بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم تَقْدِيم الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أنيب. وَبعد. فَهَذَا كتاب " قصَص الانبياء " للامام ابْن كثير أقدمه لامتنا الاسلامية، راجيا أَن يكون فِي نشره فِي هَذِه الصُّورَة المحققة مَا ييسر النَّفْع وَمَا يقدم هَذَا الْجَانِب من ترائنا الاسلامي فِي صُورَة دانية إِلَى الْكَمَال قريبَة إِلَى الْحَقِيقَة دقيقة فِي الْعرض ممحصة الرِّوَايَات والاخبار. وَهَذَا الْقسم هُوَ جَانب قصَص الانبياء من كتاب الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة لِابْنِ كثير، وَقد رَأَيْت من الْخَيْر نشره مُسْتقِلّا، بعد أَن نشرت لَهُ من قبل قسم السِّيرَة النَّبَوِيَّة وشمائل الرَّسُول، بعد أَن تبينت من كَلَام ابْن كثير فِي تَفْسِيره وَمن كتب التراجم أَنه كَانَ لِابْنِ كثير سيرة مُطَوَّلَة، ورجحت أَنه ضمنهَا فِي كِتَابه " الْبِدَايَة " الذى أَلفه فِي آخر عمره. وَقد رَأَيْت أَن قصَص الانبياء مَوْضُوع جدير بِأَن يفرد بِالْعرضِ وَأَن ينَال من الْعِنَايَة مَا نالته السِّيرَة النَّبَوِيَّة، إِذْ أَن تَارِيخ النُّبُوَّة حلقات مُتَّصِلَة لابد من اكتمالها وَمن وضوح صورتهَا فِي الاذهان للتقرر الْحَقِيقَة
(1/1)
الانسانية والتاريخية ولتتجلى الْحِكْمَة الَّتِى قصد إِلَيْهَا الْقُرْآن الْكَرِيم من اهتمامه بإيراد هَذَا الْقَصَص فِي مَوضِع بارز يهدف إِلَى وضوح الْعبْرَة وَضرب الْمثل وإيجاز حَرَكَة التَّارِيخ الانساني وَبَيَان سنته من خلال عرضه لقصص الانبياء. وَقد كَانَ لِابْنِ كثير فِي قصَص الانبياء بلَاء مشكور ومنهج حَكِيم اسْتَطَاعَ بِهِ أَن يقرب الصُّورَة القرآنية لقصص الانبياء، وَأَن يعكس التَّصَوُّر الاسلامي لتاريخ النُّبُوَّة وحياة الْمُرْسلين. وَقبل أَن نتحدث عَن الْكتاب ومنهجه نوجز القَوْل فِي مُؤَلفه ونلم بشئ من أخباره. ابْن كثير: (1) هُوَ أَبُو الْفِدَاء عماد الدّين إِسْمَاعِيل، بن عمر، بن كثير، بن ضوء، ابْن كثير، بن زرع، القرشى الشَّافِعِي. كَانَ أَصله من الْبَصْرَة، وَلكنه نَشأ بِدِمَشْق وتربى بهَا. ولد بمجدل الْقرْيَة، من أَعمال مَدِينَة بصرى شَرْقي دشق سنة سَبْعمِائة أَو إِحْدَى وَسَبْعمائة. وَتوفى بعد أَن فقد بَصَره فِي يَوْم الْخَمِيس السَّادِس وَالْعِشْرين من شعْبَان سنة أَربع وَسبعين وَسَبْعمائة، عَن أَربع وَسبعين سنة. __________ (1) تَرْجَمته فِي شذرات الذَّهَب 6 / 231، والدرر الكامنة 1 / 374 وذيل تذكرة الْحفاظ للحسيني 58 ; وذيل الطَّبَقَات للسيوطي. (*)
(1/2)
نشأته: كَانَ أَبوهُ خَطِيبًا لقريته، وَبعد مولد ابْن كثير بِأَرْبَع سِنِين توفى وَالِده، فرباه أَخُوهُ الشَّيْخ عبد الْوَهَّاب. وعَلى هَذَا الاخ تلقى ابْن كثير علومه فِي مبدأ أمره. ثمَّ انْتقل إِلَى دمشق سنة 706 فِي الْخَامِسَة من عمره. شُيُوخه: كَانَ ابْن كثير فِي دراسته متجها إِلَى الققه والْحَدِيث وعلوم السّنة، إِذْ كَانَت الوجهة الْغَالِبَة فِي عصره، وشيوخه فِي هَذَا الْبَاب كَثِيرُونَ. فقد أَخذ الْفِقْه عَن الشَّيْخ برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن الفزارى الشهير بِابْن الفركاح الْمُتَوفَّى سنة 729. وَسمع بِدِمَشْق من عِيسَى بن الْمطعم، وَمن أَحْمد بن أَبى طَالب المعمر الشهير بِابْن الشّحْنَة، الْمُتَوفَّى سنة 730، وَمن الْقَاسِم ابْن عَسَاكِر وَابْن الشِّيرَازِيّ وَإِسْحَق بن الْآمِدِيّ وَمُحَمّد بن زراد. ولازم الشَّيْخ جمال يُوسُف بن المزكى المزى صَاحب تَهْذِيب الْكَمَال الْمُتَوفَّى سنة 742. وَقد انْتفع بِهِ ابْن كثير وَتخرج بِهِ وَتزَوج بابنته. كَمَا قَرَأَ كثيرا على شيخ الاسلام تقى الدّين ابْن تَيْمِية الْمُتَوفَّى سنة 728، ولازمه وأحبه وتأثر بِرَأْيهِ، وفى ذَلِك يَقُول ابْن الْعِمَاد: " كَانَت لَهُ خُصُوصِيَّة بِابْن تَيْمِية ومناضلة عَنهُ، وَاتِّبَاع لَهُ فِي كثير من آرائه، وَكَانَ يُفْتى بِرَأْيهِ فِي مَسْأَلَة الطَّلَاق وامتحن بِسَبَب ذَلِك وأوذى ".
(1/3)
وَيَقُول ابْن حجر: " وَأخذ عَن ابْن تَيْمِية ففتن بحبه وامتحن بِسَبَبِهِ " كَمَا قَرَأَ على الشَّيْخ الْحَافِظ المؤرخ شمس الدّين الذَّهَبِيّ مُحَمَّد بن أَحْمد ابْن قايماز الْمُتَوفَّى سنة 748. وَأَجَازَ لَهُ من مصر أَبُو مُوسَى القرافى والحسيني وَأَبُو الْفَتْح الدبوسي، وعَلى بن عمر الوانى ومُوسَى الختنى وَغير وَاحِد. وَقد ولى ابْن كثير مشيخة أم الصَّالح والتنكزية بعد إِمَامه الذَّهَبِيّ، كَمَا ذكره الذَّهَبِيّ فِي مسودة طَبَقَات الْحفاظ (1) . عصره: عَاشَ ابْن كثير فِي الْقرن الثَّامِن الهجرى من مطلعه إِلَى قرب منتهاه، فِي ظلّ دولة المماليك الَّتِى كَانَت تبسط سلطانها على مصر وَالشَّام. وَقد شهد عصره نكبات شَدِيدَة من هجوم الافرنج والتتار، وَكَثْرَة الاوبئة والمجاعات وتقلب السلطة بَين أُمَرَاء المماليك الَّذين كَانَ بَعضهم يوالى الانتقاض على بعض. وَلَكِن تِلْكَ الحقبة كَانَ يسودها نشاط علمي تمثل فِي كَثْرَة الْمدَارِس واتساع نطاق التَّعْلِيم والتأليف، وَلذَلِك أَسبَاب مَذْكُورَة فِي كتب التَّارِيخ من تنافس الامراء ورصد الاوقاف على الْعلمَاء وَالطَّلَاق واتصال الافطار الاسلامية بَعْضهَا بِبَعْض، وَغير ذَلِك. وَقد كَانَ ذَلِك النشاط محصورا فِي دَائِرَة ضيقَة من الِاتِّبَاع والتقليد __________ (1) ذيل تذكرة الْحفاظ للحسيني 58. (*)
(1/4)
فاهتم الْعلمَاء بالتلخيص والاختصار أَو الشَّرْح اللفظى والتقرير. كَذَلِك انْصَرف التَّعْلِيم فِي جملَته إِلَى الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة وَمَا يتَّصل بهَا. ويبدو تأثر ابْن كثير باتجاهات عصره فِي انْصِرَافه إِلَى عُلُوم الْقُرْآن وَالسّنة وَالْفِقْه أَو الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة بِوَجْه عَام، ففى بعض مؤلفاته اخْتِصَار لكتب الافدمين وإدماج لبعضها فِي بعض وَتَعْلِيق عَلَيْهَا، كَمَا سيتضح ذَلِك من النّظر فِي كتبه الْبَاقِيَة. غير أَن ابْن كثيرا كَانَ إِمَامًا مجددا فِي جَوَانِب أُخْرَى من تأليفه، فَهُوَ فِي التَّفْسِير إِمَام وَصَاحب مدرسة ينفر من الاسرائيليات والاخبار الْوَاهِيَة، ويضيق بالتفلسف وإقحام الرأى فِي كتاب الله ويؤثر مَنْهَج تَفْسِير الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ، ثمَّ بِالْحَدِيثِ والاثر. وَيرجع جَانب التَّجْدِيد فِيهِ إِلَى صلته بِابْن تَيْمِية، وحبه لَهُ وتأثره بآرائه، فقد كَانَ ابْن كثير كأستاذه ابْن تَيْمِية بَعيدا عَن الخرافات حَرِيصًا على الرُّجُوع إِلَى السّنة، يعْتَمد على التَّحْقِيق والتدقيق بوسيلته العلمية الَّتِى يملكهَا، وهى نقد الاسانيد وتمحيص الاخبار. مَنْزِلَته وآراء الْعلمَاء فِيهِ: احتل ابْن كثير منزلَة عالية فِي الْفِقْه وَالتَّفْسِير والْحَدِيث وَالْفَتْوَى، يَقُول عَنهُ الذَّهَبِيّ: " الامام الْمُفْتى الْمُحدث البارع، فَقِيه ومفسر نقال وَله تصانيف مفيدة ". وَيَقُول عَنهُ ابْن حجر: " اشْتغل بِالْحَدِيثِ مطالعة فِي متونه وَرِجَاله،
(1/5)
وَكَانَ كثير الاستحضار حسن المفاكهة سَارَتْ تصانيفه فِي حَيَاته وانتفع النَّاس بهَا بعد وَفَاته ". وَيَقُول عَنهُ ابْن تغرى بردى: " لَازم الِاشْتِغَال ودأب وَحصل وَكتب، وبرع فِي الْفِقْه وَالتَّفْسِير والْحَدِيث وَجمع وصنف، ودرس وَحدث وَألف، وَكَانَ لَهُ اطلَاع عَظِيم فِي الحَدِيث وَالتَّفْسِير وَالْفِقْه والعربية وَغير ذَلِك، وَأفْتى ودرس إِلَى أَن توفى ". وَقد اشْتهر ابْن كثير بالضبط والتحرى وَالِاسْتِقْصَاء، وانتهت إِلَيْهِ فِي عصره الرياسة فِي التَّارِيخ والْحَدِيث وَالتَّفْسِير. يَقُول عَنهُ ابْن حجى أحد تلامذته: " أحفظ من أدركناه لمتون الاحاديث ورجالها، وأعرفهم بجرحها وصحيحها وسقيمها، وَكَانَ أقرانه وشيوخه يعترفون لَهُ بذلك، وَمَا أعرف أَنى اجْتمعت بِهِ على كَثْرَة ترددي إِلَيْهِ إِلَّا واستفدت مِنْهُ " ويصفه ابْن الْعِمَاد الحنبلى فَيَقُول: " كَانَ كثير الاستحضار قَلِيل النسْيَان، جيد الْفَهم، يُشَارك فِي الْعَرَبيَّة وينظم نظما وسطا. قَالَ فِيهِ ابْن حبيب: سمع وَجمع وصنف، وأطرب الاسماع بالفتوى وشنف، وَحدث وَأفَاد، وطارت أوراق فَتَاوِيهِ إِلَى الْبِلَاد، واشتهر بالضبط والتحرير " وَيَقُول عَنهُ ابْن حجر: " وَلم يكن على طَرِيق الْمُحدثين فِي تَحْصِيل العوالي وتمييز العالي من النارل، وَنَحْو ذَلِك من فنونهم، وَإِنَّمَا هُوَ من مُحدث الْفُقَهَاء ". وَلَكِن السُّيُوطِيّ يحيب على كَلَام ابْن حجر بقوله:
(1/6)
" الْعُمْدَة فِي علم الحَدِيث على معرفَة صَحِيح الحَدِيث وسقيمه وَعلله وَاخْتِلَاف طرقه وَرِجَاله جرحا وتعديلا، وَأما العالي النَّازِل وَنَحْو ذَلِك فَهُوَ من الفضلات، لَا من الاصول المهمة ". شعره وأسلوبه: كَانَ ابْن كثير مشاركا فِي الْعَرَبيَّة، وَكَانَ - كَمَا قَالَ ابْن الْعِمَاد - ينظم نظما وسطا، وَلَا يذكر لَهُ إِلَّا الْقَلِيل من النّظم مثل قَوْله: تمر بِنَا الايام تترى وَإِنَّمَا * نساق إِلَى الْآجَال وَالْعين تنظر فَلَا عَائِد ذَاك الشَّبَاب الذى مضى * وَلَا زائل هَذَا المشيب المكدر وعَلى كل فَهُوَ لم يشتعر بقول الشّعْر. وَقد كَانَت ثقافته الادبية جَيِّدَة، بِالنّظرِ إِلَى فَقِيه مُفَسّر مُحدث مثله، وَكَانَ يسير فِي أسلوبه على مُقْتَضى عصره، من إِيثَار السجع والميل إِلَى المحسنات، وأسلوبه فِي التَّفْسِير قوى متناسب. كتبه: اشْتغل ابْن كثير بالتأليف والتصنيف، وَأكْثر كتبه فِي الحَدِيث وعلومه، ومؤلفاته مَعْدُودَة، وأهمها: 1 - تَفْسِير الْقُرْآن الْكَرِيم. الذى قَالَ فِيهِ السُّيُوطِيّ: " لم يؤلف على نمطه مثله " وَهُوَ يعْتَمد على التَّفْسِير بالراوية، فيفسر الْقُرْآن ثمَّ بالاحاديث المشتهرة يَسُوقهَا
(1/7)
بأسانيدها، ثمَّ ينْقد الاسانيد وَيحكم عَلَيْهَا، ثمَّ يذكر الْآثَار المروية عَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ. وَهُوَ مطبوع مَشْهُور. 2 - الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة فِي التَّارِيخ. وَهُوَ أَيْضا مطبوع مَشْهُور، وَإِن كَانَت طبعته غير موثقة وَلَا مصححة. وَهُوَ مرجع دَقِيق لَا يزَال عَلَيْهِ التعويل، قَالَ عَنهُ ابْن تغرى بردى: " وَهُوَ فِي غَايَة الْجَوْدَة ". 3 - اخْتِصَار عُلُوم الحَدِيث لِابْنِ الصّلاح. وَهُوَ كتاب نَافِع أضَاف فِيهِ ابْن كثير فَوَائِد كَثِيرَة ورتبه وَاخْتَصَرَهُ وَهُوَ مطبوع من تعلقات للمرحوم الشَّيْخ أَحْمد شَاكر باسم " الْبَاعِث الحثيث ". 4 - مُخْتَصر كتاب " الْمدْخل إِلَى كتاب السّنَن " للبيهقي ذكره فِي مُقَدّمَة اخْتِصَار عُلُوم الحَدِيث. وَهُوَ مخطوط. 5 - رِسَالَة فِي الْجِهَاد. مطبوعة. 6 - التَّكْمِيل فِي معرفَة " الثِّقَات والضعفاء والمجاهيل " جمع فِيهِ كتابي " تَهْذِيب الْكَمَال " للمزى و " ميزَان الِاعْتِدَال " للذهبي. وَزَاد عَلَيْهِمَا زيادات مفيدة فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل. وَهُوَ مخطوط. 7 - " الْهدى وَالسّنَن فِي أَحَادِيث المسانيد وَالسّنَن " وَهُوَ الْمَعْرُوف بِجَامِع المسانيد، جمع فِيهِ بَين مُسْند أَحْمد وَالْبَزَّار وأبى يعلى وَابْن أبي شيبَة مَعَ الْكتب السِّتَّة: الصَّحِيحَيْنِ وَالسّنَن الاربعة، ورتبه على أَبْوَاب. وَهُوَ مخطوط. 8 - مُسْند الشَّيْخَيْنِ أَبى بكر وَعمر.
(1/8)
وَفِيه - كَمَا قَالَ ابْن كثير (1) - ذكر كَيْفيَّة إِسْلَام أبي بكر وَأورد فضائله وشمائله وأتبع ذَلِك بسيرة الْفَارُوق رضى الله عَنهُ، وَأورد مَا رَوَاهُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ الْأَحَادِيثِ وَمَا رَوَى عَنهُ من الآثاو والاحكام والفتاوى، فَبلغ ذَلِك ثَلَاث مجلدات. وَهُوَ مخطوط لَا نَدْرِي مَكَانَهُ! 9 - السِّيرَة النَّبَوِيَّة، مُطَوَّلَة ومختصرة، ذكرهَا فِي تَفْسِير سُورَة الاحزاب، فِي قصَّة غَزْوَة الخَنْدَق (2) . 10 - طَبَقَات الشَّافِعِيَّة. مُجَلد وسط، وَمَعَهُ مَنَاقِب الشَّافِعِي. مخطوط 11 - تَخْرِيج أَحَادِيث أَدِلَّة التَّنْبِيه فِي فقه الشَّافِعِيَّة. 12 - وَخرج أَحَادِيث مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب. 13 - كتاب الْمُقدمَات، ذكره فِي اخْتِصَار مُقَدّمَة ابْن الصّلاح وأحال عَلَيْهِ. 14 - وَقد ذكر ابْن حجر أَن ابْن كثير شرع فِي شرح للْبُخَارِيّ وَلم يكمله. 15 - وَشرح فِي كتاب كَبِير فِي الاحكام لم يكمل وصل فِيهِ إِلَى الْحَج وفى هَذِه الْكتب الْمعرفَة لنا من تراث ابْن كثير يظْهر اتجاهه فِي اهتمامه بِالسنةِ وعلومها، وتغلب عَلَيْهِ روح عصره فِي مختصراته وشروحه وَيظْهر ابتكاره فِي تَفْسِيره لِلْقُرْآنِ الْكَرِيم وفى منهجه فِي تَارِيخه الْفَذ: " الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة ". __________ (1) السِّيرَة النَّبَوِيَّة لِابْنِ كثير 1 / 433. (2) قُمْت بنشرها فِي أَرْبَعَة مجلدات، عَن النّسخ المحفوظة من الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة مطبعة عِيسَى الْحلَبِي سنة 1966. (*)
(1/9)
وَقد شاع الِانْتِفَاع بِالْقدرِ الْقَلِيل الذى عرف طَرِيقه إِلَى النَّاس من كتب هَذَا الامام، وبقى مِنْهَا قدر كَبِير لَا يهتدى إِلَى مَكَانَهُ وَلَا يعرف طَرِيقه إِلَى أيدى النَّاس. وَقد كَانَ علينا أَن نولي كتب هَذَا الامام الْعَظِيم مَا يسْتَحق من اهتمام وَأَن نيسر للنَّاس الِانْتِفَاع بهَا، لنودى واجبنا نَحْو تراثنا وتاريخنا ولنصل ماضينا بحاضرنا، وَلَا نَدع مصابيح الْهِدَايَة تنطفئ وأمتنا أحْوج مَا تكون إِلَى مَا فِيهَا من ضِيَاء. قصَص الانبياء: وَكِتَابنَا هَذَا الذى نقدمه، هُوَ جَانب " قصَص الانبياء " من الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة لِابْنِ كثير، آثرت نشره محققا، لاستقلاله فِي مَوْضُوعه وحاجة جَمَاهِير النَّاس إِلَيْهِ، وَقد كَانَ مَوْضُوع قصَص الانبياء من الموضوعات الَّتِى أفردها الْعلمَاء بالتأليف مُنْذُ عصر التدوين، وَأول من أفرد لَهَا كتابا مُسْتقِلّا هُوَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يسَار الْمُتَوفَّى سنة 150 هـ فقد ألف كِتَابه " الْمُبْتَدَأ " أَو " المبدأ " وقصص الانبياء، وَقد أهمل ابْن هِشَام هَذَا الْقسم حِين لخص السِّيرَة النَّبَوِيَّة لِابْنِ إِسْحَق، وَلم يبْق من هَذَا الْكتاب إِلَّا نقُول نقلهَا عَنهُ الطَّبَرِيّ فِي التَّارِيخ وَالتَّفْسِير والازرقي. ثمَّ كتب أَو رِفَاعَةَ عُمَارَةُ بْنُ وَثِيمَةَ بْنِ مُوسَى بْنِ الْفُرَات الفارسى الْمُتَوفَّى سنة 289 كِتَابه " بَدْء الْخلق وقصص الانبياء " وَيُوجد الْجُزْء الاخير مِنْهُ فِي الفاتيكان ثَالِث 265 (1) . __________ (1) تَارِيخ الادب الْعَرَبِيّ لبروكلمان 2 / 45. (*)
(1/10)
وَقد صَار افْتِتَاح كتب التَّارِيخ الْعَام بقصص الانبياء وبدء الْخلق سنة متبعة، مُنْذُ صنف أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ الْمَوْلُود سنة 234 هـ بطبرستان، تَارِيخه الْكَامِل وَتَنَاول فِيهِ تَارِيخ الْعَالم من بَدْء الْخلق إِلَى عصره. وَمن بعده أَبُو الْحسن على بن الْحُسَيْن المَسْعُودِيّ الْمُتَوفَّى سنة 345 فِي تَارِيخ " مروج الذَّهَب ". وَمعنى ذَلِك أَن مَوْضُوع قصَص الانبياء كَانَ مَوضِع اهتمام كتاب السِّيرَة والتاريخ الْمُسلمين مُنْذُ عصر التدوين إِلَى عصر ابْن كثير. وعلينا الْآن أَن نتأمل مَنْهَج ابْن كثير قى قصَص الانبياء لنرى مَا قدمه من جَدِيد وَمَا تفرد بِهِ من خَصَائِص، مِمَّا يعد تجديدا فِي هَذَا الْجَانِب من التَّارِيخ. إِن ذَلِك يقتضينا أَن نَنْظُر فِي مصَادر ابْن كثير فِي قصَص الانبياء ونصنفها حسب تعويله عَلَيْهَا. وَأول مَا يَتَّضِح لنا أَن ابْن كثير قد جعل الْقُرْآن الْكَرِيم مصدره الاول فِي تَارِيخ الانبياء، فعول على طَرِيقَته وَالْتزم بأخباره، وَقطع بِأَن كل مَا يُخَالِفهُ من أَقْوَال أهل الْكتاب فَهُوَ كذب وبهتان، وَذَلِكَ الْحق الذى يقطع بِهِ كل مُسلم. وَيبدأ ابْن كثير فِي كل قصَّة من قصَص الانبياء بِجمع الْآيَات القرآنية المنعلقة بهَا باستقصاء من كل سور الْقُرْآن، حسب تَرْتِيب السُّور. ثمَّ يجنح إِلَى جَانب التَّفْسِير فيستخرج دَلَائِل الْآيَات الْكَرِيمَة بمنهجه الْمَشْهُور، من تَفْسِير الْقُرْآن، ثمَّ بِالسنةِ والاثر.
(1/11)
وَبعد ذَلِك يجمع ابْن كثير الاحاديث المروية فِي قصَص الانبياء بأسانيدها من الصِّحَاح وَالْمَسَانِيد، وَلَا يفوتهُ أَن يخرج تِلْكَ الاحاديث ويدلنا على حظها من الثُّبُوت. ثمَّ يتَّجه ابْن كثير إِلَى رِوَايَات المؤرخين وعلماء السّير، يخْتَار مِنْهَا مَا يُسَايِر حقائق الْقُرْآن وَالسّنة وآراء الْمُفَسّرين وأبرز من ينْقل عَنْهُم ابْن كثير: مُحَمَّد ابْن إِسْحَق فِي كتاب " الْمُبْتَدَأ " وَابْن جرير فِي تَارِيخه وَتَفْسِيره، وَابْن عَسَاكِر فِي تَارِيخه، وَتلك الرِّوَايَات لَا تمثل فِي الْكتاب لحْمَة وَلَا سدى، إِنَّمَا هِيَ تأييد للاخبار الاسلامية أَو تَفْصِيل لَهَا حينما يجنح الخيال إِلَى الِاسْتِقْصَاء وَوصل الحلقات بَعْضهَا بِبَعْض، وأغلب تِلْكَ الرِّوَايَات مَنْقُول عَن عُلَمَاء أهل الْكتاب، وَكَثِيرًا مَا يعلق عَلَيْهِ ابْن كثير بِأَنَّهُ غَرِيب. وَيبقى بعد ذَلِك من مصَادر ابْن كثير فِي قصَص الانبياء أَخْبَار أهل الْكتاب، المتلقاة من التَّوْرَاة الَّتِى بِأَيْدِيهِم. وَقد وقف ابْن كثير من هَذَا الْمصدر موقفا عدلا، فَلم يهمله بِالْكُلِّيَّةِ مادام هُنَاكَ من يتطلع إِلَيْهِ وَمن ينْقل عَنهُ، فَأَشَارَ ابْن كثير إِلَى طرف يسير من أَخْبَار أهل الْكتاب مقترنة بِبَيَان رَأْيه فِيهَا، وَهُوَ يرى أَن التَّوْرَاة إِن خَالَفت الْحق الذى بِأَيْدِينَا من الْكتاب وَالسّنة، فهى بَاطِل يجب رده. فعندما ذكر عَن التَّوْرَاة أَنَّ الَّذِي دَلَّ حَوَّاءَ عَلَى الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ هِيَ الْحَيَّةُ، وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ الْأَشْكَالِ وَأَعْظَمهَا، أعقبه بقوله: " وَهَذَا
(1/12)
الَّذِي فِي هَذِهِ التَّوْرَاةِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ غَلَطٌ مِنْهُمْ، وَتَحْرِيفٌ وَخَطَأٌ فِي التَّعْرِيبِ فَإِنَّ نَقْلَ الْكَلَام من لُغَة إِلَى لُغَة لَا يَتَيَسَّرُ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا سِيَّمَا مِمَّنْ لَا يكَاد يَعْرِفُ كَلَامَ الْعَرَبِ جَيِّدًا، وَلَا يُحِيطُ عِلْمًا بِفَهْمِ كِتَابِهِ أَيْضًا، فَلِهَذَا وَقَعَ فِي تَعْرِيبِهِمْ لَهَا خَطَأٌ كَثِيرٌ لَفْظًا وَمَعْنَى، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمَا لِبَاسٌ فِي قَوْلِهِ: " يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا " فَهَذَا لَا يرد لغيره من الْكَلَام " (1) . وَقد كَانَ ابْن كثير يقْرَأ التَّوْرَاة وَيرى مَا فِيهَا من تَحْرِيف، وَقد نبه إِلَى ذَلِك فِي مَوَاضِع من كِتَابه هَذَا، فَهُوَ يَقُول عَن قابيل: " وَالَّذِي رَأَيْتُهُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْكتاب الذى يَزْعمُونَ أَنه التَّوْرَاة: أَن الله عزوجل أَجله وأنظره وَأَنه سكن فِي أَرض نور فِي شَرق عدن " وَبعد أَن يذكر تواريخ أهل الْكتاب عَن ذُرِّيَّة قابيل يَقُول: " هَذَا مَضْمُونُ مَا فِي كِتَابِهِمْ صَرِيحًا، وَفِي كَوْنِ هَذِهِ التَّوَارِيخِ مَحْفُوظَةً فِيمَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ نَظَرٌ، كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ طَاعِنِينَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُقْحَمَةٌ فِيهَا، ذَكَرَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى سَبِيلِ الزِّيَادَةِ وَالتَّفْسِير، وفيهَا غلط كثير (2) ". وفى مَوضِع آخر يَقُول: " فَكَيْفَ يُتْرَكُ هَذَا وَيُذْهَلُ عَنْهُ، وَيُصَارُ إِلَى أَقْوَالِ الْكَذَبَةِ الْكَفَرَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ بَدَّلُوا كُتَبَ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةَ وَحَرَّفُوهَا وَأَوَّلُوهَا وَوَضَعُوهَا على غير موَاضعهَا (3) ". __________ (1) ص 22 من هَذَا الْجُزْء. (2) ص 62 من هَذَا الْجُزْء. (3) ص 107 من هَذَا الْجُزْء. (*)
(1/13)
وَبِذَلِك وضع ابْن كثير أَخْبَار أهل لكتاب فِي موضعهَا الصَّحِيح، يسْتَأْنس بهَا حِين تطابق الْحق الذى بِأَيْدِينَا، وينبه على تحريفها وكذبها حِين تخَالف، فَإِن لم يكن لَهَا دَلِيل فِي أخبارنا واحتملت الصدْق أوردهَا متوقفا، وَقد أمرنَا أَن لَا يصدق أهل الْكتاب وَلَا نكذبهم. وَمن هُنَا فقد نجا ابْن كثير مِمَّا تورط فِيهِ المؤرخون من قبله من الاسراف فِي رِوَايَة الاسرائيليات والتعويل عَلَيْهَا، واحتفظ بصورته الاسلامية المشرقة، وَجعل قارئه يطمئن إِلَى مصادره ويتبين قيمتهَا. فَإِذا أردنَا أَن نتبين خَصَائِص ابْن كثير فِي قصَص الانبياء، فَإِن أهم مَا يستوقفنا من ذَلِك: (ا) الاحاطة بالاخبار وَالِاسْتِقْصَاء فِي رِوَايَتهَا من طرقها، مِمَّا يَجعله أوفى مرجع فِي هَذَا الْقَصَص. وَقد أَعَانَهُ على ذَلِك عصره الْمُتَأَخر، إِذْ عَاشَ فِي الْقرن الثَّامِن، فَتمكن أَن يجيل النّظر فِيمَا سلف من تراث. (ب) التَّحْقِيق العلمي فِي إِيرَاد الاخبار فَهُوَ لَا يذكر قولا إِلَّا وَمَعَهُ دَلِيله وَلَا رِوَايَة إِلَّا وَيبين حَالهَا من الصِّحَّة أَو الضعْف وَهُوَ وَإِن تسَامح فِي إِيرَاد بعض الاخبار الْوَاهِيَة، إِلَّا أَنه أخلى تَبعته بالحكم عَلَيْهَا وفْق أصُول الرِّوَايَة. 3 - الاهتمام بمقاصد الْقُرْآن الْكَرِيم فِي إبراز العظة وجلاء الْعبْرَة فِي هَذَا الْقَصَص وَمَا دَامَ ابْن كثير مُفَسرًا متقنا فقد اسْتَطَاعَ أَن يلفت النّظر إِلَى كثير من مَوَاطِن الْعبْرَة فِي آيَات الانبياء، وَأَن يَجْعَل من عرض قصصهم وَسِيلَة لتقرير كثير من الاحكام والآداب.
(1/14)
4 - وَقد عَنى ابْن كثير بِدفع الشّبَه الَّتِى أثارها كثير من الْمُفَسّرين والمتلقين عَن أهل للْكتاب، واستطاع بمقدرته فِي التَّفْسِير وقوته فِي الِاسْتِدْلَال أَن يُوضح جَانب الْحق وَأَن يرد كثيرا من الآراء الْفَاسِدَة الَّتِى لَا تتفق مَعَ كَرَامَة الانبياء. فقد كَانَ موفقا فِي تَأْوِيل الْآيَات الَّتِى ثار حولهَا الْخلاف وَكَثُرت الاقاويل، كموقفه من تَأْوِيل قَوْله سُبْحَانَهُ على لِسَان لوط: " هَؤُلَاءِ بناتى هن أطهر لكم " وَقَوله عَن يُوسُف: " وَلَقَد هَمت بِهِ وهم بهَا " وَكَذَلِكَ بَيَانه لقَوْل الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام " بل فعله كَبِيرهمْ هَذَا " وَكَذَلِكَ فَصله فِي احتجاج مُوسَى وآدَم عَلَيْهِ السَّلَام، وَغير ذَلِك. وَهَذَا جَانب لم يهتم بِهِ أحد من المؤرخين من قبل، إِنَّمَا دفع ابْن كثير إِلَيْهِ إِمَامَته فِي التَّفْسِير واهتمامه بمقاصد الْهِدَايَة من قصَص الانبياء. وَبِذَلِك يمكننا القَوْل أَن تنَاول ابْن كثير لقصص الانبياء يعْتَبر جَدِيدا فِي منهجه، إِذْ نلمح فِيهِ عناصر أُخْرَى غير التَّارِيخ، كالتفسير والْحَدِيث، والعظة والتوجيه، وفى بعض الاحيان اللُّغَة والادب، وَقد مزج ابْن كثير بَين هَذِه العناصر وَجعل الصدارة فِيهَا للتصور القرآني لقصص الانبياء، فَهُوَ بِحَق تَعْبِير صَادِق عَن النظرة الاسلامية لهَذَا الْمَوْضُوع وَقد برِئ من الحشو والتكلف والولوع بالغرائب، وساير مَنْهَج الْعقل وَالْعلم، وَنَفر من الخرافات والاباطيل. وَذَلِكَ مَا جعلني أرى فِي نشر هَذَا الْكتاب ضَرُورَة لعصرنا وتراثنا على السوَاء.
(1/15)
مَنْهَج التَّحْقِيق: اعتمدت فِي تَحْقِيق هَذَا الْكتاب على نسختين من " الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة " 1 - النُّسْخَة المصورة عَن مكتبة ولى الدّين بالآستانة والمحفوظة بدار الْكتب المصرية برقم 1110 تَارِيخ. وهى نُسْخَة جَيِّدَة لَوْلَا مَا يَقع فِيهَا من سقط فِي بعض الْمَوَاضِع. وإليها الاشارة بِحرف ا. 2 - النُّسْخَة المطبوعة بمطبعة السَّعَادَة سنة 1351 هـ وَقد قوبلت على نُسْخَة مَحْفُوظَة بِالْمَدْرَسَةِ الاحمدية بحلب، وإليها الاشارة بِحرف ط. وَقد كَانَ جهدي متجها إِلَى ضبط الاصل ومقابلة النسختين لاستخراج الصَّوَاب مِنْهُمَا. وَقد تبينت فِي النُّسْخَة المطبوعة سقطا كثير أَشرت إِلَيْهِ فِي الهوامش، كَمَا أَن فِيهَا تَحْرِيف شَائِعا قومته بِالرُّجُوعِ إِلَى المخطوطة وَإِلَى المراجع الَّتِى نقل عَنْهَا ابْن كثير، وأشرت إِلَى بعض هَذِه الاخطاء فِي هوامش الصفحات. وَبعد ذَلِك كَانَ لَا بُد من شرح الْمُفْردَات وَإِثْبَات فروق النّسخ والتعريف بِبَعْض الاعلام وَالتَّعْلِيق على مَا لَا يطمأن إِلَيْهِ من الرِّوَايَات وَغير ذَلِك مِمَّا يتطلبه تَقْوِيم الْكتاب وتقديمه فِي صُورَة قريبَة من الصِّحَّة دانية من الصَّوَاب. وَأَرْجُو أَن أكون فِي نشرى لهَذَا الْكتاب من كتب ابْن كثير قد أدّيت واجبى نَحْو أمتنَا الاسلامية حِين يسرت هَذَا الْمرجع الاصيل
(1/16)
لهَذَا الْجَانِب الْهَام من جَوَانِب الثقافة الاسلامية، بل الانسانية وَهُوَ قصَص الانبياء، وهم أبطال التَّضْحِيَة الْمُجَرَّدَة عَن كل شَائِبَة، وأمثلة الْكَمَال الْبُشْرَى الَّذين تستهديهم الانسانية فِي كل زمَان. وَالله الْمَسْئُول أَن يهئ لنا من أمرنَا رشدا وَأَن يمدنا بعونه وقوته، نعم الْمولى وَنعم النصير. مصطفى عبد الْوَاحِد الْقَاهِرَة صفر سنة 1388 هـ مايو سنة 1968 م
(1/17)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كلهَا، ثمَّ عرضهمْ على الْمَلَائِكَة، فَقَالَ أنبؤني بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْت الْعلم الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أعلم غيب السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ، وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا، وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فأخرجهما مِمَّا كَانَا فِيهِ، وَقُلْنَا هَبَطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هم فِيهَا خَالدُونَ (1) ". وَقَالَ تَعَالَى: " مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (2) " وَقَالَ تَعَالَى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُم رقيبا (3) ". __________ (1) سُورَة الْبَقَرَة 30 - 39 (2) سُورَة آل عمرَان 59 (3) سُورَة النِّسَاء 1 " م 1 - قصَص الانبياء 1 " (*)
(1/1)
كَمَا قَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عليم خَبِير (1) ". وَقَالَ تَعَالَى: " هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَة وَجعل مِنْهَا زَوجهَا ليسكن إِلَيْهَا ... الْآيَةَ (2) ". وَقَالَ تَعَالَى: " وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنعك أَلا تسْجد إِذْ أمرنك؟ قَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا، فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ، وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ * وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهما الشَّيْطَان ليبدى لَهما ماوورى عَنْهُمَا من سوآتهما، وَقَالَ مانها كَمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ، فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا، وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ؟ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ؟ * قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين * قَالَ اهبطوا بَعْضكُم لبَعض __________ (1) سُورَة الحجرات 13 (2) سُورَة الاعراف 189. (*)
(1/2)
عَدُوٌّ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تخرجُونَ (1) ". كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: " مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وفيهَا نعيدكم وَمِنْهَا نخرجكم تَارَة أُخْرَى (2) ". وَقَالَ تَعَالَى: " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالق بشرا من صلصال من حمأ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيس مَالك أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ؟ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لاسجد لبشر خلقته ن صلصال من حمأ مسنون. قَالَ فَاخْرُج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مقسوم (3) . وَقَالَ تَعَالَى: " وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا؟ * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ، لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْت مِنْهُم بصوتك، وأجلب __________ (1) سُورَة الاعراف 21 - 25 (2) سُورَة طه 55 (3) سُورَة الْحجر 26 - 44 (*)
(1/3)
عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ، وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكيلا " (1) وَقَالَ تَعَالَى: " وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ؟ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا " (2) . وَقَالَ تَعَالَى ": وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ، فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى؟ * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا، وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا من ورق الْجنَّة، وَعصى آد رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدو، فإمَّا يَأْتينكُمْ منى هدى فَمن ابتع هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتنَا فنسيتهما وَكَذَلِكَ الْيَوْم تنسى (3) ". وَقَالَ تَعَالَى: " قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ؟ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ؟ * قَالَ أَنا خير مِنْهُ خلقتي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا __________ (1) سُورَة الاسراء (2) سُورَة الْكَهْف (3) سُورَة طه (*)
(1/4)
فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ * قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * ولتعلمن نبأه بعد حِين (1) ". * * * فَهَذَا ذِكْرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فِي التَّفْسِيرِ، ولنذكرها هُنَا مَضْمُونَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَاتُ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ. فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ خَاطَبَ الْمَلَائِكَةَ قَائِلًا لَهُم: " إنى جَاعل فِي الارض خَليفَة " أَعْلَمَ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَ مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ الَّذِينَ يُخْلِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا قَالَ: " وَهُوَ الذى جعلكُمْ خلائف الارض " [وَقَالَ: " ويجعلكم خلفاء الارض "] (2) فَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْوِيهِ بِخَلْقِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا يُخْبِرُ بِالْأَمْرِ الْعَظِيمِ قَبْلَ كَوْنِهِ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ سَائِلِينَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِكْشَافِ وَالِاسْتِعْلَامِ عَنْ وَجْهِ الْحِكْمَةِ لَا عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَاضِ وَالتَّنَقُّصِ (3) لِبَنِي آدَمَ وَالْحَسَدِ لَهُمْ، كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ جَهَلَةِ الْمُفَسِّرِينَ، قَالُوا: " أَتَجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا ويسفك الدِّمَاء؟ ". قِيلَ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ بِمَا رَأَوْا مِمَّن كَانَ قبل آدم من الْجِنّ والبن (4) . قَالَه قَتَادَة. __________ (1) سُورَة ص. (2) سَقَطت من المطبوعة. (3) ا: وَالنَّقْص. (4) كَذَا، ولعلها الحن، وهم طَائِفَة من الْجِنّ وَقيل ضعفتهم. (*)
(1/5)
وَقَالَ عبد الله بن عمر: كَانَت الْجِنّ قَبْلَ آدَمَ بِأَلْفَيْ عَامٍ فَسَفَكُوا الدِّمَاءَ فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ جُنْدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ (1) فَطَرَدُوهُمْ إِلَى جَزَائِرِ الْبُحُورِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَعَنِ الْحَسَنِ أُلْهِمُوا ذَلِكَ. وَقِيلَ: لِمَا اطَّلَعُوا عَلَيْهِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَقِيلَ أَطْلَعَهُمْ عَلَيْهِ هَارُوتُ وَمَارُوتُ عَنْ مَلَكٍ فَوْقَهُمَا يُقَالُ لَهُ السِّجِلُّ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لَا يَخْلُقُ مِنْهَا إِلَّا مَنْ يَكُونُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ غَالِبا. " وَنحن نُسَبِّح بحَمْدك ونقدس لَك " أَيْ نَعْبُدُكَ دَائِمًا لَا يَعْصِيكَ مِنَّا أَحَدٌ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِخَلْقِ هَؤُلَاءِ أَنْ يَعْبُدُوكَ فَهَا نَحْنُ لَا نَفْتُرُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا. " قَالَ إنى أعلم مَا لَا تعلمُونَ " أَيْ أَعْلَمُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ فِي خَلْقِ هَؤُلَاءِ مَالا تعلمُونَ، أَيْ سَيُوجَدُ مِنْهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ [والصالحون (2) ] . ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ شَرَفَ آدَمَ عَلَيْهِمْ فِي الْعلم فَقَالَ: " وَعلم آدم الاسماء كلهَا ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي يَتَعَارَفُ بِهَا النَّاسُ: إِنْسَانٌ، وَدَابَّةٌ، وَأَرْضٌ، وَسَهْلٌ، وَبَحْرٌ، وَجَبَلٌ، وَجَمَلٌ، وَحِمَارٌ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمَمِ وَغَيْرِهَا. وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَّمَهُ اسْمَ الصَّحْفَةِ، وَالْقِدْرِ، حَتَّى الْفَسْوَةِ وَالْفُسَيَّةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَّمَهُ اسْم كل دَابَّة، وكل طير وكل شئ. وَكَذَا قَالَ سعيد ابْن جُبَير [وَقَتَادَة وَغير وَاحِد (3) ] . __________ (1) ا: من الْمَلَائِكَة جندا (2) سَقَطت من المطبوعة. (3) لَيست فِي ا (*)
(1/6)
وَقَالَ الرَّبِيعُ: عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ ذُرِّيَّتِهِ. وَالصَّحِيحُ: أَنه علمه أَسمَاء الذورات وَأَفْعَالَهَا مُكَبَّرَهَا وَمُصَغَّرَهَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هُنَا مَا رَوَاهُ هُوَ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ وَهِشَامٍ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُونَ لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسمَاء كل شئ " وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ. " ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ". قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ خَلْقَ آدَمَ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: لَا يَخْلُقُ رَبُّنَا خَلْقًا إِلَّا كُنَّا أَعْلَمَ مِنْهُ. فَابْتُلُوا بِهَذَا. وَذَلِكَ قَوْله " إِن كُنْتُم صَادِقين ". وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا بَسَطْنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ. قَالُوا: " سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّك أَنْت الْعَلِيم الْحَكِيم " أَي سُبْحَانَكَ أَن يُحِيط أحد بشئ مِنْ عِلْمِكَ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيمِكَ، كَمَا قَالَ: " وَلَا يحيطون بشئ من علمه إِلَّا بِمَا شَاءَ ". " قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غيب السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ؟ " أَيْ أَعْلَمُ السِّرَّ كَمَا أَعْلَمُ الْعَلَانِيَةَ. وَقِيلَ إِن المُرَاد بقوله: " أعلم مَا تبدون " مَا قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ
(1/7)
فِيهَا، وَبِقَوْلِهِ " وَمَا كُنْتُم تكتمون " المُرَاد بِهَذَا الْكَلَام إِبْلِيس حِين أسر الْكبر والنفاسة (1) على آدم عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالثَّوْرِيُّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: " وَمَا كُنْتُمْ تكتمون " قَوْلُهُمْ: لَنْ يَخْلُقَ رَبُّنَا خَلْقًا إِلَّا كُنَّا أعلم مِنْهُ وَأكْرم عَلَيْهِ مِنْهُ. وَقَوله: " وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيس أَبى واستكبر " هَذَا إِكْرَامٌ عَظِيمٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِآدَمَ حِينَ خَلَقَهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، كَمَا قَالَ: " فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ روحي فقعوا لَهُ ساجدين " فَهَذِهِ أَرْبَعُ تَشْرِيفَاتٍ: خَلْقُهُ لَهُ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ، ونفخه مِنْ رُوحِهِ، وَأَمْرُهُ (2) الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَتَعْلِيمُهُ أَسْمَاءَ الْأَشْيَاءِ. وَلِهَذَا قَالَ لَهُ مُوسَى الْكِلِيمُ حِينَ اجْتَمَعَ هُوَ وَإِيَّاهُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى وتناظر كَمَا سَيَأْتِي: أَنْتَ آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وأسجد لَك مَلَائكَته، وعلمك أَسمَاء كل شئ. وَهَكَذَا يَقُولُ [لَهُ (3) ] أَهْلُ الْمَحْشَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: " وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنا خير مِنْهُ خلقتي من نَار وخلقته من طين ". قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: قَاس إِبْلِيس وَهُوَ أول من قَاس. وَقَالَ مُحَمَّد بن __________ (1) المطبوعة: والتخيرة. (2) ا: وَأمر. (3) من ا (*)
(1/8)
سِيرِين: أول من قَاس إِبْلِيس، وَمَا عبدت الشَّمْس و [لَا] (1) الْقَمَر إِلَّا بالمقاييس، رَوَاهُمَا ابْن جرير. وَمعنى هَذَا أَنه نظر نَفسه بطرِيق المقايسة بَينه وَبَين آدم، فَرَأى نَفسه أشرف من آدم فَامْتنعَ من السُّجُود لَهُ، مَعَ وجود الامر لَهُ ولسائر الْمَلَائِكَة بِالسُّجُود. وَالْقِيَاس إِذا كَانَ مُقَابلا بِالنَّصِّ كَانَ فَاسد الِاعْتِبَار. ثمَّ هُوَ فَاسد فِي نَفسه، فَإِن الطين أَنْفَع وَخير من النَّار، لَان الطين فِيهِ الرزانة والحلم والاناة والنمو، وَالنَّار فِيهَا الطيش والخفة والسرعة والاحراق. ثمَّ آدم شرفه الله بخلقه لَهُ بِيَدِهِ ونفخه فِيهِ من روحه، وَلِهَذَا أَمر الْمَلَائِكَة بِالسُّجُود لَهُ، كَمَا قَالَ: " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا من صلصال من حمأ مسنون. فَإِذا سويته وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ. فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ. قَالَ: يَا إِبْلِيسُ مَالك أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ: لَمْ أَكُنْ لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مَسْنُونٍ قَالَ: فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. وَإِنَّ عَلَيْك اللَّعْنَة إِلَى يَوْم الدّين " اسْتَحَقَّ هَذَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ اسْتَلْزَمَ تنقصه لآدَم وازدراءه بِهِ وَتَرَفُّعُهُ عَلَيْهِ مُخَالَفَةَ الْأَمْرِ الْإِلِهِيِّ، وَمُعَانَدَةَ الْحَقِّ فِي النَّصِّ عَلَى آدَمَ عَلَى التَّعْيِينِ. وَشَرَعَ فِي الِاعْتِذَارِ بِمَا لَا يُجْدِي عَنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ اعْتِذَارُهُ أَشَدَّ مِنْ ذَنْبِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ سُبْحَانَ: " وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا؟ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الذى كرمت على لَئِن أحرتنى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا. قَالَ اذْهَبْ فَمن تبعك __________ (1) لَيست فِي ا. (*)
(1/9)
مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا، وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا. إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان وَكفى بِرَبِّك وَكيلا ". وَقَالَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: " وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء من دوني " أَيْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ عَمْدًا وَعِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لانه خانه طبعه ومادته الْخَبِيثَةُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ مَخْلُوقٌ من ناركما قَالَ، وكما جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ ". قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَمْ يَكُنْ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَطُّ. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: كَانَ مِنَ الْجِنِّ، فَلَمَّا أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ جُنْدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَتَلُوهُمْ وَأَجْلَوْهُمْ إِلَى جَزَائِرِ الْبِحَارِ، وَكَانَ إِبْلِيسُ مِمَّنْ أُسِرَ فَأَخَذُوهُ مَعَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فَكَانَ هُنَاكَ، فَلَمَّا أُمِرَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالسُّجُودِ امْتَنَعَ إِبْلِيسُ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَآخَرُونَ: كَانَ إِبْلِيسُ رَئِيسَ الْمَلَائِكَةِ بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ اسْمُهُ عَزَازِيلَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ (1) : الْحَارِثُ. قَالَ النَّقَّاشُ: وَكُنْيَتُهُ أَبُو كُرْدُوسَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ مِنْ حَيٍّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَال لَهُم الْجِنّ، __________ (1) المطبوعة: عَن وَهُوَ تَحْرِيف. (*)
(1/10)
وَكَانُوا خزان الْجنان، وَكَانَ من أَشْرَفهم و [من] (1) أَكْثَرهم عِلْمًا وَعِبَادَةً، وَكَانَ مِنْ أُولِى الْأَجْنِحَةِ الْأَرْبَعَةِ فَمَسَخَهُ اللَّهُ شَيْطَانًا رَجِيمًا. وَقَالَ فِي سُورَةِ ص: " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ. فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ. قَالَ: يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ. قَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ: فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. قَالَ: رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. قَالَ: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ. لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّم مِنْك وَمِمَّنْ تبعك مِنْهُم أَجْمَعِينَ " وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: " قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لافعدن لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ، وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ، وَلَا تَجِد أَكْثَرهم شاكرين " أَيْ بِسَبَبِ إِغْوَائِكَ إِيَّايَ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، وَلِآتِيَنَّهُمْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ مِنْهُمْ، فَالسَّعِيدُ من خَالفه والشقى من اتبعهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا أَبُو عقيل - هُوَ عبد الله ابْن عَقِيلٍ الثَّقَفِيُّ - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي الْفَاكِهِ (2) قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ (3) لَا بن آدم بأَطْرُقِهِ " وَذكر الحَدِيث. * * * __________ (1) من ا. (2) ا: فا كه. (3) ط: يقْعد. (*)
(1/11)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمَلَائِكَةِ الْمَأْمُورِينَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ: أَهُمْ جَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ عُمُومُ الْآيَاتِ؟ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. أَوِ الْمُرَادُ بِهِمْ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ؟ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ وَفِي السِّيَاقِ نَكَارَةٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قَدْ رَجَّحَهُ. وَلَكِنَّ الْأَظْهَرَ مِنَ السِّيَاقَاتِ الْأَوَّلُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ: " وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ " وَهَذَا عُمُومٌ أَيْضًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى لابليس: " اهبط مِنْهَا " و " اخْرُج مِنْهَا " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي السَّمَاءِ فَأُمِرَ بِالْهُبُوطِ مِنْهَا، وَالْخُرُوجِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ وَالْمَكَانَةِ الَّتِى كَانَ قد نالها بِعِبَادَتِهِ، وتشبه بِالْمَلَائِكَةِ فِي الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، ثُمَّ سَلَبَ ذَلِكَ بِكِبْرِهِ وَحَسَدِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لِرَبِّهِ، فَأُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ مَذْءُومًا مَدْحُورًا. * * * وَأَمَرَ اللَّهُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَسْكُنَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ الْجَنَّةَ فَقَالَ: " وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَة فتكونا من الظَّالِمين ". وَقَالَ فِي الْأَعْرَافِ: " قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لمن تبعك مِنْهُم لاملان جَهَنَّم مِنْك أَجْمَعِينَ * وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا، وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَة فتكونا من الظَّالِمين ". وَقَالَ تَعَالَى: " وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى *
(1/12)
فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تظمأ فِيهَا وَلَا تضحى ". وَسِيَاق هَذِه الْآيَات يقتضى أَن خلق حَوَّاء كَانَ قبل دُخُول آدم [إِلَى] (1) الْجنَّة لقَوْله: " وَيَا آدم اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة " وَهَذَا قد صرح بِهِ إِسْحَاق ابْن يَسَارٍ (2) وَهُوَ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَلَكِنْ حَكَى السّديّ عَن أبي صَالح وَأبي مَالك، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: أُخْرِجَ إِبْلِيسُ مِنَ الْجَنَّةِ وَأُسْكِنَ آدَمُ الْجَنَّةَ، فَكَانَ يمشى فِيهَا وحشى (3) لَيْسَ لَهُ فِيهَا زَوْجٌ يَسْكُنُ إِلَيْهَا، فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَ رَأْسِهِ امْرَأَةٌ قَاعِدَةٌ خَلَقَهَا الله من ضلعه. فَسَأَلَهَا مَا (4) أَنْت؟ قَالَت: امْرَأَة. قَالَ: وَلم خُلِقْتِ؟ قَالَتْ: لِتَسْكُنَ إِلَيَّ، فَقَالَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ يَنْظُرُونَ مَا بَلَغَ مِنْ عِلْمِهِ: مَا اسْمُهَا يَا آدَمُ؟ قَالَ: حَوَّاءُ، قَالُوا: وَلِمَ كَانَتْ حَوَّاء؟ قَالَ لانها خلقت من شئ حَيٍّ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِهِ الْأَقْصَرِ الْأَيْسَرِ وَهُوَ نَائِمٌ وَلَأَمَ مَكَانَهُ لَحْمًا. وَمِصْدَاقُ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ... الْآيَةَ " وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ من نفس وَاحِدَة وَجعل مِنْهَا زَوجهَا __________ (1) من ا. (2) ط: بشار. وَهُوَ تَحْرِيف. (3) كَذَا بالاصول، وَلَعَلَّه على تَقْدِير مُبْتَدأ مَحْذُوف. وَهُوَ وحشى. (4) ط: من أَنْت. (*)
(1/13)
لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فمرت بِهِ ... " الْآيَةَ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ زَائِدَةَ، عَنْ مَيْسَرَةَ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّ الْمَرْأَة خلقت من ضلع، وَإِن أَعْوَج شئ فِي الضِّلْعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خيرا ". لفظ البُخَارِيّ. و [وَقَدِ] (1) اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَلَا تقربا هَذِه الشَّجَرَة " فَقِيلَ هِيَ الْكَرْمُ، وَرَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيد بن جُبَير والشعبى وجعدة ابْن هُبَيْرَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ وَالسُّدِّيِّ فِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالَ: وَتَزْعُمُ يَهُودُ أَنَّهَا الْحِنْطَةُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، وَأَبِي مَالِكٍ وَمُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى. قَالَ وَهْبٌ: وَالْحَبَّةُ مِنْهُ أَلْيَنُ مِنَ الزَّبَدِ وَأحلى من الْعَسَل. وَقَالَ الثَّوْريّ عَن أَبى حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ: " وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَة " هِيَ النَّخْلَةُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: هِيَ التِّينَةُ، وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَتْ شَجَرَةً مَنْ أَكَلَ مِنْهَا أَحْدَثَ وَلَا يَنْبَغِي فِي الْجَنَّةِ حَدَثٌ. وَهَذَا الْخِلَافُ قَرِيبٌ، وَقَدْ أَبْهَمَ اللَّهُ ذِكْرَهَا وَتَعْيِينَهَا، وَلَوْ كَانَ فِي ذِكْرِهَا مَصْلَحَةٌ تَعُودُ إِلَيْنَا لَعَيَّنَهَا لَنَا كَمَا فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمحَال الَّتِى تبهم فِي الْقُرْآن. __________ (1) لَيْسَ فِي ا. (*)
