادان جيدان. وقال الهيثمي في المجمع: 7/ 50: بعد ذكر روايتين للإمام أحمد: ورجال الروايتين رجال الصحيح، إلا أنه وقع في أحد طرقه عمران بن الحكم، وهو وهم، وفي بعضها عمران أبو الحكم وهو ابن الحرث، وهو الصحيح =

(1/64)


74 - من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أيضًا قال: "قالت قريش لليهود أعطونا شيئًا نسأل عنه الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فنزلت: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلا قَلِيلًا}. قالوا: نحن لم نؤت من العلم إلا قليلًا، وقد أوتينا التوراة فيها حكم الله، ومن أوتي التوراة، فقد أوتي خيرًا كثيرًا، فنزلت: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (1) (2).

 المبحث السابع: اشتداد إيذاء قريش للنبي

1 - أبو جهل بن هشام يزعم أنه يطأ عنق الرسول 75 - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "قال أبو جهل: هل يعفر محمَّد وجهه بين أظهركم؟. قال: فقيل: نعم. فقال: واللات والعزى! لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرنَّ وجهه في التراب. قال فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته، قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه. قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولا وأجنحة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا) (3). 76 - ومن حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "قال أبو جهل لئن رأيت محمدًا يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على عنقه، قال: فقال - عليه السلام -: (لو فعل لأخذته الملائكة عيانًا، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، ورأوا مقاعدهم في __________ = وابن جرير الطبري في التفسير:15/ 108 وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند برقم: 2333. (1) سورة الكهف: 109. (2) رواه أحمد في المسند: 1/ 255، والترمذي في التفسير، باب سورة بني إسرائيل رقم: 3140، وقال: حسن صحيح غريب، والحاكم في المستدرك: 2/ 531، وقال: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي، وصححه أحمد شاكر برقم: 2309. (3) رواه مسلم في كتاب صفات المنافقين، باب قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} رقم: 2797، وأحمد: 2/ 370، وابن كثير في تفسيره: 4/ 529، وقال: رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن أبي حاتم، وابن جرير في التفسير: 30/ 256، والبيهقي دلائل النبوة: 1/ 438. يعفر وجهه: أي يسجد ويلصق وجهه بالعفر وهو التراب. فجأهم: بغتهم. ينكص على عقبيه: رجع يمشي إلى ورائه.

(1/65)


النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله لرجعوا لا يجدون مالًا ولا أهلًا) (1). 77 - ومن حديث ابن عباس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي فجاء أبو جهل: فقال: "ألم أنهك عن هذا؟ ألم أنهك عن هذا؟ فانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فزبره، فقال: أبو جهل: إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، فأنزل الله تعالى {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}. قال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله" (2). 2 - فعل أبي لهب 78 - من حديث ربيعة بن عباد الديلي: وكان جاهليًّا أسلم قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصر عيني بسوق ذي المجاز يقول: يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، ويدخل في فجاجها والناس متقصفون عليه، فما رأيت أحدًا يقول شيئًا، وهو لا يسكت يقول: يا أيها الناس، قولوا لا إله الله تفلحوا، إلا أن وراءه رجلًا أحول وضيء الوجه ذو غديرتين يقول: إنه صابىء كاذب، فقلت من هذا؟ قالوا: محمَّد بن عبد الله، وهو يذكر النبوة. قلت: ومن هذا الذي يكذبه، قالوا عمه أبو لهب. قلت: "يعني ابن أبي الزناد إنك كنت يومئذ صغيرًا؟ قال: لا والله، إني يومئذ لأعقل". وفي رواية أخرى: "قال: إني لمع أبي، رجل شاب أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبع القبائل، ووراءه رجل أحول وضيء ذو جمة، يقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على القبيلة ويقول: (يا بني فلان، إني رسول الله إليكم آمركم، أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأن تصدقوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به). فإذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مقالته قال الآخر من خلفه: يا بني فلان، إن هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى، وحلفاءكم من الجن بني مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تسمعوا له، ولا تتبعوه. فقلت لأبي من هذا؟ قال: عمه أبو لهب" (3). __________ (1) رواه البخاري في التفسير: تفسير سورة العلق، باب: {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ}، رقم: 4958، فتح الباري: 8/ 724 والترمذي: 3348 في التفسير: تفسير سورة العلق، وقال: حسن صحيح غريب، وأحمد، انظر الفتح الرباني: 20/ 23، وقال الهيثمي: 8/ 228: رواه أحمد وأبو يعلى، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح. (2) رواه الترمذي في التفسير، باب تفسير سورة العلق رقم: 3349، وقال حسن صحيح غريب، وابن جرير في التفسير:30/ 256، وقال الهيثمي في المجمع: 7/ 139 رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. (3) رواه أحمد في المسند:3/ 491 - 492،493، 4/ 341، وسنده حسن، وقال الشيخ الساعاتي في الفتح =

(1/66)


وقد سبق ذكر حديث الجهر بالدعوة، وإيذاء أبي لهب للنبي أمام قريش بقوله: تبًّا لك، ألهذا جمعتنا؟ فانظره هناك. 3 - إيذاء عقبة بن أبي معيط للرسول صلى الله عليه وسلم 79 - من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه، فظل في كتفي محمَّد إذا سجد. فانبعث شقي القوم فأخذه، فلما سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وضعه بين كتفيه، قال فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض، وأنا قائم أنظر، لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والنبي ساجد، ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة. فجاءت، وهي جويرية، فطرحته عنه، ثم أقبلت تشتمهم، فلما قضى النبيُّ صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم. وكان إذا دعا، دعا ثلاثًا، وإذا سأل، سأل ثلاثًا، ثم قال: (اللهم عليك بقريش) ثلاث مرات. فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته، ثم قال: (اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة (1)، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط). وذكر السابع ولم أحفظه، فوالذي بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالحق! لقد رأيت الذين سمَّى صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب: قليب بدر) (2). __________ = الرباني: 20/ 216 - 217 سنده جيد، رواه البيهقي والطبراني. وله شاهد من حديث طارق به عبد الله المحاربي، أخرجه أبو بكر بن شيبة، انظر المطالب العالية: 4277، قال البوصيري: رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح، وأبو يعلى وابن حبان والحاكم والنسائي وابن ماجه مختصرًا، صحيح ابن حبان موارد: 1683، والطبراني في الكبير: 4583، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند: 4/ 342 وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 22، رواه أحمد وابنه، والطبراني في الكبير نحوه، والأوسط باختصار وبأسانيد، وأحد أسانيد عبد الله بن أحمد رجاله ثقات. (1) في صحيح مسلم: الوليد بن عقبة، وصوابه ما أثبتناه، انظر فتح الباري: 7: 165. (2) رواه مسلم في الجهاد والسير، باب ما لقي النبي من أذى المشركين والمنافقين، رقم: 1794، والبخاري في كتاب الصلاة، باب المرأة تطرح عن المصلى شيئًا من الأذى، رقم: 520 فتح الباري: 1/ 594، وكتاب مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من المشركين، رقم: 3854 فتح الباري: 7/ 165 وأحمد، انظر الفتح الرباني: 20/ 218. =

(1/67)


وأما السابع ففي رواية البخاري: (عمارة بن الوليد) (1). 80 - ومن حديث عبد الله بن مسعود أيضًا قال: "بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد وأبو جهل بن هشام، وشيبة وعتبة ابنا ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف، ورجلان آخران كانوا سبعة، وهم في الحجر، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فلما سجد وأطال السجود، فقال أبو جهل: أيكم يأتي جزور بني فلان فيأتينا بفرثها، فنكفئه على محمد - صلى الله عليه وسلم -، فانطلق أشقاهم عقبة بن أبي معيط، فأتى به فألقاه على كتفيه، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجد قال ابن مسعود: وأنا قائم لا أستطيع أن أتكلم، ليس عندي منعة تمنعني، فأنا أذهب إذ سمعتُ فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبلت حتى ألقت ذلك عن عاتقه، ثم استقبلت قريشًا تسبهم، فلم يرجعوا إليها شيئًا. ورفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه كما كان يرفع عند تمام السجود، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال: (اللهم عليك بقريش ثلاثًا، عليك بعتبة وعقبة وأبي جهل وشيبة)، ثم خرج من المسجد، فلقيه أبو البختري بسوط يتخصر به، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنكر وجهه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: خل عني، قال: علم الله لا أخلي عنك أو تخبرني ما شأنك، فلقد أصابك شيء، فلما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه غير مخلّ عنه أخبره، فقال: (إن أبا جهل أمر فطرح عليّ فرث)، قال أبو البختري: هلَّم إلى المسجد. فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو البختري فدخلا المسجد، ثم أقبل أبو البختري إلى أبي جهل فقال: يا أبا الحكم أنت الذي أمرت بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فطرح عليه الفرث قال: نعم. قال فرفع السوط فضرب به رأسه، قال: فثار الرجال بعضها إلى بعض، قال: وصاح أبو جهل: ويحكم هي له، إنما أزاد محمَّد أن يلقي بيننا العداوة، __________ = جزور: ناقة. سلا: اللفافة: التي يكون فيها الولد في بطن الناقة، وسائر الحيوان، وهي من الآدمي المشيمة. أشقى القوم: عقبة بن أبي معيط. استضحكوا: حملوا أنفسهم على الضحك والسخرية، ثم أخذهم الضحك جدًّا، فجعلوا يضحكون، ويميل بعضهم على بعض. جويرية: شابة لم تكبر بعد. القليب: هي البئر التي لم تطو. (1) رواه البخاري في كتاب الصلاة، باب المرأة تطرح عن المصلي شيئًا من الأذى، رقم: 520، فتح الباري: 1/ 594.

(1/68)


وينجو هو وأصحابه" وفي رواية: فلما رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه: (حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد اللهم عليك الملأ من قريش) (1). 4 - اجتماع الملأ من قريش وضربهم الرسول 81 - من حديث أسماء بنت أبي بكر أنهم قالوا لها: ما أشد ما رأيت المشركين بلغوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت: "كان المشركون رفعوا في المسجد عمدًا ليروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يقول في آلهتهم، فبينما هم كذلك، إذ أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقاموا إليه بأجمعهم، فأتى الصريخ إلى أبي بكر، فقالوا: أدرك صاحبك، فخرج من عندنا، وإن له لغدائر أربع، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلًا يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟ قال: فَلهَوْا عن رسول - صلى الله عليه وسلم -، وأقبلوا على أبي بكر - رضي الله عنه -، قالت: فرجع إلينا أبو بكر، فجعل لا يمس من غدائره إلا جاء معه، وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام" (2). 82 - من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: "إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر، فتعاقدوا باللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، ونائلة وإساف، لو قد رأينا محمدًا لقد قمنا إليه قيام رجل واحد، فلم نفارقه حتى نقتله، فأقبلت ابنته فاطمة - رضي الله عنها - تبكي حتى دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك لو قد رأوك لقد قاموا إليك فقتلوك، فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من دمك، فقال: يا بنية أريني وَضُوءًا، فتوضأ ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا: ها هوذا، وخفضوا أبصارهم، وسقطت أذقانهم في صدورهم، وعقروا في مجالسهم، فلم يرفعوا إليه بصرًا، ولم يقم إليه رجل، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قام على رؤسهم، فأخذ قبضة من التراب، فقال: شاهت الوجوه، ثم __________ (1) قال الهيثمي: 6/ 18: حديث ابن مسعود في الصحيح باختصار قصة أبي البختري، رواه البزار والطبراني في الأوسط, وفيه الأجلح بن عبد الله الكندي، وهو ثقة عند ابن معين وغيره، وضعفه النسائي وغيره, وحديثه حسن إن شاء الله، انظر التعليق على حديث رقم: 75. (2) رواه الحميدي في مسنده رقم: 324، وقال الحافظ في الفتح: رواه أبو يعلى بإسناد حسن: 7/ 117. وقال البوصيري رواه الحميدي وأبو يعلى بإسناده رواته ثقات، وأخرجه أبو نعيم في الحلية من طريق الحميدي: 1/ 31 انظر المطالب العالية رقم: 4279، وله شاهد حديث: 68.

(1/69)


حصبهم بها فما أصاب رجلًا منهم من ذلك الحصى حصاة إلا قتل يوم بدر كافرًا" (1).

 المبحث الثامن: عدوان المشركين على مستضعفي المسلمين

83 - من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر، وعمار بن ياسر، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد، فأما رسول الله فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون، فألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم إنسان إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه فأعطوه الولدان، وأخذوا يطوفون به شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد" (2). 84 - من حديث عثمان بن عفان قال: "أقبلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخذًا بيدي نتمشى بالبطحاء، حتى أتى على آل عمار بن ياسر، فقال أبو عمار: يا رسول الله الدهر هكذا؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: اصبر، ثم قال: اللهم اغفر لآل ياسر، وقد فعلت" (3). وفي رواية قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأبي عمار وأم عمار وعمار: (اصبروا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة) (4). 85 - ومن حديث جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بعمار بن ياسر وبأهله __________ (1) رواه أحمد في المسند: 1/ 303،368 وابن حبان في صحيحه: موارد: 1691، وقال الهيثمي في المجمع: 8/ 228 أخرجه أحمد بإسنادين، ورجال أحدهما رجال الصحيح، وصححه أحمد شاكر برقم:2762. (2) ابن ماجه: المقدمة، فضل سلمان وأبي ذر والمقداد رقم: 150، وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه: إسناده ثقات، ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك: 3/ 384 من طريق عاصم بن أبي النجود، وحدثيه حسن، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وأخرجه أبو نعيم في الحلية: 1/ 139، وابن سعد في الطبقات:3/ 1 / 166، وإسناده حسن. (3) قال الهيثمي في المجمع: 9/ 293 رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وانظر المسند: 1/ 62 وابن سعد في الطبقات:31/ 1 / 177، وله شاهد من الحديث الذي يليه. (4) قال الهيثمي في المجمع: 9/ 293 رواه الطبراني ورجاله ثقات.

(1/70)


يعذبون في الله -عَزَّ وَجَلَّ- فقال: (أبشروا آل ياسر، موعدكم الجنة) (1). 86 - عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه -: "قال أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وهو في ظل الكعبة متوسدًا بردة له، فقلنا: يا رسول الله، ادع الله -تبارك وتعالى- لنا، واستنصره. قال: فاحمر لونه أو تغير، فقال: (لقد كان من كان قبلكم يحفر له حفرة ويجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيشق، ما يصرفه عن دينه، ويمشي بأمشاط من الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب، ما يصرفه عن دينه، -وليتمَّن الله -تبارك وتعالى- هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء إلى حضر موت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تعجلون) (2). 87 - من حديث خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: (كنت رجلًا قينًا، وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه، فقال لي: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، قال: قلت: لن أكفر به حتى تموت، ثم تبعث. قال: وإني لمبعوث من بعد الموت؟ فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد. قال فنزلت: {أفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} " (3). 88 - من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "لقد ضربوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة حتى غشي عليه، فقام أبو بكر - رضي الله عنه - فجعل ينادي ويلكم أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله! فقالوا: من هذا؟ فقالوا: أبو بكر المجنون". وزاد البزار في رواية: "فتركوه، وأقبلوا على أبي بكر" (4). __________ (1) رواه الحاكم في المستدرك: 3/ 388، وقال صحيح على شرطهما ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع: 9/ 293 رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن عبد العزيز المقدم وهو ثقة. (2) رواه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي وأصحابه من المشركين بمكة رقم: 3852 فتح الباري: 7/ 165 وأبو داود: 2649 في الجهاد، باب في الأسير يكره على الكفر، والفتح الرباني 20/ 222. (3) رواه البخاري في التفسير: تفسير سورة مريم، باب: 3، 4، 5، 6 وأرقام الأحاديث:4732 - 4735، ومسلم في كتاب صفات المنافقين، باب سؤال اليهود عن الروح رقم: 2795، وأحمد في المسند: 5/ 111 والترمذي في التفسير: تفسير سورة مريم، حديث رقم: 3162، وقال: حسن صحيح، والطيالسي: 2/ 21، وابن جرير في تفسيره: 16/ 121. (4) أخرجه أبو يعلى في مسنده رقم: 3691، والحاكم في المستدرك: 3/ 67، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وانظر المطالب العالية رقم: 3905، وصححه ابن حجر في المطالب وفي الفتح: 7/ 169، وقال الهيمثي في المجمع: 6/ 17: رواه أبو يعلى والبزار، ورجاله رجال الصحيح.

(1/71)


 المبحث التاسع: ما فعله الرسول وأصحابه بأصنام المشركين

89 - من حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: "كنت أنطلق أنا وأسامة بن زيد إلى أصنام قريش التي حول الكعبة، فنأتي بالعذرات، فنأخذ (حريراق) بأيدينا، فننطلق به إلى أصنام قريش فنلطخها، فيصيحون، يقولون: من فعل بآلهتنا؟ فينطلقون إليها، ويغسلونها باللبن والماء" (1). 90 - من حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: "انطلقت أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أتينا الكعبة، فقال: لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجلس، وصعد على منكبي، فذهبت لأنهض به، فرأى مني ضعفًا، فنزل وجلس لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: اصعد على منكبي. قال: فنهض بي، قال: فإنه يخيل إليَّ أني لو شئت لنلت أفق السماء، حتى صعدت على البيت، وعليه تمثال صفر أو نحاس، فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله وبين يديه ومن خلفه، حتى استمكنت منه، فقال لي رسول الله: - صلى الله عليه وسلم - اقذف به، فقذفت به، فتكسر كما تتكسر القوارير، ثم نزلت، فانطلقت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - نستبق، حتى توارينا بالبيوت، خشية أن يلقانا أحد من الناس). وفي رواية: (كان على الكعبة أصنام، فذهبت أحمل النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم أستطع، فحملني فجعلت أقطعها، ولو شئت لنلت السماء). وزاد البزار (بعد قوله حتى استترنا بالبيوت، فلم يوضع عليها بعد يعني شيئًا من تلك الأصنام) (2). 91 - من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - قال: (دخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكعبة، فرأى فيها تصاوير، فقال لي: ابتغ لي ماء، فأتيته بماء في دلو، فجعل يبل به الثوب، ثم يضرب به الصور، يقول: قاتل الله أقوامًا يصورون ما لا يخلقون) (3). __________ (1) المطالب العالية: 4275: وعزاه لإسحاق بن راهويه وقال الحافظ: إسناده صحيح، وتابعه البوصيري. (2) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 23 رواه أحمد وابنه وأبو يعلى والبزار ورجال الجميع ثقات. انظر مسند أحمد: 1/ 84 وزوائد المسند: 1/ 151 وأبو يعلى: 292. (3) المطالب العالية: 4276 وعزاه لإسحاق بن راهويه، وقال الحافظ: وإسناده حسن.

(1/72)


 الفصل الخامس الهجرة إلى الحبشة

92 - من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: (بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشي، ونحن نحوًا من ثمانين رجلًا، فيهم عبد الله بن مسعود، وجعفر، وعبد الله بن عرفطة، وعثمان بن مظعون، وأبو موسى، فأتوا النجاشي) (1). 93 - ومن حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أمه ليلى قالت: "كان عمر ابن الخطاب من أشد الناس علينا في إسلامنا، فلما تهيأنا للخروج إلى أرض الحبشة، فأتى عمر بن الخطاب، وأنا على بعيري، وأنا أريد أن أتوجه، فقال: أين أم عبد الله؟ فقلت: آذيتمونا في ديننا، فنذهب في أرض الله حيث لا نؤذى، فقال: صحبكم الله، ثم ذهب، فجاء زوجي عامر بن ربيعة فأخبرته بما رأيت من رقة عمر، فقال: ترجين أن يسلم؟ والله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب" (2). 94 - من حديث أم سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: "لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمنا على ديننا وعبدنا الله وحده، لا نؤذى، ولا نسمع شيئًا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشًا، ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا النجاشي هدايا ما يستطرف من متاع مكة، وكان أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدمًا كثيرًا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقًا إلا أهدوا له هدية، وبعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، وأمروهما أمرهم، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدموا __________ (1) الفتح الرباني 20/ 224 - 225، وقال الهيثمي: 6/ 24: رواه الطبرني وفيه حديج بن معاويه وثقه أبو حاتم وقال في بعض حديثه ضعف وضعفه ابن معين وغيره وبقية رجاله ثقات وقال الحافظ في التقريب: 1/ 156 صدوق يخطيء- وقال ابن كثير في السيرة:2/ 10 - 11 وعزاه للإمام أحمد وقال: هذا إسناد جيد قوي وسياق حسن، انظر مسند أحمد: 1/ 461. (2) قال الهيثمي: 6/ 24 رواه الطبراني، وقد صرح ابن إسحاق بالسماع فهو صحيح. والبطريق: الحاذق بالحرب وأمورها بلغة الروم، وهو ذو نصب عندهم.

(1/73)


للنجاشي هداياه، ثم اسألوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم. قالت: فخرجا، فقدما على النجاشي، ثم قالا: لكل بطريق منهم: إنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه أن يسلمهم إلينا، ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلم بهم عيبًا، وأعلم بما عابوا عليهم. فقالوا لهما: نعمًا، ثم قربوا هداياهم إلى النجاشي، فقبلها منهم، ثم كلماه. فقالوا له: أيها الملك، قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأبنائهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فلهم أعلم بهم عيبًا، وأعلم بما عابوا عليهم، وعايبوهم فيه. ولم يكن أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم. فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك قومهم أعلم بهم عيبًا، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهم، فليردهم إلى بلادهم وقومهم. فغضب النجاشي وقال: لا هيم الله إذ لا أسلمهم إليهما ولا أكاد، قومًا جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على مَنْ سواي، حتى أدعوهم فأسالهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحتسب جوارهم ما جاوروني. قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا فقالوا: بعضهم لبعض ما تقولون في الرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا - صلى الله عليه وسلم - كائن في ذلك ما هو كائن، فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم: فقال: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من هذه الأمم؟ قالت: وكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه -، قال: أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش،

(1/74)


ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دون الله من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وشهادة الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئًا، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. قالت: فعدد عليه أمور الإِسلام، فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده لا نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا، وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قال: فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم قالت: فقال له النجاشي: فاقرأه، فقرأ عليه صدرًا من (كهيعص) قالت: فبكى النجاشي، حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته، حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلي عليهم. ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكم، ولا أكاد". قالت أم سلمة: فلما خرجا من عنده، قال: عمرو بن العاص: والله لأتينه غدًا أعيبهم عنده بما أستاصل به خضراءهم. فقال له عبد الله بن أبي ربيعة وكان أتقى الرجلين فينا: لا تفعل، فإن لهم أرحامًا، وإن كانوا قد خالفونا. قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم - عليه السلام - عبد. قالت: ثم غدا عليه، فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولًا عظيمًا، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه.

(1/75)


قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثلها، واجتمع القوم، فقال بعضهم لبعض، ما تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا - صلى الله عليه وسلم -، هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قال: فضرب النجاشي بيده إلى الأرض، فأخذ منها عودًا، ثم قال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقة حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي -والسيوم الآمنون- من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، ثم من سَبكُم غرم، ما أحب أن لي دبرًا ذهبًا وإني آذيت رجلًا، "والدبر: بلسان الحبشة: الجبل" ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي منهما، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليَّ ملكي، فآخذ فيه الرشوة، وما أطاع الناس فيَّ فأطيعهم فيه. فخرجا من عنده مقبوحين مردودًا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده في خير دار مع خير جار. فوالله إنه لعلى ذلك إذ نزل به من ينازعه في ملكه، قالت: والله ما علمنا حزنًا قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك، تخوفًا أن يظهر ذلك على النجاشي، فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف. قالت: وسار النجاشي، وبينهما عرض النيل، قالت: فقال: أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَنْ رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم ثم يأتينا؟ فقال: الزبير بن العوام: أنا. قالت: وكان من أحدث القوم سنًّا. قالت: فنفخوا له قربة، فجعلوها في صدره، فسبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم. قالت: ودعونا - الله عَزَّ وَجَلَّ - للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين في بلاده، واستوسق عليه أمر الحبشة، فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة" (1). __________ (1) رواه أحمد: 5/ 290، 1/ 202 - 292 من طريق ابن إسحاق بسند صحيح عن زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 24 - 27 "رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير ابن إسحاق، وقد صرح بالسماع". فالحديث بهذا صحيح، وأخرجه ابن هشام في السيرة: 1/ 344 وأبو نعيم في الحلية: 1/ 115 وسنده صحيح، وقد صححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند، حديث رقم: 1740 =

(1/76)


وقد جاء عند أبي نعيم في الدلائل، أن قريشًا بعثت إلى النجاشي في أمر المهاجرين مرتين. الأولى: مع عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد، والثانية: مع عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، وكانت البعثة الثانية بعد وقعة بدر، قال الزهري: لينالوا من هناك ثأرًا، فلم يجبهم النجاشي - رضي الله عنه - إلى شيء مما سألوا. فالبعثة الثانية: هي ما جاء في حديث أم سلمة الطويل السابق، وهي بعثة عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة. والبعثة الأولى: هي ما جاء في حديث أبي موسى الأشعري اللاحق، وهي بعثة عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد. 95 - من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: (أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى النجاشي، فبلغ ذلك قريشًا، فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد، وجمعا للنجاشي هدية، وقدما على النجاشي فأتياه بالهدية فقبلها وسجدا له، ثم قال عمرو بن العاص: إن ناسًا من أرضنا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك، فقال لهم النجاشي: في أرضي قالوا: نعم. فبعث إلينا، فقال لنا جعفر: لا يتكلم أحد منكم أنا خطيبكم اليوم. فانتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلس وعمرو بن العاص عن يمينه وعمارة عن يساره والقسيسون والرهبان جلوس سماطين، وقد قال له عمرو وعمارة إنهم لا يسجدون لك، فلما انتهينا بدرنا من عنده من القسيسين والرهبان: اسجدوا للملك. فقال جعفر: إنا لا نسجد إلا لله. قال له النجاشي: وما ذاك؟ قال إن الله بعث إلينا رسولًا، وهو الرسول الذي بشرنا به عيسى - عليه السلام - {مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئًا، وأمرنا أن نقيم الصلاة، وأن نؤتي الزكاة، وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر. فأعجب النجاشي قوله، فلما رأى ذلك عمرو قال: أصلح الله الملك، إنهم يخالفونك في ابن مريم. فقال النجاشي: ما يقول صاحبكم في ابن مريم؟ قال: __________ = والطيالسي: 2/ 89 - 90.

(1/77)


يقول فيه قول الله، هو روح الله وكلمته، أخرجه من العذراء البتول التي لم يقربها بشر، ولم يفترضها ولد. فتناول النجاشي عودًا من الأرض فرفعه فقال: يا معشر القسيسين والرهبان، ما يزيد هؤلاء على ما يقولون في ابن مريم ما يزن هذه، مرحبًا بكم وبمن جئتم من عنده، وأشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أقبل نعليه، امكثوا في أرضي ما شئتم، وأمر لنا بطعام وكسوة. وقال: ردوا على هذين هديتهما، وكان عمرو بن العاص رجلًا قصيرًا؛ وكان عمارة رجلًا جميلًا، وكانا أقبلا إلى النجاشي فشربوا -يعني خمرًا- ومع عمرو بن العاص امرأته، فلما شربوا من الخمر قال عمارة لعمرو: مر امرأتك فلتُقَبِّلني فقال له عمرو: ألا تستحي، فأخذ عمارة عمرًا فرمى به في البحر، فجعل عمرو يناشد عمارة حتى أدخله السفينة، فحقد عمرو على ذلك، فقال عمرو للنجاشي: إنك إذا خرجت خلفت عمارة في أهلك، فدعا النجاشي عمارة فنفخ في إحليله فطار مع الوحش) (1). __________ (1) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 30 - 31 قلت: روى أبو داود منه مقدار سطر في الجنائز - رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

(1/78)


 الفصل السادس وقائع مهمة بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء

 المبحث الأول: إسلام عمر بن الخطاب

دعاء النبي لعمر بن الخطاب قبل إسلامه وقصة إسلامه: شدته على المسلمين قبل الإِسلام 96 - من حديث سعيد بن زيد - رضي الله عنه - قال: (والله! لقد رأيتني وأن عمر - رضي الله عنه - لموثقي على الإِسلام، قبل أن يسلم عمر - رضي الله عنه -) وفي رواية أخرى (لو رأيتني موثقي عمر على الإِسلام أنا وأخته وما أسلم) (1). 97 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (اللهم أعز الإِسلام بأحب هذين الرجلين إليك، بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب، فكان أحبهما إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- عمر بن الخطاب) (2). دعاء النبي لعمر بعد إسلامه: 98 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب صدر عمر بيده من أسلم ثلاث مرات وهو يقول: (اللهم أخرج ما في صدر عمر من غل وأبدله إيمانًا) يقول ذلك ثلاث مرات (3). __________ (1) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب إسلام سيد بن زيد وباب إسلام عمر بن الخطاب رقم: 3862، 3867 فتح الباري: 7/ 177، 179. (2) أخرجه أحمد انظر الفتح الرباني: 20/ 230 والمسند:2/ 95، الترمذي: 3682 - 3684 المناقب باب اللهم أعز الإِسلام بأبي جهل أو بعمر، ابن ماجه المقدمة: باب فضائل الصحابة: رقم 105، والبيهقي في الدلائل: 2/ 215 - 216، وقال الترمذي حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر، ورواه ابن سعد في الطبقات 3/ 267، الحاكم في المستدرك: 3/ 83 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي وذكره الحافظ في الفتح: صححه ابن حبان برقم:6842. (3) قال الهيثمي في المجمع: 9/ 65 رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات.

(1/79)


99 - ومن حديث شريح بن عبيد قال: قال عمر بن الخطاب: خرجت أبغي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أعجب من تأليف القرآن، قال: فقلت: هذا والله شاعر كما قالت قريش، قال فقرأ {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} قلت كاهن قال {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى آخر السورة، قال فوقع الإِسلام من قلبي كل موقع) (1). قلت: وأما الروايات الأخرى في قصة إسلام عمر فلم أجد فيها رواية صحيحة غير مطعون فيها، فمنها الشاذ والمنكر، ومنها ما في إسنادها ضعفاء وغير ذلك، وهذه الرواية التي ذكرت أقرب الروايات إلى الصحة، ومع ذلك فهي مرسلة وإسنادها كل رجاله ثقات وشريح بن عبيد الذي أرسل هذه القصة ثقة كما جاء في ترجمته في (تهذيب التهذيب، والتقريب) (2). عمر يشهر إسلامه والعاص يجيره من أذى قريش 100 - من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: (لما أسلم عمر قال: أي قريش أنقل للحديث؟ فقيل له: جميل بن معمر الجمحي، فغدا عليه. قال عبد الله: وغدوت أتبع أثره وأنظر ما يفعل، وأنا غلام أعقل كل ما رأيت. حتى جاءه فقال له: أعلمت يا جميل أني أسلمت، ودخلت في دين محمَّد - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه، واتبعه عمر، واتبعته أنا، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، وهم في أنديتهم حول الكعبة. ألا أن ابن الخطاب قد صبا. قال: يقول عمر من خلفه: كذب، ولكني قد أسلمت، وشهدت أن لا إله __________ (1) قال الهيثمي: 9/ 62: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات إلا أن شريح بن عبيد لم يدرك عمر أحمد في المسند. (2) التقريب: 1/ 349 التهذيب: 4/ 328.

(1/80)


إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وثاروا إليه، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه، حتى قامت الشمس على رؤوسهم، قال: وطلع فقعد، وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو قد كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا. قال: فبينما هم على ذلك، إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى، حتى وقف عليهم. فقال: ما شأنكم به؟ فقالوا: صبأ عمر. قال: فمه، رجل اختار لنفسه أمرًا فما تريدون؟ أترون بني عدي يسلمون لكم صاحبكم هكذا؟ خلوا عن الرجل. قال: فوالله لكأنما كانوا ثوبًا كشط عنه. قال: فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبت، من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك. قال: ذاك أي بني، العاص بن وائل السهمي) (1). 101 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: (لما أسلم عمر اجتمع الناس إليه عند داره وقالوا: صبأ عمر وأنا غلام فوق ظهر بيتي، فجاء رجل عليه قباء من ديباج، فقال: صبأ عمر فما ذاك فأنا له جار، قال: فرأيت الناس تصدعوا عنه. فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا العاص بن وائل) (2). عزة المسلمين بإسلام عمر - رضي الله عنه -: 102 - من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: قال: (ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -) (3). __________ (1) أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادته على فضائل الصحابة: 372، وابن حبان كما في الإحسان رقم: 6840، وابن هشام في السيرة: 1/ 373 - 374، وأخرجه مختصرًا كل من البزار رقم: 2494، والحاكم: 3/ 85، وصححه ووافقه الذهبي. وانظر السيرة النبوية الذهبي: ص 104، 105 وقال: رواه ابن حبان في صحيحه: 6879 من حديث جرير بن حازم عن ابن إسحاق، ابن كثير في سيرته:2/ 38 - 39 وقال: وهذا إسناد جيد قوي وقال الهيثمي في المجمع: 9/ 65 رواه البزار والطبراني باختصار، ورجاله ثقات إلا أن ابن إسحاق مدلس، قلت وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث وإسناده صحيح. * طلح: تعب وأعيي. (2) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب إسلام عمر بن الخطاب رقم: 3864، 3865، فتح الباري: 7/ 177. (3) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة باب مناقب عمر رقم: 3684 فتح الباري:7/ 41 مناقب الأنصار =

(1/81)


 المبحث الثاني: المقاطعة

103 - من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - قال: قلت يا رسول الله أين تنزل غدًا؟ في حجته قال: وهل ترك لنا عقيل منزلًا، ثم قال: نحن نازلون غدًا -إن شاء الله بخيف بني كنانة (يعني المحصب) حيث قاسمت قريش على الكفر، وذلك أن بني كنانة حالفت قريشًا علي بني هاشم، أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يؤوهم، ثم قال عند ذلك: (لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر) واللفظ لأحمد. قال الزهري: الخيف: الوادي (1). 104 - ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن بمنى (نحن نازلون غدًا بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر) وذلك إن قريشًا وبني كنانة تحالفت علي بني هاشم وبني المطلب، أن لا يناكحوهم، ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يعني بذلك المحصب) (2). وقال الحافظ في الفتح: (7/ 193) ولما لم يثبت عند الإِمام البخاري شيء من هذه القصة اكتفى بإيراد حديث أبي هريرة لأن فيه دلالة على أصل القصة، لأن الذي أورده أهل المغازي من ذلك كالشرح لقوله في الحديث (تقاسموا على الكفر) (3). __________ = باب إسلام عمر رقم: 3863 فتح الباري: 7/ 177 ابن أبي شيبة: 12/ 22، وابن سعد: 3/ 270، والطبراني في الكبير:8821، والبيهقي في الدلائل: 2/ 215، وأبو نعيم في الحلية: 8/ 211 والحاكم: 3/ 84، وابن حبان رقم:6841". (1) أخرجه البخاري في الفرائض باب لا يرث المسلم الكافر رقم: 6764 فتح الباري: 12/ 50 مسلم الفرائض: 1614 أول كتاب الفرائض، أبو داود: 2909كتاب الفرائض باب هل يرث المسلم الكافر، الترمذي كتاب الفرائض باب ما جاء في إبطال الميراث بين المسلم والكافر: 2107، ابن ماجه كتاب الفرائض حديث: 2729،2730 والدارمي: 2/ 370 أحمد:5/ 200، 202، 208، 209. (2) أخرجه البخاري في الحج باب نزول النبي مكة رقم: 1589،1590، فتح الباري: 3/ 252 وفي مناقب الأنصار باب تقاسم المشركين على النبي رقم:3882، فتح الباري: 7/ 192، مسلم كتاب الحج باب استحباب النزول بالمحصب يوم النفر والصلاة فيه رقم: 1314. (3) أخرجه البخاري في الحج باب نزول النبي مكة رقم: 1589، 1590 فتح الباري:3/ 252، وفي مناقب الأنصار باب تقاسم المشركين على النبي رقم:3882 فتح الباري: 7/ 192، مسلم كتاب الحج باب =

(1/82)


 المبحث الثالث: انتقام الله لرسوله من المستهزئين

105 - من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: في قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} قال: المستهزئون: الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث الزهري، وأبو زمعة الأسود بن المطلب من بني أسد بن عبد العزى، والحارث بن عيطل السهمي، والعاص بن وائل، فأتاه جبريل فشكاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه، فأراه الوليد وأومأ جبريل إلى أبجله فقال: ما صنعت؟ قال: كفيته، ثم أراه الأسود فأومأ جبريل إلى عينه فقال: ما صنعت؟ قال: كفيته، ثم أراه أبا زمعة فأومأ إلى رأسه فقال: ما صنعت؟ قال: كفيته ثم أراه الحارث فأومأ إلى رأسه أو بطنه وقال: كفيته، ومر به العاص فأومأ إلى أخمصه وقال: كفيته. فأما الوليد فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبالًا، فأصاب أبجلة فقطعها، وأما الأسود فعمي، وأما ابن عبد يغوث فخرج في رأسه تروح فمات منها، وأما الحارث فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منها، وأما العاص فدخل في رأسه شبرقة حتى امتلات فمات منها، وقال غيره: أنه ركب إلى الطائف حمارًا فربض به على شوكة، فدخلت في أخمصه فمات منها) (1). صور من استهزاء المشركين بالنبي - عليه السلام - 106 - من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "إن العاص بن وائل أخذ عظمًا من البطحاء ففته بيده، ثم قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيحيي الله هذا بعد ما أرم؟ فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (نعم، يميتك الله ثم يحييك ثم يدخلك جهنم) __________ = استحباب النزول بالمحصب يوم النفر والصلاة فيه: 1314. (1) الذهبي في السيرة النبوية: ص 143 وقال: حديث صحيح، السيرة النبوية ابن كثير: 2/ 85، ونسبه إلى البيهقي، وانظر الببهقي في الدلائل: 2/ 316، وفي السنن: 9/ 8، ورجاله ثقات إلا عمر بن عبد الله بن رزين وهو صدوق. والأبجل: عرق في باطن الذراع وقيل هو عرق غليظ في الرجل فيما بين العصب والعظم. شبرقة: نبت حجازي له شوك.

(1/83)


قال: ونزلت الآيات من آخر يس" (1). 107 - من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: (أن أبا معيط كان يجلس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة لا يؤذيه، وكان رجلًا سليمًا، وكان بقية قريش إذا جلسوا معه آذوه، وكان لأبي معيط خليل غائب عنه بالشام، فقالت قريش: صبأ أبو معيط، وقدم خليله من الشام ليلًا فقال لامرأته: ما فعل محمَّد مما كان عليه؟ فقالت: أشد مما كان أمر، فقال: ما فعل خليلي أبو معيط؟ فقالت: صبأ. فبات بليلة سوء، فلما أصبح أتاه أبو معيط فحياه فلم يرد عليه التحية. فقال: ما لك لا ترد عليَّ تحيتي؟ فقال: كيف أرد عليك تحيتك وقد صبوت؟ فقال: أو قد فعلتها قريش؟ قال: فما يبرئ صدورهم إن أنا فعلت؟ فقال: تأتيه في مجلسه وتبزق في وجهه، وتشتمه بأخبث ما تعلمه من الشتم، ففعل فلم يزد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن مسح وجهه من البزاق، ثم التفت إليه فقال: إن وجدتك خارجًا من جبال مكة، أضرب عنقك صبرًا. فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه، أبي أن يخرج، فقال له أصحابه: اخرج معنا. قال: قد وعدني هذا الرجل، إن وجدني خارجًا من جبال مكة أن يضرب عنقي صبرًا". فقالوا: لك جمل أحمر، لا يُدرك، فلو كانت الهزيمة طرت عليه، فخرج معهم فلما هزم الله المشركين، وحَّل به جمله في جدد من الأرض. فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسيرًا في سبعين من قريش، وقدم إليه أبو معيط فقال: تقتلني من بين هؤلاء؟ قال: نعم بما بزقت في وجهي، فأنزل الله في أبي معيط {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} إلى قوله {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} (2). __________ (1) أخرجه الحاكم: 2/ 429 من طريق عمرو بن عون عن هُشيم وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال ابن كثير في التفسير: 3/ 581، أخرجه ابن أبي حاتم. (2) الدر المنثور: 5/ 68 وقال أخرجه ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل رقم: 401 بسند صحيح من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس، وفي رواية عبد الرزاق المرسلة- عقبة أبي معيط. والوحل: الطين الرقيق ووحل الرجل أي وقع في الوحل.

(1/84)


 المبحث الرابع: قصة الأعمى ابن أم مكتوم

108 - من حديث عائشة - رضي الله عنهما -: (أنزلت عبس وتولى في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض عنه، ويقبل على الآخر ويقول: ترى بما أقول بأسًا، ففي هذا نزلت {عَبَسَ وَتَوَلَّى}) (1).

 المبحث الخامس: دعاء النبي - عليه السلام - على قريش

109 - عن مسروق قال: قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: (إنما كان هذا لأن قريشًا لما استعصوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم بسنين كسنين يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله تعالى {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ}. قال: فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل: يا رسول الله: استسق الله لمضر، فإنها قد هلكت، قال: (لمضر؟ إنك لجريء) فاستسقى فسقوا فنزلت {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ}. فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم، حين أصابتهم الرفاهية، فأنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} قال يعني يوم بدر) (2).

 المبحث السادس: قصة الرهان بين أبي بكر وقريش

110 - من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} قال: غلبت وغُلبت، كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم؛ لأنهم وإياهم أهل أوثان، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم __________ (1) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن ومن سورة عبس رقم: 3331 وقال: حديث حسن غريب، وروى بعضهم هذا الحديث عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: نزل عبس وتولى في ابن أم مكتوم ولم يذكر عائشة، وقال العراقي في تخريج الأحياء: 4/ 244 رجاله رجال الصحيح، وابن حبان رقم: 1769، وابن جرير تفسير: 30/ 50، والحاكم: 2/ 54 وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، فقد أرسله جماعه عن هشام بن عروة، قال الذهبي: وهو الصواب. وله شاهد من حديث أنس أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو يعلى انظر في ذلك فتح القدير للشوكاني: 5/ 386. (2) أخرجه البخاري في التفسير سورة الدخان باب يغشى الناس هذا عذاب أليم رقم: 4821، 4822 فتح الباري 8/ 571، 572، مسلم كتاب صفات المنافقين وأحكامهم باب الدخان رقم: 2798، أحمد:1/ 381. والسنة: الجدب والقحط.

(1/85)


على فارس لأنهم أهل كتاب، فذكروه لأبي بكر، فذكره أبو بكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: أما أنهم سيغلبون، فذكره أبو بكر لهم، فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلًا، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل أجل خمس سنين فلم يظهروا. فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ألا جعلته إلى دون (قال) أراه العشر، قال أبو سعيد: والبضع ما دون العشر، قال: ثم ظهرت بعد. قال: فذلك قوله تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ}، إلى قوله {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} قال سفيان: سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر) (1).

 المبحث السابع: وفاة أبي طالب

111 - من حديث المسيب - رضي الله عنه - قال: "لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد عنده أبا جهل، وعبد الله بن أبي أمية ابن المغيرة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يا عم قل لا إله إلا الله. كلمة أشهد لك بها عند الله). فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب! ترغب عن ملة عبد المطلب! فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه، ويعيد له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم، هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال رسول - صلى الله عليه وسلم - (أما والله! لأستغفرن لك ما لم أنه عنك) فأنزل الله تعالى {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (2) وأنزل الله تعالى في أبي طالب فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (3) (4). 112 - ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمه __________ (1) أخرجه الترمذي كتاب التفسير باب من سورة الروم حديث رقم: 3193 وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب إنما نعرفه من حديث سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة. قلت: وإسناد الترمذي رجاله رجال الصحيح. (2) سورة التوبة: 113. (3) سورة القصص: 56. (4) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب قصة أبي طالب حديث رقم: 3884، فتح الباري:7/ 193، مسلم كتاب الإيمان باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت حديث رقم: 24، النسائي: 4/ 90 - 91 الجنائز باب النهي عن الاستغفار للمشركين، أحمد:5/ 433 ابن جرير في التفسير: 11/ 41.

(1/86)


(قل لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة). قال: لولا أن تعيرني قريش، يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع، لأقررت بها عينك، فأنزل الله تعالى {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (1) (2). 113 - ومن حديث علي بن أبي طالب: "أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أبا طالب مات فقال له - صلى الله عليه وسلم -: (اذهب فواره). فقال: إنه مات مشركًا فقال: (اذهب فواره)، فلما واريته رجعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: (اغتسل) (3). مصير أبي طالب 114 - ومن حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر عنده عمه فقال: (لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه) (4). 115 - ومن حديث العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -: قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما أغنيت عن عمك فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال (هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) (5). __________ (1) سورة القصص: 56. (2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت حديث رقم: 25، الترمذي في كتاب التفسير باب ومن سورة القصص حديث رقم: 3188 وقال حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث، يزيد بن كيسان، أحمد: 2/ 441 ابن خزيمة: 343 - 344 البيهقي في شعب الإيمان: 1/ 106 رقم: 91. (3) أخرجه أحمد:1/ 95، 103، 130، 131 أبو داود رقم:3214 الجنائز باب الرجل يموت له قرابة مشرك، النسائي في الطهارة باب الغسل من مواراة المشرك: 1/ 110، الجنائز باب مواراة المشرك: 4/ 79 - 80 - وقال الذهبي في السيرة النبوية: 150، هذا حديث حسن متصل. وقال الساعاتي في الفتح الرباني: 20/ 235: أخرجه أحمد والنسائي وأبو بكر بن أبي شيبة والبزاز، والبيهقي. قال الحافظ رواته ثقات: وقال الساعاتي: وإن تكلم فيه بعضهم فكلامه لا يؤثر فقد قال: الشوكاني: ذكر الماوردي أن بعض أصحاب الحديث خرج هذا الحديث مائة وعشرين طريقًا. ولا يخفى أن كثرة الطرق تقوي الحديث الضعيف فما بالك بحديث رواته ثقات. (4) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب قصة أبي طالب رقم:3885، فتح الباري: 7/ 193 مسلم كتاب الإيمان باب شفاعة النبي لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه رقم: 210. (5) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب قصة أبي طالب رقم:3885 فتح الباري:7/ 193، مسلم كتاب الإيمان باب شفاعة النبي لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه رقم: 209.

(1/87)


 المبحث الثامن: وفاة خديجة وزواج الرسول بعائشة وسودة

116 - من حديث هشام بن عروة عن أبيه قال: (توفيت خديجة قبل مخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بثلاث سنين، فلبث سنتين أو قريبًا من ذلك، ونكح عائشة وهي بنت ست سنين، ثم بنى بها وهي بنت تسع سنين) (1). 117 - من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "لما توفيت خديجة قالت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون: يا رسول الله ألا تزوج؟ قال: (نعم، فما عندك؟) قالت: بكر وثيب. البكر بنت أحب خلق الله إليك عائشة، والثيب سودة بنت زمعة. فدخلت على أبي بكر فقال: إنما هي ابنة أخيه، قال: (قولي له أنت أخي في الإِسلام، وابنتك تصلح لي فجاءه فأنكحه) ثم دخلت على سودة فقالت لها: أخبري أبي، فذكرت له فزوجه" (2). 118 - وقد جاء من سياق آخر أطول من حديث عائشة - رضي الله عنها - قال أبو سلمة ويحيى: (لما هلكت خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون فقالت: يا رسول الله ألا تزوج قال: (من؟) قالت: إن شئت بكرًا، وإن شئت ثيبًا". قال: (فمن البكر؟) قالت: ابنة أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبي بكر. قال: (ومن الثيب؟) قالت: سودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك. قال: (فاذهبي فاذكريهما علي). فدخلت بيت أبي بكر فقالت: يا أم رومان ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة؟ __________ (1) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب تزويج النبي عائشة وقدومها المدينة، وبنائه بها رقم: 3896 فتح الباري: 7/ 223. (2) قال الحافظ في الفتح: 7/ 225: رواه أحمد والطبراني: 23/ 23، رقم: 57، وإسناد حسن. وانظر السيرة النبوية ابن كثير: 2/ 142 - 143 - وقال الهيثمي في المجمع: 9/ 225، رجاله رجال الصحيح غير محمَّد بن عمرو بن علقمة وهو حسن الحديث.

(1/88)


قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخطب عليه عائشة قالت: انظري أبا بكر حتى يأتى. فجاء أبو بكر فقلت: يا أبا بكر ماذا أدخل عليك من الخير والبركة! قال: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخطب عليه عائشة. قال: وهل تصلح له؟ إنما هي ابنة أخيه. فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له قال: ارجعي إليه فقولي له: (أنا أخوك، وأنت أخي في الإِسلام، وابنتك تصلح لي) فرجعت فذكرت ذلك له قال: انتظري، وخرج. قالت أم رومان: إن مطعم بن عدي قد ذكرها على ابنه، ووالله ما وعد أبو بكر وعدًا فأخلفه. فدخل أبو بكر - رضي الله عنه - على مطعم بن عدي وعنده امرأته أم الصبي فقالت: يا ابن أبي قحافة لعلك مصبئ صاحبنا تدخله في دينك الذي أنت عليه أن تزوج إليك؟. فقال أبو بكر للمطعم بن عدي: "أقول هذه تقول! قال: إنها تقول ذلك. فخرج من عنده وقد أذهب الله ما كان في نفسه من عدته التي وعد. فرجع فقال لخولة: ادعي لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعته فزوجها إياه، وعائشة يومئذ بنت ست سنين. ثم خرجت فدخلت على سودة بنت زمعة فقالت: ما أدخل الله عليك من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخطبك إليه. قالت: وددت، ادخلي إلى أبي فاذكري ذلك له. وكان شيخًا كبيرًا قد أدركه السنن قد تخلف عن الحج، فدخلت عليه فحييته بتحية الجاهلية. فقال: من هذه؟ قالت: خولة بنت حكيم. قال: فما شأنك؟ قالت: أرسلني محمَّد بن عبد الله أخطب عليه سودة. فقال: كفء كريم، ما تقول صاحبتك؟ قالت: تحب ذلك. قال: ادعيها

(1/89)


إلي. فدعتها قال: أي بنيه، إن هذه تزعم أن محمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل يخطبك وهو كفء كريم، أتحبين أن أزوجك به؟ قالت: نعم. قال ادعيه لي، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فزوجها إياه. فجاء أخوها عبد بن زمعة من الحج، فجاء يحثي على رأسه التراب، فقال بعد أن أسلم: لعمرك إني لسفيه يوم أحثي في رأسي التراب، أن تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سودة بنت زمعة. قالت عائشة: فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج في السنح. قالت: فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل بيتنا، واجتمع إليه رجال من الأنصار ونساء، فجاءتني أمي وإني لفي أرجوحة بين عذقين يرجح لي، فأنزلتني من الأرجوحة ولي جميمة، ففرقتها ومست وجهي بشيء من ماء، ثم أقبلت تقودني حتى وقفت بي عند الباب، وإني لأنهج حتى سكن من نفسي، ثم دخلت بي، فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس على سرير في بيتنا، وعنده رجال ونساء من الأنصار فأجلستني في حجره، ثم قالت: هؤلاء أهلك، فبارك الله لك فيهم، وبارك لهم فيك، فوثب الرجال والنساء فخرجوا، وبنى بي رسول الله في بيتنا ما نحرت جزور، ولا ذبحت علي شاة، حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنة كان يرسل بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دار إلى نسائه، وأنا يومئذ ابنة تسع سنين" (1). __________ (1) أحمد في المسند: 6/ 210،211 وقال ابن كثير في سيرته: 2/ 142 هذا السياق كأنه مرسل وهو متصل، وقال الذهبي في السيرة: 184، إسناده حسن. وقال الساعاتي في الفتح:20/ 237 - 239، أورده الهيثمي وقال في الصحيح طرف منه رواه أحمد بعضه فيه الاتصال عن عائشة وأكثره مرسل وفيه محمَّد بن عمرو بن علقمة وثقه غير واحد ورجاله رجال الصحيح. وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: 7/ 176 إسناده حسن. وقال الهيثمي في المجمع: 9/ 225 رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير محمَّد بن عمرو بن علقمة وهو حسن الحديث. وأخرجه ابن سعد في الطبقات: 8/ 57.