(1/14)
وَإِنَّمَا الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرُوهُ فِي أَنَّ هَذِهِ الْجنَّة الَّتِى أدخلها آدَمُ: هَلْ هِيَ فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ، هُوَ الْخِلَافُ الَّذِي يَنْبَغِي فَصْلُهُ وَالْخُرُوجُ مِنْهُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا هِيَ الَّتِي فِي السَّمَاءِ وَهِيَ جَنَّةُ الْمَأْوَى، لِظَاهِرِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وزوجك الْجنَّة " والانف وَاللَّامُ لَيْسَتْ لِلْعُمُومِ وَلَا لِمَعْهُودٍ لَفْظِيٍّ، وَإِنَّمَا تَعُودُ عَلَى مَعْهُودٍ ذِهْنِيٍّ، وَهُوَ الْمُسْتَقِرُّ شَرْعًا مِنْ جَنَّةِ الْمَأْوَى، وَكَقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " عَلَامَ أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِنَ الْجَنَّةِ؟ ... " الْحَدِيثَ كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الاشجعى - واسْمه سعد ابْن طَارِقٍ - عَنْ أَبِي حَازِمٍ سَلَمَةَ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبُو مَالِكٍ عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حِينَ تَزْلُفُ لَهُمُ الْجَنَّةُ. فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ؟ " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَهَذَا فِيهِ قُوَّةٌ جَيِّدَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي (1) الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، وَلَيْسَتْ تَخْلُو عَنْ نَظَرٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْجَنَّةُ الَّتِي أُسْكِنَهَا آدَمُ لَمْ تَكُنْ جَنَّةَ الْخلد، لانه (2) كلف فِيهَا أَلا يَأْكُلَ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ، وَلِأَنَّهُ نَامَ فِيهَا وَأَخْرَجَ مِنْهَا، وَدَخَلَ عَلَيْهِ إِبْلِيسُ فِيهَا، وَهَذَا مِمَّا يُنَافِي أَنْ تَكُونَ جَنَّةَ الْمَأْوَى. وَهَذَا الْقَوْلُ مَحْكِيٌّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ، والقاضى مُنْذر بن سعيد __________ (1) 1: على. (2) ا: لانها. (*)
(1/15)
الْبَلُّوطِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَأُفْرِدَ لَهُ مُصَنَّفًا عَلَى حِدَةٍ. وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْإِمَامِ وَأَصْحَابِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَنَقَلَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بن عمر الرَّازِيّ بن خَطِيبِ الرَّيِّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَلْخِيِّ وَأَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ. وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ نَصُّ التَّوْرَاةِ الَّتِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ. وَمِمَّنْ حَكَى الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ، وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ، وَأَبُو عِيسَى الرُّمَّانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَحَكَى عَنِ الْجُمْهُورِ الْأَوَّلَ، وَأَبُو الْقَاسِمِ الرَّاغِبُ [وَالْقَاضِي (1) ] الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ: وَاخْتُلِفَ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي أُسْكِنَاهَا يَعْنِي آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا جَنَّةُ الْخُلْدِ. الثَّانِي [أَنَّهَا (2) ] جَنَّةٌ أَعَدَّهَا اللَّهُ لَهُمَا وَجَعَلَهَا دَارَ ابْتِلَاءٍ، وَلَيْسَتْ جَنَّةَ الْخُلْدِ الَّتِي جَعَلَهَا دَارَ جَزَاءٍ. وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا فِي السَّمَاءِ لِأَنَّهُ أَهْبَطَهُمَا مِنْهَا، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالثَّانِي أَنَّهَا فِي الْأَرْضِ لِأَنَّهُ امْتَحَنَهُمَا فِيهَا بِالنَّهْيِ عَنِ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَيَا عَنْهَا دون غَيرهَا من الثِّمَار. وَهَذَا قَول ابْن يحيى، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ مِنْ ذَلِكَ. هَذَا كَلَامُهُ. فَقَدْ تَضَمَّنَ كَلَامُهُ حِكَايَةَ أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ، وَأَشْعَرَ كَلَامُهُ أَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَلِهَذَا (3) حَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ: هَذِهِ الثَّلَاثَةُ الَّتِى أوردهَا الماوردى، وَرَابِعهَا الْوَقْف. وَحَكَى الْقَوْلَ بِأَنَّهَا فِي السَّمَاءِ وَلَيْسَتْ جَنَّةَ المأوى، عَن أَبى على الجبائى. __________ (1) لَيست فِي ا. (2) من ا. (3) ط: وَلَقَد. (*)
(1/16)
وَقَدْ أَوْرَدَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الثَّانِي سُؤَالًا يَحْتَاجُ مِثْلُهُ إِلَى جَوَابٍ، فَقَالُوا: لَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى طَرَدَ إِبْلِيسَ حِينَ امْتَنَعَ مِنَ السُّجُودِ عَنِ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ عَنْهَا وَالْهُبُوطِ مِنْهَا وَهَذَا الْأَمْرُ لَيْسَ مِنَ الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ مُخَالَفَتُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ قَدَرِيٌّ لَا يُخَالَفُ وَلَا يُمَانَعُ، وَلِهَذَا قَالَ: " اخْرُج مِنْهَا مذءوما مَدْحُورًا ". وَقَالَ: " اهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تتكبر فِيهَا " وَقَالَ: " اخْرُج مِنْهَا فَإنَّك رجيم " وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ أَوِ السَّمَاءِ أَوِ الْمنزلَة. وأياما كَانَ فمعلوم أَنه لَيْسَ لَهُ الْكَوْن قدرا فِي الْمَكَانِ الَّذِي طُرِدَ عَنْهُ وَأَبْعَدُ مِنْهُ، لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ الْمُرُورِ وَالِاجْتِيَازِ. قَالُوا: وَمَعْلُومٌ مِنْ ظَاهِرِ سِيَاقَاتِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ وَسْوَسَ لِآدَمَ وَخَاطَبَهُ بِقَوْلِهِ لَهُ: " هَل أدلك على شَجَرَة الْخلد وَملك لايبلى " وَبِقَوْلِهِ: " مَا نها كَمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ. وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكمَا لمن الناصحين. فدلاهما بغرور.." الْآيَةَ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي اجْتِمَاعِهِ مَعَهُمَا فِي جَنَّتِهِمَا. وَقَدْ أُجِيبُوا عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِمَا فِي الْجَنَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُرُورِ فِيهَا لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ بهَا، وَأَنه وَسْوَسَ لَهُمَا وَهُوَ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ. وَفِي الثَّلَاثَةِ نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ أَصْحَابُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ: مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الزِّيَادَاتِ عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ، عَن يحيى بن ضَمْرَةَ السَّعْدِيُّ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: إِن آدم لما احْتضرَ اشْتهى " م 2 - قصَص الانبياء 1 "
(1/17)
قِطْفًا مِنْ عِنَبِ الْجَنَّةِ، فَانْطَلَقَ بَنُوهُ لِيَطْلُبُوهُ لَهُ، فَلَقِيَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ فَقَالُوا: أَيْنَ تُرِيدُونَ يَا بَنِي آدَمَ؟ فَقَالُوا إِنَّ أَبَانَا اشْتَهَى قِطْفًا مِنْ عِنَبِ الْجَنَّةِ. فَقَالُوا لَهُمْ: ارْجِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ. فَانْتَهَوْا إِلَيْهِ فَقَبَضُوا رُوحَهُ وَغَسَّلُوهُ وَحَنَّطُوهُ وكفنوه، وَصلى عَلَيْهِ جِبْرِيل وَمن خَلفه من الْمَلَائِكَةِ وَدَفَنُوهُ، وَقَالُوا: هَذِهِ سُنَّتُكُمْ فِي مَوْتَاكُمْ. وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ بِسَنَدِهِ، وَتَمَامُ لَفْظِهِ عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالُوا: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ الْوُصُولُ إِلَى الْجَنَّةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا آدَمُ الَّتِي اشْتَهَى مِنْهَا الْقِطْفُ مُمْكِنًا، لَمَا ذَهَبُوا يَطْلُبُونَ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا فِي الْأَرْضِ لَا فِي السَّمَاءِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالُوا: وَالِاحْتِجَاجُ بِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ: " وَيَا آدم اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة " [لَمْ يَتَقَدَّمْ عَهْدٌ يُعُودُ عَلَيْهِ فَهُوَ الْمَعْهُودُ الذهنى (1) ] مُسلم، وَلَكِن هُوَ مادل عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، فَإِنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنَ الْأَرْضِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ، وَخُلِقَ لِيَكُونَ فِي الْأَرْضِ، وَبِهَذَا أَعْلَمَ الرَّبُّ الْمَلَائِكَةَ حَيْثُ قَالَ: " إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَليفَة " قَالُوا: وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ (2) " وَاللَّامُ لَيْسَ لِلْعُمُومِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مَعْهُودٌ لَفْظِيٌّ، وَإِنَّمَا هِيَ للمعهود الذهنى الذى فالالف دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَهُوَ الْبُسْتَانُ. قَالُوا: وَذِكْرُ الْهُبُوطِ لَا يَدُلُّ عَلَى النُّزُولِ مِنَ السَّمَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَك (2) " وَإِنَّمَا كَانَ __________ (1) لَيست فِي ا (2) الْآيَة: 17 من سُورَة ن (3) الْآيَة: 48 من سُورَة هود (*)
(1/18)
فِي السَّفِينَة (1) حِين اسْتَقَرَّتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَنَضَبَ الْمَاءُ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ أُمِرَ (2) أَنْ يَهْبِطَ إِلَيْهَا هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مُبَارَكًا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " اهْبِطُوا مصرا فَإِن لكم مَا سَأَلْتُم " الْآيَةَ (3) وَقَالَ تَعَالَى: " وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ.." الْآيَةَ (4) . وَفِي الْأَحَادِيثِ وَاللُّغَةِ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ. قَالُوا: وَلَا مَانِعَ - بَلْ هُوَ الْوَاقِعُ - أَنَّ الْجنَّة أُسْكِنَهَا آدَمُ كَانَتْ مُرْتَفِعَةً عَنْ (5) سَائِرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ، ذَاتِ أَشْجَارٍ وَثِمَارٍ وَظِلَالٍ وَنَعِيمٍ وَنَضْرَةٍ وسرور، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " إِن لَك أَن لَا تجوع فِيهَا وَلَا تعرى ". أَي لايذل بَاطِنُكَ بِالْجُوعِ وَلَا ظَاهِرُكَ بِالْعُرْيِ " وَأَنَّكَ لَا تظمأ فِيهَا وَلَا تضحى " أَيْ لَا يَمَسُّ بَاطِنَكَ حَرُّ الظَّمَأِ وَلَا ظَاهِرَكَ حَرُّ الشَّمْسِ، وَلِهَذَا قَرَنَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، وَبَيْنَ هَذَا وَهَذَا، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الملاءمة. فَلَمَّا كَانَ مِنْهُ ماكان مِنْ أَكْلِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا، أُهْبِطَ إِلَى أَرْضِ الشَّقَاءِ وَالتَّعَبِ وَالنَّصَبِ وَالْكَدَرِ وَالسَّعْيِ وَالنَّكَدِ، وَالِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ، وَاخْتِلَافِ السُّكَّانِ دِينًا وَأَخْلَاقًا وَأَعْمَالًا، وَقُصُودًا وَإِرَادَاتٍ وَأَقْوَالًا وَأَفْعَالًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ومتاع إِلَى حِين ". وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي السَّمَاء كَمَا قَالَ: " وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا " (6) ، وَمَعْلُوم أَنهم كَانُوا فِيهَا وَلم يَكُونُوا فِي السَّمَاء. __________ (1) 1: السفن (2) ط: وَأمر (3) الْآيَة: 61 من سُورَة الْبَقَرَة (4) الْآيَة: 74 من سُورَة الْبَقَرَة (5) ا: على (6) الْآيَة: 104 من سُورَة الاسراء
(1/19)
قَالُوا: وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مُفَرَّعًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُنْكِرُ وُجُودَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ [الْيَوْمَ] (1) وَلَا تلازم بَينهمَا، فَكل من حكى عمنه هَذَا الْقَوْلُ مِنَ السَّلَفِ وَأَكْثَرِ (2) الْخَلَفِ، مِمَّنْ يُثْبِتُ وُجُودَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ الْيَوْمَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَات والاحاديث الصِّحَاح. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. * * * وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " فأزلهما الشَّيْطَان عَنْهَا " أَيْ عَنِ الْجَنَّةِ " فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ " أَيْ مِنَ النَّعِيمِ وَالنَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ إِلَى دَارِ التَّعَبِ وَالْكَدِّ وَالنَّكَدِ، وَذَلِكَ بِمَا وَسْوَسَ لَهُمَا وَزَيَّنَهُ فِي صُدُورِهِمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " فَوَسْوَسَ لَهما الشَّيْطَان ليبدى لَهما ماوورى عَنْهُمَا من سوآتهما، وَقَالَ مانها كَمَا ركما عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَو تَكُونَا من الخالدين " [يَقُول: مانها كَمَا عَنْ أَكْلِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنَّ تَكُونَا ملكَيْنِ أَو تَكُونَا من الخالدين (3) ] ، أَي لَو أكلتما مِنْهَا لصرتما كَذَلِك. " وقاسمهما " أَيْ حَلَفَ لَهُمَا عَلَى ذَلِكَ " إِنِّي لَكُمَا لمن الناصحين "، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: " فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ، قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَة الْخلد وَملك لايبلى؟ ": أَيْ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى الشَّجَرَةِ الَّتِي إِذَا أَكَلْتَ مِنْهَا حَصَلَ لَكَ الْخُلْدُ فِيمَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، وَاسْتَمْرَرْتَ فِي مُلْكٍ لَا يَبِيدُ وَلَا يَنْقَضِي؟ وَهَذَا مِنَ التَّغْرِيرِ وَالتَّزْوِيرِ وَالْإِخْبَارِ بِخِلَافِ الْوَاقِعِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَهُ شَجَرَةِ الْخلد الَّتِي إِذَا أَكَلْتَ مِنْهَا خَلَّدْتَ، وَقَدْ تَكُونُ هِيَ الشَّجَرَةُ الَّتِي قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا شُعْبَة، __________ (1) لَيست فِي ا (2) ا: وَأَكْثَرهم (3) لَيست فِي ا (*)
(1/20)
عَنْ أَبِي الضَّحَّاكِ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا، شَجَرَةُ الْخُلْدِ ". وَكَذَا رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ غُنْدَرٍ وَحَجَّاجٍ، عَنْ شُعْبَةَ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ أَيْضًا بِهِ. قَالَ غُنْدَرٌ: قُلْتُ لِشُعْبَةَ: هِيَ شَجَرَةُ الْخُلْدِ؟ قَالَ لَيْسَ فِيهَا هِيَ. تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَقَوْلُهُ: " فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا، وطفقا يخصفان عَلَيْهِمَا من ورق الْجنَّة " [كَمَا قَالَ فِي طه " فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهما سوآتهما، وطقا يخصفان عَلَيْهِمَا من ورق الْجنَّة (1) ] وَكَانَتْ حَوَّاءُ أَكَلَتْ مِنَ الشَّجَرَةِ قَبِلَ آدَمَ، رهى الَّتِي حَدَتْهُ عَلَى أَكْلِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ (2) الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ: " لَوْلَا بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزِ (3) اللَّحْمُ، وَلَوْلَا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا ". تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنْ هَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ أَبِي (4) وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ (5) عَنْ أَبِي يُونُسَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَة بِهِ. __________ (1) لَيست فِي ا (2) ا: حمل (3) يخنز: ينتن (4) ا: عَن ابْن (5) ط: حَارِث (*)
(1/21)
وفى كتاب التَّوْرَاة الَّتِى بأيدى (1) أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ الَّذِي دَلَّ حَوَّاءَ عَلَى الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ هِيَ الْحَيَّةُ، وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ الْأَشْكَالِ وَأَعْظَمِهَا، فَأَكَلَتْ حَوَّاءُ عَنْ قَوْلِهَا وَأَطْعَمَتْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ لِإِبْلِيسَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ انْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ، فَوَصَلَا مِنْ وَرَقِ التِّينِ وَعَمِلَا مَآزِرَ وَفِيهَا أَنَّهُمَا كَانَا عُرْيَانَيْنِ. وَكَذَا قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ لِبَاسُهُمَا نُورًا عَلَى فَرْجِهِ وَفَرْجِهَا. وَهَذَا الَّذِي فِي هَذِهِ التَّوْرَاةِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ غَلَطٌ مِنْهُمْ، وَتَحْرِيفٌ وَخَطَأٌ فِي التَّعْرِيبِ، فَإِنَّ نَقْلَ الْكَلَامِ مِنْ لُغَةٍ إِلَى لُغَةٍ لَا يَتَيَسَّرُ (2) لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا سِيَّمَا مِمَّنْ لَا [يكَاد (3) ] يَعْرِفُ كَلَامَ الْعَرَبِ جَيِّدًا، وَلَا يُحِيطُ عِلْمًا بِفَهْمِ كِتَابِهِ أَيْضًا، فَلِهَذَا وَقَعَ فِي تَعْرِيبِهِمْ لَهَا خَطَأٌ كَثِيرٌ (4) لَفْظًا وَمَعْنَى. وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمَا لِبَاسٌ فِي قَوْلِهِ: " يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا " فَهَذَا لايرد لِغَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بن أسكاب، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ رَجُلًا طِوَالًا كَثِيرَ شَعْرِ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ (5) ، فَلَمَّا ذَاقَ الشَّجَرَةَ سَقَطَ عَنْهُ لِبَاسه، فَأول مابدا مِنْهُ عَوْرَتُهُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى عَوْرَتِهِ جَعَلَ يَشْتَدُّ فِي الْجَنَّةِ، فَأَخَذَتْ شَعْرَهُ شَجَرَةٌ فَنَازَعَهَا، فناداه الرَّحْمَن عزوجل: يَا آدَمُ مِنِّي تَفِرُّ؟ فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَ الرَّحْمَنِ قَالَ يَا رَبِّ لَا، وَلَكِنِ اسْتِحْيَاءً ". __________ (1) ط: بَين أيدى. وَمَا أثْبته عَن ا (2) ط: لَا يكَاد يَتَيَسَّر. وَلَعَلَّه تَحْرِيف (3) سَقَطت من المطبوعة (4) ا: كَبِير (5) السحوق: الطَّوِيلَة (*)
(1/22)
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ ورق الْجنَّة " وَرَقِ التِّينِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَيْهِ وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَبِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ فَلَا يَضُرُّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَسَنِ ابْن ذَكْوَانَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَبَاكُمْ آدَمَ كَانَ كَالنَّخْلَةِ السحوق، سِتُّونَ ذِرَاعًا، كَثِيرَ الشَّعْرِ مُوَارَى الْعَوْرَةِ، فَلَمَّا أَصَابَ الْخَطِيئَة فِي الْجنَّة بَدَت لَهُ سوأته، فَخَرَجَ مِنَ الْجَنَّةِ، فَلَقِيَتْهُ شَجَرَةٌ فَأَخَذَتْ بِنَاصِيَتِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: أَفِرَارًا مِنِّي يَا آدَمُ؟ قَالَ: بل حَيَاء مِنْك (1) يَا رَبِّ مِمَّا جِئْتُ بِهِ ". ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ الْحسن، عَن يحيى ابْن ضَمْرَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَهَذَا أَصَحُّ، فَإِنَّ الْحَسَنَ لَمْ يُدْرِكْ أُبَيًّا. ثُمَّ أَوْرَدَهُ أَيْضا من طَرِيق خَيْثَمَة بن سُلَيْمَان الاطرابلسى، عَن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب أَبى مرصافة الْعَسْقَلَانِيِّ، عَنْ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ، عَنْ سِنَان، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا بِنَحْوِهِ. " وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ، وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ؟ * قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ". __________ (1) ط: بل حَيَاء مِنْك وَالله يَا رب. (*)
(1/23)
وَهَذَا اعْتِرَافٌ وَرُجُوعٌ إِلَى الْإِنَابَةِ، وَتَذَلُّلٌ وَخُضُوعٌ وَاسْتِكَانَةٌ، وَافْتِقَارٌ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ، وَهَذَا السِّرُّ مَا سَرَى فِي أَحَدٍ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَّا كَانَتْ عَاقِبَتُهُ إِلَى خَيْرٍ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ. " قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ " وَهَذَا خِطَابٌ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِبْلِيسَ، قِيلَ وَالْحَيَّةُ مَعَهم، أمروا أَن يهطبوا مِنَ الْجَنَّةِ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ مُتَعَادِينَ مُتَحَارِبِينَ. وَقَدْ يُسْتَشْهَدُ لِذِكْرِ الْحَيَّةِ مَعَهُمَا بِمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ، وَقَالَ: مَا سَالَمْنَاهُنَّ مُنْذُ حَارَبْنَاهُنَّ. وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ طه: " قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدو " هُوَ أَمر لآدَم وإبليس، وَاسْتَتْبَعَ آدَمَ حَوَّاءُ وَإِبْلِيسَ الْحَيَّةُ. وَقِيلَ هُوَ أَمْرٌ لَهُمْ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَدَاوُد وَسليمَان إِذْ يخكمان فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لحكمهم شَاهِدين (1) ". [وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَمَّا كَانَ الْحَاكِمُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ مُدَّعٍ وَمُدَّعَى عَلَيْهِ، قَالَ: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (2) ] . وَأَمَّا تَكْرِيرُهُ الْإِهْبَاطَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: " وَقُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضكُم لعبض عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ. فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى، فَمَنْ تبع هداى فَلَا خوف عَلَيْهِم ولاهم يَحْزَنُونَ. __________ (1) سُورَة الانبياء 77 (2) سقط من ا (*)
(1/24)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هم فِيهَا خَالدُونَ " فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِالْإِهْبَاطِ الْأَوَّلِ: الْهُبُوطُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَبِالثَّانِي: مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا إِلَى الْأَرْضِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ فِي الاول: " قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ومتاع إِلَى حِين " فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أُهْبِطُوا إِلَى الْأَرْضِ بِالْإِهْبَاطِ الْأَوَّلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ كَرَّرَهُ لَفْظًا وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا، وَنَاطَ مَعَ كُلِّ مَرَّةٍ حُكْمًا ; فَنَاطَ بِالْأَوَّلِ عَدَاوَتَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَبِالثَّانِي الِاشْتِرَاطَ عَلَيْهِمْ أَنَّ مَنْ تَبِعَ هُدَاهُ الَّذِي ينزله عَلَيْهِم بعد ذَلِك فَهُوَ السَّعِيدُ، وَمَنْ خَالَفَهُ فَهُوَ الشَّقِيُّ، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ فِي الْكَلَامِ لَهُ نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ مَلَكَيْنِ أَنْ يُخْرِجَا آدَمَ وَحَوَّاءَ مِنْ جِوَارِهِ، فَنَزَعَ جِبْرِيلُ التَّاجَ عَنْ رَأْسِهِ، وَحَلَّ مِيكَائِيلُ الْإِكْلِيلَ عَنْ جَبِينِهِ، وَتَعَلَّقَ بِهِ غُصْنٌ، فَظَنَّ آدَمُ أَنَّهُ قَدْ عُوجِلَ بِالْعُقُوبَةِ، فَنَكَّسَ رَأْسَهُ يَقُولُ: الْعَفْوَ الْعَفْوَ، فَقَالَ اللَّهُ: أفرارا منى؟ قَالَ: بَلْ حَيَاءً مِنْكَ يَا سَيِّدِي! وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ حَسَّانَ - هُوَ ابْنُ عَطِيَّةَ - مَكَثَ آدَمُ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ عَامٍ، وَفِي رِوَايَةٍ سِتِّينَ عَامًا، وَبَكَى عَلَى الْجَنَّةِ سَبْعِينَ عَامًا، وَعَلَى خَطِيئَتِهِ سَبْعِينَ عَامًا، وَعَلَى وَلَدِهِ حِينَ قُتِلَ أَرْبَعِينَ عَامًا. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا
(1/25)
جرير، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُهْبِطَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَرْضٍ يُقَالُ لَهَا " دَحْنَا " بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ. وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أهبط آدم بِالْهِنْدِ، وحواء بجدة، وإبليس بدستميان مِنَ الْبَصْرَةِ عَلَى أَمْيَالٍ، وَأُهْبِطَتِ الْحَيَّةُ بِأَصْبَهَانَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَ آدَمُ بِالْهِنْدِ وَنَزَلَ مَعَهُ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَبِقَبْضَةٍ مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، فَبَثَّهُ فِي الْهِنْدِ فَنَبَتَتْ شَجَرَةُ الطِّيبِ هُنَاكَ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أُهْبِطَ آدَمُ بِالصَّفَا، وَحَوَّاءُ بِالْمَرْوَةِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ مَعْمَرٌ: أَخْبَرَنِي عَوْفٌ، عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ حِينَ أَهْبَطَ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الارض علمه صَنْعَة كل شئ. وَزَوَّدَهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَثِمَارُكُمْ هَذِهِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ تَتَغَيَّرُ وَتِلْكَ لَا تَتَغَيَّرُ. وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ: أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ بَالُوَيْهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ النَّضْرِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي مُعَاوِيَةَ البجلى، عَن سعيد ابْن جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا أُسْكِنَ آدم الْجنَّة إِلَّا مابين صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ
(1/26)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا ". وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: " وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ ". وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فَرُّوخَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خلق آدم، وَفِيه أَدخل الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ ". عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْوَرْكَانِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَبَطَ آدَمُ وَحَوَّاءُ عُرْيَانَيْنِ جَمِيعًا، عَلَيْهِمَا وَرَقُ الْجَنَّةِ، فَأَصَابَهُ الْحَرُّ حَتَّى قَعَدَ يَبْكِي وَيَقُولُ لَهَا: يَا حَوَّاءُ قَدْ أَذَانِي الْحَرُّ، قَالَ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ بِقُطْنٍ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَغْزِلَ وَعَلَّمَهَا، وَأَمَرَ آدَمَ بِالْحِيَاكَةِ وَعَلَّمَهُ أَنْ يَنْسِجَ (1) "، وَقَالَ: " كَانَ آدَمُ لَمْ يُجَامِعِ امْرَأَتَهُ فِي الْجَنَّةِ، حَتَّى هَبَطَ مِنْهَا لِلْخَطِيئَةِ الَّتِي أَصَابَتْهُمَا (2) بِأَكْلِهِمَا مِنَ الشَّجَرَةِ "، قَالَ: " وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنَامُ عَلَى حِدة، وينام أَحَدُهُمَا فِي الْبَطْحَاءِ وَالْآخَرُ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، حَتَّى أَتَاهُ جِبْرِيلُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ "، قَالَ: " وَعَلَّمَهُ كَيْفَ يَأْتِيهَا، فَلِمَا أَتَاهَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: كَيْفَ وَجَدْتَ امْرَأَتَكَ؟ قَالَ: صَالِحَةً ". فَإِنَّهُ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَرَفْعُهُ مُنْكَرٌ جِدًّا. وَقَدْ يكون من كَلَام بعض السّلف __________ (1) ا: وَعلم آدم بالحياكة وَأمره أَن ينسج (2) ا: أَصَابَهَا (*)
(1/27)
وَسَعِيد بن ميسرَة هَذَا هُوَ أبوعمران الْبَكْرِيُّ الْبَصْرِيُّ، قَالَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: مُظْلِمُ الْأَمْرِ. * * * وَقَوْلُهُ: " فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم " قِيلَ هِيَ قَوْلُهُ: " رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (1) ". رُوِيَ هَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وأبى الْعَالِيَة وَالربيع ابْن أَنَسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَخَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدثنَا على بن الْحسن بن أسكاب، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَالَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَرَأَيْتَ يَا رَبِّ إِنْ تُبْتُ وَرَجَعْتُ أَعَائِدِي إِلَى الْجَنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ " فَذَلِكَ قَوْلُهُ: " فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ". وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَفِيهِ انْقِطَاعٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْكَلِمَاتُ: " اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فتب على إِنَّك أَنْت التواب الرَّحِيم ". (1) الْآيَة: 23 من سُورَة الاعراف (*)
(1/28)
وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس: " فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ " قَالَ: قَالَ آدَمُ يَا رَبِّ أَلَمْ تَخْلُقْنِي بِيَدِكَ؟ قِيلَ لَهُ بَلَى، وَنَفَخْتَ فِيَّ مَنْ روحكم؟ قِيلَ لَهُ بَلَى، وَعَطَسْتُ فَقُلْتَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ وَسَبَقَتْ رَحْمَتُكَ غَضَبَكَ؟ قِيلَ لَهُ: بَلَى، وَكَتَبْتَ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَ هَذَا؟ قِيلَ لَهُ بَلَى، قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ تُبْتُ هَلْ أَنْتَ رَاجِعِي إِلَى الْجَنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وَرَوَى الْحَاكِمُ أَيْضًا والْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: " لما اقْتَرَف آدم الْخَطِيئَة قَالَ: بارب أَسْأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ إِلَّا (1) غَفَرْتَ لِي ". فَقَالَ اللَّهُ: فَكَيْفَ عَرَفْتَ مُحَمَّدًا وَلَمْ أَخْلُقْهُ بَعْدُ؟ فَقَالَ: يَا رَبِّ لِأَنَّكَ لَمَّا خَلَقْتَنِي بِيَدِكَ، وَنَفَخْتَ فِيَّ من روحكم، رَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ عَلَى قَوَائِمِ الْعَرْشِ مَكْتُوبًا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ؟ فَعَلِمْتُ أَنَّكَ لَمْ تُضِفْ إِلَى اسْمِكَ إِلَّا أَحَبَّ الْخَلْقِ إِلَيْكَ. فَقَالَ اللَّهُ: صَدَقْتَ يَا آدَمُ، إِنَّهُ لَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَيَّ، وَإِذْ سَأَلْتَنِي بِحَقِّهِ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ، وَلَوْلَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُكَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى. ثُمَّ اجْتَبَاهُ ربه فَتَابَ عَلَيْهِ وَهدى " (2) . __________ (1) ط: أَن وَهُوَ تَحْرِيف (2) الْآيَتَانِ من سُورَة طه 121، 123 (*)
(1/29)
ذكر احتجاج آدم ومُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ النَّجَّارِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: حَاجَّ مُوسَى آدَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي أَخْرَجْتَ النَّاسَ بِذَنْبِكَ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَشْقَيْتَهُمْ. قَالَ آدَمُ: " يَا مُوسَى أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ [قَدْ] (1) كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي، أَوْ قَدَّرَهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي؟ " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ". وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَمْرٍو النَّاقِدِ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ النَّجَّارِ بِهِ. قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ: وَلَمْ يُخَرِّجَا عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ سواهُ. وَقد رَوَاهُ أَحْمد، عنم عبد الرازق عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عبد الرازق بِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم، حَدثنَا أَبُو شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَخْرَجَتْكَ خَطِيئَتُكَ مِنَ الْجَنَّةِ؟. فَقَالَ لَهُ آدَمُ: وَأَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَحَجَّ آدم مُوسَى " مرَّتَيْنِ. __________ (1) لَيست فِي ا (*)
(1/30)
قُلْتُ: وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، أَغْوَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ". قَالَ: " فَقَالَ آدَمُ: وَأَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ الله بِكَلَامِهِ تلومني عَنى عَمَلٍ أَعْمَلُهُ، كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يخلق السَّمَوَات وَالْأَرْضَ؟ قَالَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ". وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا عَنْ يَحْيَى بْنِ حَبِيبِ بن عدى، عَن معمر ابْن سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ غَرِيبٌ (1) مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنِ الْأَعْمَشِ. قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سعيد. قُلْتُ: هَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُثَنَّى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَسَدٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ على الفلاس، حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة، عَن __________ (2) ط: قريب. (*)
(1/31)
الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَان عَن عَمْرو سمع طاووسا، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ. فَقَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ - وَقَالَ مَرَّةً بِرِسَالَتِهِ - وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ " قَالَ: " حَجَّ آدَمُ مُوسَى، حَجَّ آدَمُ مُوسَى، حَجَّ آدَمُ مُوسَى ". وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُوس، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ. فَقَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. هَكَذَا ثَلَاثًا. قَالَ سُفْيَانُ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. وَقَدْ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ مِنْ عَشْرِ طُرُقٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَن عبد الله بن طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
(1/32)
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَقِيَ آدَمُ مُوسَى، فَقَالَ: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَأَسْكَنَكَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ فعلت مَا فَعَلْتَ؟ فَقَالَ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي كَلَّمَكَ اللَّهُ وَاصْطَفَاكَ بِرِسَالَتِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ، أَنَا أَقْدَمُ أم الذّكر؟ قَالَ: لابل الذِّكْرُ. فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحُمَيْدٌ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ رجل - قَالَ حَمَّاد أَظُنهُ جُنْدُب بن عبد اللَّهِ الْبَجَلِيَّ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَقِيَ آدَمُ مُوسَى " فَذَكَرَ مَعْنَاهُ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ (1) ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ - هُوَ ابْنُ حَازِمٍ - عَنْ مُحَمَّدٍ، هُوَ ابْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَقِيَ آدَمُ مُوسَى فَقَالَ: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، ثُمَّ صَنَعْتَ مَا صنعت؟ قَالَ آدم: لمُوسَى (2) أَنْتَ الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ: فَهَلْ تَجِدُهُ مَكْتُوبًا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ: " فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ". وَكَذَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، وَهِشَامٍ عَنْ مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن أَبى __________ (1) ط: الْحسن (2) ط: يَا مُوسَى (م 3 - قصَص الانبياء 1) (*)
(1/33)
هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ. وَكَذَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ خَالِدٍ، وَهِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَهَذَا عَلَى شَرْطِهِمَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ عِيَاض، عَن الْحَارِث بن أَبى دياب، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى عِنْدَ رَبِّهِمَا فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، قَالَ مُوسَى: أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ، ثُمَّ أَهْبَطْتَ النَّاسَ إِلَى الْأَرْضِ بِخَطِيئَتِكَ؟ قَالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الذى اصطفاك الله برسانته وَكَلَامه، وأعطاك الالواح فِيهَا تبيان كل شئ، وَقَرَّبَكَ نَجِيًّا؟ فَبِكَمْ وَجَدْتَ اللَّهَ [كَتَبَ التَّوْرَاةَ (1) ] قَالَ مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ عَامًا، قَالَ آدَمُ: فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا: " وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى؟ " قَالَ نَعَمْ. قَالَ أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَنْ عَمِلْتُ عَمَلًا كَتَبَ اللَّهُ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ " قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ". قَالَ الْحَارِثُ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ بِذَلِكَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَن إِسْحَق بْنِ مُوسَى الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ وَالْأَعْرَجِ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ ; عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلمَة، __________ (1) سَقَطت من ا (*)
(1/34)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى لِآدَمَ: يَا آدَمُ أَنْتَ الَّذِي أَدْخَلْتَ ذُرِّيَّتَكَ النَّارَ. فَقَالَ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ، فَهَل وجدت أَن أَهْبِطُ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ فَحَجَّهُ آدَمُ ". وَهَذَا عَلَى شَرْطِهِمَا وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِي قَوْلِهِ أَدْخَلْتَ ذُرِّيَّتَكَ النَّارَ، نَكَارَةٌ. فَهَذِهِ طُرُقُ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَوَاهُ عَنْهُ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَذَكْوَانُ أَبُو صَالح السمان، وطاووس بن كيسَان، وَعبد الرحمان بْنُ هُرْمُزَ الْأَعْرَجُ، وَعَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَهَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَيَزِيدُ بْنُ هُرْمُزَ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. * * * وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنده من حَدِيث أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر ابْن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ أَرِنَا آدَمَ الَّذِي أَخْرَجَنَا وَنَفْسَهُ مِنَ الْجَنَّةِ. فَأَرَاهُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: أَنْتَ آدَمُ؟ فَقَالَ لَهُ آدم: نعم. فَقَالَ: أَنْت الذى نفه اللَّهُ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِنَ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ لَهُ آدَمُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ أَنَا مُوسَى. قَالَ: أَنْت مُوسَى بنى
(1/35)
بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ أَنْتَ الَّذِي كَلَّمَكَ اللَّهُ مِنْ وَرَاء الْحجَّاج، فَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ رَسُولًا مِنْ خَلْقِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ سبق من الله عزوجل الْقَضَاءُ بِهِ قَبْلُ؟ ! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ". وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ الْمِصْرِيِّ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ. قَالَ أَبُو يَعْلَى: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الصَّبَّاحِ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا عمرَان، عَن الردينى، عَن أَبِي مِجْلَزٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ - قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ أكبر ظَنِّي أَنَّهُ رَفَعَهُ - قَالَ: " الْتَقَى آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى لآدَم: أَنْت أَبُو الْبشر، أسكنك الله جنته، وأسجدلك مَلَائِكَتَهُ. قَالَ آدَمُ: يَا مُوسَى أَمَا تَجِدُهُ عَلَيَّ مَكْتُوبًا؟ قَالَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ". وَهَذَا الْإِسْنَادُ أَيْضًا لَا بَأْسَ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ رِوَايَةُ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَرِوَايَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لَهُ عَنْ عَفَّانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ عَنْ رَجُلٍ. قَالَ حَمَّاد: أَظُنهُ جُنْدُب بن عبد الله البجلى، عَن النى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَقِيَ آدَمُ مُوسَى " فَذكر مَعْنَاهُ. * * * وَقد اخْتلف مَسَالِكُ النَّاسِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَرَدَّهُ قَوْمٌ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ لِمَا تَضَمَّنَ مِنْ إِثْبَاتِ الْقَدَرِ السَّابِقِ. وَاحْتَجَّ بِهِ قَوْمٌ مِنَ الْجَبْرِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لَهُمْ بَادِيَ الرَّأْيِ حَيْثُ قَالَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، لَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهِ بِتَقْدِيمِ كِتَابِهِ، وَسَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنْ هَذَا.
(1/36)
وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا حَجَّهُ لِأَنَّهُ لَامَهُ عَلَى ذَنْبٍ قَدْ تَابَ مِنْهُ، وَالتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كمن لاذنب لَهُ. وَقِيلَ إِنَّمَا حَجَّهُ لِأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْهُ وَأَقْدَمُ. وَقِيلَ لِأَنَّهُ أَبُوهُ. وَقِيلَ لِأَنَّهُمَا فِي شَرِيعَتَيْنِ مُتَغَايِرَتَيْنِ. وَقِيلَ لِأَنَّهُمَا فِي دَارِ الْبَرْزَخِ وَقد انْقَطع التَّكْلِيف فِيمَا يَزْعمُونَ. وَالتَّحْقِيقُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رُوِيَ بِأَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ بَعْضُهَا مَرْوِيٌّ بِالْمَعْنَى، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَمَدَارُ مُعْظَمِهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى أَنَّهُ لَامَهُ عَلَى إِخْرَاجِهِ نَفْسَهُ وَذُرِّيَّتَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَنَا لَمْ أُخْرِجْكُمْ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَكُمُ الَّذِي رَتَّبَ الْإِخْرَاجَ عَلَى أَكْلِي مِنَ الشَّجَرَةِ، وَالَّذِي رَتَّبَ ذَلِكَ وَقَدَّرَهُ وَكَتَبَهُ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ، هُوَ الله عزوجل، فَأَنْتَ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ لَيْسَ لَهُ نِسْبَةٌ إِلَى أَكثر من أَنِّي نُهِيتُ عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ مِنْهَا، وَكَوْنُ الْإِخْرَاجِ مُتَرَتِّبًا عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِي، فَأَنَا لَمْ أُخْرِجْكُمْ وَلَا نَفْسِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ وَصُنْعِهِ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ. فَلِهَذَا حَجَّ آدَمُ مُوسَى. وَمَنْ كَذَّبَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَمُعَانِدٌ ; لِأَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَنَاهِيكَ بِهِ عَدَالَةً وَحِفْظًا وَإِتْقَانًا. ثُمَّ هُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَمَنْ تَأَوَّلَهُ بِتِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، فَهُوَ بَعِيدٌ مِنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَمَا فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَقْوَى مَسْلَكًا مِنَ الْجَبْرِيَّةِ. وَفِيمَا قَالُوهُ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَلُومُ عَلَى أَمْرٍ قد تَابَ عَنهُ فَاعله.
(1/37)
الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ قَتَلَ نَفْسًا لَمْ يُؤْمَرْ بِقَتْلِهَا، وَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: " رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ (1) ". الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْجَوَابُ عَنِ اللَّوْمِ عَلَى الذَّنْبِ بِالْقَدَرِ الْمُتَقَدِّمِ كِتَابَتُهُ عَلَى الْعَبْدِ، لَا نفتح هَذَا لِكُلِّ مَنْ لِيمَ عَلَى أَمْرٍ قَدْ فَعَلَهُ، فَيَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ السَّابِقِ فَيَنْسَدُّ بَابُ الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ. وَلَوْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لَاحْتَجَّ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي ارْتَكَبَهُ فِي الْأُمُورِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، وَهَذَا يُفْضِي إِلَى لَوَازِمَ فَظِيعَةٍ. فَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ، بِأَنَّ جَوَابَ آدَمَ إِنَّمَا كَانَ احْتِجَاجًا بِالْقَدَرِ عَلَى الْمُصِيبَةِ لَا الْمَعْصِيَةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. __________ (1) سُورَة الْقَصَص 16. (*)
(1/38)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَر، حَدثنَا عَوْف، حَدَّثَنى قسَامَة ابْن زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ مِنْهُمُ الْأَبْيَضُ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ وَبَيْنَ ذَلِكَ. وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ هَوْذَةَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ، سَمِعْتُ الْأَشْعَرِيَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ مِنْهُمُ الْأَبْيَضُ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَبَيْنَ ذَلِكَ ". وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحه، من حَدِيث عَوْف ابْن أَبِي جَمِيلَةَ الْأَعْرَابِيِّ، عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ المازتى الْبَصْرِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ ذَكَرَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَأَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْن مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: فَبَعَثَ اللَّهُ عزوجل جِبْرِيلَ فِي الْأَرْضِ لِيَأْتِيَهُ بِطِينٍ مِنْهَا، فَقَالَتِ الْأَرْضُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ أَنْ تَنْقُصَ مِنِّي أَوْ تَشِينَنِي، فَرَجَعَ وَلَمْ يَأْخُذْ، وَقَالَ: رَبِّ إِنَّهَا عَاذَتْ بِكَ فَأَعَذْتُهَا.