(1/90)


 المبحث التاسع: رد أبي بكر وعثمان بن مظعون جوار من أجارهما من أهل الشرك

119 - من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: (لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرفي النهار: بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون، فخرج أبو بكر مهاجرًا نحو أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد لقيه ابن الدُغنة وهو سيد القاره، قال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض، وأعبد ربي. قال ابن الدغنة: فإن مثلك -يا أبا بكر- لا يَخرج، ولا يُخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع، وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يَخرج مثله، ولا يُخرج. أتخرجون رجلًا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟ فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر، فليعبد ربه في داره، فليصل فيها، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فأنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا. فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدًا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلًا بكاءً لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدًا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى ألا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا بمقرين لأبي بكر الاستعلان.

(1/91)


قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إلى ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له. فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله، عَزَّ وَجَلَّ (1). وقد كان عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - فيمن رجع من مؤمني قريش الذين هاجروا إلى الحبشة فلم يستطع دخول مكة لاشتداد المشركين فيها على من آمن بالإِسلام، فدخل في جوار الوليد بن المغيرة، فلم يستطع أحد إيذاءه. 120 - من حديث ابن إسحاق قال: حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف عمن حدثه عن عثمان قال: "لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النبلاء، وهو يغدو ويروح في أمان من الوليد بن المغيرة، قال: والله إن غدوي ورواحي آمنًا بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيبني لنقص كبير في نفسي. فمشى إلى الوليد بن المغيرة، فقال له: يا أبا عبد شمس، وفت ذمتك، قد رددت إليك جوارك، فقال له: لم يا ابن أخي؟ لعله آذاك أحد من قومي، قال: لا، ولكني أرضى بجوار الله، ولا أريد أن أستجير بغيره. قال: فانطلق إلى المسجد، فاردد علي جواري علانية كما أجرتك علانية. قال: فانطلقا فخرجا حتى أتيا المسجد فقال الوليد: هذا عثمان قد جاء يرد علي جواري، قال: صدق، قد وجدته وفيًّا كريم الجوار، ولكني قد أحببت أن لا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره، ثم انصرف عثمان، ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب في مجلس من قريش ينشدهم فجلس معهم عثمان، فقال لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل. __________ (1) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة رقم: 3905، فتح الباري: 7/ 230 - 231 وعبد الرزاق في المصنف: 9743 والبيهقي في الدلائل: 2/ 471 - 472 وأحمد في المسند: 6/ 346 وابن سعد في الطبقات: 8/ 250 والطبري في تاريخه: 2/ 375 - 378.

(1/92)


قال عثمان: صدقت. قال لبيد: وكل نعيم لا محالة زائل. قال عثمان: كذبت نعيم الجنة لا يزول. قال لبيد بن ربيعة: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم؟ فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه في سفهاء معه، قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من قوله، فرد عليه عثمان حتى شري أمرهما، فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فخضرها، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان، فقال: أما والله يا ابن أخي إن كانت عينك عما أصابها لغنية، لقد كنت في ذمة منيعة، قال: يقول عثمان: بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله، وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس، فقال له الوليد: هلم يا ابن أخي إن شئت فعد إلى جوارك، فقال: لا" (1). 121 - ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم) (2). وقال الحافظ في الفتح معلقًا على هذا الحديث: وفي إيراد البخاري هذا الحديث في هذا الباب تلميح بما وقع لعثمان بن مظعون بسبب هذا البيت مع ناظمه لبيد بن ربيعة قبل إسلامه والنبي يومئذ بمكة وقريش في غاية الأذية للمسلمين". ثم ذكر الحافظ رواية ابن إسحاق الآنفة الذكر عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف (3). __________ (1) أخرجه ابن هشام في السيرة: 1/ 370 - 371 وقد صرح ابن إسحاق بالسماع وسنده منقطع وأخرجه أبو نعيم في الحلية: 1/ 103 - 104من طريق ابن إسحاق، وأخرجه البيهقي في الدلائل: 2/ 292 من طريق موسى بن عقبة والطبراني في الكبير: 9/ 21 - 24 مرسلًا، من طريق عروة وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 32 - 34 وفيه ابن لهيعة. وصالح بن عبد الرحمن بن عوف، هو أبو عبد الرحمن المدني ثقه من الخامسة التقريب: 1/ 358 شري: زاد وعظم. (2) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب أيام الجاهلية رقم: 3849 فتح الباري: 7/ 149، ومسلم في كتاب الشعر رقم: 2256، والترمذي في الأدب باب في إنشاد الشعر: 2849 وقال حسن صحيح، وابن ماجه في الأدب باب الشعر رقم: 3757، وأحمد: 2/ 248، 291، 293، 444، 458،470، 481. (3) الفتح: 7/ 153.

(1/93)


 الفصل السابع الإسراء والمعراج وآياتهما

122 - من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أتيت بالبراق "وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه" قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس قال: فربطه بالحلقة (1) التي يربط بها الأنبياء. قال: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل - عليه السلام - بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، فقال جبريل - عليه السلام -: اخترت الفطرة (2) (فذكر الحديث) (3). 123 - من حديث مالك بن صعصعة - رضي الله عنه - والذي رواه عنه أنس - رضي الله عنه -: قال مالك: إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - حدثهم عن ليلة أسري به، قال: (بينما أنا في الحطيم -وربما قال في الحجر- مضطجعًا إذ أتاني آت، فقد قال: وسمعته يقول: فشق ما بين هذه إلى هذه، فقلت للجارود -وهو إلى جنبي-: "ما يعني به؟ " قال: "من ثغرة نحره إلى شعرته، وسمعته يقول: (من قصه إلى شعرته، فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملوء إيمانًا، فغسل قلبي، ثم حشي، ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض) فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم، يضع خطوه عند أقصى طرفه، فحملت عليه. (فانطلق بي جبريل حتى أتيت السماء الدنيا فاستفتح. قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد، قيل: وقد أرسل إليه؟ __________ (1) الحلقة: المراد باب مسجد بيت المقدس. (2) الفطرة: الإِسلام، والاستقامة. (3) أخرجه مسلم في الصحيح كتاب الإيمان باب الإسراء برسول الله وفرض الصلوات رقم الحديث: 162، وقد جاء اختيار النبي - عليه السلام - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند البخاري في كتاب الأشربة باب شرب اللبن وفي الأنبياء باب هل أتاك حديث موسى، وصحيح مسلم الإيمان باب الإسراء برسول الله إلى السموات رقم: 168.

(1/94)


قال: نعم. قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت، فهذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبًا بالابن الصالح، والنبي الصالح. ثم صعد لي حتى أتى السماء الثانية فاستفتح: قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إذا يحيى وعيسى، وهما ابنا خالة، قال: هذا يحيى وعيسى، فسلم عليهما. فسلمت، فردا، ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد لي إلى السماء الثالثة، فاستفتح: قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعبم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح: قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد، قيل: أوقد أرسل إليه قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت فهذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح: قيل: من هذا، قال: جبريل: قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت فإذا هارون، قال: هذا هارون، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح: قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء. فلما خلصت: فهذا موسى، قال: هذا موسى فسلم عليه، فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح. فلما تجاوزت بكى. قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلامًا بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي.

(1/95)


ثم صعد إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل: قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك قال: محمَّد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبًا به ونعم المجيء جاء، فلما خلصت فهذا إبراهيم، قال: هذا أبوك فسلم عليه، قال فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح. ثم رفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار، نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات. ثم رفع لي البيت المعمور. ثم أتيت بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك. ثم فرضت علي الصلاة خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى فقال: بما أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فأرجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت، فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت. فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم. فرجعت إلى موسى فقال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. قال: سألت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم. قال: فلما جاوزت نادى مناد: أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي) (1). __________ (1) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب في المعراج حديث رقم: 3887، فتح الباري: 7/ 201 - 202، مسلم في الصحيح كتاب الإيمان باب الإسراء حديث رقم: 164، أحمد في المسند: 4/ 208، 210، النسائي في الصلاة باب فرض الصلاة: 1/ 217.

(1/96)


124 - من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لما عرج بي إلى السماء بينما أنا أسير في الجنة إذ أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف. قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعده ربك، فهذا طينه مسك أذفر) (1). 125 - ومن حديث سليمان الشيباني قال: سألت زرًّا عن قوله -عَزَّ وَجَلَّ- {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} (2). قال: أخبرنا عبد الله: أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل له ستمائة جناح (3). 126 - من حديث عبد الله بن مسعود: قال: "لما أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها، فيقبض منها، قال: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}، قال: فراش من ذهب، قال: فأعطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئًا المقحمات" (4). 127 - من حديث ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} (5). قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به إلى بيت المقدس قال: (والشجرة الملعونة في القرآن) قال: هي شجرة الزقوم. وكانت حادثة الإسراء والمعراج قبل هجرته - عليه السلام - بسنة" هكذا قال القاضي عياض في الشفا (6) (7). __________ (1) أخرجه البخاري في الرقاق باب في الحوض رقم: 6581 فتح الباري: 11/ 463 وفي التفسير سورة إنا أعطيناك الكوثر باب رقم: 4964 فتح الباري: 8/ 731 أو الترمذي كتاب التفسير باب ومن سورة الكوثر رقم: 3360 وقال حسن صحيح. (2) سورة النجم: 9. (3) أخرجه البخاري في التفسير، تفسير سورة النجم باب قوله تعالى فأوحى إلى عبده ما أوحى، رقم: 4856، فتح الباري: 8/ 610 ومسلم: 174. (4) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب في ذكر سدرة المنتهى حديث رقم:173. والمقحمات: الذنوب العظام التي تقحم أصحابها في النار. (5) سورة الإسراء: 60. (6) الشفا بحقوق المصطفى: 1/ 108. (7) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب في المعراج حديث رقم: 3888 فتح الباري: 7/ 202 - 203.

(1/97)


 الفصل الثامن وقائع مهمة بين الإسراء والهجرة النبوية

  المبحث الأول: ذهابه - عليه السلام - إلى الطائف

128 - من حديث محمَّد بن كعب القرظي: قال: لما انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف، عمد إلى نفر من ثقيف، هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل بن عمرو بن عمير، ومسعود بن عمرو بن عمير، وحبيب بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاهم إلى الله، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإِسلام، والقيام على من خالفه من قومه، فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله أحدًا يرسله غيرك! وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدًا، لئن كنت رسولًا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله، ما ينبغي لي أن أكلمك. فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقال لهم فيما ذكر لي: إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني، وكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ قومه عنه فيذئرهم ذلك عليه، فلم يفعلوا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، وألجؤوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل حبلة من عنب، فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف، وقد لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر المرأة التي من بني جمح فقال لها: ماذا لقينا من أحمائك؟) (1). __________ (1) أخرج القصة بطولها ابن هشام: 1/ 419 والطبري في التاريخ: 2/ 344 - 346 والطبراني كما في مجمع الزوائد: 6/ 35، بسند صحيح عن ابن إسحاق عن محمَّد بن كعب القرظي مرسلًا- مضافًا إليها قصة عداس وانكبابه على يدي الرسول بدون الدعاء فقد جاء بغير سند، والبيهقي في الدلائل: 2/ 415 - 417 من مرسل الزهري، فيتقوى به، وله شاهد من الحديث الذي يليه برقم: 129. ويذئرهم عليه: يثيرهم عليه ويجرئهم.

(1/98)


129 - من حديث خالد العدواني: "أنه أبصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مشرق ثقيف وهو قائم على قوس، أو عصا حين أتاهم يبتغي عندهم النصر، قال: فسمعته يقرأ: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} حتى ختمها، قال: فوعيتها في الجاهلية: وأنا مشرك، ثم قرأتها في الإِسلام قال: فدعتني ثقيف فقالوا: ماذا سمعت من هذا الرجل؟ فقرأتها عليهم، فقال من معهم من قريش: نحن أعلم بصاحبنا لو كنا نعلم ما يقول حقًّا لاتبعناه" (1). التوجه إلى الله بالشكوى: 130 - من حديث عبد الله بن جعفر - رضي الله عنه - قال: "لما توفي أبو طالب خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف ماشيًا على قدميه، يدعوهم إلى الإِسلام فلم يجيبوه، فانصرف فأتى ظل شجرة فصلى ركعتين ثم قال: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، إلى من تكلني إلى عدو يتجهمني، أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن غضبان علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بوجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضبك، أو يحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا قوة إلا بالله) (2). __________ (1) أخرجه أحمد في المسند: 4/ 335 وقال الساعاتي: 20/ 243 في الفتح: وسنده جيد. وقال الحافظ في الإصابة: 1/ 402 رواه أحمد وابن أبي شيبة وابن خزيمة في صحيحه والطبراني رقم: 4126، وابن شاهين فذكر الحديث وقال الهيثمي: 7/ 136، رواه أحمد والطبراني وعبد الرحمن ذكره ابن أبي حاتم ولم يجرحه أحد وبقية رجاله ثقات. (2) قال الهيمثي في المجمع: 6/ 35 رواه الطبراني وفيه ابن إسحاق مدلس ثقة وبقية رجاله ثقات، وأخرجه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي: 2/ 275 رقم: 1839. وله شاهد في ذهابه إلى الطائف من الحديثين السابقين.

(1/99)


 المبحث الثاني: قصة عداس النصراني

من حديث محمَّد بن كعب القرظي السابق قال: "فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة، وما لقي، تحركت له رحمهما، فدعوا غلامًا لهما نصرانيًّا يقال له عداس، فقالا له: خذ قطفًا من هذا العنب، فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل عداس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال له: كل. فلما وضع رسول الله عليه وسلم فيه يده، قال: باسم الله، ثم أكل، فنظر عداس في وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟ قال: نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى، فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذاك أخي، كان نبيًّا وأنا نبي، فأكب عداس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل رأسه ويديه وقدميه. قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك. فلما جاءهما عداس قالا له: ويلك يا عداس! ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي، قالا له: ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه". شدة الأذى الذي لقيه - عليه السلام - من أهل الطائف 131 - من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: نعم لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت منهم،

(1/100)


فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال: يا محمَّد إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ قال: النبي - صلى الله عليه وسلم - (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا) (1).

 المبحث الثالث: استماع الجن القرآن

132 - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: قال: "ما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجن وما رآهم، انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطن وبين خبر السماء، وأرسلت عليها الشهب، فرجعت الشياطن إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب. قال: وما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بنخلة، وهو عامد إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا إنا سمعنا قرآنًا عجبًا يهدي إلى الرشد فآمنا به، فأوحى الله إلى نبيه {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} (2) (3). __________ (1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء ووافقت إحداهما الأخرى رقم: 3231 فتح الباري: 6/ 312،313 , مسلم في الصحيح كتاب الجهاد والسير باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من أذى المشركين والمنافقين رقم: 1795. الأخشبين: الأخشب من الجبال: الخشن الغليظ. (2) سورة الجن: 1. (3) أخرجه البخاري في التفسير باب سورة قل أوحي إلى حديث: 4921، وفي الأذان باب الجهر بالقرآن في صلاة الفجر: 733، مسلم في الصلاة باب الجهر بالقراءة في الصبح: 449، والترمذي في التفسير باب ومن سورة الجن: 3340، وأحمد في المسند: 1/ 274 وأبو يعلى: 2369 والطبري في التفسير: 29/ 102.

(1/101)


 المبحث الرابع: عرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه على القبائل

من حديث ربيعة بن عباد الديلي: وقد سبق ذكره رقم (78) 133 - من حديث الحارث بن الحارث: قال: قلت لأبي: ما هذه الجماعة؟ قال: هؤلاء القوم الذين اجتمعوا على صابئ لهم، قال: فنزلنا فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو الناس إلى توحيد الله -عَزَّ وَجَلَّ- والإيمان, وهم يردون عليه ويؤذونه حتى انتصف النهار، وانصدع الناس عنه، أقبلت امرأة قد بدا نحرها، تحمل قدحًا ومنديلًا، فتناوله منها فشرب وتوضأ، ثم رفع رأسه فقال: يا بنية خمري عليك نحرك، ولا تخافي على أبيك، قلنا: من هذه؟ قالوا: هذه زينب بنته" (1). 134 - من حديث مدرك قال: "حججت مع أبي فلما نزلنا مني إذا نحن بجماعة فقلت لأبي: ما هذه الجماعة، قال: هذا الصابئ فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) (2). 135 - عن رجل من بني مالك بن كنانة قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسوق ذي المجاز يتخللها يقول: (يا أيها الناس تولوا لا إله إلا الله تفلحوا)، قال: وأبو جهل يحثي عليه التراب ويقول: لا يغوينكم هذا عن دينكم، فإنما يريد لتتركوا آلهتكم، وتتركوا اللات والعزى، وما يلتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: انعت لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بين بردين أحمرين، مربوع كثير اللحم، حسن الوجه، شديد سواد الشعر، أبيض شديد البياض، سابغ الشعر" (3). 136 - من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: هل من رجل يحملني إلى قومه، __________ (1) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 21 رواه الطبراني ورجاله ثقات، انظر الطبراني في الكبير: 3372، 22/ 422، رقم: 1052، والبخاري في التاريخ: 2/ 262 وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني رقم: 2403. (2) أخرجه الطبراني في الكبير: 20/ 343 رقم: 806، وأبو نعيم في معرفة الصحابة: 2/ 208، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني: 2404، وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 21 رواه الطبراني ورجاله ثقات. (3) أخرجه أحمد في المسند: 4/ 63 , 5/ 372 , وقال الساعاتي في الفتح الرباني: 20/ 265 - 266، سنده جيد. قال الهيثمي في المجمع: 6/ 22 رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

(1/102)


فإن قريشًا منعوني أن أبلغ كلام ربي، عَزَّ وَجَلَّ، فأتاه رجل من همذان فقال: ممن أنت؟ فقال الرجل: من همذان. فقال: هل عند قومك من منعة؟ قال: نعم، ثم إن الرجل خشي أن يخفره قومه. فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فقال: آتيهم أخبرهم، ثم آتيك من قابل، قال: نعم، فانطلق وجاء وفد الأنصار في رجب) (1). قدوم الأنصار وعرض الإِسلام عليهم: 137 - من حديث محمود بن لبيد أخي بني عبد الأشهل: قال: "لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة، ومعه فتية من بني عبد الأشهل، منهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتاهم فجلس إليهم فقال: هل لكم إلى خير مما جئتم إليه؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: أنا رسول الله بعثني إلى العباد، أدعوهم إلى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وأنزل علي كتابًا ثم ذكر الإِسلام وتلا عليهم القرآن. قال: فقال إياس بن معاذ، وكان غلامًا حدثًا أي قومي، هذا والله خير مما جئتم إليه. قال: فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من البطحاء، فضرب بها وجه إياس بن معاذ، وقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانصرفوا إلى المدينة، فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، قال: ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومي أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون أنه قد مات مسلمًا، لقد كان استشعر الإِسلام في ذلك المجلس، حين سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما سمع" (2). __________ (1) أخرجه أحمد: 3/ 322، 339، أبو داود كتاب السنة باب في القرآن رقم الحديث: 4737، والترمذي فضائل القرآن باب: 24 حديث رقم: 2925، وقال حديث غريب، ابن ماجه في المقدمة باب فيما أنكرت الجهمية رقم: 201، الدارمي ص: 428، الحاكم: 2/ 113 وصححه على شرط سلم، وابن حبان في صحيحه: 1686، موارد الظمآن، والبخاري في أفعال العباد ص: 77 وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 35 رواه أحمد ورجاله ثقات. (2) أخرجه أحمد: 5/ 427، ابن هشام في السيرة: 1/ 427 , 428، وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 36 رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات وسنده حسن، انظر الفتح الرباني: 20/ 266، والبيهقي في الدلائل: 2/ 420 - 421، والطبري في التاريخ: 2/ 352 - 353، جميعًا من طريق ابن إسحاق وقد صرح بالتحديث، وقال ابن حجر في الإصابة: 1/ 102 رواه جماعة عن ابن إسحاق هكذا وهو صحيح من حدثه.

(1/103)


 المبحث الخامس: إسلام الأنصار واستجابتهم لله ولرسوله

1 - بدء إسلام الأنصار 138 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان يوم بعاث يومًا قدمه الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد افترق ملؤهم، وقتلت سرواتهم وجرحوا، فقدمه الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في دخولهم في الإِسلام" (1) قال ابن إسحاق: (فلما أراد الله -عَزَّ وَجَلَّ- إظهار دينه، وإعزاز نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وإنجاز موعده له، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار، وهم فيما يزعمون ستة فيهم جابر بن عبد الله بن رئاب" (2). 139 - قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه قالوا: "لما لقيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: (من أنتم؟) قالوا: نفر من الخزرج قال: (أمن موالي يهود؟) قالوا: نعم قال: (أفلا تجلسون أكلمكم؟) قالوا: بلى. فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وعرض عليهم الإِسلام وتلا عليهم القرآن. قال: وكان مما صنع الله بهم في الإِسلام، أن يهود كانوا معهم في بلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد عَزُّوهم ببلادهم (3)، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبيًّا مبعوث الآن، قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولئك النفر ودعاهم إلى الله. قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإِسلام. وقالوا: إنا قد تركنا قومنا, ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي __________ (1) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب مناقب الأنصار حديث رقم: 3777 فتح الباري: 7/ 110 أحمد في المسند: 6/ 61 وانظر الفتح الرباني: 20/ 67. (2) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 42 رواه الطبراني ورجاله ثقات، السيرة النبوية: 2/ 81. (3) عَزّوهم: معناه: غلبوهم، ومنه قوله تعالى: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} (ص: آية 23).

(1/104)


أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدقوا" (1). 2 - بيعة العقبة الأولى 140 - من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلًا فبايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفترض الحرب، على أن لا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا, ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا, ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئًا فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم، وإن شاء غفر لكم" (2). 3 - إرسال الرسول مصعبًا إلى المدينة وانتشار الإِسلام فيها 141 - من طريق ابن إسحاق قال: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما بعث مصعبًا حين كتبوا إليه أن يبعثه إليهم، وكان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض رضي الله عنهم أجمعين" (3). 142 - قال ابن إسحاق: حدثني عبيد الله بن المغيرة بن معيقيب، وعبد الله بن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم: أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظفر، وكان سعد بن معاذ بن النعمان __________ (1) أخرجه ابن هشام في السيرة: 1/ 428 , 429، والبيهقي في الدلائل: 2/ 433، 435، وأبو نعيم في الدلائل رقم: 323، وإسناده حسن رجاله ثقات، وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث، وابن كثير في السيرة: 2/ 176 - 177، ورواه ابن سعد في الطبقات: 1/ 218 - 219، من طريق فيها الواقدي وأسامة بن زيد من غير طريق ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل: 2/ 433 - 435 من طريق ابن إسحاق، ورواها الطبراني مرسلة وفي سندها ابن لهيعة وفيه ضعف، وهو حسن الحديث، وبقية الرجال ثقات انظر المجمع: 6/ 40 - 42 ورواه أبو نعيم في الدلائل ص: 104. (2) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب وفود الأنصار وبيعة العقبة رقم: 3893 فتح الباري: 7/ 219، مسلم كتاب الحدود باب الحدود كفارات لأهلها رقم الحديث: 1709، أحمد في المسند: 5/ 323، وانظر الفتح الرباني: 20/ 269، وابن هشام في السيرة: 1/ 433 عن ابن إسحاق بسند صحيح، وابن كثير في السيرة: 2/ 179، وانظر النسائي في البيعة باب البيعة على الجهاد: 7/ 141 - 142. (3) ابن كثير: 2/ 180 ونسبه إلى البيهقي وسنده حسن رجاله ثقات، سيرة ابن هشام: 1/ 434 - انظر دلائل النبوة للبيهقي: 2/ 437 - 438. * عبد الله بن المغيرة بن معيقب؛ قال في التقريب: 1/ 539 صدوق من الرابعة. عبد الله بن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم: قال في التقريب: 1/ 405 ثقة من الخامسة.

(1/105)


ابن امرئ القيس بن زبير بن عبد الأشهل ابن خالة أسعد ابن زرارة، فدخل به حائطًا من حوائط بني ظفر يقال لها: بئر مرق. فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، وسعد بن معاذ وأسيد ابن حضير يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به قال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: لا أبالك، انطلق إلى هذين الرجين اللذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما وأنههما عن أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدمًا. قال: فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب بن عمير: هذا سيد قومه قد جاءك، فاصدق الله فيه؛ قال مصعب: إن يجلس أكلمه. قال: فوقف عليهما متشتمًا، فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة. فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره، قال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإِسلام وقرأ عليه القرآن، فقالا: فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإِسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام، وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي، فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلًا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا، قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسًا وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك، ليخفروك. قال: فقام سعد مغضبًا مبادرًا، تخوفًا للذي ذكر له من بني حارثة، فأخذ الحربة من يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئًا، ثم خرج إليهما، فلما

(1/106)


رآهما سعد مطمئنين، عرف سعد أن أسيدًا إنما أراد منه أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشمتًا، ثم قال لأسعد ابن زرارة: يا أبا أمامة، (أما والله) لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارينا بما نكره -وقد قال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير: أي مصعب، جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان- قال: فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرًا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره. قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإِسلام، وقرأ عليه القرآن، قالا: فعرفنا والله في وجهه الإِسلام قبل أن يتكلم، لإشراقه وتسهله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، قال: فقام فاغتسل وطهر ثوبيه، وتشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته، فأقبل عامدًا إلى نادي قومه، ومعه أسيد بن حضير. قال: فلما رآه قومه مقبلًا: قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا (وأوصلنا) وأفضلنا رأيًا، وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله وبرسوله. قالا: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلمًا ومسلمة، ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإِسلام، حتى لم يتبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد، وخطمه، ووائل، وواقف، وتلك أوس الله، وهم من الأوس بن حارثة، وذلك أنهم كان فيهم أبو قيس ابن الأسلت، واسمه صيفي، وكان شاعرًا لهم قائدًا يستمعون فيه ويطيعونه فوقف بهم عن الإِسلام حتى كان بعد الخندق" (1). __________ (1) أخرجه ابن إسحاق في السيرة انظر سيرة ابن هشام: 1/ 435 - 437 والطبري في التاريخ: 2/ 357، 359، وسنده حسن، وهو مرسل، وانظر ابن كثير في السيرة: 2/ 181 - 185، السيرة النبوية للذهبي: 198 - 200، وقد جاء من طريق عروة بن الزبير في المجمع: 6/ 40 - 41 وقال الهيثمي: رواه الطبراني مرسلًا وفيه ابن لهيعة وفيه ضعف وهو حسن الحديث وبقية رجاله ثقات، والبيهقي في الدلائل: 2/ 438 - 440 من طريق موسى بن عقبة مرسلًا فيكون الحديث بمجموع هذه الطرق حسنًا.

(1/107)


4 - بيعة العقبة الثانية 143 - من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة وفي الموسم بمنى يقول: من يؤويني، من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مصر كذا قال: فيأتيه قومه فيقولون: احذر غلام قريش، لا يفتنك، وهو يمشي بين رحالهم، وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله من يثرب فآويناه، وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به، ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين، يظهرون الإِسلام، ثم ائتمروا جميعًا. فقلنا: حتى متى نترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطرد في جبال مكة ويخاف. فرحل إليه سبعون رجلًا منا حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدنا شعب العقبة، فاجتمعوا عندها من رجل ورجلين، حتى توافينا فقلنا: يا رسول الله على ما نبايعك؟ قال: (تبايعوني على السمع والطاعة في المنشط والكسل، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا لله، لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن أن تنصروني فتمنعوني، إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة) قال: فقمنا إليه فبايعناه. وأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو أصغرهم فقال: رويدًا يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، إما أنتم قوم تصبرون على ذلك وأجركم على الله وإما أنتم تخافون من أنفسكم خبيئة فتبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله. قالوا: أمط عنا يا أسعد, فوالله لا ندع هذه البيعة أبدًا، ولا نسلبها أبدًا، فبايعناه فأخذ علينا، وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة" (1). __________ (1) أخرجه أحمد: 3/ 394،329،322 والبيهقي في السنن: 9/ 9، من طريق ابن خيثم عن أبي الزبير ورجاله ثقات، ابن حبان: 1686، الحاكم: 2/ 624 - 625 وصححه ووافقه الذهبي، كشف الأستار عن زوائد البزار: 1756 ورجاله رجال الصحيح، قال الحافظ في الفتح: 7/ 220 رواه أحمد بإسناد حسن وصححه الحاكم، وقال ابن كثير في السيرة: 2/ 196، هذا إسناد جيد على شرط مسلم، وانظر المطالب العالية باخصار: 4290، وقال رواه أبو بكر بن أبي شيبة وهو صحيح، وأبو يعلى وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 46 رواه أحمد والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح، واللفظ لأحمد.

(1/108)


144 - ومن حديث كعب بن مالك رضي الله عنه وسياقه أطول وتفصيله أكثر: وكان ممن شهد العقبة وبايع رسول الله قال: "خرجنا في حجاج قومنا من المشركين، وقد صلينا وفقهنا، معنا البراء بن معرور، كبيرنا وسيدنا، فلما توجهنا لسفرنا، وخرجنا من المدينة، قال البراء لنا: يا هؤلاء إني قد رأيت رأيًا، وإني والله ما أدري توافقوني عليه أم لا؟ قلنا له: وما ذاك؟ قال: إني قد رأيت أن أدع هذه البنية حتى تظهر، يعني الكعبة، وأن أصلي إليها، قال: فقلنا والله بلغنا أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلا إلى الشام، وما نريد أن نخالفه، قال: فقال: إني لمصل إليها. قال: فقلنا له: لكنا لا نفعل قال: فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى هو إلى الكعبة، حتى قدمنا مكة. قال: وكنا قد عتبنا عليه، وأبي إلا الإقامة عليه، فلما قدم مكة قال لي: يا ابن أخي انطلق بنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى نسأله عما صنعت في سفري هذا، فإنه والله لقد وقع في نفسي منه شيء، لما رأيت من خلافكم إياي فيه. قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكنا لا نعرفه، ولم نره قبل ذلك فلقينا رجلًا من أهل مكة، فسألناه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هل تعرفانه؟ فقلنا: لا قال: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه؟ قال: قلنا: نعم، قال: وقد كنا نعرف العباس -كان لا يزال يقدم علينا تاجرًا قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس. قال: فدخلنا المسجد فهذا العباس جالس، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس معه، فسلمنا ثم جلسنا إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟ قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك. قال: فوالله ما أنسى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الشاعر؟ قال: نعم، فقال له البراء بن معرور: يا نبي الله إني خرجت في سفري هذا، وقد هداني الله للإسلام، فرأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر، فصليت إليها، وقد خالفني أصحابي في ذلك، حتى وقع في نفسي من ذلك شيء، فماذا ترى يا رسول الله؟ قال: قد كنت على قبلة لو صبرت عليها. قال: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصلى معنا إلى الشام. قال: وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة

(1/109)


حتى مات، وليس ذلك كما قالوا، نحن أعلم به منهم. قال: وخرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعقبة من أوسط أيام التشريق، قال: فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر، سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، أخذناه معنا، وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبًا للنار غدًا، ثم دعوناه إلى الإِسلام وأخبرناه بميعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إيانا العقبة. قال: فأسلم وشهد معنا العقبة، وكان نقيبا. قال: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى إذا اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاث وسبعون رجلًا، ومعنا امرأتان من نسائنا نسيبه بنت كعب أم عمارة -إحدى نساء بني مازن بن النجار، وأسماء بنت عمرو بن عدي بن نابي، إحدى نساء بني سلمة، وهي أم منيع. قال: فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى جاءنا ومعه (عمه) العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له، فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج -وكانت العرب، إنما يسمون هذا الحي من الأنصار: الخزرج خزرجها وأوسها- إن محمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده. قال: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. قال: فتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتلا القرآن، ودعا إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، ورغب

(1/110)


في الإِسلام، ثم قال: (أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم). قال: فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق نبيًّا، لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة (1)، ورثناها كابرا عن كابر. قال: فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالًا، وإنا قاطعوها -يعني اليهود- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: (بل الدم الدم، والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أخرجوا لي اثنى عشر نقيبًا منكم يكونون على قومهم، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا منهم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس). - وأما معبد بن مالك حديثه عن أخيه عن أبيه كعب بن مالك -قال: كان أول من ضرب على يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البراء بن معرور، ثم بايع بعد القوم، فلما بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط: يا أهل الحباحب -المنازل- هل لكم في مذمم والصباة معه، قد اجتمعوا على حربكم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (هذا أزب العقبة، هذا ابن أزيب -أتسمع أي عدو الله، أما والله لأفرغن لك). ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ارفضوا إلى رحالكم). قال: فقال له العباس بن عبادة بن فضله: والله الذي بعثك بالحق: إن شئت لنميلن على أهل منى غدًا بأسيافنا؟ قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لم نؤمر، بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم). قال: فرجعنا إلى مضاجعنا، فنمنا عليها حتى أصبحنا. __________ (1) الحلقة: السلاح. الهدم الهدم: أي ذمتي ذمتكم، وحرمتي حرمتكم. مذمم: المذموم جدًّا، الصباة: جمع صابئ، وكان يقال للرجل إذا أسلم في زمن النبي صابئ أزب العقبة: اسم شيطان. ارفضوا: تفرقوا.

(1/111)


قال: فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش، حتى جاءونا في منازلنا، فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا, لأنه والله ما من حي من أحياء العرب أبغض إلينا، إن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم. قال: فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء، وما علمناه، قال: وقد صدقوا، لم يعلموه. قال: وبعضنا ينظر إلى بعض. قال: ثم قام القوم، ومنهم الحارث بن هشام ابن المغيرة، وعليه نعلان جديدان، قال: فقلت كلمة كأني أشرك القوم بها فيما قالوا: ما تستطيع يا أبا جابر، وأنت سيد من ساداتنا أن تتخذ نعلين مثل نعلي هذا الفتى من قريش، قال: فسمعها الحارث، فخلعهما من رجليه، ثم رمى بهما إلى، وقال: والله لتنتعلنهما. قال: يقول أبو جابر: أحفظت والله الفتى، اردد عليه نعليه، قال: فقلت: والله لا أردهما قال: قال والله صالح، لئن صدق الفأل لأسلبنه" (1). 145 - من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "حملني خالي جد ابن قيس في السبعين راكبًا الذين وفدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبل الأنصار ليلة العقبة، فخرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعه عمه العباس بن عبد المطلب فقال: يا عم خذ على أخوالك، فقال له السبعون: يا محمَّد سل لربك، ولنفسك ما شئت. فقال: (أما الذي أسألكم لربي فتعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأما الذي أسألكم لنفسي فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم). قالوا فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ (قال: الجنة) (2). __________ (1) أخرجه أحمد: 3/ 460, 462، الطيالسي: 2/ 90 - 94 رقم الحديث: 2333، من طريق ابن إسحاق، السيرة النبوية ابن هشام: 1/ 440 , 448 ابن جرير في التاريخ: 2/ 90 - 93 بسند صحيح، وصححه ابن حبان كما في الفتح: 5/ 425 الموارد ص: 408، السيرة النبوية ابن كثير: 2/ 192 - 194، السيرة النبوية للذهبي: 203 - 206، وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 42 - 45: رواه أحمد والطبراني بنحو. ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع. ورواه البيهقي في الدلائل: 5/ 445 - 449 وفي السنن: 9/ 9، والحاكم في المستدرك: 2/ 624 - 625، وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقال الذهبي صحيح. (2) الطبراني في الكبير: 1757 والصغير: 2/ 110 والأوسط قال الهيثمي في المجمع: 6/ 48 - 49 ورجاله ثقات.

(1/112)


146 - عن أنس عن ثابت عن قيس رضي الله عنه: خطب مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا فما لنا يا رسول الله؟ قال: (لكم الجنة). قالوا: رضينا" (1). أسماء النقباء على الأنصار: كما في رواية كعب بن مالك السابقة: "زادهم الطبراني في روايته": كان نقيب بني النجار أسعد بن زرارة، وكان نقيب بني سلمة البراء بن معرور وعبد الله ابن عمرو بن حرام، وكان نقيب بني ساعدة سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو، وكان نقيب بني زريق رافع بن مالك بن العجلان، وكان نقيب بني الحارث بن الخزرج عبد الله بن رواحة، وسعد بن الربيع، وكان نقيب بني عوف بن الخزرج عبادة بن الصامت، ونقيب بني عبد الأشهل أسيد بن حضير وأبو الهيثم بن التيهان، وكان نقيب بني عمرو بن عوف سعد بن خيثمة. __________ (1) أخرجه أبو يعلى برقم: 3772، قال الهيثمي في المجمع: 6/ 48 رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح، وأخرجه الحاكم في المستدرك: 4/ 234، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي, وعزاه الحافظ في الإصابة: 2/ 14 لابن السكن.

(1/113)


 الباب الثالث الهجرة إلى المدينة رؤيا الرسول عليه الصلاة والسلام لموطن الهجرة

147 - من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قد رأيت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما حرتان) " فخرج من كان مهاجرا قبل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين" (1). 148 - ومن حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي (2) إلى أنها اليمامة أو هجر، فهذا هي يثرب) (3).

 الفصل الأول ما يذكر من هجرة أصحاب الرسول قبل هجرته

 المبحث الأول: السابقون إلى الهجرة من الصحابة إلى المدينة

149 - من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: "أول من قدم علينا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، فجعلا يقرئاننا القرآن، ثم جاء عمار وبلال وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين، ثم جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به، حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جاء" (4). __________ (1) أخرجه أحمد في المسند: 6/ 198 بسند صحيح، والحاكم في المستدرك: 2/ 3 - 4 وصححه ووافقه الذهبي، وأخرجه البخاري تعليقًا في كتاب الكفالة باب جوار أبي بكر. (2) وهلي: اعتقادي هجر: مدينة معروفة وهي قاعدة البحرين. (3) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب هجرة النبي وأصحابه، وفي المغازي باب من قتل من المسلمين يوم أحد رقم: 4081، مسلم في الرؤيا باب رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم: 2272. (4) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب مقدم النبي وأصحابه رقم: 3924 - 3925، الطيالسي رقم: 2334: 2/ 94، أحمد في المسند انظر الفتح الرباني: 20/ 276، وأخرجه ابن سعد: 4/ 1/ 151، والحاكم: 3/ 634 ورجاله ثقات.

(1/115)


 المبحث الثاني: ما أصاب أبا سلمة وآله

150 - عن ابن إسحاق قال حدثني أبي إسحاق بن يسار، عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة، عن جدته، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: "لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج لي يقود بي بعيره فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم قاموا إليه، فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتك هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت: فنزعوا خطام البعير من يده، فأخذوني منه. قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، رهط أبي سلمة، فقالوا: لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا، قالت: فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنوا المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة، قالت: ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني. قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي، حتى أمسي سنة أو قريبًا منها حتى مر بي رجل من بني عمي أحد بني المغيرة، فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها! قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت. قالت: ورد بنو عبد الأسد إلى عند ذلك ابني. قالت: فارتحلت بعيري ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة. قالت: وما معي أحد من خلق الله، قالت: فقلت: أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، أخا بني عبد الدار، فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أمية؟ قالت: فقلت: أريد زوجي في المدينة. قال: أوما معك أحد؟ قالت: لا والله، إلا الله وبني هذا. قال: والله ما لك من مترك، فأخذ بخطام البعيم، فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلًا من العرب قط، أرى أنه وإن أكرم منه، وإن إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني, حتى إذا نزلت استأخر بعيري، فحط عنه، ثم قيده في الشجرة، ثم تنحى عني إلى شجرة، فاضطجع تحتها، فهذا دنا

(1/116)


الرواح، قام إلى بعيري فقدمه فرحله، ثم استأخر عني، وقال: اركبي، فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقاده، حتى ينزل بي، يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء. قال: زوجك في هذه القرية -وكان أبو سلمة نازلًا فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعًا إلى مكة. قال: فكانت تقول: والله ما أعلم أهل بيت في الإِسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحبًا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة" (1).

 المبحث الثالث: قصة عياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص وإعادتهم

151 - من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "اجتمعنا للهجرة أوعدت أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص الميضاة، ميضاة بني غفار فوق شرف، وقلنا: أيكم لم يصبح عندها فقد احتبس فليمض صاحباه، فحبس عنا هشام بن العاص، فلما قدمنا منزلنا في بني عمرو بن عوف، وخرج أبو جهل ابن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة وكان ابن عمهما، وأخاهما لأمهما، حتى قدما علينا المدينة فكلماه فقالا له: إن أمك نذرت أن لا تمس رأسها مشط حتى تراك، فرق لها. فقلت له: يا عياش والله إن يُردكَ القوم إلا عن دينك فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة أحسبه قال لامتشطت، قال: إن لي هناك مالًا فآخذه قال: قلت: والله إنك لتعلم أني من أكثر قريش مالًا ذلك نصف مالي، ولا تذهب معهما، فأبى إلا يخرح معهما، فقلت له: لما أبي علي: أما إذ فعلت فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة ذلول فالزم ظهرها فإن رابك من القوم ريب فانخ عليها. فخرج معهما عليها حتى إذا كان ببعض الطريق قال أبو جهل بن هشام: والله لقد استبطأت بعيري هذا، أفلا تحملني على ناقتك هذه. قال: بلى فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عديا عليه فأوثقاه، ثم أدخلاه مكة وفتناه فافتتن، قال: فكنا نقول: والله لا يقبل الله ممن افتتن صرفا ولا عدلًا، ولا يقبل __________ (1) ابن هشام في السيرة: 1/ 469 - 470 من طريق ابن إسحاق وقد صرح بالسماع وعنده رجاله ثقات، فالحديث صحيح.

(1/117)


توبة قوم عرفوا الله، ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم. قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، أنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيهم وفي قولنا لهم وقولهم لأنفسهم {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} إلى قوله {وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}. قال عمر: فكتبتها في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاص قال هشام: فلم أزل أقرؤها بذي طوى أصعد بها فيه حتى فهمتها، قال: فألقي في نفسي أنها إنما نزلت فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا، فرجعت فجلست على بعيري، فلحقت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة" (1). __________ (1) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 61 رواه البزار ورجاله ثقات. كشف الأستار رقم: 1746: 2/ 302، ابن هشام في السيرة: 1/ 474 - 475، بسند رجاله ثقات صرح في ابن إسحاق بالتحديث فقال حدثني نافع مولى ابن عمر عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، ورواه البيهقي في الدلائل: 2/ 461 - 462، والبيهقي في السنن: 9 / ص 13 - 14، من طريق ابن إسحاق. فالحديث صحيح.

(1/118)


 الفصل الثاني هجرة رسول الله إلى المدينة

 المبحث الأول: الإذن للرسول عليه الصلاة والسلام بالهجرة

152 - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة فأمر بالهجرة وأنزل عليه {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} (1) (2).

 المبحث الثاني: التخطيط للهجرة والرعاية الربانية

1 - صحبة أبي بكر للرسول عليه الصلاة والسلام 153 - من حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لجبريل: (من يهاجر معي؟ قال: أبو بكر الصديق) (3). 154 - ومن حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (بينما نحن يومًا جلوس في بيت أبي بكر في نحو الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقنعًا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر فدى له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر. قالت: فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي لأبي بكر: أخرج من عندك" فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: فإني قد أذن لي في الخروج" فقال أبو بكر: الصحابة (4) بأبي أنت يا رسول الله، قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم، قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بالثمن" (5). __________ (1) سورة الإسراء: 80. (2) أخرجه الترمذي في سننه التفسير وفي سورة بني إسرائيل رقم: 3139 وقال حديث حسن صحيح، والحاكم في المستدرك: 3/ 3 وقال صحيح في الإسناد ووافقه الذهبي. وفي سنده قابوس بن أبي ظبيان لينه الحافظ في التقريب ومع ذلك صححه الترمذي والحاكم ووافقه الذهبي. (3) الحاكم في المستدرك: 3/ 5 وقال صحيح الإسناد والمتن ووافقه الذهبي وقال صحيح غريب. (4) الصحابة: أريد المصحابة. (5) الحديث صحيح انظر حديث رقم: 119.

(1/119)


2 - نوم علي في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة 155 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "شرى علي نفسه، ولبس ثوب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم نام مكانه: وكان المشركون يرمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان رسول الله عليه وآله وسلم ألبسه بردة، وكانت قريش تريد أن تقتل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعلوا يرمون عليًّا، ويرونه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد لبس برده، وجعل علي رضي الله عنه يتضور، فهذا هو علي، فقالوا: إنك للئيم إنك لتتضور، وكان صاحبك لا يتضور، ولقد استنكرناه منك" (1). 156 - وقد جاء تفصيل قصة مكوثهم على باب الرسول عليه الصلاة والسلام، ووضعه عليه الصلاة والسلام التراب على رؤوسهم وخروجه دون أن يروه، عن ابن إسحاق في السيرة فقال: حدثني يزيد بن زياد عن محمَّد بن كعب القرظي قال: "لما اجتمعوا له، وفيهم: أبو جهل بن هشام فقال: وهم على بابه: إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره، كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنات كجنات الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها. قال: وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ حفنة من التراب في يده، ثم قال: (أنا أقول ذلك، أنت أحدهم)، وأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه، فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤسهم وهو يتلو هؤلاء الآيات من يس {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)} إلى قوله: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} حتى فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هؤلاء الآيات، ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب. فأتاهم آت فيمن لم يكن معهم، فقال: ما تنظرون ها هنا؟ قالوا: محمدًا، قال: خيبكم الله! قد والله خرج عليكم محمَّد، ثم ما ترك منكم رجلًا إلا __________ (1) أخرجه الحاكم في المستدرك: 3/ 4 وقال: هذ حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقد رواه أبو داود الطيالسي وغيره عن أبي عوانة بزيادة ألفاظ، ووافقه الذهبي. وأخرجه أحمد كما في الفتح الرباني: 20/ 279.

(1/120)


وضع على رأسه ترابًا، وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم؟ قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه، فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يتطلعون فيرون عليا على الفراش متسجيًّا بِبُرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائمًا، عليه برده. فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي رضي الله عنه عن الفراش فقالوا: والله لقد كان صدقنا الذي حدثنا" (1). 3 - لجوء الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر إلى الغار 157 - من حديث محمَّد بن سيرين قال: ذكر رجال على عهد عمر رضي الله عنه، فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر رضي الله عنهما، قال: فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه، فقال: والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر، وليوم من أبي بكر، خير من آل عمر، لقد خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لينطلق إلى الغار ومعه أبو بكر، فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه، حتى فطن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (يا أبا بكر ما لك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي؟) فقال: يا رسول الله! أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك، فقال: (يا أبا بكر، لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني)، قال: نعم والذي بعثك بالحق ما كانت لتكون من ملمة إلا أن تكون لي دونك، فلما انتهيا إلى الغار، قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله حتى استبرئ لك الغار، فدخل واستبرأ حتى إذا كان في أعلاه، ذكر أنه لم يستبرئ الحجرة، فقال: مكانك يا رسول الله حتى استبرئ الحجرة، فدخل واستبرأ ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل فقال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر" (2). __________ (1) أخرجه ابن هشام في السيرة: 1/ 483 وإسناده رجاله ثقات وهو مرسل حسن، وأخرجه الطبري في تاريخه: 2/ 373، وأبو نعيم في الدلائل ص: 64، وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث، وله شاهد من حديث ابن عباس رقم: 155، 158، وبه يكون الحديث حسنًا. (2) أخرجه الحاكم في المستدرك: 3/ 6 وقال: حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين لولا إرسال فيه لم يخرجاه ووافقه الذهبي، وقال: صحيح مرسل، والحافظ في الفتح: 7/ 237 عن دلائل النبوة للبيهقي من مرسل محمَّد بن سيرين وقال: وذكره أبو القاسم البصري من مرسل ابن أبي مليكة نحوه، وذكر ابن هشام من زياداته عن الحسن البصري بلاغًا نحوه.

(1/121)


4 - نسج العنكبوت على باب الغار 158 - عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: في قوله تعالى {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ} قال: تشاورت قريش ليله بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق -يريدون النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع الله -عَزَّ وَجَلَّ- نبيه على ذلك، فبات علي على فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الليلة، وخرج النبي حتى لحق بالغار, وبات المشركون يحرسون عليًّا يحسبونه النبي - صلى الله عليه وسلم -. فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوه عليًّا رد الله مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل، خلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ها هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال" (1). تعمية أبصار المشركين عن إبصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر في الغار: 159 - من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا. فقال: (ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما) (2). __________ (1) أخرجه أحمد في المسند: 1/ 348، عبد الرزاق في المصنف: 5/ 389، وذكره الحافظ في الفتح: 7/ 236 وقال سنده حسن، وحسن إسناده أيضًا ابن كثير في السيرة: 2/ 239، وقال: إسناد حسن وهو من أجود ما روي في قصة نسج العنكبوت على فم الغار"، ورواه الطبراني مطولًا ذاكرًا تفاصيل الهجرة وإسناده مرسل، وفيه ابن لهيعة وفيه كلام وحديثه حسن، انظر مجمع الزوائد: 6/ 52 - 53، وزاد صاحب فتح القدير عزوه إلى: عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه وغيرهم، انظر فتح القدير: 2/ 304، وقد رواه عبد الرزاق: 5/ 389 متقطعًا عن مقسم وقتادة، ومرة موصولا عن عائشة، ورواه الطبري في التاريخ: 2/ 372، ويشهد له مرسل الحسن أخرجه أبو بكر المروزي في مسند أبي بكر، وجاء من حديث أنس عند البزار، انظر كشف الأستار: 2/ 299، وابن سعد في الطبقات: 1/ 299، والبيهقي في الدلائل: 2/ 473، وبهذا يكون الحديث حسنًا. (2) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة باب مناقب المهاجرين وفضلهم منهم أبو بكر رقم: 3653، فتح الباري: 7/ 8، وفي مناقب الأنصار باب هجرة النبي رقم: 3917، فتح الباري: 7/ 255، مسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أبي بكر الصديق: 2381.

(1/122)


5 - كيف كانا يحصلان على أخبار قريش والزاد واتفاقهما مع الدليل 160 - من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (ثم لحق رسول الله وأبو بكر بغار في جبل ثور، ممم فأقمنا أو فمكثنا ممم فكمنا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرًا يكتادان (1) به إلا وسماه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحه من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رَسْل -وهو لبن منحتهما ورضيفهما (2) - حتى ينعق عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث. واستأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رجلًا من بني الديل، وهو من بني عبد ابن عدي هاديًا خريتًا -والخريت الماهر بالهداية- قد غمس حلفًا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهما طريق السواحل" (3). __________ (1) يكتادان: يطلب لهما فيه المكروه، وهو من الكيد. (2) رضيفهما: اللبن الموضوف: أي الذي وضعت فيه الحجارة المحماة بالشمس والنار لينعقد وتزول رخاوته. (3) سبق تخريجه رقم الحديث: 119 - وقد رواه البخاري.