(1/39)
فَبَعَثَ مِيكَائِيلَ فَعَاذَتْ مِنْهُ فَأَعَاذَهَا، فَرَجَعَ فَقَالَ كَمَا قَالَ جِبْرِيلُ. فَبَعَثَ مَلَكَ الْمَوْتِ فَعَاذَتْ مِنْهُ، فَقَالَ: وَأَنَا أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَرْجِعَ وَلَمْ أُنَفِّذْ أَمْرَهُ، فَأَخَذَ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ وخلط (1) ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَأَخَذَ مِنْ تُرْبَةٍ بَيْضَاءَ وَحَمْرَاءَ وَسَوْدَاءَ، فَلِذَلِكَ خَرَجَ بَنُو آدَمَ مُخْتَلِفِينَ. فَصَعِدَ بِهِ فَبَلَّ التُّرَابَ حَتَّى عَادَ طِينًا لَازِبًا. وَاللَّازِبُ: هُوَ الَّذِي يَلْزَقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: " إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ من روحي فقعوا لَهُ ساجدين ". فخلقه الله بِيَدِهِ لِئَلَّا يتكبر إِبْلِيس عَنهُ، فخلقه بشرا، فَكَانَ جسدا من طين أَرْبَعِينَ سنة من مِقْدَار يَوْم الْجُمُعَة، فمرت بِهِ الْمَلَائِكَة ففزعوا مِنْهُ لما رَأَوْهُ، وَكَانَ أَشَّدهم مِنْهُ فَزعًا إِبْلِيس، فَكَانَ يمر بِهِ فيضربه، فيصوت الْجَسَد كَمَا يصوت الفخار يكون لَهُ صلصلة، فَذَلِك حِين يَقُول: " من صلصال كالفخار " وَيَقُول: لامر ماخلقت، وَدَخَلَ مِنْ فِيهِ وَخَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ، وَقَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: لَا تَرْهَبُوا مِنْ هَذَا فَإِنَّ رَبَّكُمْ صَمَدٌ وَهَذَا أَجْوَفُ، لَئِنْ سُلِّطْتُ عَلَيْهِ لَأُهْلِكَنَّهُ. فَلَمَّا بَلَغَ الْحِينَ الَّذِي يُرِيدُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ، قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: إِذَا نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَاسْجُدُوا لَهُ، فَلَمَّا نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ فَدَخَلَ الرُّوحُ فِي رَأْسِهِ عَطَسَ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ قُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ لَهُ اللَّهُ: رَحِمَكَ رَبُّكَ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الرُّوحُ فِي عَيْنَيْهِ نَظَرَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الرُّوحُ فِي جوه اشْتَهَى الطَّعَامَ، فَوَثَبَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ إِلَى رَجْلَيْهِ عَجْلَانَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: " خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عجل " فَسجدَ الْمَلَائِكَة __________ (1) ط: وخلطه. (*)
(1/40)
كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ؟ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ الساجدين " وَذَكَرَ تَمَامَ الْقِصَّةِ. وَلِبَعْضِ هَذَا السِّيَاقِ شَاهِدٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُ مُتَلَقَّى مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ. فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ تَرَكَهُ مَا شَاءَ أَنْ يَدَعَهُ، فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يُطِيفُ بِهِ، فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ خَلْقٌ لَا يَتَمَالَكُ ". وَقَالَ ابْن حبَان فِي صَحِيحه: حَدثنَا الحسبن بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمَّا نُفِخَ فِي آدَمَ فَبَلَغَ الرُّوحُ رَأْسَهُ عَطَسَ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَرْحَمُكَ اللَّهُ ". وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكَنِ، حَدَّثَنَا حَبَّانُ ابْن هِلَالٍ، حَدَّثَنَا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ حَفْصٍ - هُوَ ابْنُ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ قَالَ: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَطَسَ، فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ رَحِمَكَ رَبُّكَ يَا آدَمُ ". وَهَذَا الْإِسْنَادُ لَا بَأْسَ بِهِ وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَمَّا أُمِرَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالسُّجُودِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَجَدَ مِنْهُمْ إسْرَافيل، فآتاه اللَّهُ أَنْ كَتَبَ الْقُرْآنَ فِي جَبْهَتِهِ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ،
(1/41)
عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ جَعَلَهُ طِينًا ثُمَّ تَرَكَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ حَمَأً مَسْنُونًا خَلَقَهُ اللَّهُ وَصَوَّرَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ صَلْصَالًا كَالْفَخَّارِ قَالَ: فَكَانَ إِبْلِيسُ يَمُرُّ بِهِ فَيَقُولُ: لَقَدْ خُلِقْتَ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ. ثُمَّ نَفَخَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ فَكَانَ أَوَّلَ مَا جَرَى فِيهِ الرُّوحُ بَصَرُهُ وَخَيَاشِيمُهُ، فَعَطَسَ فَلَقَّاهُ اللَّهُ رَحْمَة بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ: يَرْحَمُكَ رَبُّكَ، ثُمَّ قَالَ اللَّهُ: يَا آدَمُ اذْهَبْ إِلَى هَؤُلَاءِ النَّفَرِ فَقُلْ لَهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَقُولُونَ؟ فَجَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَقَالَ: يَا آدَمُ: هَذَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ. قَالَ يَا رَبِّ: وَمَا ذُرِّيَّتِي؟ قَالَ: اخْتَرْ يَدَيَّ يَا آدَمُ، قَالَ: اخْتَارُ يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يدى ربى يَمِين، فَبسط كَفَّهُ فَإِذَا مَنْ هُوَ كَائِنٌ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ، فَإِذَا رِجَالٌ مِنْهُمْ أَفْوَاهُهُمُ النُّور، وَإِذا رَجُلٌ يُعْجِبُ آدَمَ نُورُهُ، قَالَ يَا رَبِّ مِنْ هَذَا؟ قَالَ ابْنُكَ دَاوُدُ، قَالَ يَا رَبِّ: فَكَمْ جَعَلْتَ لَهُ مِنَ الْعُمُرِ؟ قَالَ جَعَلْتُ لَهُ سِتِّينَ، قَالَ: يَا رَبِّ فَأَتِمَّ لَهُ من عمرى حَتَّى يكون عمره (1) مائَة سنة، فَفعل سَنَةٍ، فَفَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَأُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ. فَلَمَّا نَفِدَ عُمُرُ آدَمَ بَعَثَ اللَّهُ مَلَكَ الْمَوْت، فَقَالَ آدم: أَو لم يَبْقَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ لَهُ الْملك: أَو لم تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ؟ فَجَحَدَ ذَلِكَ، فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ! ". وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِنْ حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عِيسَى، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذُبَاب، عَن سعيد __________ (1) ط: حَتَّى يكون لَهُ من الْعُمر (*)
(1/42)
الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ [حَدِيثٌ (1) ] حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سعيد المقبرى (2) ، عَن عبد الله بن سَلام [قَوْله (3) ] . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا (4) مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ، فَرَأى رجلا فأعجبه وبيص مابين عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا؟ قَالَ هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الْأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ، قَالَ: رَبِّ وَكَمْ جَعَلْتَ عُمُرَهُ؟ قَالَ سِتِّينَ سَنَةً، قَالَ: أَيْ رَبِّ زِدْهُ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً. فَلَمَّا انْقَضَى عمر آدم جَاءَهُ ملك الْمَوْت، قَالَ: أَو لم يبْق من عمرى أَرْبَعُونَ سنة؟ قَالَ: أَو لم تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ؟ قَالَ: فَجَحَدَ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَخَطِئَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ ". ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ الْفضل ابْن دُكَيْنٍ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يخرجَاهُ. __________ (1) لَيست فِي ا. (2) عَن سعيد المقبرى عَن أَبِيه (3) الوبيص: البريق (4) من ا. (*)
(1/43)
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا فَذَكَرَهُ وَفِيهِ: " ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ: يَا آدَمُ هَؤُلَاءِ ذَرِّيَّتُكَ، وَإِذَا فِيهِمُ الْأَجْذَمُ وَالْأَبْرَصُ وَالْأَعْمَى وَأَنْوَاعُ الْأَسْقَامِ، فَقَالَ آدَمُ: يَا رَبِّ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا بِذَرِّيَّتِي؟ قَالَ: كَيْ تَشْكُرَ نِعْمَتِي ". ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ دَاوُدَ. وَسَتَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَقَالَ الامام أَحْمد فِي مُسْنده: حَدِيثا الْهَيْثَمُ [بْنُ خَارِجَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ (1) ] عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ حِينَ خَلَقَهُ فَضَرَبَ كَتِفَهُ الْيُمْنَى، فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً بَيْضَاءَ كَأَنَّهُمُ الدُّرُّ، وَضَرَبَ كَتِفَهُ الْيُسْرَى فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً سَوْدَاءَ كَأَنَّهُمْ الحمم (2) ، فَقَالَ الذى فِي يَمِينِهِ: إِلَى الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي، وَقَالَ لِلَّذِي فِي كَتِفِهِ (3) الْيُسْرَى: إِلَى النَّارِ وَلَا أُبَالِي ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ سِنَانٍ، عَنْ حَوْشَبٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ حِينَ خَلَقَهُ فَأَخْرَجَ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ صَفْحَتِهِ الْيُمْنَى، وَأَخْرَجَ أَهْلَ النَّارِ مِنْ صَفْحَتِهِ (4) الْيُسْرَى، فَأُلْقُوا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ; مِنْهُمُ الْأَعْمَى وَالْأَصَمُّ وَالْمُبْتَلَى. فَقَالَ آدَمُ: يَا رَبِّ أَلَا سَوَّيْتَ بَيْنَ وَلَدِي؟ قَالَ: يَا آدَمُ إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أُشْكَرَ. وَهَكَذَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحسن بِنَحْوِهِ. __________ (1) لَيست فِي ا (2) الحمم: الفحم (3) ا: كَفه (4) ا: حضرنه (*)
(1/44)
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحه فَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق ابْن خُزَيْمَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بن عِيسَى، حَدثنَا الْحَارِث ابْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ عَطَسَ، فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ. فَحَمِدَ اللَّهَ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ، يَرْحَمُكَ رَبُّكَ يَا آدَمُ، اذْهَبْ إِلَى أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى مَلَأٍ مِنْهُمْ جُلُوسٍ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ بَنِيكَ بَيْنَهُمْ. وَقَالَ الله ويداه مقبوضتان: اختر أَيّمَا شِئْتَ، فَقَالَ اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي، وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ، ثُمَّ بَسَطَهُمَا فَإِذَا فِيهِمَا آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَا هَؤُلَاءِ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ ذَرِّيَّتُكَ، وَإِذَا كَلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مَكْتُوبٌ عُمُرُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَإِذَا فِيهِمْ رَجُلٌ أَضْوَؤُهُمْ - أَوْ مِنْ أَضْوَئِهِمْ - لَمْ يُكْتَبْ لَهُ إِلَّا أَرْبَعُونَ سنة، قَالَ: يَا رَبِّ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ. وَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ عُمُرَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. قَالَ: أَيْ رَبِّ زِدْ فِي عُمُرِهِ، فَقَالَ: ذَاكَ الَّذِي كُتِبَ لَهُ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُ لَهُ مِنْ عُمُرِي سِتِّينَ سَنَةً، قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ. اسْكُنِ الْجَنَّةَ. فَسَكَنَ الْجَنَّةَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ هَبَطَ مِنْهَا، وَكَانَ آدَمُ يَعُدُّ لِنَفْسِهِ. فَأَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُ آدَمُ: قَدْ عَجِلْتَ، قَدْ كُتِبَ لِي أَلْفُ سَنَةٍ. قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّكَ جَعَلْتَ لِابْنِكَ دَاوُدَ مِنْهَا سِتِّينَ سَنَةً، فَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ فَنَسِيَتْ ذَرِّيَّتُهُ، فَيَوْمَئِذٍ أُمِرَ بِالْكِتَابِ وَالشُّهُودِ " هَذَا لَفظه. وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ،
(1/45)
عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ قَالَ اذْهَبْ فَسلم على أُولَئِكَ [النَّفر (1) ] من الْمَلَائِكَة، فاستمع مَا يجيبونك، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذَرِّيَّتِكَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ ". وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ (2) ، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْفَرٍ، وَمُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كَانَ طُولُ آدَمَ سِتِّينَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِ أَذْرُعٍ عَرْضًا ". انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الدَّيْنِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ آدَمُ، إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ آدَمُ، إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ آدَمُ. إِنِ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مسح ظَهره، فَأخْرج مِنْهُ مَا هُوَ ذارى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَجَعَلَ يَعْرِضُ ذُرِّيَّتَهُ عَلَيْهِ، فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا يَزْهَرُ، قَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ، قَالَ أَيْ رَبِّ كَمْ عُمُرُهُ. قَالَ: سِتُّونَ عَامًا. قَالَ: أَيْ رَبِّ زِدْ فِي عُمُرِهِ. قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ أَزِيدَهُ مِنْ عُمُرِكَ، وَكَانَ __________ (1) سَقَطت من الاصول وأثبتها من صَحِيح البُخَارِيّ (2) صَحِيح البُخَارِيّ 3 / 158 ط الاميرية (*)
(1/46)
عُمُرُ آدَمَ أَلْفَ عَامٍ فَزَادَهُ أَرْبَعِينَ عَامًا. فَكَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَة. فَلَمَّا احْتضرَ آدم أَتَتْهُ الْمَلَائِكَة لقبضه، قَالَ: إِنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ عَامًا، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ قَدْ وَهَبْتَهَا لِابْنِكَ دَاوُدَ قَالَ: مَا فَعَلْتُ، وَأَبْرَزَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَشَهِدَتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ آدَمُ. قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. إِنِ الله عزوجل لَمَّا خَلَقَهُ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّتَهُ فَعَرَضَهُمْ (1) عَلَيْهِ، فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا يَزْهَرُ، فَقَالَ أَيْ رَبِّ زِدْ فِي عُمُرِهِ. قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَزِيدَهُ أَنْتَ مِنْ عُمُرِكَ. فَزَادَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمُرِهِ. فَكَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ كِتَابًا وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ. فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقْبِضَ رُوحَهُ قَالَ: إِنَّهُ بَقِيَ مِنْ أَجَلِي أَرْبَعُونَ سَنَةً، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ قَدْ جَعَلْتَهَا لِابْنِكَ دَاوُدَ. قَالَ: فَجَحَدَ، قَالَ: فَأَخْرَجَ اللَّهُ الْكِتَابَ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ، فَأَتَمَّهَا لِدَاوُدَ مِائَةَ سَنَةٍ، وَأَتَمَّ لِآدَمَ عُمُرَهُ أَلْفَ سَنَةً. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، فِي حَدِيثِهِ نَكَارَةٌ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ، عَنْ حَمَّادِ ابْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَن ابْن عَبَّاس وَغير زواحد، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الدَّيْنِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ آدَمُ ثَلَاثًا " وَذَكَرَهُ. __________ (1) ا: فاعرضهم. وَهُوَ تَحْرِيف (*)
(1/47)
وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِي مُوَطَئِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، أَنَّ عَبْدَ الحميد ابْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، أَخْبَرَهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ عُمَرَ ابْن الْخطاب سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة: " وَإِذا أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا بلَى (1) " الْآيَة، فَقَالَ عمر ابْن الْخَطَّابِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ عَنْهَا فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ. ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ، وبعمل أهل الْمنَار يعْملُونَ ". فَقَالَ رجل: يارسول الله فقيم الْعَمَلُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذْ خَلَقَ اللَّهُ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَبْدَ لِلنَّارِ، اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ بِهِ النَّارَ ". وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْن أَبى حَاتِم، وَأَبُو حَاتِم ابْن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ لَمْ يَسْمَعْ عُمَرَ. وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو زُرْعَةَ، زَادَ أَبُو حَاتِمٍ: وَبَيْنَهُمَا نُعَيْمُ بْنُ رَبِيعَةَ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُصَفَّى، عَنْ بَقِيَّة، عَن عمر بن جثعم، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ عَبْدِ الحميد بن عبد الرَّحْمَن بن زيد بن الْخطاب، __________ (3) سُورَة الاعراف 172 (*)
(1/48)
عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ الْحَافِظُ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَقَدْ تَابَعَ عُمَرَ بْنَ جثعم أَبُو فَرْوَة بن يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ الرَّهَاوِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ قَالَ: وَقَوْلُهُمَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ تَعَالَى ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ كَالذَّرِّ، وَقِسْمَتِهِمْ قِسْمَيْنِ: أَهْلِ الْيَمِينِ وَأَهْلِ الشَّمَالِ، وَقَالَ: هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي، وَهَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَلَا أُبَالِي. فَأَمَّا الْإِشْهَادُ عَلَيْهِمْ وَاسْتِنْطَاقُهُمْ بِالْإِقْرَارِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، فَلَمْ يَجِئْ فِي الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ. وَتَفْسِيرُ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَحَمْلُهَا على هَذَا فِيهِ نظر كَمَا بيتناه هُنَاكَ وَذَكَرْنَا الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ مُسْتَقْصَاةً بِأَسَانِيدِهَا وَأَلْفَاظِ مُتُونِهَا، فَمَنْ أَرَادَ تَحْرِيرَهُ فَلْيُرَاجِعْهُ ثَمَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. * * * فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ - يَعْنِي ابْنَ حَازِمٍ - عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنُعْمَانَ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَثَرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قُبُلًا قَالَ: " أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا بَلَى، شَهِدْنَا أَنَّ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافلين. أَو تَقولُوا إِنَّمَا أشرك آبَاؤُنَا من قبل وَكُنَّا ذُرِّيَّة من بعدهمْ، أفتهلكنا بِمَا فعل المبطلون " (1) . __________ (1) من سُورَة الاعراف 172، 173 " م 4 - قصَص الانبياء 1 " (*)
(1/49)
فَهُوَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ قَوِيٍّ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ بِهِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، إِلَّا أَنَّهُ اخْتَلَفَ فِيهِ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ فروى عَنهُ مرفزوعا وَمَوْقُوفًا، وَكَذَا رَوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفا. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ وَالْوَالِبِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ. وَهَذَا أَكْثَرُ وَأَثْبَتُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَكَذَا رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا، وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ. * * * وَاسْتَأْنَسَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ - وَهُوَ أَخْذُ الْمِيثَاقِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَهُمُ الْجُمْهُورُ - بِمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنِي شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شئ أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ؟ قَالَ: فَيَقُولُ نَعَمْ. فَيَقُولُ قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ مَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ ذَلِكَ، قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ فِي ظَهْرِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا، فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي ". أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ: عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ.." الْآيَةَ وَالَّتِي بَعْدَهَا. قَالَ: فَجَمَعَهُمْ لَهُ يَوْمَئِذٍ جَمِيعًا مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَخَلَقَهُمْ ثُمَّ صَوَّرَهُمْ ثُمَّ اسْتَنْطَقَهُمْ فَتَكَلَّمُوا وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِمْ أَنْفُسَهُمْ: " أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى.." الْآيَةَ.
(1/50)
قَالَ: فإنى أشهد عَلَيْكُم السَّمَوَات السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ، وَأُشْهِدُ عَلَيْكُمْ أَبَاكُمْ آدَمَ، أَنْ لَا تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَمْ نَعْلَمْ بِهَذَا، اعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرِي وَلَا رَبَّ غَيْرِي، وَلَا تُشْرِكُوا بِي شَيْئًا، وَإِنِّي سَأُرْسِلُ إِلَيْكُمْ رُسُلًا يُنْذِرُونَكُمْ عَهْدِي وَمِيثَاقِي، وَأُنْزِلُ عَلَيْكُم كتابي. قالزوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ رَبُّنَا وَإِلَهُنَا، لَا رَبَّ لَنَا غَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ لَنَا غَيْرُكَ. فَأَقَرُّوا لَهُ يَوْمَئِذٍ بِالطَّاعَةِ. وَرَفَعَ أَبَاهُمْ آدَمَ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ، فَرَأَى فِيهِمُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ، وَحَسَنَ الصُّورَةِ وَدُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ لَوْ سَوَّيْتَ بَيْنَ عِبَادِكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أُشْكَرَ. وَرَأَى فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءَ مِثْلَ السُّرُّجِ عَلَيْهِمُ النُّورُ، وَخُصُّوا بِمِيثَاقٍ آخَرَ مِنَ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ، وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى بن مَرْيَم. وأخذنا مِنْهُم ميثاقا غليظا " (1) وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: " فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله " (2) وَفِي ذَلِكَ قَالَ: " هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الاولى " (3) وَفِي ذَلِكَ قَالَ: " وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عهد، وَإِن وجدنَا أَكْثَرهم لفاسقين (4) ". رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، فِي تَفَاسِيرِهِمْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ، وَرَوَى عَنْ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَسَعِيد بن جُبَير __________ (1) سُورَة الاحزاب 8 (2) من سُورَة الرّوم 31 (3) من سُورَة النَّجْم 57 (4) سُورَة (*)
(1/51)
وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ بِسِيَاقَاتٍ تُوَافِقُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ. * * * وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، امْتَثَلُوا كُلُّهُمُ الْأَمْرَ الْإِلَهِيَّ، وَامْتَنَعَ إِبْلِيسُ مِنَ السُّجُودِ لَهُ حَسَدًا وَعَدَاوَةً لَهُ، فَطَرَدَهُ اللَّهُ وَأَبْعَدَهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَنَفَاهُ عَنْهَا، وَأَهْبَطَهُ إِلَى الْأَرْضِ طَرِيدًا مَلْعُونًا شَيْطَانًا رَجِيمًا. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَيَعْلَى وَمُحَمَّدٌ ابْنَا (1) عُبَيْدٍ، قَالُوا حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ، اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ، أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَعَصَيْتُ فَلِيَ النَّارُ ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ وَكِيعٍ وَأَبِي مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ. ثُمَّ لَمَّا أسكن آدم الْجنَّة الَّتِى أسكنها، سَوَاء، أَكَانَت فِي السَّمَاء أم (2) فِي الْأَرْضِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخِلَافِ فِيهِ، أَقَامَ بهَا هُوَ وَزَوجته حوا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، يَأْكُلَانِ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شَاءَا، فَلَمَّا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَا عَنْهَا، سُلِبَا مَا كَانَا فِيهِ مِنَ اللِّبَاسِ وَأُهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِي مَوَاضِعَ هُبُوطِهِ مِنْهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مَقَامِهِ فِي الْجَنَّةِ: فَقِيلَ بَعْضُ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، __________ (1) ا: حَدثنَا عبيد. (2) ا: أَو. (*)
(1/52)
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " وَخُلِقَ آدَمُ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ " وَتَقَدَّمَ أَيْضًا حَدِيثُهُ عَنْهُ، وَفِيهِ - يَعْنِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ - خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَ الْيَوْمَ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ فِيهِ أُخْرِجَ - وَقُلْنَا إِنَّ الْأَيَّامَ السِّتَّةَ كَهَذِهِ الْأَيَّامِ - فَقَدْ لَبِثَ بَعْضَ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَإِنْ كَانَ إِخْرَاجُهُ فِي غَيْرِ الْيَوْمِ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ، أَوْ قُلْنَا بِأَنَّ تِلْكَ الْأَيَّامَ مِقْدَارُهَا سِتَّةُ آلَافِ سَنَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، فَقَدْ لَبِثَ هُنَاكَ مُدَّةً طَوِيلَةً. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ خُلِقَ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَالسَّاعَةُ مِنْهُ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً وَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَمَكَثَ مُصَوَّرًا طِينًا قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَقَامَ فِي الْجَنَّةِ قَبْلَ أَنْ يَهْبِطَ ثَلَاثًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ سَوَّارٍ خَبَرَ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: أَنَّهُ كَانَ لَمَّا أُهْبِطَ رِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ وَرَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ، فَحَطَّهُ اللَّهُ إِلَى سِتِّينَ ذِرَاعًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُتَّفِقِ عَلَى صِحَّتِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ " وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ خُلِقَ كَذَلِكَ لَا أَطْوَلَ مِنْ سِتِّينَ ذِرَاعًا، وَأَنَّ ذُرِّيَّتَهُ لَمْ يَزَالُوا يَتَنَاقَصُ خَلْقُهُمْ حَتَّى الْآنَ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: يَا آدَمُ إِنَّ لِي حرما بحيال
(1/53)
عَرْشِي، فَانْطَلِقْ فَابْنِ لِي فِيهِ بَيْتًا، فَطُفْ بِهِ كَمَا تَطُوفُ مَلَائِكَتِي بِعَرْشِي، وَأَرْسَلَ اللَّهُ لَهُ مَلَكًا فَعَرَّفَهُ مَكَانَهُ وَعَلَّمَهُ الْمَنَاسِكَ، وَذَكَرَ أَنَّ مَوْضِعَ كُلِّ خَطْوَةٍ خَطَاهَا آدَمُ صَارَتْ قربَة بَعْدَ ذَلِكَ. وَعَنْهُ: أَنَّ أَوَّلَ طَعَامٍ أَكَلَهُ آدَمُ فِي الْأَرْضِ، أَنْ جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِسَبْعِ حبات من حِنْطَة، فَقَالَ: ماهذا؟ قَالَ: هَذَا مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيتَ عَنْهَا فَأَكَلْتَ مِنْهَا فَقَالَ: وَمَا أَصْنَعُ بِهَذَا؟ قَالَ: ابْذُرْهُ فِي الْأَرْضِ، فَبَذَرَهُ. وَكَانَ كُلُّ حَبَّةٍ مِنْهَا زِنَتُهَا أَزْيَدُ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ، فَنَبَتَتْ فَحَصَدَهُ، ثُمَّ دَرَسَهُ ثُمَّ ذَرَاهُ، ثُمَّ طَحَنَهُ ثُمَّ عَجَنَهُ ثُمَّ خَبَزَهُ، فَأَكَلَهُ بَعْدَ جَهْدٍ عَظِيمٍ وَتَعَبٍ وَنَكَدٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: " فَلَا يخرجنكما من الْجنَّة فتشقى ". وَكَانَ أَوَّلُ كُسْوَتِهِمَا مِنْ شَعْرِ الضَّأْنِ: جَزَّاهُ ثُمَّ غَزَلَاهُ، فَنَسَجَ آدَمُ لَهُ جُبَّةً، وَلِحَوَّاءَ دِرْعًا وَخِمَارًا. وَاخْتَلَفُوا: هَلْ وُلِدَ لَهُمَا بِالْجَنَّةِ شئ مِنَ الْأَوْلَادِ؟ فَقِيلَ: لَمْ يُولَدْ لَهُمَا إِلَّا فِي الْأَرْضِ، وَقِيلَ بَلْ وُلِدَ لَهُمَا فِيهَا، فَكَانَ قابيل وَأُخْته مِمَّن ولدبها (1) . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ يُولَدُ لَهُ فِي كُلِّ بَطْنٍ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، وَأُمِرَ أَنْ يُزَوِّجَ كُلَّ ابْنِ أُخْتِ أَخِيهِ (2) الَّتِي وُلِدَتْ مَعَهُ، وَالْآخَرُ بِالْأُخْرَى وَهَلُمَّ جَرًّا، وَلَمْ يَكُنْ تحل أُخْت لاخيها الذى ولدت مَعَه. __________ (1) ا: من ولديها (2) المطبوعة: أُخْت أُخْته. وَهُوَ تَحْرِيف. (*)
(1/54)
ذِكْرُ قِصَّةِ ابْنَيْ آدَمَ: قَابِيلَ وَهَابِيلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ، إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ، قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ، قَالَ: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي، مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ، إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ، وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ ليريه كَيفَ يوارى سوأة أَخِيه، قَالَ يَا ويلتى! أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ، فَأُوَارِيَ سوأة أخى، فَأصْبح من النادمين (1) ". وَقد تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي التَّفْسِيرِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَلذكر هُنَا مُلَخَّصَ مَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ. فَذَكَرَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَأَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَنَّ آدَمَ كَانَ يُزَوِّجُ ذَكَرَ كُلِّ بَطْنٍ بِأُنْثَى الآخر (2) وَأَنَّ هَابِيلَ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِ قَابِيلَ، وَكَانَ أكبر من هابيل وَأُخْت هابيل أَحْسَنُ، فَأَرَادَ قَابِيلُ (3) أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهَا عَلَى أَخِيهِ، وَأَمَرَهُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُزَوِّجَهُ إِيَّاهَا فَأَبَى، فَأَمَرَهُمَا أَنْ يُقَرِّبَا قُرْبَانًا، وَذَهَبَ آدم ليحج __________ (1) من سُورَة الْمَائِدَة 31 - 35 (2) المطبوعة: الاخرى (3) المطبوعة: هابيل. وَهُوَ تَحْرِيف (*)
(1/55)
إِلَى مَكَّة، واستحفظ السَّمَوَات عَلَى بَنِيهِ فَأَبَيْنَ، وَالْأَرَضِينَ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ، فَتَقَبَّلَ قابيل بِحِفْظ ذَلِك. فَلَمَّا ذهب قربا قبانهما ; فَقَرَّبَ هَابِيلُ جَذَعَةً سَمِينَةً، وَكَانَ صَاحِبَ غَنَمٍ، وَقرب قابيل حزمة من زرع من درئ زَرْعِهِ، فَنَزَلَتْ نَارٌ فَأَكَلَتْ قُرْبَانَ هَابِيلَ وَتَرَكَتْ قُرْبَانَ قَابِيلَ، فَغَضِبَ وَقَالَ: لِأَقْتُلَنَّكَ حَتَّى لَا تَنْكِحَ أُخْتِي، فَقَالَ: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ لَأَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ، وَلَكِنْ مَنْعَهُ التَّحَرُّجُ أَنْ يَبْسُطَ إِلَيْهِ يَدَهُ! وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الباقر أَن آدم كَانَ مباشرا لتقريبهما الْقُرْبَانَ وَالتَّقَبُّلُ مِنْ هَابِيلَ دُونَ قَابِيلَ، فَقَالَ قَابِيلُ لِآدَمَ: إِنَّمَا تَقُبِّلَ مِنْهُ لِأَنَّكَ دَعَوْتَ لَهُ وَلَمْ تَدْعُ لِي. وَتَوَعَّدَ أَخَاهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ أَبْطَأَ هَابِيلُ فِي الرَّعْيِ، فَبَعَثَ آدَمُ أَخَاهُ قَابِيلَ لِيَنْظُرَ مَا أَبْطَأَ بِهِ (1) ، فَلَمَّا ذَهَبَ إِذَا هُوَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ: تُقُبِّلَ مِنْكَ وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنِّي. فَقَالَ: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. فَغَضِبَ قَابِيلُ عِنْدَهَا وَضَرَبَهُ بِحَدِيدَةٍ كَانَتْ مَعَهُ فَقَتَلَهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا قَتَلَهُ بِصَخْرَةٍ رَمَاهَا عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ نَائِمٌ فَشَدَخَتْهُ. وَقِيلَ: بل خنقه خنقا شَدِيدا وعضه كَمَا تَفْعَلُ السِّبَاعُ فَمَاتَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ لَهُ لَمَّا تَوَعَّدَهُ بِالْقَتْلِ: " لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يدك لتقتلني، مَا أَنا بباسط __________ (1) ا: مَا بطأ (*)
(1/56)
يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ; إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالمين " دَلَّ عَلَى خُلُقٍ حَسَنٍ، وَخَوْفٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَخَشْيَةٍ مِنْهُ (1) ، وَتَوَرُّعٍ أَنْ يُقَابِلَ أَخَاهُ بِالسُّوءِ الَّذِي أَرَادَ مِنْهُ أَخُوهُ مِثْلُهُ. وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ ". وَقَوْلُهُ: " إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمين ": أَيْ إِنِّي أُرِيدُ تَرْكَ مُقَاتَلَتِكَ وَإِنْ كُنْتُ أَشَدَّ مِنْكَ وَأَقْوَى، إِذْ قَدْ عَزَمْتَ عَلَى مَا عَزَمْتَ عَلَيْهِ، أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ، أَي تتحمل إِثْم قَتْلَى (2) مَعَ مَالك مِنَ الْآثَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَبْلَ ذَلِكَ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ آثَامَ الْمَقْتُولِ تَتَحَوَّلُ بِمُجَرَّدِ قَتْلِهِ إِلَى الْقَاتِلِ كَمَا قَدْ تَوَهَّمَهُ بَعْضُ النَّاسِ (3) ; فَإِنَّ ابْنَ جَرِيرٍ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يُورِدُهُ بَعْضُ مَنْ لَا يَعْلَمُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَا تَرَكَ الْقَاتِلُ عَلَى الْمَقْتُولِ مِنْ ذَنْبٍ " فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَلَا يُعْرَفُ فِي شئ من كتب الحَدِيث بِسَنَد صَحِيح ولاحسن وَلَا ضَعِيفٍ أَيْضًا. وَلَكِنْ قَدْ يَتَّفِقُ فِي بعض الاشخاص يَوْم الْقِيَامَة، أَن يُطَالب الْمَقْتُول الْقَاتِل فَتكون حَسَنَات الْقَاتِل لاتفى بِهَذِهِ الْمظْلمَة فتحول من سيئات الْمَقْتُول __________ (1) ا: وخشية الله (2) ا: إِثْم مقاتلتي (3) ط: بعض من قَالَ (*)
(1/57)
إِلَى الْقَاتِلِ، كَمَا ثَبَتَ بِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي سَائِرِ الْمَظَالِمِ، وَالْقَتْلُ مَنْ أَعْظَمِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ حَرَّرْنَا هَذَا كُلَّهُ فِي التَّفْسِيرِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍّ، أَنَّهُ قَالَ عِنْد فتْنَة عصثمان بْنِ عَفَّانَ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ ; الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي ". قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ بَيْتِي فَبَسَطَ يَدَهُ إِلَيَّ لِيَقْتُلَنِي. قَالَ " كُنْ كَابْنِ آدَمَ ". وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ مَرْفُوعًا. وَقَالَ: كُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ. وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ إِلَّا النَّسَائِيَّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ نَحْوَ هَذَا. وَأَمَّا الْآخَرُ فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمد: حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة ووكيع، قَالَا: قَالَ حَدِيثا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوق، عَن ابْن مَسْعُود، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ; لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ ". وَرَوَاهُ الْجَمَاعَةُ سِوَى أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ بِهِ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا مِثْلَ هَذَا سَوَاءً. وَبِجَبَلِ قَاسِيُونَ شَمَالِيَّ دِمَشْقَ مَغَارَةٌ يُقَال لَهَا مغازة الدَّمِ، مَشْهُورَةٌ بِأَنَّهَا الْمَكَانُ الَّذِي قَتَلَ قَابِيلُ أَخَاهُ هَابِيلَ عِنْدَهَا، وَذَلِكَ مِمَّا تَلَقَّوْهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ.
(1/58)
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ كَثِيرٍ - وَقَالَ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ - أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمْرَ وَهَابِيلَ، وَأَنَّهُ اسْتَحْلَفَ هَابِيلَ أَنَّ هَذَا دَمُهُ فَحَلَفَ لَهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْمَكَانَ يُسْتَجَابُ عِنْدَهُ الدُّعَاءُ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَصَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: إِنَّهُ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمْرَ يَزُورُونَ هَذَا الْمَكَانَ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ. وَهَذَا مَنَامٌ لَوْ صَحَّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ كَثِيرٍ هَذَا، لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيه، قَالَ: يَا ويلتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ، فَأُوَارِيَ سوأة أخى؟ فاصبح من النادمين " ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَهُ حَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ سَنَةً، وَقَالَ آخَرُونَ حَمَلَهُ مِائَةَ سَنَةٍ! وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ غُرَابَيْنِ. قَالَ السُّدِّيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ: أَخَوَيْنِ، فَتَقَاتَلَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَلَمَّا قَتَلَهُ عَمَدَ إِلَى الارض يحْفر لَهُ فِيهَا ثُمَّ أَلْقَاهُ وَدَفَنَهُ وَوَارَاهُ، فَلَمَّا رَآهُ ينصع ذَلِك قَالَ: يَا ويلتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سوأة أخى؟ فَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْغُرَابُ فَوَارَاهُ وَدَفَنَهُ. وَذَكَرَ أَهْلُ التَّوَارِيخِ وَالسِّيَرِ أَنَّ آدَمَ حَزِنَ عَلَى ابْنِهِ هَابِيلَ حُزْنًا شَدِيدًا، وَأَنَّهُ قَالَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا، وَهُوَ قَوْلُهُ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ: تَغَيَّرَتِ اَلْبِلَادُ وَمَنْ عَلَيْهَا * فَوَجْهُ اَلْأَرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيحُ تَغَيَّرَ كل ذى لون وَطعم * وَقَلَّ بَشَاشَةً اَلْوَجْهُ اَلْمَلِيحُ
(1/59)
فَأُجِيب آدم: أَبَا قابيل (1) قَدْ قُتِلَا جَمِيعًا * وَصَارَ اَلْحَيُّ كَالْمَيْتِ اَلذَّبِيحِ وَجَاءَ بَشَرَّةٍ قَدْ كَانَ مِنْهَا * عَلَى خَوْفٍ فَجَاءَ بِهَا يَصِيحُ وَهَذَا الشِّعْرُ فِيهِ نَظَرٌ. وَقَدْ يَكُونُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ كَلَامًا يَتَحَزَّنُ بِهِ بِلُغَتِهِ، فَأَلَّفَهُ بَعْضُهُمْ إِلَى هَذَا، وَفِيهِ أَقْوَالٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرَ مُجَاهِدٌ أَنَّ قَابِيلَ عُوجِلَ بِالْعُقُوبَةِ يَوْمَ قُتِلَ أَخَاهُ ; فَعُلِّقَتْ سَاقُهُ إِلَى فَخِذِهِ، وَجُعِلَ وَجْهُهُ إِلَى الشَّمْسِ كَيْفَمَا دَارَتْ، تَنْكِيلًا بِهِ وَتَعْجِيلًا لِذَنْبِهِ وَبَغْيِهِ وَحَسَدِهِ لِأَخِيهِ لِأَبَوَيْهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لِصَاحِبِهِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ ". * * * وَالَّذِي رَأَيْتُهُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ التَّوْرَاةُ: أَن الله عزوجل أَجَّلَهُ وَأَنْظَرَهُ، وَأَنَّهُ سَكَنَ فِي أَرْضِ " نُودٍ " فِي شَرْقي عدن وهم يسمونه قتنين. وَأَنه ولد لَهُ خنوخ، ولخنوخ عِنْد ر، ولعندر محوايل، ولمحوايل مَتُّوشِيلُ، وَلِمَتُّوشِيلَ لَامَكُ. وَتَزَوَّجَ هَذَا امْرَأَتَيْنِ: عَدَّا وَصَلَا. فَوَلَدَتْ " عَدَّا " وَلَدًا اسْمُهُ أَبُلُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَكَنَ الْقِبَابَ وَاقْتَنَى الْمَالَ. وَوَلَدَتْ أَيْضا نوبل. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَخَذَ فِي ضَرْبِ الْوَنَجِ والصنح (2) . وَولدت " صلا " __________ (1) ط: هابيل (2) الونج محركة ضرب من الاوتار أَو الْعود أَو المعزف. والصنج: شئ يتَّخذ من صفر يضْرب أَحدهمَا على الآخر، وَآلَة بأوتار يضْرب بهَا. (*)
(1/60)
وَلَدًا اسْمُهُ تُوبَلْقِينُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَنَعَ النّحاس وَالْحَدِيد، وبيتا اسْمُهَا " نُعْمَى ". وَفِيهَا أَيْضًا أَنَّ آدَمَ طَافَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَدَعَتِ اسْمَهُ " شِيثَ " وَقَالَتْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدْ وُهِبَ لِي خَلَفًا مِنْ هَابِيلَ الَّذِي قَتَلَهُ قَابِيلُ (1) . وَوُلِدَ لِشِيثَ أَنُوشُ. قَالُوا: وَكَانَ عُمُرُ آدَمَ يَوْمَ ولد لَهُ شِيث مأته وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَ عُمُرُ شِيثَ يَوْمَ وُلِدَ لَهُ أَنُوشُ مِائَةً وَخَمْسًا وَسِتِّينَ (2) ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ وَسَبْعِ سِنِينَ. وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ غَيْرُ أَنُوشَ. فَوُلِدَ لِأَنُوشَ " قَيْنَانُ " وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ تِسْعُونَ سَنَةً، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ سنة وَخمْس عشر سنة، وَولد لَهُ بنُون وَبَنَات. فَلَمَّا كَانَ عمر قينان سبعين سنة ولد لَهُ مهلاييل، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَولد لَهُ بنُون وَبَنَات. فَلَمَّا كَانَ لمهلاييل مِنَ الْعُمُرِ خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً وُلِدَ لَهُ " يَرْدُ " وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ. فَلَمَّا كَانَ لِيَرْدَ مِائَةُ سَنَةٍ وَاثْنَتَانِ وَسِتُّونَ سَنَةً وُلِدَ لَهُ " خَنُوخُ " وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ. فَلَمَّا كَانَ لِخَنُوخَ خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً وُلِدَ لَهُ مَتُّوشَلَخُ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ، وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ. فَلَمَّا كَانَ لِمَتُّوشَلَخَ مِائَةٌ وَسَبْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً وُلِدَ لَهُ " لَامَكُ " وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ سَبْعَمِائَةٍ وَاثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ. __________ (1) ا: قاين (2) ا: مائَة وَخمْس سِنِين (*)
(1/61)
فَلَمَّا كَانَ لِلَامَكَ مِنَ الْعُمُرِ مِائَةٌ وَاثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ سَنَةً وُلِدَ لَهُ " نُوحٌ " وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ خَمْسَمِائَةٍ وَخَمْسًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ. فَلَمَّا كَانَ لِنُوحَ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ وُلِدَ لَهُ بِنُونَ: سَامٌ وَحَامٌ وَيَافِثُ. هَذَا مَضْمُونُ مَا فِي كِتَابِهِمْ صَرِيحًا. وَفِي كَوْنِ هَذِهِ التَّوَارِيخِ مَحْفُوظَةً فِيمَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ نَظَرٌ، كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ طَاعِنِينَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُقْحَمَةٌ فِيهَا، ذَكَرَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى سَبِيلِ الزِّيَادَةِ وَالتَّفْسِيرِ. وَفِيهَا غَلَطٌ كَثِيرٌ كَمَا سَنَذْكُرُهُ (1) فِي مَوَاضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ عَنْ بَعضهم: أَن حَوَّاء ولدت لآدَم أَرْبَعِينَ ولد فِي عشْرين بَطنا. قالخه ابْن إِسْحَاق سماهم. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقِيلَ مِائَةً وَعِشْرِينَ بَطْنًا فِي كُلِّ وَاحِدٍ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، أَوَّلُهُمْ قَابِيلُ وَأُخْته قليما، وَآخرهمْ عبد المغيث وَأُخْته أم الْمُغِيثِ. ثُمَّ انْتَشَرَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَثُرُوا، وَامْتَدُّوا فِي الْأَرْضِ وَنَمَوْا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلقكُم مِمَّن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، وَبَثَّ مِنْهُمَا رجَالًا كثيرا وَنسَاء ... " (2) الْآيَةَ. وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ التَّارِيخِ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَمُتْ حَتَّى رَأَى مِنْ ذُريَّته من أَوْلَاده وَأَوْلَاد أَوْلَاده أَرْبَعمِائَة ألف (3) نسمَة. وَالله أعلم. __________ (1) ا: مِمَّا سننبه (2) النِّسَاء 1 (3) ا: أَرْبَعمِائَة سنة (*)
(1/62)
وَقَالَ تَعَالَى: " هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يشركُونَ " (1) الْآيَاتِ. فَهَذَا تَنْبِيهٌ أَوَّلًا بِذِكْرِ آدَمَ، ثُمَّ اسْتَطْرَدَ إِلَى الْجِنْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة فِي قَرَار مكين (2) " وَقَالَ تَعَالَى: " وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رجوما للشياطين (2) " وَمَعْلُومٌ أَنَّ رُجُومَ الشَّيَاطِينِ لَيْسَتْ هِيَ أَعْيَانَ مَصَابِيحِ السَّمَاءِ، وَإِنَّمَا اسْتَطْرَدَ مِنْ شَخْصِهَا إِلَى جِنْسِهَا. * * * فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لما وَلَدَتْ حَوَّاءُ طَافَ بِهَا إِبْلِيسُ وَكَانَ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، فَقَالَ سَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ فَإِنَّهُ يَعِيشُ. فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ فَعَاشَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ وَأَمْرِهِ ". وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تفاسيرهم عِنْد هَذِه الْآيَة، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ عبد الصَّمد ابْن عبد الْوَارِث بِهِ، فَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ __________ (1) ا: أَرْبَعمِائَة نسمَة (2) سُورَة الْمُؤْمِنُونَ 13 (3) سُورَة الْملك 6 (*)
(1/63)
حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ وَلَمْ يَرْفَعْهُ. فَهَذِهِ عِلَّةٌ قَادِحَةٌ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ رُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى الصَّحَابِيِّ وَهَذَا أَشْبَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَلَقَّاهُ من الاسرائيليات، وَهَكَذَا روى مَوْقُوفا عَن ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُتَلَقًّى عَنْ كَعْب الاحبار وَذَوِيهِ (1) . وَالله أعلم. وَقد فسر الْحسن الْبَصْرِيّ هَذِه الْآيَات بِخِلَافِ هَذَا، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا لَمَا عَدَلَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَيْضًا فَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ آدَمَ وَحَوَّاءَ لِيَكُونَا أَصْلَ الْبَشَرِ، وَلِيَبُثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً، فَكَيْفَ كَانَتْ حَوَّاءُ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ كَمَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا؟ ! وَالْمَظْنُونُ بَلِ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ رَفْعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَأٌ. وَالصَّوَابُ وَقْفُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ حَرَّرْنَا هَذَا فِي كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. ثُمَّ قَدْ كَانَ آدَمُ وَحَوَّاءُ أَتْقَى لِلَّهِ مِمَّا ذُكِرَ عَنْهُمَا فِي هَذَا ; فَإِنَّ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَهُ أَسمَاء كل شئ وَأَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ " يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الْأَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: " مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ __________ (1) ط: ودونه. وَهُوَ تَحْرِيف (*)
(1/64)
الرُّسُلُ مِنْهُمْ؟ قَالَ: " ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ جَمٌّ غَفِيرٌ " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ كَانَ أَوَّلَهُمْ؟ قَالَ آدَمُ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ؟ قَالَ: نَعَمْ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ثُمَّ سَوَّاهُ قُبُلًا ". وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَائِلَةَ الْأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ هُرْمُزَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلِ الْمَلَائِكَةِ: جِبْرِيلُ، وَأَفْضَلُ النَّبِيِّينَ آدَمُ، وَأَفْضَلُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَأَفْضَلُ الشُّهُورِ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَأَفْضَلُ اللَّيَالِي لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَأَفْضَلُ النِّسَاءِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ". وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ نَافِعًا أَبَا هُرْمُزَ كَذَّبَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو زُرْعَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لَيْسَ أَحَدٌ فِي الْجَنَّةِ لَهُ لِحْيَةٌ إِلَّا آدَمَ، لِحْيَتُهُ سَوْدَاءُ إِلَى سُرَّتِهِ. وَلَيْسَ أَحَدٌ يُكْنَى فِي الْجَنَّةِ إِلَّا آدَمُ ; كُنْيَتُهُ فِي الدُّنْيَا أَبُو الْبَشَرِ وَفِي الْجَنَّةِ أَبُو مُحَمَّدٍ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ شَيْخِ (1) ابْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا: أَهْلُ الْجَنَّةِ يُدْعَوْنَ بِأَسْمَائِهِمْ إِلَّا آدَمَ فَإِنَّهُ يُكْنَى أَبَا مُحَمَّدٍ. وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ __________ (1) الاصل: سبح. وَهُوَ تَحْرِيف. والتصويب من ميزَان الِاعْتِدَال 2 / 286. وَشَيخ هَذَا مُتَّهم بِالْوَضْعِ. " م 5 - قصَص الانبياء 1 " (*)
(1/65)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَرَّ بِآدَمَ وَهُوَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ لَهُ مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قَالَ: وَإِذَا عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ (1) وَعَنْ يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ عَنْ شِمَالِهِ بَكَى فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا؟ قَالَ هَذَا آدَمُ وَهَؤُلَاءِ نَسَمُ (2) بَنِيهِ، فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ أَهْلِ الْيَمِينِ - وَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ - ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ أَهْلِ الشِّمَالِ - وَهُمْ أَهْلُ النَّارِ - بَكَى. وَهَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمثنى، حَدَّثَنى يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ عَقْلُ آدَمَ مِثْلَ عَقْلِ جَمِيعِ وَلَدِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَمَرَرْتُ بِيُوسُفَ وَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ " قَالُوا: مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حُسْنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَهَذَا مُنَاسِبٌ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ وَصَوَّرَهُ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، فَمَا كَانَ لِيَخْلُقَ إِلَّا أَحْسَنَ الاشباه. وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَابْن عمر أَيْضًا مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْجَنَّةَ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبَّنَا اجْعَلْ لَنَا هَذِهِ، فَإِنَّكَ خَلَقْتَ لِبَنِي آدَمَ الدُّنْيَا يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذُرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْتُ بِيَدِيَّ كَمَنَ قُلْتُ لَهُ كُنْ فَكَانَ. وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طُرُقٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صورته " وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَذَكَرُوا فِيهِ مَسَالِكَ كَثِيرَةً لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا. وَالله أعلم. __________ (1) الاسودة يكنى بهَا عَن الشَّخْص (2) النسم: جمع نسمَة، وهى الرّوح (*)
(1/66)
ذِكْرُ وَفَاةِ آدَمَ وَوَصِيَّتِهِ إِلَى ابْنِهِ شِيثَ عَلَيْهِ السَّلَام وَمَعْنَى شِيثَ: هِبَةُ اللَّهِ، وَسَمَّيَاهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمَا رُزِقَاهُ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ هَابِيلُ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ فِي حَدِيثِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِائَةَ صَحِيفَةٍ وَأَرْبَعَ صُحُفٍ، عَلَى شِيثَ خَمْسِينَ صَحِيفَةً ". قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا حَضَرَتْ آدَمَ الْوَفَاةُ عَهِدَ إِلَى ابْنِهِ شِيثَ وَعَلَّمَهُ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَعَلَّمَهُ عِبَادَاتِ تِلْكَ السَّاعَاتِ، وَأَعْلَمَهُ بِوُقُوعِ الطُّوفَانِ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ: وَيُقَالُ إِنَّ أَنْسَاب بنى آدم الْيَوْم كلهَا تنْهى إِلَى شِيثَ، وَسَائِرُ أَوْلَادِ آدَمَ غَيْرَهُ انْقَرَضُوا وَبَادُوا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِمَا تُوُفِّيَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ - جَاءَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بحنوط، وكفن من عِنْد الله عزوجل من الْجنَّة، وعزوا فِيهِ فِيهِ ابْنه ووصيه شيثا عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَسَفَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَر سَبْعَة أَيَّام بليا لِيهن. وَقد قَالَ عبد الله ابْن الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَن يحيى - هُوَ ابْنُ ضَمْرَةَ السَّعْدِيُّ - قَالَ: رَأَيْتُ شَيْخًا بِالْمَدِينَةِ يَتَكَلَّمُ فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَقَالُوا هَذَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَقَالَ: إِنَّ آدَمَ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ لِبَنِيهِ: أَيْ بَنِيَّ! إِنِّي أَشْتَهِي مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ. قَالَ: فَذَهَبُوا يَطْلُبُونَ لَهُ، فاستقبلتهم الْمَلَائِكَة وَمَعَهُمْ أَكْفَانه
(1/67)
حنوطه، وَمَعَهُمْ الفؤوس وَالْمَسَاحِي وَالْمَكَاتِلُ، فَقَالُوا لَهُمْ: يَا بَنِي آدَمَ مَا تُرِيدُونَ وَمَا تَطْلُبُونَ؟ أَوْ مَا تُرِيدُونَ وأيت تَطْلُبُونَ؟ قَالُوا: أَبُونَا مَرِيضٌ وَاشْتَهَى مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَقَالُوا لَهُمْ: ارْجِعُوا فَقَدْ قُضِيَ أَبُوكُمْ. فَجَاءُوا فَلَمَّا رَأَتْهُمْ حَوَّاءُ عَرَفَتْهُمْ فَلَاذَتْ بِآدَمَ، فَقَالَ: إِلَيْكِ عَنِّي فَإِنِّي إِنَّمَا أُتِيتُ مِنْ قبلك، فخلى بينى وَبَين مَلَائِكَة ربى عزوجل. فقبضوه وغسلوه وكفنوه وحنطوه، وحفروا لَهُ ولحدوه وصلوا عَلَيْهِ ثمَّ أدخلوه قَبْرَهُ فَوَضَعُوهُ فِي قَبْرِهِ، ثُمَّ حَثَوْا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالُوا: يَا بَنِي آدَمَ هَذِهِ سُنَّتُكُمْ. إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَيْهِ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مَيْمُونٍ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَن رَسُول اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كَبَّرَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى آدَمَ أَرْبَعًا، وَكَبَّرَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى فَاطِمَةَ أَرْبَعًا، وَكَبَّرَ عُمَرُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَرْبَعًا، وَكَبَّرَ صُهَيْبٌ عَلَى عُمَرَ أَرْبَعًا " قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ مَيْمُونٍ فَقَالَ عَن ابْن عمر. واختفلفوا فِي مَوْضِعِ دَفْنِهِ: فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ دُفِنَ عِنْدَ الْجَبَل الذى أهبط فِيهِ (1) فِي الْهِنْدِ، وَقِيلَ بِجَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ بِمَكَّةَ. وَيُقَالُ إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَانَ زَمَنُ الطُّوفَانِ حَمَلَهُ هُوَ وَحَوَّاءُ فِي تَابُوتٍ، فَدَفَنَهُمَا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ. حَكَى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: رَأْسُهُ عِنْدَ مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ وَرِجْلَاهُ عِنْدَ صَخْرَةِ بَيت الْمُقَدّس. وَقد مَاتَت بعده حَوَّاء بسنه وَاحِدَة. __________ (1) ط. مِنْهُ. (*)
(1/68)
وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ عُمُرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَقَدَّمْنَا فِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: أَنَّ عُمُرَهُ اكْتَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَلْفَ سَنَةٍ. وَهَذَا لَا يُعَارِضُهُ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ أَنَّهُ عَاشَ تِسْعَمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا مَطْعُونٌ فِيهِ مَرْدُودٌ، إِذَا خَالَفَ الْحَقَّ الَّذِي بِأَيْدِينَا مِمَّا هُوَ الْمَحْفُوظُ عَنِ الْمَعْصُومِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا فِي الْحَدِيثِ ; فَإِنَّ مَا فِي التَّوْرَاةِ إِنْ (1) كَانَ مَحْفُوظًا - مَحْمُولٌ عَلَى مُدَّةِ مُقَامِهِ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ الْإِهْبَاطِ، وَذَلِكَ تِسْعمائَة [سنة] (2) وَثَلَاثُونَ سَنَةً شَمْسِيَّةً، وَهِيَ بِالْقَمَرِيَّةِ تِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَيُضَافُ إِلَى ذَلِكَ ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً مُدَّةَ مُقَامِهِ فِي الْجَنَّةِ قَبْلَ الْإِهْبَاطِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ أَلْفَ سَنَةٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: لَمَّا مَاتَ آدَمُ بَكَتِ الْخَلَائِقُ عَلَيْهِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ. فَلَمَّا مَاتَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَامَ بِأَعْبَاءِ الْأَمْرِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ شِيثُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ نَبِيًّا بِنَصِّ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ خَمْسُونَ صَحِيفَةً. فَلَمَّا حَانَتْ وَفَاتُهُ أَوْصَى إِلَى ابْنِهِ أَنُوشَ (3) فَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ، ثُمَّ بَعْدَهُ وَلَدُهُ قَيْنَنُ (4) ثمَّ من بعده ابْنه مهلاييل - وَهُوَ الذى يزْعم الاعاجم __________ (1) ا: إِذا (2) من ا. (3) ا: يانش. (4) ط: قاين. (*)
(1/69)
مِنَ الْفُرْسِ أَنَّهُ مَلَكَ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ قَطَعَ الْأَشْجَارَ، وَبَنَى الْمَدَائِنَ وَالْحُصُونَ الْكِبَارَ. وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَنَى مَدِينَةَ بَابِلَ وَمَدِينَةَ السُّوسِ الْأَقْصَى. وَأَنَّهُ قَهَرَ إِبْلِيسَ وَجُنُودَهُ وَشَرَّدَهُمْ عَنِ الْأَرْضِ إِلَى أَطْرَافِهَا وَشِعَابِ جِبَالِهَا وَأَنَّهُ قَتَلَ خَلْقًا مِنْ مَرَدَةِ الْجِنِّ وَالْغِيلَانَ، وَكَانَ لَهُ تَاجٌ عَظِيمٌ، وَكَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ وَدَامَتْ دَوْلَتُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. فَلَمَّا مَاتَ قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ يَرْدُ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى إِلَى وَلَدِهِ خَنُوخَ، وَهُوَ إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَام على الْمَشْهُور.