(1/123)


 المبحث الثالث: ما يذكر عن أسماء في الهجرة

1 - ذات النطاق 161 - قالت عائشة رضي الله عنها: "فجهزناهما (الراحلتين) احث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاق" (1). 2 - قصة أسماء مع جدها وتعليله بالحجارة عن النقود 162 - من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: "لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخرج معه أبو بكر احتمل أبو بكر ماله كله معه، خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم، قالت: وانطلق بها معه، قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه. قالت: قلت كلا يا أبت إنه قد ترك خيرًا كثيرا، قالت: فأخذت أحجارًا فتركتها فوضعتها في كوة ببيت كان أبي يضع فيها ماله، ثم وضعت عليها ثوبًا ثم أخذت بيده فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال، قالت: فوضع يده عليه فقال: لا بأس إن كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا لكم بلاغ، قالت: لا والله ما ترك لنا شيئًا، ولكني أردت أن أسكن الشيخ" (2).

 المبحث الرابع: في الطريق إلى المدينة

1 - استراحة في القائلة وشربة لبن 163 - من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: "اشترى أبو بكر رضي الله عنه من عازب رحلًا بثلاثة عشر درهما، فقال أبو بكر لعازب: مر البراء فليحمل إليَّ رحلي، فقال عازب: لا، حتى تحدثنا كيف صنعت أنت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خرجتما من مكة والمشركون يطلبونكم. __________ (1) الحديث السابق. (2) أخرجه الحاكم في المستدرك: 3/ 5 - 6، وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وأحمد انظر الفتح الرباني: 20/ 282، وابن هشام في السيرة ورجاله ثقات: 1/ 488، وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 59 رواه أحمد والطبراني رجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع.

(1/124)


قال: ارتحلنا من مكة فأحيينا -أو سرينا- ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا، وقام قائم الظهيرة، فرميت ببصري هل أرى من ظل فآوي إليه، فإذا صخرة أتيتها، فنظرت بقية ظل لها فسويته، ثم فرشت للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه، ثم قلت له: اضطجع يا نبي الله، فاضطجع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم انطلقت أنظر ما حولي: هل أرى من الطلب أحدا؟ فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة، يريد منها الذي أردنا، فسألته، لمن أنت يا غلام؟ فقال لرجل من قريش سماه فعرفته، فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم. قلت: فهل أنت حالب لنا. قال: نعم، فأمرته فاعتقل شاة من غنمه، ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته أن ينفض كفيه، فقال: هكذا، ضرب إحدى كفيه بالأخرى فحلب لي كثبة من لبن. وقد جعلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أداوة على فمها خرقها، فصببت على اللبن حتى برد أسفله، فانطلقت به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فوافقته قد استيقظ، فقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت، ثم قلت: قد آن الرحيل يا رسول الله، قال: (بلى) فارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له: فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، فقال: (لا تحزن، إن الله معنا) (1). 164 - ومن حديث قيس بن النعمان رضي الله عنه قال: "لما انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر مستخفين مرا بعبد يرعى غنمًا، فاستسقياه من اللبن، فقال: ما عندي شاة تحلب غير أن ها هنا عناقا حملت أول الشتاء، وقد أخدجت وما بقي لها لبن، فقال: (ادع بها) فدعا بها، فاعتقلها النبي - صلى الله عليه وسلم - ومسح ضرعها ودعا حتى أنزلت، قال: وجاء أبو بكر رضي الله عنه بمجن فحلب فسقى أبا بكر، ثم حلب فشرب، فقال الراعي: بالله من أنت؟ فوالله ما رأيت مثلك قط! قال: (أوتراك تكتم علي حتى أخبرك؟) قال: نعم. قال: (فإني محمَّد رسول الله). فقال: أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ، قال (إنهم ليقولون ذلك). قال: __________ (1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب مناقب المهاجرين وفضلهم ومنهم أبو بكر رقم: 3652، فتح الباري: 7/ 8، وانظر: 3439، 3615, 3917، مسلم في صحيحه كتاب الزهد باب في حديث الهجرة ويقال له حديث الرحل رقم: 2009 صفحة: 4/ 2309 - 2310، وأحمد في المسند: 1/ 2 - 3. * أخدجت: ألقت ولدها.

(1/125)


فأشهد أنك نبي، وأشهد أن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي، وأنا متبعك، قال: (إنك لا تستطيع ذلك يومك، فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا) (1). 2 - حديث سراقة بن مالك 165 - من حديث سراقة بن مالك بن جعشم رضي الله عنه قال: "جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، إذا أقبل رجل منهم، حتى قام علينا ونحن جلوس فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفًا أسودة بالساحل أراهما محمدًا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا انطلقوا بأعيننا. ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي -وهي من وراء أكمة- فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فخططت بزجه الأرض، وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسي، فركبتها، فرفعتها تقرب لي، حتى دنوت فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها: أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره. فركبت فرسي -وعصيت الأزلام- تقرب بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها، فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عنان ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، __________ (1) أخرجه الحاكم في المستدرك: 3/ 8 - 9، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وقال: صحيح، المطالب العالية رقم: 4295، رواه أبو يعلى بإسناد رواته ثقات كذا قال البوصيري، وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 58 رواه البزار ورجاله رجال الصحيح، كشف الأستار عن زوائد البزار: 1743.

(1/126)


وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني، ولم يسألاني إلا أن قال: (أخف عنا). فسألته أن يكتب لي كتاب أمن, فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أدم, ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1). ذكاء أبي بكر حين سئل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: 166 - من حديث أنس رضي الله عنه قال: (أقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف، ونبي الله - صلى الله عليه وسلم - شاب لا يعرف، قال فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل، قال فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني سبيل الخير. فالتفت أبو بكر فهذا هو بفارس قد لحقهم، فقال: يا رسول الله هذا فارس قد لحق بنا، فالتفت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (اللهم اصرعه)، فصرعه الفرس، ثم قامت تحمحم، فقال: يا نبي الله مرني بما شئت. قال: (فقف مكانك لا تتركن أحدًا يلحق بنا)، قال فكان أول النهار جاهدًا على نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان آخر النهار مسلمة له" (2). 3 - حديث أم معبد الخزاعية 167 - من حديث هشام بن حبيش عن أبيه حبيش بن خالد صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من مكة مهاجرًا إلى المدينة، وأبو بكر رضي الله عنه ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة، ودليلهما الليثي عبد الله بن أريقط مروا على خيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت امرأة برزة جلدة، تحتبي بفناء الخيمة، ثم تسقي وتطعم. فسألوها لحمًا وتمرًا ليشتروا منها فلم يصيبوا عندها شيئًا من ذلك، وكان القوم مرملين مسنتين، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى شاة في كسر الخيمة، فقال: (ما __________ (1) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث رقم: 3906، فتح الباري: 7/ 238، ومسلم في الزهد باب حديث الهجرة: 2009، وابن سعد في الطبقات مختصرًا: 1/ 232، وأحمد في المسند: 4/ 176، وعبد الرزاق في المصنف: 5/ 392 - 394. والبيهقي في الدلائل: 2/ 484، والحاكم في المستدرك: 3/ 6 - 7. وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاء وأقره الذهبي. وأشار إلى أن البخاري ومسلم قد أخرجاه، وابن هشام في السيرة: 1/ 489. (2) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث رقم: 3911 فتح الباري: 7/ 249، وأحمد كما في الفتح الرباني: 20/ 288.

(1/127)


هذه الشاة يا أم معبد؟) قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم. قال: (هل بها من لبن؟) قالت: هي أجهد من ذلك، قال: (أتأذنين لي أن أحلبها؟) قالت: بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبًا فاحلبها. فدعا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمسح بيده ضرعها، وسمى الله تعالى ودعا لها في شاتها فتفاجت عليه ودرت، فاجترت (1) فدعا بإناء يربض (2) الرهط، فحلب فيه ثجًّا حتى علاه البهاء، ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، وشرب آخرهم حتى أراضوا (3) ثم حلب فيه الثانية على بدء حتى ملا الإناء، ثم غادره عندها، ثم بايعها -يعني على الإِسلام- ثم ارتحلوا عنها، فقل ما لبثت حتى جاءها زوجها أبو معبد يسوق أعنزًا عجافًا، يتساوكن هزالا مخهن قليل. فلما رأى أبو معبد اللبن أعجبه قال: "من أين لك هذا يا أم معبد، والشاء عازب حائل ولا حلوب في البيت؟ " قالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا قال: "صفيه لي يا أم معبد؟ ". قالت: "رأيت رجلًا ظاهر الوضاءة أبلج الوجه، حسن الخلق لم تعبه تجلة، ولم تزريه صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته سهل، وفي عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، أزج أقرن، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سماه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد, وأحسنه وأجمله من قريب. حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، كان منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربعة لا تشنأه من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرًا، وأحسنهم قدرًا، له رفقاء يحفون به، إن قال سمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند. قال أبو معبد: هذا والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر، ولقد هممت أن أصاحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلًا، وأصبح صوت بمكة عاليًا، يسمعون الصوت، ولا يدرون صاحبه، وهو يقول: __________ (1) تفاجت: فرجت رجليها للحلب. (2) يربض الرهط: يبالغ في ريهم ويقلهم حتى يلصقهم بالأرض. (3) أراضوا: كرروا الشوب حتى بالغوا في الري.

(1/128)


جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلاها بالهدى واهتدت به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمَّد فيا لقصي ما زوى الله عنكم ... به من فعال لا تجازى وسؤدد ليهن أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من يسعد الله يسعد وليهن بني كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد دعاها بشاة حائل فتحلبت ... عليه صريما ضرة الشاة مزبد فغادره رهنا لديها لحالب ... يرددها في مصدر بعد مورد (1) (2) كسوة الزبير رضي الله عنه للنبي وأبي بكر رضي الله عنه: 168 - قال ابن شهاب الزهريّ أخبرني عروة بن الزبير "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارًا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثياب بياض" (3). __________ (1) أخرجه الحاكم في المستدرك: 3/ 9 - 10 وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وواففه الذهبي، وقال صحيح" وعزاه ابن حجر في الإصابة: 1/ 309 للبغوي وابن شاهين وابن السكن وابن منده وغيرهم، وأخرجه الطبراني في الكبير: 3605 وأبو نعيم في الدلائل: ص 282 - 287. واللالكائي في اعتقاد أهل السنة والجماعة: 1434 - 1437. وللحديث شواهد من حديث جابر رواه البزار كما في كشف الأستار: 1742. وأبي معبد الخزاعي رواه البيهقي ذكرهما الحافظ ابن كثير في السيرة: 2/ 258 - 262 ابن سعد في الطبقات: 1/ 230 - 232. وله شاهد ثالث من حديث أبي بكر دون ذكر اسم أم معبد ذكره البيهقي في الدلائل: 2/ 491، وإسناده حسن، كما قال ابن كثير، وقال البيهقي. هذه القصة شبيهة بقصة أم معبد والظاهر أنها هي والله أعلم قلت: وبهذه الشواهد يكون الحديث حسنًا إن شاء الله تعالى. (2) انظر شرح غريب الحديث في السيرة النبوية لابن هشام تعليق الخشني تحقيق الدكتور همام سعيد، ومحمد أبو صعليك: 2/ 146 - 150. (3) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -: 3906، وقال الحافظ: وصورته مرسل لكن وصله الحاكم من طريق معمر عن الزهريّ: 3/ 11 قال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وقال: أخرجه البخاري، وأخرجه ابن هشام في السيرة: 1/ 492.

(1/129)


 الباب الرابع المرحلة المدنية

 الفصل الأول الأحداث والوقائع من قدوم النبي المدينة إلى غزوة بدر

 المبحث الأول: قدوم النبي صلى الله عليه وسلم – المدينة

169 - من حديث ابن شهاب عن عروة بن الزبير: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارًا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله وأبا بكر ثياب بياض، ويسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة، فكانوا يفدون كل غداة إلى الحرة، فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانطلقوا أيضًا بعدما أطالوا انتظارهم. فلما آووا إلى بيوتهم، أوفى رجل من اليهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله وأصحابه مبيضين، يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول. فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صامتًا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك. فلبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ركب راحلته، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين وكان مربدًا للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بركت به راحلته: هذا إن شاء الله المنزل، ثم دعا

(1/131)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدًا، فقالا: لا، بل نهبه لك يا رسول الله ثم بناه مسجدًا، وطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينقل معهم اللبن في بنيانه، ويقول -وهو ينقل اللبن: هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر ويقول: اللهم إن الأجر أجر الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي". قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات (1).

 المبحث الثاني: نزوله بفناء أبي أيوب وبناء المسجد

170 - من حديث أنس رضي الله عنه قال: "لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة نزل في علو المدينة، في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف، قال: فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى ملأ بني النجار، قال: فجاءوا متقلدي سيوفهم، قال: وكأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلته وأبو بكر ردفه وملأ بني النجار حوله، حتى ألقى بفناء أبي أيوب، قال: فكان يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم. قال: ثم إنه أمر ببناء المسجد، فأرسل إلى ملأ بني النجار فجاءوا. فقال: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا، فقالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. قال: فكان فيه ما أقول لكم: كانت فيه قبور المشركين، وكانت فيه خرب، وكان فيه نخيل. فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبور المشركين وبالخرب فسويت، وبالنخل فقطعت، قال: فصفوا النخل قبلة المسجد، قال وجعلوا عضادتيه حجارة، وجعلوا ينقلون الصخر، وهم يرتجزون ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم يقولون: اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة (2) __________ (1) قد جاء جزء منه حديث رقم: 165 وحديث رقم: 168، فانظر تخريجه هناك -وقد جاء من حديث عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة محمد ابن هشام في السيرة بإسناد رجاله ثقات نحو هذا: 1/ 492. (2) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب مقدم النبي وأصحاب إلى المدينة رقم: 3932 فتح الباري: 265/ 7، وفي المساجد باب هل تنبش قبور مشركي الجاهية ويتخذ مكانها مساجد، وفي فضائل المدينة باب =

(1/132)


 المبحث الثالث: فرح أهل المدينة بمقدم الرسول صلى الله عليه وسلم

1 - خروج الناس لاستقبال الرسول - عليه السلام - حين قدم المدينة 171 - من حديث البراء عن أبي بكر في حديث الهجرة فقال: (فقدمنا المدينة ليلًا، فتنازعوا أيهم ينزل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أنزل علي بني النجار، أخوال عبد المطلب، أكرمهم بذلك) فصعد الرجال والنساء فوق البيوت وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ينادون: يا محمَّد! يا رسول الله! يا محمَّد! يا رسول الله" (1). 2 - إضاءة المدينة لمقدمه صلى الله عليه وسلم وإظلامها لوفاته 172 - من حديث أنس رضي الله عنه قال: "فما رأيت يومًا قط أنور ولا أحسن من يوم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر المدينة، وشهدت وفاته فما رأيت يومًا قط أظلم ولا أقبح من اليوم الذي توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فيه" (2). 3 - لعب الحبشة بحرابها فرحًا بالرسول صلى الله عليه وسلم 173 - من حديث أنس رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله لعبت الحبشة بحرابهم فرحًا لقدومه" (3). __________ = حرم المدينة، وفي البيوع باب صاحب السلعة أحق بالسوم، ومسلم في المساجد باب ابتناء مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم: 524 - أبو داود في الصلاة باب بناء المسجد: 454، النسائي في المساجد باب نبش القبور واتخاذ أراضيها مساجد: 2/ 39 - 40، ابن ماجه في المساجد باب أين يجوز بناء المساجد. 742، وأحمد في المسند انظر الفتح الرباني: 21/ 5 - 6، ابن سعد في الطبقات: 1/ 239 - 241، البيهقي في الدلائل: 2/ 539 - 540، الطيالسي في المسند في منحة المعبود: 2/ 94 - 95. (1) أخرجه البخاري في مناقب الصحابة باب مناقب المهاجرين: 3652 فتح الباري: 7/ 8، وفي الأنبياء باب علامات النبوة في الإِسلام، وفي الأشربة باب شرب اللبن، وفي اللقطة: باب من عرف اللقطة ولم يدفعها إلى السلطان، ومسلم: 2009، 4/ 2309 في الزهد والرقائق: باب في حديث الهجرة. (2) أخرجه أحمد في المسند: 3/ 122، والدارمي: 1/ 41 في المقدمة وإسناده صحيح، والحاكم في المستدرك: 3/ 12، وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 59 - 60، رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. (3) أخرجه أبو داود في الأدب باب في الغناء: 4923، الفتح الرباني: 20/ 290 - 291 وسنده صحيح رجاله رجال الصحيح.

(1/133)


 المبحث الرابع: مسائل عبد الله بن سلام حبر اليهود وإسلامه

174 - من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل عليه، فنزل النبي في السفل وأبو أيوب في العلو. قال: فانتبه أبو أيوب ليلة فقال: نمشي فوق رأس رسول الله، فتنحوا، فباتوا في جانب، ثم قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (السفل أرفق) فقال: لا أعلو سقيفة أنت تحتها، فتحول النبي - صلى الله عليه وسلم - في العلو وأبو أيوب في السفل. فكان يصنع للنبي - صلى الله عليه وسلم - طعاما. فإذا جيء به إليه سأل عن موضع أصابعه، فيتتبع موضع أصابعه، فصنع له طعاما فيه ثوم، فلما رد إليه سأل عن موضع أصابع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقيل له: لم يأكل ففزع وصعد إليه. فقال: أحرام هو؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا ولكني أكرهه) قال: فإني أكره ما تكره، أو ما كرهت، قال: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤتى؟!! " (1). 175 - من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فأتاه يسأله عن أشياء فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني به جبريل آنفًا. قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة، قال: أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إلى أمه. قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. قال: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت، فاسألهم عني قبل أن يعلموا بإِسلامي، فجاءت اليهود. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك. فأعاد عليهم فقالوا مثل ذلك. فخرج إليهم عبد الله. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. قالوا: شرنا وابن شرنا، وتنقصوه، قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله" (2). __________ (1) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الأشربة باب إباحة أكل الثوم وأنه ينبغي لمن أراد خطاب الكبار تركه رقم: 2053 - الترمذي كتاب الأطعمة باب كراهة أكل الثوم: 1807، أحمد في المسند: 5/ 94 - 95، 96، 103، 106، البيهقي في الدلائل: 10/ 509 - 510. (2) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب كيف آخى النبي بين أصحابه رقم 3938 فتح الباري: 7/ 272، وكتاب مناقب الأنصار باب الهجرة رقم: 3911 فتح الباري: 7/ 249 - 250.

(1/134)


 المبحث الخامس: أول جمعة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم

من حديث ابن إسحاق قال: "نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقباء على كلثوم بن الهدم أخي بني عمرو بن عوف، ويقال بل نزل على سعد بن خيثم، فأقام في بني عمرو بن عوف وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فصلى الجمعة الكبرى في المسجد ببطن الوادي، قال ابن إسحاق: ثم نزل رسول الله على أبي أيوب، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببناء مسجده في تلك السنة" (1).

 المبحث السادس: متى دخل النبي - صلى الله عليه وسلم – المدينة

176 - من حديث عاصم بن عدي رضي الله عنه قال: "قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين لاثنتي عشرة لية خلت من ربيع الأول فأقام بالمدينة عشر سنين" (2).

 المبحث السابع: المشاركة في بناء المسجد

177 - من حديث سفينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لما بنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد، جاء أبو بكر رضي الله عنه بحجر فوضعه، ثم جاء عمر بحجر فوضعه، ثم جاء عثمان بحجر فوضعه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (هؤلاء ولاة الأمر من بعدي) (3). 178 - من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فينفض التراب عنه ويقول: (ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار). قال: يقول عمار: أعوذ باللهِ من الفتن" (4). __________ (1) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 62 - 63، رواه الطبراني ورجاله ثقات: وانظر السيرة النبوية بتعليق الخشني: 2/ 159. (2) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 63 رواه الطبراني ورجاله ثقات، الطبراني في الكبير: 17/ 172. (3) أخرجه الحاكم في المستدرك: 3/ 13، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاء ووافقه الذهبي وقال صحيح. (4) أخرجه البخاري في الصلاة باب التعاون في بناء المسجد رقم: 447 فتح الباري: 1/ 541 ورقم: 2812 في الجهاد. وانظر الفتح الرباني: 23/ 274 - مسلم في الفتن رقم: 2915 - أحمد في المسند: 3/ 5 البيهقي في الدلائل: 2/ 548.

(1/135)


صفة مسجده: 179 - من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان المسجد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبنيًّا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل" فلم يزد فيه أبو بكر شيئًا، وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باللبن والجريد وأعاد عمده خشبًا، ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج" (1).

 المبحث الثامن: ما أصاب المهاجرين من حمى المدينة

180 - من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "قدمنا المدينة وهي وبيئة، فاشتكى أبو بكر، واشتكى بلال، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شكوى أصحابه قال: (اللهم حبب إلينا المدينة، كما حببت مكة أو أشد وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدها، وحول حماها إلى الجحفة) (2). 181 - من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وعك أبو بكر وبلال، قالت: فدخلت عليهما، فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ قالت: فكان أبو بكر رضي الله عنه إذا أخذته الحمى يقول: كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي أذخر وجليل وهل أردن يومًا مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل قالت عائشة فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فقال: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حماها، __________ (1) أخرجه البخاري في الصلاة باب بنيان المسجد رقم: 446 فتح الباري: 1/ 540، وانظر الفتح الرباني: 23/ 276. (2) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب مقدم النبي وأصحابه المدينة رقم: 3926 فتح الباري: 7/ 262 وفي الدعوات باب الدعاء برفع الوباء والوجع، وفي فضائل المدينة باب حدثنا مسدد عن يحيى عن عبد الله بن عمر، وفي المرض باب عيادة النساء الرجال، وباب من دعا برفع الوباء والحمى، ومسلم في صحيحه الحج باب الترغيب في سكنى المدينة رقم: 1376، والفتح الرباني: 21/ 12 - 13.

(1/136)


فاجعلها بالجحفة). وفي رواية للبخاري: "أن بلالًا قال بعد شعره "اللهم العن شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف، كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا وصححها لنا، وانقل حماها إلى الجحفة). قالت: وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، قالت: فكان بطحان يجري نجلا، تعني ماء آجنًا" (1). 182 - من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (رأيت كان امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة، حتى قامت بهيعة وهي الجحفة، فأولت أن وجاء المدينة نقل إليها) (2). مرض عائشة بالحمى: 183 - من حديث البراء عن أبي بكر رضي الله عنهما قال البراء: "فدخلت مع أبي بكر على أهله فإذا عائشة ابنته مضطجعة قد أصابتها حمى، فرأيت أباها يقبل خدها، وقال: كيف أنت يا بنية" (3). __________ (1) أخرجه البخاري في كتاب فضائل المدينة باب حدثنا مسدد عن يحيى عن عبيد الله بن عمر رقم: 1889 وانظر التعليق السابق. (2) أخرجه البخاري في كتاب التعبير باب إذا رأى أنه أخرج الشيء من كوة وأسكنها موضعًا آخر، وباب المرأة السوداء: 12/ 425 - 426، رقم 7038، 7039، 7040، والترمذي كتاب الرؤيا باب ما جاء في رؤيا النبي الميزان والدلو رقم: 2290: وقال حسن صحيح غريب، وابن ماجه في التعبير باب تعبير الرؤيا رقم: 3924. (3) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب هجرة النبي وأصحابه رقم: 3918 فتح الباري: 7/ 255.

(1/137)


 المبحث التاسع: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

قال السهيلي: "آخى بين أصحابه ليذهب عنهم وحشة الغربة، ويتأنسوا من مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد بعضهم أزر بعض، فلما عز الإِسلام واجتمع الشمل وذهبت الوحشة أبطل المواريث، وجعل المؤمنين كلهم إخوة، وأنزل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} يعني في التوادد وشمول الدعوة، واختلفوا في ابتدائها: فقيل بعد الهجرة بخمسة أشهر، وقيل: بتسعة، وقيل: وهو يبني المسجد" (1). 184 - من حديث أنس رضي الله عنه قال: "قد حالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين قريش والأنصار في داري" (2). 185 - من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - على كل بطن عقوله ثم كتب (أنه لا يحل لمسلم أن يتولى مولى رجل مسلم بغير إذنه) ثم أخبرت أنه لعن في صحيفته من فعل ذلك (3). 186 - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كتب كتابًا بين المهاجرين والأنصار أن يعقلوا معاقلهم، وأن يفدوا عانيهم بالمعروف، والإصلاح بين المسلمين" (4). 187 - عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قال: ورثة {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال: كان المهاجرين لما قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ورث المهاجر الأنصاري دون ذوي رحمه، للأخوة التي آخى النبي __________ (1) فتح الباري: 7/ 270. (2) أخرجه البخاري في كتاب الكفالة، باب قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} رقم: 2294، وجاء أيضًا بأرقام: 6083، 7340، ومسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب مؤاخاة النبي بين أصحابه رقم: 2528. (3) أخرجه مسلم في كتاب العتق باب تحريم تولي العتيق غير مواليه رقم: 1507، النسائي في القسامة باب صفة شبه العمد: 8/ 52، أحمد في المسند:3/ 321، 349،342. * معاقلهم: المعاقل: الديات، العاني: الأسير، عقوله: العقول: الديات، والهاء ضمير البطن. (4) أخرجه أحمد في المسند: 1/ 271، 2/ 204، الفتح الرباني: 21/ 10، وقال الساعاتي: لم أقف عليه لغير الإِمام أحمد وسنده صحيح، وأورده الحافظ في تاريخه وقال: تفرد به أحمد، السيرة ابن كثير: 2/ 320 قلت: فيه حجاج بن أرطأة صدوق كثير الخطأ يدلس فالحديث إذن ليس كما قال الشيخ الساعاتي وإنما هو يشاهده عن جابر حسن. وأحاديث عمرو بن شعيب جلها حسنة إذا صح الإسناد إليه.

(1/138)


- صلى الله عليه وسلم - بينهم، فلما نزلت {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسخت. ثم قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} إلا النصر والرفادة والنّصيحة -وقد ذهب الميراث- ويوصي له" (1). 188 - من حديث أنس رضي الله عنه: قال: (قالت المهاجرون: يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن بذلًا من كثير، ولا أحسن مواساة في قليل، قد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ، فقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كلا ما أثنيتم عليهم به، ودعوتم الله -عَزَّ وَجَلَّ- لهم) (2). 189 - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قالت الأنصار: اقسم بيننا وبينهم النخيل، قال: (لا). قال: يكفوننا المئونة، ويشركوننا في الثمر، قالوا: سمعنا وأطعنا" (3). 190 - من حديث أنس رضي الله عنه قال: "قدم عبد الرحمن بن عوف فآخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق، فربح شيئًا من أقط وسمن، فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أيام وعليه وضر من صفرة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مهيم يا عبد الرحمن؟) قال: يا رسول الله تزوجت امرأة من الأنصار، قال: (فما سقت فيها؟) فقال: وزن نواة من ذهب. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أولم ولو بشاة) " (4). __________ (1) أخرجه البخاري الكفالة باب قوله تعالى {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} رقم: 2292 وأرقام: 4580، 6747. (2) أخرجه أحمد في المسند: 3/ 204 وهو من ثلاثياته وسنده صحيح على شرط الشيخين، وأخرجه الترمذي في صفة القيامة برقم: 2487، وأبو داود في الأدب باب في شكر المعروف: 4812، والبيهقي في السنن: 6/ 183، وقال الترمذي حسن صحيح غريب من هذا الوجه. (3) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب إخاء النبي بين المهاجرين والأنصار رقم: 3782. (4) أخرجه البخاري في منافب الأنصار باب إخاء النبي بين المهاجرين والأنصار رقم: 3781، وباب كيف آخى النبي بين أصحابه رقم: 3937، مسلم النكاح رقم: 1427، أبو داود في النكاح باب قلة المهر: 2109، الترمذي في البر والصلة باب ما جاء في مواساة الأخ: 1934، والنسائي في النكاح باب الهدية لمن عرس: 6/ 137، والبيهقي في السنن: 7/ 236، 237، وعبد الرزاق: 10410، وابن ماجة في النكاح باب الوليمة: 1907، والدرامي: 2/ 143 والحميدي: 1218. أحمد في المسند: 3/ 152، 3/ 190، 204، 271، وقد جاء من حديث إبراهيم بن سعد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جده عند البخاري رقم: 3780 باب إخاء النبي بين المهاجرين والأنصار.

(1/139)


191 - من حديث أنس قال: "آخى النبي بين أبي عبيدة وبين أبي طلحة" (1). 192 - "آخى النبي سلمان وأبي الدرداء" من حديث أبي جحيفة (2). 193 - ومن حديث الزبير بن العوام قال: أنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - فينا خاصة معشر قريش والأنصار {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان، فواخيناهم، ووارثناهم، فآخى أبو بكر رضي الله عنه خارجة بن زيد، وآخى عمر رضي الله عنه فلانًا، وآخى عثمان بن عفان رضي الله عنه رجلًا من بني زريق بن سعد الزرقي، ويقول بعض الناس غيره، قال الزبير رضي الله عنه: وآخيت أنا كعب بن مالك، فجئته فابتعلته، فوجدت السلاح قد ثقله فيما يرى فوالله، يا بني لو مات يومئذ عن الدنيا ما ورثه غيري، حتى أنزل الله تعالى هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار خاصة فرجعنا إلى مواريثنا" (3).

 المبحث العاشر: الوثيقة التي كتبها النبي في المدينة

لقد نظم النبي - صلى الله عليه وسلم - العلاقات بين سكان المدينة، وكتب في ذلك كتابًا أوردته المصادر التاريخية، واستهدف هذا الكتاب أو الصحيفة توضيح التزامات جميع الأطراف داخل المدينة، وتحديد الحقوق والواجبات، وقد سميت في المصادر القديمة بالكتاب أو الصحيفة، وأطلقت عليها الأبحاث الحديثة لفظ الدستور والوثيقة. أ - طرق ورود الوثيقة "الصحيفة": ونظرًا لأهمية الوثيقة التشريعية إلى جانب أهميتها التاريخية، فلا بد من تحكيم مقاييس أهل الحديث فيها لبيان درجة قوتها أو ضعفها، وما ينبغي أن يتساهل فيها كما يفعل مع الروايات والأخبار التاريخية الأخرى. __________ (1) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة باب مؤخاة النبي بين أصحابه رقم: 2528 - وأحمد في المسند: 3/ 152، وأبو يعلى: 3320. (2) أخرجه البخاري في الصوم باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع رقم: 1968، وفي الأدب باب صنع الطعام والتكلف للضيف: 6139، والترمذي في الزهد باب أعط كل ذي حق حقه: 2415، وأبو يعلى: 898. (3) تفسير ابن كثير: 3/ 468 في سورة الأحزاب آية: 6 عن ابن أبي حاتم بسنده إلى الزبير وإسناده حسن.

(1/140)


أن أقدم من أورد نص الوثيقة كاملًا هو محمَّد بن إسحاق لكنه أوردها دون إسناد، ونقلها عنه ابن كثير وابن سيد الناس، وقد ذكر البيهقي إسناد ابن إسحاق للوثيقة التي تحدد العلاقات بين المهاجرين والأنصار دون البنود التي تتعلق باليهود، لذلك لا يمكن الجزم بأنه أخذها من نفس الطريق أيضًا. وقد ذكر ابن سيد الناس أن ابن أبي خيثمة أورد الكتاب (الوثيقة)، فأسنده بهذا الإسناد، وحدثنا أحمد بن خباب أبو الوليد، حدثنا عيسى بن يوسف، حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو المزني، عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب كتابًا بين المهاجرين والأنصار فذكر بنحوه -أي بنحو الكتاب الذي أورده ابن إسحاق، ولكن يبدو أن الوثيقة وردت في القسم المفقود من تاريخ ابن أبي خيثمة إذ لا وجود لها فيما وصل إلينا منه. كذلك وردت الوثيقة في كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام بإسناد آخر هو حدثني يحيى بن عبد الله بن بكير، وعبد الله بن صالح، قالا: حدثنا الليث ابن سعد، قال: حدثنا عقيل بن خالد، عن ابن شهاب أنه قال: بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب هذا الكتاب ..) وسرده. كما وردت الوثيقة في كتاب الأموال لابن زنجويه من طريق الزهريّ أيضًا. هذه هي الطرق التي وردت منها الوثيقة بنصها الكامل، والتطابق الكبير بين سائر الروايات سوى بعض التقديم والتأخير في العبارات، أو اختلاف بعض المفردات، أو زيادة بنود قليلة، ولا يؤثر هذا الاختلاف على مضمونها العام. ب - مدى صحة الوثيقة: اعتمد عدد من الباحثين المعاصرين على الوثيقة فبنوا عليها دراساتهم، في حين ذهب الأستاذ يوسف العش إلى أن الوثيقة موضوعة فهو يقول: إنها لم ترد في كتب الفقه والحديث الصحيح رغم أهميتها التشريعية، بل رواها ابن إسحاق بدون إسناد، ونقلها عنه ابن سيد الناس، وأضاف أن كثير بن عبد الله بن عمرو والمزني روى هذا الكتاب عن أبيه عن جده، وقد ذكر ابن حبان البستي: أن كثير المزني روى عن أبيه عن جده نسخة موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب، ولا الرواية عنها إلا على جهة التعجب" ويرى العش أن ابن إسحاق اعتمد على رواية كثير لكنه تعمد حذف الإسناد.

(1/141)


لقد ذهب الأستاذ العش إلى ذلك لأنه تصور أن الوثيقة لم يروها غير ابن إسحاق، ولم يعبر على إسناد لها سوى ما ذكر ابن سيد الناس من رواية ابن أبي خيثمة لها من طريق كثير المزني. لكن أبا عبيد القاسم بن سلام أورد الوثيقة من طريق الزهريّ وهي طريق مستقلة لا صلة لها بكثير المزني. ونظرًا لكون ابن إسحاق من أبرز تلاميذ الزهريّ، فإن ثمة احتمال لأن يكون أورد الوثيقة من طريقه، لولا أن البيهقي ذكر إسناد ابن إسحاق للوثيقة التي تحدد العلاقات بين المهاجرين والأنصار دون أن تتناول البنود المتعلقة بيهود، ولا يمكن الجزم بأن ابن إسحاق أخذ البنود المتعلقة بيهود من هذه الطريق أو من طريق أخرى. قال البيهقي: "أخبرني أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمَّد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: حدثني عثمان بن محمَّد بن المغيرة بن الأخنس بن شريق قال: أخذت من آل عمر بن الخطاب هذا الكتاب كان مقرونا بكتاب الصدقة". والحديث بهذا الإسناد ضعيف؛ لأن عثمان تحملها وجادة، وفي الإسناد رجال فيهم ضعف مثل عثمان، فهو صدوق له أوهام، ويونس بن بكير يخطئ، والعطار ضعيف وتحمله للسيرة صحيح، فالرواية على ضعفها صالحة للاعتبار وقد توبعت وأن هذا النص يهدم الأساس الذي بنى عليه الأستاذ العش رأيه. كما أنه لا يمكن الحكم على الوثيقة بأنها موضوعة لأن كتب الحديث لم ترو نصًّا كاملًا!! فقد أوردت كتب الحديث مقتطفات كثيرة منها تغطي عددًا كبيرًا من بنودها. وبذلك يتبين أن الحكم بوضع الوثيقة مجازفة، ولكن الوثيقة لا ترقى بمجموعها إلى مرتبة الأحاديث الصحيحة. فابن إسحاق في سيرته رواها دون إسناد مما يجعل روايته ضعيفه، وأوردها البيهقي من طريق ابن إسحاق أيضًا بإسناد فيه سعد بن المنذر وهو مقبول فقط، وابن أبي خيثمة أوردها من طريق كثير بن عبد الله المزني وهو يروي الموضوعات وأبو عبيد القاسم بن سلام رواها بإسناد منقطع يقف عند الزهريّ، وهو من صغار التابعين فلا يحتج بمراسيله". ولكن نصوصًا من الوثيقة وردت في كتب الأحاديث بأسانيد متصلة وبعضها أوردها البخاري ومسلم، فهذه النصوص هي من الحديث الصحيح وقد احتج بها

(1/142)


الفقهاء وبنوا عليها أحكامهم. كما أن بعضها ورد في مسند الإِمام أحمد، وسنن أبي داود، وابن ماجه والترمذي، وهذه النصوص جاءت من طرق مستقلة عن الطرق التي وردت منها الوثيقة. وإذا كانت الوثيقة بمجموعها لا تصلح للاحتجاج بها في الأحكام الشرعية، سوى ما ورد منها من كتب الحديث الصحيح، فإنها تصلح أساسًا للدراسة التاريخية التي لا تتطلب درجة الصحة التي تقتضيها الأحكام الشرعية، خاصة وأن الوثيقة وردت من طرق عديدة تتضافر في إكسابها القوة، كما وأن الزهريّ علم كبير من الرواد الأوائل في كتابة السيرة النبوية، ثم إن أهم كتب السيرة والمصادر التاريخية ذكرت موادعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لليهود، وكتابته بينه وبينهم كتابًا، كما ذكرت كتابته كتابًا بين المهاجرين والأنصار. وقد جاء عند ابن كثير في البداية والنهاية: 4/ 103 - 104 نقلًا عن موسى ابن عقبة: (وفيه أن بني قريظة مزقوا الصحيفة التي كان فيها العقد". والأثر موقوف عليه بدون إسناد، ولكن مجموع الآثار يتقوى بعضها ببعض وتصل إلى درجة الحسن لغيره. كذلك فإن أسلوب الوثيقة ينم عن أصالتها، فنصوصها مكونة من جمل قصيرة بسيطة وغير معتدة التركيب، ويكثر فيها التكرار، وتستعمل كلمات وتعابير كانت مألوفة في عصر الرسول - عليه السلام -، ثم قل استعمالها فيما بعد حتى أصبحت مغلقة على غير المتعمقين في دراسة تلك الفترة، وليس في هذه الوثيقة نصوص تمدح، أو تقدح فردًا، أو جماعة، أو تخص بالإطراء، أو الذم، لذلك يمكن القول بأنها وثيقة أصلية وغير مزورة، ثم إن التشابه الكبير بين أسلوب الوثيقة، وأساليب كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - الأخرى يعطيها توثيقًا آخر" (1). ميثاق التحالف الإِسلامي: وكما سبق ذكره تبين لنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عقد حلفًا بين المهاجرين والأنصار، وسأذكر بنود هذا الحلف من خلال الأحاديث الصحيحة الواردة في هذا الحلف: __________ (1) المجتمع المدني في عهد النبوة للدكتور أكرم ضياء العمري من صفحة: 107 - 112 بتصرف قليل.

(1/143)


194 - من حديث علي رضي الله عنه من روايات متعددة عنه من طرق عن عدد من التابعين وكل واحد منهم روى بعضها وكل ما ذكروه وارد فيها "الوثيقة أو الحلف". من طريق إبراهيم التيمي، عن أبيه يزيد التيمي عن علي بن أبي طالب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (المدينة حرام ما بين عائر إلى كذا، من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل) وقال: (وذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومن تولى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل" (1). 195 - ومن طريق أبي جحيفة عن علي قال: فيها (الصحيفة) العقل وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر) (2). 196 - ومن طريق أبي حسان الأعرج "بعد أن ذكر الحديث زاد (المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد بعهده) وزاد أحمد: (إن إبراهيم حرم مكة؛ وإني أحرم ما بين حرتيها وحماها كله، لا يختلي خلاها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها, ولا يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره، ولا يحمل فيها السلاح لقتال) (3). 197 - ومن طريق أبي الطفيل (لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من سرق منار الأرض، ولعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى محدثا) (4). __________ (1) أخرجه البخاري في فضائل المدينة باب حرم المدينة رقم: 1870، 3172, 3176، 6755، 7300, ومسلم في الحج باب ضل المدينة: 1370، أبو داود: المناسك باب في تحريم المدينة: 2034، والترمذي في الولاء باب ما جاء فيمن تولى غير مواليه: 2128 وأحمد في المسند: 1/ 81، 126. (2) أخرجه البخاري في العلم باب كتابة العلم: 111، الجهاد , باب فكاك الأسير: 3047، الديات باب لا يقتل المسلم بالكافرة: 6915، 6755 الترمذي الديات باب ما جاء لا يقتل مسلم بكافر: 1412، وابن ماجه: في الديات: 2658، النسائي في القسامة باب سقوط القود من المسلم للكافر: 8/ 24، والحميدي رقم: 40، وأحمد: 1/ 79، والطحاوي شرح معاني الآثار: 3/ 192. (3) أخرجه أحمد في المسند: 1/ 119، والثاثي القسامة باب القود بين المماليك والأحرار: 8/ 20 بدون قوله: إن إبراهيم). (4) أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي باب تحريم الذبح لغير الله ولعن فاعله حديث رقم: 1978.

(1/144)


198 - ومن طريق لإبراهيم التيمي قال: (فيها الجراحات وأسنان الإبل) (1). يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: والجمع بين هذه الأخبار أن الصحيفة المذكورة كانت مشتملة على مجموع ما ذكره، فنقل كل راو بعضها، وأتمها سياقًا طريق أبي حسان كما ترى والله أعلم (2). ومن الواضح أن هذه المقتطفات معظمها يطابق -نصًّا- ما ورد في الوثيقة: كما أنها تغطي معظم بنود الوثيقة المتعلقة بالتزامات المسلمين من المهاجرين والأنصار بعضهم تجاه بعض، ولكن ليس فيها إشارة إلى البنود المتعلقة بموادعة اليهود، مما يرجح أن الوثيقة في الأصل وثيقتان، وأن الصحيفة التي كانت معلقة بسيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم صارت عند علي رضي الله عنه هي نفس الكتاب بين المهاجرين والأنصار (3). وهكذا يتبين أن الرسول - عليه السلام - قد حالف بين الأنصار والمهاجرين في وثيقة خاصة بهم، ووادع اليهود في وثيقة أخرى، الأولى بعد بدر حدد فيها التزاماتهم بعضهم تجاه بعض، والثانية قبل بدر أول قدوم النبي المدينة، لكن المؤرخين جمعوا بين الوثيقتين" (4). وسأنقل نص الوثيقة كاملة وقد سبق التكلم عن صحتها وقوتها: جـ - نص الوثيقة: 1 - هذا كتاب من محمَّد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تابعهم فلحق بهم وجاهد معهم. 2 - إنهم أمة واحدة من دون الناس. 3 - المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. __________ (1) أخرجه البخاري في كتاب الجزية والموادعة باب ذمة المسلمين وجوارهم واحدة رقم: 3172. (2) فتح الباري: 4/ 85. (3) المجتمع المدني: 4/ 85. (4) المصدر السابق: ص 117 ببعض التصرف.

(1/145)


4 - وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 5 - وبنو الحارث "بن الخزرج" على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف. 6 - وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 7 - وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 8 - وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 9 - وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 10 - بنو النّبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 11 - وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 12 - وإن المؤمنين لا يتركون مفرحًا (1) بينهم أن يعطوه بالمعروف من فداء أو عقل. (12 ب) وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه. 13 - وأن المؤمنين المتقين (أيديهم) على كل من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم (2)، أو إثما، أو عدوانا أو فسادًا بين المؤمنين، وإن أيديهم عليهم جميعًا، ولو كان ولد أحدهم. 14 - ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافرًا على مؤمن. 15 - وإن ذمة الله واحدة يجير أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس. 16 - وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصرة والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر __________ (1) المفرح: المثقل بالدين وكثير العيال. (2) دسيعة ظلم: الدسيعة هي العطية وهي ما يخرج من حلق البعير إذا رغا ومعناه ما: ما ينال فهم من ظلم.

(1/146)


عليهم. 17 - وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم. 18 - وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضًا. 19 - وإن المؤمنين يبيء (1) بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله. 20 - وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدي وأقومه. 20 ب - وأنه لا يجير مشرك مالًا لقريش ولا نفسًا ولا يحول دونه على مؤمن. 21 - لأنه من اعتبط (2) مؤمنًا قتلًا عن بينة فإنه قود به، إلا أن يرضى ولي المقتول (بالعقل)، وأن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه. 22 - وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثًا أو يؤويه، وأن من نصره فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. 23 - وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمَّد. 24 - وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. 25 - وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمن دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأثم لا يوتغ (3) إلا نفسه وأهل بيته. 26 - وإن يهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف. 27 - وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف. 28 - وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف. 29 - وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف. 30 - وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. 31 - وإن ليهود بني ثعلبة ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته. 32 - وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم. __________ (1) يبيء: يمنع ويكف. (2) اعتبط: قتل مؤمنًا من غير شيء يوجب قتله. (3) يرتغ: يهلك.

(1/147)


33 - وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف وأن البر دون الإثم. 34 - وإن موالي ثعلبة كأنفسهم. 35 - وإن بطانة يهود كأنفسهم. 36 - وإنّه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمَّد. 36 ب - وإنه لا ينحجز على ثار جرح؛ لأنه من فتك فبنفسه وأهل بيته إلا من ظلم وأن الله على أبر هذا. 37 - وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والبر دون الإثم. 37 ب - وإنه لا يأثم أمر بحليفه وإن النصر للمظلوم. 38 - وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. 39 - وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة. 40 - وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم. 41 - وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها. 42 - وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره. 43 - وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها. 44 - وإن بينهم النصر على من دهم يثرب. 45 - وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين. 45 ب - على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم. 46 - وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره. 47 - وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم, وإن الله جار عن بر وتقي، ومحمد

(1/148)


رسول الله (1). ولقد حلل الأستاذ أكرم ضياء العمري حفظه الله هذه الوثيقة تحليلًا طيبًا، وكتب حولها بحثًا قيمًا في كتابه المجتمع المدني نقلت جزءًا كبيرًا منه لنفاسته وجودته، والله الموفق.

 المبحث الحادي عشر: عبد الله بن الزبير "أول مولود بعد الهجرة"

199 - من حديث أسماء رضي الله عنها أنها حملت بعبد الله بن الزبير، قالت: فخرجت وأنا متم، فأتيت المدينة، فنزلت بقباء فولدته بقباء، ثم أتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضعته في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم حنكه بتمرة، ثم دعا له وبرك عليه، وكان أول مولود ولد في الإِسلام" (2). دخوله صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها 200 - من حديث عائشة رضي الله عنها: "تزوجني النبي وأنا بنت ست سنين، فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج، فوعكت فتمزق شعري، فوفي جميمة، فأتتني أمي أم رومان -وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي، فصرخت بي فأتيتها, لا أدري ما تريد بي، فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار، وإني لأنهج حتى سكن بعض نفسي، ثم أخذت شيئًا من ماء فمسحت به وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار، فإذا نسوة من الأنصار في البيت، فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر، فأسلمتني إليهن، فأصلحن من شأني، فلم يرعني إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحى، فأسلمتني إليه، وأنا يومئذ بنت تسع سنين" (3). 201 - وقد دخل النبي في شوال كما جاء ذلك عنها (4). __________ (1) المجتمع المدني: ص 119 - 122. (2) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب هجرة النبي وأصحابه رقم: 3909، ومسلم في الأدب باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته حديث: 2146 وقد جاء أيضًا من حديث عائشة عند البخاري رقم: 3910 ومسلم: 2148. (3) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب تزويج النبي عائشة رقم: 3894 وجاء بأرقام: 3896، 5133، 5134، 5156، 5158، 5160، ومسلم في النكاح باب تزويج الأب البكر الصغيرة: 1422. (4) أخرجه مسلم في النكاح باب استحباب التزويج في شوال: 1423، الترمذي النكاح باب ما جاء في =

(1/149)


 المبحث الثاني عشر: قصة الأذان ومشروعيته

202 - من حديث عبد الله بن زيد قال: "لما أمر رسول الله وسلم بالناقوس ليضرب به للناس لجمع الصلاة، طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسًا: فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ فقلت: بلى فقال: تقول الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. قال: ثم استأخر عني غير بعيد ثم قال: وتقول إذا قمت إلى الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، فلما أصبحت أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بما رأيت، فقال: (إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال، فألق عليه ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى صوتًا منك). وزاد أحمد في رواية "فقمت مع بلال، فجعلت ألقيه عليه، ويؤذن به، قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته، فخرج يجر رداءه ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فلله الحمد) (1). __________ = الأوقات التي يستحب فيها النكاح رقم: 1093، وابن ماجه النكاح باب متى يستحب البناء بالنساء: 1990. (1) أخرجه أبو داود في الصلاة باب كيف الأذان: 499 الدارمي: 1/ 269، الصلاة باب في بدء الأذان، ابن ماجه الأذان باب بدء الأذان رقم: 706، البيهقي 1/ 391، أحمد في المسند: 4/ 43، الترمذي في الصلاة باب ما جاء في بدء الأذان رقم: 189 وقال حسن صحيح، والبخاري في خلق أفعال العباد ص: 34 - 35، وابن الجارود: 158، والدارقطني: 1/ 341، والسيرة النبوية لابن هشام: 2/ 177، 178، وابن خزيمة: 371، وعبد الرزاق: 1787. وقد صححه جماعة من الأئمة كالبخاري والذهبي والنووي وغيرهم- انظر نصب الراية: 1/ 259 - 260.

(1/150)


 المبحث الثالث عشر: عبد الله بن أبي وإيذاؤه للنبي صلى الله عليه وسلم

203 - من حديث أسامة بن زيد قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركب حمارًا، عليه إكاف تحته قطيفة فدكيه، وأردف وراءه أسامة، وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج. وذاك قبل وقعة بدر، حتى مر بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان، واليهود، فيهم عبد الله بن أبي، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمَّر عبد الله بن أبي أنفه بردائه ثم قال: لا تغبروا علينا. فسلم عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم وقف فنزل، فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن. فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء! لا أحسن من هذا، إن كان ما تقول حقًّا، فلا تؤذنا في مجالسنا، وارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه. فقال عبد الله بن رواحة: اغشنا في مجالسنا، فإنا نحب ذلك، قال: فاستب المسلمون والمشركون واليهود، حتى هموا أن يتواثبوا. فلم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم، ثم ركب دابته حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال: (أي سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب؟) -ويريد عبد الله بن أبي- (قال كذا وكذا) قال: اعف عنه يا رسول الله واصفح. فوالله! لقد أعطاك الله الذي أعطاك ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يتوجوه، فيعصبوه بالعصابة، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه، شرق بذلك، فذلك فعل به ما رأيت، فعفا عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -" (1). __________ (1) أخرجه البخاري في التفسير باب ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب ... رقم: 4566، ومسلم في الجهاد والسير باب في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وصبره على أذى المنافقين رقم: 1798. * أكاف: هو للحمار بمنزلة السرج للفرس، قطيفة: دثار مخمل. * عجاجة الدابة: ما ارتفع من غبار حوافرها. خمَّر أنفه: غطاه. يخفضهم: يسكنهم ويسهل الأمر بينهم شرق بذلك: غص ومعناه حسد النبي.

(1/151)


 المحبث الرابع عشر: الإذن بالقتال

204 - قال الزهري أول آية نزلت في القتال كما أخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنها {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} (1). 205 - ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن، فأنزل الله -عزَّ وجلَّ - {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} (2) وهي أول آية نزلت في القتال" (3).

 المبحث الخامس عشر: غزوة الأبواء

قال البخاري رحمه الله: "قال ابن إسحاق أول ما غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأبواء ثم بواط ثم العشيرة" (4). الأبواء: قرية من أعمال الفرع من المدينة بينها وبين الجحفة ثلاثة وعشرون ميلًا (5). أو ودان: قرية جامعة من أمهات القرى من عمل الفرع (6). والأبواء وودان: مكانان متقاربان ليس بينهما إلا ستة أميال أو ثمانية أميال. وكان خروجه - عليه السلام - إلى الأبواء في صفر على رأس اثني عشر شهرًا من مهاجره (7). وقبل هذ الغزوة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أرسل بعض السرايا وهي: __________ (1) فتح الباري: 7/ 280، وقال أخرجه النسائي وإسناده صحح، انظر السنن الكبرى، للنسائي التفسير باب قوله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} رقم: 11346. (2) سورة الحج: 39. (3) أخرجه الترمذي في التفسير باب سورة الحج رقم: 3170، والنسائي الجهاد باب وجوب الجهاد: 6/ 2، وفي الكبرى رقم: 11345، أحمد في المسند: 1/ 216، الحاكم في المستدرك: 2/ 66، وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. (4) أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب غزوة العشيرة أو العسيرة. 3949 من ضمن الترجمة للباب. (5) دلائل النبوة للبيهقي: 3/ 9. (6) السيرة النبوية ابن هشام: 1/ 591. (7) السيرة ابن هشام: 1/ 591.

(1/152)


1 - سرية حمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر من جهينه، فلقوا أبا جهل بن هشام فحجز بينهم مخشي بن عمرو الجهني وكان حليفًا للفريقين (1). 2 - سرية عبيدة بن الحارث حتى بلغ ثنية المرة، فوجد هناك جمعًا للمشركين، ولم يكن بينهم قتال إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمى يومئذ بسهم، فكان أول سهم رمي في الإسلام، وفي هذه السرية فر من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو، وعتبة بن غزوان وكانا قد حبسا من قبل المشركين (2). واختلف أهل السير: أي البعثين كان أول: أبعث حمزة، أو بعث عبيدة. فقال ابن إسحاق أول راية عقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأول سرية بعثها عبيدة بن الحارث (3)، قال ابن إسحاق: وبعض الناس يزعمون أن راية حمزة أول راية عقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4). وقال المدائني " أول سرية بعثها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حمزة بن عبد المطلب في ربيع الأول من سنة اثنتين إلى سيف البحر من أرض جهينة" (5). ويقول ابن إسحاق: "ويقول بعض الناس: كانت راية حمزة أول راية عقدها - صلى الله عليه وسلم - لأحد من المسلمين، وذلك أن بعثه وبعث عبيدة كانا معًا، فشبه ذلك على الناس" (6). __________ (1) ابن هشام: 1/ 595، ابن سعد: 2/ 6، الطبري: 2/ 259، 260، ابن كثير: 2/ 338 ابن سيد الناس: 1/ 224. (2) ابن هشام: 1/ 591 ابن سعد: 2/ 7 ابن كثير: 2/ 338، 339، ابن جرير: 2/ 261. (3) أخرجه ابن هشام: 1/ 591. (4) ابن هشام: 1/ 595. (5) دلائل النبوة للبيهقي: 3/ 10 نقلا عن المدائني، ابن هشام: 2/ 228 - 230، بينما هي في المغازي في رمضان من السنة الأولى للهجرة: مغازي الواقدي: 1/ 2 البيهقي الدلائل: 3/ 15. (6) أخرجه ابن هشام: 1/ 595 - 596.

(1/153)


 المبحث السادس عشر: غزوة بواط

207 - من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "سرنا مع رسول - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بطن بواط، وهو يطلب المجدي بن عمرو الجهني، وكان الناضح يعقبه منا الخمسة والستة والسبعة، فدار عقبة رجل من الأنصار على ناضح له، فأناخه فركبه ثم بعثه فتلدن عليه بعض التلدن، فقال له: شأ لعنك الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من هذا اللاعن بعيره) فقال: أنا يا رسول الله. قال: (أنزل عنه، فلا تصحبنا بملعون، لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء، فيستجيب لكم) (1). وهي على رأس ثلاثة عشر شهرًا من مهاجره.

 المبحث السابع عشر: غزوة العشيرة

208 - عن أبي إسحاق قال: "كنت إلى جنب زيد بن أرقم، فقيل له: كم غزا النبي - صلى الله عليه وسلم - من غزوة؟ قال: تسع عشرة، قال: كم غزوت أنت معه؟ قال سبع عشرة. قلت فأيهم كان أول؟ قال: العشير أو العشيرة، فذكرت ذلك لقتادة فقال العشيرة" (2). وعند الإمام أحمد لفظ آخر" عن أبي إسحاق قال: سألت زيد بن أرقم رضي الله عنه كم غزا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: تسع عشرة غزوة وغزوت معه سبع عشرة وسبقني بغزوتين" (3). قال الحافظ في الفتح: 7/ 280 - 281: كذا قال، ومراده الغزوات التي خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بنسفه سواء قاتل أو لم يقاتل، لكن روى أبو يعلى من طريق أبي __________ (1) أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق باب حديث جابر الطويل رقم: 3009. * بطن بواط: قال القاضي رحمه الله قال أهل اللغة وهو بالضم وهي رواية أكثر المحدثين، وهو جبل من جبال جهينة، الناضح: البعير الذي يستقى عليه. يعقبه: يركبه. التلدن: التوقف التلكأ. شأ: كلمة زجر للبعير. (2) أخرجه البخاري في كتاب المغازي: باب غزوة العشيرة أو العسيرة: رقم: 3949، ومسلم: 1254 في الجهاد والسيرة باب غزاوات النبي - صلى الله عليه وسلم -. (3) الفتح الرباني: 21/ 22 وقال الساعاتي أخرجه الشيخان وغيرهما.

(1/154)


الزبير عن جابر أن عدد الغزوات إحدى وعشرون، وأصله في مسلم: 1813، فعلى هذا ففات زيد بن أرقم ذكر ثنتين منها ولعلهما الأبواء وبواط، وكأن ذلك خقي عليه لصغره، ويؤيد ما قلته ما وقع عند مسلم بلفظ "قلت ما أول غزوة غزاها؟ قال: ذات العشير أو العشيرة" والعشيرة كما تقدم هي الثالثة. وأما قول ابن التين: يحمل قول زيد بن أرقم على أن العشيرة أول ما غزا هو أي زيد بن أرقم، والتقدير: فقلت: ما أول غزوة غزاها أي وأنت معه؟ قال: العشير فهو محتمل أيضًا، ويكون قد خفي عليه ثنتان مما بعد ذلك، أو عد الغزوتين واحدة، فقد قال موسى بن عقبة: قاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه في ثمان: بدر، ثم أحد ثم الأحزاب، ثم المصطلق، ثم خيبر، ثم مكة، ثم حنين، ثم الطائف وأهمل غزوة قريظة لأنه ضمها إلى الأحزاب، فكونها كانت في إثرها وأفردها غيره لوقوعها منفردة بعد هزيمة الأحزاب، وكذا وقع لغيره عن الطائف وحنين واحدة لتقاربهما، فيجتمع على هذا أقوال زيد بن أرقم وقول جابر.

 المبحث الثامن عشر: سرية عبد الله بن جحش

209 - عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه: "عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه بعث رهطًا وبعث عليهم أبا عبيدة فلما ذهب لينطلق بكى صبابة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجلس، فبعث عليهم عبد الله بن جحش مكانه، وكتب له كتابًا وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا، وقال: (لا تكرهن أحدًا من أصحابك على المسير معك). فلما، قرأ الكتاب، استرجع وقال: سمعًا وطاعة لله ولرسوله، فخبرهم الخبر، وقرأ عليهم الكتاب، فرجع رجلان، ومضى بقيتهم فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو جمادى، فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله -عزَّ وجلَّ - {يسألونك عن الشهر الحرام} الآية، فقال بعضهم: إن لم يكونوا أصابوا وزرًا فليس لهم أجر فأنزل الله -عزَّ وجلَّ- {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم} (1). __________ (1) أخرجه البيهقي: 9/ 11 - 12 والطبري في التفسير: 2/ 349 - 350، وأبو يعلى: 1534 والطبراني في الكبير: 1670، وقال البيهقي: سنده صحيح إن كان الحضرمي هو ابن لاحق. وذكره الهيثمي في مجمع الزواند: 6/ 198، وقال رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. =

(1/155)


 المبحث التاسع عشر: حادثة تحويل القبلة

210 - من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده -أو قال أخواله- من الأنصار، وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن صلى معه، فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل مكة، فداروا -كما هم- قبل البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس، وأهل الكتاب، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك". قال زهير، حدثنا إسحاق عن البراء في حديثه هذا: أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا، فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله تعالى {وما كان الله ليضيع إيمانكم} (1). 211 - ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فأنزل الله {وما كان الله ليضيع إيمانكم} الآية" (2). 212 - ومن حديث أنس قال: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي نحو بيت المقدس، فنزلت: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول __________ = وقد جاء من حديث سعد بن أبي وقاص أخرجه ابن أبي شيبة: 14/ 351 وأحمد في المسند كما في الفتح الرباني: 21/ 25 - 26، وقال أبو زرعة: فيه زياد بن علاقة لم يسمع من سعد بن أبي وقاص شيئًا كما في المراسيل: 57 فيكون سند أحمد منقطعًا، وأخرجه البيهقي في الدلائل: 3/ 17 - 21 مرة من طريق ابن إسحاق مرسلًا عن عروة وقد صرح بالسماع، ومرة عن الزهري مرسلًا عن عروة أيضًا وأخرجه في السنن: 9/ 55 - 59 وابن سعد في الطبقات: 2/ 10 - 11. (1) أخرجه البخاري في الإيمان باب الصلاة من الإيمان حديث رقم: 40، وجاء بأرقام: 399، 4486، 4492، 7252، الترمذي حديث: 2962 وقال حسن صحيح، ابن ماجه: 1010، أحمد: 4/ 274 أبو داود والطيالسي: 1/ 85، مسلم في الصحيح كتاب المساجد باب تحويل القبلة رقم: 525. (2) أخرجه الترمذي في كتاب التفسير باب ومن سورة البقرة حديث: 2964، وقال حسن صحيح، الطيالسي: 1944، والحاكم: 2/ 269، وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

(1/156)


وجهك شطر المسجد الحرام} (1) فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر وقد صلوا ركعة: فنادى ألا إن القبلة قد حولت. فمالوا كما هم نحو القبلة" (2). 213 - ومن حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: "بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه الليلة، وقد أمر أن يستقبل القبلة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة" (3). __________ (1) سورة البقرة: 144. (2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة رقم: 527. (3) أخرجه مسلم في كتاب المساجد باب تحويل القبلة رقم: 526، قلت: والظاهر أن القول والتحويل قد تكرر من عده رجال كما جاء من مجموع هذه الأحاديث.

(1/157)


 الفصل الثاني غزوة بدر الكبرى

 المبحث الأول: تاريخ الغزوة وأسبابها

214 - حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: "التمسوها (يعني ليلة القدر) في سبع عشرة، وتلا هذه الآية (يوم التقى الجمعان) يوم بدر، قال: أو تسع عشرة، أو إحدى وعشرين" (1). 215 - ومن حديث ابن مسعود أيضًا: قال في ليلة القدر (تحروها لإحدى عشرة يبقين صبيحتها يوم بدر). قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله: "أما غزوة بدر فمتفق عليه بين أهل السير: ابن إسحاق وموسى بن عقبة وأبو الأسود وغيرهم، واتفقوا على أنها كانت في رمضان، قال ابن عساكر: والمحفوظ أنها كانت في يوم الجمعة، وروي أنها كانت في يوم الاثنين وهو شاذ، ثم الجمهور على أنها كانت سابع عشرة، وقيل ثاني عشرة، وجمع بينهما بأن الثاني ابتداء الخروج والسابع عشر يوم الوقعة" (2). قلت: وخلاصة الأمر كما جاء في قول ابن حجر أن الخروج كان في الثاني عشر، والسابع عشر يوم الوقفة، والتاسع عشر كما في قول ابن مسعود الثاني هو انتهاء الغزوة وخاصة أن الرسول - عليه السلام - كان يقيم في عرصة أي قوم يغزوهم ثلاثًا، وكذا فعل في بدر كما سيأتي بيانه". __________ (1) أخرجه أبو داود في الصلاة باب من روى أنها ليلة سبع عشرة: 1384 والبيهقي: 4/ 310 وابن أبي شيبة: 3/ 75 - 76، والطبراني في الكبير: 9074: 9579، وعبد الرزاق في المصنف: 7697 والطحاوي: 2/ 54، وابن نصر المروزي في مختصر قيام رمضان ص: 108، والحاكم في المستدرك 3/ 20 - 21 وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وهو كما قالا، وأخرجه الطبري في التاريخ: 2/ 266 بإسناده صحيح، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 6/ 376، إلى سعيد بن منصور وابن مردويه. (2) التلخيص الحبير: 4/ 89 رقم الحديث: 1826.

(1/158)


 المبحث الثاني: مرحلة ما قبل المعركة

1 - إرسال العيون للتجسس على قوافل قريش 216 - من حديث أنس: قال: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبسة عينًا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان، فجاء وما في البيت أحد غيري وغير رسول الله (قال: لا أدري ما استثنى بعض نسائه) قال: فحدثه الحديث قال: فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتكلم فقال: (إن لنا طلبة فمن كان ظهره حاضرًا فليركب معنا) فجعل رجال يستأذنونه في ظهرانهم في علو المدينة فقال: (لا إلا من كان ظهره حاضرًا) (1). 2 - المشاورة الأولى من الرسول لأصحابه في المدينة 217 - من حديث أنس رضي الله عنه قال: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة، فقال: إيانا تريد يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا، قال: فندب رسول الله الناس فانطلقوا ..) الحديث (2). 3 - دعوة الرسول - عليه السلام - الناس للخروج 218 - من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: "لما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي سفيان مقبلًا من الشام: ندب المسلمين إليهم وقال: (هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها، فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلقى حربًا. وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار، ويسأل من لقي من الركبان خوفًا على أمر الناس، حتى أصاب خبرًا من بعض الركبان: أن محمدًا استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك. فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري __________ (1) أخرجه مسلم في صحيحه الإمارة باب ثبوت الجنة للشهيد رقم: 1901 أحمد في المسند: 3/ 136. * يعني الخيل أي لو أمرتنا بإدخال خيولنا في البحر وغشيتنا إياها فيه لفعلنا. (2) أخرجه مسلم في الجهاد والسير باب غزوة بدر رقم: 1779 وأحمد في المسند: 3/ 188، 3/ 100، 4/ 228، 6/ 29.

(1/159)


فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشًا فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدًا قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعًا إلى مكة (1). 4 - قلة المراكب من الجمال والخيول 219 - من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، كان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وقال: وكانت عقبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فقالا: نحن نمشي عنك. فقال: (ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما) (2). 220 - ومن حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: "قال: لقد أتينا ليلة بدر وما فينا إلا نائم إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان يصلي إلى شجرة ويدعو، وما كان فينا فارس إلا المقداد" (3). 5 - عدد المسلمين في غزوة بدر 221 - من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: "كنا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا مؤمن بضعة عشر وثلاثمائة" (4). 222 - ومن حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "كان عدة أهل بدر عدة أصحاب طالوت يوم جالوت ثلثمائة وسبعة عشر" (5). 223 - ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "خرج __________ (1) أخرجه ابن هشام من طريق ابن إسحاق: 2/ 606 - 607، بسند صحيح فقد صرح ابن إسحاق بالتحديث. (2) أخرجه أحمد في المسند: 1/ 411، طبعة لبنان رقم: 3901، طبعة أحمد شاكر، ابن حبان: 1688، والحاكم: 3/ 20، وقال حديث صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 69، رواه أحمد والبزار وفيه عاصم بن بهدلة وحديث حسن وبقية رجال أحمد رجال الصحيح، وحسنه الشيخ أحمد شاكر. (3) الفتح الرباني: 21/ 36 والطيالسي: 2342 وأبو يعلى والحديث سنده صحيح. (4) أخرجه البخاري في المغازي باب عدة أصحاب بدر رقم: 3958، الترمذي في السير باب ما جاء في عدة أصحاب بدر رقم: 1598 وقال حديث حسن صحيح. (5) كشف الأستار عن زوائد البزار رقم: 1784 وقال الهيثمي: 6/ 93 رواه البزار ورجاله ثقات.

(1/160)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر في ثلاثمائة وخمسة عشر رجلًا من أصحابه .. فذكر الحديث" (1). وهذه الرواية لا تنافي التي قبلها لاحتمال أن تكون هذه الرواية لم يعد فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا الرجل الذي لحق بهم. 6 - عدم السماح لمن لم يبلغ بالخروج 224 - من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: "استصغرت أنا وابن عمر يوم بدر، وكان المهاجرون يوم بدر نيفًا على ستين، والأنصار نيفًا وأربعين ومائتين" (2). 225 - ومن حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى عمير بن أبي وقاص، فاستصغره حين خرج إلى بدر، ثم أجازه قال سعد: فيقال: أنه خانه سيفه قال عبد الله بن جعفر قتل يوم بدر" (3). 7 - رفضه الاستعانة بالمشركين 226 - من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل بدر، فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رأوه، فلما أدركه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جئت لأتبعك وأصيب معك، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تؤمن بالله ورسوله؟). قال: لا: قال: (فارجع فلن أستعين بمشرك). قالت: ثم مضى، حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل. فقال له كما قال أول مرة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال أول مرة: قال: (فارجع فلن أستعين بمشرك) قال: ثم رجع فأدركه بالبيداء. فقال له كما قال أول مرة: (تؤمن بالله ورسوله) __________ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد باب في نفل السرية تخرج من العسكر رقم: 2747، والحاكم: 2/ 145 وقال صحيح على شرط مسلم، والبيهقي: 9/ 57، وحسنه الحافظ في الفتح: 7/ 292 والحديث حسن والله أعلم. (2) أخرجه البخاري في المغازي باب عدة أصحاب بدر رقم: 3956. (3) كشف الأستار عن زوائد البزار: 1770 قال الهيثمي في المجمع: 6/ 69، رواه البزار ورجاله ثقات.

(1/161)


قال: نعم. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فانطلق) (1). 8 - رؤيا عاتكة وإنذار ضمضم لقريش سبق وأن ذكرت في حديث ابن عباس رقم: 218، أن أبا سفيان كان يتحسس الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وأنه كان يخاف أن يقوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بقطع الطريق على قافلته، وسلب ما معه من أموال قريش. فلما سمع من بعض الركبان بخروج رسول الله وأصحابه لاعتراض القافلة، استأجر رجلًا من بني غفار واسمه ضمضم بن عمرو الغفاري لينذر قريشًا من أجل أن تخرج لحماية قافلتها، وقبل أن يصل النذير مكة رأت عاتكة بنت عبد المطلب رؤيا أولت بأن مصابًا سيحل في مكة، سيؤدي إلى قتل عدد من زعماء قريش، مما أثار حفيظة بعض زعماء الشرك، ولنترك المجال لراوي الحدث ليخبرنا بالتفصيلات: 227 - قال ابن إسحاق وحدثني يزيد بن رومان (2) عن عروة بن الزبير قال: "وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب رضي الله عنها قبل قدوم ضمضم (الغفاري) مكة بثلاث ليال، رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب، فقالت له: يا أخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني، وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة، فاكتم عني ما أحدثك به، فقال لها: وما رأيت؟ قالت: رأيت راكبًا أقبل على بعير له، حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا انفروا يالغُدُر لمصارعكم في ثلاث، فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بمثلها، ألا انفروا يا لغدر لمصارعكم في ثلاث، ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس، فصرخ بمثلها. ثم أخذ صخرة فأرسلها، فأقبلت تهوي، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت، فما بقي بيت من بيوت مكة، ولا دار إلا __________ (1) أخرجه مسلم في الجهاد والسير باب كراهة الاستعانة في الغزو بالكافر رقم: 1817، أبو داود في الجهاد والسير باب في المشرك يسهم له:2732، والترمذي في السير ما جاء في أهل الذمة يغزون مع المسلمين هل يسهم لهم: 1558، وقال حسن غريب، والدارمي: 2/ 233 وأحمد: 6/ 67، 49. يحتمل أن عائشة كانت مع المودعين فرأت ذلك، ويحتمل أنها أرادت بقولها: كنا، كان المسلمون، كذا قال النووي في شرح مسلم: 12/ 198 - 199. (2) يزيد بن رومان ثقة من الخامسة، تقريب: 2/ 364.

(1/162)


دخلتها منها فلقه، قال العباس: والله إن هذه لرؤيا! وأنت فاكتميها، ولا تذكريها لأحد. ثم خرج العباس، فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة، وكان له صديقًا، فذكرها له، واستكتمه إياها، فذكرها الوليد لأبيه عتبة، ففشا الحديث بمكة، حتى تحدثت به قريش في أنديتها. قال العباس: فغدوت لأطوف بالبيت، وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل، إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا. فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم، فقال لي أبو جهل: يا بني عبد المطلب، متى حدثت فيكم هذه النبّية؟ قال: قلت: وما ذاك؟ قال: تلك الرؤيا التي رأت عاتكة، قال: فقلت: وما رأت؟ قال: يا بني عبد المطلب، أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساءكم! قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث، فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يك حقًّا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء، نكتب عليكم كتابًا أنكم أكذب أهل بيت في العرب. قال العباس: فوالله ما كان مني إليه كبير، إلا أني جحدت ذلك، وأنكرت أن تكون رأت شيئًا قال: ثم تفرقنا. فلما أمسيت، لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني، فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع، ثم لم يكن عندك غيرٌ لشيء مما سمعت!، قال: قلت: قد والله فعلت، ما كان مني إليه من كبير، وأيم الله لأتعرضن له، فإن عاد لأكفيَّنكُنَّه. قال: فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة، وأنا حديد مغضب أرى أني قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه. قال: فدخلت المسجد فرأيته، فوالله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به، وكان رجلًا خفيفًا، حديد الوجه، حديد اللسان، حديد النظر. قال: إذ خرج نحو باب المسجد يشتد. قال: فقلت في نفسي ما له لعنه الله! أكل هذا فرقٌ مني أن أشاتمه! قال: وإذا هو قد سمع ما لم أسمع: صوت ضمضم بن عمرو الغفاري، وهو يصرخ ببطن الوادي واقفًا على بعيره، قد جدع بعيره، وحول رحله، وشق

(1/163)


قميصه وهو يقول: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث: قال: فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر" (1). 9 - إجارة الشيطان قريشًا 228 - قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، قال: "لما أجمعت قريش المسير ذكرت ما كان بينها وبين بني بكر، فكاد ذلك يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وكان من أشراف بني كنانة، فقال لهم: أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه، فخرجوا سراعًا" (2). 10 - تخوف بعض أئمة الكفر من الخروج أمية بن خلف وقصته مع سعد بن معاذ. 229 - من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حدث عن سعد بن معاذ أنه قال: "كان صديقًا لأمية بن خلف، وكان أمية إذا مر بالمدينة نزل على سعد، وكان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة انطلق سعد معتمرًا، فنزل على أمية بمكة، فقال لأمية: انظرني ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت، فخرج به قريبًا من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان من هذا معك؟ فقال: هذا سعد. فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمنًا وقد آويتم الصباة، وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينوهم. أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما __________ (1) أخرجه ابن هشام في السيرة: 1/ 607، وسنده صحيح إلا أنه مرسل، وقد جاءت حادثة عاتكة من طرق متعددة -من حديث ابن عباس عد الحاكم: 3/ 19 إلا أن سنده ضعيف، ورواه الطبراني بإسنادين أحدهما مرسل، والآخر مرفوع من حديث مصعب بن عبد الله وفيهما ابن لهيعة وحديثه حسن كما قال الهيثمي في المجمع: 6/ 732، وله سند آخر عند ابن إسحاق عن ابن عباس ولكنه ضعيف"، وأورده ابن منده بسنده عن عاتكة بنت عبد المطلب وسنده ضعيف كما قال ابن حجر في الإصابة: 4/ 347 وبهذه الطرق يقوى الحديث فيرتفع الحديث إلى درجة الحسن لغيره والله أعلم. * أفظعتني: اشتدت علي. * يا لغدر: يا أهل غدر، يا آل غدر، مثل به: قام به، أرفضت: تفتتت، جدع بعيره: قطع أنفه، اللطيمة: الإبل التي تحمل البر والطيب. (2) ابن هشام في السيرة: 1/ 612، وسنده صحيح لكنه مرسل، ابن كثير من طريقه: 2/ 432.

(1/164)


رجعت إلى أهلك سالمًا، فقال له سعد -ورفع صوته عليه-: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه: طريقك على المدينة، فقال له أمية: لا ترفع صوتك يا سعد على أبي الحكم سيد أهل الوادي. فقال سعد: دعنا عنك يا أمية، فوالله لقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنهم قاتلوك). قال: بمكة؟ قال: لا أدري، ففزع لذلك أمية فزعًا شديدًا. فلما رجع أمية إلى أهله قال: يا أم صفوان، ألم تري ما قال لي سعد؟ قالت: وما قال لك؟ قال: زعم أن محمدًا أخبرهم أنهم قاتلي. فقلت له: بمكة؟ قال: لا أدري. فقال أمية: والله لا أخرج من مكة. فلما كان يوم بدر استنفر أبو جهل الناس قال: أدركوا عيركم، فكره أمية أن يخرج، فأتاه أبو جهل فقال: يا أبا صفوان إنك متى ما يراك الناس قد تخلفت، وأنت سيد أهل الوادي تخلفوا معك، فلم يزل به أبو جهل حتى قال: أما إذا غلبتني فوالله لأشترين أجود بعير بمكة. ثم قال أمية: يا أم صفوان جهزيني. فقالت له: يا أبا صفوان وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: لا ما أريد أن أجوز معهم إلا قريبًا. فلما خرج أمية أخذ لا يترك منزلًا إلا عقل بعيره. فلم يزل بذلك حتى قتله الله -عزَّ وجلَّ- ببدر" (1). 11 - عدد المشركين في بدر 230 - من حديث أنس رضي الله عنه، وهو تتمة لما جاء في حديث المشورة رقم: 217: قال: "فندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس، فانطلقوا حتى نزلوا بدرًا، ووردت عليهم روايا قريش، وفيهم غلام أسود لبني الحجاج، فأخذوه، فكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه عن أبي سفيان وأصحابه: فيقول: ما لي علم بأبي سفيان، ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف، فهذا قال ذلك ضربوه، فقال: نعم: أنا أخبركم هذا أبو سفيان، فهذا تركوه فسألوه فقال: ما لي بأبي سفيان علم، ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف في أناس، فإذا قال هذا أيضًا ضربوه، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي، فلما رأى ذلك انصرف وقال: والذي نفسي بيده لتضربوه إذا صدقكم، وتتركوه إذا كذبكم" (2). __________ (1) أخرجه البخاري في المغازي باب ذكر النبي من يقتل ببدر رقم: 3950، وأحمد في المسند: (1/ 400) انظر الفتح الرباني: (21/ 42). (2) انظر حديث: 217، وتخريجه هناك.

(1/165)


231 - ومن حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: "لما قدمنا المدينة أصبنا من ثمارها فاجتويناها، فأصابنا بها وعك، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخبر عن بدر، فلما بلغنا أن المشركين قد أقبلوا سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر، وبدر بئر، فسبقنا المشركون إليها، فوجدنا فيها رجلين منهم رجل من قريش ومولى لعقبة بن أبي معيط، فأما القريشي فانفلت، وأما مولى عقبة فأخذناه، فجعلنا نقول له: كم القوم؟ فيقول: هم والله كثير عددهم، شديد بأسهم، فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه، حتى انتهوا به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كم القوم؟)، فقال: هم والله كثير عددهم شديد بأسهم، فجهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخبره فأبى، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله: كم ينحرون من الجزر؟ قال: عشر لكل يوم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (القوم ألف كل جزور لمائة ونيفها) (1). 12 - تحديد مصارع القوم 232 - من حديث أنس رضي الله عنه قال: "كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءينا الهلال" ... إلى أن قال: "ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول (هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله) قال: فقال عمر: فوالذي بعثه بالحق! ما أخطؤوا الحدود التي حد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (2). 13 - الاستشارة الثانية من الرسول - عليه السلام - لأصحابه وقد استشار الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه رضوان الله عليهم المرة الثانية ليبين للأمة الإسلامية أهمية مبدأ الشورى في الإسلام، ولأن الأنصار رضوان الله عليهم كانوا يشكلون الغالبية العظمى من جيشه - صلى الله عليه وسلم -، وبذلك يبنى القرار الذي يتخذ على رأيهم وأكثريتهم، ولأنهم أصحاب الأرض التي انطلقت منها القوة المؤمنة فلا بد __________ (1) أخرجه أحمد في المسند: 1/ 117، وأبو داود: 2665، في الجهاد باب في المبارزة من حديث علي وإسناده صحيح، وأخرجه الحاكم: 3/ 187 - 188، عن ابن عباس وسنده حسن وقال الهيثمي في حديث علي: 6/ 76 أحمد والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح غير حارثة بن مضرب وهو ثقة وانظر كشف، الأستار: 1761. * اجتويناها: أصابهم الجوى وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول وذلك إذا لم يوافقهم هواؤها، ما واستوخموها. (2) أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه رقم: 2873، وأحمد في المسند: 1/ 26، والنسائي في الجنائز باب أرواح المؤمنين: 4/ 108.

(1/166)


من أخذ رأيهم وسأنقل وصف مشهد المشاورة كما وصفها الصحابة رضوان الله عليهم. 233 - من طريق ابن إسحاق بسنده الصحيح إلى ابن عباس في رواية أحداث بدر يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " ... وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس، وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر الصديق، فقال وأحسن. ثم قام عمر بن الخطاب، فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امضي لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرانيل لموسى {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون} ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله خيرًا، ودعا له به. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أشيروا علي أيها الناس)، وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله: إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فهذا وصلت إلينا، فأنت في ذمتنا، نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو في بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: (أجل). قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله، فسرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقول سعد ونشطه ذلك، ثم قال: (سيروا وابشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم) (1). __________ (1) أخرجه ابن هشام في السيرة: 1/ 614 - 615، بإسناد صحيح وقد صرح ابن إسحاق بالسماع، وأخرجه الطبراني وإسناده حسن كما في المجمع: 6/ 73، والبيهقي في دلائل النبوة: 3/ 32، وقال ابن =

(1/167)


234 - حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: "شهدت من المقداد بن الأسود مشهدًا، لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به، أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -وهو يدعو على المشركين فقال: لا نقول كما قال قوم موسى {اذهب أنت وربك فقاتلا} ولكنا نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، وبين يديك وخلفك، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أشرق وجهه وسر. يعني قوله" (1). ويقول الحافظ في فتح الباري: "ويمكن الجمع بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استشارهم في غزوة بدر مرتين: الأولى: وهو بالمدينة أول ما بلغه خبر العير مع أبي سفيان، وذلك بين في رواية مسلم ولفظه "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان والثانية كانت بعد أن خرج" (2). 14 - الانشقاق في صفوف المشركين حين وصولهم بدر 235 - ومن حديث علي كرم الله وجهه في تكملة حديث رقم: 231 قال رضي الله عنه: "فلما دنا القوم منا وصاففناهم إذا رجل منهم على جمل أحمر، يسير في القوم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا علي ناد حمزة)، وكان أقربهم من المشركين من صاحب الجمل الأحمر وماذا يقول لهم، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن يكن في القوم أحد يأمر بخير فعسى أن يكون صاحب الجمل الأحمر)، قال: هو عتبة بن ربيعة، وهو ينهى عن القتال، ويقول لهم: يا قوم: إني أرى قومًا مستميتين لا تصلون إليهم، وفيكم خير، يا قوم، اعصبوها اليوم برأسي وقولوا جبن عتبة بن ربيعة، وقد علمتم أني لست بأجبنكم، فسمع ذلك أبو جهل فقال: أنت تقول هذا، والله لو غيرك يقول لأعضضته، قد ملات رئتك جوفك __________ = كثير في البداية: 3/ 262 - 263 هكذا رواه ابن إسحاق رحمه الله، وله شواهد من وجوه كثيرة من، ذلك رواية البخاري والنسائي وأحمد. (1) أخرجه البخاري في المغازي باب قوله تعالى {إذ تستغيثون ربكم} رقم: 3952، أحمد في المسند: 390 - 428، الحاكم في المستدرك: 3/ 349، وصححه ووافقه الذهبي. وقد جاء مثل هذا القول دون ذكر اسم المقداد من حديث عتبة بن عبد السلمي قال الهيثمي في المجمع: 6/ 75، رواه أحمد ورجاله ثقات، وجاء أيضًا من حديث أبي أيوب الأنصاري عند الطبراني بإسناد حسن كما قال الهيثمي في المجمع: 6/ 73 - 74. (2) فتح الباري: 7/ 288.

(1/168)


رعبًا، فقال عتبة: إياي تعني يا مصفر إسته، ستعلم اليوم أينا الجبان" (1). 236 - وقد جاء من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما نزل المسلمون وأقبل المشركون، نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عتبة بن ربيعة وهو على جمل أحمر فقال: (إن يكن عند أحد من القوم خير فهو عند صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا) وهو يقول: "يا قوم أطيعوني في هؤلاء القوم، فإنكم إن فعلتم لن يزال ذلك في قلوبكم، ينظر كل رجل إلى قاتل أخيه، وقاتل إليه، فاجعلوا حقها برأسي وارجعوا، فقال أبو جهل: انتفخ والله سحره حين رأى محمدًا وأصحابه، إنما محمد وأصحابه كأكلة جزور ولو قد التقينا، فقال عتبة: ستعلم من الجبان المفسد لقومه، أما والله إني لأرى قومًا يضربونكم ضربًا، أما ترون كأن رؤسهم الأفاعي، وكأن وجوههم السيوف، ثم دعا أخاه وابنه، فخرج يمشي بينهما ودعا بالمبارزة" (2). 15 - مناجاة ودعاء، ومطر ونقاء 237 - من حديث علي السابق الذكر رقم: 231: قال: " أصابنا من الليل طش من المطر -يعني الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر- فانطلقنا تحت الشجر والحجف، نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو ربه ويقول: (اللهم إن تهلك هذه الفئة لا تعبد) قال: فلما تطلع الفجر نادى: (الصلاة عباد الله) فجاء الناس من تحت الشجر والحجف فصلى بنا رسول الله وحض على القتال" (3). 238 - من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "لما كان يوم بدر نظر رسول الله إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلًا، فاستقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام __________ (1) انظر تخريج الحديث رقم: 231. (2) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 76 رواه البزار ورجاله ثقات، وانظر كشف الأستار: 1762، والحاكم: 3/ 187، 188، وسنده حسن. * الطش: المطر الضعيف وهو فوق الرذاذ، الجحفة: الترس الصغير. (3) انظر التخريج حديث رقم: 231. * يهتف بربه: يصيح ويستغيث بالله بالدعاء.

(1/169)


لا تعبد في الأرض)، فما زال يهتف بربه، مادًّا يديه مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه. فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: "يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله -عزَّ وجلَّ- {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} (1) فأمده الله بالملائكة" (2). 238 - ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر (اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد) فأخذ أبو بكر بيده، فقال حسبك فخرج وهو يقول: (سيهزم الجمع ويولون الدبر) (3). 239 - ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر في ثلاثمائة وخمسة عشر رجلًا من أصحابه، فلما انتهى إليها قال (اللهم إنهم جياع فأشبعهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم) ففتح الله له يوم بدر، فانقبوا حين انقلبوا، وما منهم رجل إلا وقد رجع يحمل أو حملين واكتسوا وشبعوا" (4). 16 - استفتاح أبي جهل ودعاؤه يوم بدر 240 - أ - من حديث عبد الله بن ثعلبة بن صعير قال: "كان المستفتح يوم بدر أبا جهل قال: اللهم "أقطعنا للرحم وآتانا بما لم يُعرف فأحنه الغداة" فبينما هم على تلك الحال، وقد شجع الله المسلمين على لقاء عدوهم، وقللهم في أعينهم حتى طمعوا فيهم، خفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خفقة في العريش ثم انتبه فقال: (أبشر يا أبا بكر هذا جبريل معتجر بعمامته، آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع، أتاك نصر الله وَعِدتُه) (5). __________ (1) سورة الأنفال: 9. (2) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الجهاد باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر رقم: 1763، وأحمد في المسند: 1/ 30 - 32. (3) أخرجه البخاري في المغازي باب: (إذ تستغيثون ربكم ...) رقم: 3953. (4) انظر تخريج الحديث رقم: 223. (5) أخرجه أحمد في المسند: 5/ 431، الحاكم في المستدرك: 2/ 328، وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي، ابن كثير في السيرة: 2/ 434 وسنده حسن، وفي التفسير: 296/ =

(1/170)


240 - ب - من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "قال أبو جهل: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فنزلت (1): {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} (2) (3). 17 - نزول جبريل عليه السلام يوم بدر 241 - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر: (هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب) (4). 18 - أسلوب القتال 242 - من حديث أبي طلحة رضي الله عنه قال: "غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم بدر" (5). وهذا المبدأ "قتال الصف" قرره الإسلام وحث عليه في قول الله تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًّا كأنهم بنيان مرصوص} (6). فأسلوب القتال هذا الذي ذكره القرآن يعطي القائد القدرة الفائقة للسيطرة على الجند. __________ = 2 وعزاه للنسائي، وانظر سيرة ابن هشام: 1/ 626 - 627، البيهقي في الدلائل: 3/ 74. (1) الآية: 32 سورة الأنفال. (2) سورة الأنفال آية:33. (3) أخرجه البخاري في تفسير سورة الأنفال باب وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم رقم: 4649 فتح الباري: 3098، مسلم في صحيحه كتاب صفة القيامة والجنة والنار باب قوله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}، الآية حديث رقم: 2796. (4) أخرجه البخاري في المغازب باب شهود الملائكة بدرًا رقم: 3995. (5) أخرجه أحمد في المسند الفتح الرباني: 21/ 43، وإسناده صحيح كما قال شاكر في تحقيقه للمسند: 4/ 39 حديث رقم: 2197 - 2198 ورجال هذا الإسناد ثقات، وقد جاء أيضًا من حديث أبي أسيد الساعدي أخرجه أبو داود: 2663 بسند حسن. (6) سورة الصف: 4.

(1/171)


19 - تسويته الصفوف وقصته مع سواد 243 - من حديث محمد بن علي بن الحسين أبي جعفر الباقر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتخطى بعرجون فأصاب به سواد بن غزية الأنصاري فقال: "يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني"، فكشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بطنه فقال: (استقد) قال: فاعتنقه فقبل بطنه، فقال: (ما حملك على هذا يا سواد؟). قال يا رسول الله: "حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يحس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخير، وقال له خيرًا" (1). 20 - عريش القيادة النبوية يوم بدر ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له عريش يدير منه المعركة يوم بدر، وقد شارك أيضًا صلوات الله عليه في الحرب والمعركة ونزل إلى ساحة القتال. 244 - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وهو في قبة له يوم بدر .. وذكر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - (2). 245 - ومن طريق ابن إسحاق: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حرض أصحابه على القتال، ورمى المشركين بما رماهم به من التراب، وهزمهم الله تعالى صعد إلى العريش أيضًا ومعه أبو بكر، ووقف سعد بن معاذ ومن معه من الأنصار على باب العريش، ومعهم السيوف خشية أن تكر راجعة من المشركين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (3). __________ (1) الإصابة في تمييز الصحابة: 2/ 95، وسنده حسن إلا أنه مرسل، ويسنده ما جاء عن عبد الله بن جبير الخزاعي في مجمع الزوائد: 6/ 289، وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله ثقات على ما في عبد الله بن جبير من ضعف كما جاء في التهذيب: 5/ 168. (2) أخرجه البخاري في المغازي باب إذ تستغيثون ربكم ... رقم: 3953 من طرق متعددة. (3) البداية والنهاية: 3/ 284، وانظر سيرة ابن هشام: 1/ 620، والطبري في التاريخ: 2/ 440، والبيهقي في الدلائل: 3/ 44، جميعًا من طريق ابن إسحاق من مرسل عبد الله بن أبي بكر.

(1/172)


 المبحث الثالث: المرحلة الثانية: أحداث المعركة

1 - المبارزة بين المسلمين والمشركين 246 - من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة، وقال قيس بن عبادة: وفيهم أنزلت {هذان خصمان اختصموا في ربهم} قال: هم الذين تبارزوا يوم بدر، حمزة، وعلي، وعبيدة، أو أبو عبيدة بن الحارث، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة" (1). 247 - ومن طريق ابن إسحاق قال حدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: "ثم خرج عتبة بن ربيعة، بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة، وهم عوف، ومعوذ، أبناء الحارث -وأمهما عفراء- ورجل آخر يقال: هو عبد الله بن رواحة فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: رهط من الأنصار. قالوا: ما لنا بكم من حاجة. ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا علي، فلما قاموا ودنوا منهم. قالوا: من أنتم؟ قال عبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال علي: علي، قالوا: نعم، أكفاء كرام. فبارز عبيدة -وكان أسن القوم، عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز علي الوليد بن عتبة. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين، كلاهما أثبت صاحبه، وكر حمزة وعلي __________ (1) أخرجه البخاري في المغازي باب قتل أبي جهل حديث رقم: 3965، وقد جاء هذا الحديث أيضًا من طريق أبي ذر رضي الله عنه عند البخاري في المغازي باب قتل أبي جهل رقم: 3966، ومسلم بشرح النووي: 18/ 166، وابن ماجه برقم: 2835، الطيالسي: 2/ 21، والطبراني في الكبير: 3/ 164، وقال الحاكم: 2/ 386 عن حديث علي: لقد صح الحديث بهذه الروايات من طريق علي، كما صح من طريق أبي ذر.

(1/173)


بأسيافهما على عتبة فذففا عليه، واحتملا صاحبهما، فحازاه إلى أصحابه (1). 248 - من حديث علي بن أبي طالب قال: "تقدم يعني عتبة بن ربيعة، وتبعه ابنه وأخوه، فنادى من يبارز فانتدب له شباب من الأنصار، فقال: من أنتم؟ فأخبروه فقال: لا حاجة لنا فيكم، إنما أردنا بني عمنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيده بن الحارث) فأقبل حمزة إلى عتبة، وأقبلت إلى شيبة، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم ملنا على الوليد فقتلناه، واحتملنا عبيدة" (2). وقد وافقت رواية حديث علي هذه بأنه قتل شيبة وحمزة قتل عتبة ثم أعانا عبيدة على الوليد ما رواه الطبراني بإسناد حسن عن علي قال: "أعنت أنا وحمزة عبيدة بن الحارث على الوليد بن عتبة، فلم يعب النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك علينا" (3). وقال ابن حجر (بعد أن ذكر حديث علي الذي رواه أبو داود): وهذا أصح الروايات، لكن الذي في السير أن الذي بارز علي هو الوليد، وهو المشهور، وهو اللائق بالمقام لأن عبيدة وشيبة كانا شيخين كعتبة وحمزة، بخلاف الوليد وعلي فكانا شابين (4). ولمن أراد زيادة تفصيل في هذا الأمر فليراجع كتاب مرويات غزوة بدر ومناقشة الأقوال في بيان من بارز كل واحد من الثلاثة من المشركين الثلاثة أيضًا، والأظهر والله أعلم ما جاء في حديث أبي داود عن علي كرم الله وجهه؛ لأنه أصح الروايات كما قال ابن حجر رحمه الله تعالى. 2 - أوامر القائد الأعلى بالنضح بالنبل 249 - من حديث أبي أسيد الساعدي رضي الله عنه قال: "قال لنا رسول الله __________ (1) أخرجه ابن هشام في السيرة بإسناد حسن عن ابن إسحاق: 1/ 625 ولكنه مرسل، وفتح الباري: 7/ 298، وقد أخرجه الإمام أحمد بتحقيق أحمد شاكر: 2/ 193 من حديث علي وإسناده صحيح. * فذففا: أسرعا قتله. (2) أخرجه أبو داود في الجهاد باب في المبارزة رقم: 2665 وإسناده صحيح كما قال ابن حجر في فتح الباري: 7/ 298، وأحمد: 1/ 117، وأخرجه الحاكم: 3/ 187 - 188، عن ابن عباس وسنده حسن وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. (3) فتح الباري: 7/ 298. (4) فتح الباري: 7/ 298.

(1/174)


- صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: (إذا أكثبوكم فارموهم واستبقوا نبلكم) " (1). وفي رواية أبي داود زيادة (إذا اكثبوكم فارموهم بالنبل، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم" (2). 3 - وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى 250 - من حديث ابن عباس قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي: (ناولني كفًّا من حصى) فناوله، فرمى بها وجوه القوم، فما بقى أحد من القوم إلا امتلأت عيناه من الحصباء، فنزلت {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} (3). 251 - ومن حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: "لما كان يوم بدر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ كفًّا من الحصى، فاستقبلنا به فرمى بها وقال: (شاهت الوجوه) فانهزمنا فأنزل الله -عزَّ وجلَّ- {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} (4). 4 - مشاهد وأحداث من المعركة أ - عمير بن الحمام والتمرات: 252 - من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " ... فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا يقدمَنَّ أحد منكم إلى شيء، حتى أكون أنا دونه) فدنا المشركون فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض). قال: يقول عمير ابن الحمام الأنصاري: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: "نعم" قال: بخ بخ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما يحملك على قولك بخ بخ؟) قال: لا. والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من __________ (1) أخرجه البخاري في المغازي باب من شهد بدرًا رقم: 3984، 3985 أحمد انظر الفتح الرباني: 21/ 42 والبيهقي في الدلائل: 3/ 70. (2) أخرجه أبو داود في السنن طبعة الساعاتي: 2/ 48 وسكت عنه المنذري والإسناد ضعيف والله أعلم، وفي إسناده إسحاق بن نجيح قال في التقريب: 1/ 61، مجهول، ومالك بن حمزة بن أبي أسيد: التقريب: 2/ 224، مقبول، ولكنه أخرجه بإسناده آخر وهو سند حسن في نفس الصفحة. (3) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 84 رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح انظر الطبراني: 11750. (4) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 84 رواه الطبراني وسنده حسن، انظر الطبراني في الكبير: 3127، 3128، ورواه الطبراني في الأوسط كما في مجمع البحرين: 237.

(1/175)


أهلها، قال: (فإنك من أهلها) فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة، قال: فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل" (1). ب - مصرع أبي جهل لعنه الله: 253 - من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: قال: "بينما أنا واقف في الصف يوم بدر، نظرت عن يميني وشمالي، فهذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت لو كنت بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قال: قلت: نعم وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده، حتى يموت الأعجل منا. قال: فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال مثلها. قال: فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يزول في الناس فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، قال: فابتدراه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبراه، فقال: (أيكما قتله؟) فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: (هل مسحتما سيفيكما؟) قالا: لا: فنظر في السيفين فقال: (كلاكما قتله)، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء" (2). 254 - من حديث أنس رضي الله عنه قال: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: (من ينظر ما صنع أبو جهل؟) فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضرباه! أبناء عفراء حتى برد، فأخذ بلحيته فقال: أنت أبو جهل، قال: وهل فوق رجل قتله قومه أو قال: قتلتموه" (3). __________ (1) أخرجه مسلم في الإمارة باب ثبوت الجنة للشهيد: رقم: 1901، أحمد في المسند: 3/ 136 - 137، والحاكم في المستدرك:3/ 426 - وابن سعد في الطبقات: 2/ 25، والبيهقي في السنن: 9/ 43. * بخ بخ: كلمة تطلق لتفخيم الأمر وتعظيمة في الخير. قرنه: جعبة النشاب. (2) أخرجه البخاري في المغازي باب فضل من شهد بدرًا رقم: 3988، ومسلم في الجهاد والسيرة باب استحقاق القائل سلب القتيل: 1752، الحاكم: 3/ 425 - والطبري في التاريخ: 2/ 454 - 455، والبيهقي في الدلائل: 3/ 83 - 85. (3) أخرجه البخاري في المغازي باب قتل أبو جهل رقم: 3963، مسلم في الجهاد، باب قتل أبي جهل =

(1/176)


255 - ومن حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: "أدركت أبا جهل يوم بدر صريعًا، فقلت: أي عدو الله قد أخزاك الله؟ قال: وبما أخزاني: من رجل قتلتموه، ومعي سيف لي، فجعلت أضربه ولا يحتك فيه شيء، ومعه سيف له جيد، فضربت يده فوقع السيف من يده فأخذته، ثم كشفت المغفر عن رأسه فضربت عنقه، ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فقال: (الله الذي لا إله إلا هو). قلت: الله الذي لا إله إلا هو. قال: فانطلق فاستثبت فانطلقت وأنا أسعى مثل الطائر، ثم جئت وأنا أسعى مثل الطائر أضحك فأخبرته. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (انطلق) فانطلقت معه فأريته، فلما وقف عليه - صلى الله عليه وسلم - قال: (هذا فرعون هذه الأمة) (1). جـ - مصرع أمية بن خلف: 256 - من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: "كاتبت أمية بن خلف كتابًا بأن يحفظني في صاغيتي (2) بمكة، وأحفظه في صاغيته بالمدينة، فلما ذكرت "الرحمن" قال: لا أعرف الرحمن، كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية، فكاتبته (عبد عمرو). فلما كان في يوم بدر خرجت إلى جبل لأحرزَه حين نام الناس، فأبصره بلال، فخرج حتى وقف على مجلس من الأنصار، فقال: أمية بن خلف لا نجوت إن نجا أمية، فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه لأشغلهم فقتلوه، ثم أبوا حتى يتبعونا -وكان رجلًا ثقيلًا __________ = رقم: 1800، أبو داود في الجهاد باب خصة في السلاح يقاتل به في المعركة رقم: 2709، أحمد في المسند: 3/ 115، 129، 236. (1) أخرجه الهيثمي في المجمع: 6/ 79 وقال رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن وهب بن أبي كريمة وهو ثقة، قال عنه في التقريب: 2/ 216، صدوق من العاشرة فيكون الحديث حسنًا والله أعلم، وانظر الطبراني من حديث: 8468 - 8476، والبيهقي في الدلائل: 2/ 261 - 262، والبزار كلما في الكشف: 1/ 288 - أحمد كما في الفتح الرباني: 21/ 38. (2) الصاغية: صاغية الرجل: ما يميل إليه، ويطلق على الأهل والمال.

(1/177)


- فلما أدركونا قلت له: ابرك، فبرك، فألقيت عليه نفسي لأمنعه، فتجللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه، وكان عبد الرحمن ابن عوف يرينا ذلك الأثر في ظهر قدمه" (1). 257 - ومن حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: "كان أمية بن خلف لي صديقًا بمكة، وكان اسمي عبد عمرو فتسميت حين أسلمت عبد الرحمن، ونحن بمكة، فكان يلقاني إذ نحن بمكة فيقول: يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سماك أبوك؟ قال: فأقول: نعم. قال: فإني لا أعرف الرحمن، فاجعل بيني وبينك شيئًا أدعوك به، أما أنت فلا تجبني باسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف!. قال: وكان إذا دعاني يا عبد عمرو لم أجبه، قال: فقلت: يا أبا علي اجعل ما شئت، قال: فأنت عبد الإله، قال: قلت نعم. قال: فكنت إذا مررت به قال: يا عبد الإله فأجبته فأتحدث معه، حتى إذا كان يوم بدر، مررت به وهو واقف مع ابنه علي، وهو آخذ بيده قال: ومعي أدراع لي قد استلبتها، فأنا أحملها، فلما رآني قال: يا عبد عمرو فلم أجبه، فقال: يا عبد الإله، فقلت: نعم، قال: هل لك فيَّ فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك؟ قال: قلت: نعم ها الله؟ قال: فطرحت الأدراع من يدي، وأخذت بيده وبيد ابنه وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن؟ ثم خرجت أمشي بهما. قال ابن هشام: يريد باللبن أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن" (2). د - مصرع عبيد بن سعيد بن العاص على يد الزبير: 258 - من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: "لقيت يوم بدر عبيد ابن سعيد بن العاص وهو مدجج لا يرى منه إلا عيناه، وهو يكنى أبا ذات __________ (1) أخرجه البخاري في كتاب الوكالة باب إذا وكل المسلم حربيًّا في دار الحرب رقم: 2301، فتح الباري: 4/ 480، ابن هشام في السيرة، 1/ 632، بإسناد حسن والطبري في التاريخ: 2/ 451 - 453، مسلم برقم:1752. (2) السيرة النبوية ابن هشام: 1/ 631، وسنده صحيح وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث.