(1/70)
ذِكْرُ إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبيا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانا عليا (1) " فَإِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَوَصَفَهُ بِالنُّبُوَّةِ وَالصِّدِّيقِيَّةِ، وَهُوَ خَنُوخُ هَذَا. وَهُوَ فِي عَمُودِ نَسَبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ النَّسَبِ. وَكَانَ أَوَّلَ بَنِي آدَمَ أَعْطِيَ النُّبُوَّةَ بَعْدَ آدَمَ وَشِيثَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ، وَقَدْ أَدْرَكَ مِنْ حَيَاةِ آدَمَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ وَثَمَانِي سِنِينَ. وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ إِنَّهُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ لَمَّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَطِّ بِالرَّمْلِ فَقَالَ: " إِنَّهُ كَانَ نَبِيٌّ يَخُطُّ بِهِ فَمَنْ وَافق خطه فَذَاك ". يويزعم كثير من عُلَمَاء التَّفْسِير وَالْأَحْكَامِ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ، وَيُسَمُّونَهُ هَرْمَسَ الْهَرَامِسَةِ، وَيَكْذِبُونَ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً كَمَا كَذَبُوا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا " هُوَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِ وَهُوَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ. وَقد روى ابْن جرير عَن يُونُس عَن عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ هِلَال بن يسَاف __________ (1) من سُورَة مَرْيَم 57، 58 (*)
(1/71)
قَالَ: سَأَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَعْبًا وَأَنَا حَاضِرٌ فَقَالَ لَهُ: مَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى لِإِدْرِيسَ " وَرَفَعْنَاهُ مَكَانا عليا "؟ فَقَالَ كَعْبٌ: أَمَّا إِدْرِيسُ فَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ: أَنِّي أَرْفَعُ لَكَ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلَ جَمِيعِ عَمَلِ بَنِي آدَمَ - لَعَلَّهُ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ - فَأَحَبَّ أَنْ يَزْدَادَ عَمَلًا، فَأَتَاهُ خَلِيلٌ لَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ: إِنِ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ كَذَا وَكَذَا فَكلم ملك [الْمَوْت (1) ] حَتَّى أَزْدَادَ عَمَلًا، فَحَمَلَهُ بَيْنَ جَنَاحَيْهِ ثُمَّ صَعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ تَلَقَّاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ مُنْحَدِرًا، فَكَلَّمَ مَلَكَ الْمَوْتِ فِي الَّذِي كَلَّمَهُ فِيهِ إِدْرِيسُ، فَقَالَ: وَأَيْنَ إِدْرِيسُ؟ قَالَ هُوَ ذَا عَلَى ظهرى، فَقَالَ ملك الْمَوْت: يَا للعجب (2) ! بُعِثْتُ وَقِيلَ لِي اقْبِضْ رُوحَ إِدْرِيسَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: كَيْفَ أَقْبِضُ رُوحَهُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ وَهُوَ فِي الْأَرْضِ؟ ! فَقَبَضَ روحه هُنَاكَ. فَذَلِك قَول الله عزوجل " وَرَفَعْنَاهُ مَكَانا عليا ". وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عِنْدَ تَفْسِيرِهَا. وَعِنْدَهُ فَقَالَ لِذَلِكَ الْمَلَكِ: سَلْ لِي مَلَكَ الْمَوْتِ كَمْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِي؟ فَسَأَلَهُ وَهُوَ مَعَهُ: كَمْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَنْظُرَ، فَنَظَرَ فَقَالَ إِنَّكَ لِتَسْأَلُنِي عَنْ رَجُلٍ مَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا طَرْفَةُ عَيْنٍ، فَنَظَرَ الْمَلَكُ إِلَى تَحْتِ جَنَاحِهِ إِلَى إِدْرِيسَ فَإِذَا هُوَ قَدْ قُبِضَ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ. وَهَذَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَفِي بَعْضِهِ نَكَارَةٌ. وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْله: " وَرَفَعْنَاهُ مَكَانا عليا " __________ (1) سَقَطت من المطبوعة. (2) ا: فالعجب (*)
(1/72)
قَالَ: إِدْرِيسُ رُفِعَ وَلَمْ يَمُتْ كَمَا رُفِعَ عِيسَى. إِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ إِلَى الْآنِ فَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ رُفِعَ حَيًّا إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قُبِضَ هُنَاكَ. فَلَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله " وَرَفَعْنَاهُ مَكَانا عليا ": رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَمَاتَ بِهَا، وَهَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ. وَالْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ أَصَحُّ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: " وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عليا " قَالَ: إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَالَ قَائِلُونَ رُفِعَ فِي حَيَاة أَبِيه يرد بن مهلاييل وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ إِدْرِيسَ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ نُوحٍ بَلْ فِي زَمَانِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِلْيَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ، وَاسْتَأْنَسُوا فِي ذَلِكَ بِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ فِي الْإِسْرَاءِ: أَنَّهُ لَمَّا مَرَّ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُ مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَلَمْ يَقُلْ كَمَا قَالَ آدَمُ وَإِبْرَاهِيمُ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ. قَالُوا: فَلَوْ كَانَ فِي عَمُودِ نَسَبِهِ لَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَا (1) لَهُ. وَهَذَا لَا يدل وَلَا بُد، لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَكُونُ الرَّاوِي حَفِظَهُ جَيِّدًا، أَو لَعَلَّه قَالَه عَلَى سَبِيلِ الْهَضْمِ وَالتَّوَاضُعِ، وَلَمْ يَنْتَصِبْ لَهُ فِي مَقَامِ الْأُبُوَّةِ كَمَا انْتَصَبَ لِآدَمَ أَبِي الْبشر، وَإِبْرَاهِيم الذى هُوَ خَلِيل الرَّحْمَن وأكبر أُولِي الْعَزْمِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ. صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. __________ (1) ط: قَالَ. وَهُوَ تَحْرِيف (*)
(1/73)
هُوَ نُوحُ بْنُ لَامَكَ بْنِ مَتُّوشَلَخَ بْنِ خنوخ - وَهُوَ إِدْرِيس - بن يرد بن مهلاييل بْنِ قَيْنَنَ بْنِ أَنُوشَ بْنِ شِيثَ بْنِ آدم أَبى الْبشر عَلَيْهِ السَّلَام. وَكَانَ مَوْلِدُهُ بَعْدَ وَفَاةِ آدَمَ بِمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتٍّ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَعَلَى تَارِيخِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُتَقَدِّمِ يَكُونُ بَيْنَ مَوْلِدِ نُوحٍ وَمَوْتِ آدَمَ مِائَةٌ وَسِتٌّ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَكَانَ بَيْنَهُمَا عَشَرَةُ قُرُونٍ كَمَا قَالَ الْحَافِظ أَبُو حَاتِم ابْن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ زَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، عَن أَخِيه زيد بن سَلام، سَمِعْتُ أَبَا سَلَّامٍ سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَبِيٌّ كَانَ آدَمُ؟ قَالَ: نَعَمْ مُكَلِّمٌ. قَالَ: فَكَمْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُوحٍ؟ قَالَ: عَشَرَةُ قُرُونٍ. قُلْتُ: وَهَذَا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجْهُ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْقَرْنِ مِائَةَ سَنَةٍ - كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ - فَبَيْنَهُمَا أَلْفُ سَنَةٍ لَا مَحَالَةَ، لَكِنْ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ بِاعْتِبَارِ مَا قَيَّدَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْإِسْلَامِ، إِذْ قَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا قُرُونٌ أُخَرُ مُتَأَخِّرَةٌ
(1/74)
لَمْ يَكُونُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، لَكِنَّ حَدِيثَ أَبِي أُمَامَةَ يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ فِي عَشَرَةِ قُرُونٍ، وَزَادَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ كَانُوا عَلَى الْإِسْلَامِ. وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ التَّوَارِيخِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ قَابِيلَ وَبَنِيهِ عَبَدُوا النَّارَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْقَرْنِ الْجِيلَ مِنَ النَّاسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ من بعد نوح " وَقَوْلُهُ: " ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ " وَقَالَ تَعَالَى: " وقرونا بَين ذَلِك كثيرا " وَقَالَ: " وَكم أهلكناه قبلهم من قرن " وَكَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ... " الْحَدِيثَ، فَقَدْ كَانَ الْجِيلُ قَبْلَ نُوحٍ يُعَمِّرُونَ الدُّهُورَ الطَّوِيلَةَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ أُلُوفٌ مِنَ السِّنِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَنُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا عُبِدَتِ الْأَصْنَامُ وَالطَّوَاغِيتُ، وَشَرَعَ النَّاسُ فِي الضَّلَالَةِ وَالْكُفْرِ، فَبَعْثَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعِبَادِ فَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ بُعِثَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، كَمَا يَقُولُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَكَانَ قَوْمُهُ يُقَالُ لَهُم بَنو راسب فِيمَا ذكره ابْن جُبَير وَغَيْرُهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ سِنِّهِ يَوْمَ بُعِثَ، فَقِيلَ كَانَ ابْنَ خَمْسِينَ سَنَةً، وَقِيلَ ابْنَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَقِيلَ ابْنَ أَرْبَعِمِائَةٍ وَثَمَانِينَ سنة حَكَاهَا ابْن جرير، وَعزا الثَّالِثَة مِنْهَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. * * *
(1/75)
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّتَهُ وَمَا كَانَ مِنْ قَوْمِهِ، وَمَا أَنْزَلَ بِمَنْ كَفَرَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ بِالطُّوفَانِ، وَكَيْفَ أَنْجَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ، فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ ; فَفِي الْأَعْرَافِ وَيُونُسَ وَهُودٍ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالشُّعَرَاءِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَالصَّافَّاتِ وَاقْتَرَبَتْ، وَأَنْزَلَ فِيهِ سُورَةً كَامِلَةً. فَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: " لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إيا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ، وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ من الله مَا لَا تعلمُونَ * أَو عجبتم أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ، وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُم كَانُوا قوما عمين (1) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ، وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (2) ". __________ (1) الْآيَات: 59 - 64. (2) الْآيَات: 72 - 74. (*)
(1/76)
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ: " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ. فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا، وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ، وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا من فضل بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ. قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ * وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وَمَا أَنا بطارد الَّذين آمنُوا إِنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ، وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا، اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إنى إِذا لمن الظَّالِمين. قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ، إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ، هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إجرامي وَأَنا برِئ مِمَّا تُجْرِمُونَ. وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا، وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ. وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ، قَالَ: إِنْ
(1/77)
تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ. حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيل. وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسم الله مجريها وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ، قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ، وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرض ابلعى ماءك وياسماء أَقْلِعِي، وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ، وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالح، فَلَا تسألن مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ من الخاسرين * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثمَّ يمستهم مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتقين " (1) . __________ (1) الْآيَات: 26 - 50. (*)
(1/78)
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة الانبياء: " ونوحا إِذْ نَادَى من قبل فاستجبنا لَهُ فنجيناه وَأَهله من الكرب الْعَظِيم * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قوم سوء فأغرقناهم أَجْمَعِينَ (1) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ: " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيره أَفلا تَتَّقُون * فَقَالَ الملا الذى كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا، فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ، إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ، وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لمبتلين (2) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: " كَذَّبَتْ قَوْمُ نوح الْمُرْسلين * إِذْ قَالَ لَهُم أخوهم نوح أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِن أجْرى إِلَّا على رب الْعَالمين * فَاتَّقُوا الله وأطيعون * قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِن أَنا إِلَّا نَذِير مُبين * قَالُوا لثن لم تَنْتَهِ يَا نوح __________ (1) الْآيَتَانِ: 27، 28. (2) الْآيَات: 24 - 31. (*)
(1/79)
لتكونن من المرجومين * قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا ونَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيز الرَّحِيم " (1) وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فأنجيناه وَأَصْحَاب السَّفِينَة وجعلناها آيَة للْعَالمين ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة وَالصَّافَّات: " وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ من الكرب الْعَظِيم * وَجَعَلنَا ذُريَّته هم البَاقِينَ * وَتَركنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين * سَلام على نوح فِي الْعَالمين * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤمنِينَ * ثمَّ أغرقنا الآخرين (2) " وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ اقْتَرَبَتْ: " كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا ربع أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابي وَنذر * وَلَقَد يسرنَا الْقُرْآن للذّكر فَهَل من مدكر (3) ". وَقَالَ تَعَالَى: " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم * إِنَّا أرسنا نوحًا إِلَى قومه __________ (1) الْآيَات: 106 - 123 (2) الْآيَات. 76 - 83 (3) الْآيَات 10 - 17 (*)
(1/80)
أَن أنذر قَوْمك من قبل أَن يَأْتِيهم عَذَاب أَلِيم * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذنوبكم ويؤخركم إِلَى أجفل مُسَمًّى، إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ، وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لَا ترجون لله وقارا * وَقد خَلقكُم أطوارا * ألم تروا كَيفَ خلق الله سبع سموات طباقا * وَجعل الْقَمَر فِيهِنَّ نورا، وَجعل الشَّمْس سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا ويخرجكم إخراجا * وَالله جعل لكم الارض بساطا * لتسلكوا مِنْهَا سبلا فجاجا * قَالَ نوح رب إِنَّهُم عصوني وَاتبعُوا من لم يزده مَاله وَولده إِلَّا خسارا * ومكروا مكرا كبارًا * وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ، وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كثيرا وَلَا تزد الظَّالِمين إِلَّا ضلالا * مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا * وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يلدوا إِلَّا فَاجِرًا كفَّارًا * رب اغْفِر لي ولوالدي وَلمن دخل " م 6 - قصَص الانبياء 1 "
(1/81)
بيتى مُؤمنا، وَلِلْمُؤْمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات، وَلَا تزد الظَّالِمين إِلَّا تبارا (1) " وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ هَذِهِ فِي التَّفْسِيرِ. وَسَنَذْكُرُ مَضْمُونَ الْقِصَّةِ مَجْمُوعًا مِنْ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَمِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ. وَقَدْ جَرَى ذِكْرُهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فِيهَا مَدْحُهُ وَذَمُّ مَنْ خَالَفَهُ، فَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: " إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ، وآتينا دَاوُد زبورا * رسلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ، وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (2) " وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: " وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وهرون، وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا، وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (3) " الْآيَات. وَتَقَدَّمت قصَّته فِي الاعراف (4) . __________ (1) سُورَة نوح بِتَمَامِهَا. (2) الْآيَات. 163 - 165 (3) الْآيَات: 84 - 88 (4) ا: قصَّة الاعراف (*)
(1/82)
وَقَالَ فِي سُورَة بَرَاءَة: " ألم يَأْتهمْ نبأ الَّذين من قبلهم قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَقوم إِبْرَاهِيم وَأَصْحَاب مَدين والمؤتفكات أَتَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ، فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (1) " وَتَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ فِي يُونُسَ وَهُودٍ. وَقَالَ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: " أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ، وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ، وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تدعوننا إِلَيْهِ مريب (2) " وَقَالَ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ: " ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نوح إِنَّه كَانَ عبدا شكُورًا (3) " وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا: " وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ، وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرا بَصيرًا (4) ". وَتَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالشُّعَرَاءِ وَالْعَنْكَبُوتِ. وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: " وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى بن مَرْيَم وأخذنا مِنْهُم ميثاقا غليظا (5) وَقَالَ فِي سُورَةِ ص: " كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ * إِنْ كُلٌّ إِلَّا كذب الرُّسُل فَحق عِقَاب (6) ". __________ (1) الْآيَة: 72 (2) الْآيَة: 10 (3) الاسراء 3 (4) الاسراء 17. (5) الْآيَة 7 (6) الْآيَات: 11 - 13 (*)
(1/83)
وَقَالَ فِي سُورَة غَافِر: " كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهمْ وهمت كل امة برسولهم ليأخذوه، وجادلوا بِالْبَاطِلِ ليدحضوا بِهِ الْحق فَأَخَذتهم فَكيف كَانَ عِقَاب * وَكَذَلِكَ حقت كلمة رَبك على الَّذين كفرُوا أَنهم أَصْحَاب النَّار (1) ". وَقَالَ فِي سُورَةِ الشُّورَى: " شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (2) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ ق: " كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كذب الرُّسُل فَحق وَعِيد (3) ". وَقَالَ فِي الذَّارِيَاتِ: " وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُم كَانُوا قوما فاسقين (4) " وَقَالَ فِي النَّجْمِ: " وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُم كَانُوا هم أظلم وأطغى (5) ". وَتَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ فِي سُورَةِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيم وَجَعَلنَا فيث ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ; فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (6) ". __________ (1) الْآيَتَانِ 5: 6 (2) الْآيَة: 12 (3) الْآيَات: 11 - 13 (4) الْآيَة: 45 (5) الْآيَة: 52 (6) الْآيَة: 27 (*)
(1/84)
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ: " ضَرَبَ اللَّهُ مثلا للَّذين كفرُوا امْرَأَة نوح وَامْرَأَة لوط كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ، فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَقِيلَ ادخلا النَّار مَعَ الداخلين (1) ". * * * وَأَمَّا مَضْمُونُ مَا جَرَى لَهُ مَعَ قَوْمِهِ مَأْخُوذًا مِنَ الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ وَالْآثَارِ، فَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَرْنِ الْجِيلُ أَوِ الْمُدَّةُ عَلَى مَا سَلَفَ. ثُمَّ بَعْدَ تِلْكَ الْقُرُونِ الصَّالِحَةِ حَدَثَتْ أُمُورٌ اقْتَضَتْ أَنْ آلَ الْحَالُ بِأَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيث ابْن جريح عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ ونسرا (2) " قَالَ: هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذا هلك أُولَئِكَ وانتسخ (3) الْعِلْمُ عُبِدَتْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَصَارَتْ هَذِهِ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَب بعد. __________ (1) الْآيَة 10. (2) سُورَة نوح (3) ا: وَنسخ (*)
(1/85)
وَهَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُوسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ، وَكَانَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ (1) يَقْتَدُونَ بِهِمْ، فَلَمَّا مَاتُوا قَالَ أَصْحَابُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَقْتَدُونَ بِهِمْ: لَوْ صَوَّرْنَاهُمْ كَانَ أَشْوَقَ لَنَا إِلَى الْعِبَادَةِ إِذَا ذَكَرْنَاهُمْ، فَصَوَّرُوهُمْ. فَلَمَّا مَاتُوا وَجَاءَ آخَرُونَ دَبَّ إِلَيْهِمْ إِبْلِيسُ فَقَالَ: إِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَبِهِمْ يُسْقَوْنَ الْمَطَرَ. فَعَبَدُوهُمْ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُرْوَةَ ابْن الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ: وَدٌّ وَيَغُوثُ وَيَعُوقُ وَسُوَاعٌ ونسر، أَولا د آدم، وَكَانَ " ود " أكبرهم وأبرهم بِهِ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى ; حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ عَنْ أَبِي الْمُطَهَّرِ، قَالَ: ذَكَرُوا عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ - هُوَ الْبَاقِرُ - وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، قَالَ فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَ: ذَكَرْتُمْ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، أَمَا إِنَّهُ قُتِلَ فِي أَوَّلِ أَرْضٍ عُبِدَ فِيهَا غَيْرُ الله تَعَالَى. قَالَ ذكر ودا قَالَ: كَانَ رجلا صَالحا (2) ، وَكَانَ محببا فِي قومه، فَلَمَّا مَاتَ عكفوا حَوْلَ قَبْرِهِ فِي أَرْضِ بَابِلَ وَجَزِعُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ جَزَعَهُمْ عَلَيْهِ تَشَبَّهَ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أَرَى جَزَعَكُمْ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَهَلْ لَكَمَ أَنْ أُصَوِّرَ لكم مثله فَيكون فِي ناديكم فتذكرونه بِهِ؟ قَالُوا نعم. فصور لَهُم مثله، قَالَ: فوضعوه (3) فِي نَادِيهِمْ وَجَعَلُوا يَذْكُرُونَهُ. فَلَمَّا رَأَى مَا بهم من ذكره قَالَ: هَل لكم أجعَل فِي منزل كل وَاحِد. __________ (1) ا: تبَاع. (2) أ: مُسلما (3) أَو وضعوه (*)
(1/86)
مِنْكُمْ تِمْثَالًا مِثْلَهُ لِيَكُونَ لَهُ فِي بَيْتِهِ فَتَذْكُرُونَهُ؟ قَالُوا نَعَمْ. قَالَ: فَمَثَّلَ لِكُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ تِمْثَالًا مِثْلَهُ، فَأَقْبَلُوا فَجَعَلُوا يَذْكُرُونَهُ بِهِ. قَالَ: وَأَدْرَكَ أَبْنَاؤُهُمْ فَجَعَلُوا يَرَوْنَ مَا يَصْنَعُونَ بِهِ. قَالَ: وَتَنَاسَلُوا وَدُرِسَ أَمْرُ ذِكْرِهِمْ إِيَّاهُ حَتَّى اتَّخَذُوهُ إِلَهًا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِمْ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا عُبِدَ غَيْرَ اللَّهِ " وَدٌّ " الصَّنَمُ الَّذِي سَمَّوْهُ وَدًّا. وَمُقْتَضَى هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ كُلَّ صَنَمٍ مِنْ هَذِهِ عَبَدَهُ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا تَطَاوَلَتِ الْعُهُودُ وَالْأَزْمَانُ، جَعَلُوا تِلْكَ الصُّوَرَ تَمَاثِيلَ مُجَسَّدَةً لِيَكُونَ أَثْبَتَ لَهَا (1) ، ثُمَّ عُبِدَتْ بعد ذَلِك من دون الله عزوجل. وَلَهُم فِي عبادتها مسالك كَثِيرَة جدا قد ذَكرنَاهَا فِي موَاضعهَا مِنْ كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَتْ عِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ، تِلْكَ الْكَنِيسَةَ الَّتِي رأينها بِأَرْض الْحَبَشَة، وَيُقَال لَهَا مَارِيَة، وذكرتا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا قَالَ: " أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدا، ثمَّ صوروا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَة، أُولَئِكَ شرار الْخلق عِنْد الله عزوجل ". * * * وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْفَسَادَ لَمَّا انْتَشَرَ فِي الْأَرْضِ وَعم الْبلَاء بِعبَادة الْأَصْنَامِ فِيهَا، بَعَثَ اللَّهُ عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَيَنْهَى عَنْ عِبَادَةِ مَا سواهُ. __________ (1) ط: لَهُم (*)
(1/87)
فَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، قَالَ: " فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ وَأَسْكَنَكَ الْجَنَّةَ، أَلَا تَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّكَ؟ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ وَمَا بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ: رَبِّي [قَدْ (1) ] غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَنَهَانِي عَن شَجَرَة فَعَصَيْتُ، نَفْسِي نَفْسِي. اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ. فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ، أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى إِلَى مَا بَلَغَنَا؟ أَلا تشفع لنا إِلَى رَبك عزوجل؟ فَيَقُولُ: رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، نَفسِي ينفسى " وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ بِطُولِهِ كَمَا أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي قِصَّةِ نُوحٍ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَام، دعاهم إِلَى إِفْرَاد عبَادَة الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَألا يعبدوا مَعَه صنما وَلَا تمثالا وَلَا طوغوتا وَأَنْ يَعْتَرِفُوا بِوَحْدَانِيَّتِهِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ هُمْ كُلُّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هم البَاقِينَ (2) ". وَقَالَ فِيهِ وَفِي إِبْرَاهِيمَ " وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّة وَالْكتاب " أَيْ كُلُّ نَبِيٍّ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ فَمِنْ ذُريَّته. وَكَذَلِكَ إِبْرَاهِيم. __________ (1) سَقَطت من ا. (2) من سُورَة الصافات 79. (*)
(1/88)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ " وَقَالَ تَعَالَى: " واسأل من أرسنا قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا، أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَة يعْبدُونَ " وَقَالَ تَعَالَى: " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنا فاعبدون " وَلِهَذَا قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ: " اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَاب يَوْم عَظِيم " وَقَالَ: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَاب يَوْم اليم " وَقَالَ: " يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ من إِلَه غَيره أَفلا تَتَّقُون " وَقَالَ: " يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون " إِلَى: " وَقد خَلقكُم أطوارا " الْآيَات الكريمات فَذكر أَنهم دَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ بِأَنْوَاعِ الدَّعْوَةِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالسِّرِّ وَالْإِجْهَارِ، بِالتَّرْغِيبِ تَارَةً وَالتَّرْهِيبِ أُخْرَى، وكل هَذَا لم يَنْجَحْ فِيهِمْ، بَلِ اسْتَمَرَّ أَكْثَرُهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ وَالطُّغْيَانِ وَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ. وَنَصَبُوا لَهُ الْعَدَاوَةَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ، وَتَنَقَّصُوهُ وَتَنَقَّصُوا مَنْ آمن بِهِ، وتوعدهم بِالرَّجْمِ وَالْإِخْرَاجِ، وَنَالُوا مِنْهُمْ وَبَالَغُوا فِي أَمْرِهِمْ. " قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ " أَيِ السَّادَةُ الْكُبَرَاءُ مِنْهُمْ: " إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ". " قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالمين " أَيْ لَسْتُ كَمَا تَزْعُمُونَ مِنْ أَنِّي ضَالٌّ، بَلْ عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالمين، أَي الذى يَقُول لشئ كُنْ فَيَكُونُ " أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي
(1/89)
وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تعلمُونَ ". وَهَذَا شَأْنُ الرَّسُولِ أَنْ يَكُونَ بَلِيغًا، أَيْ فصيحا ناصحا، أعلم النَّاس بِاللَّه عزوجل. وَقَالُوا لَهُ فِيمَا قَالُوا: " مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا، وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ، وَمَا نَرَى لَكُمْ علينا من فضل بل نظنكم كاذبين ". تعجبوا أَن يكون بشرا رَسُولا، وتنقصوا من اتَّبَعَهُ وَرَأَوْهُمْ أَرَاذِلَهُمْ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُمْ كَانُوا من أفناد النَّاسِ وَهُمْ ضُعَفَاؤُهُمْ، كَمَا قَالَ هِرَقْلُ: وَهُمْ أَتبَاع الرُّسُل، وَمَا ذَاك إِلَّا لانه لامانع لَهُمْ مِنَ اتِّبَاعِ الْحَقِّ. وَقَوْلُهُمْ " بَادِيَ الرَّأْيِ " أَيْ بِمُجَرَّدِ مَا دَعَوْتَهُمُ اسْتَجَابُوا لَكَ مِنْ غير نظر وَلَا روية. وَهَذَا الذى رموهم بِهِ هُوَ عَيْنُ مَا يُمْدَحُونَ بِسَبَبِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: فَإِنَّ الْحَقَّ الظَّاهِرَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى رَوِيَّةٍ وَلَا فِكْرٍ وَلَا نَظَرٍ، بَلْ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَالِانْقِيَادُ لَهُ مَتَى ظَهَرَ. وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَادِحًا لِلصَّدِّيقِ: " مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا كَانَتْ لَهُ كَبْوَةٌ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَلَعْثَمْ ". وَلِهَذَا كَانَتْ بَيْعَتُهُ يَوْمَ السَّقِيفَةِ أَيْضًا سَرِيعَةً مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا رَوِيَّةٍ: لِأَنَّ أَفْضَلِيَّتَهُ عَلَى مَنْ عَدَاهُ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ عِنْدَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ الْكِتَابَ الَّذِي أَرَادَ أَن ينص فِيهِ على خِلَافَته فَتَركه، قَالَ: يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ الله عَنهُ.
(1/90)
وَقَوْلُ كَفَرَةِ قَوْمِ نُوحٍ لَهُ وَلِمَنْ آمَنَ بِهِ: " وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ " أَيْ لَمْ يَظْهَرْ لَكُمْ أَمْرٌ بَعْدَ اتِّصَافِكُمْ بالايمان وَلَا مرية عَلَيْنَا " بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وآتاني رَحْمَة من عِنْده فعميت عَلَيْكُم أنلزمكوها وَأَنْتُم لَهَا كَارِهُون ". وَهَذَا تَلَطُّفٌ فِي الْخِطَابِ مَعَهُمْ: وَتَرَفُّقٌ بِهِمْ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخْشَى (1) " وَقَالَ تَعَالَى: " ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة، وجادلهم بالتى هِيَ أحسن (2) " وَهَذَا مِنْهُ. يَقُول لَهُم: " أرأيتهم إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَة من عِنْده " أَي النُّبُوَّة والرسالة، " فعميت عَلَيْكُم " أَيْ فَلَمْ تَفْهَمُوهَا وَلَمْ تَهْتَدُوا إِلَيْهَا، " أَنُلْزِمُكُمُوهَا " أَيْ أَنَغْصِبُكُمْ بِهَا وَنَجْبُرُكُمْ عَلَيْهَا؟ " وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُون " أَيْ لَيْسَ لِي فِيكُمْ حِيلَةٌ وَالْحَالَةُ هَذِهِ. " وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أجْرى إِلَّا على الله " أَيْ لَسْتُ أُرِيدُ مِنْكُمْ أُجْرَةً عَلَى إِبْلَاغِي إيَّاكُمْ مَا ينفعكم فِي دنيا كم وَأُخَرَاكُمْ، إِنْ أَطْلُبْ ذَلِكَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ الَّذِي ثَوَابُهُ خَيْرٌ لِي، وَأَبْقَى مِمَّا تُعْطُونَنِي أَنْتُمْ. وَقَوْلُهُ: " وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم ملاقوا رَبهم، وَلَكِنِّي أَرَاكُم قوما تجهلون " كَأَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُبْعِدَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ، وَوَعَدُوهُ أَنْ يَجْتَمِعُوا بِهِ إِذَا هُوَ فَعَلَ ذَلِك، فَأبى عَلَيْهِم ذَلِك وَقَالَ: " إِنَّهُم ملاقوا رَبهم " أَي فَأَخَاف إِن طردتهم أَفلا تذكرُونَ. __________ (1) سُورَة طه 46 (2) سُورَة النَّحْل 137 (*)
(1/91)
وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطْرُدَ عَنْهُ ضُعَفَاءَ الْمُؤْمِنِينَ، كَعَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ وَبِلَالٍ وَخَبَّابٍ وَأَشْبَاهِهِمْ، نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَتَيِ الْأَنْعَامِ وَالْكَهْفِ. " وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خرائن اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي ملك " أَيْ بَلْ أَنَا عَبْدٌ رَسُولٌ، لَا أَعْلَمُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مَا أَعْلَمَنِي بِهِ، وَلَا أَقْدِرُ إِلَّا عَلَى مَا أَقْدَرَنِي عَلَيْهِ، وَلَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ. " وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أعينكُم " يَعْنِي مِنْ أَتْبَاعِهِ " لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا، اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لمن الظَّالِمين " أَيْ لَا أَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا خَيْرَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمْ وَسَيُجَازِيهِمْ عَلَى مَا فِي نُفُوسِهِمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ، كَمَا قَالُوا فِي الْمَوَاضِع الْآخَرِ: " أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ المومنين * إِن أَنا إِلَّا نَذِير مُبين ". * * * وَقَدْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ وَالْمُجَادَلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: " فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خمسين عَاما فَأَخذهُم الطوفان وهم ظَالِمُونَ " أَيْ وَمَعَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ فَمَا آمَنَ بِهِ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ. وَكَانَ كُلَّمَا انْقَرَضَ جِيلٌ وَصَّوْا مَنْ بَعْدَهُمْ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ بِهِ وَمُحَارَبَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ. وَكَانَ الْوَالِدُ إِذَا بَلَغَ وَلَدُهُ وَعَقَلَ عَنْهُ كَلَامَهُ، وَصَّاهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، أَلا يُؤْمِنَ بِنُوحٍ أَبَدًا مَا عَاشَ وَدَائِمًا مَا بقى.
(1/92)
وَكَانَتْ سَجَايَاهُمْ تَأْبَى الْإِيمَانَ وَاتِّبَاعَ الْحَقِّ، وَلِهَذَا قَالَ: " وَلَا يلدوا إِلَّا فَاجِرًا كفَّارًا ". وَلِهَذَا: " قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جسدا لنا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُم بمعجزين " أَي إِنَّمَا يقدر على ذَلِك الله عزوجل، فَإِنَّهُ الذى لَا يعجزه شئ وَلَا يكترثه أَمر، بل هُوَ الذى يَقُول للشئ كن فَيكون. " وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ، هُوَ ربكُم وَإِلَيْهِ ترجعون " أَيْ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ يَمْلِكَ أَحَدٌ هِدَايَتَهُ، هُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، الْعَلِيمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ وَمَنْ يَسْتَحِقُّ الْغِوَايَةَ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ. * * * " وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ من قَوْمك إِلَّا من قد آمن " تَسْلِيَة لَهُ عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ إِلَيْهِ، " فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ " وَهَذِهِ تَعْزِيَةٌ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْمِهِ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ قَدْ آمن، أَيْ لَا يَسُوأَنَّكَ مَا جَرَى فَإِنَّ النَّصْرَ قريب والنبأ [عجب (1) ] عَجِيبٌ. " وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذين ظلمُوا إِنَّهُم مغرقون ". __________ (1) من: ا (*)
(1/93)
وَذَلِكَ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا يَئِسَ مِنْ صَلَاحِهِمْ وَفَلَاحِهِمْ، وَرَأَى أَنَّهُمْ لَا خَيْرَ فِيهِمْ، وَتَوَصَّلُوا إِلَى أَذِيَّتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ وَتَكْذِيبِهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، مِنْ فِعَالٍ وَمَقَالٍ، دَعَا عَلَيْهِمْ دَعْوَةَ غضب [الله عَلَيْهِم (1) ] فَلَبَّى اللَّهُ دَعْوَتَهُ وَأَجَابَ طِلْبَتَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهله من الكرب الْعَظِيم ". وَقَالَ تَعَالَى: " ونوحا إِذْ نَادَى من قبل فاستجبنا لَهُ فنجيناه وَأَهله من الكرب الْعَظِيم ". وَقَالَ تَعَالَى " قَالَ رب إِن قوم كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا ونَجِّنِي وَمَنْ معى من الْمُؤمنِينَ " وَقَالَ تَعَالَى: " فَدَعَا ربه أَنى مغلوب فانتصر " وَقَالَ تَعَالَى: " قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ". وَقَالَ تَعَالَى: " مِمَّا خطيأتهم أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا * فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا * وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كفَّارًا ". فَاجْتمع عَلَيْهِم خطاياهم من كفرهم وفجورهم ودعوة نَبِيّهم عَلَيْهِم. فَعِنْدَ ذَلِك أمره الله تَعَالَى أَن يصنع الْفلك، وهى السَّفِينَة الْعَظِيمَة الَّتِى لم يكن لَهَا نَظِير قبلهَا وَلَا يكون بعْدهَا مثلهَا. وَقدم الله تَعَالَى إِلَيْهِ أَنه إِذا جَاءَ أمره، وَحل بهم بَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، أَنه لَا يعاوده فيهم وَلَا يُرَاجِعهُ ; فَإِنَّهُ لَعَلَّه قد تُدْرِكهُ رقة على قومه عِنْد مُعَاينَة الْعَذَاب النَّازِل بهم، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة. وَلِهَذَا قَالَ: " وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ. __________ (1) من: ا (*)
(1/94)
" وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قومه سخروا مِنْهُ " أَيْ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ اسْتِبْعَادًا لِوُقُوعِ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ، " قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُم كَمَا تسخرون " أَيْ نَحْنُ الَّذِينَ نَسْخَرُ مِنْكُمْ وَنَتَعَجَّبُ مِنْكُمْ فِي اسْتِمْرَارِكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ وَعِنَادِكُمُ الَّذِي يَقْتَضِي وُقُوعَ الْعَذَابِ بِكُمْ وَحُلُولَهُ عَلَيْكُمْ. " فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقيم ". وَقَدْ كَانَتْ سَجَايَاهُمُ الْكُفْرَ الْغَلِيظَ وَالْعِنَادَ الْبَالِغَ فِي الدُّنْيَا، وَهَكَذَا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهُمْ يَجْحَدُونَ أَيْضا أَن يكون جَاءَهُم رَسُولٌ. كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَعِيل، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يجِئ نوح عَلَيْهِ السَّلَام وَأمته، فَيَقُول الله عزوجل هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ. فَيَقُولُ لِأُمَّتِهِ هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: لَا مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ، فَيَقُولُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَتَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ " وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (1) ". وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ. فَهَذِهِ الْأُمَّةُ تَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ نَبِيِّهَا الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ نُوحًا بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْحَقَّ وَأَمَرَهُ بِهِ، وَأَنَّهُ بَلَّغَهُ إِلَى أُمَّتِهِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَتَمِّهَا، وَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا مِمَّا يَنْفَعُهُمْ فِي دِينِهِمْ إِلَّا وَقَدْ أَمَرَهُمْ بِهِ، وَلَا شَيْئًا مِمَّا قَدْ يَضُرُّهُمْ إِلَّا وَقَدْ نَهَاهُمْ عَنْهُ، وحذرهم مِنْهُ. __________ (1) سُورَة الْبَقَرَة 145 (*)
(1/95)
وَهَكَذَا شَأْنُ جَمِيعِ الرُّسُلِ، حَتَّى إِنَّهُ حَذَّرَ قَوْمَهُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَوَقَّعُ خُرُوجَهُ فِي زَمَانِهِمْ ; حَذَرًا عَلَيْهِمْ وَشَفَقَةً وَرَحْمَةً بِهِمْ. كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ سَالِمٌ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاس فأنثى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: " إِنِّي لَأُنْذِرِكُمُوهُ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمُهُ. لَقَدْ أَنْذَرَهُ نُوحٌ قومه، ولنى أَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ: تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ ". وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ شَيْبَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِ الدَّجَّالِ حَدِيثًا مَا حَدَّثَ بِهِ نَبِيٌّ قومه؟ إِنَّه أَعور، وَإنَّهُ يجِئ مَعَه بمثال الْجنَّة وَالنَّار والتى يَقُول عَلَيْهَا الْجَنَّةُ هِيَ النَّارُ، وَإِنِّي أُنْذِرُكُمْ كَمَا أَنْذَرَ بِهِ نُوحٌ قَوْمَهُ ". لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ: لَمَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، أَمْرَهُ أَنْ يَغْرِسَ شَجَرًا لِيَعْمَلَ مِنْهُ السَّفِينَةَ، فَغَرَسَهُ وَانْتَظَرَهُ مِائَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ نَجَرَهُ فِي مائَة أُخْرَى، وَقيل فِي أَرْبَعِينَ سنة. وَالله أعلم. قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَق عَن الثَّوْريّ: وَكَانَت مِنْ خَشَبِ السَّاجِ، وَقِيلَ مِنَ الصَّنَوْبَرِ وَهُوَ نَص التَّوْرَاة.