(1/178)


الكرش، فقال: أنا أبو ذات الكرش، فحملت عليه فطعنته في عينه فمات". قال هشام، فأخبرت أن الزبير قال: "لقد وضعت رجلي عليه ثم تمطأت فكان الجهد أن نزعتها وقد انثنى طرفاها". قال عروة: "فسأله إياها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاه، فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها، ثم طلبها أبو بكر فأعطاه، فلما قبض أبو بكر سأله إياها عمر فأعطاه إياها، فلما قبض عمر أخذها، ثم طلبها عثمان منه فأعطاه إياها، فلما قتل عثمان وقعت عند آل علي، فطلبها عبد الله بن الزبير، فكانت عنده حتى قتل" (1). هـ - استشهاد حارثة بن سراقة: 259 - من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى تر ما أصنع؟. فقال: (ويحك -أوهبلت- أوجنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس) (2). و- عوف بن الحارث وسؤاله: ما يضحك الرب من عبده: 260 - قال ابن إسحاق حدثني عاصم بن عمر بن قتادة: "أن عوف بن مالك وهو الحارث بن عفراء، قال: يا رسول الله، ما يضحك الرب من عبده؟ قال: (غمسه يده في العدو حاسرًا)، فنزع درعًا كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل" (3). ز - شجاعة الرسول صلى الله عليه وسلم: 261 - من حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: "قال: لقد رأيتنا يوم بدر، ونحن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أقربنا من العدو، __________ (1) أخرجه البخاري في صحيحه في المغازي باب شهود الملائكة بدرًا حديث رقم: 3998. (2) أخرجه البخاري في المغازي باب فضل من شهد بدرًا حديث رقم: 3982. (3) أخرجه ابن هشام في السيرة: 1/ 627 - 628 والبيهقي في السنن: 6/ 99 - 100، الطبري في التاريخ: 2/ 448 - 449 من طريق ابن إسحاق وصرح ابن إسحاق بالتحديث فسنده حسن ولكنه مرسل.

(1/179)


وكان من أشد الناس يومئذ بأسًا" (1). 262 - ومن حديث أنس رضي الله عنه قال: "فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقومن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه ...) فذكر الحديث وفيه قصة عمير بن الحمام (2). حـ - مشاركة الملائكة يوم بدر: 263 - من حديث ابن عباس قال: "بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول أقدم حيزوم. فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيًا، فنظر إليه فهذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة) (3). 264 - ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر: (هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب) (4). 265 - من حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: "فجاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبد المطلب أسيرًا، فقال العباس: يا رسول الله إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجهًا على فرس أبلق ما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله فقال: (اسكت فقد أيدك الله بملك كريم) (5). __________ (1) أخرجه أحمد في المسند: 1/ 86، وأبو الشيخ في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -: ص: 57، من طريق وكيع حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب به، وهذا إسناد صحيح فقد صحح الشيخان رواية إسرائيل عن جده، وانظر مجمع الزوائد: 9/ 12، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند: 2/ 228، ويشهد له حديث البراء عند مسلم: 1776، الجهاد باب في غزوة حنين. (2) انظر تخريج الحديث: 252، فإنه قطعة منه. * خطم: الخطم الأثر على الأنف. حيزوم: اسم الفرس الذي يركبه الملك. (3) أخرجه مسلم في الجهاد باب الإمداد بالملائكة من حديث عمر الذي حدثه ابن عمر رقم: 1763. انظر شرح مسلم للنووي: 12/ 85 - 86. (4) رواه البخاري في المغازي باب فضل من شهد بدرًا رقم: 3995. (5) تقدم تخريجه حديث رقم: 248.

(1/180)


266 - ومن حديث أبي داود المازني: قال: "إني لأتبع رجلًا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قتله غيري" (1). 267 - ومن حديث البراء قال: "جاء رجل من الأنصار بالعباس قد أسره، فقال العباس، يا رسول الله ليس هذا من أسرني، أسرني رجل في القوم أنزع من هيئته كذا وكذا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قد آزرك الله بملك كريم) (2). 268 - ومن حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: "قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأبي بكر يوم بدر (مع أحدكما جبريل، ومع الآخر ميكائيل، وإسرافيل ملك عظيم يشهد القتال، أو يكون في الصف) (3). قال الحافظ في الفتح: "قال الشيخ تقي الدين السبكي: "سئلت عن الحكمة في قتال الملائكة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه؟ فقلت: وقع ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي وأصحابه، وتكون الملائكة مددًا على عادة مدد الجيوش، رعاية لصورة الأسباب وسنتها التي أجراها الله تعالى في عباده، والله تعالى هو فاعل الجميع والله أعلم" (4). ط - قتال سعد بن أبي وقاص: 269 - من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "كان سعد يقاتل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر، قتال الفارس والراجل" (5). __________ (1) أخرجه ابن هشام: 1/ 633، وأحمد في المسند: 5/ 450 من طريق ابن إسحاق حدثني أبي إسحاق بن يسار عن رجال من بني مازن عن أبي داود المازني وسنده حسن -والبيهقي في الدلائل: 3/ 56، والطبري في التاريخ: 2/ 451. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 6/ 83، رواه أحمد وفيه رجل لم يسم. (2) قال الهيثمي: 6/ 85، رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. (3) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 82، رواه أحمد بنحوه والبزار واللفظ له ورجالهما رجال الصحيح، ورواه أبو يعلى" كشف الأستار رقم: 1467، 1762، أحمد: 1/ 147، أبو يعلى رقم: 340، الحاكم: 3/ 134، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي والحديت بإسناده صحيح. (4) فتح الباري: 7/ 313، في التعليق على حديث رقم: 3995. (5) كشف الأستار: 1768 - 1769، وكان الهيثمي في المجمع: 6/ 82، رواه البزار بإسنادين أحدهما متصل والآخر مرسل ورجالهما ثقات.

(1/181)


ك - شدة بأس علي بن أبي طالب يوم بدر: 270 - من حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: "كنت على بئر فكنت يوم بدر أميح وأمتح منه، فجاءت ريح شديدة، ثم جاءت ريح شديدة، فلم أر ريحًا أشد منها إلا التي كانت قبلها، ثم جاءت ريح شديدة، فكانت الأولى ميكائيل في ألف من الملائكة عن يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -، والثانية إسرافيل في ألف من الملائكة عن يسار النبي - صلى الله عليه وسلم -، والثالثة جبريل في ألف من الملائكة، وكان أبو بكر عن يمينه، وكنت عن يساره، فلما هزم الله الكفار حملني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فرسه، فلما استويت عليه حمل لي، فصرت على عنقه فدعوت الله فثبتني عليه، فطعنت برمحي حتى بلغ الدم إبطي" (1). ل - الريح العقيم التي أرسلت على المشركين يوم بدر: 271 - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أخذتهم ريح عقيم يوم بدر" (2). م - قذف قتلى أئمة الكفر في القليب: 272 - من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، عن أبي طلحة رضي الله عنه: "أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلًا من صناديد قريش، فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث: أمر براحلته فشدت عليها رحلها، ثم مشى واتبعه أصحابه وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفى الركي فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: (يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا). قال: فقال: عمر يا رسول الله، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها. فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول __________ * متح الدلو جذبها متسقيا لها. (1) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 77، رواه أبو يعلى ورجاله ثقات. (2) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 78 رواه البزار ورجاله ثقات، وانظر كشف الأستار رقم: 1782.

(1/182)


منهم). قال قتادة: "أحياهم الله حتى أسمعهم قوله، توبيخًا وتصغيرًا ونقيمة وحسرة وندمًا" (1). 273 - من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: "وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - على قليب بدر فقال: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا؟) ثم قال: (إنهم الآن يسمعون)، فذكر لعائشة، فقالت: إنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق). ثم قرأت {إنك لا تسمع الموتى} حتى قرأتْ الآية .. (2). 274 - ومن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك قتلى بدر ثلاثًا، ثم أتاهم فقام عليهم فناداهم فقال: (يا أبا جهل بن هشام! يا أمية بن خلف! يا عتبة بن ربيعة! يا شيبة بن ربيعة! أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقًّا؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقًّا) فسمع عمر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله كيف يسمعوا وأنَّى يجيبوا وقد جيفوا قال: (والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا) ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قليب بدرًا" (3). ولمن أراد التوسع في هذه المسألة والآراء المعروضة فيها فليراجع فتح الباري وأقوال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في تعليقه على حديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق وقول ابن كثير رحمه الله في التفسير: (3/ 438) فإن في ذلك فائدة جيدة والله أعلم. __________ (1) أخرجه البخاري في المغازي باب قتل أبي جهل حديث رقم: 3976، مسلم في الجنة باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه رقم: 2874 - 2875، والنسائي: 4/ 109 - 110، وأحمد في المسند: 3/ 104 - 182 من طريق حميد به. الركى: البئر. (2) أخرجه البخاري في المغازي باب قتل أبي جهل حديث رقم: 3980 - 3981، النسائي: 4/ 111، أحمد في المسند: 2/ 131، ورجال أحمد رجال الصحيح كما قال الهيثمي في المجمع: 6/ 91. (3) أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها رقم: 2874، وأحمد في المسند: 3/ 287. * جيفوا: أنتنوا وصاروا جيفًا.

(1/183)


ن - أسرى بني عبد المطلب وخروجهم كرهًا: 274 - من حديث علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: (إن استطعتم أن تأسروا من بني عبد المطلب فإنهم خرجوا كرهًا) (1). س - إقامة الرسول - عليه السلام - في بدر ثلاثًا: وقد ثبت في الصحيح أنه مكث ثلاثة أيام في بدر. من حديث أنس رقم: 272، وهو في الصحيح" أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال .. ". 275 - ومن حديث أبي طلحة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ظهر على قوم أقام بعرصتهم ثلاثًا" (2). ع - عدد القتلى من المشركين والشهداء من المسلمين: 276 - من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: "جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - على الرماة يوم أحد عبد الله بن جبير، فأصابوا منا سبعين، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة، سبعين أسيرًا وسبعين قتيلًا، قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال" (3). 277 - من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: "إن الثمانية عشر الذين قتلوا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر جعل الله أرواحهم في الجنة في طير خضر تسرح في الجنة، فبينما هم كذلك إذ اطلع عليهم اطلاعة فقال: يا عبادي ماذا تشتهون؟، فقالوا: يا ربنا هل فوق هذا شيء؟ قال: فيقول: عبادي ماذا تشتهون؟، فيقولون في الرابعة: ترد أرواحنا في أجسادنا فنقتل كما قتلنا" (4). __________ (1) تقدم تخريجه رقم: 248. (2) أخرجه الترمذي في السير باب في البيات والغارات وقال حسن صحيح رقم: 1551. (3) أخرجه البخاري في صحيحه في المغازي باب: حديث رقم: 3986. (4) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 90، رواه الطبراني ورجاله ثقات، وانظر الطبراني في الكبير: 10466.

(1/184)


 المبحث الرابع: أحداث ما بعد المعركة

1 - الغنائم: 278 - من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فشهدت معه بدرًا، فالتقى الناس فهزم الله تبارك وتعالى العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون، فأكبت طائفة على المعسكر يحوونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل، وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق بها منا، نفينا العدو وهزمناهم، وقال الذي أحدقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لستم بأحق بها منا، نحن أحدقنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخفنا أن يصيب العدو منه غرة واشتغلنا به فنزلت {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا وأصلحوا ذات بينكم} فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وفاق بين المسلمين" (1). 279 - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أتى مكان كذا وكذا فله كذا وكذا، أو فعل كذا وكذا فله كذا وكذا)، فتسارع إليه الشبان وبقي الشيوخ عند الرايات فلما فتح الله عليهم، جاءوا يطلبون ما جعل لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم الأشياخ: لا تذهبوا به دوننا فأنزل الله تعالى {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} (2). __________ (1) أخرجه أحمد في المسند: 5/ 324، وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 92 رجاله ثقات، وفي: 7/ 26، قال رجال الطريقين ثقات وابن حبان رقم: 1693، موارد، وابن جرير في التفسير: 9/ 172، والحاكم: 2/ 326،136،135، وقال على شرط مسلم وأقره الذهبي في الموضعين، والبيهقي في السنن: 6/ 292، وهذا لفظ أحمد. وقال الساعاتي: 14/ 73، قال الترمذي هذا حديث صحيح، ثم قال: وأورده الهيثمي وقال رجال أحمد ثقات، ورواه الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي. (2) أخرجه أبو داود في السنن الجهاد باب في النفل رقم: 2737، وابن حبان في الموارد رقم: 1743، والحاكم في المستدرك: 2/ 132، 221، 326، وصححه في المواضع الثلاث ووافقه الذهبي، وابن جرير: 13/ 367،368، وصححه أحمد شاكر في تحقيقه الكتاب، والبيهقي: 6/ 315 وابن كثير في التفسير: 2/ 284، وزاد نسبته إلى النسائي وابن مردويه.

(1/185)


280 - ومن حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: لما كان يوم بدر جئت بسيف فقلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله قد شفى صدري من المشركين أو نحو هذا، هب لي هذا السيف فقال: (هذا ليس لي ولا لك)، فقلت: عسى أن يعطى هذا من لم يبلي بلائي، فجاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (إنك سألتنى وليس لي، وإنه قد صار لي وهو لك) قال: فنزلت {يسألونك عن الأنفال} الآية (1). 281 - ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لما كان يوم بدر تعجل الناس إلى الغنائم فأصابوها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الغنيمة لا تحل لأحد سود الرؤوس غيركم) وكان النبي وأصحابه إذا غنموا غنيمة جمعوها ونزلت نار فأكلتها، فأنزل الله هذه الآية {لولا كتاب من الله سبق} إلى آخر الآيتين" (2). 2 - الاختلاف في الأسرى: 282 - من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي رواه عنه ابن عباس رضي الله عنهما قال: فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين قال أبو زميل: قال ابن عباس: فلما أسروا الأسارى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا بكر وعلي وعمر ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا نبي الله! هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال: لا والله، يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان __________ (1) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الجهاد والسير باب الأنفال رقم: 1748، وأبو داود الطيالسي في مسنده: 1/ 238 - 239 رقم: 2066، والحاكم: 2/ 132، وصححه ووافقه الذهبي، وأحمد في المسند: 1/ 181، 186، وأبو نعيم: 8/ 312، والبيهقي: 6/ 229. (2) أخرجه الترمذي في التفسير تفسير سورة الأنفال رقم: 3085، وقال حديث حسن صحيح غريب، وأبو داود الطيالسي في مسنده: 2/ 19، وابن حبان في الموارد:1668، والبيهقي: 6/ 290 وهو كما قال الترمذي.

(1/186)


(نسيبًا لعمر) فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت. فلما كان من الغد جئت فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر قاعدان يبكيان. قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما". فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة) - شجرة قريبة من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله عزَّ وجلَّ {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} إلى قوله: {فكلوا مما غنمتم حلالًا طيبًا} فأحل الله الغنيمة لهم" (1). 283 - ومن حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: استشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأسارى أبا بكر فقال: قومك وعشيرتك فخل سبيلهم، فاستشار عمر فقال: اقتلهم، قال: ففداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله عزَّ وجلَّ {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} إلى قوله: {فكلوا مما غنمتم حلالًا طيبًا}، قال: فلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر قال: (كاد أن يصيبنا بلاء في خلافك) (2). 284 - وقد جاء من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بإسناد صحيح ببعض زيادة في وصف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما الذي وصفهما به رسول الله فمن أحب الزيادة فلينظر الحديث في مكانه (3). 3 - زيد يحمل بشارة النصر إلى المدينة المنورة: 285 - من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلف __________ (1) أخرجه مسلم في الصحيح كتاب الجهاد والسيرة باب الإمداد بالملائكة حديث رقم: 1763، أحمد في المسند: 1/ 30 - 31، والطبري في التفسير: 10/ 44. (2) أخرجه الحاكم في المستدرك: 2/ 329، وقال الحاكم حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الذهبي قلت: على شرط مسلم. (3) أخرجه الترمذي في سننه كتاب الجهاد باب في المسؤرة: 4/ 213، وفي تفسير سورة الأنفال رقم: 3084، 5/ 271، وفي مسند أحمد: 1/ 383، والحاكم في المستدرك: 3/ 22، وقال حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وقال ابن حجر في الإصابة: 2/ 91 معلقًا عليه: رواه الطبراني بإسناد صحيح عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود، وسبب إرساله أن ابا عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه. وقال شاكر بإسناده منقطع: 5/ 229، حديث رقم: 3634.

(1/187)


عثمان بن عفان، وأسامة بن زيد على بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء زيد بن حارثة على العضباء ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبشارة قال أسامة: فسمعت الهيعة، فخرجت فهذا زيد قد جاء بالبشارة، فوالله ما صدقت حتى رأينا الأسارى وضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعثمان سهمه" (1). 286 - ومن حديث عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة رضي الله عنهما: قال: "قدم بالأسارى حين قدم بهم المدينة، وسودة بنت زمعة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عند آل عفراء في مناحتهم على عوف ومعوذ ابني عفراء، وذلك قبل أن يضرب الحجاب. قالت سودة: فوالله إني لعندهم إذ أتينا، فقيل هؤلاء الأسارى قد أتى بهم، فرجعت إلى بيتي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه، فإذا أبو يزيد سهيل بن عمرو في ناحية الحجرة ويداه مجموعتان إلى عنقه بحبل، فوالله ما ملكت حين رأيت أبا يزيد كذلك أن قلت: "أبا يزيد أعطيتم بأيدكم ألا مِتم كرامًا". فما انتبهت إلا بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البيت: (يا سودة على الله وعلى رسوله)، فقلت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما ملكت حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه بالحبل أن قلت ما قلت" (2). 4 - قتل عقبة بن أبي معيط في الطريق إلى المدينة: 287 - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "فأدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسارى بدر، وكان فداء كل رجل منهم أربعة آلاف، وقتل عقبة بن أبي معيط قبل الفداء قام إليه علي بن أبي طالب فقتله صبرًا، قال: من للصبية يا رسول الله؟ قال: (النار) (3). __________ (1) أخرجه البيهقي: 9/ 174، بسند صحيح، والحاكم في المستدرك: 3/ 217، 218، وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وسكت عنه الذهبي، والبيهقي في الدلائل: 3/ 130 - 131، والطبري في التاريخ: 2/ 458، وقد رواه ابن أبي شيبة في المصنف: 14/ 368، مرسلًا عن عروة، والحاكم: 3/ 48، عن الزهري مرسلًا، وانظر السيرة النبوية لابن هشام: 1/ 642. * الهيعة: الصوت الذي تفرع منه وتخاف. (2) أخرجه الحاكم في المستدرك: 3/ 22، وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وابن جرير في التاريخ: 2/ 460، وابن هشام في السيرة: 1/ 645، وسنده صحيح. (3) أخرجه الهيثمي في المجمع: 6/ 89 وقال رواه الطبراني في الكبير: 12152 ورجاله رجال الصحيح وانظر عبد الرزاق في المصنف: 9394.

(1/188)


288 - وعن مسروق أنه قال: -لابن أبي معيط- حدثنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وكان غير كذاب: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بعنق أبيك أن تضرب صبرًا، ثم مر به فقال: من للصبية بعدي؟ قال: (لهم النار)، حسبك ما رضي لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (1). 5 - كيف تلقت قريش نبأ الهزيمة: 289 - وقال ابن إسحاق رحمه الله قال: وكان أول من قدم بمكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله الخزاعي فقالوا له: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية ابن خلف، وزمعة بن الأسود، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأبو البحتري بن هشام، فلما جعل يعدد أشراف قريش قال صفوان بن أمية: والله إن يعقل هذا فسلوه علي؟ فقالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال: هو ذاك جالس في الحجر، قد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا" (2). 6 - عمير يريد قتل الرسول فيكشف الرسول سرّه فيسلم: 290 - من حديث عروة بن الزبير مرسلًا قال: "جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية في الحجر، بعد مصاب أهل بدر بيسير وكان عمير ابن وهب شيطانًا من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ويلقون منه عناء وهو بمكة، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر، فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: "والله إن في العيش بعدهم خير". قال له عمير: صدقت، أما والله لولا دين علي ليس عندي قضاؤه وعيال __________ (1) أخرجه أبو داود في سنة الجهاد باب في قبل الأسير صبرًا رقم: 2686، وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 59 رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات. وسند أبي داود حسن. (2) إن كان أخرجه ابن إسحاق بسنده الصحيح الوارد في بداية غزوة بدر فالحادثة صحيحة والله أعلم وإلا فالحادثة بلا سند انظر سنده (ابن هشام في السيرة: 1/ 606).

(1/189)


أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي فيهم علة ابني أسير في أيديهم. قال: فاغتنمها صفوان بن أمية فقال: عليَّ دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم، فقال له عمير: فاكتم علي شأني وشأنك. قال: سأفعل. قال: ثم أمر عمير سيفه، فشُحذ وسم، ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينما عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، وما أراهم في عدوهم، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب وقد أناخ راحلته على باب المسجد متوشحًا سيفه، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، ما جاء إلا لشرّ وهو الذي حرش بيننا، وحزرنا للقوم يوم بدر. ثم دخل عمر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نبي الله، هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحًا سيفه. قال: فأدخله علي، قال: فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلببه بها، وقال لمن كان معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون. ثم دخل به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: (أرسله يا عمر، ادن يا عمير). فدنا ثم قال: انعموا صباحًا، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم، فقال رسول الله (قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة). فقال: أما والله يا محمد إن كنت بها لحديث عهد. قال: (فما جاء بك يا عمير؟) قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه. قال: (فما بال السيف في عنقك؟) قال: قبحها الله من سيوف! وهل أغنت عنا شيئًا؟

(1/190)


قال: (اصدقني، ما الذي جئت له؟) قال: ما جئت إلا لذلك. قال: (بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين عليَّ وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدًا، فتحمل لك صفوان بن أمية بدينك وعيالك، على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك). قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فقهوا أخاكم في دينه، وعلموه القرآن، وأطلقوا أسيره ففعلوا). ثم قال: يا رسول الله، إني كنت جاهدًا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله -عزَّ وجلَّ-، وأنا أحب أن تأذن لي، فأقدم مكة، فأدعوهم إلى الله، وإلى رسوله، وإلى الإِسلام، لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم. قال: فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلحق بمكة. وكان صفوان بن أمية حين خرج عمير بن وهب، يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام، تنسيكم وقعة بدر، وكان صفوان يسأل عنه الركبان، حتى قدم راكب فأخبره بإسلامه، فحلف أن لا يكلمه أبدًا، ولا ينفعه بنفع أبدًا" (1). 7 - عمليات الافتداء للأسرى: 291 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "فأدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسارى بدر، وكان فداء كل رجل منهم أربعة آلاف" (2). __________ (1) ابن هشام في السيرة: 1/ 661 - 663 عن ابن إسحاق بسند صحيح مرسلًا، وقال ابن حجر في الإصابة: 3/ 36 قال موسي بن عقبة في المغازي عن ابن شهاب مرسلًا وذكر قصة عمير، وقد أخرجه ابن منده من وجه آخر موصولًا، من طريق أبي الأزهر عن عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان عن أبي عمران الجوني عن أنس أو غيره وإسناد ابن مندة ظاهره أنه حسن. (2) مجمع الزوائد: 6/ 90، وقال الهيثمي رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله رجال الصحيح.

(1/191)


292 - من حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: "كانت قريش ناحت قتلاها ثم ندمت، وقالوا: لا تنوحوا عليهم، فيبلغ ذلك محمدًا وأصحابه فيشمتوا بكم، وكان في الأسرى أبو وداعة بن صبرة السهمي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن له بمكة ابنًا تاجرًا كيسا، ذا مال، كأنكم قد جاءكم في فداء أبيه) فلما قالت قريش في الفداء ما قالت: قال المطلب: صدقتم والله لئن صدقتم ليثاربن عليكم، ثم انسل في الليل، فقدم المدينة ففدى أباه بأربعة آلاف درهم" (1). 8 - أبو العاص بن الربيع وعفو الرسول عنه وإطلاقه: 293 - من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم، بعثت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فداء أبي العاص بن الربيع بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت لخديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها، قال: فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رق لها رقة شديدة وقال: (إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها الذي لها فافعلوا)، فقالوا: "نعم يا رسول الله فأطلقوه وردوا عليها الذي لها". وهذا لفظ أحمد وفي رواية أبي داود زيادة نوردها فيما يلي: "وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ عليه، أو وعده، أن يخلي سبيل زينب إليه، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة ورجلًا من الأنصار فقال: (كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتيا بها) (2). 9 - تكليف من لا يجد فداء بتعليم أبناء المسلمين: 294 - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة، قال: فجاء يومًا غلام يبكي إلى أبيه فقال: ما شأنك؟ __________ (1) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 90، رواه الطبراني ورجاله ثقات. (2) أخرجه أحمد في المسند: 6/ 376، وأبو داود في الجهاد باب في فداء الأسير بالمال: 2692، الحاكم في المستدرك: 3/ 336، وسكت عليه الحاكم والذهبي، وابن هشام في السيرة: 1/ 653 وسنده صحيح رجاله كلهم ثقات، وابن إسحاق صرح بالتحديث، وقال الساعاتي في الفتح الرباني: 14/ 100، أخرجه ابن إسحاق في سيرته وإسناده جيد.

(1/192)


قال: ضربني معلمي". قال: الخبيث يطلب بذحل بدر والله لا تأتيه أبدًا" (1). 10 - حفظ النبي لجوار المطعم بن عدي في الأسرى: 295 - من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأسارى بدر: (لو كان مطعم بن عدي حيًّا، ثم كلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له) (2). 11 - العباس وقصته في الفداء: 296 - من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "إنَّ رجالًا من الأنصار استأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه، قال: (والله لا تذرون منه درهما) (3). 297 - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال العباس: فيَّ نزلت: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسلامي، وسألته أن يحاسبني بالعشرين الأوقية التي أخذت معي، فأعطاني بها عشرين عبدًا كلهم قد تاجر بمال في يده، مع ما أرجو من مغفرة الله تعالى" (4). 12 - منزلة من شهد بدرًا من الصحابة رضوان الله عليهم: 298 - من حديث رفاعة بن رافع الزرقي رضي الله عنه قال: "جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: (من أفضل المسلمين) - __________ (1) أخرجه أحمد في المسند: 4/ 47، تحقيق أحمد شاكر وقال: إسناده صحيح وقال البناني الفتح الرباني: لم أقف عليه لغير الإمام أحمد وفي إسناده علي بن عاصم فيه كلام لكن وثقه الإمام أحمد، ذحل بدر: ثأر بدر. (2) أخرجه أبو داود في الجهاد باب المن على الأسير رقم: 2689، وإسناده صحيح البخاري في المغازي باب: 12 حديث رقم: 4024. (3) أخرجه البخاري في المغازي باب 12، حديث رقم: 4018. (4) المطالب العالية: 4300 وقال ابن حجر: هذا إسناد صحيح، رواه ابن مردويه في التفسير والمسند، عن أحمد بن الحسن عن عبد الله بن محمد عن ابن إسحاق هكذا، وأخرجه الطبراني من حديث يزيد بن هارون عن ابن إسحاق، وقال البوصيري: رواه ابن راهويه بسند صحح، وابن مردويه في تفسيره، والطبراني" قلت: وأخرجه ابن جرير الطبري في التفسير: 14/ 73، تحقيق أحمد شاكر، وإسناد هذا الحديث صحيح، وقال الهيثمي في المجمع: 7/ 28، رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار ورجال الأوسط رجال الصحيح، غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع.

(1/193)


وكلمة نحوها- قال: (وكذلك ما شهد بدرًا من الملائكة) (1). 299 - من حديث علي بن أبي طالب الطويل في قصة حاطب بن بلتعة قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة أو فقد غفرت لكم) فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم" (2). 300 - من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لن يدخل النار رجل شهد بدرًا أو الحديبية) (3). 13 - أسماء من شهد بدرًا من الصحابة: قال الحافظ في الفتح: قلت فجملة من ذكر من أهل بدر هنا أربعة وأربعون رجلًا، وقد سبق البخاري إلى ترتيب أهل بدر على حروف المعجم وهو أضبط لاستيعاب أسمائهم، ولكنه اقتصر على ما وقع عنده منهم، واستوعبهم الحافظ ضياء الدين المقدسي في (كتاب الأحكام)، وبين اختلاف أهل السير في بعضهم اختلاف غير فاحش، وأورد ابن سيد الناس أسماءهم في (عيون الأثر)، لكن على القبائل كما صنع ابن إسحاق وغيره، واستوعب ما وقع له من ذلك فزادوا -على ثلاثمائة وثلاثة عشر- خمسين رجلًا قال: وسبب الزيادة الاختلاف في بعض الأسماء. قلت: ولولا خشية التطويل لسردت أسماءَهُم مفصلًا مبينا للراجح، لكن في هذه الإشارة كفاية والله المستعان" (4). قلت: وانظر أيضًا سيرة ابن كثير رحمه الله فقد أورد أسماءهم هناك (5). وذكرهم الهيثمي أيضًا في مجمع الزوائد: (6/ 93 - 106) وبين مواضع ذكرهم وأسانيده في ذلك مرتبًا لتلك الأسانيد من صفحة: (93 - 97) بإسناد واحد إلى ابن شهاب الزهري ورجاله رجال الصحيح. __________ (1) أخرجه البخاري في المغازي باب شهود الملائكة بدرًا رقم: 3992. (2) أخرجه البخاري في المغازي باب فضل من شهد بدرًا رقم: 3983. (3) أخرجه الترمذي في المناقب حديث: 3864، 5/ 697، وقال حسن صحيح، ومسلم في فضائل الصحابة، باب أهل الشجرة رقم: 2496، وابن ماجه رقم: 4281. (4) فتح الباري: 7/ 328 - 329 في التعليق على الباب الثالث عشر من المغازي باب تسمية من سمى من أهل بدر. (5) سيرة ابن كثير 2/ 489.

(1/194)


 الفصل الثالث الأحداث ما بين بدر واحد

 المبحث الأول: زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بحفصه بنت عمر

301 - من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوفي في المدينة، فقال عمر "أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة بنت عمر، قال: فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالٍ، ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا. قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر رضي الله عنه فلم يرجع إليَّ شيئًا، فكنت عليه أوجد مني على عثمان. فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئًا؟ قال عمر: نعم، قال: فإنه لم يمنعنى أن أرجع إليك فيما عرضت علي، إلا أني كنت علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو تركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبلتها" (1).

 المبحث الثاني: زواج علي وفاطمة رضوان الله عليهما

302 - من حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: "كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاني مما أفاء الله عليه من الخمس يومئذ، فلما أردت أن أبتني بفاطمة عليها السلام بنت النبي - صلى الله عليه وسلم -، واعدت رجلًا صواغًا في بني قينقاع أن يرتحل معي فنأتي بإذخر، فأردت أن أبيعه __________ (1) أخرجه البخاري في النكاح باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير الحديث: 5122، فتح الباري: 9/ 175 - 176، النسائي: 2/ 75 - 76 - 77، وأحمد في المسند رقم: 74، تحقيق أحمد شاكر.

(1/195)


من الصواغين فنستعين به في وليمة عرسي، فبينما أنا أجمع لشارفيَّ من الأقتاب والغرائر والحبال، وشارفاي مناخان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار حتى جمعت ما جمعت، فهذا أنا بشارفي قد أجبت أسنمتهما، وبقرت خواصرهما، وأخذت من أكبادهما، فلم أملك عيني حين رأيت المنظر قلت: من فعل هذا. قالوا: حمزة بن عبد المطلب ... " فذكر الحديث (1). 303 - من حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. قال: (خطبت فاطمة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت مولاة لي: هل علمت أن فاطمة قد خطبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: لا، قالت: فقد خطبت، فما يمنعك أن تأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيزوجك. فقلت: وعندي شيء أتزوج به! فقالت: إنك إن جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوجك. قال: فوالله ما زالت ترجيني حتى دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أن قعدت بين يديه أفحمت، فوالله ما استطعت أن أتكلم جلالة وهيبة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما جاء بك؟ ألك حاجة؟) فسكت، فقال: (لعلك جئت تخطب فاطمة؟) فقلت: نعم، فقال: (وهل عندك من شيء تستحلها به؟) فقلت: لا والله يا رسول الله. فقال: (ما فعلت درع سلحتكها)؟. فوالذي نفس على بيده إنها لحطمية ما قيمتها أربعة دراهم، فقلت: عندي. فقال: (قد زوجتكها فابعث إليها بها فاستحلها بها) فإن كانت لصداق فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2). جهاز فاطمة عليها رضوان الله عليها 304 - من حديث علي كرم الله وجهه قال: "جهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمة في __________ (1) أخرجه البخاري في المغازي باب 12 حديث رقم: 4003، مسلم في أول كتاب الأشربة حديث رقم: 1979، والفتح الرباني: 31/ 45 - 47. * الشارف: الناقة. (2) أخرجه البيهقي في الدلائل: 3/ 160، وإسناده حسن وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث، سيرة ابن كثير: 2/ 544.

(1/196)


خميل وقربة ووسادة أدم حشوها إذخر" (1). وقد روى البيهقي عن ابن منده في كتاب المعرفة "أن عليا تزوج فاطمة بالمدينة بعد سنة من الهجرة، وابتنى بها بعد ذلك بنحو من سنة، وولدت لعلي الحسن، والحسن، ومحسنًا، وأم كلثوم الكبرى، وزينب الكبرى (2). وعلق على ذلك ابن كثير رحمه الله فقال: "قلت: فعلى هذا يكون دخوله بها في أوائل السنة الثالثة من الهجرة، فظاهر سياقه حديث الشارفين يقتضي أن ذلك عقب وقعة بدر بيسير، فيكون ذلك كما ذكرناه في آخر السنة الثانية والله أعلم" (3).

 المبحث الثالث: إجلاء بني قينقاع

305 - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان من حديث بني قينقاع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمعهم بسوق بني قينقاع ثم قال: يا معشر يهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم قالوا: يا محمد إنك ترى أنا قومك، لا يغرنك أنك لقيت قومًا لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس. ثم قال ابن عباس: فأنزل هؤلاء الآيات إلا فيهم {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} (4) (5). __________ (1) أخرجه أحمد في المسند: 1/ 14، ابن ماجه في السنن والزهد باب ضجاع آل محمد رقم: 4152، البيهقي في الدلائل: 3/ 161، والحديث إسناده صحيح. * خميل: القطيفة: الأدم: الجلد. الأذخر: خشيشة رطبة طيبة الرائحة. (2) أخرجه البيهقي في الدلائل: 3/ 162. (3) السيرة النبوية ابن كثير: 2/ 545. (4) آل عمران آية: 12 - 13. (5) أخرجه أبو داود في كتاب الخراج باب كيف كان إخراج اليهود من المدينة رقم: 3001، وابن هشام في السيرة: 2/ 47، بسند ابن إسحاق، وحسن إسناده الحافظ ابن حجر في فتح الباري: 7/ 332.

(1/197)


 المبحث الرابع: موقف عبد الله بن أبي زعيم المنافقين من أوليائه اليهود

من طريق ابن إسحاق قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة: "أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحاربوا فيما بين بدر وأحد، فحاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلوا على حكمه، فقام عبد الله بن أبي ابن سلول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أمكنه الله تعالى منهم، فقال: يا محمد، أحسن في موالي) فأعرض عنه، فأدخل يده في حبيب درع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أرسلني) وغضب حتى رؤي لوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظلال، فقال له: (ويحك أرسلني). فقال: والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، أي والله إني لامرؤ أخشى الدوائر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (هم لك) (1). 306 - ومن طريق ابن إسحاق أيضًا قال: حدثني أبي إسحاق بن يسار، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: "لما حاربت بنو قينقاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي، وقام دونهم، فمشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أحد بني عوف بن الخزرج لهم من حلفهم مثل الذي لهم من حلف عبد الله بن أبي، فخلعهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ إلى الله وإلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حلفهم، فقال: "يا رسول الله أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم. ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} -إلى قوله- {فترى الذين في قلوبهم مرض} يعني عبد الله بن أبي لقوله: إني أخشى الدوائر، {يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة} -حتى بلغ قوله- {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} لقول عبادة: أتولى الله ورسوله والذين آمنوا وتبريه من بني قينقاع وحلفهم وولايتهم إلى قوله {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} " (2). __________ (1) السيرة النبوية ابن هشام: 2/ 48 وإسناده صحيح وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث ولكنه مرسل، ودلائل البيهقي: 3/ 174، الطبري في التاريخ: 2/ 480. (2) السيرة النبوية ابن هشام: 2/ 49 - 50، وإسناده صحيح وقد صرح بالتحديث وهو مرسل، ودلائل =

(1/198)


 المبحث الخامس: مقتل كعب بن الأشرف

307 - من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله). فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله؟ قال: (نعم). قال: فأذن لي رسول الله أن أقول شيئًا. قال: (قل). فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنَّانا، وإني قد أتيتك أستسلفك، قال: وأيضًا والله لتملنه. قال: إنا قد اتبعناه، فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا وسقًا أو وسقين -وحدثنا عمرو غير مرة فلم يذكر (وسقا أو وسقين) فقلت له: فيه (وسقًا أو وسقين)، فقال: أرى فيه (وسقًا أو وسقين) فقال: نعم أرهنوني، قالوا: أي شيء تريد؟ قال: أرهنوني نساءكم، قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: أرهنوني أبناءكم، قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال: رهن بوسق أو وسقين هذا عار علينا، ولكنا نرهنك اللامة .. قال سفيان: يعني السلاح. فواعده أن يأتيه فجاءه ليلًا ومعه أبو نائلة -وهو أخو كعب من الرضاعة- فدعاهم إلى الحصن، فنزل إليهم فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟ فقال: إنما هو محمد بن مسلمة وأخي أبو نائلة. وقال غير عمرو: قالت أسمع صوتًا كأنه يقطر منه الدم. قال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لودعي إلى طعنة بليل لأجاب. قال: ويُدخل محمد بن مسلمة معه رجلين -قيل لسفيان: سماهم عمرو؟ قال: سمى بعضهم قال عمرو: جاء معه برجلين وقال غير عمرو: أبو عبس بن جبر والحارث بن أوس، وعباد بن بشر- قال عمرو جاء معه برجلين. فقال: إذا ما جاء فإني قائل بشعره فأشمه، فهذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه، قال مرة: ثم أشِمُّكم، فنزل إليهم متوشحًا وهو ينفخ منه ريح الطيب، فقال: ما رأيت كاليوم ريحًا -أي أطيب - وقال غير عمرو قال: عندي أعطر نساء العرب وأكمل العرب. قال عمرو فقال: أتأذن لي أن أشم رأسك __________ = البيهقي: 3/ 174 - 175، الآيات من: 51 - 56، سورة المائدة.

(1/199)


قال: نعم فشمه، ثم أشم أصحابه ثم قال: أتأذن لي؟ قال: نعم فلما استمكن منه قال: دونكم، فقتلوه، ثم أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه" (1). تشييع النبي للصحابة الذين ذهبوا لقتل كعب بن الأشرف: 308 - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - مشى معهم إلى بقيع الغرقد، ثم وجههم فقال: (انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم) (2). وذكر في بقية الحديث كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. سبب قتله: إيذاء كعب بن الأشرف للمسلمين بهجائه لهم في شعره: 309 - من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه، قال: "إن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرًا وكان يهجو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحرض عليه كفار قريش في شعره، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قدم المدينة وأهلها أخلاط منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم المشركون الذين يعبدون الأوثان، ومنهم اليهود، وهم أهل الحلقة والحصون، وهم حلفاء للحيين الأوس والخزرج، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم المدينة استصلاحهم كلهم، وكان الرجل يكون مسلمًا وأبوه مشرك، والرجل يكون مسلمًا وأخوه مشرك. وكان المشركون واليهود من أهل المدينة حين قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤذون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أشد الأذى، فأمر الله تعالى رسوله والمسلمن بالصبر على ذلك، والعفو عنهم، ففيهم أنزل الله جل ثناؤه {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب __________ (1) أخرجه البخاري في المغازي باب قتل كعب بن الأشرف رقم: 4037، فتح الباري: 7/ 336 - 337 مسلم في صحيحه كتاب الجهاد والسير باب قتل كعب بن الأشرف حديث رقم: 1801، ص: 1425 - 1426 وأبو داود في سننه كتاب الجهاد باب في العدو يؤخذ على حين غرة حديث رقم: 2768 والبيهقي في الدلائل: 3/ 195 - 196. ابن هشام في السيرة: 2/ 51 - 58، وابن كثير: 3/ 9 - 17، ابن سعد: 2/ 31 - 34. (2) المطالب العالية: 4312، وقال أخرجه إسحاق بن راهوية وإسناده حسن متصل، وأحمد في المسند انظر الفتح الرباني: 21/ 49، البزار كما في كشف الأستار: 2/ 330 - 331، والطبراني في الكبير: 11/ 221 برقم: 11554، وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 196، رواه أحمد والبزار، والطبراني وفيه ابن إسحاق وهو مدلس وبقية رجاله ثقات، قلت: وحسن إسناده أيضًا الحافظ ابن حجر في الفتح: 7/ 338، وقال: وعند ابن إسحاق بسند حسن، وابن هشام في السيرة: 2/ 55 - 56، وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث فزال التدليس.

(1/200)


مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} (1). وفيهم أنزل الله {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (2). فلما أبي كعب بن الأشرف أن ينزع عن أذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأذى المسلمين. وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ أن يبعث رهطًا ليقتلوه، فبعث إليه سعد ...). وذكر نحوًا من حديث جابر (3). وهكذا طويت صفحة من صفحات الغدر، ممثلة في هذا اليهودي الخبيث، وارتاح المسلمون من عدو من ألد أعدائهم، وأشدهم تحريضًا على الإِسلام وأهله. __________ (1) الآية الكريمة: 186 من سورة آل عمران. (2) الآية الكريمة: 109 من سورة البقرة. (3) أخرجه أبو داود في الخراج والإمارة والفيء (3000)، والهيثمي في المجمع: 6/ 195 - 196، وقال رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، فتح الباري: 7/ 337، وعزاه إلى أبي داود والترمذي.

(1/201)


 الفصل الرابع غزوة أُحد

 المبحث الأول: أحداث ما قبل المعركة

1 - تاريخ الغزوة: 310 - من طريق محمَّد بن إسحاق قال: (وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة حين صلى الجمعة، فأصبح بالشعب من أحد، فالتقوا يوم السبت في النصف من شوال" (1). 2 - مشاورة النبي للصحابة للخروج وإخبارهم عن رؤياه: 311 - من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (رأيت كأني في درع حصينة، ورأيت بقرًا منحرة، فأولت أن الدرع الحصينة المدينة، وأن البقر هو الله خير) قال: فقال لأصحابه: (لو أنا أقمنا بالمدينة فإن دخلوا علينا فيها قاتلناهم؟ فقالوا: يا رسول الله، والله ما دخل علينا فيها في الجاهلية، فكيف يدخل علينا فيها في الإِسلام؟ قال عفان في حديثه: فقال: (شأنكم إذًا)، قال: فلبس لأمته قال: فقالت الأنصار رددنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءوا فقالوا: يا نبي الله شأنك إذًا فقال: (إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل) (2). 312 - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "تنفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيفه ذا الفقار يوم بدر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد، فقال: (رأيت في سيفي ذي الفقار فلًا، فأولته فلًا يكون فيكم "أي انهزامًا" ورأيت أني مردف __________ (1) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 124، رواه الطبراني ورجاله ثقات. * البقر المذبوحة: يعني استشهاد أصحابه - صلى الله عليه وسلم -. (2) أخرجه أحمد في المسند: 3/ 351، الدارمي: 2/ 129 - 130، وعلق البخاري بعضه فتح الباري: 13/ 284، وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 107، رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح وقد جاء من مرسل عروة عند عبد الرزاق في المصنف:5/ 364 ومن مرسل الزهري وموسى بن عقبة في دلائل النبوة للبيهقي: 3/ 208. * ذا الفقار: سمي بذلك لأنه كانت فيه حفر حسان صغار، والسيف المفقر الذي فيه حزوز مطمئنة عن متنه. الفل: الثلم في السيف.

(1/202)


كبشًا، فأولته كبش الكتيبة، ورأيت أني في درع حصينة، فأولتها المدينة، ورأيت بقرًا تذبح، فَبَقرٌ والله خير، فَبَقرٌ والله خير) فكان الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (1). 313 - ومن حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (رأيت في رؤياي أني هززت سيفًا فانقطع صدره، فهذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء به الله من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت فيها بقرًا والله خير، فإذا هم المؤمنون يوم أحد) (2). 3 - مظاهرة النبي بين درعين وأخذه بالأسباب: 314 - من حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد أخذ درعين كأنه ظاهر بينهما" (3). 315 - ومن حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ذهب لينهض إلى الصخرة وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ظاهر بين درعين فلم يستطع أن ينهض ... وذكر الحديث" (4). 316 - وقد جاء أيضًا من طريق رجل من بني تيم يقال له معاذ: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظاهر يوم أحد بين درعين" (5). __________ (1) أخرجه الترمذي كتاب السير في النفل ضمن حديث رقم: 1561، وقال حديث حسن غريب، وابن ماجه في الجهاد باب السلاح رقم: 2808، وأحمد في المسند: 1/ 271، والحاكم: 28/ 128 - 221 وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي كما في البداية والنهاية: 4/ 11، بسند حسن، وقال الساعاتي في الفتح الرباني: 17/ 221: وسنده صحيح. (2) أخرجه البخاري في المغازي باب من قتل من المسلمين يوم أحد حديث رقم: 4081، ومسلم في كتاب الرؤيا باب رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث رقم: 2272، وابن ماجه في سننه كتاب تعبير الرؤيا باب تعبير الرؤيا حديث رقم: 3921، وقد أورده البخاري مقطعًا أيضًا: في كتاب المناقب -باب علامات النبوة، والتعبير باب إذا رأى بقرًا تنحر، وأخرجه الدارمي: 2/ 129، كتاب الرؤيا باب رؤية الرب، والبيهقي في الدلائل: 3/ 203. * ظاهر: لبسهما فوق بعضهما. (3) أخرجه أبو داود في الجهاد باب لبس الدرع رقم: 2590، وابن ماجه في الجهاد باب في السلاح رقم: 2806 وقال البوصيري في الزوائد وإسناده صحيح على شرط البخاري، قلت: ورجال ابن ماجه كلهم ثقات. (4) أخرجه الحاكم في المستدرك: 3/ 25، وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي والبيهقي في سننه: 9/ 46. (5) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 108، رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح.

(1/203)


4 - رجوع المنافقين وانخذالهم من أول الطريق: 317 - من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: "لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة أحد رجع ناس ممن خرج معه، وكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فرقتين، فرقة تقول نقاتلهم، وفرقة تقول: لا نقاتلهم. فنزلت {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} وقال: (إنها طيْبَةٌ تنفي الذنوب، كما تنفي النار خبث الفضة) (1). 318 - من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "نزلت هذه الآية فينا {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} (2) بني سلمة وبني حارثة وما أحب أنها لم تنزل والله يقول {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} " (3). 319 - وقد جاء من طريق ابن إسحاق قال: حدثني الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة، وحصين بن عبد الرحمن ... فذكر حديث الرؤيا حتى قال: "حتى خرج في ألف من أصحابه حتى إذا كانوا بالشوط بين المدينة وأحد، انخذل عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس وقال: أطاعهم وعصاني، ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس! فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام يقول: "يا قوم، أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم عند من حضر من عدوهم، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال، قال: فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف: قال: أبعدكم الله، أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه" (4). 5 - إعادة الكتيبة اليهودية التي خرجت لمساعدة المسلمين: 320 - من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد حتى إذا خلف ثنية الوداع نظر وراءه فإذا كتيبة خشناء (5) (قال: من __________ (1) أخرجه البخاري في المغازى باب غزوة أحد رقم: 4050، ومسلم في صحيحه كتاب صفات المنافقين وأحكامهم حديث رقم: 2776، والترمذي: 4/ 89، وقال حسن صحيح، وأحمد: 5/ 184 - 187. (2) سورة آل عمران: 22. (3) أخرجه البخاري في المغازي باب إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا رقم: 4051، مسلم في فضائل الصحابة باب فضائل الأنصار رقم: 2505. (4) ابن هشام: 2/ 60 - 64 وسنده حسن وهو مرسل. (5) خشناء كثيرة السلاح خشنة.

(1/204)


هذا؟ قال: هو عبد الله بن أبي بن سلول في مواليه من اليهود من بني قينقاع وهم رهط عبد الله بن سلام فقال: أوقد أسلموا؟ فقال: إنهم على دينهم قال: قل لهم فليرجعوا، فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين) (1). 6 - التنافس في الخروج بين صغار الشباب: استعرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - الشباب يوم خروجه إلى أحد، فرد من استصغره منهم مثل ابن عمر والبراء وغيرهما، وأجاز من رآه مطيقًا منهم مثل رافع بن خديج وسمرة ابن جندب، وقيل إنما أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجاز لإطاقته، ورد من رد لعدم إطاقته، والصحيح أنه أجاز من أجاز لبلوغه بالسن خمس عشرة سنة، ورد من رد لصغره عن سن البلوغ. 321 - من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرضني يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني وعرضني يوم الخندق وأنا ابن خمسة عشرة سنة فأجازني" (2). 7 - وضع الرماة على الجبل: 322 - من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "لقينا المشركين يومئذ، وأجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - جيشًا من الرماة، وأمر عليهم عبد الله وقال: (لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا)، فلما لقينا هربوا، حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن، فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة فقال: عبد الله عهد إليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا تبرحوا، فأبوا، فلما أبوا صرف وجوههم ... فذكر الحديث" وسيأتي بقيته في مواطن أخرى يشار إليها هناك. وقد جاء في لفظ أبي داود عنه "جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الرماة يوم أحد -وكانوا خمسين رجلًا- عبد الله بن جبير قال: ووضعهم موضعًا، وقال: (إن __________ (1) المطالب العالية: 4319، وعزاء الحافظ ابن حجر لإسحاق بن راهويه وحسن إسناده، وقال البوصيري: رواه إسحاق بإسناد حسن. (2) أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة الخندق رقم: 4097، مسلم في الإمارة باب بيان سن البلوغ رقم: 1868، أبو داود في سننه رقم: 2957، 4406، الترمذي رقم: 1711، 1361، ابن ماجه رقم: 2543، النسائي: 6/ 155 - 156، أحمد في المسند: 2/ 17، الطحاوي في شرح معاني الآثار: 2/ 125.

(1/205)


رأيتمونا تخطفنا الطير، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم) (1). 8 - من يأخذ هذا السيف بحقه: 323 - من حديث أنس رضي الله عنه قال: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ سيفًا يوم أحد، فقال: (من يأخذ مني هذا السيف بحقه؟) فبسطوا أيديهم كل إنسان فيهم يقول: أنا أنا، فقال: (من يأخذه بحقه؟) فأحجم القوم فقال له سماك أبو دجانة: أنا آخذه بحقه، قال فأخذه ففلق به هام المشركين" (2). 324 - وقد جاء من حديث الزبير رضي الله عنه قال: عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيفًا يوم أحد فقال: (من يأخذ هذا السيف بحقه؟) فقمت فقلت: أنا يا رسول الله، فأعرض عني، ثم قال: (من يأخذ هذا السيف بحقه؟) فقمت فقلت: أنا يا رسول الله فأعرض عني ثم قال: من يأخذ هذا السيف بحقه، فقام أبو دجانة سماك بن خرشة فقال: أنا آخذه يا رسول الله بحقه؟ قال: (ألا تقتل به مسلمًا ولا تغربه عن كافر)، قال: فدفعه إليه وكان إذا أراد القتال أعلمَ بعصابة، قال: "لأنظرن إليه اليوم كيف يصنع، قال: فجعل لا يرتفع له شيء إلا هتكه وأفراه، حتى انتهى إلى نسوة في سفح جبل معهن دفوف لهن، فيهن امرأة وهي تقول: نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق إن تقبلوا نعانق ... ونبسط النمارق إن تدبروا نفارق ... فراق غير وامق قال: فأهوى بالسيف إلى امرأة ليضربها، ثم كف عنها، فلما انكشف القتال قلت له: كل عملك قد رأيت ما خلا رفعك السيف على المرأة، ثم لم تضربها، قال: أي والله أكرمت سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقتل به امرأة" (3). __________ (1) أخرجه البخاري في المغازي غزوة أحد رقم: 4043، أحمد: 4/ 293 - 294، وأبو داود في الجهاد في الكمناء رقم: 2662، والبيهقي في الدلائل: 2293 - 230 وقد جاء نحوه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أحمد: 1/ 287 - 288، والحاكم: 2/ 296، 297، وصححه ووافقه الذهبي. (2) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة باب فضائل أبي دجانة حديث رقم: 2470، أحمد في المسند: 3/ 123 والحاكم في المستدرك: 3/ 230، وابن سعد في الطبقات: 3/ 556، والبيهقي في الدلائل: 3/ 232 - 233. (3) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة: 3/ 233، والبزار انظر كشف الأستار رقم: 1787، وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 109 رواه البزار، ورجاله ثقات.

(1/206)


 المبحث الثاني: مشاهد من المعركة

1 - هزيمة المشركين في بداية المعركة: 325 - من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: "والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه، وخلوا ظهورنا للخيل، فأتينا من خلفنا، وصرخ صارخ ألا إن محمَّد قتل، فانكفأنا، وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء، حتى ما يدنوا منه أحد من القوم" (1). وقد جاء بزيادة في رواية إسحاق بن راهوية عن الزبير فقال: "والله إني لأنظر يومئذ إلى خدم النساء مشمرات يسعين حين انهزم القوم، وما أرى دون أخذهن شيئًا، وإن لنحسبهم قتلى ما يرجع إلينا منهم أحد، ولقد أصيب أصحاب اللواء، وصبروا عنده حتى صار إلى عبد لهم حبشي يقال له (صواب)، ثم قتل صواب، فطرح اللواء فلم يقربه أحد من خلق الله، حتى وثبت إليه عمرة بنت علقمة الحارثية، فرفعته لهم، وثاب إليه الناس، قال: الزبير: فوالله إنا لكذلك قد علوناهم وظهرنا عليهم، إذ خالفت الرماة عن أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فجعلوا يأخذون الأمتعة، فأتتنا الخيل فحطمتنا، وكر الناس منهزمين، فصرخ صارخ يرون أنه الشيطان: ألا إن محمدًا قد قتل. فأعظم الناس وركب بعضهم بعضًا فصاروا أثلاثًا: ثلثًا جريحًا، وثلثًا مقتولًا، وثلثًا منهزمًا، قد بلغت الحرب، وقد كانت الرماة اختلفوا فيما بينهم، فقالت طائفة: روا الناس وقعوا في الغنائم، وقد هزم الله المشركين وأخذ المسلمون الغنائم، فماذا تنتظرون؟ وقالت طائفة: قد تقدم إليكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونهاكم أن تفارقوا مكانكم إن كانت عليه أوله، فتنازعوا في ذلك، ثم إن الطائفة الأولى من الرماة أبت أن تلحق بالعسكر، فتفرق القوم، وتركوا مكانهم، فعند ذلك حملت خيل المشركين" (2). __________ (1) أخرجه ابن إسحاق بإسناد صحيح انظر سيرة ابن هشام: 2/ 77، والبيهقي في الدلائل: 3/ 228، والطبري في تاريخه: 2/ 513 عن طريق ابن إسحاق به. * خدم: الخلاخيل روا: فعل أمر من رأى أي انظروا. (2) أخرجه إسحاق بن راهويه كما في المطالب العالية رقم: 4313، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله هذا إسناد صحيح له شاهد من حديث البراء في الصحيح.

(1/207)


2 - استشهاد حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله: 326 - من حديث وحشي بن حرب الذي رواه عنه: جعفر بن عمرو بن أمية الضمْري قال: خرجت مع عبيد الله بن عدي بن الخيار إلى الشام فلما قدمنا حمص قال لي عبيد الله: هل لك في وحشي نسأله عن قتل حمزة؟ قلت: نعم، وكان وحشي يسكن حمص، قال: فسألنا عنه فقيل لنا: هو ذاك في ظل قصره كأنه حميت. قال: فجئنا حتى وقفنا عليه بيسير، فسلمنا، فرد السلام، قال: وعبيد الله معتجر بعمامته ما يرى وحشي إلا عينيه ورجليه، فقال عبيد الله: يا وحشي أتعرفني؟ قال: فنظر إليه ثم قال: لا والله، إني أعلم أن عدي بن الخيار تزوج امرأة يقال لها أم قتال بنت أبي العيص، فولدت له غلامًا بمكة فكنت أسترضع له، فحملت ذلك الغلام مع أمه فناولتها إياه فلكأني أنظر إلى قدميك، قال: فكشف عبيد الله عن وجهه ثم قال: ألا تخبرنا بقتل حمزة؟ قال: نعم؟ إن حمزة قتل طعيمة بن عدي بن الخيار، فقال لي مولاي جبير ابن مطعم، إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر، قال: فلما أن خرج الناس عام عينين -وعينين جبل بحيال أحد- وبينه وبينه واد -خرجت مع الناس إلى القتال. فلما اصطفوا للقتال خرج سباع فقال: هل من مبارز؟ قال: فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فقال: يا سباع يا ابن أم أنمار مقطعة البظور، أتحاد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - قال: ثم شد عليه، فكان كأمس الذاهب. قال: وكمنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا مني رميته بحربتي فأضعها في ثنته حتى خرجت من بين وركيه، قال: فكان ذاك العهد به، فلما رجع الناس رجعت معهم، فأقمت بمكة حتى فشا فيها الإِسلام، ثم خرجت إلى الطائف، فأرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسلًا، فقيل لي: إنه لا يهيج الرسل، قال: فخرجت معهم حتى قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رآني قال: (أنت وحشي)، قلت: نعم، قال: (أنت قتلت حمزة؟) قلت: قد كان من الأمر ما بلغك. قال: (فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني؟). قال: فخرجت، فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج مسيلمة الكذاب، قلت: لأخرجن إلى مسيلمة لعلي أقتله فأكافئ به حمزة، قال: فخرجت مع الناس،

(1/208)


فكان من أمره ما كان، قال: فهذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق ثائر الرأس، قال فرميته بحربتي، فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه، قال: ووثب رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته" (1). قال: قال عبد الله بن الفضل، فأخبرني سليمان بن يسار أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: "فقالت جارية على ظهر بيت، أمير المؤمنين قتله العبد الأسود". سؤال النبي عمن رأى مقتل حمزة: 327 - من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه قال: "أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال يوم أحد: (من رأى مقتل حمزة؟) فقال رجل أعزل: أنا رأيت مقتله، قال: (فانطلق أرناه) فخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم - حتى وقف على حمزة، فرآه وقد شق بطنه، وقد مثل به، فقال: يا رسول الله، مثل به والله، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينظر إليه، ووقف بين ظهراني القتلى فقال: (أنا شهيد على هؤلاء، كفنوهم في دمائهم فإنه ليس جرح يجرح في الله إلا جاء يوم القيامة يدمى، لونه لون الدم، وريحه ريح المسك، قدموا أكثرهم قرآنًا فاجعلوه في اللحد) (2). تألم النبي - صلى الله عليه وسلم - لمقتل حمزة: 328 - من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "لما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل حمزة بكى فلما نظر إليه شهق" (3). __________ (1) أخرجه البخاري في المغازي باب قتل حمزة بن عبد المطلب رقم: 4072، وأحمد في المسند: 3/ 501، ودلائل النبوة للبيهقي: 3/ 241 أو الطبري في تاريخه مختصرًا: 2/ 516 - 517. (2) المطالب العالية رقم: 4325، ونسبه إلى أبي بكر من أبي شيبة، وقال البوصيري فيه: رواته ثقات كما في التعليق عليه، وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 119، رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح - ومقطع الحديث (أنا شهيد على هؤلاء) أخرجه البخاري في المغازي باب من قتل من المسلمين بأحد: 4079 وأبو داود في الجنائز باب في الشهيد يغسل: 3138 الترمذي في الجنائز باب ترك الصلاة على الشهيد: 1036، والنسائي في الجنائز باب ترك الصلاة عليهم: 3/ 62، وابن ماجه في الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على الشهداء: 1514، من حديث جابر به. (3) كشف الأستار: 1794، وقال الهيثمي: 6/ 118، رواه البزار وفيه عبد الله بن محمَّد ابن عقيل وهو حسن الحديث على ضعفه.

(1/209)


تكفين حمزة رضي الله عنه: 329 - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قتل حمزة يوم أحد وقتل رجل من الأنصار، فجاءته صفية بنت عبد المطلب بثوبين ليكفن فيهما حمزة، فلم يكن للأنصاري كفن فأسهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الثوبين، ثم كفن كل واحد منهما في ثوب" (1). 330 - من حديث أبي أسيد الساعدي رضي الله عنه قال: "أنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قبر حمزة بن عبد المطلب، فجعلوا يجرون النمرة (2) على وجهه فينكشف قدماه، ويجرونها على قدميه فينكشف وجهه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اجعلوها على وجهه واجعلوا على قدميه من هذا الشجر) قال فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه فإذا أصحابه يبكون فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يأتي على الناس زمان يخرجون إلى الأرياف والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يصبر على لأوائها (3) وشدتها أحد إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة) (4). صبر صفية: 331 - من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: "إنه لما كان يوم أحد أقبلت امرأة تسعى حتى كادت أن تشرف على القتلى، قال فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تراهم فقال: المرأة المرأة. قال الزبير فتوسمت أنها صفية قال: فخرجت أسعى إليها، قال فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى. قال: فلدمت في صدري وكانت امرأة جلدة، قالت: إليك عني لا أرض لك، فقلت، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عزم عليك. __________ (1) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 120، رواه الطبراني ورجاله ثقات، انظر الطبراني في المعجم الكبير: 12152. * النمرة الثوب المخطط من مآزر الأعراب. (2) لدمت: ضربت ودفعت. (3) لأوائها: شدتها وضيق المعيشة فيها. (4) المطالب العالية رقم: 4322، وعزاه إلى أبي بكر بن أبي شيبة وسكت عنه البوصيري وقال في المجمع: 6/ 119 رواه الطبراني ورجاله ثقات.

(1/210)


قال: فوقفت وأخرجت ثوبين معها فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة فقد بلغني مقتله، فكفنوه فيهما قال فجئنا بالثوبين لنكفن فيهما حمزة فإذا إلى جنبه رجل من الأنصار قتيل فعل به كما فعل بحمزة، قال: فوجدنا غضاضة وخنى أن يكفن حمزة في ثوبين والأنصاري لا كفن له، فقلنا لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب، فقدرناهما فكان أحدهما أكبر من الآخر فأقرعنا بينهما، فكفنا كل واحد منهما في الثوب الذي طار له" (1). 332 - من حديث ابن عمر وأنس بن مالك رضي الله عنهم قالا: "لما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحد سمع نساء الأنصار يبكين فقال: (لكن حمزة لا بواكي له) فبلغ ذلك نساء الأنصار فبكين حمزة فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم استيقظ وهن يبكين فقال: (يا ويحهن ما زلن يبكين منذ اليوم فليبكين، ولا يبكين على هالك بعد اليوم) (2). 333 - من حديث وحشي قال: (أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: (وحشي) قلت: نعم، قال: (قتلت حمزة؟)، قلت: نعم، والحمد لله الذي أكرمه بيدي ولم يهني بيده، فقالت له قريش: أتحبه وهو قاتل حمزة؟ فقلت: يا رسول الله فاستغفر لي، فتفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأرض ثلاثة، ودفع في صدري ثلاثة وقال: (وحشي أخرج فقاتل في سبيل الله كما قاتلت لتصد عن سبيل الله) (3). __________ (1) أخرجه أحمد في المسند: 1/ 165، والبزار كما في كشف الأستار رقم: 1797 وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 118: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، وفيه عبد الرحمن بن أبي الزناد وهو ضعيف وقد وثق" وأخرجه البيهقي في السنن: 4/ 401 - 402، وفي الدلائل: 3/ 290 وأبو يعلى الموصلي رقم: 686، وإسناد هذا الحديث حسن فابن أبي الزناد قال ابن معين فيه: أثبت الناس في هشام بن عروة، وقال ابن المديني: ما حدث بالمدينة فصحيح وما حدث ببغداد أفسده البغداديون. تهذيب التهذيب: 6/ 171 - 172. (2) أخرجه ابن ماجه في الجنائز باب ما جاء في البكاء على الميت: 1591، وأحمد في المسند انظر الفتح الرباني: 7/ 106 - 107 وقال الساعاتي سنده جيد قال الهيثمي في المجمع: 6/ 120 رواه أبو يعلى بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح قلت: وإسناد ابن ماجه على شرط مسلم. (3) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 121: رواه الطبراني وإسناده حسن، انظر الطبراني في الكبير: 22/ 139 رقم: 370.

(1/211)


3 - أنس بن النضر وشجاعته: 334 - من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "عَمَّي الذي سميت به (1) لم يشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدرًا. قال: فشق عليه. قال: أول مشهد شهده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غُيبت عنه، وإن أراني الله مشهدًا، فيما بعد، مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليراني الله ما أصنع، قال: فهاب أن يقول غيرها (2). قال: فشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد قال: فاستقبل سعد بن معاذ فقال له: يا أبا عمرو أين؟ واهًا لريح الجنة أجده دون أحد. فقاتلهم حتى قتل. قال: فوجد في جسمه بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية، قال: فقالت أخته عمتي الربيع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه، ونزلت هذه الآية {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (3). فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه" وهذا لفظ مسلم (4). وفي لفظ البخاري زيادة أذكرها للفائدة: "فلقي يوم أحد فهزم الناس فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به المشركون -فتقدم بسيفه، فلقي سعد بن معاذ فقال: أين يا سعد؟ إني أجد ريح الجنة دون أحد فمضى فقتل، فما عرف حتى عرفته أخته بشامة -أو ببنانه- وبه بضع وثمانون: من طعنة وضربة ورمية بسهم". 335 - ومن طريق ابن إسحاق قال: وحدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أخو بني عدي بن النجار: "قال انتهى أنس بن النضر، عم أنس بن مالك، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله، في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، فقال ما يجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم استقبل القوم، فقاتل حتى قتل) (5). __________ (1) عمي الذي سميت به: أي بإسمه وهو أنس بن النضر. (2) مخافة أن يقول شيئًا يعجز عن فعله. (3) الأحزاب آية: 23. (4) أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة أحد رقم: 4048، مسلم في الإمارة باب ثبوت الجنة للشهيد رقم: 1903، الترمذي رقم: 3198، 3199، وقال حسن صحيح، وأحمد في المسند: 3/ 194، 201، 253، والطيالسي: 2/ 22، وأبو نعيم في الحلية: 1/ 121، ابن جرير الطبري في التفسير: 21/ 147، وابن كثير في التفسير: 3/ 475. (5) أخرجه ابن هشام في السيرة: 2/ 83، وصرح ابن إسحاق بالتحديث، والقاسم بن عبد الرحمن ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 7/ 13، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، وأخرجه الطبري في تاريخه: 2/ 517 والبيهقي في الدلائل: 3/ 245 من طريق ابن إسحاق به.

(1/212)


4 - أبو عامر الفاسق وتحريضه على المسلمين يوم أحد: 336 - من طريق ابن إسحاق قال: وحدثني عاصم بن قتادة: "أن أبا عامر، عبد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان، أحد بني ضبيعة، وقد كان خرج حين خرج إلى مكة مباعدًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، معه خمسون غلامًا من الأوس، وبعض الناس كان يقول: كانوا خمسة عشرة رجلًا، وكان يعد قريشًا أن لو قد لقي قومه لم يختلف عليه منهم رجلان، فلما التقى الناس كان أول من لقيهم أبو عامر في الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى: يا معشر الأوس أنا أبو عامر، قالوا: فلا أنعم الله بك عينًا يا فاسق -وكان أبو عامر يسمى في الجاهلية: الراهب، فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الفاسق- فلما سمع ردهم عليه، قال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتلهم قتالًا شديدًا، ثم راضخهم بالحجارة (1). 5 - رجل يستطيل حياته: 337 - من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رجل يوم أحد: يا رسول الله إن قتلت فأين أنا؟ قال: (في الجنة)، فألقى ثمرات في يده وقاتل حتى قتل (2). قال الحافظ في الفتح "وزعم ابن بشكوال أنه عمير بن الحمام، وسبقه إلى ذلك الخطيب، واحتج بما أخرجه مسلم من حديث أنس (أن عمير بن الحمام أخرج ثمرات فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل ثمراتي هذه إنها لحياة طويلة، ثم قاتل حتى قتل. قلت: لكن وقع التصريح في حديث أنس أن ذلك كان يوم بدر، والقصة التي في الباب وقع التصريح في حديث جابر أنها كانت يوم أحد، فالذي يظهر أنهما قصتان وقعتا لرجلين، والله أعلم، وفيه (الحديث) ما كان عليه الصحابة من حب نصر الإِسلام، والرغبة في الشهادة ابتغاء مرضاة الله" (3). __________ (1) أخرجه ابن هشام: 2/ 67 والطبري في تاريخه: 2/ 512 وسنده حسن ورجاله ثقات، وصرح ابن إسحاق بالتحديث والحديث مرسل. (2) أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة أحد رقم: 4046، مسلم في الإمارة باب ثبوت الجنة للشهيد رقم: 1899، النسائي في الجهاد باب ثواب من قتل في سبيل الله عَزَّ وَجَلَّ: 6/ 33، أحمد في المسند: 3/ 308، الحميدي برقم: 1249، دلائل النبوة للبيهقي: 3/ 243. (3) فتح الباري: 7/ 354.

(1/213)


6 - كافر تصيبه دعوته: 338 - من حديث بريدة رضي الله عنه قال: "أن رجلًا قال يوم أحد اللهم إن كان محمدًا على الحق فاخسف بي قال فخسف به" (1). 7 - حنظلة الغسيل: 339 - من حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عند قتل حنظلة بن أبي عامر بعد أن التقى هو وأبو سفيان حين علاه شداد بن الأسود بالسيف فقتله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن صاحبكم تغسله الملائكة فسألوا صاحبته) فقالت: إنه خرج لما سمع الهائعة وهو جنب فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لذلك غسلته الملائكة) (2). 340 - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أصيب حمزة بن عبد المطلب، وحنظلة بن الراهب، وهما جنب فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (رأيت الملائكة تغسلهما) (3). 8 - جرح الرسول عليه الصلاة والسلام يوم أحد: 341 - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اشتد غضب الله على قوم فعلوا بنبيهم -يشير إلى رباعيته-، اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (4). 342 - من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: "حين سئل عن جرح الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد -جرح وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكسرت رباعيته، __________ (1) كشف الأستار عن زوائد البزار رقم: 1799، وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 122، رواه البزار ورجاله رجال الصحيح. (2) أخرجه الحاكم: 3/ 204 - 205 وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، والبيهقي: 4/ 15 من حديث ابن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده وسنده صحيح ورواه الطبراني في الكبير وفي لفظه اختلاف انظر مجمع الزوائد: 3/ 23، وقال الهيثمي: وإسناده حسن، وله شاهد من حديث ابن عباس يأتي بعد. (3) قال الهيثمي في المجمع: 3/ 23، رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن. (4) أخرجه البخاري في المغازي باب ما أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجراح يوم أحد رقم: 4073، مسلم في الجهاد والسير باب اشتداد غضب الله تعالي على من قتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقم: 1793، وأحمد في المسند: 2/ 255.

(1/214)


وهشمت البيضة على رأسه، فكانت فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تغسل الدم، وكان علي بن أبي طالب يسكب عليها بالمجن، فلما رأت فاطمة الماء لا يزيد الدم إلا كثرة، أخذت قطعة من حصير فأحرقته حتى صار رمادًا ثم ألصقته بالجرح، فاستمسك الدم" اللفظ لمسلم (1). 343 - من حديث أنس رضي الله عنه قال: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كسرت رباعيته يوم أحد وشج في رأسه، فجعل يسلت الدم عنه ويقول: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله) فأنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- (ليس لك من الأمر شيء) (2) (3). وقد جاء أيضًا من حديث ابن عباس عند البخاري رقم: (4074، 4076)، وابن عمر رحمهما الله تعالى عند البخاري رقم: (4069، 4070). حال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يمسح الدم 344 - من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبيًّا من الأنبياء ضربه قومه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: (رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) (4). 9 - شهيد لم يصل لله ركعة: 345 - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "إن عمرو بن أقيش كان له ربًا في الجاهلية، فكره أن يسلم حتى يأخذه فجاء يوم أحد، فقال: أين بنو __________ (1) أخرجه البخاري في المغازي باب ما أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجراح يوم أحد رقم: 4075، مسلم في الجهاد والسيرة غزوة أحد رقم: 1790، وأحمد في المسند: 5/ 330، 534، ابن ماجه في سننه كتاب الطب باب دواء الجراحة رقم: 3464. (2) آل عمران: 128. (3) أخرجه البخاري في المغازي باب ليس لك من الأمر شيء في ترجمة الباب معلقًا فتح الباري: 7/ 365، مسلم في الجهاد والسير باب غزوة أحد رقم: 1791، والترمذي في كتاب التفسير باب ومن سورة آل عمران رقم: 3001، 3002 وقال حديث حسن صحيح، وابن ماجه برقم: 4027، وأحمد في المسند: 3/ 99، 178، 201، 206، 253، 288. (4) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء باب 54، باب حديث بينما امرأة ترضع ابنها إذ مر بها راكب رقم: 3477، مسلم في الجهاد باب غزوة أحد رقم: 1792، ابن ماجه في الفتن باب الصبر على البلاء رقم: 4025.

(1/215)


عمي؟ قالوا: بأحد قال: أين فلان قالوا: بأحد، قال: أين فلان؟ قالوا: بأحد. فلبس لأمته وركب فرسه، ثم توجه قبلهم فلما رآه المسلمون قالوا: إليك عنا يا عمرو، قال: إني قد آمنت، فقاتل حتى جرح، فحمل إلى أهله جريحًا، فجاء سعد بن معاذ، فقال لأخته: سليه حمية لقومك، أو غضبًا لهم، أم غضبًا منه عَزَّ وَجَلَّ، قال: بل غضبًا لله -عَزَّ وَجَلَّ- ورسوله، فمات فدخل الجنة وما صلى لله صلاة" (1). 10 - مقتل اليمان والد حذيفة على يد المسلمين خطأ: 346 - من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "لما كان يوم أحد هزم المسلمون، فصرخ إبليس لعنة الله عليه: أي عباد الله، أخراكم، فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان فقال: أي عباد الله أبي أبي. قال: قالت: فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم، قال عروة: فوالله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله" (2). وقد جاء زيادة عند ابن هشام عن ابن إسحاق قال حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد فقال حذيفة: (قتلتم أبي! قتلتم أبي! قالوا: والله ما عرفناه وصدقوا، فقال حذيفة: يغفر الله لكم فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يديه، فتصدق حذيفة بديته على المسلمين، فزاده ذلك عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرًا) (3). 11 - عبد الله بن جحش وسعد ودعوتان مستجابتان: 347 - من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (أن عبد الله بن جحش قال له يوم أحد ألا تدعو الله، فخلوا في ناحية فدعا سعد فقال: يا رب إذا لقيت __________ (1) أخرجه أبو داود في الجهاد باب فيمن يسلم ويقتل مكانه في سبيل الله عَزَّ وَجَلَّ رقم: 2537، وأحمد في المسند 5/ 428 - 429 والبيهقي في الدلائل: 3/ 247 - 248وابن هشام: 2/ 90، وسنده حسن، وقد رواه أحمد وابن هشام بسند آخر عن أبي هريرة عن ابن إسحاق قال حدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ عن أبي سفيان مولى أبي أحمد عن أبي هريرة هذا السند رجاله ثقات، وقال الحافظ في الإصابة: 2/ 519: هذا إسناد حسن. (2) أخرجه البخاري في المغازي باب إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا رقم: 4065، وفي المناقب الأنصار باب ذكر حذيفة بن اليمان رقم: 3724، ابن سعد: 2/ 45، والحاكم في المستدرك: 3/ 379: والبيهقي في الدلائل: 3/ 230 - 231. (3) أخرجه ابن هشام: 2/ 87 - 88 والطبري في تاريخه: 2/ 530 من طريق ابن إسحاق، وسنده حسن رجاله ثقات، وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث فسنده متصل.

(1/216)


العدو، فلقيني رجلًا شديدًا بأسه، شديدًا حرده، أقاتله ويقاتلني، ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله، وآخذ سلبه، فأمن عبد الله بن جحش، ثم قال: اللهم ارزقني رجلًا شديدًا حرده، شديدًا بأسه، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدًا، قلت: من جدع أنفك وأذنك، فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول صدقت: قال سعد: يا بني كانت دعوة عبد الله بن جحش خيرًا من دعوتي، لقد رأيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقان في خيط (1). 12 - عمرو بن الجموح ورجاؤه أن يطأ في الجنة بعرجته: 348 - من حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال: (أتى عمرو بن الجموح إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟ وكانت رجله عرجاء، فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (نعم)، فقتلوا يوم أحد هو وابن أخيه ومولى لهم، فمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة) فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهما وبمولاهما فجعلوا في قبر واحد" (2). وقد جاء بلفظ آخر من طريق ابن إسحاق قال: وحدثني أبي إسحاق بن يسار عن أشياخ من بني سلمة: أن عمرو بن الجموح كان رجلًا أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأسد يشهدون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشاهد، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه، وقالوا له: إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قد عذرك، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فقال: إن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما أنت فقد عذرك الله؛ فلا جهاد عليك) وقال لبنيه: (ما عليكم أن لا تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة) فخرج معه فقتل يوم أحد" (3). __________ (1) أخرجه الحاكم: 3/ 199 - 2، وقال صحيح على شرطهما لولا إرساله، ووافقه الذهبي وقال: صحيح مرسل وابن سعد: 3/ 63، وقال الهيثمي في المجمع: 9/ 301 - 302: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، وله شواهد متصلة من طريق إسحاق بن سعد بن أبي وقاص كما في الإصابة ترجمة رقم: 4583، والبيهقي في السنن الكبرى: 6/ 307 - 308 موصولًا من حديث إسحاق بن سعد. (2) أخرجه أحمد في المسند: 5/ 299 وحسن إسناده الحافظ في الفتح، وقال الهيثمي في المجمع: 9/ 315: رجاله رجال الصحبح غير يحيي بن نصر الأنصاري وهو ثقة. (3) أخرجه ابن هشام في السيرة: 2/ 90 - 19 والبيهقي في الدلائل: 3/ 246، وسنده حسن إن كان الأشياخ من الصحابة وإلا فهو مرسل ورجاله ثقات.

(1/217)


13 - سعد بن الربيع ووصيته: 349 - من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد لطلب سعد بن الربيع، وقال لي: (إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف تجدك؟) قال: فجعلت أطوف بين القتلى فأصبته، وهو في آخر رمق وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم فقلت له: يا سعد! إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ عليك السلام ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ قال: على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليك السلام، قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيكم شفر (1) يطرف، قال: وفاضت نفسه رحمه الله" (2). 14 - سعد بن أبي وقاص ودفاعه عن النبي يوم أحد: 350 - من حديث أبي عثمان النهدي قال: "لم يبق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الأيام التي كان يقاتل بها رسول الله غير طلحة وسعد عن حديثهما" (3). 351 - من حديث علي كرم الله وجهه: قال: "ما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع أبويه لأحد إلا لسعد بن مالك، فإني سمعته يقول يوم أحد: (يا سعد ارم فداك أبي وأمي) (4). 352 - من حديث سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "نثل لي النبي - صلى الله عليه وسلم - كنانته يوم أحد فقال: (ارم فداك أبي وأمي) (5). __________ (1) شفر: العين. (2) أخرجه الحاكم في المستدرك: 3/ 201، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي من غير طريق ابن إسحاق، وقد جاء في سيرة ابن هشام: 2/ 94 - 15 والطبري في تاريخه: 2/ 528 والبيهقي في الدلائل:3/ 248، من طريق ابن إسحاق وقال حدثني محمَّد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني أخو بني النجار والإسناد صحيح إلا أنه مرسل، وقد جاء في المطالب العالية رقم: 4317، عن عمرو بن يحيى المازني وعزاه لإسحاق بن راهويه وصحح إسناده البوصيري إلا أنه مرسل وجاء أيضًا من مرسل يحيى بن سعيد أخرجه مالك في الجهاد وباب الترغيب في الجهاد: 2/ 21 بهامش تنوير الحوالك، ومن طريقه أخرجه ابن سعد في الطبقات: 3/ 523 وبهذه الطرق يكون الحديث صحيحًا. (3) أخرجه البخاري في الفضائل: 3723، وفي المغازي باب غزوة أحد رقم: 4060، 4061، ومسلم في الفضائل رقم: 2414. (4) أخرجه البخاري رقم: 2905، وفي المغازي إذ همت طائقان منكم أن تفشلا أرقام: 4058، 4059، وجاء أيضًا برقم: 6184، مسلم في الفضائل رقم: 2411، الترمذي: 3756، وابن ماجه رقم: 129، المقدمة، وأحمد في المسند: 1/ 29، 124، 136، 137. (5) أخرجه البخاري في المغازي باب إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا رقم: 4055. نثل: استخرج ما فيها من السهام. الكنانة: جعبة السهام.

(1/218)


353 - من حديث سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص قال: "جمع لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد أبويه كليهما -يريد حين قال: (فداك أبي وأمي) - وهو يقاتل" (1). 15 - طلحة بن عبيد الله ودفاعه عن رسول الله يوم أحد: 354 - من حديث قيس قال: (رأيت يد طلحة التي وقى بها النبي يوم أحد شلاء" (2). 355 - من حديث جابر رضي الله عنه قال: "لما كان يوم أحد، وولى الناس، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناحية في اثنى عشر رجلًا منهم طلحة، فأدركهم المشركون فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من للقوم؟) قال: طلحة: أنا، قال: (كما أنت)، فقال رجل: أنا، قال: (أنت)، فقاتل حتى قتل، ثم التفت فإذا المشركون، فقال: (من لهم؟) قال طلحة: أنا، قال: (كما أنت)، فقال رجل من الأنصار: أنا، قال: (أنت) فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى بقي مع نبي الله طلحة، فقال: (من للقوم؟) قال: طلحة: أنا، فقاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى قطعت أصابعه، فقال: حسس، فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لو قلت باسم الله، لرفعتك الملائكة والناس ينظرون) ثم رد الله المشركين (3). 356 - من حديث الزبير رضي الله عنه قال: "كان على النبي يوم أحد درعان، فنهض إلى الصخرة فلم يستطع، فقعد طلحة تحته حتى استوى على الصخرة، قال الزبير فسمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (أوجب طلحة) (4). __________ (1) أخرجه البخاري في الفضائل رقم: 3725، وفي المغازي إذ همت طائفان منكم أن تفشلا رقم: 4055، 4056، 4057، ومسلم في الفضائل رقم: 2412، الترمذي: 3755، وابن ماجه رقم: 130 في المقدمة، وأحمد في المسند: 1/ 174 - 180. (2) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة باب مناقب طلحة رقم: 3724، وفي المغازي باب إذ همت طائفان رقم: 4063، وابن ماجه في المقدمة رقم: 128، وأحمد في المسند: 1/ 161. (3) أخرجه النسائي: 6/ 29 - 30 في الجهاد باب ما يقول من يطعنه العدو، ورجاله ثقات كما قال الذهبي وأخرج الحاكم معنا: 3/ 369. (4) أخرجه الترمذي في الجهاد باب ما جاء في الدرع: 1692، وفي المناقب باب مناقب طلحة رقم: 3739، وقال حسن غريب، وأحمد: 1/ 165، وصححه الحاكم: 3/ 374، ووافقه الذهبي وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث في رواية أحمد، فزالت شبهته تدليسه فالحديث بذلك صحيح والله أعلم.

(1/219)


16 - أبو طلحة الأنصاري ودفاعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: 357 - من حديث أنس رضي الله عنه قال: "لما كان يوم أحد انهزم ناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو طلحة بين يديه مجوبًا عليه بحجفة، وكان راميًا شديد النزع كسر يومئذ قوسين أو ثلاثة، وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل، فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (انثرها لأبي طلحة)، ثم يشرف إلى القوم. فيقول أبو طلحة: يا نبي الله بأبي أنت، لا تشرف ألا يصيبك سهم، نحري دون نحرك" (1). 17 - مصعب بن عمير رضي الله عنه وعدم توفر كفن لدفنه: 358 - من حديث خباب رضي الله عنه قال: "هاجرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نبتغي وجه الله فوقع أجرنا على الله فمنا من مضى بسبيله لم يأكل من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد، ولم يترك إلا نمرة، كنا إذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (غطوا رأسه، واجعلوا على رجليه من الأذخر)، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها" (2). 359 - من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه "أتى بطعام، وكان صائمًا، فقال: قتل مصعب بن عمير، وهو خير مني، كفن في بردة، إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه، وأراه قال: وقتل حمزة وهو خير مني، ثم بسط لنا من الدنيا أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا -وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام" (3). __________ (1) أخرجه البخاري في فضائل الأنصار باب مناقب أبي طلحة رقم: 3811، وفي المغازي باب إذ همت طائفتان أن تفشلا رقم: 4064، مسلم في الجهاد والسير باب غزوة النساء مع الرجال رقم: 1811، وأحمد في المسند: 3/ 105، 256، 286 وعنده قوله أبو طلحة للنبي "إني جلد". (2) أخرجه البخاري في الجنائز باب إذا لم يجد كفنًا إلا ما يوارى رأسه أو قدميه رقم: 1286، في مناقب الأنصار باب هجرة النبي: 3897، 3914، وفي المغازي باب غزوة أحد: 4047، باب من قتل من المسلمين يوم أحد رقم: 4082، وفي الرقاق باب ما يحذر من زهرة الدنيا رقم: 6432، باب فضل الفقر: 6448، مسلم في الجنائز باب كفن الميت رقم: 940، أبو داود: 3155، في الجنائز الترمذي في المناقب: 3852، والنسائي في الجنائز، باب القميص من الكفن: 4/ 28، أحمد في المسند: 5/ 112. (3) أخرجه البخاري في الجنائز باب الكفن من جميع المال رقم: 1274، 1275، وفي المغازي باب غزوة أحد رقم: 4045.

(1/220)


360 - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه، ودعا له، ثم قرأ هذه الآية {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (1). ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي يبده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه" (2). 18 - عبد الله بن عمرو بن حرام وإظلال الملائكة له: 361 - من حديث جابر بن عبد الله قال: "لما قتل أبي يوم أحد، جعلت أكشف عن وجهه وأبكي، وجعل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهوني وهو لا ينهاني وجعلت عمتي تبكيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تبكيه، أو لا تبكيه ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفعتموه" (3). استخراجه وإعادة دفنه بعد ستة أشهر: 362 - من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال أبي: (أرجو أن أكون في أول من يصاب غدًا، فأوصيك ببناتي خيرًا، فأصيب، فدفنته مع آخر، فلم تدعني نفسي حتى استخرجته ودفنته وحده بعد ستة أشهر، فإذا الأرض لم تأكل منه شيئًا إلا بعض شحمة أذنه" (4). تكليم الله تعالى لعبد الله بن حرام كفاحًا: 363 - من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا أخبرك أن الله كلم أباك كفاحًا، فقال: يا عبدي! سلني أعطك، قال: أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانيًا، فقال: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا __________ (1) الأحزاب: 23. (2) أخرجه الحاكم في المستدرك: 3/ 200، وقال هذا حيث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. (3) أخرجه البخاري في الجنائز باب الدخول على الميت بعد الموت رقم: 1244، وفي المغازي باب من قتل من المسلمين يوم أحد رقم: 4080، مسلم في الفضائل باب من فضائل عبد الله بن عمرو بن حرام رقم: 2471، والنسائي في الجنائز باب في البكاء على الميت: 4/ 13، وأحمد في المسند: 3/ 298، 307. (4) أخرجه البخاري في الجنائز باب هل يخرج الميت من القبر وللحد لعلة رقم: 1351، 1352، الحاكم في المستدرك: 3/ 203، وصححه ووافقه الذهبي، وابن سعد: 3/ 2 / 106.

(1/221)


يرجعون. قال: يا رب! فأبلغ من ورائي، فأنزل الله {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (1) (2). 19 - الأنصار السبعة الذين ضحوا بأنفسهم لحماية رسول الله صلى الله عليه وسلم: 364 - من حديث أنس رضي الله عنه قال: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش فلما رهقوه (3)، قال: (من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة)، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضًا، فقال: (من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة) فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك، حتى قتل السبعة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصاحبيه: (ما أنصفنا أصحابنا)) (4). 20 - بطل إلى النار: 365 - من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التقى هو والمشركون فاقتتلوا، فلما مال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عسكره، ومال الآخرون إلى عسكرهم -وفي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه- فقيل: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أما إنه من أهل النار)، فقال رجل من القوم: أنا صاحبه. قال فخرج معه كلما وقف، وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجرح الرجل جرحًا شديدًا، فاستعجل الموت فوضع سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه، فخرج الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: (وما ذاك؟). __________ (1) آل عمران: 169. (2) أخرجه الترمذي في التفسير باب ومن سورة آل عمران رقم: 3013، وقال حديث حسن، وابن ماجه في المقدمة باب ما أنكرت الجهمية رقم: 190، وفي الجهاد باب فضل الشهادة في سبيل الله رقم: 2800، والحاكم في المستدرك: 3/ 204 وصححه ووافقه الذهبي وابن جرير بسند صحيح في التفسير: 4/ 173، وفي التاريخ: 3/ 36. (3) رهقوه: نمشوه وقربوا منه. (4) أخرجه مسلم في صحيحه الجهاد والسير باب غزوة أحد رقم: 1789، وقد جاء من حديث جابر رضي الله عنه في قتال طلحة بن عبد الله برقم: 355، فانظره هناك. رهقوه: غشوه وقربوا منه وأدركوه.

(1/222)


قال: الرجل الذي ذكرت آنفًا من أهل النار فأعظم الناس ذلك. فقلت: أنا لكم به، فخرجت في طلبه، ثم جرح جرحًا شديدًا فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: (إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة) (1). وقد جاء عند ابن هشام في سيرته التصريح بأن هذا الرجل هو قزمان، وأنه قتل نفسه يوم أحد، كما ورد من طريق ابن إسحاق حدثني عاصم بن عمر بن قتادة والإسناد حسن ورجاله ثقات، إلا أنه مرسل وهو يعتد به كشاهد للمتابعة والله أعلم (2). وقال الحافظ في الفتح (جزم ابن الجوزي في مشكلة بأن القصة التي حكاها سهل بن سعد وقعت بأحد، قال: واسم الرجل قزمان الظفري، وكان قد تخلف عن المسلمين يوم أحد فعيره النساء، فخرج حتى صار في الصف الأول، فكان أول من رمى بسهم، ثم صار إلى السيف ففعل العجائب، فلما انكشف المسلمون كسر جفن سيفه وجعل يقول: الموت أحسن من الفرار، فمر به قتادة بن النعمان فقال له: هنيئا لك الشهادة، قال: والله إني ما قاتلت على دين، وإنما قاتلت على حسب قومي، ثم أقلقته الجراحة فقتل نفسه". وعقب الحافظ على ذلك بقوله: "قلت وهذا الذي نقله أخذه من مغازي الواقدي، وهو لا يحتج به إذا انفرد فكيف إذا خالف" (3). قلت: وقد سبق من طريق ابن إسحاق عند ابن هشام التصريح بأنه قزمان وبأنه قتل نفسه يوم أحد، وقول الحافظ لا يعارض ذلك المروي خاصة وأنه مرسل وإسناده ثقات، فالظاهر هو كما قال ابن الجوزي وابن إسحاق إمام أهل السير والله أعلم". __________ (1) أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة خيبر رقم: 4202، ومسلم في الإيمان باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه رقم: 112 - وفي رواية عند مسلم وقع أن الغزوة "حنين" وفي رواية أخرى أبهمت، وأخرجه أحمد في المسند: 4/ 135، وفيه أن الغزوة هي خيبر. (2) ابن هشام في السيرة: 2/ 88. (3) فتح الباري: 7/ 473، في التعليق على حديثه سهل السابق.

(1/223)


21 - تصحيح الشعارات حتى في أحلك المواطن: 366 - من حديث عقبة مولى جبر بن عتيك الأنصاري رضي الله عنه قال: "شهدت أحدًا مع مولاي، فضربت رجلًا من المشركين، فلما قتلته، قلت: خذها مني وأنا الرجل الفارسي، فبلغت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ألا قال: خذها وأنا الرجل الأنصاري، فإن مولى القوم من أنفسهم) " (1). 22 - قتال الملائكة دفاعًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: 367 - من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "رأيت رجلين عن يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويساره يوم أحد عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد" (2). 23 - تغشية النعاس المسلمين يوم أحد: 368 - من حديث أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه قال: "غشينا ونحن في مصافنا يوم أحد، حدَّث أنه فيمن غشيه النعاس يومئذ قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط من يدي فآخذه، والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم أجبن قوم وأرعبه، وأخذله للحق" وهذا اللفظ للترمذي (3). وفي لفظ آخر لأبي طلحة قال: "رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر، وما منهم يومئذ أحد إلا يميد تحت حجفته من النعاس، فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} (4) ". 369 - من حديث الزبير رضي الله عنه قال: "لقد رأيتني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - __________ (1) أخرجه أحمد في المسند: 5/ 295، أبو داود في الأدب: 5123، باب في العصبية، وابن ماجه في الجهاد باب النية في القتال: 2784، وإسناده حسن وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 115، رواه أبو يعلى ورجاله ثقات، وانظر المطالب العالية رقم: 4324. (2) أخرجه البخاري في اللباس باب الثياب البيض رقم: 5826، وفي المغازي باب قوله تعالى {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ} رقم: 4054، مسلم في الفضائل باب قتال جبريل وميكائيل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد رقم: 2306، وأحمد في المسند: 1/ 171، 177. (3) أخرجه البخاري في المغازي باب ثم أنزل عليكم من بعد الغم نعاسًا رقم: 4068، والترمذي في سننه كتاب تفسير سورة آل عمران رقم: 3008، وقال حديث حسن صحيح وأحمد في المسند: 4/ 29. (4) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن باب ومن تفسير آل عمران رقم: 3007، وقال حديث حسن صحيح.

(1/224)


يوم أحد حين اشتد علينا الخوف، وأرسل علينا النوم، فما منا أحد إلا وذقنه -أو قال- ذقنه في صدره، فوالله إني لأسمع كالحلم قول معتب بن قشير "لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا" فحفظتها، فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا}، إلى قوله: {مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} لقول معتب بن قشير، قال: {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} حتى بلغ {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (1) ". 24 - الحرب خدعة: 370 - من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه قال: "لما كان يوم أحد وصرنا إلى الشعب كنت أول من عرفته فقلت: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأشار إلى بيده أن اسكت، ثم ألبسني لامته، ولبس لأمتي، فلقد ضربت حتى جرحت عشرين جراحة أو قال بضعة وعشرين جرحًا كل من يضربني يحسبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (2). 25 - ظن علي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رفع: 371 - من حديث علي كرم الله وجهه قال: "لما انجلى الناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد نظرت إلى القتلى فلم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم، فقلت: والله ما كان ليفر وما أراه في القتلى، ولكن أرى الله غضب علينا بما صنعنا فرفع نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فما فيَّ خير من أن أقاتل حتى أقتل، فكسرت جفن سيفي، ثم حملته على القوم فأفرجوا لي، فإذا أنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم" (3). __________ (1) المطالب العالية رقم: 4315، ونسبه إلى إسحاق بن راهويه وسكت عليه البوصيري وإسناده جيد، وقال الترمذي معلقًا على إسناده في تخريج الحديث السابق: 3007 وجاء في حديث الزبير وقال حديث حسن صحيح. (2) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 112، رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار ورجال الأوسط ثقات، ورواه أبو نعيم في الدلائل: 2/ 482 من طريق ابن إسحاق وقد صرح عنده بالسماع وسنده متصل، فالحديث صحيح. * لامته: درعه. (3) المطالب العالية: 4323، قال البوصيري رواه أبو يعلى برقم: 546، بإسناد حسن، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 6/ 112 فيه محمَّد بن مروان العقيلي وثقه أبو داود وابن حبان وضعفه أبو زرعة وغيره" وإسناده حسن كما قال البوصيري والله أعلم.

(1/225)


26 - فخر أبي سفيان بعد المعركة: 372 - من حديث البراء رضي الله عنه قال: "جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الرماة يوم أحد وكانوا خمسين رجلًا -عبد الله بن جبير قال: ووضعهم موضعًا، وقال: (إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، إن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم)، قال: فهزموهم. قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل وقد بدت سوقهن وخلاخلهن- رافعات ثيابهن فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة، أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنظرون؟ قال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين، فذلك الذي يدعوهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أخراهم، فلم يبق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير اثني عشر رجلًا، فأصابوا منا سبعين رجلًا، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائة، سبعين أسيرًا، وسبعين قتيلًا. فقال أبو سفيان: أفي القوم محمَّد؟ أفي القوم محمَّد؟ أفي القوم محمَّد؟ ثلاثًا، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ ثم أقبل على أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم، فما ملك عمر نفسه أن قال: كذبت والله يا عدو الله إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوءك، فقال: يوم بيوم بدر والحرب سجال، إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها، ولم تسؤني ثم أخذ يرتجز: أعل هبل. أعل هبل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا تجيبونه؟) قالوا: يا رسول الله ما نقول؟ قال: (قولوا الله أعلى وأجل)، قال: أن العزى لنا ولا عزى لكم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا تجيبونه؟) قالوا: يا رسول الله وما نقول؟ قال: (قولوا الله مولانا ولا مولى لكم) (1) ". __________ (1) أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة أحد رقم: 4043، وأبو داود في الجهاد باب في الكمناء رقم: 2662، وأحمد في المسند: 4/ 293، أبو داود الطيالسي رقم: 2345، 2/ 98 - 99.

(1/226)


27 - رواية ابن عباس في أحد: 373 - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ما نصر الله تبارك وتعالى في موطن كما نصر في يوم أحد فقال (ابن عتبة) فأنكرنا ذلك، فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله تبارك وتعالى، إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يقول في يوم أحد: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ}، يقول ابن عباس والحس القتل {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} -إلى قوله- {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، عني بهذا الرماة، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقامهم في موضع ثم قال: (احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا). فلما غنم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأباحوا عسكر المشركين أكب الرماة جميعًا، فدخلوا العسكر ينتهبون، وقد التقت صفوف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهم كذا وشبك بين أصابع يديه والتبسوا، فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فضرب بعضهم بعضًا والتبسوا، وقتل من المسلمين ناس كثير. وقد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أول النهار، حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة، وجال المسلمون جولة نحو الجبل، ولم يبلغوا حيث يقول الناس الغار، وإنما كانوا تحت المهراس (1) وصاح الشيطان: قتل محمَّد فلم يشك فيه أنه حق، فما زلنا كذلك نشك أنه قد قتل حتى طلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين السعدين (2) نعرفه بتكفئه إذا مشى، قالوا: ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا. قال: فرقى نحونا وهو يقول: (اشتد غضب الله على قوم دمّوا وجه رسوله)، قال ويقول مرة أخرى: (اللهم أنه ليس لهم أن يعلونا) حتى انتهى إلينا فمكث ساعة فهذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل: اعل هبل مرتين يعني آلهته، أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: يا رسول الله ألا أجيبه؟ قال: بلى، قال: فلما قال: اعل هبل، قال عمر: الله أعلى وأجل، قال: فقال أبو سفيان يا ابن الخطاب إنه قد أنعمت عينها فعاد عنها أو فعال عنها، فقال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين __________ (1) المهراس: ماء بجبل أحد دفن بجواره حمزة عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (2) السعدين: مكانان في ذاك الموضع والله أعلم.

(1/227)


ابن الخطاب؟ فقال عمر: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أبو بكر، وهذا أنا عمر. قال: فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، الأيام دول وإن الحرب سجال (1) قال: فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، قال: إنكم لتزعمون ذلك، لقد خبنا إذا وخسرنا، ثم قال أبو سفيان: أما إنكم سوف تجدون في قتلاكم مثلًا (2) ولم يكن ذاك عن رأي سراتنا (3) قال: ثم أدركته حمية الجاهلية قال: فقال: أما إنه قد كان ذاك ولم نكرهه" (4). 28 - دور المسلمات في أحد: وقد سبق من حديث أنس في دفاع أبي طلحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانظره هناك وقد جاء أيضًا: 374 - من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال ثعلبة بن أبي مالك: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسم مروطًا بين نساء من نساء أهل المدينة، فبقي منها مرط جيد، فقال له بعض من عنده يا أمير المؤمنين: "أعط هذا بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي عندك -يريدون أم كلثوم بنت علي، فقال عمر: أم سليط أحق منها، وأم سليط من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال عمر: فإنها كانت تزفر لنا القرب يوم أحد" (5). 29 - ثناء النبي على ربه ودعاؤه بعد انتهاء المعركة: 375 - من حديث عبيد الله بن رفاعة الزرقي رضي الله عنه قال: لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (استووا حتى أثني على ربي، فصاروا خلفه صفوفًا فقال: اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مبعد لما قربت، __________ (1) سجال: أي مرة لنا ومرة علينا. (2) مثل: أنكل بالقتل بجدع الأنف أو قطع الأذن. (3) السراة: الأشراف والكبراء. (4) أخرجه أحمد في المسند: 1/ 287، 288، 463، والحاكم في المستدرك: 2/ 296، 297 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. (5) أخرجه البخاري في المغازي باب ذكر أم سليط رقم: 4071.