(1/96)
قَالَ الثَّوْرِيُّ: وَأَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَ طُولَهَا ثَمَانِينَ ذِرَاعًا، وَأَنْ يُطْلَى ظَاهِرُهَا وَبَاطِنُهَا بِالْقَارِ، وَأَنْ يَجْعَلَ لَهَا جُؤْجُؤًا (1) أَزْوَرَ يَشُقُّ الْمَاءَ. وَقَالَ قَتَادَة: كَانَ طولهَا ثَلَاثمِائَة ذِرَاعٍ فِي عَرْضِ خَمْسِينَ ذِرَاعًا. وَهَذَا الَّذِي فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَا رَأَيْتُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيّ: سِتّمائَة فِي عرض ثَلَاثمِائَة، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَلْفٌ وَمِائَتَا ذِرَاعٍ فِي عَرْضِ سِتِّمِائَةِ ذِرَاعٍ وَقِيلَ كَانَ طُولُهَا أَلْفَيْ ذِرَاعٍ، وَعَرْضُهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ. قَالُوا كُلُّهُمْ: وَكَانَ ارْتِفَاعُهَا ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا، وَكَانَتْ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ كُلُّ وَاحِدَة عشرَة أَذْرُعٍ، فَالسُّفْلَى لِلدَّوَابِّ وَالْوُحُوشِ، وَالْوُسْطَى لِلنَّاسِ، وَالْعُلْيَا لِلطُّيُورِ. وَكَانَ بَابُهَا فِي عَرْضِهَا، وَلَهَا غِطَاءٌ مِنْ فَوْقِهَا مُطْبَقٌ عَلَيْهَا. * * * قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَن اصْنَع الْفلك بأعيننا ووحينا " أَي بأمرنا لَك، وبمرأى من الصنعتك لَهَا، وَمُشَاهَدَتِنَا لِذَلِكَ، لِنُرْشِدَكَ إِلَى الصَّوَابِ فِي صَنْعَتِهَا. فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ، وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذين ظلمُوا إِنَّهُم مغرقون (2) ". فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ بِأَمْرِهِ الْعَظِيمِ الْعَالِي أَنَّهُ إِذَا جَاءَ أمره وَحل بأسه، أَن __________ (1) الجؤجؤ: صدر السَّفِينَة. وفى اجؤجا. والازور: المائل. (2) ا: بِأَن. (م 7 - قصَص الانبياء 1) (*)
(1/97)
يَحْمِلَ فِي هَذِهِ السَّفِينَةِ مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَسَائِرِ مَا فِيهِ رُوحٌ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ وَغَيْرِهَا لِبَقَاءِ نَسْلِهَا، وَأَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ أَهْلَهُ، أَيْ أَهْلَ بَيْتِهِ، إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ، أَيْ إِلَّا مَنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّهُ قَدْ نَفَذَتْ فِيهِ الدَّعْوَةُ الَّتِي لَا تُرَدُّ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ حُلُولُ الْبَأْس الذى لَا يرد. وَأمر أَنه لَا يُرَاجِعَهُ فِيهِمْ إِذَا حَلَّ بِهِمْ مَا يعانيه مِنَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ، الَّذِي قَدْ حَتَّمَهُ عَلَيْهِمُ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ. كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ قَبْلُ. وَالْمُرَادُ بِالتَّنُّورِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَجْهُ الْأَرْضِ، أَيْ نَبَعَتِ الْأَرْضُ مِنْ سَائِرِ أَرْجَائِهَا حَتَّى نَبَعَتِ التَّنَانِيرُ الَّتِي هِيَ مَحَالُّ النَّارِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: التَّنُّورُ عَيْنٌ فِي الْهِنْدِ، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ بِالْكُوفَةِ، وَعَنْ قَتَادَةَ بِالْجَزِيرَةِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: الْمُرَادُ بِالتَّنُّورِ فَلَقُ الصُّبْحِ وَتَنْوِيرُ الْفَجْرِ، أَيْ إِشْرَاقُهُ وَضِيَاؤُهُ. أَيْ عِنْدَ ذَلِكَ فاحمل فِيهِ مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى " حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ، وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ " هَذَا أَمر بِأَنَّهُ (1) عِنْدَ حُلُولِ النِّقْمَةِ بِهِمْ أَنْ يَحْمِلَ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. وَفِي كِتَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَحْمِلَ مِنْ كُلِّ مَا يُؤْكَل سَبْعَة أَزوَاج، وَمَا لَا يُؤْكَل زَوْجَيْنِ ذكر وَأُنْثَى. __________ (1) ا: بِأَن. (*)
(1/98)
وَهَذَا مُغَايِرٌ لِمَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي كِتَابِنَا الْحَقِّ: " اثْنَيْنِ " إِنْ جَعْلَنَا ذَلِكَ مَفْعُولًا بِهِ ; وَأَمَّا إِنْ جَعَلْنَاهُ تَوْكِيدًا لِزَوْجَيْنِ وَالْمَفْعُولُ بِهِ مَحْذُوف فَلَا ينافى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ - وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ مِنَ الطُّيُورِ الدُّرَّةُ (1) ، وَآخِرُ مَا دَخَلَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْحِمَارُ. وَدَخَلَ إِبْلِيسُ مُتَعَلِّقًا بِذَنَبِ الْحِمَارِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن صَالح، حَدَّثَنى لليث، حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمَّا حَمَلَ نُوحٌ فِي السَّفِينَةِ مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، قَالَ أَصْحَابُهُ: وَكَيْفَ نُطَمْئِنُ؟ أَوْ كَيْفَ تَطْمَئِنُّ الْمَوَاشِي وَمَعَنَا الْأَسَدُ؟ فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحُمَّى، فَكَانَتْ أَوَّلَ حُمَّى نَزَلَتْ فِي الْأَرْضِ. ثُمَّ شَكَوُا الْفَأْرَةَ، فَقَالُوا: الْفُوَيْسِقَةُ تُفْسِدُ عَلَيْنَا طَعَامَنَا وَمَتَاعَنَا. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْأَسَدِ فَعَطَسَ، فَخَرَجَتِ الْهِرَّةُ مِنْهُ فَتَخَبَّأَتِ الْفَأْرَةُ مِنْهَا. هَذَا مُرْسَلٌ (2) . وَقَوْلُهُ: " وَأهْلك إِلَّا من سبق عَلَيْهِ القَوْل " أَي من استجيبت فِيهِمُ الدَّعْوَةَ النَّافِذَةَ مِمَّنْ كَفَرَ، فَكَانَ مِنْهُمِ ابْنُهُ " يَامٌ " الَّذِي غَرِقَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. __________ (1) الدرة: ضرب من الببغاوات. وفى الاصل: الذّرة. محرفة. والتصويب من الْحَيَوَان للجاحظ 5 / 151. (2) هَذِه خرافات لَا تنتمي إِلَى الْعلم الصَّحِيح، وأوهام مَا كَانَ ينبغى أَن يلقى إِلَيْهَا ابْن كثير بَالا، وَلكنه كَانَ يسير على مَنْهَج الْجمع مَعَ بَيَان حَالَة مَا يرويهِ. (*)
(1/99)
" وَمَنْ آمَنَ " أَيْ وَاحْمِلْ فِيهَا مَنْ آمَنَ بِكَ مِنْ أُمَّتِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَمَا آمن مَعَه إِلَّا قَلِيل " هَذَا مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ وَالْمُقَامِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَدَعْوَتِهِمُ الْأَكِيدَةِ لَيْلًا وَنَهَارًا بِضُرُوبِ الْمَقَالِ وَفُنُونِ التلطفات والتهديد والوعيد تَارَة، وَالتَّرْغِيب والوعيد أُخْرَى. وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي عِدَّةِ مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ: فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا ثَمَانِينَ نَفْسًا مَعَهُمْ نِسَاؤُهُمْ، وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ كَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ نَفْسًا. وَقِيلَ كَانُوا عَشَرَةً. وَقِيلَ إِنَّمَا كَانُوا نُوحًا وَبَنِيهِ الثَّلَاثَةَ وَكَنَائِنَهُ الْأَرْبَعَ بِامْرَأَةِ " يَامٍ " الذى انخزل وانعزل، وسلك (1) عَن طَرِيقِ النَّجَاةِ فَمَا عَدَلَ إِذْ عَدَلَ. وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، بَلْ هِيَ نَصٌّ فِي أَنَّهُ قَدْ رَكِبَ مَعَهُ [مِنْ] (2) غَيْرِ أَهْلِهِ طَائِفَةٌ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ، كَمَا قَالَ: " ونجنى وَمن معى من الْمُؤمنِينَ ". وَقِيلَ كَانُوا سَبْعَةً. وَأَمَّا امْرَأَةُ نُوحٍ وَهِيَ أَمُّ أَوْلَادِهِ كُلِّهِمْ: وَهُمْ حَامٌ وِسَامٌ، وَيَافِثُ، ويام، ويسميه أَهْلُ الْكِتَابِ كَنْعَانَ وَهُوَ الَّذِي قَدْ غَرِقَ، وعابر، فقد مَاتَت قبل الطوفان، وَقيل إِنَّهَا غَرِقَتْ مَعَ مَنْ غَرِقَ، وَكَانَتْ مِمَّنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ لِكُفْرِهَا. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي السَّفِينَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَفَرَتْ __________ (1) ط: وتسلل. (2) سَقَطت من ط. (*)
(1/100)
بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ أَنَّهَا أُنْظِرَتْ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَالظَّاهِر الاول لقَوْله: " وَلَا نذر على الارض من الْكَافرين ديارًا ". * * * قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي منزلا مُبَارَكًا وَأَنت خير المنزلين ". أمره أَن يحمد ربه على مَا سخر لَهُ من هَذِه السَّفِينَة، فَنَجَّاهُ بهَا وَفتح بَينه وَبَين قومه، وَأقر عينه مِمَّن خَالفه وَكذبه، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " والذى خلق الازواج كلهَا، وَجعل لكم من الْفلك والانعام مَا تَرْكَبُونَ * لتستووا على ظُهُوره ثمَّ تَذكرُوا نعْمَة ربكُم إِذا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ، وَتَقولُوا سُبْحَانَ الذى سخر لنا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين * وَإِنَّا إِلَى رَبنَا لمنقلبون (1) " وَهَكَذَا يُؤْمَرُ بِالدُّعَاءِ فِي ابْتِدَاءِ الْأُمُورِ: أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَأَنْ تَكُونَ عَاقِبَتُهَا مَحْمُودَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ هَاجَرَ: " وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ، وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (2) " وَقَدِ امْتَثَلَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ وَقَالَ: " اركبوا فِيهَا بِسم الله مجريها ومرسلها إِن ربى لغَفُور رَحِيم " أَي على اسْم الله ابْتِدَاء __________ (1) سُورَة الزخرف 12 - 14 (2) سُورَة الاسراء 80. (*)
(1/101)
سَيرهَا وانتهاؤه. " إِن ربى لغَفُور رَحِيم " أَيْ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ، مَعَ كَوْنِهِ غَفُورًا رَحِيمًا، لَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، كَمَا أَحَلَّ بِأَهْلِ الْأَرْضِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ وَعَبَدُوا غَيْرَهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَهِيَ تَجْرِي بهم فِي موج كالجبال " وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَطَرًا لَمْ تَعْهَدْهُ الْأَرْضُ قَبْلَهُ وَلَا تُمْطِرْهُ بَعْدَهُ، كَانَ كَأَفْوَاهِ الْقِرَبِ، وَأَمَرَ الْأَرْضَ فَنَبَعَتْ مِنْ جَمِيعِ فِجَاجِهَا وَسَائِرِ أَرْجَائِهَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: " فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ على ذَات أَلْوَاح ودسر " (1) . والدسر المسامير " تجرى بأعيننا " أَيْ بِحِفْظِنَا وَكَلَاءَتِنَا وَحِرَاسَتِنَا وَمُشَاهَدَتِنَا لَهَا " جَزَاءً لمن كَانَ كفر ". وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ: أَنَّ الطُّوفَانَ كَانَ فِي ثَالِث عشر من شهر آب فِي حِسَاب القبط. وَقَالَ تَعَالَى: " إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَة " أَيِ السَّفِينَةِ " لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَة ". قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: ارْتَفَعَ الْمَاءُ عَلَى أَعلَى جبل فِي الارض (2) خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، وَهُوَ الَّذِي عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقِيلَ ثَمَانِينَ ذِرَاعًا، وَعَمَّ جَمِيعَ الْأَرْضِ طُولَهَا وَالْعَرْضَ، سَهْلَهَا وَحَزْنَهَا، وَجِبَالَهَا وَقِفَارَهَا وَرِمَالَهَا، وَلَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِمَّنْ كَانَ بِهَا مِنَ الْأَحْيَاءِ عَيْنٌ تَطْرِفُ، وَلَا صَغِيرٌ وَلَا كَبِير. __________ (1) سُورَة اقْتَرَبت (2) ط: بالارض (*)
(1/102)
قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: كَانَ أهل ذَلِك الزَّمَان قد ملاوا السَّهْلَ وَالْجَبَلَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: لَمْ تَكُنْ بُقْعَةٌ فِي الْأَرْضِ إِلَّا وَلَهَا مَالِكٌ وَحَائِزٌ. رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. " وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ، يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ، قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ، وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ من المغرفين ". وَهَذَا الابْن هُوَ " يام " أَخُو سَام وَحَام وَيَافث، وَقيل اسْمه كنعان. وَكَانَ كَافِرًا عمل عملا غير صَالح، فَخَالف أَبَاهُ فِي دينه ومذهبه، فَهَلَك مَعَ من هلك. هَذَا وَقد نجا مَعَ أَبِيه الاجانب فِي النّسَب، لما كَانُوا موافقين فِي الدّين والمدهب. " وَقيل يَا أَرض ابلعى ماءك وياسماء أَقْلِعِي، وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ، وَاسْتَوَتْ عَلَى الجودى، وَقيل بعدا للْقَوْم الظَّالِمين ". أَيْ لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَلَمْ يبْق بهَا (1) أحد مِمَّن عبد غير الله عزوجل، أَمر الله الارض أَن تبتلع (2) مَاءَهَا، وَأَمَرَ السَّمَاءَ أَنْ تُقْلِعَ أَيْ تُمْسِكُ عَنِ الْمَطَرِ، " وَغِيضَ الْمَاءُ " أَيْ نَقَصَ عَمَّا كَانَ، " وَقُضِيَ الْأَمْرُ " أَيْ وَقَعَ بِهِمُ الَّذِي كَانَ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وَقَدَرِهِ ; مِنْ إحلاله بهم ماحل بهم. __________ (1) ط: مِنْهَا. (2) ا: تبلع. (*)
(1/103)
" وَقيل بعدا للْقَوْم الظَّالِمين " أَيْ نُودِيَ عَلَيْهِمْ بِلِسَانِ الْقُدْرَةِ: بُعْدًا لَهُمْ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: " فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كذبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُم كَانُوا قوما عمين (1) ". وَقَالَ تَعَالَى: " فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُنْذرين " (2) . وَقَالَ تَعَالَى: " وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (3) ". وَقَالَ تَعَالَى: " فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبك لَهو الْعَزِيز الْحَكِيم (4) ". وَقَالَ تَعَالَى: " فأنجيناه وَأَصْحَاب السَّفِينَة وجعلناها آيَة للْعَالمين " وَقَالَ تَعَالَى: " ثمَّ أغرقنا الآخرين ". وَقَالَ: " وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكيف كَانَ عَذَابي وَنذر * وَلَقَد يسرنَا الْقُرْآن للذّكر فَهَل من مدكر (5) ". وَقَالَ تَعَالَى: " مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلم يَجدوا لَهُم من __________ (1) من سُورَة الاعراف 64 (2) من سُورَة يُونُس 73 (3) من سُورَة الانبياء 77 (4) من سُورَة الشُّعَرَاء 119 - 122 (5) سُورَة الْقدر (*)
(1/104)
دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا * وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كفَّارًا (1) " وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ - دَعْوَتَهُ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامَانِ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو مُحَمَّد بن أَبى حَاتِم فِي تقسيريهما مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ قَائِد مولى عبد الله ابْن أَبِي رَافِعٍ، أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " فَلَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ أَحَدًا لِرَحِمِ أُمَّ الصَّبِيِّ! ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَكَثَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ - يَعْنِي إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا - وَغَرَسَ مِائَةَ سَنَةٍ الشَّجَرَ، فَعَظُمَتْ وَذَهَبَتْ كُلَّ مَذْهَبٍ، ثُمَّ قَطَعَهَا ثُمَّ جَعَلَهَا سَفِينَةً، وَيَمُرُّونَ عَلَيْهِ وَيَسْخَرُونَ مِنْهُ، وَيَقُولُونَ: تَعْمَلُ سَفِينَةً فِي الْبَرِّ كَيْفَ تَجْرِي؟ قَالَ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ. فَلَمَّا فَرَغَ وَنَبَعَ الْمَاءُ وَصَارَ السِّكَكِ خَشِيَتْ أُمُّ الصَّبِيِّ عَلَيْهِ وَكَانَتْ تُحِبُّهُ حبا شَدِيدا فَخرجت بِهِ إِلَى الْجَبَلِ حَتَّى بَلَغَتْ ثُلْثَهُ، فَلَمَّا بَلَغَهَا الْمَاءُ خَرَجَتْ بِهِ حَتَّى اسْتَوَتْ عَلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَاءُ رَقَبَتَهَا رَفَعَتْهُ بِيَدَيْهَا فَغَرِقَا، فَلَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَحَدًا لِرَحِمِ أم الصبى! ". __________ (1) سُورَة نوح (*)
(1/105)
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، شَبِيهٌ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ. وَأُخْرَى بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا مُتَلَقًّى عَنْ مِثْلِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. * * * وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبْقِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا. فَكَيْفَ يَزْعُمُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ عُوَجَ بْنَ عُنُقَ - وَيُقَالُ ابْنَ عِنَاقَ - كَانَ مَوْجُودًا مِنْ قَبْلِ نُوحٍ إِلَى زَمَانِ مُوسَى. وَيَقُولُونَ كَانَ كَافِرًا مُتَمَرِّدًا جَبَّارًا عَنِيدًا. وَيَقُولُونَ كَانَ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ، بل وَلدته أمه بِنْتُ آدَمَ مِنْ زِنًا، وَأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ طُولِهِ السَّمَكَ مِنْ قَرَارِ الْبِحَارِ وَيَشْوِيهِ فِي عَيْنِ الشَّمْسِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِنُوحٍ وَهُوَ فِي السَّفِينَة: مَا هَذِه الْقَصعَة الَّتِي لَكَ؟ وَيَسْتَهْزِئُ بِهِ. وَيَذْكُرُونَ أَنَّهُ كَانَ طُولُهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ ذِرَاعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ ذِرَاعًا وَثُلُثًا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْهَذَيَانَاتِ الَّتِي لَوْلَا أَنَّهَا مُسَطَّرَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ التَّفَاسِيرِ وَغَيْرِهَا مِنَ التَّوَارِيخِ وَأَيَّامِ النَّاسِ (1) ، لَمَا تَعَرَّضْنَا لِحِكَايَتِهَا، لِسَقَاطَتِهَا وَرَكَاكَتِهَا. ثُمَّ إِنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ. أَمَّا الْمَعْقُولُ: فَكَيْفَ يَسُوغُ فِيهِ أَنْ يُهْلِكَ اللَّهُ وَلَدَ نُوحٍ لِكُفْرِهِ، وَأَبُوهُ نَبِيُّ الْأُمَّةِ وَزَعِيمُ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَلَا يُهْلِكُ عُوجَ بْنَ عُنُقَ، وَيُقَالُ عَنَاقُ، وَهُوَ أظلم وأطغى على مَا ذكرُوا؟ __________ (1) الاصل: وَأَيَّام النام (*)
(1/106)
وَكَيْفَ لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْهُمْ أَحَدًا وَلَا أُمَّ الصَّبِيِّ وَلَا الصَّبِيَّ، وَيَتْرُكُ هَذَا الدَّعِيَّ (1) الْجَبَّارَ الْعَنِيدَ الْفَاجِرَ، الشَّدِيدَ الْكَافِرَ، الشَّيْطَانَ الْمَرِيدَ عَلَى مَا ذَكَرُوا؟ وَأَمَّا الْمَنْقُولُ فَقَدْ قَالَ الله تَعَالَى: " ثمَّ أغرقنا الآخرين " وَقَالَ: " رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ ديارًا ". ثُمَّ هَذَا الطُّولُ الَّذِي ذَكَرُوهُ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ (2) الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ ". فَهَذَا نَصُّ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ الْمَعْصُومِ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى " إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى " أَنَّهُ لَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ، أَيْ لَمْ يَزَلِ النَّاسُ فِي نُقْصَانٍ فِي طُولِهِمْ مِنْ آدَمَ إِلَى يَوْمِ إِخْبَارِهِ بِذَلِكَ وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ مَنْ كَانَ أَطْوَلَ مِنْهُ. فَكيف يتْرك هَذَا وَيذْهل عَنهُ، ويصار گلى أَقْوَالِ الْكَذَبَةِ الْكَفَرَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، الَّذِينَ بَدَّلُوا كُتَبَ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةَ وَحَرَّفُوهَا وَأَوَّلُوهَا وَوَضَعُوهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا؟ فَمَا ظَنُّكَ بِمَا هُمْ يستقلون بنقله أَو يؤتمنون عَلَيْهِ [وهم الخونة والكذبة عَلَيْهِم لعائن الله التابعة إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (3) ] وَمَا أَظُنُّ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ عَنْ عُوجَ بْنِ عَنَاقَ إِلَّا اخْتِلَاقًا مِنْ بَعْضِ زَنَادِقَتِهِمْ وَفُجَّارِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا أَعْدَاءَ الانبياء. وَالله أعلم. * * * __________ (1) ا: الْمُدعى. (2) ا: قزل. (3) من ا. (*)
(1/107)
ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُنَاشَدَةَ نُوحٍ رَبَّهُ فِي وَلَده، وسؤاله لَهُ عَن غرفه على وَجه الاستعلام والاستكشاف. وَوَج السُّؤَالِ: أَنَّكَ وَعَدْتَنِي بِنَجَاةِ أَهْلِي مَعِي وَهُوَ مِنْهُمْ وَقَدْ غَرِقَ؟ فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أهلك، أَي الَّذين وعدت بنجاتهم. أَي أَنا قُلْنَا لَكَ: " وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْل مِنْهُم " فَكَانَ هَذَا مِمَّنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ سيغرق بِكُفْرِهِ، زولهذا سَاقَتْهُ الْأَقْدَارُ إِلَى أَنِ انْحَازَ عَنْ حَوْزَةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، فَغَرِقَ مَعَ حِزْبِهِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: " قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَاب أَلِيم ". هَذَا أَمْرٌ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا نَضَبَ الْمَاءُ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَأَمْكَنَ السَّعْيُ فِيهَا وَالِاسْتِقْرَارُ عَلَيْهَا، أَنْ يَهْبِطَ مِنَ السَّفِينَةِ الَّتِي كَانَتْ قَدِ اسْتَقَرَّتْ بَعْدَ سَيْرِهَا الْعَظِيمِ عَلَى ظهر حَبل الجودى، وَهُوَ جبل بِأَرْض الجزيرة مَشْهُور، " بِسَلام منا وبركات " أَيِ اهْبِطْ سَالِمًا مُبَارَكًا عَلَيْكَ، وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ سَيُولَدُ بَعْدُ، أَيْ مِنْ أَوْلَادِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَسْلًا وَلَا عَقِبًا سِوَى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ تَعَالَى: " وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ البَاقِينَ "، فَكُلُّ مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ الْيَوْمَ مِنْ سَائِر أَجنَاس بنى آدم، ينسبون إِلَى أَوْلَادِ نُوحٍ الثَّلَاثَةِ وَهُمْ: سَامٌ، وَحَامٌ، وَيَافِثُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ
(1/108)
الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " سَامٌ أَبُو الْعَرَبِ، وَحَامٌ أَبُو الْحَبَشِ، وَيَافِثُ أَبُو الرُّومِ ". وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ بِشْرِ بْنِ مُعَاذٍ الْعَقَدِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالرُّومِ هُنَا الرُّومُ الْأُوَلُ وَهُمُ اليونان المنتسبون إِلَى رومى بن لبطى بْنِ يُونَانَ بْنِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ قَالَ: وَلَدُ نُوحٍ ثَلَاثَةٌ: سَامٌ وَيَافِثُ وَحَامٌ، وَوَلَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِه الثَّلَاثَة، فَوَلَدَ سَامٌ: الْعَرَبَ وَفَارِسَ وَالرُّومَ. وَوَلَدَ يَافِثُ: النرك والصقالبة وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. وَوَلَدَ حَامٌ: الْقِبْطَ وَالسُّودَانَ وَالْبَرْبَرَ. قُلْتُ وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ عَبَّادٍ أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَا: حَدثنَا مُحَمَّد بن يزِيد ابْن سِنَانٍ الرَّهَاوِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وُلِدَ لِنُوحٍ: سَامٌ وَحَامٌ وَيَافِثُ، فَوُلِدَ لِسَامٍ: الْعَرَبُ وَفَارِسُ وَالرُّومُ وَالْخَيْرُ فِيهِمْ. وَوُلِدَ لِيَافِثَ: يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَالتُّرْكُ وَالصَّقَالِبَةُ وَلَا خَيْرَ فِيهِمْ. وَوُلِدَ لِحَامٍ: الْقِبْطُ وَالْبَرْبَرُ وَالسُّودَانُ ".
(1/109)
ثمَّ قَالَ: لَا نعلم يُرْوَى مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاحْتَمَلُوا حَدِيثَهُ. وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ مُرْسَلًا وَلَمْ يُسْنِدْهُ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مِنْ قَوْلِ سَعِيدٍ. قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ، هُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ سَعِيدٍ قَوْلُهُ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ مِثْلُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ أَبُو فَرْوَةَ الرَّهَاوِيُّ ضَعِيفٌ بِمَرَّةٍ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُولَدْ لَهُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ الْأَوْلَادُ إِلَّا بَعْدَ الطُّوفَانِ، وَإِنَّمَا وُلِدَ لَهُ قَبْلَ السَّفِينَةِ كَنْعَانُ الَّذِي غَرِقَ، وَعَابِرُ مَاتَ قَبْلَ الطُّوفَانِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الاولاد الثَّلَاثَةَ كَانُوا مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ هُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَأُمُّهُمْ وَهُوَ نَصُّ التَّوْرَاةِ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ " حَامًا " وَاقَعَ امْرَأَتَهُ فِي السَّفِينَةِ، فَدَعَا عَلَيْهِ نُوحٌ أَنْ تُشَوَّهَ خِلْقَةُ نُطْفَتِهِ، فَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ أَسْوَدُ وَهُوَ كَنْعَانُ بْنُ حَامٍ جَدُّ السُّودَانِ. وَقِيلَ بَلْ رَأَى أَبَاهُ نَائِمًا وَقَدْ بَدَتْ عَوْرَتُهُ فَلَمْ يَسْتُرْهَا وَسَتَرَهَا أَخَوَاهُ، فَلِهَذَا دَعَا عَلَيْهِ أَنْ تُغَيَّرَ نُطْفَتُهُ، وَأَنْ يَكُونَ أَوْلَادُهُ عَبِيدًا لِإِخْوَتِهِ (1) . وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ لِعِيسَى بن __________ (1) وَهَذَا من خرافات القدماء، وَلَا يعول عَلَيْهِ. (*)
(1/110)
مَرْيَمَ: لَوْ بَعَثْتَ لَنَا رَجُلًا شَهِدَ السَّفِينَةَ فَحَدَّثَنَا عَنْهَا. قَالَ: فَانْطَلَقَ بِهِمْ حَتَّى أَتَى إِلَى كَثِيبٍ مِنْ تُرَابٍ، فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ ذَلِك التُّرَاب بكفه، وَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا هَذَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: هَذَا كَعْبُ حَامَ بْنِ نُوحٍ. قَالَ: وَضَرَبَ الْكَثِيبَ بِعَصَاهُ وَقَالَ: قُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَإِذا هُوَ قَائِم ينْقض التُّرَابَ عَنْ رَأْسِهِ قَدْ شَابَ. فَقَالَ لَهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَكَذَا هَلَكْتَ: قَالَ لَا، وَلَكِنِّي مِتُّ وَأَنَا شَابٌّ، وَلَكِنِّي ظَنَنْتُ أَنَّهَا السَّاعَةُ فَمِنْ ثَمَّ شِبْتُ. قَالَ: حَدِّثْنَا عَنْ سَفِينَةِ نُوحٍ. قَالَ: كَانَ طُولُهَا أَلْفَ ذِرَاعٍ وَمِائَتَيْ ذِرَاعٍ، وَعَرْضُهَا سِتُّمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَكَانَتْ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ: فَطَبَقَةٌ فِيهَا الدَّوَابُّ وَالْوَحْشُ، وَطَبَقَةٌ فِيهَا الْإِنْسُ، وَطَبَقَةٌ فِيهَا الطَّيْرُ. فَلَمَّا كَثُرَ أَرْوَاثُ الدَّوَابّ أوحى الله عزوجل إِلَى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنِ اغْمِزْ ذَنَبَ الْفِيلِ، فَغَمَزَهُ فَوَقَعَ مِنْهُ خِنْزِيرٌ وَخِنْزِيرَةٌ، فَأَقْبَلَا عَلَى الرَّوْثِ. وَلَمَّا وَقَعَ الْفَأْرُ يَخْرِزُ السَّفِينَةَ بقرضه، أوحى الله عزوجل نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنِ اضْرِبْ بَيْنَ عَيْنَيِ الْأَسَدِ، فَخَرَجَ مِنْ مَنْخَرِهِ سِنَّوْرٌ وَسِنَّوْرَةٌ فَأَقْبَلَا عَلَى الْفَأْرِ. فَقَالَ لَهُ عِيسَى: كَيْفَ عَلِمَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الْبِلَادَ قَدْ غَرِقَتْ؟ قَالَ: بَعَثَ الْغُرَابَ يَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ فَوَجَدَ جِيفَةً فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَدَعَا عَلَيْهِ بِالْخَوْفِ فَلِذَلِكَ لَا يَأْلَفُ الْبُيُوتَ. قَالَ: ثُمَّ بَعَثَ الْحَمَامَةَ فَجَاءَتْ بورق زيتون بمنقارها وطين برجلها، فَعَلِمَ أَنَّ الْبِلَادَ قَدْ غَرِقَتْ فَطَوَّقَهَا الْخُضْرَةَ الَّتِي فِي عُنُقِهَا، وَدَعَا لَهَا أَنْ تَكُونَ فِي أُنْسٍ وَأَمَانٍ، فَمِنْ ثَمَّ تَأْلَفُ الْبُيُوتَ. قَالَ: فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَنْطَلِقُ بِهِ إِلَى أَهْلِينَا فَيَجْلِسُ مَعَنَا وَيُحَدِّثُنَا؟ قَالَ: كَيْفَ يَتْبَعُكُمْ مَنْ لَا رِزْقَ لَهُ؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُ: عُدْ بِإِذْنِ اللَّهِ. فَعَادَ تُرَابًا.
(1/111)
وَهَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ جِدًّا (1) . وَرَوَى عِلْبَاءُ بْنُ أَحْمَرَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ ثَمَانُونَ رَجُلًا مَعَهُمْ أَهْلُوهُمْ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا فِي السَّفِينَةِ مِائَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا، وَأَنَّ اللَّهَ وَجَّهَ السَّفِينَةَ إِلَى مَكَّةَ فَدَارَتْ بِالْبَيْتِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ وَجَّهَهَا إِلَى الْجُودِيِّ فَاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ، فَبَعَثَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْغُرَابَ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِ الْأَرْضِ، فَذَهَبَ فَوَقَعَ عَلَى الْجِيَفِ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ، فَبَعَثَ الْحَمَامَةَ فَأَتَتْهُ بِوَرَقِ الزَّيْتُونِ وَلَطَّخَتْ رِجْلَيْهَا بِالطِّينِ، فَعَرَفَ نُوحٌ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ نَضَبَ، فَهَبَطَ إِلَى أَسْفَلِ الْجُودِيِّ فَابْتَنَى قَرْيَةً وَسَمَّاهَا ثَمَانِينَ، فَأَصْبَحُوا ذَاتَ يَوْمٍ وَقَدْ تَبَلْبَلَتْ أَلْسِنَتُهُمْ عَلَى ثَمَانِينَ لُغَةً، إِحْدَاهَا الْعَرَبيَّة. وَكَانَ بَعْضُهُمْ لَا يَفْقَهُ كَلَامَ بَعْضٍ، فَكَانَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَام يعبر عَنْهُم. وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: رَكِبُوا فِي السَّفِينَةِ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ (2) ، فَسَارُوا مِائَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا وَاسْتَقَرَّتْ بِهِمْ عَلَى الْجُودِيِّ شَهْرًا. وَكَانَ خُرُوجُهُمْ مِنَ السَّفِينَةِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنَ الْمُحَرَّمِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ خَبَرًا مَرْفُوعًا يُوَافِقُ هَذَا، وَأَنَّهُمْ صَامُوا يَوْمَهُمْ ذَلِكَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ حَبِيبٍ الْأَزْدِيُّ، عَنْ أَبِيهِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ شِبْلٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُنَاسٍ مِنَ الْيَهُودِ وَقَدْ صَامُوا يَوْم عَاشُورَاء، فَقَالَ __________ (1) بل هِيَ أساطير مختلقة لَا سَبِيل لَهَا إِلَى الصِّحَّة. (2) وَمن أَيْن لِقَتَادَة هَذَا الْعلم الْقَدِيم، وَمَعْلُوم أَن الشُّهُور الْعَرَبيَّة إِنَّمَا عرفهَا الْعَرَب بعد الطوفان بِزَمَان بعيد. (*)
(1/112)
مَا هَذَا الصَّوْمِ؟ فَقَالُوا: هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْغَرَقِ، وَغَرِقَ فِيهِ فِرْعَوْن، وَهَذَا الْيَوْم اسْتَوَت فِيهِ السَّفِينَة على الجودى، فصامه نوح ومُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام شكرا لله عزوجل، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى وَأَحَقُّ بِصَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ " وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمه، وَمن كَانَ مِنْكُم قد أصَاب من غَد أَهْلِهِ فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ". وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَالْمُسْتَغْرَبُ ذِكْرُ نُوحٍ أَيْضًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْجَهَلَةِ أَنَّهُمْ أَكَلُوا مِنْ فُضُولِ أَزْوَادِهِمْ، وَمِنْ حُبُوبٍ كَانَتْ مَعَهُمْ قَدِ اسْتَصْحَبُوهَا، وَطَحَنُوا الْحُبُوبَ يَوْمَئِذٍ، وَاكْتَحَلُوا بِالْإِثْمِدِ لِتَقْوِيَةِ أَبْصَارهم لما انهارت مِنَ الضِّيَاءِ بَعْدَ مَا كَانُوا فِي ظُلْمَةِ السَّفِينَة - فَكل هَذَا لَا يَصح فِيهِ شئ، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ فِيهِ آثَارٌ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا وَلَا يُقْتَدَى بِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ ذَلِكَ الطُّوفَانَ - أَرْسَلَ رِيحًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَسَكَنَ الْمَاءُ وَانْسَدَّتْ يَنَابِيعُ الْأَرْضِ، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْقُصُ وَيَغِيضُ وَيُدْبِرُ، وَكَانَ اسْتِوَاءُ الْفُلْكِ [عَلَى الْجُودِيِّ (1) ] فِيمَا يَزْعُمُ أهل التَّوْرَاة - فِي الشَّهْر السَّابِع لسبع عشرَة لَيْلَةً مَضَتْ مِنْهُ. وَفِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ الْعَاشِرِ رُئِيَتْ رُءُوسُ الْجِبَالِ. فَلَمَّا مَضَى بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا فَتَحَ نُوحٌ كَوَّةَ الْفُلْكِ الَّتِي صَنَعَ فِيهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ الْغُرَابَ لينْظر لَهُ مَا فعل المَاء __________ (1) من ا (م 8 - قصَص الانبياء 1) (*)
(1/113)
فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ الْحَمَامَةَ فَرَجَعَتْ إِلَيْهِ لم يجد لرجلها مَوْضِعًا، فَبَسَطَ يَدَهُ لِلْحَمَامَةِ فَأَخَذَهَا فَأَدْخَلَهَا، ثُمَّ مَضَتْ سَبْعَةُ أَيَّامٍ ثُمَّ أَرْسَلَهَا لِتَنْظُرَ لَهُ مَا فعل المَاء فَلم ترجع، فَرَجَعَتْ حِينَ أَمْسَتْ وَفِي فِيهَا وَرَقُ زَيْتُونَةٍ، فَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ قَلَّ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ. ثُمَّ مَكَثَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ أَرْسَلَهَا فَلَمْ تَرْجِعْ إِلَيْهِ، فَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّ الْأَرْضَ قَدْ بَرَزَتْ، فَلَمَّا كَمَلَتِ السَّنَةُ فِيمَا بَيْنَ أَنْ أَرْسَلَ اللَّهُ الطُّوفَانَ إِلَى أَنْ أَرْسَلَ نُوحٌ الْحَمَامَةَ وَدَخَلَ يَوْمٌ وَاحِدٌ مِنَ الشَّهْر الاول من سنة اثْنَيْنِ، بَرَزَ وَجْهُ الْأَرْضِ، وَظَهَرَ الْبَرُّ وَكَشَفَ نُوحٌ غطاء الْفلك. وَهَذَا الذى ذكره ابْن إِسْحَق هُوَ بِعَيْنِهِ مَضْمُونُ سِيَاقِ التَّوْرَاةِ الَّتِي بِأَيْدِي أهل الْكتاب. وَقَالَ ابْن إِسْحَق: وفى الشَّهْر الثَّانِي من سنة اثْنَيْنِ فِي سِتّ وَعشْرين لَيْلَة مِنْهُ " قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثمَّ يمسهم منا عَذَاب أَلِيم ". وَفِيمَا ذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ نُوحًا قَائِلًا لَهُ: اخْرُجْ مِنَ الْفُلْكِ أَنْتَ وَامْرَأَتُكَ وَبَنُوكَ وَنِسَاءُ بَنِيكَ مَعَكَ، وَجَمِيعُ الدَّوَابِّ الَّتِى مَعَك، ولينموا وليكثروا (2) فِي الْأَرْضِ. فَخَرَجُوا وَابْتَنَى نُوحٌ مَذْبَحًا لِلَّهِ عزوجل وَأَخَذَ مِنْ جَمِيعِ الدَّوَابِّ الْحَلَالِ وَالطَّيْرِ الْحَلَالِ فذبحها قربانا إِلَى الله عزوجل وَعَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ لَا يُعِيدَ الطُّوفَانَ على أهل الارض. وَجعل تذكارا لميثاقه (2) إِلَيْهِ الْقَوْسُ الَّذِي فِي الْغَمَامِ، وَهُوَ قَوْسُ قزَح الذى روى عَن __________ (1) ط: وليكبروا (2) ا: وَجعل تذكار مِيثَاق (*)
(1/114)
ابْن عَبَّاس أَنه أَمَام مِنَ الْغَرَقِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ قَوْسٌ بِلَا وَتَرٍ، أَيْ أَنَّ هَذَا الْغَمَامَ لَا يُوجَدُ مِنْهُ طُوفَانٌ كَأَوَّلِ مَرَّةٍ. وَقَدْ أَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ مِنْ جَهَلَةِ الْفُرْسِ وَأَهْلِ الْهِنْد وتوع الطُّوفَانِ، وَاعْتَرَفَ بِهِ آخَرُونَ مِنْهُمْ وَقَالُوا: إِنَّمَا كَانَ بِأَرْضِ بَابِلَ وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْنَا. قَالُوا: وَلَمْ نَزَلْ نَتَوَارَثُ الْمُلْكَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، من لدن كيومرث - بعنون آدَمَ - إِلَى زَمَانِنَا هَذَا. وَهَذَا قَالَهُ مَنْ قَالَهُ مِنْ زَنَادِقَةِ الْمَجُوسِ عُبَّادِ النِّيرَانِ وَأَتْبَاعِ الشَّيْطَانِ. وَهَذِهِ سَفْسَطَةٌ مِنْهُمْ وَكُفْرٌ فَظِيعٌ وَجَهْلٌ بليغ، ومكابرة للمحسوسات، وَتَكْذيب لرب الارض وَالسَّمَوَات. وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ النَّاقِلُونَ عَنْ رُسُلِ الرَّحْمَنِ، مَعَ مَا تَوَاتَرَ عِنْدَ النَّاسِ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ، عَلَى وُقُوعِ الطُّوفَانِ، وَأَنَّهُ عَمَّ جَمِيعَ الْبِلَادِ، وَلَمْ يُبْقِ اللَّهُ أَحَدًا مِنْ كَفَرَةِ الْعِبَادِ ; اسْتِجَابَةً لِدَعْوَةِ نَبِيِّهِ الْمُؤَيِّدِ الْمَعْصُومِ، وَتَنْفِيذًا لِمَا سَبَقَ فِي الْقَدَرِ الْمَحْتُومِ. ذِكْرُ شئ من أَخْبَار نوح نَفسه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا " (1) . قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَلِبَاسِهِ وَشَأْنِهِ كُلِّهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَة __________ (1) من الْآيَة: 3 من سُورَة الاسراء. (*)
(1/115)
عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْد أَن يَأْكُل الاكلة فيحمده عَلَيْهَا أَبُو يَشْرَبُ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا ". وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ [أَبِي] أُسَامَةَ (1) . وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّكُورَ هُوَ الَّذِي يَعْمَلُ بِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ ; فَإِنَّ الشُّكْرَ (2) يَكُونُ بِهَذَا وَبِهَذَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلَاثَةً * يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحَجَّبَا ذِكْرُ صَوْمِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: بَابُ صِيَامِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِي فِرَاسٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " صَامَ نُوحٌ الدَّهْرَ إِلَّا يَوْم عيد الْفطر وَيَوْم الاضحى ". وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْن ماجة عَن طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ بِإِسْنَادِهِ وَلَفْظِهِ. وَقد قَالَ الطَّبَرَانِيّ: حَدثنَا أبوالزنباع روح بن فرج، حَدثنَا عمر بْنُ خَالِدٍ الْحَرَّانَيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبى قَتَادَة، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رَبَاحٍ أَبِي فِرَاسٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " صَامَ نُوحٌ الدَّهْرَ إِلَّا يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى، وَصَامَ دَاوُدُ نِصْفَ الدَّهْرِ، وَصَامَ إِبْرَاهِيمُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، صَامَ الدَّهْرَ وَأَفْطَرَ الدَّهْر ". __________ (1) سَقَطت من ط. (2) ا: الشكُور. (*)
(1/116)
ذكر حجه عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ زَمْعَةَ - هُوَ ابْن أَبى صَالح - عَن سَلمَة بن دهران (1) ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَتَى وَادِي عُسْفَانَ قَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ أَيُّ وَادٍ هَذَا؟ " قَالَ هَذَا وَادِي عُسْفَانَ. قَالَ: " لقد مر بِهَذَا نوح وَهود وَإِبْرَاهِيم على بكران (2) لَهُمْ حُمْرٍ خَطْمُهُمُ اللِّيفُ، أَزُرُهُمُ الْعَبَاءُ وَأَرْدِيَتُهُمُ النِّمَارُ (3) يَحُجُّونَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ ". فِيهِ غَرَابَةٌ. ذِكْرُ وَصيته لوَلَده عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الصَّقْعَبِ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ - قَالَ حَمَّادٌ: أَظُنُّهُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَجُلٌ من أهل الْبَادِيَة عَلَيْهِ جُبَّة سيحان مَزْرُورَةٌ بِالدِّيبَاجِ فَقَالَ: " أَلَا إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا قَدْ وَضَعَ كُلَّ فَارِسٍ ابْنِ فَارِسٍ، أَوْ قَالَ: يُرِيدُ أَنْ يَضَعَ كُلَّ فَارِسٍ ابْنِ فَارس، وَرفع كل رَاع ابْن رَاعٍ ". قَالَ: فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَجَامِعِ جُبَّتِهِ وَقَالَ: " أَلَّا أَرَى عَلَيْكَ لِبَاسَ مَنْ لَا يَعْقِلُ! " ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِابْنِهِ: إِنِّي قَاصٌّ عَلَيْكَ وَصِيَّة (4) ; __________ (1) ط: وهرام. (2) البكران: النوق الْفتية (3) النمار: برود من صوف (4) ا: الْوَصِيَّة (*)
(1/117)
آمُرُكَ بِاثْنَتَيْنِ وَأَنْهَاكَ عَنِ اثْنَتَيْنِ: آمُرُكَ بِلَا إِلَه إِلَّا الله، فَإِن السَّمَوَات السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ رَجَحَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَلَوْ أَن السَّمَوَات السَّبع والارضين السَّبع كن حَلقَة مُبْهمَة (1) ضمتهن لَا إِلَه إِلَّا الله، وبسبحان الله وَبِحَمْدِهِ. فَإِن بهَا صلات كل شئ، وَبِهَا يَرْزُقُ الْخَلْقُ. وَأَنْهَاكَ عَنِ الشِّرْكِ وَالْكِبْرِ " قَالَ: يقلت - أَوْ قِيلَ - يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الشِّرْكُ قد عَرفْنَاهُ، فَلَمَّا الْكِبْرُ؟ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا نَعْلَانِ حَسَنَتَانِ لَهُمَا شرا كَانَ حَسَنَانِ؟ قَالَ: " لَا " قَالَ: هُوَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا حُلَّةٌ يَلْبَسُهَا؟ قَالَ " لَا " قَالَ: هُوَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا دَابَّةٌ يَرْكَبُهَا؟ قَالَ: " لَا " قَالَ: هُوَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا أَصْحَابٌ يَجْلِسُونَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: " لَا " قلت - أَو قِيلَ - يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا الْكِبْرُ؟ قَالَ: " سفه الْحق وغمط (2) النَّاسِ ". وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ. وَرَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بن سُلَيْمَان، عَن مُحَمَّد ابْن إِسْحَق، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ فِي وَصِيَّةِ نُوحٍ لِابْنِهِ: أوصيك بِخَصْلَتَيْنِ وَأَنْهَاكَ عَنْ خَصْلَتَيْنِ "، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ عَنْ مُحَمَّدِ بن إِسْحَق، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، كَمَا رَوَاهُ أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ. وَالله أعلم. __________ (1) المبهمة: المصمتة. (2) ا: وَغَمص (*)
(1/118)
وَيَزْعُمُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لما ركب [فِي (1) ] السَّفِينَةَ - كَانَ عُمُرُهُ سِتَّمِائَةِ سَنَةٍ. وَقَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَزَادَ: وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ نَظَرٌ. ثُمَّ إِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ فَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ. فَإِنَّ الْقُرْآنَ يَقْتَضِي أَنَّ نُوحًا مَكَثَ فِي قَوْمِهِ بَعْدَ الْبِعْثَةِ وَقَبْلَ الطُّوفَانِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاما فَأَخذهُم الطوفان وهم ظَالِمُونَ. ثُمَّ اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَإِن كَانَ مَا ذكر مَحْفُوظًا عَن ابْن عَبَّاس - مِنْ أَنَّهُ بُعِثَ وَلَهُ أَرْبَعُمِائَةٍ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَأَنَّهُ عَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً - فَيَكُونُ قَدْ عَاشَ عَلَى هَذَا أَلْفَ سَنَةٍ وَسَبْعَمِائَةٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَأَمَّا قَبْرُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قروى ابْن جرير والازرقي عَن عبد الرَّحْمَن ابْن سابط أَو غسيره مِنَ التَّابِعَيْنِ مُرْسَلًا، أَنَّ قَبْرَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَهَذَا أَقْوَى وَأَثْبَتُ مِنَ الَّذِي يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، مِنْ أَنَّهُ بِبَلْدَةٍ بِالْبِقَاعِ تُعْرَفُ الْيَوْمَ بِكَرْكِ نُوحٍ، وَهُنَاكَ جَامع قد بنى بِسَبَب ذَلِك فِيمَا ذكر. وَالله أعلم. __________ (1) من ا (2) ا: سَبْعمِائة. (*)
(1/119)
وَيُقَالُ إِنَّ هُودًا هُوَ عَابِرُ بْنِ شَالَخَ بْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَيُقَالُ هُودُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاح الْجَارُودِ بْنِ عَادِ بْنِ عَوْصَ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ذَكَرَهُ ابْن جرير. وَكَانَ من قَبيلَة يُقَال لَهُم عَاد بن عوض بن سَام بن نوح. وَكَانُوا عَرَبَا يَسْكُنُونَ الْأَحْقَافَ - وَهِيَ جِبَالُ الرَّمْلِ - وَكَانَت بِالْيمن بَين عمان وَحضر موت، بِأَرْضٍ مُطِلَّةٍ عَلَى الْبَحْرِ يُقَالُ لَهَا الشِّحْرُ، وَاسْمُ وَادِيهِمْ مُغِيثٌ. وَكَانُوا كَثِيرًا مَا يَسْكُنُونَ الْخِيَامَ ذَوَاتِ الْأَعْمِدَةِ الضِّخَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَات الْعِمَاد " أَي عَاد إرم وهم عَاد الاولى. وَأما عَاد الثَّانِيَة فمتأخرة كَمَا سَيَأْتِي بَيَان ذَلِك فِي مَوْضِعه. وَأما عَاد الاولى فهم عَاد " إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَاد " أَيْ مِثْلُ الْقَبِيلَةِ، وَقِيلَ مِثْلُ الْعَمَدِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي التَّفْسِيرِ. وَمِنْ زَعْمٍ أَنَّ " إِرَمَ " مَدِينَةٌ تَدُورُ فِي الْأَرْضِ، فَتَارَةً فِي الشَّامِ، وَتَارَةً فِي الْيَمَنِ ; وَتَارَةً فِي الْحِجَازِ، وَتَارَةً فِي غَيْرِهَا، فَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ، وَقَالَ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا بُرْهَانَ يُعَوِّلُ عَلَيْهِ، وَلَا مُسْتَنَدَ يَرْكَنُ إِلَيْهِ.