(1/228)


اللهم ابسط علينا من بركاتك، ورحمتك، وفضلك، ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم الغلبة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا، وشر ما منعت منا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم زجرك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتو الكتاب، إله الحق) (1). 376 - من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول يوم أحد (اللهم إنك إن تشأ لا تعبد في الأرض) " (2). 30 - ردوا القتلى إلى مضاجعهم: 377 - من حديث جابر رضي الله عنه قال: "إن قتلى أحد حملوا من مكانهم فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أن ردوا القتلى إلى مضاجعها) (3) ". 378 - وقد جاء عنه بلفظ آخر فقال: "استشهد أبي بأحد، فأرسلتني أخواتي إليه بناضح (4) لهن، فقلن: اذهب فاحتمل أباك على هذا الجمل فادفنه في مقبرة بني سلمة، قال: فجئته وأعوان لي، فبلغ ذلك نبي الله وهو جالس بأحد فدعاني وقال: (والذي نفسي بيده لا يدفن إلا مع إخوته فدفن مع أصحابه بأحد) (5) ". __________ (1) أخرجه أحمد في المسند: 3/ 414، والحاكم في المستدرك: 1/ 507، 3/ 23، 24، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين وقد وافق الذهبي الحاكم في موطن على التصحيح، وقال في موطن آخر: والحديث مع نظافة إسناده منكر -والحديث صحيح فقط فيه عبيد بن رفاعة لم يخرج له الشيخان، وليس لقول الذهبي في تعليله وجه. وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 121، 122 رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. (2) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الجهاد والسير باب استجاب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو رقم: 1743. (3) أخرجه أحمد في المسند 3/ 308، أبو داود في الجنائز باب في الميت يحمل من أرض إلى أرض: 3165، والنسائي في الجنائز باب أين يدفن الشهيد: 4/ 79، والترمذي في الجهاد باب ما جاء في دفن الشهداء: 1717، وابن ماجه في الجنائز باب ما جاء في الصلاة على الشهداء ودفنهم: 1516، وقال الترمذي حسن صحيح وصححه ابن حبان: 196، وسنده صحيح. (4) الناضح: البعير الذي يحمل الماء يسقي الزرع. (5) انظر التخريج في الحديث السابق، وقال الشيخ الساعاتي: 8/ 150 أخرجه الأربعة وغيرهم وصححه الترمذي.

(1/229)


31 - صلاة النبي على شهداء أحد: 379 - من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: "صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: (إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها)، قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1). قال الحافظ ابن حجر في الفتح (والخلاف في الصلاة على قتيل معركة الكفار مشهور، قال الترمذي: (قال بعضهم يصلى على الشهيد وهو قول الكوفيين وإسحق، وقال بعضهم لا يصلى عليه وهو قول المدنيين والشافعي وأحمد، وقال الشافعي في الأم: (جاءت الأخبار كأنها عيان من وجوه متواترة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على قتلى أحد، وما روي أنه صلى عليهم وكبر على حمزة سبعين تكبيرة لا يصح، وقد كان ينبغي لمن عارض بذلك هذه الأحاديث الصحيحة أن يستحي على نفسه" انتهى، ثم إن الخلاف في ذلك في منع الصلاة عليهم على الأصح عند الشافعية، وفي وجه أن الخلاف في الاستحباب وهو المنقول عن الحنابلة. قال الماوردي عن أحمد: الصلاة على الشهيد أجود، وإن لم يصلوا عليه أجزأ، وقال الطحاوي: "معنى صلاته - صلى الله عليه وسلم - عليهم لا يخلو من ثلاثة معان: إما أن يكون ناسخًا لما تقدم من ترك الصلاة عليهم، أو يكون من سنتهم أن لا يصلي عليهم إلا بعد هذه المدة المذكورة، أو تكون الصلاة عليهم جائزة بخلاف غيرهم فإنها واجبة، وأيها كان فقد ثبت بصلاته عليهم الصلاة على الشهداء، ثم كان الكلام بين المختلفين في عصرنا، إنما هو في الصلاة عليهم قبل دفنهم، وإذا ثبتت الصلاة عليهم بعد الدفن كانت قبل الدفن أولى" انتهى (2). وقد وردت الأحاديث والسنن الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تدل على الصلاة __________ (1) أخرجه البخاري في الجنائز باب الصلاة على الشهيد رقم: 1344، وفي المغازي باب غزوة أحد رقم: 4042، وله أطراف أرقام: 3596، 4085، 6426، 6590، مسلم في صحيحه في الفضائل باب إثبات حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم - رقم: 2296، وأبو داود رقم: 3223، 3224، والنسائي: 4/ 61، 62 أحمد: 4/ 149، 153، 154، البيهقي: 4/ 14. (2) فتح الباري على صحيح البخاري: 3/ 210 - 211، في التعليق على حديث عقبة بن عامر المذكور آنفًا، وانظر قول الطحاوي في شرح معاني الآثار: 1/ 504.

(1/230)


على الشهداء، أورد بعضها هنا: 380 - من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "لما كان يوم أحد مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحمزة بن عبد المطلب وقد جدع ومثل به، فقال: لولا أن تجد صفية في نفسها تركته حتى تأكله العافية (1)، حتى يحشره الله من بطون الطير والسباع، فكفنه في نمرة، وكانت إذا خمرت رأسه بدت رجلاه، وإذا خمرت رجلاه بدا رأسه، فخمر رأسه، ولم يصل على أحد من الشهداء غيره" (2). 381 - من حديث عبد الله بن الزبير قال: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر يوم أحد بحمزة فسجي ببردة، ثم صلى عليه، فكبر تسع تكبيرات، ثم أتى بالقتلى يصفون، ويصلي عليهم، وعليه معهم" (3). وقد جاء من حديث ابن عباس (4) وغيره انظرها في التعليق، ولا يعارض هذان الحديثان وشواهدهما بحديث جابر بأنه لم يصل على شهداء أحد لأنه ناف، والمثبت مقدم على النافي، نفي هذين الحديثين وشواهدهما ثبتت مشروعية الصلاة على الشهداء لا على سبيل الإيجاب؛ لأن كثيرًا من الصحابة استشهدوا يوم بدر، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة عليهم، ولو فعل ذلك لنقل إلينا، فدل ذلك على أن الصلاة عليهم غير واجبة، ولذلك قال ابن القيم: "والصواب في المسألة أنه مخير بين الصلاة عليهم وتركها، لمجيء الآثار بكل واحد من الأمرين، وهذا إحدى الروايات عن الإِمام أحمد، وهو الأليق بأصوله ومذهبه" (5). __________ (1) العافية: السباع والطير التي تقع على الجيف فتأكلها. (2) أخرجه أبو داود حديث رقم: 3137، وأحمد في المسند: 3/ 128، والبيهقي في السنن: 4/ 10، 11، والطحاوي في شرح معاني الآثار: 1/ 502 - 503، والحاكم في المستدرك: 1/ 365، وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي ورواه ابن أبي شيبة في المصنف: 14/ 391، 392، وقال النووي في المجموع: 5/ 265، وعزاه لأبي داود وحده وقال: إسناده حسن أو صحيح. (3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار: 1/ 503، وإسناده حسن رجاله كلهم ثقات وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث. (4) أخرجه الحاكم: 3/ 198، والحديث حسن الإسناد، وابن ماجه في الجنائز. باب ما جاء في الصلاة على الشهيد رقم: 1513، وهناك شواهد من حديث ابن مسعود، أخرجه أحمد في المسند: 1/ 463، وسنده حسن، ومن حديث شداد بن الهاد وأخرجه النسائي: 4/ 506 والطحاوي في شرح معاني الآثار: 1/ 506 البيهقي: 4/ 15، 16، وسنده صحيح الحاكم: 3/ 595 - 596، وصححه ووافقه الذهبي. (5) تهذيب السنن: 4/ 295.

(1/231)


32 - طريقة دفن الشهداء في أحد وتقديم الأحفظ للقرآن: 382 - من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: (أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟) فإذا أشير له إلى أحد قدمه في اللحد، وقال: (أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة) وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم ولم يغسلوا" (1). 383 - حديث هشام بن عامر رضي الله عنه قال: "شكي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجراحات يوم أحد فقال: (احفروا وأوسعوا وأحسنوا وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد، وقدموا أكثرهم قرآنًا) فمات أبي فقدم بين رجلين" (2). 384 - من حديث أنس رضي الله عنه قال: " ... وكثرت القتلى وقلت الثياب، قال: وكان يجمع الثلاثة والاثنين في قبر واحد، ويسأل أيهم أكثر قرآنًا فيقدم في اللحد، وكفن الرجلين والثلاثة في الثوب الواحد" (3). 33 - الشهداء أحياء عند ربهم: 385 - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، تأكل من ثمارها، وتهوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم، ومأكلهم وحسن منقلبهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا، لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله عَزَّ وَجَلَّ: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- هؤلاء الآيات على رسوله {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} (4) ". __________ (1) أخرجه البخاري في الجنائز باب الصلاة علي الشهداء رقم: 1343، وفي المغازي باب من قتل من المسلمين يوم أحد رقم: 4079 وجاء بأرقام: 1347،1346،1345، 1348، 1353، الترمذي في الجنائز باب ما جاء في ترك الصلاة على الشهيد: 1036، وأبو داود في الجنائز في الشهيد يغسل: 3138 والنسائي في الجنائز باب ترك الصلاة عليهم: 4/ 62، وابن ماجه في الجنائز باب ما جاء في الصلاة على الشهيد: 1514، وأحمد في المسند: 5/ 431. (2) أخرجه الترمذي في الجهاد باب دفن الشهيد رقم: 1713 وقال حديث حسن صحيح وأبو داود في الجنائز باب تعميق القبر: 3215، والنسائي في الجنائز باب ما يستحب في توسيع القبر: 4/ 18، وابن ماجه في الجنائز باب ما جاء في حفر القبر: 1560 والحديث إسناده صحيح. (3) سبق تخريجه حديث رقم: 389. (4) أخرجه أحمد في المسند: 1/ 265، أبو داود في الجهاد باب فضل الشهادة رقم: 2520، وعبد بن حميد رقم: 667، وابن أبي شيبة: 5/ 294 - 295، والطبري في التفسير: 14/ 113 =

(1/232)


386 - ومن حديث ابن مسعود رضي الله عنه. قال مسروق: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، قال: أما إنا سألنا عن ذلك فقال: (أرواحهم كطير خضر تسرح في أيها شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، قال: فبينما هم كذلك، إذ اطلع عليهم ربهم اطلاعة، فقال: سلوني ما شئتم؟! فقالوا: يا ربنا! وما نسألك، ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا، فلما رأوا أن لا يتركوا من أن يسألوا، قالوا: نسألك أن ترد أرواحنا إلى أجسادنا في الدنيا، حتى نقتل في سبيلك، قال: فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا تركوا) (1). 34 - عدد شهداء المسلمين: 387 - من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الرماة يوم أحد ... فذكر الحديث إلى أن قال: فأصابوا منا سبعين، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قد أصابوا من المشركين، أراه قال: يوم بدر أربعين ومائة: سبعين أسيرًا وسبعين قتيلًا" (2). 387 - من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال: "إنه أصيب من الأنصار يوم أحد أربعة وستون، وأصيب من المهاجرين ستة فيهم حمزة، فمثلوا بقتلاهم فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يومًا من الدهر لنربين عليهم، فلما كان يوم فتح مكة، نادى رجل لا يعرف: لا قريش بعد اليوم، مرتين فأنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- على نبيه - صلى الله عليه وسلم - {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كفوا عن القوم) " (3). __________ = والآجري في الشريعة: 392، والبيهقي في عذاب القبر رقم: 129، والحاكم في المستدرك: 2/ 88، 297، وقال في الموضعين صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث عند أحمد فزالت شبهة التدليس، فالحديث صحيح. (1) أخرجه مسلم في الإمارة باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون رقم: 1887، الترمذي في التفسير باب ومن تفسير آل عمران رقم: 3011 وقال حسن صحيح، ابن ماجه في الجهاد باب فضل الشهادة في سبيل الله رقم: 2801، وابن أبي شيبة: 5/ 308، والدرامي: 2/ 206، والطبري في التفسير: 4/ 113 - 114. (2) سبق تخريجه حديث رقم: 372. (3) أخرجه الترمذي في التفسير باب من تفسير سورة النحل رقم: 3129 وقال حديث حسن غريب وأحمد في المسند: 5/ 135، وابن حبان في الموارد رقم: 1695، ص: 411، والطبراني في الكبير: 3/ 157، والحاكم في المستدرك: 2/ 446،359، وقال في الموضعين صحيح الإسناد وأقره الذهبي.

(1/233)


35 - أحد جبل يحبنا ونحبه: 389 - من حديث أنس رضي الله عنه قال: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلع له أحد فقال: (هذا جبل يحبنا ونحبه، اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت ما بين لابتيها) " (1). 36 - أمنية النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شهداء أحد: 390 - من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر أصحاب أحد قال: (والله لوددت أني غودرت مع أصحاب فحص الجبل) يقول: قتلت معهم - صلى الله عليه وسلم -" (2). 37 - من أحسن القتال يوم أحد من المسلمين: 391 - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "جاء علي رضي الله عنه بسيفه يوم أحد قد انحنى، فقال لفاطمة رضي الله عنها: هاكي السيف حميدًا، فإنها قد شفتني فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لئن كنت أجدت الضرب بسيفك، لقد أجاده سهل بن حنيف، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت بن الأقلح، والحارث بن الصمة) " (3). 38 - أسماء من استشهد يوم أحد: ذكر الهيثمي أسماءهم في المجمع: (6/ 123 - 124)، بسند الطبراني إلى ابن شهاب، ورجاله رجال الصحيح، فمن أحب الاستزاده في معرفة أسمائهم فليرجع إلى المجمع. __________ (1) أخرجه البخاري في المغازي باب أحد جبل يحبنا ونحبه رقم: 4084، ومسلم في الحج باب فضل المدينة ودعاء النبي فيها بالبركة: 1365. (2) أخرجه أحمد في المسند: 3/ 375، وفي سيرة ابن كثير: 3/ 89، وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 123، رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع فالحديث بذلك صحيح. (3) أخرجه الحاكم في المستدرك: 3/ 24، وقال صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 123، رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

(1/234)


39 - كل مصيبة بعدك جلل: 392 - من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأحد، فلما نعوا لها، قالت: فما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالوا: خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه؟، قال: فأشير لها إليه، حتى إذا رأته، قالت: كل مصيبة بعدك جلل! تريد صغيرة" (1). __________ (1) ابن هشام في السيرة: 2/ 99 والبيهقي في الدلائل: 3/ 302، والطبري في تاريخه: 2/ 533، بسند ابن إسحاق إلى سعد بن أبي وقاص وسنده حسن وقد صرح بالحديث فزالت شبهة تدليسه.

(1/235)


 الفصل الخامس الأحداث والوقائع بين أحد والخندق

 المبحث الأول: غزوة حمراء الأسد

قال ابن إسحاق: "كان يوم أحد، يوم بلاء ومصيبة وتمحيص، اختبر الله به المؤمنين، ومحن به المنافقين، فمن كان يظهر الإيمان بلسانه، وهو مستخف بالكفر في قلبه، ويومًا أكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته" (1). وبعد انتهاء غزوة أحد، ورحيل قريش جاءت الأخبار إلى المدينة بأن قريشًا تريد العودة لتستأصل المسلمين في مدينتهم، فما كان من القائد القدوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - إلا أن دعا أصحابه للخروج لتعقب قريش، وزرع الخوف في قلب من يفكر بالاعتداء على المدينة الآمنة الطيبة، وشرط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يخرج معه إلا من خرج معه لأحد، وهنا وفي هذا المقام تتجلى صور التضحية والبذل، حيث يخرج أصحاب النبي، والكثير منهم قد أصيب بالجراحات المتعددة، ولكن في سبيل الله تهون كل المصاعب، ولندع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يروون بعض هذه المشاهد: 392 - من حديث عائشة رضي الله عنها: كما روى عنها عروة بن الزبير في قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} قالت لعروة: يا ابن أختي كان أبواك منهم: الزبير وأبو بكر، لما أصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا، قال: (من يذهب في إثرهم؟) فانتدب منهم سبعون رجلًا، قال: كان فيهم أبو بكر والزبير (2). وقال ابن كثير عقب ذكر هذا الحديث: "وهذا السياق غريب جدًّا، فإن المشهور عند أصحاب المغازي أن الذين خرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حمراء الأسد كل __________ (1) سيرة ابن هشام: 2/ 105. (2) أخرجه البخاري في المغازي باب الذين استجابوا لله والرسول رقم: 4077، مسلم في صحيحه في فضائل الصحابة باب من فضائل طلحة والزبير: 2418، باختصار، وابن ماجه في المقدمة وفي فضائل الزبير رقم: 124، والحاكم في المستدرك: 4/ 298 وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

(1/236)


من شهد أحد، وكانوا سبعمائة قتل منهم سبعون وبقي الباقون" (1). وقال الشامي: "والظاهر أنه لا تخالف بين قولي عائشة وأصحاب المغازي؛ لأن معنى قولها فانتدب لها سبعون أنهم سبقوا غيرهم، ثم تلاحق الباقون" (2). 393 - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما انصرف أبو سفيان والمشركون عن أحد وبلغوا الروحاء قال أبو سفيان: لا محمدًا قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، شر ما صنعتم، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فندب الناس فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد -أو بئر بني عيينة- فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} وذلك أن أبا سفيان قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: موعدك موسم بدر حيث قتلتم أصحابنا، فأما الجبان فرجع، وأما الشجاع فأخذ أهبة القتال والتجارة، فأتوه فلم يجدوا به أحدًا، وتسوقوا فأنزل الله -عز وجل- ذكره {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} (3) ".

 المبحث الثاني: آثار غزوة أحد

طمع الأعراب والمنافقين واليهود في المسلمين لقد كان لغزوة أحد من الآثار الشيء الكثير إذ انتقض على الإِسلام وأهله كثير ممن هادنهم أو مالأهم خوفًا منهم، وعلى الرغم مما فعله النبي - عليه السلام - وأصحابه من الخروج إلى حمراء الأسد وما أظهروه من مظاهر البأس، إلا أن ما حدث في أحد جعل الأعراب يتجرأون ويبدأون بمحاولة مهاجمة المدينة والإغارة عليها ونهب أموالها وخيراتها. ولقد جرأت الحادثة أيضًا اليهود في المدينة ليظهروا حقدهم الدفين على الإِسلام وأهله، ويسخرون من المسلمين علانية، ويكررون محاولاتهم الغادرة للكيد للإسلام وأهله، ولقد جرأت الحادثة أيضًا المنافقين ليظهروا نفاقهم، وينبثوا بين صفوف المسلمين يشيعون الشائعات والدسائس محاولين بذلك تمزيق الصف الإِسلامي. __________ (1) سيرة ابن كثير: 3/ 101. (2) زاد المعاد: 3/ 243. (3) قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 6/ 121، رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير محمَّد بن منصور الجواز وهو ثقة وقال السيوطي في لباب النقول (ص: 61) أن سنده صحيح، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: 8/ 228: أخرجه النسائي وابن مردويه ورجاله رجال الصحيح إلا أن المحفوظ إرساله عن عكرمة ليس فيه عن ابن عباس، ومن الطريق المرسلة أخرجه ابن أبي حاتم وغيره.

(1/237)


1 - اغتيال المسلمين لابن سفيان الهذلي لحشده لقتال المسلمين: 394 - من حديث عبد الله بن أنس رضي الله عنه قال: "دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إنه قد بلغني أن خالد بن سفيان بن نبيح يجمع لي الناس ليغزوني، وهو بعرنة فأته فاقتله)، قال: قلت: يا رسول الله انعته حتى أعرفه، قال: (إذا رأيته وجدت له قشعريرة). قال: فخرجت متوشحًا بسيفي، حتى وقعت عليه بعرنة مع ظعن يرتاد لهن منزلًا، وحين كان وقت العصر، فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من القشعريرة، فأقبلت نحوه، وخشيت أن يكون بيني وبينه محاولة تشغلني عن الصلاة، فصليت وأنا أمشي نحوه أومئ برأسي الركوع والسجود. فلما انتهيت إليه قال: من الرجل، قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لهذا، قال: أجل أنا في ذلك، قال: فمشيت معه شيئًا، حتى إذا أمكنني حملت عليه بالسيف حتى قتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه، فلما قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآني فقال: (أفلح الوجه)، قال: قلت: قتلته يا رسول الله، قال: (صدقت)، قال: ثم قام معي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل في بيته فأعطاني عصا، فقال: (أمسك هذه عندك يا عبد الله بن أُنيس). قال: فخرجت بها على الناس، فقالوا: ما هذه العصا؟، قال: قلت: أعطانيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمرني أن أمسكها، قالوا: أولا ترجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتسأله عن ذلك؟ قال: فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله لم أعطيتني هذه العصا؟، قال: (آية بيني وبينك يوم القيامة، إن أقل الناس المختصرون (1) يومئذ يوم القيامة)، فقرنها عبد الله بسيفه فلم تزل معه، حتى إذا مات أمر بها، فضمت معه في كفنه، ثم دفنا جميعًا" (2). __________ (1) المختصرون: أو المتخصرون: المتكئون على المخاصر: جمع مخصرة وهي ما يمسكه الإنسان بيده من عصا وغيرها. والمراد هنا: الذين يأتون يوم القيامة ومعهم أعمال صالحة يتكئون عليها. (2) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الصلاة باب صلاة الطالب حديث رقم: 1249، بإختصار أحمد في المسند: 3/ 496 البيهقي في السنن: 3/ 256، وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره: 1/ 295، إسناده جيد، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: 2/ 350، إسناده حسن، وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 203 - 204رواه الطبراني ورجاله ثقات، واللفظ لأحمد.

(1/238)


2 - قصة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرجيع: 395 - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة عينًا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب، حتى إذا كانوا بالهدة بين عسفان ومكة، ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فنفروا لهم بقريب من مائة رجل رام، فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم التمر في منزلٍ نزلوه. فقالوا: تمر يثرب فاتبعوا آثارهم، فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى موضع، فأحاط بهم القوم فقالوا لهم: انزلوا فأعطوا أيديكم، ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحدًا. فقال عاصم بن ثابت: أيها القوم، أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، ثم قال: اللهم أخبر عنا نبيك - صلى الله عليه وسلم -، فرموهم بالنبل فقتلوا عاصمًا، ونزل إليهم ثلاثة نفر على العهد والميثاق، منهم خبيب وزيد بن الدثنة ورجل آخر، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها. قال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم، إن لي بهؤلاء أسوة -يريد القتلى- فجروه وعالجوه، فأبى أن يصحبهم (فقتلوه)، فانطلقوا بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بعد وقعة بدر، فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل خبيبًا -وكان خبيب هو قتل الحارث بن عامر بن نوفل يوم بدر- فلبث خبيب عندهم أسيرًا حتى أجمعوا قتله، فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحدبها، فأعارته، فدرج بني لها وهي غافلة حتى أتاه، فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده، قالت: ففزعت فزعة عرفها خبيب، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك. قالت: والله ما رأيت أسيرًا، قط خيرًا من خبيب، والله لقد وجدته يومًا يأكل قطفًا من عنب في يده، وإنه لموثق بالحديد، وما بمكة من ثمرة. وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيبًا، فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل، قال لهم خبيب: دعوني أصلي ركعتين، فتركوه، فركع ركعتين، فقال:

(1/239)


والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع لزدت، ثم قال: اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تبق منهم أحدًا، ثم أنشأ يقول: فلست أبالي حين أقتل مسلمًا ... على أي جنب كان لله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع ثم قام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله، وكان خبيب سن لكل مسلم قتل صبرًا الصلاة، وأخبر -يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه يوم أصيبوا خبرهم، وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت حين حدثوا أنه قتل أن يؤتوا بشيء منه يعرف -وكان قتل رجلًا عظيمًا من عظمائهم- فبعث الله لعاصم مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم، فلم يقدروا أن يقطعوا منه شيئًا" (1). وقد أورد ابن إسحاق رحمه الله في السيرة أن عددهم كان ستة وأن أميرهم كان مرثد بن أبي مرثد الغنوي، والمقدم عندنا ما في الصحيح أن عددهم كان عشرة وأن أميرهم كان عصام بن ثابت الأنصاري والله أعلم. 3 - قصة أصحاب رسول الله في بئر معونة: أ - سبب خروج القراء من أصحاب رسول الله: 396 - من حديث أنس رضي الله عنه قال: "إن رعلًا وذكوان وعصية وبني لحيان استمدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عدو، فأمدهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار، ويصلون بالليل، حتى كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقنت شهرًا يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب، على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان" (2). __________ (1) أخرجه البخاري في المغازي باب فضل من شهد بدرًا رقم: 3989، وباب غزوة الرجيع ورعل وذكوان رقم: 4086، أبو داود في الجهاد باب في الرجل يستأسر رقم: 2660، 2661، وعبد الرزاق في المصنف رقم: 9730، وأحمد في المسند: 2/ 295 - 315 والبيهقي في الدلائل: 3/ 323 - 325 والطبري في تاريخه: 2/ 538 - 541، وأبو داود الطيالسي رقم: 2349، 2/ 101. (2) أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة بني الرجيع: 4090، وقد جاء أيضًا في الوتر باب القنوت قبل الركوع وبعده، الجهاد، باب دعاء الإمام على من نكث عهدًا، الدعوات باب الدعاء على المشركين، مسلم في المساجد باب استحباب القنوت في جميع الصلاة، إذا نزلت بالمسلمين نازلة رقم: 677، وأحمد في المسند: 3/ 167، 255، ابن سعد في الطبقات: 2/ 51 - 54 والبيهقي في الدلائل: 3/ 338 - 344 والطبراني ورجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في المجمع: 6/ 126 - 127.

(1/240)


ب - جوار ملاعب الأسنة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: 397 - من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء ملاعب الأسنة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهدية، فعرض عليه الإِسلام فأبى أن يسلم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فإني لا أقبل هدية من مشرك، قال: فأبعث إلى أهل نجد من شئت فأنا لهم جار، فبعث إليهم بقوم فيهم المنذر بن عمرو، وهو الذي يقال له -المعتق ليموت -أو -أعتق عند الموت-، فاستجاش (1) عليهم عامر بن الطفيل بني عامر فابوا أن يطيعوه، وأبوا أن يخفروا ملاعب الأسنة، فاستجاش عليهم بني سليم، فأطاعوه، فاتبعهم بقريب من مائة رجل رام فأدركهم ببئر معونة، فقتلوهم إلا عمرو بن أمية" (2). 398 - من حديث أنس رضي الله عنه قال: "جاء ناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أن ابعث معنا رجالًا يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلًا من الأنصار يقال لهم القراء فيهم خالي حرام، يقرأون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه، ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء، فبعثهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فعرضوا لهم فقتلوهم، قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا، أنا قد لقيناك فرضينا عنك، ورضيت عنا، قال: وأتى رجل حرامًا خال أنس من خلفه فطعنه برمح حتى أنفذه، فقال حرام: فزت ورب الكعبة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: (إن إخوانكم قد قتلوا، وإنهم قالوا: اللهم! بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك، فرضينا عنك ورضيت عنا) (3) ". __________ (1) استجاش: طلب لهم الجيش وجمعه. (2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف: 9741، والطبراني في الكبير: 19/ 70 - 72 رقم: 138، 139، 140، وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 126 - 127، رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. (3) أخرجه مسلم في صحيحه في الإمارة باب ثبوت الجنة للشهيد رقم: 677، ص: 1511 طبعة فؤاد عبد الباقي، وأبو نعيم في الدلائل: ص: 513، والبيهقي في الدلائل: 3/ 347.

(1/241)


جـ - قصة عامر بن فهيرة يوم بئر معونة: 399 - من حديث عائشة رضي الله عنها: (... فقتل عامر بن فهيرة يوم بئر معونة، وعن أبي أسامة قال: قال هشام بن عروة فأخبرني أبي قال: لما قتل الذين ببئر معونة وأسر عمرو بن أمية الضمري، قال له عامر بن الطفيل: من هذا؟ فأشار إلى قتيل، فقال له عمرو بن أمية: هذا عامر بن فهيرة. فقال: لقد رأيته بعد ما قتل رفع إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض، ثم وضع، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - خبرهم فنعاهم فقال: (إن أصحابكم قد أصيبوا، وإنهم قد سألوا ربهم فقالوا: ربنا أخبر عنا إخواننا بما رضينا ورضيت عنا فأخبرهم عنهم) وأصيب يومئذ عروة بن أسماء بن الصلت فسمي عروة به، ومنذر بن عمرو سمي به منذرًا) (1). د - دعاء النبي على قتلة القراء في دعاء القنوت ثم تركه عندما جاؤوا تائبين مسلمين: 400 - وقد سبق من حديث أنس في سبب خروج القراء من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فانظر تخريجه هناك (2). 401 - وقد جاء من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرًا متتابعًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح، في دبر كل صلاة، إذا قال: (سمع الله لمن حمده) من الركعة الأخيرة، يدعو على أحياء من بني سليم، على رعل وذكوان وعصية، ويؤُمِّن من خلفه" (3). __________ (1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان وبئر معونة وحديث عضل والقارة وعاصم بن ثابت ونجيب وأصحابه رقم: 4093، وفي مناقب الأنصار باب هجرة النبي وأصحابه إلى المدينة رقم: 3900، وأبو نعيم في الدلائل: ص: 513، والبيهقي في الدلائل: 3/ 353 وأبو نعيم في الحلية: 1/ 110، وقد سبق جزء منه برقم: 119. (2) انظر حديث رقم: 396. (3) أخرجه أبو داود في الصلاة باب القنوت في الصلوات: 1443، وأحمد في المسند: 1/ 301 وصححه الحاكم في المستدرك: 1/ 225 ووافقه الذهبي، واللفظ لأبي داود.

(1/242)


 المبحث الثالث: غزوة بني النضير

وقت الغزوة: قال الزهري عن عروة: (كانت على رأس ستة أشهر من وقعة بدر قبل أحد (1)، وجعله ابن إسحاق بعد بئر معونة وأحد (2)، وقد وافق ابن إسحاق جل أهل المغازي كما قال الحافظ في الفتح (3). وقد ذهب إلى تأييد الرأي الثاني ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد فقال: "وزعم محمَّد بن شهاب الزهري أن غزوة بني النضير كانت بعد بدر بستة أشهر، وهذا وهم منه أو غلط عليه، بل الذي لا شك فيه أنها كانت بعد أحد، والتي كانت بعد بدر بستة أشهر هي غزوة بني قينقاع، وقريظة بعد الخندق، وخيبر بعد الحديبية، وكان له مع اليهود أربع غزوات، أولها: غزوة بني قينقاع بعد بدر، والثانية: بني النضير بعد أحد، والثالثة: قريظة بعد الخندق، والرابعة: خيبر بعد الحديبية" انتهى، وقد ذهب ابن حزم في جوامع السير هذا المذهب قبل ابن القيم والله أعلم (4). سبب نزول سورة الحشر: 402 - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: سورة التوبة قال: التوبة هي الفاضحة، ما زالت تنزل حتى ظنوا أنها لم تبق أحدًا منهم إلا ذكر فيها، قال: قلت: سورة الأنفال، قال: نزلت في بدر قال: سورة الحشر قال: نزلت في بني النضير" (5). __________ (1) علقه البخاري في المغازي باب حديث بني النضير قبل الحديث رقم: 4028، ووصله عبد الرزاق في مصنفه رقم: 9732، عن معمر عن الزهري أتم من هذا، وهو في حديثه عن عروة. (2) علقه البخاري في المغازي باب حديث بني النضير قبل الحديث رقم: 4028. (3) فتح الباري: 7/ 330 - 331. (4) زاد المعاد: 3/ 249، جوامع السير ص: 181. (5) أخرجه البخاري في المغازي حديث بني النضير حديث رقم: 4029 مسلم في صحيحه كتاب التفسير باب في سورة براءة والأنفال والحشر حديث رقم: 3031.

(1/243)


قطع الشجر وتحريقه: 403 - من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (حرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخل بني النضير وقطع، وهي البويرة، فنزلت {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} وفي لفظ آخر له "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرق نخل بني النضير، قال: ولها يقول حسان بن ثابت: وهان على سراء بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير قال فأجابه أبو سفيان بن الحارث: أدام الله ذلك من صنيع ... وحرق في نواحيها السعير ستعلم أينا منها بنزه ... وتعلم أي أرضينا تضير (1) 404 - من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كانت غزوة بني النضير، وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من غزوة بدر، وكان منزلهم ونخلهم بناحية المدينة، فحاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل والأمتعة والأموال إلا الحلقة يعني السلاح -فأنزل الله فيهم {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا}، فقاتلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى صالحهم على الجلاء، فأخلاهم إلى الشام، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما خلا، وكان الله قد كتب عليهم ذلك، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي، وأما قوله: {لأَوَّلِ الْحَشْرِ} فكان ذلك أول حشر في الدنيا إلى الشام" (2). والناظر في حديث عائشة رضي الله عنها يرى أنه مؤيد للرأي القائل أن غزوة بني النضير كانت بعد بدر بستة أشهر كما قال الزهري رحمه الله، وهو في سند حديث عائشة، فالجواب عنه ما قال ابن القيم رحمه الله تعالى في ذلك من الخطأ في النقل عن الزهري، أو هو وهم من الزهري رحمه الله والله أعلم". __________ (1) أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة بني النضير رقم: 4031، 4032، مسلم في صحيحه الجهاد والسير باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها رقم: 1746، الترمذي في الجهاد والسير باب في التحريق والتخريب رقم: 1552، وفي التفسير باب ومن سورة الحشر رقم: 3302 وقال حسن صحيح، وأبو داود في الجهاد باب في الحرق في بلاد العدو رقم: 2615. (2) الحاكم في المستدرك: 2/ 483، وقال صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي والبيهقي في دلائل النبوة: 2/ 444، والحديث صحيح إلا أنه ليس على شرط الشيخين لأنهما لم يخرجا لزيد بن المبارك ومحمد بن ثور وكلاهما ثقة.

(1/244)


المبحث الرابع: غزوة بدر الثانية 405 - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما انصرف أبو سفيان والمشركون عن أحد وبلغوا الروحاء قال أبو سفيان: لا محمَّد قتلتم، ولا الكواكب أردفتم، شر ما صنعتم، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فندب الناس فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد -أو بئر بني عيينة فأنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ}، وذلك أن أبا سفيان قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: موعدك موسم بدر حيث قتلتم أصحابنا، فأما الجبان فرجع، وأما الشجاع فأخذ أهبة القتال والتجارة فأتوه فلم يجدوا به أحدًا وتسوقوا فأنزل الله -عز وجلَّ- ذكره. {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} " (1).

 المبحث الخامس: غزوة بني المصطلق أو غزوة المريسيع

1 - وقت الغزوة: اختلف العلماء في ذلك وانحصرت أقوالهم فيها في ثلاثة أقوال، فمن قائل أنها سنة ست، قال بذلك ابن إسحاق إمام المغازي، وتبعه على ذلك خليفة بن خياط، وابن جرير الطبري، وابن حزم، وابن عبد البر، وابن العربي، وابن الأثير، وابن خلدون، فقد صرح كل منهم بأن غزوة بني المصطلق كانت في شعبان من السنة السادسة للهجرة (2). ولابن حزم رأي آخر، وافقه عليه عدد من العلماء، منهم مالك بن أنس وموسى بن عقبة، والبخاري، وابن قتيبة ويعقوب بن سفيان الفسوي والنووي، وابن خلدون أنها كانت في شعبان من العام الرابع للهجرة (3). وذهبت طائفة إلى أنها كانت في شعبان من السنة الخامسة للهجرة وذهب إلى هذا القول: موسى بن عقبة، وابن سعد، وابن قتيبة، والبلاذري، والذهبي، __________ (1) قد سبق تخريجه في حديث رقم: 393 في غزوة حمراء الأسد فانظره هناك. (2) تاريخ خليفة ص 80، جوامع السير ابن حزم ص: 206، الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر ص: 200 - 202، عارضه الأحوذي لابن العربي: 12/ 49، تاريخ ابن خلدون: 2/ 29، الكامل لابن الأثير: 2/ 192، تاريخ الطبري: 2/ 604. (3) البداية والنهاية ابن كثير: 4/ 93 - 94، وفتح الباري: 7/ 428، والمعرفة والتاريخ للفسوي: 3/ 257، شرح صحيح مسلم للنووي: 4/ 532، وابن خلدون في تاريخه: 2/ 29، المعارف ابن قتيبة ص 70.

(1/245)


وابن القيم وابن حجر العسقلاني، وابن كثير رحمهم الله ومن المحدثين الخضري بك، والغزالي، والبوطي، وأبو شهبة والشيخ الساعاتي، وهذا القول هو الأصح والأظهر، والله أعلم؛ لأن الأدلة كلها متظاهرة ومتفقة على تأييد هذا القول، ومن هذه الأدلة: أ - روى البيهقي عن عروة، وموسى بن عقبة عن ابن شهاب الزهري أنه قال: "ثم قاتل بني المصطلق وبني لحيان في شعبان سنة خمس" (1). ب - قال ابن كثير: قال موسى بن عقبة عن الزهري: "هذه مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي قاتل فيها، يوم بدر في رمضان سنة ثنتين، ثم قاتل يوم أحد في شوال سنة ثلاث، ثم قاتل يوم الخندق -وهو يوم الأحزاب وبني قريظة- في شوال أربع، ثم قاتل بني المصطلق وبني لحيان في شعبان سنة خمس". ثم أورد ابن كثير قول البخاري عن موسى بن عقبة "أنها سنة أربع" (2) وعقب عليه بقوله: هكذا رواه البخاري عن مغازي موسى بن عقبة أنها سنة أربع، والذي حكاه موسى بن عقبة، عن الزهري وعن عروة أنها كانت في شعبان سنة خمس (3). وعقب ابن حجر العسقلاني في فتح الباري على قول البخاري "وقال موسى ابن عقبة سنة أربع" بقوله: "كذا ذكره البخاري، وكأنه سبق قلم أراد أن يكتب سنة خمس، فكتب سنة أربع، والذي في مغازي موسى بن عقبة من عدة طرق، أخرجها الحاكم، وأبو سعيد النيسابوري، والبيهقي في الدلائل وغيرهم سنة خمس. ولفظه عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب ثم قاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني __________ (1) البداية والنهاية: 3/ 242، 4/ 156، طبقات ابن سعد: 2/ 63، المعارف لابن قتيبة ص: 70، أنساب الأشراف البلاذري ص: 341، 343، العبر في خبر من غبر: 1/ 7، تاريخ الإِسلام: 2/ 272 وكلاهما للذهبي، ابن القيم رحمه الله (زاد المعاد: 3/ 256، نور اليقين: ص: 152، فقه السيرة الغزالي: 316، فقه السيرة البوطي القسم الثاني: 93، السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة: 196، الفتح الرباني ترتيب مسند أحمد الشيباني: 14/ 109، فتح الباري: 7/ 430. (2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: 9/ 54: 130 البخاري في المغازي باب غزوة بني المصطلق فتح الباري: 7/ 428. (3) البداية والنهاية: 3/ 242، 4/ 156.

(1/246)


المصطلق وبني لحيان في شعبان سنة خمس) ويؤيده ما أخرجه البخاري في الجهاد (عن ابن عمر أنه غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بني المصطلق في شعبان سنة أربع) ولم يؤذن له في القتال؛ لأنه إنما أذن له فيه في الخندق كما تقدم، وهي بعد شعبان سواء قلنا أنها كانت خمس أو سنة أربع). وقال الحاكم في الإكليل: قول عروة وغيره أنها كانت في سنة خمس أشبه من قول ابن إسحاق. قلت: ويؤيده ما ثبت في حديث الإفك: أن سعد بن معاذ تنازع هو وسعد بن عبادة في أصحاب الإفك كما سيأتي، فلو كانت المريسيع في شعبان سنة ست مع كون الإفك كان فيها، لكان ما وقع في الصحيح من ذكره سعد بن معاذ غلطًا، لأن سعد بن معاذ مات أيام قريظة، وكانت سنة خمس على الصحيح كما تقدم تقريره، وإن كانت كما قيل سنة أربع. فيظهر أن المريسيع كانت سنة خمس في شعبان، لتكون قد وقعت قبل الخندق؛ لأن الخندق كانت في شوال من سنة خمس أيضًا، فتكون بعدها، فيكون سعد بن معاذ موجودًا في المريسيع ورُميَ بعد ذلك بسهم ومات من جراحته في قريظة، ويؤيده أيضًا أن حديث الإفك كان سنة خمس، إذ الحديث فيه التصريح بأن القصة وقعت بعد نزول الحجاب، والحجاب كان في ذي القعدة سنة أربع عند جماعة، فيكون المريسيع بعد ذلك فيرجح أنها سنة خمس" (1). 2 - سبب غزوهم: كان لذلك أسبابًا عدة منها: 1 - تأييد هذه القبيلة لقريش وتكتلها معها في معركة أحد ضد المسلمين، وذلك ضمن كتلة الأحابيش (2) التي كانت في الجيش المكي. 2 - سيطرة هذه القبيلة على الخط الرئيسي المؤدي إلى مكة، فكانت حاجزًا منيعًا __________ (1) فتح الباري: 7/ 430، في المغازي باب غزوة بني المصطلق وغزوة أنمار. (2) الأحابيش: هم بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، والهون بن خزيمة بن مدركة، وبنو المصطلق من خزاعة، وسمو بذلك لأنهم تحالفوا وتعاقدوا مع قريش على أنهم يد على من سواهم، وكان ذلك عند جبل بأسفل مكة يقال له حبشي فنسبوا إليه، وقيل سموا بذلك لتجمعهم والتحبش التجمع، والحباشة الجماعة، لسان العرب ابن منظور: 8/ 166، القاموس المحيط الفيروز آبادي: 2/ 267.

(1/247)


من نفوذ المسلمين إلى مكة. 3 - من أهم الأسباب في هذه الغزوة أن قبيلة بني المصطلق أخذت تجمع المجموع لغزو المدينة المنورة، وقد أطمعها في التفكير في غزو المدينة والتصميم على ذلك انتصار المشركين في غزوة أحد، فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك أعد عدته، واتخذ التدابير المناسبة، وباغتهم في مكانهم، وهزمهم شر هزيمة. 406 - قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، ومحمد بن يحيى بن حبان، كل قد حدثني ببعض حديث بني المصطلق قال: "بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن بني المصطلق يجمعون له ... " فذكر الحديث (1). 407 - من حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن ابن عون قال: كتبت إلى نافع فكتب إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أغار علي بني المصطلق، وهم غارون وأنعامهم تسقي على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية، حدثني به ابن عمر وكان في ذلك الجيش" لفظ البخاري، وفي لفظ مسلم، قال ابن عون: "كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال، قال: فكتب إلي إنما كان ذلك في أول الإِسلام، قد أغار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبي سبيهم" الحديث فذكر بقية الحديث" (2). ترك الشيخ محمَّد الغزالي رواية البخاري ومسلم المتفق عليها في طريقة غزوه - صلى الله عليه وسلم - لبني المصطلق وأثبت أثرًا مخالفًا، وعلل ذلك بقوله "وفي الوقت الذي فسحت مكانًا لهذا الأثر -على ما به- صددت عن إثبات رواية البخاري ومسلم مثلًا للطريقة التي تمت بها غزوة بني المصطلق، فإن رواية الصحيحين تشعر بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - باغت القوم وهم غارون، ما عرضت عليهم دعوة الإِسلام، ولا __________ (1) قال الهيثمي في المجمع 6/ 142، رواه الطبراني ورجاله ثقات، وانظر سيرة ابن هشام: 2/ 290، وسنده صحيح. (2) أخرجه البخاري في العتق باب من ملك من العرب رقيقًا فوهب وباع رقم: 2541، وسلم في كتاب الجهاد باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام رقم:1730، أبو داود في الجهاد باب في دعاء المشركين: 2632، وأحمد في المسند: 2/ 31، 32، 51، شرح معاني الآثار للطحاوي كتاب السير: 3/ 209، السنن الكبرى للبيهقي: 9/ 54، 9/ 107، كتاب الأموال لأبي عبيد ص: 175.

(1/248)


بدا من جانبهم نكوص، ولا عرف من أحوالهم ما يقلق ... " إلى آخر كلامه (1) وقد جانب الشيخ الصواب لأسباب عدة منها: 1 - صحة حديث ابن عمر وصراحته في ذلك، وهو ثابت في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها، فلا يرده رأي يراه أي إنسان أو قول يحب أن ينصره. 2 - صرح كثير من العلماء بأن من بلغته الدعوة العامة إلى الإِسلام وقربت داره، أو حاول النيل من المسلمين أنه يجوز مباغتته على غرة (2). 3 - أن المستند الذي استند عليه الشيخ الغزالي حفظه الله لم تثبت صحته، في أثناء ذكره لسياق حديث غزوة بني المصطلق، وهو لا يقاوم الحديث الصحيح المسند المتفق على صحته إن كان صحيحًا فما بالك وهو ضعيف. 4 - ذكر الدكتور أكرم ضياء العمري حفظه الله أنه "لا يمكن معارضة آية قرآنية، أو حديث صحيح، برواية من كتب التاريخ والأدب. وقال في موطن آخر "ولا شك أن مادة السيرة في كتب الحديث موثقة يجب الاعتماد عليها، وتقديمها على روايات كتب المغازي والتواريخ العامة، وخاصة إذا أوردتها كتب الحديث الصحيحة؛ لأنها ثمرة جهود جبارة قدمها المحدثون عند تمحيص الحديث ونقده سندًا ومتنًا. وهذا التدقيق والنقد الذي حظي به الحديث، لم تحظ به الكتب التاريخية". 3 - أحداث الغزوة: 408 - وعن محمَّد بن إسحاق قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله ابن أبي بكر ومحمد بن يحيى ابن حبان كل قد حدثني ببعض حديث بني المصطلق قال: "بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن بني المصطلق يجمعون له، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار، أبو جويرية بنت الحارث، زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلما سمع بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إليهم، حتى لقيهم على ماء لهم يقال له: المريسيع، من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف الناس واقتتلوا، فهزم الله __________ (1) فقه السيرة محمَّد الغزالي ص: 10 تحت عنوان حول أحاديث هذا الكتاب. (2) صحيح مسلم بشرح النووي: 4/ 343، شرح معاني الآثار للطحاوي: 3/ 207 - 210 المدونة الكبرى لمالك: 2/ 2 تحفة الأحوذي: 5/ 155 - 156، فتح الباري: 6/ 112، 7/ 340،445.

(1/249)


بني المصطلق (وقتل الحارث بن أبي ضرار أبا جويرية)، وقتل من قتل منهم، ونفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبناءهم ونساءهم وأموالهم. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصاب منهم سبيًا كثيرًا، قسمه بين المسلمين (وكان فيما أصاب يومئذ جويرية بنت أبي ضرار سيدة قومها). وقد أصيب رجل من المسلمين من بني كلب بن عوف بن عامر بن ليث بن بكر، يقال له: هشام بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت، وهو يرى أنه من العدو فقتله خطأ، وقد وفد مقيس بن صبابة من مكة مسلمًا فيما يظهر، فقال: يا رسول الله جئتك مسلمًا، وجئت أطلب دية أخي، قتل خطأ. فأمر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدية أخيه هشام بن صبابة، فأقام عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير كثير، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم خرج إلى مكة مرتدًا، وأصيب من بني المصطلق يومئذ ناس، وقتلَ علي بن أبي طالب منهم رجلين مالكًا وابنه، وقتل عبد الرحمن بن عوف رجلًا من فرسانهم يقال له: أحمر، أو أحيمر" (1). وليس بين هذا الحديث وبين حديث ابن عمر في الصحيح تعارض، فقد جمع ابن حجر رحمه الله بينهما بقوله: "ويحتمل أن يكون لما دهم المسلمون بني المصطلق وهم على الماء ثبتوا قليلًا وقاتلوا، ولكن وقعت الغلبة عليهم" (2). 4 - شعار المسلمين في غزوة بني المصطلق: 409 - من حديث سنان بن وبرة قال: "كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة المريسيع غزوة بني المصطلق فكان شعارهم: "يا منصور أمت أمت" (3). __________ (1) ابن هشام في السيرة: 290 - 293، وسنده صحيح إلى ابن إسحاق وقد صرح بالتحديث وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 142، رواه الطبراني ورجاله ثقات، ومدار الحديث على ابن إسحاق ورجاله ثقات وهم رجال الصحيح غير أنه مرسل، ويشهد له حديث عبد الله بن عمر فإنه صريح في وجود القتل والسبي وبذلك يكون الحديث حسنًا لغيره. (2) فتح الباري: 7/ 430 - 431، في التعليق علي حديث غزوة بني المصطلق في المغازي. (3) مجمع الزوائد: 6/ 142، وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط والكبير وإسناده حسن، وهو كما قال الهيثمي وإن كان فيه الحارث بن رافع الجهني قال فيه في التقريب مقبول عملًا بقاعدة تحسين الحديث للمستور إذا كان من التابعين كما هو مذهب ابن كثير وابن رجب رحمهما الله تعالى.

(1/250)


5 - قصة جويرية بنت الحارث وزواج النبي - عليه السلام - بها: 410 - من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "لما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبايا بني المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن الشماس، أو لابن عم له، وكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة ملاحة، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تستعينه في كتابتها. قالت: فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي، فكرهتها وعرفته أنه سيرى منها ما رأيت، فدخلت عليه، فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني ما لم يخف عليك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عمه له، فكاتبته على نفسي، فجئتك أستعينك على كتابي. قال: (فهل لك خير من ذلك؟) قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: (أقضي كتابتك وأتزوجك)، قالت: نعم يا رسول الله، قال: (قد فعلت). قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج جويرية بنت الحارث، فقال الناس: أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسلوا ما بيديهم، قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها" (1). 6 - محاولة المنافقين إثارة الفتنة بين المسلمين في هذه الغزوة: 411 - من حديث جابر بن عبد الله قال: "كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة، قال: يرون أنها غزوة بني المصطلق، فكسع (2) رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذاك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ما بال دعوى جاهلية؟) قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال: (دعوها فإنها منتنة). __________ (1) أخرجه أحمد في المسند: 6/ 277، والحاكم: 4/ 26، وسكت عنه هو والذهبي وأخرجه ابن هشام في السيرة النبوية وقد صرح ابن إسحاق بالسماع وسنده متصل: 2/ 294 والطبراني في الكبير: 24/ 61 وقال الساعاتي في الفتح الرباني: 14/ 109 - 110 سنده جيد. أبو داود في كتاب العتق باب في بيع المكاتب إذا فسخت الكتابة: 3931 وسنده حسن- وقد صرح ابن إسحاق بالسماع وسنده متصل. (2) كسع: ضرب دبره أخرجه بيد أو رجل أو سيف.

(1/251)


فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال: فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعه لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، وكانت الأنصار أكثر من المهاجرين حين قدموا المدينة ثم أن المهاجرين كثروا بعدا" (1). قول زعيم المنافقين (لا تنفقوا على من عند رسول الله ...) ونقل زيد بن أرقم ذلك إلى النبي: 412 - من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه: قال: "خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر أصاب الناس فيه شدة، فقال عبد الله بن أبي لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله". وقال: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله, فاجتهد يمينه ما فعل، قالوا: كذب زيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوقع في نفسي ما قالوا شدة حتى أنزل الله -عزَّ وجلَّ- تصديقي في قوله: {إذا جاءك المنافقون} فبعث إليَّ النبي فقرأ فقال: (إن الله قد صدقك يا زيد) (2). كيف عالج رسول الله عليه الصلاة والسلام: 413 - من طريق محمَّد بن إسحاق قال حدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر، ومحمد بن يحيى بن حبان، كل قد حدثني حديث بني المصطلق وساق الحديث، وذكر قصة الأنصار والمهاجرين والخصومة بينهما إلى أن قال: (... فغضب عبد الله بن أبي بن سلول، وعنده رهط من قومه فيهم: زيد __________ (1) أخرجه البخاري في التفسير باب قوله {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} رقم: 4905، 4907، مسلم كتاب البر والآداب والصلة باب نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا رقم: 2584، والترمذي في التفسير باب ومن سورة المنافقين حديث رقم: 3315، وقال حسن صحح أحمد في المسند: 3/ 392 - 393، والطيالسي: 2/ 76 رقم: 2272، والحميدي: 1239، واللفظ لأحمد. (2) أخرجه البخاري في التفسير سورة المنافقين باب إذا جاءك المنافقون رقم: 4900، 4901، 4902، 4903، 4904، مسلم أول صفات المنافقين رقم: 2772، الترمذي في التفسير باب ومن سورة المنافقين حديث رقم: 3312، وقال حسن صحيح: 3313 وقال حسن صحيح: 3314 وقال حسن صحح، وأحمد في المسند: 4/ 369، 373.

(1/252)


بن أرقم غلام حدث! فقال: أو قد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدّنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حصره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم. فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك عند فراغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عدوه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب، فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه! لا, ولكن أذن بالرحيل) وذلك في ساعة لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرتحل فيها، فارتحل الناس وقد مشى عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمع منه، فحلف بالله، ما قلت ما قال، ولا تكلمت به -وكان في قومه شريفًا عظيمًا- فقال من حضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل، حدبًا على ابن أبي بن سلول، ودفعًا عنه. فلما استقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسار، لقيه أسيد بن حضير، فحياه بتحية النبوة وسلم عليه، ثم قال: يا نبي الله، والله لقد رحت في ساعة منكرة، ما كنت تروح في مثلها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أوما بلغك ما قال صاحبكم؟) قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: (عبد الله بن أبي)، قال: وما قال: قال: (زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال: فأنت يا رسول الله، والله تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل، وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول الله ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى إنك قد استلبته ملكًا. ثم مشى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدد يومهم ذلك، حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نيامًا، وإنما فعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليشتغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس، من حديث عبد الله بن أبي" إلى أن قال: وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه، ويأخذونه

(1/253)


ويعنفونه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم: (كيف ترى يا عمر، أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله لأرعدت (1) له أنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته). قال: قال عمر: "قد والله علمت لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم بركة من أمري" (2): موقف عبد الله بن عبد الله بن أبي من أبيه: 414 - في رواية الترمذي لحديث جابر السابق الذكر عن غزوة بني المصطلق ومحاولة المنافقين إثارة الفتنة زيادة لطيفة ليست عند البخاري ومسلم حيث قال الترمذي بعد قول النبي لعمر: (دعه لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه)، وقال غير عمرو (يعني ابن دينار): فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله: والله لا تنفلت حتى تقر أنك الذليل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - العزيز ففعل (3). وقد جاء موقف عبد الله بن عبد الله بن أبي من أبيه واستئذانه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أربعة أحاديث كلها منقطعة، ولكن رجالها ثقات عند الحميدي (4) من طريق أبي هارون، وعند الطبراني من طريق عروة بن الزبير، قال فيه الهيثمي (5) رجاله رجال الصحيح، ومن طريق عاصم بن عمر بن قتادة عند ابن جرير الطبري وابن هشام في السيرة (6)، ومن طريق عكرمة وابن زيد عند ابن كثير في التفسير والتاريخ (7). ولكن مجموع هذه الطرق يؤيد بعضها بعضًا، وترتقي إلى درجة الحسن __________ (1) لأرعدت له أنف: انتفخت واضطربت أنوفهم حمية وعصبية. (2) سيرة ابن هشام: 2/ 290 - 292 والحديث رجاله ثقات ولكنه مرسل، وابن جرير الطبري في تاريخه: 2/ 605، وله شاهد مرسل من طريق عروة عند ابن أبي حاتم قال فيه ابن حجر، أنه مرسل جيد فتح الباري: 8/ 649، وأصله في الصحيحين كما سبق من حديث زيد بن أرقم، وجابر بن عبد الله وبهذا يكون الحديث حسنًا لغيره. (3) سبق تخريجه دون هذه الزيادة من حديث جابر رقم: 411، فانظر هناك. (4) مسند الحميدي: 2/ 520. (5) مجمع الزوائد: 9/ 318. (6) سيرة ابن هشام: 2/ 292 - 293، ابن جرير التاريخ: 2/ 608 تفسير: 28/ 116. (7) تفسير ابن كثير: 4/ 372، تاريخ البداية والنهاية: 4/ 158.

(1/254)


لغيره، ويقويها رواية الترمذي السابقة الذكر، وقد جاء أيضًا ما يقويها من حديث أبي هريرة دون ذكر أنها كانت في غزوة بني المصطلق. 415 - من حديث أبي هريرة قال: "مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعبد الله بي أبي وهو في ظل أطم (1) فقال: عبر علينا ابن أبي كبشة (يعني بذلك رسول الله) فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله: يا رسول الله، والذي أكرمك لئن شئت لآتينك برأسه، فقال: (لا ولكن بر أباك وأحسن صحبته) " (2). هبوب ريح شديدة لموت عظيم من المنافقين: 416 - من حديث ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، ومحمد بن يحيى بن حبان. "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قفل من غزوة بني المصطلق سلك بالناس طريق الحجاز حتى نزل على ماء بالحجاز فويق النقيع يقال له نقعاء، فلما راح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هبت على الناس ريح شديدة آذتهم، وتخوفوها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تخافوها، فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار، فلما قدموا المدينة، وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت أحد بن قينقاع، وكان عظيمًا من عظماء يهود، وكهفًا للمنافقين، مات في ذلك اليوم ...) " (3). وقد وصله الإِمام مسلم، وعبد بن حميد، وأحمد من طريق آخر عن جابر دون ذكر أن الريح كانت في غزوة بني المصطلق وسأكتفي هنا بإيراد رواية مسلم. 417 - من حديث جابر رضي الله عنه قال: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم من سفر، فلما كان قرب المدينة هاجت ريح شديدة تكاد أن تدفن الراكب، فزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (بعثت هذه الريح لموت منافق، فلما قدم المدينة، فإذا منافق عظيم من المنافقين قد مات) (4). وبهذا الشاهد يعلم أن حديث ابن إسحاق يصبح حسنًا لغيره. __________ (1) أطم: بناء مرتفع. (2) قال الهيثمي في المجمع: 9/ 318، رواه البزار ورجاله ثقات. (3) سيرة ابن هشام: 2/ 292 وهو مرسل رجاله ثقات وصرح ابن إسحاق بالتحديث. (4) أخرجه مسلم في كتاب صفة المنافقين رقم: 2782 أحمد في المسند: 3/ 315، 341، 346 وأبو يعلى في مسنده: 4/ 201، والطبري في تاريخه: 2/ 607 والبيهقي في الدلائل: 4/ 61.

(1/255)


 المبحث السادس: حادثة الإفك

418 - من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرج سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه. قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها، (1) فخرج فيها سهمي، فخرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك بعد ما أنزل الله الحجاب، فانا أحمل في هودجي، وأنزل فيها مسيرنا، حتى إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوه، وقفل ودنونا من المدينة آذن (2) ليله بالرحيل". 1 - سبب تأخر عائشة عن الجيش: فقمت حين آدنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل، فلمست صدري فهذا عقدي من جزع (3) ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فحملوا هودجي (4)، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه. قالت: وكان النساء إذ ذاك خفافًا، لم يُهَبَّلنَ (5)، ولم يغشهن اللحم (6)، إنما يأكلن العلقة (7) من الطعام، فلم يستنكر القوم ثقل (8) الهودج حين رحلوه ورفعوه، وكنت جارية حديثة السنن, فبعثوا الجمل وساروا، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب. __________ (1) غزوة غزاها: هي غزوة بني المصطلق كما هو في رواية أبي يعلى في مسنده عن عائشة: 4/ 450. (2) آذن: اعلم. (3) جزع ظفار: خرز يماني. (4) هودج: مركب النساء. (5) يهبلن: لم يكثر عليهن اللحم والشحم. (6) يغشهن: يغط اللحم بعضه بعضًا. (7) العلقة: القليل من الطعام. (8) في رواية الليث عن يونس (فلم يستنكر القوم خفة الهودج).

(1/256)


فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إلي، فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكراني قد عرس (1) من وراء الجيش فأدلج (2)، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني، فعرفني حين رآني، وقد كان يراني قبل أن يضرب الحجاب عليَّ، فاستيقظت باسترجاعه (3) حين عرفني، فخمرت (4) وجهي بجلبابي، والله ما يكلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها فركبتها، فانطلق يقول في الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحو الظهيرة (5)، فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول. 2 - انتشار الإفك في المدينة: فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمنا المدينة شهرًا، والناس يفيضون (6) في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني (7) في وجعي أني لا أعرف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللطف (8) الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ فذاك يريبني، ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت (9)، وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع (10) هو متبرزنا, ولا نخرج إلا ليلًا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف (11) قريبًا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه (12)، وكنا __________ (1) عرس: التعريس هو نزول المسافر آخر الليل نزله للنوم والاستراحة. (2) أدلج: صار آخر الليل. (3) الاسترجاع: قوله إنا لله وإنا إليه راجعون. (4) خمرت: غطيت. (5) موغرين: النازل في وقت الوغرة وهو شدة الحر. (6) يفيضون: يخوضون. (7) يربيني: أوهمه وشكله. (8) اللطف: البر والرفق. (9) نقهت: برأت وافقت. (10) المناصع: مواضع قضاء الحاجة. (11) الكنف: جمع كنيف المكان الساتر المعد لقضاء الحاجة. (12) التنزه: البعد لقضاء لحاجة.

(1/257)


نتأذى (1) بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب، فأقبلت أنا وبنت أبي رهم قبل بيتي حين فرغنا من شأننا. فعثرت أم مسطح في مرطها (2). فقالت: تعس (3) مسطح، فقلت لها: أتسبين رجلًا قد شهد بدرًا؟! قالت: آي هنتاه (4)؟ ألم تسمعي ما قال: قلت: وماذا قال قالت: فأخبرتني يقول أهل الإفك فازددت مرضًا إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي، فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: (كيف تيكم؟) قلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجئت أبوي، فقلت لأمي: يا أمتاه ما يتحدث الناس، فقالت: يا ابنية هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة (5)، عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن (6) عليها، قالت: قلت: سبحان الله وقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي. 3 - استشارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه عند تأخر الوحي: ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة فأشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود فقال: يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرًا، وأما علي بن أبي طالب فقال: لم يضيق الله عيك في __________ (1) نتأذى: نتقذر (2) عثرت في مرطها: وطئته برجلها فسقطت. (3) تعس: إذا أعثر وانكب لوجهه وهو دعاء عليه بالهلاك. (4) هنتاه: يا بلهاء كأنها نسبتها إلى قلة المعرفة بمكائد الناس وشرورهم. (5) وضيئة: حسنة مبهجة جميلة. (6) كثرن عليها: القول في عيبها.

(1/258)


النساء كثيرًا، وإن تسأل الجارية تصدقك، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة فقال: (أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟). قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرًا قط أغمصه (1) عليها، أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن (2) فتأكله، قالت: فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فاستعذر (3) من عبد الله بن أبي بن سلول. قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر: (يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلًا ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي) فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. 4 - آثار فتنة الإفك: قالت: فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان رجلًا صالحًا، ولكن اجتهلته الحمية، فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله لا تفتله، ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم حتى سكتوا، وسكت. قالت وبكيت يومي ذلك، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي، استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي، قالت: فبينما نحن على ذلك دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسلم ثم جلس قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل. __________ (1) أغمصه: أعيبها به وأطعن فيها به. (2) الداجن: الشاة التي يعلفها الناس في منازلهم. (3) استعذر أي قال من يقوم بعذري إن كافأت على سوء صنيعه فلا يلومني.

(1/259)


5 - مفاتحة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعائشة وجوابها له: وقد لبث شهرًا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت: فشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: (أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا (1). فإن كنت بريثة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب، تاب الله عليه). قالت: فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته، قلص دمعي (2) حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قال، فقال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقلت: وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرًا من القرآن، إني والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقر في نفوسكم، وصدقتم به، فإن قلت لكم: إني بريئة -والله يعلم أني بريئة- لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر -والله يعلم أني بريئة- لتصدقونني، وإني والله ما أجد لي ولكم مثلًا إلا كما قال أبو يوسف: {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون}. قالت: ثم تحولت فاضجعت على فراشي، قالت: وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله مبرئي ببرائتي، ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله -عَزَّ وَجَلَّ- في بأمر يتلى، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرئني الله بها. 6 - نزول الوحي ببراءة عائشة: قالت: فوالله ما رام (3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسه، ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فأخذه ما كان يأخذه من __________ (1) كذا وكذا: كناية عما رميت به من الإفك. (2) قلص دمعي: ارتفع وذهب. (3) ما رام: ما برح وما فارق مجلسه.

(1/260)


البرحاء (1) عند الوحي، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان (2) من العرق في اليوم الشات من ثقل القول الذي أنزل عليه، قالت: فلما سرى (3) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يضحك، فكان أول كملة تكلم بها أن قال: (أبشري يا عائشة، أما الله فقد برأك) فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله هو الذي برأني. قالت: فأنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم} عشر آيات فأنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- هؤلاء الآيات ببراءتي، قالت: فقال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق عليه شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} ... إلى قوله {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} ". قال حبان بن موسى: قال عبد الله بن المبارك: هذه أرجى آية في كتاب الله. "فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال لا أنزعها منهُ إبدًا. قالت عائشة: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل زينب بنت جحش زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمري (ما علمت؟ وما رأيت؟) فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، (4) والله ما علمت إلا خيرًا. قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني (5) من أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعصمها الله بالورع. وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها، فهلكت فيمن هلك، قال الزهريّ: فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط" (6). وهذا اللفظ لمسلم. __________ (1) البرحاء: شدة الكرب من ثقل الوحي. (2) الجمان: هو اللؤلؤ الصغار. (3) سرى: انكشف عنه ما يجده من الهم والقتل. (4) أحمي سمعي وبصري: أي أمنعهما من أن أنسب إليهما ما لم يدركاه، ومن العذاب لو كذبت عليهما. (5) تساميني: تعاليني وتفاخرني تطاولني عنده - صلى الله عليه وسلم -. (6) أخرجه البخاري في المغازي باب حديث الإفك رقم: 4141، مسلم في صحيحه كتاب التوبة باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف رقم: 2770، الترمذي في التفسير باب ومن سورة النور حديث رقم: 3180، وأبو يعلى في منده: 4397، 4927، أحمد في المسند: 6/ 59، وانظر الفتح الرباني: 21/ 73 - 75 وعبد الرزاق في المصنف: 5/ 410 - 419.

(1/261)


7 - الذي تولى كبر الإفك: 419 - من حديث عائشة: قالت: "وكان الذي يتكلم فيه مسطح وحسان بن ثابت والمنافق عبد الله بن أبي، وهو الذي كان يستوشيه (1) وهو الذي تولى كبره منهم هو وحمنة" (2). 8 - إقامة الحد على القاذفين: 420 - من حديث عائشة قالت: "لما نزل عذري قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم" (3). 421 - من حديث أبي هريرة قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأصاب عائشة القرعة في غزوة بني المصطلق ... " الحديث (4). وفيه "وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجيء فيقوم على الباب فيقول: (كيف تيكم؟) حتى جاء يومًا فقال: (أبشري يا عائشة فقد أنزل الله عذرك، فقالت: بحمد الله لا بحمدك، وأنزل الله -عزَّ وجلَّ- في ذلك عشر آيات {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم} قال: فحد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسطحًا وحمنة وحسان". وكذا جاء من حديث عائشة عن ابن إسحاق في السيرة وسنده في ذلك صحيح، وقد صرح بالتحديث كما جاء في سيرة ابن هشام (5). 9 - موقف صفوان بن المعطل من حسان بن ثابت: 422 - قال ابن إسحاق: حدثني محمَّد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: أن ثابت ابن قيس بن الشماس وثب على صفوان بن المعطل، حين ضرب حسان، فجمع __________ (1) يستوشيه: يستخرجه الحديث .. والسؤال والبحث عه. (2) أخرجه البخاري في تفسير سورة النور باب قوله {إن الذي يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا} رقم: 4757، مسلم في كتاب التوبة باب حديث الإفك رقم: 2770 الترمذي تفسير سورة النور حديث رقم:3180. (3) أخرجه الترمذي في التفسير باب ومن سورة النور حديث رقم: 3181 وقال حسن غريب ابن ماجه كتاب الحدود باب حد القذف حديث رقم: 2765، أبو داود حديث رقم: مصنف عبد الرزاق: 5/ 19، وأحمد: 6/ 61. (4) قال الهيثمي في المجمع: 9/ 230 رواه البزار وفيه محمَّد بن عمرو حسن الحديث وبقية رجاله ثقات. (5) سيرة ابن هشام: 2/ 297 - 300.

(1/262)


يديه إلى عنقه بحبل، ثم انطلق به إلى دار بني الحارث بن الخزرج: فلقيه عبد الله بن رواحة فقال: ما هذا؟ قال: أما أعجبك ضرب حسان بالسيف! والله ما أراه إلا قد قتلته، قال له عبد الله بن رواحة: هل علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء مما صنعت؟ قال: لا والله، قال: لقد اجترأت، أطلق الرجل، فأطلقه، ثم أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكروا ذلك له، فدعا حسان وصفوان بن المعطل، فقال ابن المعطل: يا رسول الله آذاني وهجاني، فاحتملني الغضب، فضربته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسان: (أحسن يا حسان، أتشوفت على قومي، أن هداهم الله للإسلام)، ثم قال: (أحسن يا حسان في الذي أصابك) قال: هي لك يا رسول الله" (1). __________ (1) سيرة ابن هشام: 2/ 305، ابن جرير: 2/ 618 البيهقي في الدلائل: 4/ 74 - 75 وقال ابن حجر في تعجيل المنفعة: ص 128 سنده صحيح وقد وصلها موسى بن عقبة في مغازيه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وانظر مجمع الزوائد: 9/ 234 - 236. وقال الهيثمي رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

(1/263)


 الفصل السادس غزوة الأحزاب

 المبحث الأول: أحداث ما قبل المعركة

1 - وقت الغزوة وسببها: اختلف في وقتها وتاريخها على قولين أحدهما قول ابن إسحاق أنها في سنة خمس: 423 - عن محمَّد بن إسحاق قال: كانت الخندق في شوال سنة خمس وفيها مات سعد بن معاذ رضي الله عنه (1) قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (وكانت في سنة خمس من الهجرة في شوال على أصح القولين إذ لا خلاف أن أحدًا كانت في شوال سنة ثلاث، وواعد المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العام المقبل وهو سنة أربع ثم أخلفوه، لأجل جدب تلك السنة، فرجعوا، فلما كانت سنة خمس جاءوا لحربه، هذا قول أهل السير والمغازي (2). وذهب إلى هذا القول ابن سعد في الطبقات, والبيهقي في السنن وقطع به الذهبي، واعتمده الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وأبي عبيد في كتاب الأموال (3). وقال ابن كثير: وقد كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة نص على ذلك ابن إسحاق وعروة ابن الزبير وقتادة والبيهقي وغير واحد من العلماء سلفًا وخلفًا، وقد صرح الزهريّ بأن الخندق قد كانت بعد أحد بسنتين، __________ (1) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 142، رواه الطبراني ورجاله ثقات، سيرة ابن هشام: 2/ 214. (2) زاد المعاد: 3/ 269. (3) السيرة النبوية ابن هشام: 2/ 214، طبقات ابن سعد: 2/ 65، المغازي النبوية ص: 79، كتاب الأموال ص: 135، فتح الباري: 7/ 393، المغازي باب غزوة الخندق، دلائل النبوة للبيهقي: 3/ 393 - 397.

(1/264)


ولا خلاف أن أحدًا في شوال سنة ثلاث" (1). والقول الآخر: أنها كانت في شوال سنة أربع للهجرة، قال بذلك موسى بن عقبة في مغازيه، وتابعه على ذلك مالك بن أنس، ومال البخاري إلى ذلك، وقد رد ابن حجر في فتح الباري على القائلين بهذا القول، وبين ضعفه، وبأنه غير معتمد، وناقش ذلك حجة بحجة ودليلًا بدليل فانظره (2). 424 - قال ابن إسحاق حدثنا يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير عن عبد الله بن كعب بن مالك، ومحمد بن كعب القرظي، والزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر وغيرهم من علمائنا، كلهم قد اجتمع حديثه في الحديث عن الخندق قالوا: "إنه كان الذين حزبوا الأحزاب نفرًا من اليهود، وكان منهم سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب النضري، وكنانة بن أبي الحقيق النضري، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلي، في نفر من بني النضير، فلما قدموا على قريش، فدعوهم إلى حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: إنا سنكون معكم عليه، حتى نستأصله. فقالت لهم قريش: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا يختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، فهم الذين أنزل الله فيهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} (3) (4). __________ (1) سيرة ابن كثير: 3/ 180 وانظر الرد على القائلين بغير القول عند ابن إسحاق. (2) فتح الباري: 7/ 393، المغازي باب غزوة الخندق وهو غزوة الأحزاب. (3) الآيات من سورة النساء: 51 - 54. (4) السيرة النبوية ابن هشام: 2/ 214 - 215 بإسناده ورجاله ثقات وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث ولكنه مرسل، وقد وصله السيوطي من رواية ابن إسحاق عن ابن عباس في لباب النقول، لأسباب النزول ص: 17، رواه الطبراني في الكبير: 11/ 251، وقال الهيثمي في المجمع: 7/ 6 وفيه يونس بن سليمان الجمال ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح.

(1/265)


2 - حفر الخندق: 425 - من حديث أنس رضي الله عنه قال: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الخندق فإذا المهاجرين والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال: (اللهم إن العيش عيش الآخرة فأغفر للأنصار والمهاجرة) فقالوا مجيبين له: نحن الذين بايعوا محمدًا ... على الجهاد ما بقينا أبدًا وفي لفظ آخر قال: "جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق حول المدينة، وينقلون التراب على متونهم وهم يقولون: نحن الذين بايعوا محمدًا ... على الإِسلام ما بقينا أبدًا قال يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يجيبهم (اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة، فبارك في الأنصار والمهاجرة) قال: يؤتون بملء كفي من الشعير، فيصنع لهم بإهالة (1) سنخ توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن" (2). 426 - من حديث البراء بن عازب قال: "لما كان يوم الأحزاب، وخندق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رأيته ينقل من تراب الخندق، حتى وارى عني التراب جلدة بطنه -وكان كثير الشعر- فسمعنه يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل من التراب يقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزل سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا إن الألى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا قال: ثم يمد صوته بآخرها" (3). __________ (1) الإهالة: الدهن الذي يؤتدم به سواء كان زيتًا أو سمنًا أو شحمًا. (2) أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة الخندق حديث رقم: 4099 - 4100، مسلم في صحيحه الجهاد والسير باب غزوة الأحزاب وهي الخندق حديث رقم: 1805، الفتح الرباني: 21/ 77. (3) أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة الخندق حديث رقم: 4106، 4104، مسلم في صحيحه الجهاد والسير باب غزوة الأحزاب رقم: 1803، الفتح الرباني: 21/ 77، وكذلك جاء شبيهًا بالحديثين من حديث سهل بن سعد الساعدي عند البخاري في المغازي باب غزوة الخندق رقم: 4098، ومسلم رقم:1804.

(1/266)


3 - معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب: أ - إبصاره قصور الملوك وإعطاؤهُ مفاتيح ملكهم: 427 - من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "لما كان حين أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفر الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول، فاشتكينا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءنا فأخذ المعول فقال: (بسم الله، فضرب ضربة فكسر ثلثها، وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة، ثم ضرب الثانية، فقطع الثلث الآخر فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض، ثم ضرب الثالثة، وقال: بسم الله فقطع بقية الحجر فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة) " (1). ب - تكثيره الطعام: 428 - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "احتفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخندق، وأصحابه قد شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع، فلما رأى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (هل دللتم على أحد يطعمنا أكلة) قال رجل: نعم، قال: (أما لا فتقدم فدلنا عليه). فانطلقوا إلى رجل فإذا هو في الخندق يعالج نصيبه فيه، فأرسلت إليه امرأته أن جيء فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أتانا فجاء الرجل يسعى. فقال: بأبي وأمي، وله معزة وجديها فوثب إليها, فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الجدي من ورائنا) فذبح الجدي، وعمدت امرأته إلى طحينة لها فعجنتها وخبزت، __________ (1) أخرجه أحمد في المسند: 4/ 303 والنسائي في الجهاد باب غزوة الترك: 6/ 43 - 44، والبيهقي في الدلائل: 3/ 417 - 418 ,وحسن إسناده الحافظ في الفتح 7/ 397، حيث قال ووقع عند أحمد والنسائي في هذه القصة زيادة بإسناد حسن عن البراء فذكر الحديث وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 130 - 131 رواه أحمد وفيه ميمون أبو عبد الله وثقه ابن حبان وضعفه جماعة وبقية رجاله ثقات. وللحديث شواهد من حديث ابن عباس عند الطبراني كما قال الهيثمي في المجمع: 6/ 131 - 132، سنورد تخريجه في الحديث التالي برقم: 428، ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال الهيثمي في المجمع: 6/ 131، رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما حيي بن عبد الله وثقه ابن معين وضعفه جماعة وبقية رجاله رجال الصحيح، وله شاهد من حديث جابر في الصحيحين سيأتي ذكره وبهذا يكون الحديث كما قال الحافظ أو أكثر. * السمت: الدعاء.

(1/267)


وأدركت وتردت، فقربتها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فوضع النبي - صلى الله عليه وسلم - أصبعه فيها فقال: (بسم الله، اللهم بارك فيها، اللهم بارك فيها اطعموا) فأكلوا منه حتى صدروا, ولم يأكلوا إلا ثلثها وبقى ثلثاها، فسرح أولئك العشرة الذين كانوا معه أن اذهبوا، وسرحوا إلينا نغديكم، فذهبوا وجاء أولئك العشرة مكانه، فأكلوا منها حتى شبعوا، ثم قام ودعا لربة البيت وسمَّت عليها وعلى أهلها، ثم مشوا إلى الخندق فقالوا: اذهبوا بنا إلى سلمان، وإذا صخرة بين يديه قد ضعف عنها، فقال النبي لأصحابه: (دعونى فأكون أول من ضربها فقال: بسم الله) فضربها فوقعت فلقة ثلثها فقال: (الله أكبر قصور الروم ورب الكعبة)، ثم ضرب أخرى فوقعت فلقة فقال: (الله أكبر قصور فارس ورب الكعبة)، فقال عندها المنافقون: نحن نخندق وهو يعدنا قصور فارس والروم (1). 429 - من حديث جابر رضي الله عنه قال: "لما حفر الخندق رأيت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمصًا (2) فانكفأت (3) إلى امرأتي، فقلت لها: هل عندك شيء؛ فإني رأيت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمصًا شديدًا، فأخرجت لي جرابًا (4) فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة (5) داجن (6)، قال: فذبحتها وطحنت، ففزعت إلى فراغي، فقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقالت: لا تفضحني برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه، قال: فجئته فساررته، فقلت: يا رسول الله! إنا قد ذبحنا بهيمة لنا، وطحنت صاعًا من شعير كان عندنا، فتعال أنت في نفر معك، فصاح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: (يا أهل الخندق! إن جابرًا قد صنع لكم سورًا (7) فحيهلا بكم). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينتكم، حتى أجيء) فجئت وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدم الناس، حتى جئت امرأتي. فقالت: بك __________ (1) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 131 - 132 رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن أحمد ابن حنبل ونعيم العنبري وهما ثقتان. (2) خمصًا: خلاء البطن من الطعام. (3) انكفأت: فرجعت وانقلبت. (4) الجراب: الوعاء من الجلد. (5) البهيمة: السخلة الصغيرة من ولاد المعز. (6) داجن: ما ألف البيوت. (7) السور: الطعام الذي يدعى إليه.

(1/268)


وبك (1)، فقلت: قد فعلت الذي قلت لي. فأخرجت له عجينتنا فبصق فيها وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيه وبارك، ثم قال: (ادعي خابزة فلتخبز معك، واقدحي في برمتكم (2) ولا تنزلوها) وهم ألف. فأقسم بالله إلا أكلوا حتى تركوه وانحرفوا (3)، وإن برمتنا لتغط (4) كما هي، وإن عجينتنا -أو كما قال الضحاك- لتخبز كما هو" (5). 4 - منزل المشركين في الخندق: 430 - من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر} قالت: كان ذاك يوم الخندق" (6). وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنه كما قال الحافظ في الفتح تفسير آخر قال: "وعند ابن مردويه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما {إذ جاءوكم من فوقكم} قال: عيينة بن حصن {ومن أسفل منكم} أبو سفيان بن حرب" (7). وقد بين ابن إسحاق بسنده الذي ذكره في بداية غزوة الخندق ورجاله ثقات، وقد صرح هو بالتحديث، لكن الحديث مرسل ولذا فإنه يستأنس به تحديد الموقع الذي نزل فيه المشركون قال: (نزلت قريش بمجمع السيول في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وتهامة، ونزل عيينة في غطفان ومن معهم من أهل نجد إلى جانب أحد بباب نعمان، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف، والخندق بينهم وبين القوم، وجعل __________ (1) بك وبك: ذمته ودعت عليه. (2) اقدحي في برمتكم: أي اغرفي. (3) تركوا، وانحرفوا: شبعوا وانصرفوا. (4) لتغط: تغلي ويسمع غلبانها. (5) أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة الخندق رقم: 4102 ورقم: 4101، مسلم في صحيحه كتاب الأشربة باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه حديث رقم: 2039، الفتح الرباني: 22/ 60، والحاكم في المستدرك: 3/ 30 - 31، وأحمد في المسند: 3/ 30 مختصرًا والدارمي في المقدمة باب ما أكرم به النبي في بركة طعامه: 1/ 19 - 12 والطبراني في الأحاديث الطوال برقم: 51، 25/ 302. (6) أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة الخندق حديث رقم: 4103. (7) فتح الباري على صحيح البخاري في التعليق على الحديث السابق: 7/ 440.

(1/269)


النساء والذراري في الأطام" (1). وقد جاء تحديد موضع الخندق من حديث عمرو بن عوف المزني: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خط الخندق من أحمر السبختين طرف بني حارثة عام حرب الأحزاب، حتى بلغ المداحج فقطع لكل عشرة أربعين ذراعًا" (2). والحديث يستأنس به في هذا الموطن لأنه ليس فيه إثبات حكم شرعي أو غير ذلك، وإنما هو تحديد مكان تاريخي ألا وهو مكان الخندق. 5 - شعار المسلمين يوم الخندق: 431 - عن المهلب بن أبي صفرة قال: سمعت من يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وهو يخاف أن يبيته أبو سفيان فقال: (إن بيتم فادعو حم لا ينصرون) (3). __________ (1) انظر تخريج السند أولًا في حديث رقم: 424 والحديث في السيرة لابن هشام: 2/ 315 - 316. وانظر فتح الباري: 7/ 400. (2) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 130، رواه الطبراني وفيه كثير بن عبد الله المزني وقد ضعفه الجمهور وحسن الترمذي حديثه وبقية رجال ثقات. (3) أخرجه أحمد في المسند: 4/ 65، 289، 5/ 377، الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب ما جاء في الشعار حديث رقم: 1682 أبو داود في الجهاد باب في الرجل ينادي بالثمار وصححه الحاكم: 2/ 107، وقد وصله من حديث البراء حيث قال في هذه الرواية: صحيح الإسناد على شرط الشيخين إلا أنه فيه إرسال فهذا الرجل الذي لم يسمه المهلب بن أبي صفرة البراء بن عازب" وقد أخرجه الحاكم أيضًا في نفس الصفحة عن البراء بن عازب بإسناد المهلب وصرح فيه باسم البراء.

(1/270)


 المبحث الثاني: من مشاهد المعركة

1 - رجل المهمات الصعبة: 432 - من حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: "لما كان يوم الخندق كنت أنا وعمر بن أبي سلمة في الأطم (1) الذي فيه نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أطم حسان، فكان يرفعني وأرفعه، فهذا رفعني عرفت أبي حين يمر إلى بني قريظة، وكان يقاتل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق فقال: (من يأتي بني قريظة فيقاتلهم؟) فقلت له حين رجع: يا أبت تالله إن كنت لأعرفك حين تمر ذاهبًا إلى بني قريظة فقال: "يا بني أما والله إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليجمع لي أبويه جميعًا يفديني بهما، يقول: (فداك أبي وأمى) (2). 433 - من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: قال: "اشتد الأمر يوم الخندق فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا رجل يأتينا بخبر بني قريظة؟ فانطلق الزبير فجاء بخبرهم، ثم اشتد الأمر أيضًا فذكر ثلاث مرات فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن لكل نبي حواري والزبير حواري) (3). 2 - إشغال المشركين المسلمين عن الصلاة: لقد ضيق أهل الكفر حصارهم على رسول الله وأصحابه في المدينة المنورة يوم الخندق حتى شغلوهم عن الصلاة، واستبسل الصحابة وأبدوا من ضروب الشجاعة الشيء الكثير أيضًا، وقد جاءت قصة إشغال المشركين النبي وأصحابه عن الصلاة من رواية عدة من الصحابة، وأجمع الروايات ما ثبت من: 434 - حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "حبسنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد المغرب، وذلك قبل أن ينزل في القتال ما نزل "وفي رواية -قبل أن ينزل صلاة الخوف فرجالًا أو ركبانًا" فلما كفينا القتال وذلك قوله: __________ (1) الأطم: بناء مرتفع كالحصن. (2) أخرجه البخاري في مناقب الصحابة باب مناقب الزبير رقم: 3720، مسلم في فضائل الصحابة باب فضائل طلحة والزبير رقم: 2416، أحمد فى المسند: 1/ 164، 166. (3) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة باب مناقب الزبير رقم: 3719، مسلم في الفضائل باب فضائل طلحة والزبير حديث رقم: 2415، الترمذي في المناقب باب مناقب الزبير: 3745، ابن ماجه في المقدمة باب فضائل الزبير: 122، الحميدي رقم: 1231، أحمد في المسند: 3/ 307 ,314 ,338 ,365.

(1/271)


{وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلالًا فأقام الظهر فصلاها كما يصليها في وقتها" (1). 435 - من حديث علي كرم الله وجهه: "عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال يوم الخندق: (ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارًا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس) (2). 436 - من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "إن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس جعل يسب كفار قريش وقال: يا رسول الله، ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (والله ما صليتها)، فنزلنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بطحان، فتوضأنا لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب" (3). 3 - مفاوضة الرسول زعيم بني غطفان لتخفيف الحصار: 437 - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء الحارث الغطفاني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمَّد شاطرنا تمر المدينة فقال - صلى الله عليه وسلم -: (حتى أستأمر السعود) فبعث إلى سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن مسعود، وسعد بن خيثمة، فقال: (إني قد علمت أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وأن الحارث سألكم أن تشاطروه تمر المدينة، فإن أردتم أن تدفعوه عامكم هذا في __________ (1) أخرجه النسائي في كتاب الأذان باب الأذان للفائت من الصلوات: 2/ 17، أحمد في المسند: 3/ 25، 49، 67، البيهقي في السنن: 1/ 402، والشافعي في الأم: 1/ 75، الدرامي في السنن: 1/ 358 وصححه ابن حبان: 285، وغير ابن حبان وإسناده صحيح، وقال ابن سيد الناس (هذا إسناد صحيح جليل)، ورواه الطيالسي برقم: 2231، وصححه ابن السكن كما قال ابن حجر في التلخيص ص: 73. (2) أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة الخندق رقم: 4111، مسلم في المساجد باب التغليظ في تفويت صلاة العصر رقم: 627، أبو داود في الصلاة باب في وقت الصلاة حديث رقم: 409، النسائي كتاب الصلاة باب المحافظة على صلاة العصر: 1/ 236، ابن ماجه في الصلاة باب المحافظة على صلاة العصر حديث رقم: 684، أحمد: 1/ 79، 81، 113، 122، 126، 135، 137، 146 ,150، 152. (3) أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة الخندق رقم: 4112، مسلم في المساجد باب الدليل لمن قال أن الصلاة الوسطى صلاة العصر حديث رقم: 631، الترمذي الصلاة باب في الرجل إذا فاته الصلوات بأيهن يبدأ رقم: 180، وقد جاء شبيها بما سبق من حديث ابن مسعود عند مسلم برقم: 628 المساجد باب التغليظ في تفويت صلاة العصر، الترمذي الصلاة باب ما جاء في الرجل تفوته الصلوات بأيهن يبدأ رقم: 179، ابن ماجه الصلاة باب المحافظة على صلاة العصر رقم: 686، أحمد في المسند: 1/ 404، 456.

(1/272)


أمركم بعد) فقالوا: يا رسول الله أوحي من السماء، فالتسليم لأمر الله أو عن رأيك وهواك فرأينا نتبع هواك ورأيك، فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا فوالله لقد رأيتنا وإياهم على سواء، ما ينالون منا ثمرة إلا شراء أو قرى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (هوذا تسمعون ما يقولون)، قالوا: غدرت يا محمَّد، فقال حسان بن ثابت رضي الله عنه: يا جار من يغدر بذمة جاره ..... منكم فإن محمدًا لا يغدر وأمانة المري حين لقيتها ... كسر الزجاجة صدعها لا يجبر إن تغدروا فالغدر من عاداتكم ... واللؤم ينبت في أصول السخبر (1) 4 - قتل علي بن أبي طالب عمرو بن عبدود العامري: 438 - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قتل رجل من المشركين يوم الخندق فطلبوا أن يواروه فأبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أعطوه الدية، وقتل من بني عامر بن لؤي عمرو بن عبدود، قتله علي بن أبي طالب مبارزة" (2). وقد جاءت قصة مبارزة علي بن أبي طالب رضي الله عنه لعمرو بن عبدود العامري مفصلة عند ابن إسحاق في السيرة مستقصاة ومستوفاة، إلا أنها مرسلة، ولم يصل بها ابن إسحاق إلى صحابي روى هذا الحديث، ولذلك لم أورد التفاصيل هنا، واقتصرت على ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه، من أن قاتل عمرو بن عبدود العامري هو علي بن أبي طالب كما مر في الحديث السابق، الذي أوردناه. هذا ما وصلت إليه بعد بذل الجهد فقد بحثت عن إسناد لهذا الحديث مفصلًا فلم أصل إلى ذلك، فاقتصرت على ما مضى، والله تعالى أعلم، فليس كل ما أورده أهل السير وأخذ مأخذ المسلمات ثبت عند أهل الحديث والمحدثين، فاعلم هذا أخي القارئ بارك الله فيك. __________ (1) كشف الأستار عن زوائد البزار رقم: 1803 وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 132 رواه البزار والطبراني ورجال البزار والطبراني فيهما محمَّد بن عمرو وحدثه حن وبقية رجاله ثقات، والسخبر: شجر تألفه الحيات فتسكن في أصوله. (2) أخرجه الحاكم في المستدرك: 3/ 32 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وقد جاء أيضًا من حديث ابن شهاب الزهري وهو مرسل عند الحاكم: 3/ 32 وقال إسناد هذا المغازي صحيح على شرط الشيخين، قد أورد الآثار عن ابن إسحاق الحاكم: 3/ 23 - 34، فانظر هناك إن أحببت الاستزادة.

(1/273)


5 - سعد بن أبي وقاص يرمي رجلًا فيضحك النبي صلى الله عليه وسلم: 439 - من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "لما كان يوم الخندق ورجل يتترس جعل يقول بالترس هكذا، فوضعه فوق أنفه، ثم يقول هكذا يسفله، بعد قال: فأهويت إلى كنانتي، فأخرجت منها سهمًا مدمى، فوضعته في كبد القوس، فلما قال هكذا تسفل الترس رميت، فما نسيت وقع القدح على كذا وكذا من الترس، مال وسقط فقال برجله هكذا، فضحك نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أحسبه قال حتى بدت نواجذه، قال قالت: لم فعل، قال كفعل الرجل" (1). 6 - إصابة سعد بن معاذ رضي الله عنه: 440 - من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "خرجت يوم الخندق أقفوا آثار الناس قالت: فسمعت وئيد (2) الأرض ورائي يعني حس الأرض، قالت: فالتفت فإذا أنا بسعد بن معاذ، ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنة (3) قالت: فجلست إلى الأرض، فمر سعد وعليه درع من حديد قد خرجت منها أطرافه، فأنا أتخوف على أطراف سعد، قالت: وكان سعد من أعظم الناس وأطولهم، قالت: فمر وهو يرتجز ويقول: لبث قليلًا يدرك الهيجا جمل ... ما أحسن الموت إذا حان الأجل قالت: فقمت فاقتحمت حديقة فإذا فيها نفر من المسلمين، وإذا فيهم عمر بن الخطاب وفيهم رجل عليه سبغة يعني له مغفرًا (4). فقال عمر: ما جاء بك، لعمري والله إنك لجريئة، وما يؤمنك أن يكون بلاء __________ (1) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 135 - 136، رواه أحمد والبزار إلا أنه قال كان رجل معه ترسان وكان سعد راميًا فكان يقول كذا وكذا بالترسين يغطي جبهته فنزع له سعد بسهم فلما رفع رأسه رماه فلم يخط هذه منه يعني جبهته والباقي بنحوه ورجالهما رجال الصحيح غير محمَّد بن محمَّد بن الأسود وهو ثقة، وانظر كشف الأستار: 1808. (2) وئيد: صوت شدة الوطء على الأرض سمع كالدوي من بعد. (3) المجنة: الترس. (4) مغفر: هو ما يلبسه الدارع على رأسه من الزرد.

(1/274)


أو يكون تحوز (1)، قالت: فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت ساعتئذ فدخلت فيها، قالت: فرفع الرجل السبغة عن وجهه، فإذا طلحة بن عبيد الله، فقال: يا عمر ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم: وأين التحور أو الفرار إلا إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، قالت: ويرمي سعدًا رجل من المشركين من قريش يقال له ابن العرقة بسهم له فقال له: "خذها وأنا ابن العرقة" فأصاب أكحله (2) فقطعه فدعا الله -عَزَّ وَجَلَّ- سعد فقال: "اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من قريظة" قالت: وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية، قالت: فرقى كلمه (3) وبعث الله -عَزَّ وَجَلَّ- الريح على المشركين فكفى الله -عَزَّ وَجَلَّ- المؤمنين القتال، وكان الله قويًّا عزيزًا، فلحق أبو سفيان ومن معه بتهامة، ولحق عيينة بن حصن ومن معه بنجد (4). 7 - محاولة فاشلة عند حصون النساء: 441 - من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه قال: "لم يكن حصن أحصن من حصن بني حارثة، فجعل النبي في النساء والصبيان والذراري فيه، وقال: (إن ألم بكن أحد فألمعن بالسيف) فجاءهن رجل من بني ثعلبة بن سعد يقال له نجدان أحد بني حشاش على فرس، حتى كان في أصل الحصين ثم جعل يقول للنساء: انزلن إلى خير لكن، فحركن السيف فأبصره أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فابتدر الحصين قوم فيهم رجل من بني الحارثة يقال له: ظهير بن رافع، فقال: يا نجدان ابرز، فبرز إليه، فحمل على فرسه، فقتله وأخذ رأسه فذهب به إلى الني - صلى الله عليه وسلم -" (5). 442 - من حديث ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال: (دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأحزاب فقال: (اللهم منزل الكتاب سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم __________ (1) تحوز: حرب أو أسر. (2) الأكحل: عرق في وسط الذراع في كل عضو منه شعبة إذا قطع لم يرقأ الدم. (3) الكلم: الجرح والكليم: الجريح. (4) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 136 - 138رواه أحمد وفيه محمَّد بن عمرو بن علقمة وهو حسن الحديث وبقية رجاله ثقات، وقال الساعاتي في الفتح الرباني: 21/ 81 - 83 أورده الحافظ ابن كثير في تاريخه ثم قال هذا الحديث إسناده جيد، وله شواهد من وجوه كثير سيرة ابن كثير: 3/ 238. (5) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 133، رواه الطبراني ورجاله ثقات.

(1/275)


وزلزلهم) (1). 443 - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: (لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده) (2). 8 - عدم صحة ما يروى من جبن حسان: من حديث ابن إسحاق قال: حدثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: "كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع، حصن حسان بن ثابت، وكان حسان بن ثابت معنا فيه مع النساء والصبيان حين خندق النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت صفية: فمر بنا رجل من يهود، فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة أو قطعت ما بينها وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمسلمون في نحور عدوهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم، إذ أتانا آت، فقلت لحسان بن ثابت إن هذا اليهودي يطيف بالحصن كما ترى، ولا آمنه أن يدل على عورتنا من ورائنا من يهود، وقد شغل عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فانزل إليه فاقتله. فقال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت صفية: فلما قال ذلك، احتجزت عمودًا ثم نزلت من الحصين إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته، ثم رجعت إلى الحصين، فقلت يا حسان أنزل فاستلبه، فإنه لم يمنعني أن أستلبه إلا أنه رجل، فقال: ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب" (3). __________ (1) أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة الخندق حديث رقم: 4115 مسلم في الجهاد والسير استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو حديث رقم: 1742/ 21، الترمذي كتاب فضائل الجهاد باب ما جاء في الدعاء عند القتال: 1678، أبو داود الجهاد باب فى كراهية تمني لقاء العدو رقم: 2631. (2) أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة الخندق رقم: 4114 مسلم في الذكر والدعاء باب التحوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل حديث رقم: 2724. (3) ابن هشام في السيرة: 2/ 228، وقد جاء من طريق الزبير بن العوام وقال الهيثمي في المجمع: 6/ 133 - 134، وقال: رواه البزار وأبو يعلى باختصار وإسنادهما ضعيف، ومن حديث عروة وقال: 6/ 134، رواه الطبراى ورجاله إلى عروة رجال الصحيح، ولكنه مرسل فالحديث ضعيف.

(1/276)


وهذا الخبر لا يصح لأمرين: الأول: من حيث الإسناد، فالخبر ليس مسندًا، وقد علمنا علماؤنا أنه لا يؤخذ من الأخبار إلا إذا كان له إسناد، ولا يؤخذ الخبر المسند إلا إذا كان إسناده صحيحًا. وهذا الخبر ساقط لا يصح ولا يجوز أن يروى، فيساء إلى صحابي من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان ينافح عن الدعوة الإِسلامية، وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمره كله. الثاني: لو كان حسان بن ثابت رضي الله عنه معروفًا بالجبن الذي ذكر عنه لهجاه أعداؤه ومبغضوه بهذه الخصلة الذميمة لا سيما الذين كان يهاجيهم، فلم يسلم من هجاته أحد من زعماء الجاهلية". والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يؤيده ويدعو له، ويشجعه على هجاء زعماء المشركين (1). 9 - تحسس الأخبار عن المشركين: 444 - من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: فعن محمَّد بن كعب القرظي قال: "قال فتى منا من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله لقد رأيتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبتموه؟ قال: نعم يا ابن أخي، قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد (2). قال: والله لو أدركنا ما تركناه يمشي على الأرض، ولجعلناه على أعناقنا، قال: فقال حذيفة: يا ابن أخي والله لقد رأيتنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخندق، وصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليل هويًا (3)، ثم التفت إلينا فقال: (من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم، يشترط له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يرجع، أدخله الله الجنة)، فما قام رجل، ثم صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هويًا، ثم التفت إلينا فقال: (من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع، يشرط له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجعة، __________ (1) غزوة الأحزاب الدكتور أبو فارس ص: 197 - 198. (2) نجهد: في مشقة شديدة. (3) هويًا: الحين الطويل من الزمان.

(1/277)


أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة)، فما قام رجل من القوم من شدة الخوف، وشدة الجوع، وشدة البرد. فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن لي بد في القيام حين دعاني فقال: (يا حذيفة فاذهب فادخل في القوم فانظر ما يفعلون ولا تحدثن شيئًا حتى تأتينا)، قال: فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل ما تفعل، لا تقر لهم قدر، ولا نار، ولا بناء، فقام أبو سفيان بن حرب فقال: يا معشر قريش لينظر امرؤ إلى جليسه، فقال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي جنبي، فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان، ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع (1) وأخلفتنا بنو قريظة، بلغنا منهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، والله ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل، ثم قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه ثم ضربه فوثب على ثلاث، فما أطلق عقله، إلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله لا تحدث شيئًا حتى تأتيني ثم شئت لقتلته بسهم. قال حذيفة، ثم رجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم يصلي في مرط (2) لبعض نسائه مرجل (3)، فلما رآني أدخلني إلى رحله، وطرح عليه طرف المرط، ثم ركع وسجد وإنه لفيه، فلمّا سلم أخبرته الخبر، وسمعت غطفان بما فعلت قريش وانشمروا إلى بلادهم). هذا اللفظ لأحمد وفي لفظ مسلم بعض الزيادة أذكرها هنا لاكتمال المعنى والفائدة فبعد أن ذكر حذيفة استنفار الرسول - عليه السلام - للصحابة ثلاثًا ثم قوله قم يا حذيفة قال: (... فمضيت كأنما أمشي في حمام (4) حتى أتيتهم، فهذا أبو سفيان يصلي ظهره بالنار فوضعت سهمي في كبد قوسي (5) وأردت أن أرميه، ثم ذكرت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تذعرهم علي) ولو رميته لأصبته، قال: __________ (1) الكهل: اسم لجميع الخيل. (2) مرط: كساء من صوف أو خز يؤتزر به وتتلفع به المرأة. (3) مرجل: فيه خطوط وأرقام. (4) كأنما أمشي في حمام: أي أنه لم يجد من البرد ما يجد الناس. (5) كبد القوس: مقبضه.

(1/278)


فرجعت كأنما أمشي في مثل الحمام، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أصابني البرد حين فرغت وقررت (1). فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فألبسني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائمًا حتى الصبح، فلما أن أصبحت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قم يا نومان) " (2). 10 - نصر الله رسوله بريح الصبا: 445 - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أتت الصبا الشمال ليلة الأحزاب، فقالت: مري حتى ننصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت الشمال: إن الحرة لا تسري بالليل، فكانت الريح التي نصر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبا" (3). 446 - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور) (4). 11 - تحول ميزان القوة بعد معركة الأحزاب: 447 - من حديث سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول حين جلى الأحزاب عنه: (الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم) (5). 448 - من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الأحزاب وقد جمعوا له جموعًا كثيرة فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا __________ (1) قررت: بردت. (2) أخرجه أحمد في المسند: 5/ 392 - 393، مسلم في كتاب الجهاد والسير باب غزوة الأحزاب رقم: 1788، الحاكم في المستدرك: 3/ 31، وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، والبيهقي في السنن: 9/ 159 والدلائل: 3/ 449 - 454، وأبو نعيم في الدلائل: 2/ 500 - 501، وقد جاء في المطالب العالية برقم: 4329، ونسبه إلى أبي بكر بن أبي شيية وحسن إسناده، وقال الهيثمي: 6/ 136 ورواه البزار ورجاله ثقات، وقال البوصيري: رواه ابن أبي شيبة والبزار وأصله في الصحيح وفي هذا زيادة ظاهرة، قلت: وفي لفظه اختلاف عما في الصحيح فالمقدم ما في الصحيح والله أعلم. (3) قال الهيثمي في المجمع: 6/ 1349 - 140: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح، كشف الأستار: 1811 وقال البزار: رواه جماعة عن داود عن عكرمة مرسلًا، ولا نعلم أحدًا وصله إلا حفص ورجل من أهل البصرة وكان ثقة يقال له: خلف بن عمرو.