(1/120)
وفى صَحِيح ابْن جبان عَنْ أَبِي ذَرٍّ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ قَالَ فِيهِ: " مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ: هُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبٌ وَنَبِيُّكَ يَا أَبَا ذَرٍّ ". وَيُقَالُ إِنَّ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أول من تكلم بِالْعَرَبِيَّةِ، وَزعم وهب ابْن مُنَبِّهٍ أَنَّ أَبَاهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا نُوحٌ، وَقِيلَ آدَمُ وَهُوَ الْأَشْبَهُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُقَالُ لِلْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، الْعَرَبُ الْعَارِبَةُ، وَهُمْ قَبَائِلُ كَثِيرَةٌ: مِنْهُمْ عَادٌ، وَثَمُودُ، وَجُرْهُمُ، وَطَسْمٌ، وَجَدِيسُ ; وَأَمِيمُ، وَمَدْيَنُ، وَعِمْلَاقُ، وَعَبِيلٌ، وَجَاسِمٌ، وَقَحْطَانُ، وَبَنُو يَقْطُنَ، وَغَيْرُهُمْ. وَأَمَّا الْعَرَبُ الْمُسْتَعْرِبَةُ فَهُمْ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ. وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ الْفَصِيحَةِ الْبَلِيغَةِ وَكَانَ قَدْ أَخَذَ كَلَامَ الْعَرَبِ مِنْ جُرْهُمَ الَّذِينَ نَزَلُوا عِنْدَ أُمِّهِ هَاجَرَ بِالْحَرَمِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَكِنْ أَنْطَقَهُ اللَّهُ بِهَا فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَيَانِ. وَكَذَلِكَ كَانَ يَتَلَفَّظُ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَادًا - وَهُمْ عَادٌ الْأُولَى - كَانُوا أَوَّلَ مَنْ عَبَدَ الْأَصْنَامَ بَعْدَ الطُّوفَانِ. وَكَانَت أصنامهم ثَلَاثَة: صدا وصمودا، وَهِرَا. فَبَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ أَخَاهُمْ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ قَوْمِ نُوحٍ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ:
(1/121)
" وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا، قَالَ يَا قَوْمِ اعبدوا الله مالكم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصح أَمِين * أَو عجبتم أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ؟ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً، فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا؟ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ، أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ؟ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤمنين (1) ". وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ نُوحٍ فِي سُورَةِ هُودٍ: " وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا، قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مالكم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا، ويردكم قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ، وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ * قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ، وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ، وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسوء. قَالَ إنى أشهد الله واشهدوا __________ (1) الْآيَات من 65 - 72 (*)
(1/122)
أَنى برِئ مِمَّا تشكرون مِنْ دُونِهِ، فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ، وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ، وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي على كل شئ حَفِيظٌ * وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رسله، وَاتبعُوا أَمر كل جَبَّار عنيد * وأتبعوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قوم هُودٍ (1) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ " بَعْدَ قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ: " ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ * قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فجعلناهم غثاء فبعدا للْقَوْم الظَّالِمين " (2) . __________ (1) الْآيَات: من 50 - 60. (2) الْآيَات من 31 - 41 (*)
(1/123)
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة الشُّعَرَاء بعد قصَّة قوم نوح أَيْضا: " وكذبت عَاد الْمُرْسلين * إِذْ قَالَ لَهُم أخوهم هود أَلَا تَتَّقُونَ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِن أجْرى إِلَّا على رب الْعَالمين * أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ؟ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تخلدون * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْم عَظِيم * قَالُوا سَوَاء علينا أَو عظت أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خلق الاولين * وَمَا نَحن بمعذبين * فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيم (1) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة حم السَّجْدَة: " فَأَما عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا من أَشد مناقوة؟ أَو لم يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ، لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وهم لَا ينْصرُونَ (2) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة الاحقاف: " وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ، وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلفه أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم عَظِيم * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا؟ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعلم عِنْد الله وأبلغكم __________ (1) الْآيَات: 123 - 140 الْآيَتَانِ 15، 16 (*)
(1/124)
مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا، بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ريح فِيهَا عَذَاب أَلِيم * تدمر كل شئ بِأَمْرِ رَبِّهَا، فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ، كَذَلِك نجزى الْقَوْم الْمُجْرمين (1) ". وَقَالَ تَعَالَى ف الذَّارِيَاتِ: " وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيم * مَا تذر من شئ أَتَت عَلَيْهِ إِلَّا جعلته كالرميم ". وَقَالَ تَعَالَى فِي النَّجْم: " وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أظلم وأطغى * والمؤتفكة أَهْوى * فغشاها مَا غشى * فبأى آلَاء رَبك تتمارى ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ اقْتَرَبَتْ: " كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابي وَنذر * وَلَقَد يسرنَا الْقُرْآن للذّكر فَهَل من مدكر ". وَقَالَ فِي الحاقة: " وَأما عَاد فأهلكوا برِيح صَرْصَر عَاتِيَة * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خاوية * فَهَل ترى لَهُم من بَاقِيَة ". وَقَالَ فِي سُورَةِ الْفَجْرِ: " أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جابوا الصخر بالواد " __________ (1) الْآيَات: 21، 25 (*)
(1/125)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَاب * إِن رَبك لبالمرصاد ". وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْقِصَصِ فِي أَمَاكِنِهَا مِنْ كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَدْ جَرَى ذِكْرُ عَادٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْفَرْقَانِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَفِي سُورَةِ ص، وَفِي سُورَةِ ق. * * * وَلْنَذْكُرْ مَضْمُونَ الْقِصَّةِ مَجْمُوعًا مِنْ هَذِهِ السِّيَاقَاتِ، مَعَ مَا يُضَافُ إِلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ أَوَّلُ الامم الَّذين عَبَدُوا الْأَصْنَامَ بَعْدَ الطُّوفَانِ. وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ لَهُمْ: " وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً " أَيْ جَعَلَهُمْ أَشَدَّ أَهْلِ زَمَانِهِمْ فِي الْخِلْقَةِ وَالشِّدَّةِ وَالْبَطْشِ. وَقَالَ فِي الْمُؤْمِنُونَ: " ثُمَّ أَنْشَأْنَا من بعدهمْ قرنا آخَرين " وَهُمْ قَوْمُ هُودٍ عَلَى الصَّحِيحِ. وَزَعَمَ آخَرُونَ أَنَّهُمْ ثَمُودُ لِقَوْلِهِ: " فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غثاء ". قَالُوا: وَقَوْمُ صَالِحٍ هَمُ الَّذِينَ أُهْلِكُوا بِالصَّيْحَةِ " وَأما عَاد فاهلكوا برِيح صَرْصَر عَاتِيَة ". وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَا يَمْنَعُ مِنِ اجْتِمَاعِ الصَّيْحَةِ وَالرِّيحِ الْعَاتِيَةِ عَلَيْهِمْ كَمَا سَيَأْتِي فِي قِصَّةِ أَهْلِ مَدْيَنَ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ فَإِنَّهُ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعٌ مِنَ الْعُقُوبَاتِ، ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّ عَادًا قَبْلَ ثَمُودَ.
(1/126)
وَالْمَقْصُود أَن عادا كَانُوا جُفَاةً كَافِرِينَ، عُتَاةً مُتَمَرِّدِينَ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ فِيهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، فَكَذَّبُوهُ وَخَالَفُوهُ وَتَنَقَّصُوهُ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ. فَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَرَغَّبَهُمْ فِي طَاعَتِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ، وَوَعَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ ذَلِكَ عُقُوبَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ " قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لنراك فِي سفاهة " أَي هَذَا الامر الذى تدعونا إِلَيْهِ سفه بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا نَحن عَلَيْهِ من عبَادَة هَذِه الاصنام الَّتِى يرتجى مِنْهَا النَّصْر والرزق، وَمَعَ هَذَا نظن أَنَّك تكذب فِي دعواك أَن الله أرسلك. " قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين "، أَي لَيْسَ الامر كَمَا تظنون وَلَا كَمَا (1) تَعْتَقِدُونَ " أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِين " وَالْبَلَاغُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْكَذِبِ فِي أَصْلِ الْمُبَلِّغِ، وَعدم الزِّيَادَة فِيهِ وَالنَّقْص مِنْهُ، ويستلزم أداءه (2) بِعِبَارَةٍ فَصِيحَةٍ وَجِيزَةٍ جَامِعَةٍ مَانِعَةٍ لَا لَبْسَ فِيهَا وَلَا اخْتِلَافَ وَلَا اضْطِرَابَ. وَهُوَ مَعَ هَذَا الْبَلَاغِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فِي غَايَةِ النُّصْحِ لِقَوْمِهِ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ وَالْحِرْصِ عَلَى هِدَايَتِهِمْ، لَا يَبْتَغِي مِنْهُمْ أَجْرًا وَلَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ جعلا ; بل هُوَ مخلص لله عزوجل فِي الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ وَالنُّصْحِ لِخَلْقِهِ، لَا يَطْلُبُ أَجْرَهُ إِلَّا مِنَ الَّذِي أَرْسَلَهُ، فَإِنَّ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كُلَّهُ فِي يَدَيْهِ وَأَمْرُهُ إِلَيْهِ __________ (1) ا: وَلَا مَا تعتقدون. (2) ط: إبلاغه. (*)
(1/127)
وَلِهَذَا وَقَالَ: " يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ " أَي أما لَكُمْ عَقْلٌ تُمَيِّزُونَ بِهِ وَتَفْهَمُونَ أَنِّي أَدْعُوكُمْ إِلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ فِطَرُكُمُ الَّتِي خُلِقْتُمْ عَلَيْهَا، وَهُوَ دِينُ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نُوحًا وَأَهْلَكَ مَنْ خَالَفَهُ مِنَ الْخَلْقِ. وَهَا أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ وَلَا أَسْأَلُكُمْ أَجْرًا عَلَيْهِ، بَلْ أَبْتَغِي ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ مَالِكُ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ. وَلِهَذَا قَالَ مُؤْمِنُ " يس ": " اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * ومالى لَا أعبد الذى فطرني وَإِلَيْهِ ترجعون؟ " وَقَالَ قوم هود لَهُ فِيمَا قَالُوا: " يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ، وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتنَا بِسوء "، يَقُولُونَ مَا جِئْتَنَا بِخَارِقٍ يَشْهَدُ لَكَ بِصِدْقِ ماجئت بِهِ، وَمَا نَحْنُ بِالَّذِينِ نَتْرُكُ عِبَادَةَ أَصْنَامِنَا عَنْ مُجَرَّدِ قَوْلِكَ ; بِلَا دَلِيلٍ أَقَمْتَهُ وَلَا بُرْهَانٍ نَصَبْتَهُ، وَمَا نَظُنُّ إِلَّا أَنَّكَ مَجْنُونٌ فِيمَا تزعمه. وَعِنْدنَا أَنه إِنَّمَا أَصَابَك هَذَا لَان بَعْضَ آلِهَتِنَا غَضِبَ عَلَيْكَ فَأَصَابَكَ فِي عَقْلِكَ فَاعْتَرَاكَ جُنُونٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُهُمْ: " إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ". " قَالَ إنى أشهد الله واشهدوا أَنى برِئ مِمَّا تشكرون مِنْ دُونِهِ، فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ". وَهَذَا تحد مِنْهُ لَهُم، وتبرأ من آلِهَتهم وتنقص مِنْهُ لَهَا، وَبَيَان أَنَّهَا لَا تَنْفَع شَيْئا وَلَا تضر، وَأَنَّهَا جماد حكمهَا حكمه وفعلها فعله. فَإِن كَانَت كَمَا تَزْعُمُونَ من أَنَّهَا تنصر وَتَنْفَع وتضر فها أَنا برِئ مِنْهَا
(1/128)
لَا عَن لَهَا " فكيدوني ثمَّ لَا تنْظرُون " أَنْتُم جَمِيعًا بِجَمِيعِ مَا يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَصِلُوا إِلَيْهِ وَتَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَلَا تُؤَخِّرُونِي سَاعَةً وَاحِدَةً وَلَا طَرْفَةَ عَيْنٍ فَإِنِّي لَا أُبَالِي بِكُمْ وَلَا أُفَكِّرُ فِيكُمْ، وَلَا أَنْظُرُ إِلَيْكُمْ. " إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاط مُسْتَقِيم " أَيْ أَنَا مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللَّهِ وَمُتَأَيِّدٌ بِهِ، وواثق بجنابه الذى لَا يضيع من لاذبه واستند إِلَيْهِ، فلست أبالى مخلوقا سواهُ، لست أَتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْهِ وَلَا أَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ. وَهَذَا وَحْدَهُ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ هُودًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّهُمْ عَلَى جَهْلٍ وَضَلَالٍ فِي عِبَادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَصِلُوا إِلَيْهِ بِسُوءٍ وَلَا نَالُوا مِنْهُ مَكْرُوهًا. فَدَلَّ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَبُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَفَسَادِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ. وَهَذَا الدَّلِيلُ بِعَيْنِهِ قَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: " يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (1) ". وَهَكَذَا قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئا، وسع ربى كل شئ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا؟ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يلبسوا __________ (1) من الْآيَة: 71 من سوره يُونُس (م 9 - قصَص الانبياء 1) (*)
(1/129)
إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ، أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ، نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (1) " " وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ * أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا متم وكنتم تُرَابا وعظاما أَنكُمْ مخرجون (2) ". اسْتَبْعَدُوا أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ رَسُولًا بَشَرِيًّا. وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ أَدْلَى بِهَا كَثِيرٌ مِنْ جَهَلَةِ الْكَفَرَةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أنذر النَّاس (3) " وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاء ملكا رَسُولا (4) ". وَلِهَذَا قَالَ لَهُم هود عَلَيْهِ السَّلَام: " أَو عجبتم أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُم لينذركم " أَيْ لَيْسَ هَذَا بِعَجِيبٍ ; فَإِنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ. وَقَوْلُهُ: " أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحن لَهُ بمؤمنين * __________ (1) سُورَة الانعام: 80: 83 (2) سُورَة الْمُؤْمِنُونَ: 33: 35. (3) أول سُورَة يُونُس. (4) الْآيَتَانِ: 94، 95 من سُورَة الاسراء. (*)
(1/130)
قَالَ ربى انصرني بِمَا كذبون " استبعدوا الميعاد وأنكروا قيام الاجساد بعد صيرورتها تُرَابا وعظاما، وَقَالُوا: هَيْهَات هَيْهَات، أَي بعيد بعيد هَذَا الْوَعْد، " إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحن بمبعوثين " أَيْ يَمُوتُ قَوْمٌ وَيَحْيَا آخَرُونَ. وَهَذَا هُوَ اعْتِقَادُ الدَّهْرِيَّةِ، كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِنَ الزَّنَادِقَةِ: أَرْحَامٌ تَدْفَعُ وَأَرْضٌ تَبْلَعُ. وَأَمَّا الدُّورِيَّةُ فَهُمُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يَعُودُونَ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ بَعْدَ كُلِّ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَهَذَا كُلُّهُ كَذِبٌ وَكُفْرٌ وَجَهْلٌ وَضَلَالٌ، وَأَقْوَالٌ بَاطِلَةٌ وَخَيَالٌ فَاسِدٌ بِلَا بُرْهَانٍ وَلَا دَلِيلٍ، يَسْتَمِيلُ عَقْلَ الْفَجَرَةِ الْكَفَرَةِ مِنْ بَنِي آدَمَ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَة وليرضوه وليقترفوا ماهم مقترفون ". (2) وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا وَعَظَهُمْ بِهِ: " أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ". يَقُولُ لَهُمْ: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ بَنَاءً عَظِيمًا هَائِلًا كَالْقُصُورِ وَنَحْوِهَا، تَعْبَثُونَ بِبِنَائِهَا لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَكُمْ فِيهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْكُنُونَ الْخِيَامَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " ألم تركيف فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لم يخلق مثلهَا فِي الْبِلَاد " فَعَادُ إِرَمَ هُمْ عَادٌ الْأُولَى الَّذِينَ كَانُوا يَسْكُنُونَ الْأَعْمِدَةَ الَّتِي تَحْمِلُ الْخِيَامَ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ " إِرَمَ " مَدِينَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَهِيَ تنْتَقل فِي الْبِلَاد، فقد غلط وَأَخْطَأ، وَقَالَ مَالا دَلِيل عَلَيْهِ. __________ (1) الْآيَة: 113 من سُورَة الانعام (*)
(1/131)
وَقَوله: " وتتخذون مصانع " قِيلَ هِيَ الْقُصُورُ، وَقِيلَ بُرُوجُ الْحَمَامِ وَقِيلَ مآخذ المَاء " لَعَلَّكُمْ تخلدون " أَيْ رَجَاءً مِنْكُمْ أَنْ تُعَمِّرُوا فِي هَذِهِ الدَّارِ أَعْمَارًا طَوِيلَةً " وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم عَظِيم ". وَقَالُوا لَهُ مِمَّا قَالُوا: " أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا؟ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كنت من الصَّادِقين " أَي أجئتنا لنعبد الله وَحده، وَنُخَالِف آبَاؤُنَا وَأَسْلَافَنَا وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ؟ فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فِيمَا جِئْتَ بِهِ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، فَإِنَّا لَا نُؤْمِنُ بِكَ وَلَا نَتْبَعُكَ وَلَا نُصَدِّقُكَ. كَمَا قَالُوا: " سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَو عظت أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خلق الاولين * وَمَا نَحن بمعذبين ". أَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ الْخَاءِ، فَالْمُرَادُ بِهِ اخْتِلَاقُ الْأَوَّلِينَ، أَيْ أَنَّ هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ إِلَّا اخْتِلَاق مِنْك، أَخَذته مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ. هَكَذَا فَسَّرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ - فَالْمُرَادُ بِهِ الدِّينُ ; أَيْ إِنْ هَذَا الدِّينَ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ إِلَّا دِينُ [الاولين (1) ] الْآبَاء والاجداد من الاسلاف (2) ، وَلَنْ نَتَحَوَّلَ عَنْهُ وَلَا نَتَغَيَّرَ، وَلَا نَزَالُ مُتَمَسِّكِينَ بِهِ. وَيُنَاسِبُ كِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ قَوْلهم: " وَمَا نَحن بمعذبين " __________ (1) من ا (2) ط: من أسلافنا. (*)
(1/132)
قَالَ: " قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ، أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ؟ فَانْتَظِرُوا إنى مَعكُمْ من المنتظرين " أَي قد استحققتم بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ الرِّجْسَ وَالْغَضَبَ مِنَ اللَّهِ، أَتُعَارِضُونَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِعِبَادَةِ أَصْنَامٍ أَنْتُمْ نَحَتُّمُوهَا وَسَمَّيْتُمُوهَا آلِهَةً مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِكُمِ؟ اصْطَلَحْتُمْ عَلَيْهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ، مَا نَزَّلَ الله بهَا من سُلْطَان. أَيْ لَمْ يُنَزِّلْ عَلَى مَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ دَلِيل وَلَا برهانا. وَإِذ أَبَيْتُمْ قَبُولَ الْحَقِّ وَتَمَادَيْتُمْ فِي الْبَاطِلِ، وَسَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَنْهَيْتُكُمْ عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ أَمْ لَا، فَانْتَظِرُوا الْآنَ عَذَابَ اللَّهِ الْوَاقِعَ بِكُمْ، وَبَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ وَنَكَالَهُ الَّذِي لَا يُصَدُّ. * * * وَقَالَ تَعَالَى: " قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ * قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فجعلناهم غثاء فبعدا للْقَوْم الظَّالِمين " وَقَالَ تَعَالَى: " قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا؟ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ، قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا، بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَاب أَلِيم * تدمر كل شئ بِأَمْر بهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ، كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْم الْمُجْرمين ". وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى خَبَرَ إِهْلَاكِهِمْ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا، كَقَوْلِهِ: [" فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دابر الَّذين
(1/133)
كذبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤمنين (1) "] وَكَقَوْلِهِ: " وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رسله وَاتبعُوا أَمر كل جَبَّار عنيد * وأتبعوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قوم هود " وَكَقَوْلِهِ: " فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فبعدا للْقَوْم الظَّالِمين " وَقَالَ تَعَالَى: " فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم ". وَأما تَفْصِيل إهلاكهم فَكَمَا (2) قَالَ تَعَالَى: " فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ ريح فِيهَا عَذَاب أَلِيم " [كَانَ هَذَا أَوَّلَ مَا ابْتَدَأَهُمُ الْعَذَابُ، أَنَّهُمْ كَانُوا مُمْحِلِينَ مُسْنِتِينَ (3) ، فَطَلَبُوا السُّقْيَا فَرَأَوْا عَارِضًا فِي السَّمَاءِ وَظَنُّوهُ سُقْيَا رَحْمَةٍ، فَإِذَا هُوَ سُقْيَا عَذَابٍ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ " أَيْ مِنْ وُقُوعِ الْعَذَابِ (4) ] وَهُوَ قَوْلُهُمْ: " فَأْتِنَا بِمَا تعدنا إِن كنت من الصَّادِقين " وَمِثْلُهَا فِي الْأَعْرَافِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ هَاهُنَا الْخَبَرَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَق بْنِ يَسَارٍ (5) قَالَ: فَلَمَّا أَبَوْا إِلَّا الْكُفْرَ بِاللَّه عزوجل، أمسك عَنْهُم الْقطر (6) ثَلَاثَ سِنِينَ، حَتَّى جَهَدَهُمْ ذَلِكَ. قَالَ: وَكَانَ النَّاس إِذا __________ (1) لَيست فِي ا. (2) ط: فَلَمَّا. وَهُوَ تَحْرِيف. (3) ممحلين: أَصَابَهُم الْمحل وَهُوَ الشدَّة وَانْقِطَاع الْمَطَر. ومسنتين: أَصَابَتْهُم السّنة وهى الجدب والقحط. (4) سَقَطت من ا. (5) المطبوعة: بشار. وَهُوَ تَحْرِيف (6) ط: الْمَطَر. (*)
(1/134)
جَهَدَهُمْ أَمْرٌ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَطَلَبُوا مِنَ اللَّهِ الْفَرَجَ مِنْهُ إِنَّمَا يَطْلُبُونَهُ بِحَرَمِهِ وَمَكَانِ بَيْتِهِ. وَكَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَبِهِ الْعَمَالِيقُ مُقِيمُونَ، وَهُمْ مِنْ سُلَالَةِ عِمْلِيقَ بْنِ لَاوَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَكَانَ سَيِّدُهُمْ إِذْ ذَاكَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ بَكْرٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مِنْ قَوْمِ عَادٍ وَاسْمُهَا جَلْهَدَةُ ابْنَةُ الْخَيْبَرِيِّ. قَالَ: فَبَعَثَ عَادٌ وَفْدًا قَرِيبا من سبعين رجلا ليستسقوا لَهُمْ عِنْدَ الْحَرَمِ، فَمَرُّوا بِمُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ [بِظَاهِرِ مَكَّةَ، فَنَزَلُوا عَلَيْهِ فَأَقَامُوا عِنْدَهُ شَهْرًا، يشربون الْخمر، وتغنيهم الجرادتان، قَيْنَتَانِ لِمُعَاوِيَةَ (1) ] وَكَانُوا قَدْ وَصَلُوا إِلَيْهِ فِي شَهْرٍ. فَلَمَّا طَالَ مُقَامُهُمْ عِنْدَهُ، وَأَخَذَتْهُ شَفَقَةٌ عَلَى قَوْمِهِ، وَاسْتَحْيَا مِنْهُمْ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالِانْصِرَافِ - عمل شعرًا يعرض لَهُم فِيهِ (2) بِالِانْصِرَافِ، وَأَمَرَ الْقَيْنَتَيْنِ أَنْ تُغَنِّيَهُمْ بِهِ، فَقَالَ: أَلَّا يَا قَيْلُ وَيْحَكَ قُمْ فَهَيْنِمْ * لَعَلَّ الله يصحبنا (2) غَمَامًا فَيَسْقِي أَرْضَ عَادٍ إِنَّ عَادًا * قَدَ أمْسَوْا لَا يُبِينُونَ اَلْكَلَامَا مِنَ الْعَطَشِ اَلشَّدِيدِ فَلَيْسَ نَرْجُو * بِهِ اَلشَّيْخَ اَلْكَبِيرَ وَلَا اَلْغُلَامَا وَقَدْ كَانَتْ نِسَاؤُهُمْ بِخَيْرٍ * فَقَدْ أَمْسَتْ نِسَاؤُهُمْ أيامى وَإِنَّ اَلْوَحْشَ يَأْتِيهِمْ جِهَارًا * وَلَا يَخْشَى لِعَادِيٍّ سِهَامًا وَأَنْتُمْ هَاهُنَا فِيمَا اِشْتَهَيْتُمْ * نَهَارَكُمْ وَلَيْلَكُمُ تَمامًا (3) فَقُبِّحَ وَفْدُكُمْ مِنْ وَفْدِ قَوْمٍ * وَلَا لُقُّوا اَلتَّحِيَّةَ وَالسَّلَامَا قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ تَنَبَّهَ الْقَوْمُ لِمَا جَاءُوا لَهُ، فَنَهَضُوا إِلَى الْحَرَمِ وَدَعَوْا لقومهم، فَدَعَا داعيهم وَهُوَ قيل بن عنز، فَأَنْشَأَ الله سحابات ثَلَاثًا: __________ (1) لَيست فِي ا. (2) ط: يمنحنا. (3) ا: التماما. ولعلها: نياما. (*)
(1/135)
بَيْضَاءَ وَحَمْرَاءَ وَسَوْدَاءَ، ثُمَّ نَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاء: اختر لنَفسك أَو لقَوْمك مِنْ هَذَا السَّحَابِ، فَقَالَ: اخْتَرْتُ السَّحَابَةَ السَّوْدَاءَ فَإِنَّهَا أَكْثَرُ السَّحَابِ مَاءً، فَنَادَاهُ مُنَادٍ: اخْتَرْتَ رماد رِمْدَدًا، لَا تُبْقِي مِنْ عَادٍ أَحَدًا، لَا والدا يتْرك وَلَا وَلَدًا إِلَّا جَعَلَتْهُ هَمِدَا إِلَّا بَنِي اللوذية الهمدا. قَالَ: وهم بَطْنٌ مِنْ عَادٍ كَانُوا مُقِيمِينَ بِمَكَّةَ، فَلَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ قَوْمَهُمْ. قَالَ: وَمَنْ بَقِيَ مِنْ أَنْسَابِهِمْ وَأَعْقَابِهِمْ هُمْ عَادٌ الْآخِرَةُ. قَالَ: وَسَاقَ اللَّهُ السَّحَابَةَ السَّوْدَاءَ الَّتِي اخْتَارَهَا قَيْلُ بن عنز بِمَا فِيهَا مِنَ النِّقْمَةِ إِلَى عَادٍ، حَتَّى تَخَرَّجَ عَلَيْهِمْ مِنْ وَادٍ يُقَالُ لَهُ الْمُغِيثُ، فَلَمَّا رَأَوْهَا اسْتَبْشَرُوا، وَقَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا، فَيَقُولُ تَعَالَى: " بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ريح فِيهَا عَذَاب أَلِيم * تدمر كل شئ بِأَمْر رَبهَا " أَي [تهْلك (1) ] كل شئ أُمِرَتْ بِهِ. فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ أَبْصَرَ مَا فِيهَا وَعرف أنهغا رِيحٌ فِيمَا يَذْكُرُونَ امْرَأَةً مِنْ عَادٍ يُقَالُ لَهَا " مَهْدٌ "، فَلَمَّا تَبَيَّنَتْ مَا فِيهَا صَاحَتْ ثُمَّ صَعِقَتْ. فَلَمَّا أَفَاقَتْ قَالُوا مَا رَأَيْتِ يَا مهد؟ قَالَت رَأَيْت ريحًا فِيهَا شبه (2) النَّارِ أَمَامَهَا رِجَالٌ يَقُودُونَهَا، فَسَخَّرَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام حسوما، وَالْحُسُومُ الدَّائِمَةُ ; فَلَمْ تَدَعْ مِنْ عَادٍ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ. قَالَ: وَاعْتَزَلَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيمَا ذُكِرَ لِي - فِي حَظِيرَةٍ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا يُصِيبُهُمْ إِلَّا مَا تلين عَلَيْهِ الْجُلُود، وتلذ (3) الانفس، وَإِنَّهَا __________ (1) لَيست فِي ا. (2) ا: كشهب النَّار (3) ا: ويلبد. (*)
(1/136)
التَّمْر عَلَى عَادٍ بِالظَّعْنِ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَتَدْمَغُهُمْ بِالْحِجَارَةِ. وَذَكَرَ تَمَامَ الْقِصَّةِ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدِيثًا فِي مُسْنَدِهِ يُشْبِهُ هَذِهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي أَبُو الْمُنْذِرِ سَلَامُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّحْوِيُّ، حَدَّثَنَا عَاصِم ابْن أَبِي النَّجُودِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ الْحَارِثِ - وَهُوَ ابْنُ حَسَّانَ - وَيُقَالُ ابْنُ يَزِيدَ الْبَكْرِيُّ، قَالَ: خَرَجْتُ أَشْكُو الْعَلَاءَ [بْنَ (1) ] الْحَضْرَمِيَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ، فَإِذَا عَجُوزٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مُنْقَطِعٌ بِهَا، فَقَالَتْ لِي: يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجَةً، فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغِي إِلَيْهِ؟ قَالَ: فَحَمَلْتُهَا فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَإِذَا الْمَسْجِدُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ، وَإِذَا رَايَةٌ سَوْدَاءُ تخفق، وَإِذا بِلَال مُتَقَلِّدٌ السَّيْفَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ قَالُوا يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَجْهًا. قَالَ: فَجَلَسْتُ، قَالَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ - أَوْ قَالَ رَحْلَهُ - فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لِي، فَدَخَلْتُ فَسَلَّمْتُ فَقَالَ: " هَلْ كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي تَمِيم شئ "؟ فَقلت: نعم. وَكَانَت لنا الدَّائِرَةُ (2) عَلَيْهِمْ وَمَرَرْتُ بِعَجُوزٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مُنْقَطِعٍ بهَا، فسألتني أَن أحملها إِلَيْك وهامى بِالْبَابِ، فَأَذِنَ لَهَا فَدَخَلَتْ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بنى تَمِيم حاجزا، فَاجْعَلْ الدهناء (3) [فَإِنَّهَا كَانَت لنا، قَالَ (4) ] فحميت الْعَجُوز واستوفزت وَقَالَت __________ (1) سَقَطت من ا. (2) ا: الدبرة (3) ط: الدهماء. وَهُوَ تَحْرِيف. (4) لَيست فِي ا (*)
(1/137)
يَا رَسُول الله فَإلَى أَيْن يضْطَر مضطرك؟ قَالَ: فَقلت: إِنَّ مِثْلِي مَا قَالَ الْأَوَّلُ: " مِعْزًى حَمَلَتْ حَتْفَهَا " حملت هَذِه الامة [وَلَا (1) ] أَشْعُرُ أَنَّهَا كَانَتْ لِي خَصْمًا، أَعُوذُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [أَنْ أَكُونَ (1) ] كَوَافِدِ عَادٍ، قَالَ: [هِيهِ (1) ] وَمَا وَافِدُ عَادٍ؟ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ منى (2) وَلَكِنْ يَسْتَطْعِمُهُ. قُلْتُ: إِنَّ عَادًا قَحَطُوا فَبَعَثُوا وَافِدًا لَهُمْ يُقَالُ لَهُ قَيْلٌ، فَمَرَّ بِمُعَاوِيَةَ ابْن بَكْرٍ فَأَقَامَ عِنْدَهُ شَهْرًا يَسْقِيهِ الْخَمْرَ وَتُغَنِّيهِ جَارِيَتَانِ يُقَالُ لَهُمَا الْجَرَادَتَانِ، فَلَمَّا مَضَى الشَّهْرُ خَرَجَ إِلَى جِبَالِ تِهَامَةَ (3) ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَجِئْ إِلَى مَرِيضٍ فَأُدَاوِيَهُ، وَلَا إِلَى أَسِيرٍ فَأُفَادِيَهُ، اللَّهُمَّ اسْقِ عَادًا مَا كُنْتَ تَسْقِيهِ. فَمَرَّتْ بِهِ سَحَابَاتٌ سُودٌ فَنُودِيَ: مِنْهَا اخْتَرْ. فَأَوْمَأَ إِلَى سَحَابَةٍ مِنْهَا سَوْدَاءَ فَنُودِيَ مِنْهَا: خُذْهَا رَمَادًا رِمْدَدًا، لَا تُبْقِي مِنْ عَادٍ أَحَدًا. قَالَ: فَمَا بَلَغَنِي أَنَّهُ بَعَثَ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا كَقَدْرِ مَا يَجْرِي فِي خَاتَمِي هَذَا مِنَ الرِّيحِ حَتَّى هَلَكُوا. قَالَ أَبُو وَائِلٍ: وَصَدَقَ، وَكَانَتِ الْمَرْأَة وَالرجل إِذَا بَعَثُوا وَافِدًا (4) لَهُمْ قَالُوا: لَا تَكُنْ كَوَافِدِ عَادٍ. وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ بِهِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيث سَلام أَبى الْمُنْذر عَن عَاصِم بن بَهْدَلَةَ، وَمِنْ طَرِيقِهِ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَهَكَذَا أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ وَهَذِهِ الْقِصَّةَ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِه الْقِصَّة غير وَاحِد من الْمُفَسّرين كاين جرير وَغَيره. __________ (1) سَقَطت من ا. (2) ا: بِالْحَدِيثِ فِيهِ. (3) ا: جبال مهرَة. (4) ط: وَفْدًا. (*)
(1/138)
وَقَدْ يَكُونُ هَذَا السِّيَاقُ لِإِهْلَاكِ عَادٍ الْآخِرَةِ ; فَإِن فِيمَا ذكره ابْن إِسْحَاق وَغَيره ذكر لِمَكَّةَ، وَلَمْ تُبْنَ إِلَّا بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، حِينَ أَسْكَنَ فِيهَا هَاجَرَ وَابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ، فَنَزَلَتْ جُرْهُمٌ عِنْدَهُمْ كَمَا سَيَأْتِي، وَعَادٌ الْأُولَى قَبْلَ الْخَلِيلِ، وَفِيهِ ذِكْرُ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ وَشِعْرُهُ، وَهُوَ مِنَ الشِّعْرِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْ زَمَانِ عَادٍ الاولى، وَلَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَفِيهِ أَنَّ فِي تِلْكَ السَّحَابَةِ شَرَرُ نَارٍ، وَعَادٌ الْأَوْلَى إِنَّمَا أُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ: هِيَ الْبَارِدَة، والعاتية الشَّديد الْهُبُوبِ. " سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حسوما " أَيْ كَوَامِلَ مُتَتَابِعَاتٍ. قِيلَ كَانَ أَوَّلَهَا الْجُمُعَةُ، وَقِيلَ الْأَرْبِعَاءُ. " فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل خاوية " شبههم بأعجاز النّخل الَّتِى لارءوس لَهَا، وَذَلِكَ لَان الرّيح كَانَت تجئ إِلَى أَحَدِهِمْ فَتَحْمِلُهُ فَتَرْفَعُهُ فِي الْهَوَاءِ ; ثُمَّ تُنَكِّسُهُ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ فَتَشْدَخُهُ فَيَبْقَى جُثَّةً بِلَا رَأْسٍ، كَمَا قَالَ: " إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ ريحًا صَرْصَرًا فِي يَوْم نحس مُسْتَمر [أَيْ فِي يَوْمِ نَحْسٍ عَلَيْهِمْ، مُسْتَمِرٌّ (1) ] عَذَابُهُ عَلَيْهِمْ. " تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ " وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْيَوْمَ النَّحْسَ الْمُسْتَمِرَّ هُوَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ وَتَشَاءَمَ بِهِ لِهَذَا الْفَهْمِ، فَقَدْ أَخْطَأَ وَخَالَفَ الْقُرْآنَ ; فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: " فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نحسات " وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ، فَلَوْ كَانَتْ نحسات فِي أَنْفسهَا لكَانَتْ __________ (1) سَقَطت من ا. (*)
(1/139)
جَمِيعُ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ الْمُنْدَرِجَةِ فِيهَا (1) مَشْئُومَةً، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ، أَيْ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى: " وَفِي عَادٍ إِذْ أرسلنَا عَلَيْهِم الرّيح الْعَقِيم " أَيِ الَّتِي لَا تُنْتِجُ خَيْرًا، فَإِنَّ الرِّيحَ المفردة لَا تثير سَحَابًا وَلَا تُلَقِّحُ شَجَرًا، بَلْ هِيَ عَقِيمٌ لَا نَتِيجَةَ خَيْرٍ لَهَا، وَلِهَذَا قَالَ: " مَا تذر من شئ أَتَت عَلَيْهِ إِلَّا جعلته كالرميم " أَي كالشئ الْبَالِي الْفَانِي الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ ". وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ " فَالظَّاهِرُ أَنَّ عَادًا هَذِهِ هِيَ عَادٌ الْأُولَى ; فَإِنَّ سِيَاقَهَا شَبِيهٌ بِسِيَاقِ قَوْمِ هُودٍ وَهُمُ الْأُولَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ هُمْ عَادٌ الثَّانِيَةُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا وَمَا سَيَأْتِي مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا " فَإِنَّ عَادًا لَمَّا رَأَوْا هَذَا الْعَارِضَ وَهُوَ النَّاشِئُ فِي الْجَوِّ كَالسَّحَابِ ظَنُّوهُ سَحَابَ مَطَرٍ، فَإِذَا هُوَ سَحَابُ عَذَابٍ. اعْتَقَدُوهُ رَحْمَةً فَإِذَا هُوَ نقمة __________ (1) ا: المندرجة فِي الثَّمَانِية (*)
(1/140)
رَجَوْا فِيهِ الْخَيْرَ فَنَالُوا مِنْهُ غَايَةَ الشَّرِّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ " [أَيْ مِنَ الْعَذَابِ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ (1) ] : " رِيحٌ فِيهَا عَذَاب أَلِيم " يُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ هُوَ مَا أَصَابَهُمْ من الرّيح الصرصر العاتية الْبَارِدَة الشَّدِيدَة الهبوط، الَّتِي اسْتَمَرَّتْ عَلَيْهِمْ سَبْعُ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا الثَّمَانِيَةِ فَلَمْ تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا، بَلْ تَتَبَّعَتْهُمْ حَتَّى كَانَتْ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ كُهُوفَ الْجِبَالِ وَالْغِيرَانِ فَتَلُفُّهُمْ وَتُخْرِجُهُمْ وَتُهْلِكُهُمْ، وَتُدَمِّرُ عَلَيْهِمُ الْبُيُوتَ الْمُحْكَمَةَ وَالْقُصُورَ المشيدة، فَكَمَا منوا بشدتهم وبقوتهم (2) وَقَالُوا: من أَشد منا قُوَّة؟ ! سلط الله عَلَيْهِمْ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَأَقْدَرُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الرِّيحُ الْعَقِيمُ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذِهِ الرِّيحَ أَثَارَتْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ سَحَابَةً، ظَنَّ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ أَنَّهَا سَحَابَةٌ فِيهَا رَحْمَةٌ بِهِمْ وَغِيَاثٌ لِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، فَأَرْسَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ شَرَرًا وَنَارًا. [كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَيَكُونُ هَذَا (1) ] كَمَا أَصَابَ أَصْحَابَ الظُّلَّةِ مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ، وَجَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الرِّيحِ الْبَارِدَةِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَهُوَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الْعَذَابِ بِالْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمُتَضَادَّةِ، مَعَ الصَّيْحَةِ الَّتِي ذكرهَا فِي سُورَة قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى [بْنِ] (1) الضَّرِيسِ. حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: " مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى عَادٍ مِنَ الرِّيحِ الَّتِي أُهْلِكُوا بِهَا إِلَّا مِثْلَ [مَوْضِعِ (1) ] الْخَاتَمِ، فَمَرَّتْ بِأَهْلِ الْبَادِيَةِ فَحَمَلَتْهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ [وَأَمْوَالَهُمْ (1) ] بَيْنَ السَّمَاءِ والارض، فَلَمَّا رأى ذَلِك أهل الْحَاضِرَة __________ (1) لَيست فِي ا. (2) ط: بقوتهم وشدتهم (2) لَيست فِي ا. (*)
(1/141)
مِنْ عَادٍ، الرِّيحَ وَمَا فِيهَا " قَالُوا هَذَا عَارض مُمْطِرنَا " فَأَلْقَتْ أَهْلَ الْبَادِيَةِ وَمَوَاشِيَهُمْ عَلَى أَهْلِ الْحَاضِرَةِ. وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدَانَ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ زَكَرِيَّا الْكُوفِيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ مُسْلِمٍ الْمُلَائِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: مَا فتح الله عَلَى عَادٍ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا مِثْلُ مَوْضِعِ الْخَاتم، ثمَّ أرْسلت عَلَيْهِم الْبَدْوَ إِلَى الْحَضَرِ، فَلَمَّا رَآهَا أَهْلُ الْحَضَرِ قَالُوا هَذَا عَارض مُمْطِرنَا مُسْتَقْبل أَو ديتنا. وَكَانَ أَهْلُ الْبَوَادِي فِيهَا، فَأُلْقِيَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ عَلَى أَهْلِ الْحَاضِرَةِ حَتَّى هَلَكُوا ". قَالَ: عَتَتْ على حزانها (1) حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ خِلَالِ الْأَبْوَابِ. قُلْتُ: وَقَالَ غَيْرُهُ: خَرَجَتْ بِغَيْرِ حِسَابٍ. [وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي رَفْعِهِ نَظَرٌ. ثُمَّ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى مُسْلِمٍ الْمُلَائِيِّ، وَفِيهِ نَوْعُ اضْطِرَابٍ (2) ] وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُمْ رَأَوْا عَارِضًا وَالْمَفْهُومُ مِنْهُ لُغَةً السَّحَابُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ حَسَّانَ الْبَكْرِيِّ، إِنْ جَعَلْنَاهُ مُفَسِّرًا لِهَذِهِ الْقِصَّةِ. وَأَصْرَحُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو [بكر (2) ] الطَّاهِر، حَدثنَا ابْن وهب قَالَ: سَمِعت ابْن جريج حَدثنَا __________ (1) ط: عَن خزائنها. وَلَعَلَّه تَحْرِيف (2) سقط من ا (3) ط: لمْعَة. وَهُوَ تَحْرِيف. (*)
(1/142)
عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أرْسلت بِهِ " قَالَت: " وَإِذا غيبت السَّمَاءُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَخَرَجَ وَدَخَلَ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ. فَإِذَا أَمْطَرَتْ سُرِّيَ عَنْهُ، فَعَرَفَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ فَسَأَلَتْهُ فَقَالَ: " لَعَلَّهُ يَا عَائِشَةُ كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ: " فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارض مُمْطِرنَا ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ. طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدثنَا هرون بْنُ مَعْرُوفٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَنْبَأَنَا عَمْرٌو -[وَهُوَ (1) ] ابْنُ الْحَارِثِ - أَنَّ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَجْمِعًا ضَاحِكًا قَطُّ حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ (2) ، إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ وَقَالَتْ: كَانَ إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ يَا رَسُولَ الله: [إِن (1) ] النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عُرِفَ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةُ؟ فَقَالَ: " يَا عَائِشَةُ مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ! قَدْ عُذِّبَ قَوْمُ نُوحٍ بِالرِّيحِ وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ فَقَالُوا: هَذَا عَارض مُمْطِرنَا " [فَهَذَا الْحَدِيثُ كَالصَّرِيحِ فِي تَغَايُرِ الْقِصَّتَيْنِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ أَوَّلًا. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْقِصَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ خَبَرًا عَنْ قَوْمِ عَادٍ الثَّانِيَةِ وَتَكُونُ بَقِيَّةُ السِّيَاقَاتِ فِي الْقُرْآنِ خَبَرًا عَنْ عَادٍ الْأُولَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ (1) . ] __________ (1) لَيست فِي ا. (2) اللهوات: جمع لهاة وهى لحْمَة ناتئة فِي أقْصَى الْحلق. (*)
(1/143)
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ هَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وهب. وَقَدَّمْنَا حَجَّ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ ذِكْرِ حَجِّ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَرُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ ذَكَرَ صِفَةَ قَبْرِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بِلَادِ الْيَمَنِ. وَذَكَرَ آخَرُونَ أَنَّهُ بِدِمَشْقَ، وَبِجَامِعِهَا مَكَانٌ فِي حَائِطِهِ الْقِبْلِيِّ يَزْعُمُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ قَبْرُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(1/144)
وَكَانُوا عَرَبًا مِنَ الْعَارِبَةِ يَسْكُنُونَ الْحِجْرَ الَّذِي بَيْنَ الْحِجَازِ وَتَبُوكَ. وَقَدْ مَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى تَبُوك بِمن مَعَه من الْمُسلمين. وَكَانُوا بَعْدَ قَوْمِ عَادٍ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ كَأُولَئِكَ. فَبَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ وَهُوَ عبد الله وَرَسُوله: صَالح بن عبيد ابْن ماسح بن عبيد بن حادر بن ثَمُود بن عاثر بن إرم بْنِ نُوحٍ فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ يَخْلَعُوا الْأَصْنَامَ وَالْأَنْدَادَ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. فَآمَنَتْ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، وَكَفَرَ جُمْهُورُهُمْ، وَنَالُوا مِنْهُ بِالْمَقَالِ وَالْفَعَالِ، وَهَمُّوا بِقَتْلِهِ، وَقَتَلُوا النَّاقَةَ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: " وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً، فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ، وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجبَال بُيُوتًا، (10 - قصَص الانبياء 1)
(1/145)
فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْت لكم وَلَكِن لَا تحبون الناصحين (1) . وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ: " وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا، فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ * قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا، أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا؟ وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً، فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ؟ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ * وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ، وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ * فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذين ظلمُوا الصَّيْحَة فَأَصْبحُوا فِي دَارهم جاثمين * __________ (1) الْآيَات: 73 - 79 (*)
(1/146)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كفرُوا رَبهم أَلا بعدا لثمود (1) " وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة الْحجر: " وَلَقَد كذب أَصْحَاب الْحجر الْمُرْسلين * وآتيناهم آيَاتنَا فَكَانُوا عَنْهَا معرضين * وَكَانُوا ينحتون من الْجبَال بُيُوتًا آمِنين * فَأَخَذتهم الصَّيْحَة مصبحين * فَمَا أغْنى عَنْهُم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (2) ". وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي سُورَةِ سُبْحَانَ: " وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ، وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا، وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (3) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ " كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أجْرى إِلَّا على رب الْعَالمين * أتتركون فِيمَا هَاهُنَا آمِنين * فِي جنَّات وعيون * وزروع ونخفل طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ * قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَاب عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم (4) " وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة النَّمْل: " وَلَقَد أرسلنَا إِلَى ثَمُود أَخَاهُم صَالحا __________ (1) الْآيَات: 61 - 68 (2) الْآيَات: 80 - 84 (3) الْآيَة: 59 (4) الْآيَات: 141 - 159 (*)
(1/147)
أَن اعبدوا الله، فَإِذا هم فريقان يختصمون * قَالَ يَا قوم لم تَسْتَعْجِلُون بِالسَّيِّئَةِ قبل الْحَسَنَة، لَوْلَا تستغفرون الله لَعَلَّكُمْ ترحمون * قَالُوا اطيرنا بك وبمن مَعَك، قَالَ طائركم عِنْد الله بل أَنْتُم قوم تفتنون * وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الارض وَلَا يصلحون * قَالُوا تقاسموا بِاللَّه لنبيتنه وَأَهله، ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لصادقون * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنْجَيْنَا الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (1) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ حم. السَّجْدَةِ: " وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (2) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ اقْتَرَبَتْ: " كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ؟ إِنَّا إِذا لفى ضلال وسعر * أألقى الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ * إِنَّا مرسلوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ. وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ * فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مدكر (3) ". وَقَالَ تَعَالَى: " كذبت ثَمُود بطغواها * إِذْ انْبَعَثَ أشقاها * فَقَالَ. __________ (1) الْآيَات: 45 - 53 (2) الْآيَتَانِ: 17 و 18 الْآيَات: 23 - 32. (*)
(1/148)
لَهُم رَسُول الله نَاقَة الله وسقياها * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يخَاف عقباها (1) ". وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ ذِكْرِ عَادٍ وَثَمُودَ، كَمَا فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْفُرْقَانِ، وَسُورَةِ ص، وَسُورَةِ ق، وَالنَّجْمِ وَالْفَجْر. وَيُقَال إِن هَاتين الامتين لايعرف خَبَرَهُمَا أَهْلُ الْكِتَابِ، وَلَيْسَ لَهُمَا ذِكْرٌ فِي كِتَابِهِمُ التَّوْرَاةِ. وَلَكِنْ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى أَخْبَرَ (2) عَنْهُمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: " وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ * أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ. " (3) الْآيَةَ. الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ مُوسَى مَعَ قَوْمِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ هَاتَانِ الْأُمَّتَانِ مِنَ الْعَرَبِ لَمْ يَضْبِطُوا خَبَرَهُمَا جَيِّدًا، وَلَا اعْتَنَوْا بِحِفْظِهِ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُمَا كَانَ مَشْهُورًا فِي زَمَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا كُلِّهِ فِي التَّفْسِيرِ مُسْتَقْصًى. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. * * * وَالْمَقْصُودُ الْآنَ ذِكْرُ قِصَّتِهِمْ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَكَيْفَ نَجَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ آمَنَ بِهِ، وَكَيْفَ قَطَعَ دَابِرَ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا بِكُفْرِهِمْ وعتوهم، ومخالفتهم رسولهم عَلَيْهِ السَّلَام. __________ (1) الْآيَات: 23 - 32 سُورَة الشَّمْس (2) ا. أخْبرهُم (3) الْآيَتَانِ: 8، 9. (*)
(1/149)
[وَقد قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا عَرَبًا، وَكَانُوا بَعْدَ عَادٍ وَلَمْ يَعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ. وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ] (1) : " اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً، فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ، وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا، فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الارض مفسدين " أَيْ إِنَّمَا جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِهِمْ لِتَعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَتَعْمَلُوا بِخِلَافِ عَمَلِهِمْ. وَأَبَاحَ لَكُمْ هَذِهِ الْأَرْضَ تَبْنُونَ فِي سُهُولِهَا الْقُصُور، " وتنحتون من الْجبَال بُيُوتًا فارهين " أَيْ حَاذِقِينَ فِي صَنْعَتِهَا وَإِتْقَانِهَا وَإِحْكَامِهَا. فَقَابِلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ بِالشُّكْرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِيَّاكُمْ وَمُخَالَفَتَهُ وَالْعُدُولَ عَنْ طَاعَتِهِ، فَإِنَّ عَاقِبَةَ ذَلِكَ وَخِيمَةٌ. وَلِهَذَا وعظهم بقوله: " أتتركون فِيمَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طلعها هضيم " أَيْ مُتَرَاكِمٌ كَثِيرٌ حَسَنٌ بَهِيٌّ نَاضِجٌ. " وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الارض وَلَا يصلحون ". وَقَالَ لَهُمْ أَيْضًا: " يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، هُوَ أَنْشَأَكُمْ من الارض واستعمركم فِيهَا " أَيْ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَأَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَجَعَلَكُمْ عُمَّارَهَا، أَيْ أَعْطَاكُمُوهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الزروع وَالثِّمَار، فَهُوَ الْخَالِق __________ (1) سَقَطت من ا. (*)
(1/150)
الرَّزَّاق، وَهُوَ الذى يسْتَحق الْعِبَادَة وَحده لَا [مَا (1) ] سِوَاهُ. " فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ " أَيْ أَقْلِعُوا عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ وَأَقْبِلُوا عَلَى عِبَادَتِهِ، فَإِنَّهُ يَقْبَلُ مِنْكُمْ وَيَتَجَاوَزُ عَنْكُمْ " إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ". " قَالُوا: يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مرجوا قبل هَذَا " أَيْ [قَدْ (2) ] كُنَّا نَرْجُو أَنْ يَكُونَ عَقْلُكَ كَامِلًا قَبْلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَهِيَ دُعَاؤُكَ إِيَّانَا إِلَى إِفْرَاد الْعِبَادَة، وَتَرْكِ مَا كُنَّا نَعْبُدُهُ مِنَ الْأَنْدَادِ، وَالْعُدُولِ عَنْ دِينِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ وَلِهَذَا قَالُوا: " أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا؟ وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ". " قَالَ: يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً، فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ الله إِن عصيته؟ فَمَا تزيدونني غير تخير ". وَهَذَا تَلَطُّفٌ مِنْهُ لَهُمْ فِي الْعِبَارَةِ وَلِينِ الْجَانِبِ، وَحُسْنُ تَأَتٍّ فِي الدَّعْوَةِ لَهُمْ إِلَى الْخَيْر. أَي فَمَا ظنكم إمن كَانَ الْأَمْرُ كَمَا أَقُولُ لَكُمْ وَأَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ؟ مَاذَا (3) عُذْرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ؟ وَمَاذَا يُخَلِّصُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْتُمْ تَطْلُبُونَ مِنِّي أَنْ أَتْرُكَ دُعَاءَكُمْ إِلَى طَاعَتِهِ؟ وَأَنَا لَا يُمْكِنُنِي هَذَا لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيَّ، وَلَوْ تَرَكْتُهُ لَمَا قَدَرَ أَحَدٌ مِنْكُمْ وَلَا مِنْ غَيْرِكُمْ أَنْ يُجِيرَنِي مِنْهُ وَلَا يَنْصُرَنِي. فَأَنَا لَا أَزَالُ أَدْعُوكُمْ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. وَقَالُوا لَهُ أَيْضًا: " إِنَّمَا أَنْت من المسحرين " أَيْ مِنَ الْمَسْحُورِينَ، يَعْنُونَ مَسْحُورًا لَا تَدْرِي مَا تَقُولُ فِي دُعَائِكَ إِيَّانَا إِلَى إِفْرَادِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَخَلْعِ مَا سِوَاهُ مِنَ الانداد. وَهَذَا القَوْل عَلَيْهِ الْجُمْهُور، وَهُوَ أَن المُرَاد __________ (1) من ا. (2) لَيست فِي ا. (3) كَذَا. والاصح مَا عذركم (*)
(1/151)
بالمسحرين المسحورين. وَقِيلَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ: أَيْ مِمَّنْ لَهُ سَحْرٌ - وَهُوَ الرئى (1) - كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا أَنْتَ بَشَرٌ [لَهُ سَحْرٌ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِمْ بَعْدَ هَذَا: مَا أَنْتَ إِلَّا بشر (2) ] مثلنَا [وَقَوْلُهُمْ (3) ] " فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ " سَأَلُوا مِنْهُ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِخَارِقٍ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ. " قَالَ: هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلَا تمسوها بِسوء فيأخذكم عَذَاب عَظِيم " كَمَا قَالَ: " قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " وَقَالَ تَعَالَى: " وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بهَا " وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ ثَمُودَ اجْتَمَعُوا يَوْمًا فِي نَادِيهِمْ، فَجَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَالِحٌ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَذَكَّرَهُمْ وَحَذَّرَهُمْ وَوَعَظَهُمْ وَأَمَرَهُمْ، فَقَالُوا لَهُ: إِنْ أَنْتَ أَخْرَجْتَ لَنَا مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ - وَأَشَارُوا إِلَى صَخْرَةٍ هُنَاكَ - نَاقَةً، مِنْ صفتهَا كَيْت وَكَيْت [وَذكروا أوصافا يسموها وَنَعَتُوهَا وَتَعَنَّتُوا فِيهَا. وَأَنْ تَكُونَ عُشَرَاءَ طَوِيلَةً، مِنْ صِفَتِهَا كَذَا وَكَذَا (4) ] فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَجَبْتُكُمْ إِلَى مَا سَأَلْتُمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي طَلَبْتُمْ، أَتُؤْمِنُونَ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ وَتُصَدِّقُونِي فِيمَا أُرْسِلْتُ بِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَأَخَذَ عُهُودَهُمْ وَمَوَاثِيقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. ثمَّ قَامَ إِلَى مُصَلَّاهُ فصلى لله عزوجل مَا قُدِّرَ لَهُ، ثُمَّ دَعَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُجِيبَهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا. فَأَمَرَ الله عزوجل تِلْكَ الصَّخْرَة أَن __________ (1) ا: الرئية. والرئى: التَّابِع من الْجِنّ (2) سَقَطت من المطبوعة (3) لَيست فِي ا (4) سَقَطت من ا. (*)
(1/152)
تنفطر عَن نَاقَة عَظِيمَة عشراء، على الْوَجْه الْمَطْلُوب الذى طلبُوا، أَو على الصِّفَةِ الَّتِي نَعَتُوا. فَلَمَّا عَايَنُوهَا كَذَلِكَ رَأَوْا أمرا وَمَنْظَرًا هَائِلًا، وَقُدْرَةً بَاهِرَةً وَدَلِيلًا قَاطِعًا وَبُرْهَانًا [سَاطِعًا (1) ] فَآمَنَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَاسْتَمَرَّ أَكْثَرُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ وَعِنَادِهِمْ. وَلِهَذَا قَالَ: " فَظَلَمُوا بِهَا " أَيْ جَحَدُوا بِهَا وَلَمْ يَتَّبِعُوا الْحَقَّ بِسَبَبِهَا، أَيْ أَكْثَرُهُمْ. وَكَانَ رَئِيسُ الَّذِينَ آمَنُوا: جُنْدَعَ بن عَمْرو بن محلاة بْنِ لَبِيدِ بْنِ جَوَّاسٍ. وَكَانَ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ. وَهُمْ بَقِيَّةُ الْأَشْرَافِ بِالْإِسْلَامِ فَصَدَّهُمْ ذُؤَابُ بْنُ عَمْرو بْنِ لَبِيدٍ وَالْحُبَابُ صَاحِبُ أَوْثَانِهِمْ، وَرَبَابُ بْنُ صعر بن جلمس. ودعا جندع بن عَمِّهِ شِهَابَ بْنَ خَلِيفَةَ وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فهم بالاسلام [فَنَهَاهُ أُولَئِكَ، قمال إِلَيْهِمْ (1) فَقَالَ فِي ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَال لَهُ مهرش بن غنمة ابْن الذميل رَحمَه الله: وَكَانَتْ عُصْبَةٌ مِنْ آلِ عَمْرٍو * إِلَى دِينِ النَّبِيِّ دَعَوْا شِهَابَا عَزِيزَ ثَمُودَ كُلُّهُمْ جَمِيعًا * فَهَمَّ بِأَنْ يُجِيبَ وَلَوْ أَجَابَا لَأَصْبَحَ صَالِحٌ فِينَا عَزِيزًا * وَمَا عَدَلُوا بِصَاحِبِهِمْ ذُؤَابَا وَلَكِنَّ الْغُوَاةَ مِنْ آلِ حِجْرٍ * تَوَلَّوْا بَعْدَ رُشْدِهِمُ ذبابا وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " هَذِهِ نَاقَة الله " أَضَافَهَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ وَتَعْظِيمٍ، كَقَوْلِهِ بَيْتُ اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ " لَكُمْ آيَةً " أَيْ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ مَا جِئْتُكُمْ بِهِ " فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسوء فيأخذكم عَذَاب قريب ". __________ (1) سَقَطت من ا. (*)
(1/153)
فَاتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى أَنْ تَبْقَى هَذِهِ النَّاقَةُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، تَرْعَى حَيْثُ شَاءَتْ مِنْ أَرْضِهِمْ، وَتَرِدُ الْمَاءَ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَكَانَتْ إِذَا وَرَدَتِ الْمَاءَ تَشْرَبُ مَاءَ الْبِئْرِ يَوْمَهَا ذَلِكَ، فَكَانُوا يَرْفَعُونَ حَاجَتَهُمْ مِنَ الْمَاءِ فِي يَوْمِهِمْ لِغَدِهِمْ. وَيُقَالُ إِنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ لَبَنِهَا كِفَايَتَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: " لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْم مَعْلُوم ". وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " إِنَّا مرسلوا النَّاقة فتْنَة لَهُم " أَيِ اخْتِبَارًا لَهُمْ أَيُؤْمِنُونَ بِهَا أَمْ يَكْفُرُونَ؟ وَالله أعلم بِمَا يَفْعَلُونَ. " فارتقبهم " أَيِ انْتَظِرْ مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِمْ " وَاصْطَبِرْ " عَلَى أَذَاهُمْ فَسَيَأْتِيكَ الْخَبَرُ عَلَى جَلِيَّةٍ. " وَنَبِّئْهُمْ أَن المَاء قسْمَة بَينهم كل شرب مختضر ". فَلَمَّا طَال عَلَيْهِم [هَذَا (1) ] الْحَال اجْتمع مأوهم، وَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَعْقِرُوا هَذِهِ النَّاقَةَ، لِيَسْتَرِيحُوا مِنْهَا وَيَتَوَفَّرَ عَلَيْهِمْ مَاؤُهُمْ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وعتوا عَن أَمر رَبهم، وَقَالُوا يَا صَالح ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ". وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى قَتْلَهَا مِنْهُمْ رَئِيسَهُمْ: قُدَارَ بْنَ سَالِفِ بْنِ جُنْدَعٍ، وَكَانَ أَحْمَرَ أَزْرَقَ أصهب. وَكَانَ يُقَالُ إِنَّهُ وَلَدُ زَانِيَةٍ (2) وُلِدَ عَلَى فرَاش سالف، وَهُوَ ابْن رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ صِيبَانُ. وَكَانَ فِعْلُهُ ذَلِكَ بِاتِّفَاق جَمِيعهم، فَلهَذَا نسب الْفِعْل إِلَيْهِم كلهم (2) . وَذكر ابْن جرير وَغَيرهم مِنْ عُلَمَاءِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ ثَمُودَ __________ (1) لَيست فِي ا (2) ا: زنية. (2) ط: إِلَى جَمِيعهم كلهم. (*)
(1/154)
اسْم إِحْدَاهمَا " صَدُوق " (1) ابْنة الْمحيا بن زُهَيْر بن الْمُخْتَار. وَكَانَتْ ذَاتَ حَسَبٍ وَمَالٍ، وَكَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ فَفَارَقَتْهُ، فَدَعَتِ ابْنَ عَمٍّ لَهَا يُقَال لَهُ " مصرع " بْنُ مَهْرَجِ بْنِ الْمُحَيَّا، وَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا إِنْ هُوَ عَقَرَ النَّاقَةَ. وَاسْمُ الْأُخْرَى " عُنَيْزَةُ " بنت غنيم بن مجلز، وتكنى أم غنمة (2) وَكَانَتْ عَجُوزًا كَافِرَةً، لَهَا بَنَاتٌ مِنْ زَوْجِهَا ذُؤَابِ بْنِ عَمْرٍو أَحَدِ الرُّؤَسَاءِ، فَعَرَضَتْ بَنَاتَهَا الْأَرْبَعَ عَلَى قُدَارِ بْنِ سَالِفٍ، إِنْ هُوَ (3) عَقَرَ النَّاقَةَ فَلَهُ أَيُّ بَنَاتِهَا شَاءَ، فَانْتُدِبَ (4) هَذَانِ الشَّابَّانِ لِعَقْرِهَا وَسَعَوْا فِي قَوْمِهِمْ بِذَلِكَ، فَاسْتَجَابَ لَهُمْ سَبْعَةٌ آخَرُونَ فَصَارُوا تِسْعَةً. وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ "، وَسَعَوْا فِي بَقِيَّةِ الْقَبِيلَةِ وَحَسَّنُوا لَهُمْ عَقْرَهَا، فَأَجَابُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَطَاوَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ. فَانْطَلَقُوا يَرْصُدُونَ النَّاقَةَ، فَلَمَّا صَدَرَتْ مِنْ وِرْدِهَا كَمَنَ لَهَا " مصرع "، فَرَمَاهَا بِسَهْم انتظم عظم (5) سَاقهَا، وَجَاء النِّسَاء يذمرن (6) الْقَبِيلَةِ فِي قَتْلِهَا، وَحَسَرْنَ عَنْ وُجُوهِهِنَّ تَرْغِيبًا لَهُم [فِي ذَلِك (7) ] فأسرعهم (8) قُدَارُ بْنُ سَالِفٍ، فَشَدَّ عَلَيْهَا بِالسَّيْفِ فَكَشَفَ عَنْ عُرْقُوبِهَا فَخَرَّتْ سَاقِطَةً إِلَى الْأَرْضِ. وَرَغَتْ رَغَاةً وَاحِدَةً عَظِيمَةً تُحَذِّرُ وَلَدَهَا، ثُمَّ طَعَنَ فِي لَبَّتِهَا فَنَحَرَهَا، وَانْطَلَقَ سَقْبُهَا - وَهُوَ فَصِيلُهَا - فَصَعدَ جبلا منيعا ورغا (9) ثَلَاثًا. __________ (1) ا: صدوقة. (2) ط: أم عُثْمَان. (3) ا: إِن من عقر (4) افابتدر. (5) ا: عضلة سَاقهَا (6) يذمرن: يحضضن. وفى المطبوعة: يزمرن. محرفة (7) من ا. (8) ط: فابتدرهم. (9) ط: دَعَا. وَهُوَ تَحْرِيف. (*)
(1/155)
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَمَّنْ سَمِعَ الْحَسَنَ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ أَيْنَ أُمِّي؟ ثُمَّ دَخَلَ فِي صَخْرَةٍ فَغَابَ فِيهَا. وَيُقَالُ: بَلِ اتَّبَعُوهُ فَعَقَرُوهُ أَيْضًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنذر ". وَقَالَ الله تَعَالَى: " إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله نَاقَة الله وسقياها " أَيِ احْذَرُوهَا " فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بذنبهم فسواها * وَلَا يخَاف عقباها ". قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ (1) - أَبُو عُرْوَةَ - عَنْ أَبِيهِ [عَنْ] (2) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ النَّاقَةَ وَذَكَرَ الَّذِي عَقَرَهَا فَقَالَ: " إِذْ انْبَعَثَ أشقاها: انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَارِمٌ عَزِيزٌ مَنِيعٌ فِي رَهْطِهِ، مِثْلُ أَبِي زَمْعَةَ " أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ بِهِ. عَارِمٌ: أَيْ شَهْمٌ. عَزِيزٌ أَيْ رَئِيسٌ مَنِيعٌ: أَيْ مُطَاعٌ فِي قَوْمِهِ. وَقَالَ [مُحَمَّدُ (3) ] بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بن خشيم، عَن مُحَمَّد ابْن كَعْب، عَن مُحَمَّد بن خثيم بن يَزِيدَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: " أَلَا أُحَدِّثُكَ بِأَشْقَى النَّاسِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: رجلَانِ [أحهما] (3) أُحَيْمِرُ ثَمُودَ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ وَالَّذِي يَضْرِبُكَ يَا عَلِيُّ عَلَى هَذَا - يَعْنِي قَرْنَهُ - حَتَّى تَبْتَلَّ مِنْهُ هَذِهِ - يَعْنِي لِحْيَتَهُ ". رَوَاهُ ابْنُ أَبى حَاتِم. __________ (1) ط: هَاشم. (2) من ا. (3) لَيست فِي ا (*)
(1/156)
وَقَالَ تَعَالَى: " فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبهم، وَقَالُوا يَا صَالح اثتنا بِمَا تعدنا إِن كنت من الْمُرْسلين ". فَجَمَعُوا فِي كَلَامِهِمْ هَذَا بَيْنَ كُفْرٍ بَلِيغٍ مِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا: أَنَّهُمْ خَالَفُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي ارْتِكَابِهِمُ النَّهْيَ الْأَكِيدَ فِي عَقْرِ النَّاقَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُمْ آيَةً. وَمِنْهَا: أَنَّهُمُ اسْتَعْجَلُوا وُقُوعَ الْعَذَابِ بِهِمْ فَاسْتَحَقُّوهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا الشَّرْطُ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: " وَلَا تَمَسُّوهَا بسوه فيأخذكم عَذَاب قريب " وَفِي آيَةٍ " عَظِيمٌ " وَفِي الْأُخْرَى " أَلِيمٌ " وَالْكُلُّ حَقٌّ. وَالثَّانِي اسْتِعْجَالُهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ كَذَّبُوا الرَّسُولَ الَّذِي قَدْ قَامَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَصِدْقِهِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ عِلْمًا جَازِمًا، وَلَكِنْ حَمَلَهُمُ الْكُفْرُ وَالضَّلَالُ وَالْعِنَادُ عَلَى اسْتِبْعَادِ الْحَقِّ وَوُقُوعِ الْعَذَابِ بِهِمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّام ذَلِك وعد غير مَكْذُوب ". وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ لَمَّا عَقَرُوا النَّاقَةَ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَطَا عَلَيْهَا قُدَارُ بْنُ سَالِفٍ، لَعَنَهُ الله ; فعرقبها فَسَقَطت إِلَى الارض، ثمَّ ابتدرها بِأَسْيَافِهِمْ [يُقَطِّعُونَهَا (1) ] فَلَمَّا عَايَنَ ذَلِكَ سَقْبُهَا - وَهُوَ وَلَدُهَا - شَرَدَ عَنْهُمْ فَعَلَا أَعْلَى الْجَبَلِ هُنَاكَ، وَرَغَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (2) . فَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: " تمَتَّعُوا فِي داركم ثَلَاثَة أَيَّام " أَي غير __________ (1) لَيست فِي ا. (2) ا: مرار. (*)
(1/157)
يَوْمِهِمْ ذَلِكَ، فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ أَيْضًا فِي هَذَا الْوَعْدِ الْأَكِيدِ. بَلْ لَمَّا أَمْسَوْا هَمُّوا بِقَتْلِهِ وَأَرَادُوا - فِيمَا يَزْعُمُونَ - أَنْ يُلْحِقُوهُ بِالنَّاقَةِ. " قَالُوا تقاسموا بِاللَّه لنبيتنه وَأَهله " أَيْ لَنَكْبِسَنَّهُ فِي دَارِهِ مَعَ أَهْلِهِ فَلَنَقْتُلَنَّهُ، ثمَّ نجحدن (1) قَتله ولننكرن ذَلِكَ إِنْ طَالَبَنَا أَوْلِيَاؤُهُ بِدَمِهِ. وَلِهَذَا قَالُوا: " ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لصادقون " * * * قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يعْملُونَ * وأنجينا الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ " (2) . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ الَّذِينَ قَصَدُوا قَتْلَ صَالِحٍ حِجَارَةً رَضَخَتْهُمْ [فأهلكهم (3) ] سَلَفًا وَتَعْجِيلًا قَبْلَ قَوْمِهِمْ، وَأَصْبَحَتْ ثَمُودُ يَوْمَ الْخَمِيسِ - وَهُوَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَيَّامِ (4) النَّظِرَةِ - وَوُجُوهُهُمْ مُصْفَرَّةٌ، كَمَا أَنْذَرَهُمْ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَلَمَّا أَمْسَوْا نَادَوْا بِأَجْمَعِهِمْ: أَلَا قَدْ مَضَى يَوْمٌ مِنَ الْأَجَلِ. ثُمَّ أَصْبَحُوا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّأْجِيلِ وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ - وَوُجُوهُهُمْ مُحْمَرَّةٌ، فَلَمَّا أَمْسَوْا نَادَوْا: أَلَا قَدْ مَضَى يَوْمَانِ مِنَ الْأَجَلِ. ثُمَّ أَصْبَحُوا فِي الْيَوْم الثَّالِث من أَيَّام الْمَتَاع - __________ (1) ا: تجحد. (2) الْآيَات: 49 - 53 من سُورَة النَّمْل. (3) سَقَطت من المطبوعة. (4) ا: من أيامهم. (*)
(1/158)
وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ - وَوُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ، فَلَمَّا أَمْسَوْا نَادَوْا: أَلَا قَدْ مَضَى الْأَجَلُ. فَلَمَّا كَانَ صَبِيحَة يَوْم الاحد تحنطوا وتأهبوا وقعدوا ينتظرون مَاذَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالنِّقْمَةِ، لَا يَدْرُونَ كَيْفَ يُفْعَلُ بِهِمْ؟ وَلَا مِنْ أَيِّ جِهَةٍ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ. فَلَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ جَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَرَجْفَةٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَفَاضَتِ الْأَرْوَاحُ وَزَهَقَتِ النُّفُوسُ، وَسَكَنَتِ الْحَرَكَاتُ، وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ، وَحُقَّتِ الْحَقَائِقُ، فَأَصْبَحُوا (1) فِي دَارهم جاثمين، جُثَثًا لَا أَرْوَاحَ فِيهَا وَلَا حِرَاكَ بِهَا. قَالُوا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا جَارِيَةٌ كَانَتْ مُقْعَدَةً وَاسْمُهَا " كَلْبَةُ " بِنْتُ السَّلْقِ - وَيُقَالُ لَهَا الذريعة - وَكَانَتْ شَدِيدَةَ الْكُفْرِ وَالْعَدَاوَةِ لِصَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا رَأَتِ الْعَذَابَ أُطْلِقَتْ رِجْلَاهَا، فَقَامَتْ تَسْعَى كأسرع شئ، فَأَتَتْ حَيًّا مِنَ الْعَرَبِ فَأَخْبَرَتْهُمْ بِمَا رَأَتْ وَمَاحِل بِقَوْمِهَا وَاسْتَسْقَتْهُمْ مَاءً، فَلَمَّا شَرِبَتْ مَاتَتْ. قَالَ الله تَعَالَى: " كَأَن لم يغنوا فِيهَا " أَيْ لَمْ يُقِيمُوا فِيهَا فِي سَعَةٍ وَرِزْقٍ وَغَنَاءٍ، " أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بعدا لثمود " أَيْ نَادَى عَلَيْهِمْ لِسَانُ الْقَدَرِ بِهَذَا. * * * قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، حَدثنَا عبد الله بن __________ (1) ا: أَصْبحُوا (*)
(1/159)
عين بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجْرِ قَالَ: " لَا تَسْأَلُوا الْآيَاتِ فَقَدْ سَأَلَهَا قَوْمُ صَالِحٍ، فَكَانَتْ - يَعْنِي النَّاقَةَ - تَرِدُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ وَتَصْدُرُ مِنْ هَذَا الْفَج، فمتعوا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَعَقَرُوهَا. وَكَانَتْ تَشْرَبُ مَاءَهُمْ يَوْمًا وَيَشْرَبُونَ لَبَنَهَا يَوْمًا، فَعَقَرُوهَا فَأَخَذَتْهُمْ صَيْحَةٌ أهمد الله [بهَا (1) ] مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ " فَقَالُوا: مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ (2) ؟ قَالَ: [هُوَ (1) ] أَبُو رِغَالٍ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ ". وَهَذَا الْحَدِيثُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَيْسَ هُوَ فِي شئ من الْكتب السِّتَّة. وَالله تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا: قَالَ مَعْمَرٌ: أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرِ أَبِي رِغَال، فَقَالَ: " أَتَدْرُونَ من هَذَا؟ " قَالُوا: وَالله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ ; رَجُلٍ مِنْ ثَمُودَ، كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ فَمَنَعَهُ حَرَمُ اللَّهِ عَذَابَ اللَّهِ، فَلَمَّا خَرَجَ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ فَدُفِنَ هَاهُنَا، وَدُفِنَ مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهَبٍ. فَنَزَلَ الْقَوْمُ فَابْتَدَرُوهُ بِأَسْيَافِهِمْ، فَبَحَثُوا عَنْهُ فَاسْتَخْرَجُوا الْغُصْنَ ". قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَبُو رِغَالٍ أَبُو ثَقِيفٍ. هَذَا مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. __________ (1) لَيست فِي ا (2) ا: يَا رَسُول الله من هُوَ
(1/160)
وَقَدْ جَاءَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُتَّصِلًا كَمَا ذكره مُحَمَّد بن إِسْحَق فِي السِّيرَةِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ بُجَيْرِ بْنِ أَبى بجير، قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَرَجْنَا مَعَهُ إِلَى الطَّائِفِ، فَمَرَرْنَا بِقَبْرٍ، فَقَالَ: " إِنَّ هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ، وَهُوَ أَبُو ثَقِيفٍ، وَكَانَ مِنْ ثَمُودَ، وَكَانَ بِهَذَا الْحَرَمِ يَدْفَعُ عَنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْهُ أَصَابَتْهُ النِّقْمَةُ الَّتِي أَصَابَتْ قَوْمَهُ بِهَذَا الْمَكَانِ فَدُفِنَ فِيهِ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ دُفِنَ مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهَبٍ، إِنْ أَنْتُمْ نَبَشْتُمْ عَنْهُ أَصَبْتُمُوهُ مَعَهُ. فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ الْغُصْنَ ". وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَق بِهِ. قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ عَزِيزٌ. قُلْتُ: تَفَرَّدَ بِهِ بُجَيْرُ بْنُ أَبِي بُجَيْرٍ هَذَا، وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ سِوَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ. قَالَ شَيْخُنَا: فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَهِمَ فِي رَفْعِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ زَامِلَتَيْهِ (1) . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: لَكِنْ فِي الْمُرْسَلِ الَّذِي قَبْلَهُ وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَيْضًا شَاهِدٌ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. * * * وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ: يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْت لكم وَلَكِن لَا تحبون الناصحين " إِخْبَار عَن صَالح عَلَيْهِ السَّلَام، __________ (1) الزاملة: الَّتِى يحمل عَلَيْهَا من الايل وَغَيرهَا، وَقد أصَاب عبد الله بن عَمْرو بعض كتب أهل الْكتاب، حمل زاملتين، فَكَانَ يحدث مِنْهَا. " م 11 - قصَص الانبياء 1 " (*)
(1/161)
أَنَّهُ خَاطَبَ قَوْمَهُ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ، وَقَدْ أَخَذَ فِي الذَّهَابِ عَنْ مَحِلَّتِهِمْ إِلَى غَيْرِهَا قَائِلًا لَهُمْ: " يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْت لكم " أَيْ جَهَدْتُ فِي هِدَايَتِكُمْ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَنِي، وَحَرَصْتُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِي وَفِعْلِي وَنِيَّتِي. " وَلَكِنْ لَا تحبون الناصحين " أَيْ لَمْ تَكُنْ سَجَايَاكُمْ تَقْبَلُ الْحَقَّ وَلَا تُرِيدُهُ، فَلِهَذَا صِرْتُمْ إِلَى مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، الْمُسْتَمِرِّ بِكُمُ الْمُتَّصِلِ إِلَى الْأَبَدِ، وَلَيْسَ لِي فِيكُمْ حِيلَةٌ وَلَا لِي بِالدَّفْعِ عَنْكُمْ يَدَانِ. وَالَّذِي وَجَبَ عَلَيَّ مِنْ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَالنُّصْحِ لَكُمْ قَدْ فَعَلْتُهُ وَبَذَلْتُهُ لَكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ. وَهَكَذَا خَاطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ قَلِيبِ بَدْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ: وَقَفَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَأَمَرَ بِالرَّحِيلِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَقَالَ: " يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا " وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: " بِئْسَ عَشِيرَةُ النَّبِيِّ كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ، كَذَّبْتُمُونِي وَصَدَّقَنِي النَّاسُ، وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي النَّاسُ، وَقَاتَلْتُمُونِي وَنَصَرَنِي النَّاسُ، فَبِئْسَ عَشِيرَةُ النَّبِيِّ كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ ". فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخَاطِبُ أَقْوَامًا قَدْ جَيَّفُوا؟ فَقَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يجيبون ". وَيُقَالُ إِنَّ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ انْتَقَلَ إِلَى حَرَمِ اللَّهِ فَأَقَامَ بِهِ حَتَّى مَاتَ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا زَمْعَةُ بْنُ صَالح، عَن سَلمَة ابْن وَهْرَامٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جوادي عُسْفَانَ [حِينَ حَجَّ قَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ أَيُّ وَادٍ هَذَا؟ " قَالَ:
(1/162)
وَادِي عُسْفَانَ (1) ] قَالَ: " لَقَدْ مَرَّ بِهِ هُودٌ وَصَالح عَلَيْهِمَا السَّلَام على بكرات خطمها الليف، أزرقهم الْعَبَاءُ، وَأَرْدِيَتُهُمُ النِّمَارُ يُلَبُّونَ يَحُجُّونَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ ". إِسْنَادٌ حَسَنٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ، وَفِيهِ نُوحٌ وَهُودٌ وَإِبْرَاهِيمُ. ذِكْرُ مُرُورِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي الْحِجْرِ مِنْ أَرْضِ ثَمُودَ عَامَ تَبُوكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ عَلَى تَبُوكَ، نَزَلَ بِهِمُ الْحِجْرَ عِنْدَ بُيُوتِ ثَمُودَ، فَاسْتَقَى النَّاسُ مِنَ الْآبَارِ الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا ثَمُودُ، فَعَجَنُوا مِنْهَا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ، فَأَمَرَهُمْ رَسُول الله فأهراقوا الْقُدُور، وعفلوا الْعَجِينَ الْإِبِلَ، ثُمَّ ارْتَحَلَ بِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ عَلَى الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا النَّاقَةُ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ عُذِّبُوا [فَقَالَ (1) ] : " إِنِّي أَخْشَى أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ ". وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْحِجْرِ: " لَا تَدْخُلُوا على هَؤُلَاءِ، المذبين إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُم ". __________ (1) سقط من ا. (*)
(1/163)
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا مَرَّ بِمَنَازِلِهِمْ قَنَّعَ رَأْسَهُ وَأَسْرَعَ رَاحِلَتَهُ، وَنَهَى عَنْ دُخُولِ مَنَازِلِهِمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا (1) فَتَبَاكَوْا خَشْيَةَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ ". صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هرون، حَدثنَا المَسْعُودِيّ، عَن إِسْمَعِيل بْنِ أَوْسَطَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي كَبْشَةَ الانباري عَنْ أَبِيهِ - وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ سَعْدٍ وَيُقَالُ عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ تَسَارَعَ النَّاسُ إِلَى أَهْلِ الْحِجْرِ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَى فِي النَّاسِ: " الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ ". قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُمْسِكٌ بَعِيرَهُ وَهُوَ يَقُولُ: " مَا تَدْخُلُونَ عَلَى قَوْمٍ عضب اللَّهُ عَلَيْهِمْ " فَنَادَاهُ رَجُلٌ: نَعْجَبُ مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: " أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ؟ رَجُلٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كَانَ قَبْلَكُمْ وَمَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكُمْ، فَاسْتَقِيمُوا وَسَدِّدُوا ; فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَعْبَأُ بِعَذَابِكُمْ شَيْئًا وَسَيَأْتِي قَوْمٌ لَا يَدْفَعُونَ عَنْ أنفسهم شَيْئا ". إِسْنَادٌ حَسَنٌ وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ. * * * وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ قَوْمَ صَالِحٍ كَانَتْ أَعْمَارُهُمْ طَوِيلَةً، فَكَانُوا يَبْنُونَ __________ (1) ا: فَإِن لم تَكُونُوا. (*)
(1/164)
الْبُيُوتَ مِنَ الْمَدَرِ فَتَخْرَبُ قَبْلَ مَوْتِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ، فَنَحَتُوا لَهُمْ بُيُوتًا فِي الْجِبَالِ. وَذَكَرُوا أَنَّ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَأَلُوهُ آيَةً، فَأَخْرَجَ اللَّهُ لَهُمُ النَّاقَةَ مِنَ الصَّخْرَةِ، أَمَرَهُمْ بِهَا وَبِالْوَلَدِ الَّذِي كَانَ فِي جَوْفِهَا، وَحَذَّرَهُمْ بَأْسَ اللَّهِ إِنْ هُمْ نَالُوهَا بِسُوءٍ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ سَيَعْقِرُونَهَا وَيَكُونُ سَبَبُ هَلَاكِهِمْ ذَلِكَ. وَذَكَرَ لَهُمْ صِفَةَ عَاقِرِهَا وَأَنَّهُ أَحْمَرُ أَزْرَقُ أَصْهَبُ. فَبَعَثُوا الْقَوَابِلَ فِي الْبَلَدِ مَتَى وَجَدُوا مَوْلُودًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَقْتُلْنَهُ، فَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ دَهْرًا طَوِيلًا. وَانْقَرَضَ جِيلٌ وَأَتَى جِيلٌ آخَرُ. فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَعْصَارِ خَطَبَ رَئِيسٌ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ عَلَى ابْنِهِ بِنْتَ آخَرَ مِثْلِهِ فِي الرِّيَاسَةِ، فَزَوَّجَهُ، فَوُلِدَ بَيْنَهُمَا عَاقِرُ النَّاقَةِ، وَهُوَ قُدَارُ بْنُ سَالِفٍ. فَلَمْ تَتَمَكَّنِ الْقَوَابِلُ مِنْ قَتْلِهِ لِشَرَفِ أَبَوَيْهِ وَجَدَّيْهِ فِيهِمْ، فَنَشَأَ نَشْأَةً سَرِيعَةً، فَكَانَ يَشِبُّ فِي الْجُمُعَةِ كَمَا يَشِبُّ غَيْرُهُ فِي شَهْرٍ، حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِ أَنْ خَرَجَ مُطَاعًا فِيهِمْ رَئِيسًا بَيْنَهُمْ. فَسَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ عَقْرَ النَّاقَةِ وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَهُمُ التِّسْعَةُ الَّذِينَ أَرَادُوا قَتْلَ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَلَمَّا وَقَعَ مِنْ أَمرهم مَا وَقع من عقر النَّاقة، بولغ ذَلِكَ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، جَاءَهُمْ بَاكِيًا عَلَيْهَا، فَتَلَقَّوْهُ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا لَمْ يَقع من مَلَأٍ مِنَّا. وَإِنَّمَا فَعَلَ هَذَا هَؤُلَاءِ الْأَحْدَاثُ فِينَا. فَيُقَال إِنَّه أَمرهم باستدراك سقها حَتَّى يُحْسِنُوا إِلَيْهِ عِوَضًا عَنْهَا، فَذَهَبُوا وَرَاءَهُ فَصَعِدَ جَبَلًا هُنَاكَ، فَلَمَّا تَصَاعَدُوا فِيهِ وَرَاءَهُ تَعَالَى الْجَبَلُ حَتَّى ارْتَفَعَ فَلَا يَنَالُهُ الطَّيْرُ، وَبَكَى الْفَصِيلُ حَتَّى سَالَتْ دُمُوعُهُ. ثُمَّ اسْتَقْبَلَ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَغَا ثَلَاثًا،
(1/165)
فَعِنْدَهَا قَالَ صَالِحٌ: " تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّام، ذَلِك وعد غير مَكْذُوب " وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ يُصْبِحُونَ مِنْ غَدِهِمْ صُفْرًا، ثُمَّ تَحْمَرُّ وُجُوهُهُمْ فِي الثَّانِي، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ تَسْوَدُّ وُجُوهُهُمْ. فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ أَتَتْهُم صَيْحَة فِيهَا صَوت كل صَاعِقَة، فَأَخَذتهم فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ. وَفِي بَعْضِ هَذَا السِّيَاقِ نَظَرٌ وَمُخَالَفَةٌ لِظَاهِرِ مَا يُفْهَمُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي شَأْنِهِمْ وَقِصَّتِهِمْ كَمَا قَدَّمْنَا. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم بِالصَّوَابِ.
(1/166)
هُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ تَارَخَ (1) " 250 " بْنِ نَاحُورَ " 148 " بْنِ ساروغ " 230 " بن راغو " 239 " ابْن فالغ " 439 " بن عَابِر " 464 " (2) ابْن شالح " 433 " بْنِ أَرْفَخْشَذَ " 438 " (3) بْنِ سَامِ " 600 " بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. هَذَا نَصُّ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كِتَابِهِمْ، وَقَدْ أَعْلَمْتُ عَلَى أَعْمَارِهِمْ تَحْتَ أَسْمَائِهِمْ بِالْهِنْدِيِّ كَمَا ذَكَرُوهُ [مِنَ الْمُدَدِ] (4) وَقَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى عُمُرِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَحَكَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ [إِبْرَاهِيمَ (4) ] الْخَلِيل من تَارِيخه عَن إِسْحَق بْنِ بِشْرٍ الْكَاهِلِيِّ صَاحِبِ كِتَابِ الْمُبْتَدَأِ، أَنَّ اسْمَ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ " أُمَيْلَةُ ". ثُمَّ أَوْرَدَ عَنْهُ فِي خَبَرِ وِلَادَتِهَا لَهُ حِكَايَةً طَوِيلَةً. وَقَالَ الكلبى: سمها " بونا " بنت كربتا بن كرثى، من بنى أرفخشذ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُكْنَى " أَبَا الضِّيفَانِ " قَالُوا: وَلَمَّا كَانَ عُمُرُ تَارَخَ خَمْسًا وَسَبْعِينَ سنة ولد لَهُ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام، وتاحور وَهَارَانُ، وَوُلِدَ لِهَارَانَ " لُوطٌ ". وَعِنْدَهُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الْأَوْسَطُ، وَأَنَّ هَارَانَ مَاتَ فِي __________ (1) ط: تسارخ وَهُوَ تَحْرِيف. (2) ا: 443 (3) ا: 893. (4) لَيست فِي ا. (*)
(1/167)
حَيَاةِ أَبِيهِ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا، وَهِيَ أَرْضُ الْكَلْدَانِيِّينَ يَعْنُونَ أَرْضَ بَابِلَ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ والاخبار، وَصحح ذَلِك الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر، بعد ماروى مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنِ الْوَلِيدِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وُلِدَ إِبْرَاهِيمُ بِغُوطَةِ دِمَشْقَ، فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا بَرْزَةُ، فِي جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ قَاسِيُونَ. ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وُلِدَ بِبَابِلَ. وَإِنَّمَا نُسِبَ إِلَيْهِ هَذَا الْمَقَامُ لِأَنَّهُ صَلَّى فِيهِ إِذْ جَاءَ مُعِينًا لِلُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالُوا: فَتَزَوَّجَ إِبْرَاهِيمُ سَارَةَ، وناحور " ملكا " ابْنة هاران يعنون ابْنة أَخِيهِ. قَالُوا: وَكَانَتْ سَارَةُ عَاقِرًا لَا تَلِدُ. قَالُوا: وامنطلق تَارَخُ بِابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ وَامْرَأَتِهِ سَارَةَ وَابْنِ أَخِيهِ لُوطِ بْنِ هَارَانَ، فَخَرَجَ بِهِمْ مِنْ أَرْضِ الْكَلْدَانِيِّينَ إِلَى أَرْضِ الْكَنْعَانِيِّينَ، فَنَزَلُوا حَرَّانَ فَمَاتَ فِيهَا تَارَخُ وَلَهُ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ سَنَةً. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُولَدْ بِحَرَّانَ، وَإِنَّمَا مَوْلِدُهُ بِأَرْضِ الْكَلْدَانِيِّينَ وَهِيَ أَرْضُ بَابِلَ وَمَا والاها. ثمَّ ارتحلوا قَاصِدين أَرض الكنعانين، وَهِيَ بِلَادُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأَقَامُوا بِحَرَّانَ وَهِيَ أَرْضُ الْكَشْدَانِيِّينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَكَذَلِكَ أَرْضُ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ أَيْضًا. وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ. وَالَّذِينَ عَمَّرُوا مَدِينَةَ دِمَشْقَ كَانُوا عَلَى هَذَا الدِّينِ، يَسْتَقْبِلُونَ الْقُطْبَ الشَّمَالِيَّ وَيَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْفَعَالِ وَالْمَقَالِ. وَلِهَذَا كَانَ عَلَى كل بَاب
(1/168)
مِنْ أَبْوَابِ دِمَشْقَ السَّبْعَةِ الْقَدِيمَةِ هَيْكَلٌ لِكَوْكَبٍ مِنْهَا، وَيَعْمَلُونَ لَهَا أَعْيَادًا وَقَرَابِينَ. وَهَكَذَا كَانَ أَهْلُ حَرَّانَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ وَكُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَانُوا كُفَّارًا، سِوَى إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَامْرَأَتِهِ وَابْنِ أَخِيهِ لُوطٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَكَانَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي أَزَالَ اللَّهُ بِهِ تِلْكَ الشُّرُورَ، وَأَبْطَلَ بِهِ ذَاكَ الضَّلَالَ ; فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى آتَاهُ رُشْدَهُ فِي صِغَرِهِ، وَابْتَعَثَهُ رَسُولًا وَاتَّخَذَهُ خَلِيلًا فِي كبره، قَالَ الله تَعَالَى: " وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالمين (1) ". أَيْ كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: " وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا، إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ، وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * أَوَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يبدى اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ، إِنَّ الله على كل شئ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء، ومالكم مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * وَالَّذين كفرُوا بآيَات ولقائه أُولَئِكَ يئسوا من __________ (1) سُورَة الانبياء 58. (*)
(1/169)
رحمتى وَأُولَئِكَ لم عَذَابٌ أَلِيمٌ " فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ، فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَوْم الْقِيَامَة يكفر بَعْضكُم بِبَعْض وبلعن بَعْضُكُمْ بَعْضًا ; وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَق وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (1) ". ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مُنَاظَرَتَهُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. * * * وَكَانَ أَوَّلُ دَعْوَتِهِ لِأَبِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ مِمَّنْ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، لِأَنَّهُ أَحَقُّ النَّاسِ بِإِخْلَاصِ النَّصِيحَةِ [لَهُ] (2) كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صديقا نَبيا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صراطا سويا * يَا أَبَت لاتعبد الشَّيْطَان إِن الشَّيْطَان كَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ؟ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دون الله وأدعو ربى ; عَسى أَن لَا أكون بِدُعَاء ربى شقيا " (3) . __________ (1) سُورَة العنكبوت 16 - 27. (2) سقط من ا. (3) سُورَة مَرْيَم 41 - 48 (*)
(1/170)
فَذكر تَعَالَى مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ وَالْمُجَادَلَةِ، وَكَيْفَ دَعَا أَبَاهُ إِلَى الْحَقِّ بِأَلْطَفِ عِبَارَةٍ وَأَحْسَنِ إِشَارَةٍ ; بَيَّنَ لَهُ بُطْلَانَ مَا هُوَ عَلَيْهِ من عبَادَة الاوثان الَّتِي لَا تَسْمَعُ دُعَاءَ عَابِدِهَا وَلَا تُبْصِرُ مَكَانَهُ، فَكيف تُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا أَوْ تَفْعَلُ بِهِ خَيْرًا من رزق أَو نصر؟ ثمَّ قَالَ [لَهُ] (1) مُنَبِّهًا عَلَى مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ النَّافِعِ وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَ سِنًّا مِنْ أَبِيهِ: " يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سويا " أَيْ مُسْتَقِيمًا وَاضِحًا سَهْلًا حَنِيفًا، يُفْضِي بِكَ إِلَى الْخَيْرِ فِي دُنْيَاكَ وَأُخْرَاكَ. فَلَمَّا عَرَضَ هَذَا الرُّشْدَ عَلَيْهِ وَأَهْدَى هَذِهِ النَّصِيحَةَ إِلَيْهِ، لَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ وَلَا أَخَذَهَا عَنْهُ، بَلْ تَهَدَّدَهُ [وَتَوَعَّدَهُ] (2) قَالَ: " أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيم؟ لَئِن لم تَنْتَهِ لارجمنك " قيل بالمقال وَقيل بالفعال. " واهجرني مَلِيًّا " أَيْ وَاقْطَعْنِي وَأَطِلْ هِجْرَانِي. فَعِنْدَهَا قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم: " سَلام عَلَيْك " أَيْ لَا يَصِلُكَ مِنِّي مَكْرُوهٌ وَلَا يَنَالُكَ مِنِّي أَذًى، بَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ نَاحِيَتِي. وَزَادَهُ خَيْرًا فَقَالَ: " سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بى حفيا ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أَيْ لَطِيفًا، يَعْنِي فِي أَنْ هَدَانِي لِعِبَادَتِهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ. وَلِهَذَا قَالَ: " وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وأدعو ربى، عَسى أَن لَا أكون بِدُعَاء ربى شقيا ". __________ (1) من ا. (2) لَيست فِي ا. (*)
(1/171)
وَقَدِ اسْتَغْفَرَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا وَعَدَهُ فِي أَدْعِيَتِهِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ] (1) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيم " (2) وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي أَخِي عَبْدُ الْحَمِيدِ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي؟ فَيَقُولُ [لَهُ (1) ] أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رب إِنَّك وَعَدتنِي أَن لَا تخزيني يَوْم يبعثون فأى خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ. ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذبح مُتَلَطِّخٍ، فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ ". هَكَذَا رَوَاهُ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ مُنْفَرِدًا. وَقَالَ فِي التَّفْسِيرِ: وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ (3) ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ بِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّار عَن حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم __________ (1) سقط من ا (2) سُورَة التَّوْبَة 214 (3) ط: ابْن أَبى ذُؤَيْب محرفة. (*)
(1/172)
بِنَحْوِهِ، وَفِي سِيَاقِهِ غَرَابَةٌ. وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: " وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً؟ إِنِّي أَرَاك وقومك فِي ضلال مُبين " هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَ أَبِي إِبْرَاهِيمَ آزَرُ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ النَّسَبِ، مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَلَى أَنَّ اسْمَ أَبِيهِ تَارَحُ. وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَقُولُونَ تَارَخُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، [فَقِيلَ: إِنَّهُ لُقِّبَ بِصَنَمٍ كَانَ يَعْبُدُهُ اسْمُهُ آزَرُ] (1) . وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ أَنَّ اسْمَهُ آزَرُ. وَلَعَلَّ لَهُ اسْمَانِ عَلَمَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا لَقَبٌ وَالْآخَرُ عَلَمٌ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُحْتَمَلٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. * * * ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: " وَكَذَلِكَ نرى إِبْرَاهِيم ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى القم بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ، فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قوم إنى برِئ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَات وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ؟ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاء ربى شَيْئا، وسع ربى كل شئ __________ (1) لَيست فِي ا. (*)
(1/173)
عِلْمًا، أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ؟ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا؟ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مهتدون * وَتلك حججتنا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نشَاء إِن رَبك حَكِيم عليم (1) ". وَهَذَا الْمَقَامُ مَقَامُ مُنَاظَرَةٍ لِقَوْمِهِ، وَبَيَانٌ لَهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْرَامَ الْمُشَاهَدَةَ مِنَ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَةِ، لَا تَصْلُحُ لِلْأُلُوهِيَّةِ، وَلَا أَنْ تُعْبَدَ مَعَ الله عزوجل، لِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مَرْبُوبَةٌ مَصْنُوعَةٌ مُدَبَّرَةٌ مُسَخَّرَةٌ، تَطْلُعُ تَارَةً وَتَأْفُلُ أُخْرَى، فَتَغِيبُ عَنْ هَذَا الْعَالَمِ، والرب تَعَالَى لَا يغيب عَنهُ شئ وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، بَلْ هُوَ الدَّائِمُ الْبَاقِي بِلَا زَوَال، لَا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ. فَبين لَهُم أَولا عدم صَلَاحِية الْكَوَاكِب " لذَلِك (2) ] قيل هُوَ الزهرة، ثمَّ تَرَقَّى مِنْهَا إِلَى الْقَمَرِ الَّذِي هُوَ أَضْوَأُ مِنْهَا وَأَبْهَى مِنْ حُسْنِهَا، ثُمَّ تَرَقَّى إِلَى الشَّمْسِ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ الْأَجْرَامِ الْمُشَاهَدَةِ ضِيَاءً وَسَنَاءً وَبَهَاءً، فَبَيَّنَ أَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ مُسَيَّرَةٌ مُقَدَّرَةٌ مَرْبُوبَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ، وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إباه تَعْبدُونَ " (3) . وَلِهَذَا قَالَ: " فَلَمَّا رَأس الشَّمْس بازغة " أَيْ طَالِعَةً " قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أفلت قَالَ يَا قوم إنى برِئ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَات والارض حَنِيفا وَمَا أَنا من الْمُشْركين * __________ (1) لَيست فِي ا (2) لَيست فِي ا (3) سُورَة فصلت 37 (*)
(1/174)
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ، وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاء ربى شَيْئا، أَي لست أبالى هَذِهِ الْآلِهَةِ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنَّهَا لَا تَنْفَعُ شَيْئًا وَلَا تَسْمَعُ وَلَا تَعْقِلُ، بَلْ هِيَ مَرْبُوبَةٌ مُسَخَّرَةٌ كَالْكَوَاكِبِ وَنَحْوِهَا، أَوْ مَصْنُوعَةٌ مَنْحُوتَةٌ مَنْجُورَةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَوْعِظَتَهُ هَذِه فِي الْكَوَاكِب لاهل حران، فَإِنَّهُم كَانُوا يَعْبُدُونَهَا. وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ قَالَ هَذَا حِينَ خَرَجَ مِنَ السَّرَبِ لَمَّا كَانَ صَغِيرا، كَمَا ذكره ابْن إِسْحَق وَغَيْرُهُ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى أَخْبَارٍ إِسْرَائِيلِيَّةٍ لَا يُوثَقُ بِهَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا خَالَفَتِ الْحَقَّ. * * * وَأَمَّا أَهْلُ بَابِلَ فَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، وَهُمُ الَّذِينَ نَاظَرَهُمْ فِي عِبَادَتِهَا وَكَسَرَهَا عَلَيْهِمْ، وَأَهَانَهَا وَبَيَّنَ بُطْلَانَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ ومالكم من ناصرين " وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: " وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ من اللاعبين؟ * قَالَ بل ربكُم رب السَّمَوَات والارض الذى فطرهن وَأَنا على ذَلِك مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بآلهتنا
(1/175)
إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ؟ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نكسوا على رؤوسهم لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ * قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتكُم إِن كُنْتُم فاعلين * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيم * وَأَرَادُوا بِهِ كيدا فجعلناهم الاخسرين " (1) وَقَالَ فِي سُورَة الشُّعَرَاء: " واتل عَلَيْهِم نبأ إِبْرَاهِيم * إِذْ قَالَ لابيه وَقَومه مَا تَعْبدُونَ * قَالُوا نعْبد أصناما فنظل لَهَا عاكفين * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ؟ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ؟ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُم عدولى إِلَّا رب الْعَالمين * الذى خلقني فَهُوَ يهدين * والذى هُوَ يطعمنى ويسقين * وَإِذا مَرضت فَهُوَ يشفين * والذى يميتني ثمَّ يحيين * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدّين * رب هَب لى حكما وألحقني بالصالحين " (2) . وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ: " وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ؟ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ؟ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالمين * فَنظر نظرة فِي __________ (1) سُورَة الانبياء 51 - 70 (2) الْآيَات: 69 - 82. (*)
(1/176)
النُّجُومِ، فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فرَاغ إِلَى آلِهَتهم فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ؟ * مالكم لَا تَنْطِقُونَ؟ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ؟ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الاسفلين " (1) . يُخْبِرُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام، أَنه أنكر على قومه عبَادَة لاوثان وَحَقَّرَهَا عِنْدَهُمْ وَصَغَّرَهَا وَتَنَقَّصَهَا، فَقَالَ: " مَا هَذِهِ التماثيل الَّتِى أَنْتُم لَهَا عاكفون "؟ أَيْ مُعْتَكِفُونَ عِنْدَهَا وَخَاضِعُونَ لَهَا، قَالُوا: " وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عابدين ". مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا صَنِيعُ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَنْدَادِ. " قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ " كَمَا قَالَ تَعَالَى: " إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظنكم بِرَبّ الْعَالمين ". قَالَ قَتَادَةُ: فَمَا ظَنُّكُمْ بِهِ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِكُمْ إِذَا لَقِيتُمُوهُ وَقَدْ عَبَدْتُمْ غَيْرَهُ؟ وَقَالَ لَهُمْ: " هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ؟ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ " سَلَّمُوا لَهُ أَنَّهَا لَا تَسْمَعُ دَاعِيًا وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ شَيْئًا، وَإِنَّمَا الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى عِبَادَتِهَا الِاقْتِدَاءُ بِأَسْلَافِهِمْ وَمَنْ هُوَ مِثْلُهُمْ فِي الضَّلَالِ مِنَ الْآبَاءِ الْجُهَّالِ. وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ: " أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ؟ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ". __________ (1) الْآيَات: 83 - 98 (12 - قصَص الانبياء 1) (*)
(1/177)
وَهَذَا بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ مَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْأَصْنَامِ ; لِأَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْهَا وَتَنَقَّصَ بِهَا، فَلَوْ كَانَتْ تَضُرُّ لَضَرَّتْهُ، أَوْ تُؤَثِّرُ لَأَثَّرَتْ فِيهِ. " قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ من الاعبين؟ " وَيَقُولُونَ: هَذَا الْكَلَام الذى تَقوله لنا وتتنقص بِهِ آلِهَتنَا، وتطعن بِسَبَبِهِ فِي آبَائِنَا أتقوله (1) محقا جادا فِيهِ أم لَا عبا؟ " قَالَ بل ربكُم رب السَّمَوَات وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدين " يَعْنِي بَلْ أَقُولُ لَكُمْ ذَلِكَ جَادًّا مُحِقًّا، إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، ربكُم وَرب كل شئ، فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْضِ، الْخَالِقُ لَهُمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ. فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَقَوْلُهُ: " وَتَاللَّهِ لاكيدن أصنامكم بعد أَن توَلّوا مُدبرين " أقسم ليكيدن هَذِه الاصنام الَّتِى يعبدونها يعد أَنْ تَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ إِلَى عِيدِهِمْ. قِيلَ: إِنَّهُ قَالَ هَذَا خُفْيَةً فِي نَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سَمِعَهُ بَعْضُهُمْ. وَكَانَ لَهُمْ عِيدٌ يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ عَامٍ (2) مَرَّةً إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ، فَدَعَاهُ أَبُوهُ لِيَحْضُرَهُ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: " فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إنى سقيم " عَرَّضَ لَهُمْ فِي الْكَلَامِ حَتَّى تَوَصَّلَ إِلَى مَقْصُودِهِ مِنْ إِهَانَةِ أَصْنَامِهِمْ، وَنُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ الْحق، وَبطلَان مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ تُكَسَّرَ وَأَنْ تُهَانَ غَايَةَ الْإِهَانَةِ. __________ (1) ا: تَقوله (2) ا: عيد. (*)
(1/178)
فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى عِيدِهِمْ، وَاسْتَقَرَّ هُوَ فِي بلدهم " راغ إِلَى آلِهَتهم " أَيْ ذَهَبَ إِلَيْهَا مُسْرِعًا مُسْتَخْفِيًا، فَوَجَدَهَا فِي بَهْوٍ عَظِيمٍ، وَقَدْ وَضَعُوا بَيْنَ أَيْدِيَهَا أَنْوَاعًا مِنَ الْأَطْعِمَةِ قُرْبَانًا إِلَيْهَا فَقَالَ لَهَا عَلَى سَبِيل التهكم والازدراء " أَلا تَأْكُلُونَ * مالكم لَا تنطقون * فرَاغ عَلَيْهِم ضربا بِالْيَمِينِ " لِأَنَّهَا أَقْوَى وَأَبْطَشُ وَأَسْرَعُ وَأَقْهَرُ، فَكَسَّرَهَا بِقَدُومٍ فِي يَدِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: " فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا " أَيْ حُطَامًا، كَسَّرَهَا كُلَّهَا " إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُم إِلَيْهِ يرجعُونَ ". قِيلَ إِنَّهُ وَضَعَ الْقَدُومَ فِي يَدِ الْكَبِيرِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ غَارَ أَنْ تُعْبَدَ مَعَهُ هَذِهِ الصِّغَارُ! فَلَمَّا رَجَعُوا مِنْ عِيدِهِمْ وَوَجَدُوا مَا حَلَّ بِمَعْبُودِهِمْ " قَالُوا: مَنْ فَعَلَ هَذَا بآلهتنا إِنَّه لمن الظَّالِمين ". وَهَذَا فِيهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْقِلُونَ، وَهُوَ مَا حَلَّ بِآلِهَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا، فَلَوْ كَانَتْ آلِهَةً لَدَفَعَتْ عَنْ أَنْفُسِهَا مَنْ أَرَادَهَا بِسُوءٍ لَكِنَّهُمْ قَالُوا مِنْ جَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عَقْلِهِمْ وَكَثْرَةِ ضَلَالِهِمْ وَخَبَالِهِمْ: " مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ". " قَالُوا سَمِعْنَا فَتى يذكرهم يُقَال لَهُ إِبْرَاهِيم " أَيْ يَذْكُرُهَا بِالْعَيْبِ وَالتَّنَقُّصِ لَهَا وَالِازْدِرَاءِ بِهَا، فَهُوَ الْمُقِيمُ عَلَيْهَا وَالْكَاسِرُ لَهَا. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَيْ يَذْكُرُهُمْ بِقَوْلِهِ: " وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أصنامكم بعد أَن توَلّوا مُدبرين ". " قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يشْهدُونَ " أَيْ فِي الْمَلَأِ الْأَكْبَرِ
(1/179)
عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ مَقَالَتَهُ وَيَسْمَعُونَ كَلَامَهُ، وَيُعَايِنُونَ مَا يَحِلُّ بِهِ مِنَ الِاقْتِصَاصِ مِنْهُ. وَكَانَ هَذَا أَكْبَرَ مَقَاصِدِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَيُقِيمَ عَلَى جَمِيع عباد الاصنام الْحجَّة على بطلَان ماهم عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِفِرْعَوْنَ: " مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ". * * * فَلَمَّا اجْتَمَعُوا وَجَاءُوا بِهِ كَمَا ذَكَرُوا " قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بل فعله كَبِيرهمْ هَذَا ". قيل مَعْنَاهُ: هُوَ الْحَامِل لى على تكسيرهم، وَإِنَّمَا عَرَّضَ لَهُمْ فِي الْقَوْلِ " فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا ينطقون " وتإنما أَرَادَ بِقَوْلِهِ هَذَا أَنْ يُبَادِرُوا إِلَى الْقَوْلِ بِأَن هَذِهِ لَا تَنْطِقُ، فَيَعْتَرِفُوا بِأَنَّهَا جَمَادٌ كَسَائِرِ الْجَمَادَاتِ. " فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ " أَيْ فَعَادُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْمَلَامَةِ، فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُم الظَّالِمُونَ. أَيْ فِي تَرْكِهَا لَا حَافِظَ لَهَا وَلَا حارس عِنْدهَا. " ثمَّ نكسوا على رؤوسهم ". قَالَ السُّدِّيُّ: أَيْ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى الْفِتْنَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: " إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ " أَيْ فِي عِبَادَتِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَدْرَكَتِ الْقَوْمَ حَيْرَةُ سَوْءٍ. أَيْ فَأَطْرَقُوا ثُمَّ قَالُوا: " لَقَدْ علمت مَا هَؤُلَاءِ ينطقون " أَيْ لَقَدْ عَلِمْتَ يَا إِبْرَاهِيمُ أَنَّ هَذِهِ لَا تَنْطِقُ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنَا بِسُؤَالِهَا!.
(1/180)
فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ لَهُمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " أفتعبدون من دون الله حَالا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ، أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبدُونَ من دون الله أَفلا تعقلون؟ ". كَمَا قَالَ: " فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يزفون " قَالَ مُجَاهِدٌ: يُسْرِعُونَ. قَالَ: " أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ " أَيْ كَيْفَ تَعْبُدُونَ أَصْنَامًا أَنْتُمْ تَنْحِتُونَهَا مِنَ الْخَشَبِ وَالْحِجَارَةِ، وَتُصَوِّرُونَهَا وَتُشَكِّلُونَهَا كَمَا تُرِيدُونَ " وَاللَّهُ خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ ". وَسَوَاءٌ كَانَتْ: " مَا " مَصْدَرِيَّةً أَوْ بِمَعْنَى الَّذِي، فَمُقْتَضَى الْكَلَامِ أَنَّكُمْ مَخْلُوقُونَ، وَهَذِهِ الْأَصْنَامَ مَخْلُوقَةٌ، فَكيف يتعبد مَخْلُوق لمخلوق مِثْلَهُ؟ فَإِنَّهُ لَيْسَ عِبَادَتُكُمْ لَهَا بِأَوْلَى مِنْ عِبَادَتِهَا لَكُمْ. وَهَذَا بَاطِلٌ، فَالْآخَرُ بَاطِلٌ لِلتَّحَكُّمِ ; إِذْ لَيْسَتِ الْعِبَادَةُ تَصْلُحُ وَلَا تَجِبُ (1) إِلَّا لِلْخَالِقِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. * * * " قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كيدا فجعلناهم الاسفلين ". عَدَلُوا عَنِ الْجِدَالِ وَالْمُنَاظَرَةِ لَمَّا انْقَطَعُوا وَغُلِبُوا، وَلَمْ تَبْقَ لَهُمْ حَجَّةٌ وَلَا شُبْهَةٌ إِلَى اسْتِعْمَال قوتهم وسلطانهم، لينصروا ماهم عَلَيْهِ مِنْ سَفَهِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ، فَكَادَهُمُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ ; وَأَعْلَى كَلِمَتَهُ وَدِينَهُ وَبُرْهَانَهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: " قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعلين * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيم * وَأَرَادُوا بِهِ كيدا فجعلناهم الاخسرين ". __________ (1) ا: تجب وَلَا تصلح. (*)
(1/181)
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ شَرَعُوا يَجْمَعُونَ حَطَبًا مِنْ جَمِيعِ مَا يُمْكِنُهُمْ مِنَ الْأَمَاكِنِ، فَمَكَثُوا مُدَّةً يَجْمَعُونَ لَهُ حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ مِنْهُمْ كَانَتْ إِذَا مَرِضَتْ تَنْذِرُ لَئِنْ عُوفِيَتْ لَتَحْمِلَنَّ حَطَبًا لِحَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ. ثُمَّ عَمَدُوا إِلَى جَوْبَةٍ (2) عَظِيمَةٍ فَوَضَعُوا فِيهَا ذَلِك الْحَطب وأطلقوا فِيهِ النَّار، فاضطربت وتأججت والتهبت وَعلا لَهَا شَرَرٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ قَطُّ. ثُمَّ وَضَعُوا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كِفَّةِ مَنْجَنِيقٍ (2) صَنَعَهُ لَهُمْ رَجُلٌ مِنَ الْأَكْرَادِ يُقَالُ لَهُ " هِيزَنُ " وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَنَعَ الْمَجَانِيقَ، فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ أَخَذُوا يُقَيِّدُونَهُ وَيُكَتِّفُونَهُ وَهُوَ يَقُولُ: لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ [رب الْعَالمين (3) ] لَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الْمُلْكُ، لَا شَرِيكَ لَكَ. فَلَمَّا وُضِعَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كِفَّةِ الْمَنْجَنِيقِ مُقَيَّدًا مَكْتُوفًا ثُمَّ أَلْقَوْهُ مِنْهُ إِلَى النَّارِ قَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ حِينَ قِيلَ لَهُ: " إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا، وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ " الْآيَةَ. وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِي، حَدثنَا إِسْحَق بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنْ عَاصِم ابْن أَبى النجُود، عَن أَبى صَالح عَن __________ (1) الجوبة: الحفرة (2) المنجنيق: آلَة ترمى بهَا الْحِجَارَة فِي الْحَرْب. (3) لَيست فِي ا. (*)
(1/182)
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمَّا أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ فِي النَّارِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ فِي السَّمَاءِ وَاحِدٌ، وَأَنَا فِي الْأَرْضِ وَاحِدٌ أَعْبُدُكَ! ". وَذَكَرَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّ جِبْرِيل عرض لَهُ فِي الْهَوَاء فَقَالَ: [يَا إِبْرَاهِيم (1) ] أَلَكَ حَاجَةٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا! وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: جَعَلَ مَلَكُ الْمَطَرِ يَقُولُ: مَتَى أُومَرُ فَأُرْسِلَ الْمَطَرَ؟ فَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ أَسْرَعَ. " قُلْنَا يَا ناركونى بردا وَسلَامًا على إِبْرَاهِيم ". قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: [أَيْ (1) ] لَا تَضُرِّيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: لَوْلَا أَن الله قَالَ: وَسلَامًا على إِبْرَاهِيم لَأَذَى إِبْرَاهِيمَ بَرْدُهَا. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لَمْ ينْتَفع أهل الارض يَوْمئِذٍ بِنَار، وَلم تحرق مِنْهُ سِوَى وَثَاقِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يُرْوَى أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَعَهُ يَمْسَحُ الْعَرَقَ عَن وَجهه لم يصبهُ مِنْهَا شئ غَيْرُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ مَعَهُ أَيْضًا مَلَكُ الظل، وَصَارَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي ميل الجوبة (2) حوله نَار وَهُوَ فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ لَا يقدرُونَ على الْوُصُول، وَلَا هُوَ يخرج إِلَيْهِم. __________ (1) لَيست فِي ا. (2) ط: فِي مثل الحوبة (*)
(1/183)
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَحْسَنُ كَلِمَةٍ قَالَهَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ، إِذْ قَالَ لَمَّا رَأَى وَلَدَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ: نِعْمَ الرَّبُّ رَبُّكَ يَا إِبْرَاهِيمُ! وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّ أُمَّ إِبْرَاهِيمَ نَظَرَتْ إِلَى ابْنِهَا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَنَادَتْهُ: يَا بُنَيَّ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أجئ إِلَيْكَ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُنَجِّيَنِي مِنْ حَرِّ النَّارِ حَوْلَكَ، فَقَالَ: نَعَمْ. فَأَقْبَلَتْ إِلَيْهِ لَا يَمَسهَا شئ مِنْ حَرِّ النَّارِ، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَيْهِ اعْتَنَقَتْهُ وَقَبَّلَتْهُ ثُمَّ عَادَتْ. وَعَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ مَكَثَ هُنَاكَ إِمَّا أَرْبَعِينَ وَإِمَّا خَمْسِينَ يَوْمًا، وَأَنَّهُ قَالَ: مَا كُنْتُ أَيَّامًا وَلَيَالِيَ أَطْيَبَ عَيْشًا إِذْ كُنْتُ فِيهَا، وَوَدِدْتُ أَنَّ عَيْشِي وَحَيَاتِي كُلَّهَا [مِثْلُ (1) ] إِذْ كُنْتُ فِيهَا. صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. فَأَرَادُوا أَنْ يَنْتَصِرُوا فَخُذِلُوا، وَأَرَادُوا أَنْ يَرْتَفِعُوا فَاتَّضَعُوا، وَأَرَادُوا أَنْ يَغْلِبُوا فَغُلِبُوا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ "، وفى الْآيَة الاخرى " السفلين " فَفَازُوا بِالْخَسَارَةِ وَالسَّفَالِ هَذَا فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ نَارَهُمْ لَا تَكُونُ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَلَا سَلَامًا، وَلَا يُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَلَا سَلَامًا، بَلْ هِيَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: " إِنَّهَا ساءت مُسْتَقرًّا ومقاما ". قَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا عبد اللَّهِ بْنُ مُوسَى، أَوِ ابْنُ سَلَّامٍ عَنْهُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أُمِّ __________ (1) لبست فِي ا. (*)
(1/184)
شَرِيكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ (1) ، وَقَالَ: " كَانَ يَنْفُخُ (2) عَلَى إِبْرَاهِيمَ ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جريج. وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ بِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، أَنَّ نَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " اقْتُلُوا الْوَزَغَ فَإِنَّهُ كَانَ يَنْفُخُ النَّار على إِبْرَاهِيم ". قَالَ: فَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقْتُلُهُنَّ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ فَإِذَا رُمْحٌ مَنْصُوبٌ فَقَالَتْ: مَا هَذَا الرُّمْحُ؟ فَقَالَتْ: نَقْتُلُ بِهِ الْأَوْزَاغَ ; ثُمَّ حَدَّثَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا أُلْقِيَ فِي النَّارِ جَعَلَتِ الدَّوَابُّ كُلُّهَا تُطْفِئُ عَنْهُ إِلَّا الْوَزَغَ، فَإِنَّهُ جَعَلَ يَنْفُخُهَا عَلَيْهِ ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّان، حَدثنَا جرير، حَدثنَا نَافِع، حَدَّثتنِي سمامة مَوْلَاةُ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَرَأَيْتُ فِي بَيْتِهَا رُمْحًا مَوْضُوعًا، فَقُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَصْنَعِينَ بِهَذَا الرُّمْحِ؟ قَالَت: هَذَا __________ (1) الوزغ: حشرة يُقَال لَهَا سَام أبرس. (2) ا: نفخ:. (*)
(1/185)
لِهَذِهِ الْأَوْزَاغِ نَقْتُلُهُنَّ بِهِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا: " أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حِين ألْقى فِي النَّار لم يكن فِي الْأَرْضِ دَابَّةٌ إِلَّا تُطْفِئُ عَنْهُ النَّارَ، غَيْرَ الْوَزَغِ كَانَ يَنْفُخُ عَلَيْهِ (1) ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ جَرِيرِ بن حَازِم بِهِ. __________ (1) لَا نستطيع الاطمئنان إِلَى هَذِه المرويات مادامت تخَالف الْعقل، فَلَيْسَ هُنَاكَ تَكْلِيف للحيوان، وَلَيْسَ الوزغ من الفواسق الَّتِى أمرنَا الرَّسُول بقتلها، وَإِذا صَحَّ أَنه أَمر بقتْله فَيَنْبَغِي أَن تكون هُنَالك عِلّة أُخْرَى. (*)
(1/186)
ذِكْرُ مُنَاظَرَةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ مَعَ مَنِ أَرَادَ أَنْ يُنَازِعَ الْعَظِيمَ الْجَلِيلَ فِي [إِزَارِ (1) ] الْعَظَمَةِ وَرِدَاءِ الْكِبْرِيَاءِ فَادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، وَهُوَ أَحَدُ الْعَبِيدِ الضُّعَفَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ; إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمين " (1) . يذكر تَعَالَى مناظرة خَلِيله مَعَ هَذِه الْمَلِكِ الْجَبَّارِ الْمُتَمَرِّدِ، الَّذِي ادَّعَى لِنَفْسِهِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَأبْطل الْخَلِيل عَلَيْهِ دَلِيلَهُ، وَبَيَّنَ كَثْرَةَ جَهْلِهِ وَقِلَّةَ عَقْلِهِ، وَأَلْجَمَهُ الْحُجَّةَ، وَأَوْضَحَ لَهُ طَرِيقَ الْمَحَجَّةِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ النَّسَبِ وَالْأَخْبَارِ: وَهَذَا الْمَلِكُ هُوَ ملك بابل، واسْمه النمرود بن كنهان بْنِ كُوشِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: نُمْرُودُ بْنُ فَالِحِ بْنِ عَابِر بن صَالح بن أرفخشذ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: وَكَانَ أَحَدَ مُلُوكِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ قَدْ مَلَكَ الدُّنْيَا فِيمَا ذَكَرُوا أَرْبَعَةٌ: (2) مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ ; فَالْمُؤْمِنَانِ: ذُو القرنين، وَسليمَان - والكفران: النمرود، وَبُخْتنَصَّرَ. __________ (1) سَقَطت من المطبوعة (2) ا: أَرْبَعَة فِيمَا ذكرُوا (*)
(1/187)
وَذكروا أَن نمْرُود هَذَا اسْتَمَرَّ فِي مُلْكِهِ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ. وَكَانَ طَغى وبغى، وَتَجَبَّرَ وَعَتَا، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَلَمَّا دَعَاهُ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، حمله الْجَهْل والضلال وَطول الآمال عَلَى إِنْكَارِ الصَّانِعِ، فَحَاجَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ فِي ذَلِك، وَادّعى لنَفسِهِ الربوبية. فَلَمَّا قَالَ الْخَلِيلُ: " رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، قَالَ أَنَا أحيى وأميت ". قَالَ قَتَادَة والسدى وَمُحَمّد بن إِسْحَق: يَعْنِي أَنَّهُ إِذَا أُتِيَ بِالرَّجُلَيْنِ قَدْ تَحَتَّمَ قَتْلُهُمَا، فَإِذَا أَمَرَ بِقَتْلِ أَحَدِهِمَا وَعَفَا عَنِ الْآخَرِ فَكَأَنَّهُ قَدْ أَحْيَا هَذَا وَأَمَاتَ الْآخَرَ. وَهَذَا لَيْسَ بِمُعَارَضَةٍ لِلْخَلِيلِ، بَلْ هُوَ كَلَامٌ خَارج عَنْ مَقَامِ الْمُنَاظَرَةِ، لَيْسَ بِمَنْعٍ وَلَا بِمُعَارَضَةٍ، بَلْ هُوَ تَشْغِيبٌ مَحْضٌ، وَهُوَ انْقِطَاعٌ فِي الْحَقِيقَةِ ; فَإِنَّ الْخَلِيلَ اسْتَدَلَّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ بِحُدُوثِ هَذِهِ الْمُشَاهَدَاتِ مِنْ إِحْيَاءِ الْحَيَوَانَاتِ وَمَوْتِهَا، على وجود فَاعل. ذَلِك الذى لابد من استنادها إِلَى موجوده، ضَرُورَة عدم قِيَامِهَا بِنَفْسِهَا. وَلَا بُدَّ مِنْ فَاعِلٍ لِهَذِهِ الْحَوَادِثِ الْمُشَاهَدَةِ، مِنْ خَلْقِهَا وَتَسْخِيرِهَا، وَتَسْيِيرِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ وَالرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ وَالْمَطَرِ، وَخَلْقِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تُوجَدُ مُشَاهَدَةً، ثُمَّ إِمَاتَتِهَا. وَلِهَذَا قَالَ إِبْرَاهِيم: " ربى الذى يحيى وَيُمِيت ". فَقَوْلُ هَذَا الْمَلِكِ الْجَاهِلِ: " أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ " إِنْ عَنَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ لِهَذِهِ الْمُشَاهَدَاتِ فَقَدْ كَابَرَ وَعَانَدَ. وَإِنْ عَنَى مَا ذَكَرَهُ قَتَادَةُ السدى وَمُحَمّد بن
(1/188)
إِسْحَق، فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا يَتَعَلَّقُ بِكَلَامِ الْخَلِيلِ ; إِذْ لَمْ يَمْنَعْ مُقَدِّمَةً، وَلَا عَارَضَ الدَّلِيلَ. وَلَمَّا كَانَ انْقِطَاع مناظرة هَذِه الْمَلِكِ قَدْ تَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِمَّن حصره وَغَيْرِهِمْ، ذَكَرَ دَلِيلًا آخَرَ بَيَّنَ وُجُودَ الصَّانِعِ، وَبُطْلَانَ مَا ادَّعَاهُ النُّمْرُودُ وَانْقِطَاعَهُ جَهْرَةً: " قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بهَا من الْمغرب " أَيْ هَذِهِ الشَّمْسُ مُسَخَّرَةٌ كُلَّ يَوْمٍ، تَطْلُعُ مِنَ الْمَشْرِقِ كَمَا سَخَّرَهَا خَالِقُهَا وَمُسَيِّرُهَا وَقَاهِرُهَا، وَهُوَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شئ، فَإِنْ كُنْتَ كَمَا زَعَمْتَ مِنْ أَنَّكَ الَّذِي تُحْيِي وَتُمِيتُ [فَأْتِ بِهَذِهِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ فَإِنَّ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ (1) ] هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَلَا يُمَانَعُ وَلَا يُغَالَبُ، بَلْ قد قهر كل شئ ودان لَهُ كل شئ. فَإِنْ كُنْتَ كَمَا تَزْعُمُ فَافْعَلْ هَذَا، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْهُ [فَلَسْتَ (1) ] كَمَا زَعَمْتَ. وَأَنْتَ تَعْلَمُ وكل أحد أَنَّك لَا تقدر على شئ مِنْ هَذَا، بَلْ أَنْتَ أَعْجَزُ وَأَقَلُّ مِنْ أَنْ تَخْلُقَ بَعُوضَةً أَوْ تَنْتَصِرَ مِنْهَا. فَبَيَّنَ ضلاله وَجهه وَكَذِبَهُ فِيمَا ادَّعَاهُ، وَبُطْلَانَ مَا سَلَكَهُ وَتَبَجَّحَ بِهِ (2) عِنْدَ جَهَلَةِ قَوْمِهِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ كَلَامٌ يُجِيبُ الْخَلِيلَ بِهِ، بَلِ انْقَطَعَ وَسَكَتَ وَلِهَذَا قَالَ: " فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمين ". وَقد طكر السُّدِّيُّ أَنَّ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةَ كَانَتْ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ النُّمْرُودِ يَوْمَ خَرَجَ مِنَ النَّارِ، وَلَمْ يكن اجْتمع بِهِ يَوْمئِذٍ، فَكَانَت بَينهمَا هَذِه المناظرة __________ (1) سقط من ا. (2) ا: ويحتج بِهِ. (*)
(1/189)
[وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ النُّمْرُودَ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامٌ، وَكَانَ النَّاسُ يَفِدُونَ إِلَيْهِ لِلْمِيرَةِ، فَوَفَدَ إِبْرَاهِيم فِي جملَة من وَفد لِلْمِيرَةِ] (1) وَلَمْ يَكُنِ اجْتَمَعَ بِهِ إِلَّا يَوْمَئِذٍ (2) فَكَانَتْ بَيْنَهُمَا هَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ. وَلَمْ يُعْطَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الطَّعَامِ كَمَا أُعْطِيَ النَّاسُ، بَلْ خَرَجَ وَلَيْسَ مَعَه شئ مِنَ الطَّعَامِ. فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ أَهْلِهِ عَمَدَ إِلَى كشيب مِنَ التُّرَابِ، فَمَلَأَ مِنْهُ عِدْلَيْهِ وَقَالَ: أَشْغَلُ أَهْلِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا قَدِمَ وَضَعَ رِحَالَهُ وَجَاءَ فَاتَّكَأَ فَنَامَ، فَقَامَتِ امْرَأَتُهُ سَارَةُ إِلَى الْعِدْلَيْنِ فَوَجَدَتْهُمَا مَلْآنَيْنِ طَعَامًا طَيِّبًا، فَعَمِلَتْ مِنْهُ طَعَامًا. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ إِبْرَاهِيمُ وَجَدَ الَّذِي [قَدْ (3) ] أَصْلَحُوهُ، فَقَالَ: أَنَّى لَكُمْ هَذَا؟ قَالَتْ: مِنَ الَّذِي جِئْتَ بِهِ، فَعَرَفَ أَنَّهُ رِزْقٌ رزقهموه الله عزوجل. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: وَبَعَثَ اللَّهُ إِلَى ذَلِك الْملك الْجَبَّار، ملكا يَأْمُرهُ باإيمان بِاللَّهِ فَأَبَى عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَاهُ الثَّانِيَةَ فَأَبَى عَلَيْهِ ثمَّ دَعَاهُ الثَّالِثَةَ فَأَبَى عَلَيْهِ وَقَالَ: اجْمَعْ جُمُوعَكَ وَأَجْمَعُ جموعى. فَجمع النمرود جَيْشه وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ ذُبَابًا مِنَ الْبَعُوضِ بِحَيْثُ لَمْ يَرَوْا عَيْنَ الشَّمْسِ وَسَلَّطَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَأَكَلَتْ لُحُومَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ، وَتَرَكَتْهُمْ عظاما بادية، وَدخلت وَاحِدَة مِنْهَا فِي منخر الْملك فَمَكثت فِي منخره أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ! عَذَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا. فَكَانَ يَضْرِبُ رَأْسَهُ بِالْمَرَازِبِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ كُلِّهَا، حَتَّى أهلكه الله عزوجل بهَا. __________ (1) سقط من ا. (2) سقط من المطبوعة (3) لَيست فِي ا. (*)
(1/190)
ذكر هِجْرَة الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى بِلَاد الشَّام، ودخوله الديار المصرية واستقراره فِي الارض المقدسة قَالَ الله: " فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَق وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (1) ". وَقَالَ تَعَالَى: " ونجيناه ولوطا إِلَى الارض الَّتِى باركنا فِيهَا للْعَالمين * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا، وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة وَكَانُوا لنا عابدين (2) ". لَمَّا هَجَرَ قَوْمَهُ فِي اللَّهِ، وَهَاجَرَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ عَاقِرًا لَا يُولَدُ لَهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ أَحَدٌ، بَلْ مَعَهُ ابْنُ أَخِيهِ لُوطُ بْنُ هَارَانَ بْنِ آزَرَ، وَهَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ الْأَوْلَادَ الصَّالِحِينَ، وَجَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ. فَكُلُّ نَبِيٍّ بُعِثَ بَعْدَهُ فَهُوَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَكُلُّ كِتَابٍ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَعْدِهِ، فَعَلَى أَحَدِ نَسْلِهِ وَعَقِبِهِ ; خِلْعَةً مِنَ اللَّهِ وَكَرَامَةً لَهُ، حِينَ تَرَكَ بِلَادَهُ وَأَهْلَهُ وَأَقْرِبَاءَهُ، وَهَاجَرَ إِلَى بَلَدٍ يتَمَكَّن فِيهَا من عبَادَة ربه (3) عزوجل وَدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ. وَالْأَرْضُ الَّتِي قَصَدَهَا بِالْهِجْرَةِ أَرض الشَّام، وهى الَّتِى قَالَ الله عزوجل: " إِلَى الارض الَّتِى باركنا فِيهَا للْعَالمين ". __________ (1) سُورَة العنكبوت 26، 27 (2) سُورَة الانبياء 71، 73 (3) ا: من عبَادَة الله. (*)
(1/191)
قَالَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ. وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: " إِلَى الارض الَّتِى باركنا فِيهَا للْعَالمين " مَكَّةَ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِهِ: " إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى للْعَالمين " وَزَعَمَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ أَنَّهَا حَرَّانُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ نَقْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ هُوَ وَابْنُ أَخِيهِ لُوطٌ، وَأَخُوهُ نَاحُورُ، وَامْرَأَةُ إِبْرَاهِيمَ سَارَةُ، وَامْرَأَةُ أَخِيهِ " مَلْكَا " فنزلوا حران، فَمَاتَ تارح أَبُو إِبْرَاهِيمَ بِهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: انْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ وَلُوطٌ قِبَلَ الشَّامِ، فَلَقِيَ إِبْرَاهِيمُ سَارَةَ - وَهِيَ ابْنَةُ مَلِكِ حَرَّانَ - وَقَدْ طَعَنَتْ عَلَى قَوْمِهَا فِي دِينِهِمْ، فَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا يُغَيِّرَهَا. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَهُوَ غَرِيبٌ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا ابْنَةُ عَمِّهِ هَارَانَ الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ حَرَّانُ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا ابْنَةُ أَخِيهِ هَارَانَ أُخْتُ لوط، كَمَا حَكَاهُ السُّهيْلي عَن القتيبى وَالنَّقَّاشِ، فَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ وَقَالَ بِلَا عِلْمٍ. وَمن ادّعى أَنَّ تَزْوِيجَ بِنْتِ الْأَخِ كَانَ إِذْ ذَاكَ مَشْرُوعًا فَلَيْسَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ. وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ هَذَا كَانَ مَشْرُوعًا فِي وَقْتٍ - كَمَا هُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الرَّبَّانِيِّينَ مِنَ الْيَهُودِ - فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا تَتَعَاطَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ الْمَشْهُورُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا هَاجَرَ مِنْ بَابِلَ خَرَجَ بِسَارَةَ مُهَاجِرًا مِنْ بِلَادِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(1/192)
وَذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: " إِنِّي جَاعِلٌ هَذِهِ الْأَرْضَ لِخَلَفِكَ مِنْ بَعْدِكَ " فَابْتَنَى إِبْرَاهِيمُ مَذْبَحًا لِلَّهِ شُكْرًا عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَضَرَبَ قُبَّتَهُ شَرْقِيَّ بَيت الْمُقَدّس ثمَّ انْطلق مرتحلا، إِلَى التَّيَمُّن، وَأَنَّهُ كَانَ جُوعٌ، أَيْ قَحْطٌ وَشِدَّةٌ وَغَلَاءٌ، فَارْتَحَلُوا إِلَى مِصْرَ. وَذَكَرُوا قِصَّةَ سَارَةَ مَعَ مَلِكِهَا، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لَهَا: قُولِي أَنَا أُخْتُهُ. وَذَكَرُوا إِخْدَامَ الْمَلِكِ إِيَّاهَا هَاجَرَ. ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ مِنْهَا فَرَجَعُوا إِلَى بِلَادِ التَّيَمُّنِ، يَعْنِي أَرْضَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَا وَالَاهَا، وَمَعَهُ دَوَابُّ وَعبيد وأموال. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاث كذبات: اثْنَتَانِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ، قَوْلُهُ: " إِنِّي سَقِيمٌ "، وَقَوْلَهُ: " بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا "، وَقَالَ: بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ، إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِن هَاهُنَا رجلا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: أُخْتِي. فَأَتَى سَارَةَ فَقَالَ: يَا سَارَةُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ، وَإِنَّ هَذَا سَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي فَلَا تُكَذِّبِينِي. فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ فَأُخِذَ، فَقَالَ: ادعِي الله لي وَلَا أَضرّك، فدعَتْ الله فَأطلق. ثمَّ تنَاولهَا الثَّانِيَة مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضرّك، فدعث فَأطلق. فَدَعَا بعض (م - 13 قصَص الانبياء 1)
(1/193)
حَجَبته فَقَالَ: إِنَّكُم لم تَأْتُونِي (1) بِإِنْسَان وَإِنَّمَا أَتَيْتُمُونِي (2) بِشَيْطَانٍ. فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ. فَأَتَتْهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ: مَهْيَمْ؟ فَقَالَتْ: رَدَّ اللَّهُ كَيْدَ الْكَافِرِ أَوِ الْفَاجِرِ فِي نَحْرِهِ، وَأَخْدَمَ هَاجَرَ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ ". تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَوْقُوفًا. وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلَّاسِ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِرين، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكْذِبْ قَطُّ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ فِي ذَاتِ اللَّهِ، قَوْلُهُ: " إِنِّي سَقِيمٌ " وَقَوْلُهُ: " بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا "، وَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ فِي أَرْضِ جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ إِذْ نَزَلَ مَنْزِلًا، فَأُتِيَ الْجَبَّارُ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ هَاهُنَا رَجُلٌ مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ إِنَّهَا أُخْتِي. فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهَا قَالَ: إِنَّ هَذَا سَأَلَنِي عَنْكِ فَقُلْتُ إِنَّكِ أُخْتِي، وَإِنَّهُ لَيْسَ الْيَوْمَ مُسْلِمٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ، وَإِنَّكِ أُخْتِي، فَلَا تُكَذِّبِينِي عِنْدَهُ. فَانْطُلِقَ بِهَا، فَلَمَّا ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا أُخِذَ، فَقَالَ: ادعِي الله لي وَلَا أَضرّك، فدعَتْ لَهُ فَأُرْسِلَ فَذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ مِنْهَا، فَقَالَ ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضرّك، فدعَتْ فَأرْسل، ثَلَاث مَرَّات، فَدَعَا __________ (1) ا: إِنَّك لم تأتتى (2) ا: أتيتني. (*)
(1/194)
أَدْنَى حَشَمِهِ فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ وَلَكِنْ أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ، أَخْرِجْهَا وَأَعْطِهَا هَاجَرَ. فَجَاءَتْ وَإِبْرَاهِيمُ قَائِمٌ يُصَلِّي. فَلَمَّا أَحَسَّ بِهَا انْصَرَفَ، فَقَالَ: مَهْيَمْ؟ فَقَالَتْ: كَفَى اللَّهُ كَيْدَ الظَّالِمِ، وَأَخْدَمَنِي هَاجَرَ ". وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ. ثُمَّ قَالَ الْبَزَّار: لَا يعلم أَسْنَدَهُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا هِشَامٌ. وَرَوَاهُ غَيْرُهُ مَوْقُوفًا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ، عَنْ وَرْقَاءَ - هُوَ أَبُو عُمَرَ (1) الْيَشْكُرِيُّ - عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ: قَوْلُهُ حِينَ دُعِيَ إِلَى آلِهَتِهِمْ، فَقَالَ: " إِنِّي سَقِيمٌ "، وَقَوْلُهُ: " بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا " وَقَوْلُهُ لِسَارَةَ: " إِنَّهَا أُخْتِي ". قَالَ: وَدَخَلَ إِبْرَاهِيمُ قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ أَوْ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ: دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ اللَّيْلَةَ بِامْرَأَةٍ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ أَوِ الْجَبَّارُ: مَنْ هَذِهِ مَعَكَ؟ قَالَ أُخْتِي [قَالَ فَأَرْسِلْ بِهَا (2) ] قَالَ فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ، وَقَالَ لَا تُكَذِّبِي قَوْلِي، فَإِنِّي قد أخْبرته أَنَّك أختى، إِن مَا على الارض مُؤمن غيرى غَيْرك. فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ قَامَ إِلَيْهَا، فَأَقْبَلت تتوضأ وتصلى وَتقول: اللَّهُمَّ إِن __________ (1) ط: ابْن عمر. (2) سَقَطت من ا. (*)
(1/195)
كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ (1) وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا عَلَى زَوْجِي، فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ. قَالَ: فَغَطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: اللَّهُمَّ إِن يمت يُقَال هِيَ قَتَلَتْهُ. قَالَ: فَأُرْسِلَ. [قَالَ: ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا، قَالَ فَقَامَتْ تتوضأ وَتُصَلِّي وَتَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي آمَنت يَك وَبِرَسُولِكَ وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا عَلَى زَوْجِي، فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ. قَالَ فَغَطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ عَن أبي هُرَيْرَة أَنَّهَا قَالَت: اللَّهُمَّ إِن يَمُتْ يُقَلْ هِيَ قَتَلَتْهُ، قَالَ فَأُرْسِلَ (2) ] . قَالَ: فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ: مَا أَرْسَلْتُمْ إِلَيَّ إِلَّا شَيْطَانًا، أَرْجِعُوهَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَعْطُوهَا هَاجَرَ. قَالَ: فَرَجَعَتْ، فَقَالَتْ لِإِبْرَاهِيمَ: أَشَعَرْتَ إِنَّ الله رد كيد الْكَافرين وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً! تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ مُخْتَصَرًا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَلِيِّ بن زيد ابْنِ جُدْعَانَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ __________ (1) ط: وبرسلك. (2) سَقَطت من ا. (*)
(1/196)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَلِمَاتِ إِبْرَاهِيمَ الثَّلَاثِ الَّتِي قَالَ: " مَا مِنْهَا كَلِمَةٌ إِلَّا مَا حل (1) بِهَا عَنْ دِينِ اللَّهِ ; فَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ، وَقَالَ: بل فعله كَبِيرهمْ هَذَا وَقَالَ لِلْمَلِكِ حِينَ أَرَادَ امْرَأَتَهُ هِيَ أُخْتِي ". فَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: " هِيَ أُخْتِي " أَيْ فِي دِينِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ لَهَا: " إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ " يَعْنِي زَوْجَيْنِ مُؤْمِنَيْنِ غَيْرِي وَغَيْرَكِ. وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا لِأَنَّ لُوطًا كَانَ مَعَهُمْ وَهُوَ نَبِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَوْلُهُ لَهَا لَمَّا رَجَعَتْ إِلَيْهِ: مَهْيَمْ؟ مَعْنَاهُ مَا الْخَبَرُ. فَقَالَتْ: إِنَّ اللَّهَ رَدَّ كيد الْكَافرين. وَفِي رِوَايَةٍ: الْفَاجِرِ وَهُوَ الْمَلِكُ، وَأَخْدَمَ جَارِيَةً. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ وَقْتِ ذُهِبَ بهَا إِلَى الْملك، قَامَ يصلى الله عزوجل، وَيَسْأَلُهُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ أَهْلِهِ، وَأَنْ يَرُدَّ بَأْسَ هَذَا الَّذِي أَرَادَ أَهْلَهُ بِسُوءٍ. وَهَكَذَا فعلت هِيَ أَيْضا. فَلَمَّا أَرَادَ عَدُوُّ اللَّهِ أَنْ يَنَالَ مِنْهَا أَمْرًا قَامَت إِلَى وضوئها وصلاتها، ودعت الله عزوجل بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الدُّعَاءِ الْعَظِيمِ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " وَاسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة (2) " فَعَصَمَهَا اللَّهُ وَصَانَهَا لِعِصْمَةِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَحَبِيبِهِ وَخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى نُبُوَّةِ ثَلَاثِ نِسْوَةٍ: سَارَةَ، وَأُمِّ مُوسَى وَمَرْيَمَ عَلَيْهِنَّ السَّلَامُ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُنَّ صَدِّيقَاتٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ وَأَرْضَاهُنَّ. وَرَأَيْتُ فِي بعض الْآثَار أَن الله عزوجل كشف الْحجاب فِيمَا بَين __________ (1) ماحل: دَافع. (2) سُورَة الْبَقَرَة. (*)
(1/197)
إِبْرَاهِيم على السَّلَامُ وَبَيْنَهَا، فَلَمْ يَزَلْ يَرَاهَا مُنْذُ خَرَجَتْ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى أَنْ رَجَعَتْ إِلَيْهِ. وَكَانَ مُشَاهِدًا لَهَا وَهِيَ عِنْدَ الْمَلِكِ، وَكَيْفَ عَصَمَهَا اللَّهُ مِنْهُ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَطْيَبَ لِقَلْبِهِ وَأَقَرَّ لِعَيْنِهِ وَأَشَدَّ لِطُمَأْنِينَتِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّهَا حُبًّا شَدِيدًا، لِدِينِهَا وَقَرَابَتِهَا مِنْهُ وَحُسْنِهَا الْبَاهِرِ، فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ إِنَّهُ لَمْ تَكُنِ امْرَأَةٌ بَعْدَ حَوَّاءَ إِلَى زَمَانِهَا، أَحْسَنَ مِنْهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ التَّوَارِيخِ (1) أَنَّ فِرْعَوْنَ مِصْرَ هَذَا كَانَ أَخًا لِلضَّحَّاكِ الْمَلِكِ الْمَشْهُورِ بِالظُّلْمِ، وَكَانَ عَامِلًا لِأَخِيهِ عَلَى مِصْرَ. وَيُقَالُ كَانَ اسْمُهُ سِنَانَ بْنَ علوان بن عبيد بن عويج بْنِ عِمْلَاقِ بْنِ لَاوَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي التِّيجَانِ: أَنَّ الَّذِي أَرَادَهَا عَمْرُو بْنُ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ مايلون بْنِ سَبَأٍ، وَكَانَ عَلَى مِصْرَ. نَقَلَهُ السُّهَيْلِيُّ وَالله أَعْلَمُ. * * * ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجَعَ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ إِلَى أَرْضِ التَّيَمُّنِ، وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ الَّتِي كَانَ فِيهَا، وَمَعَهُ أَنْعَامٌ وَعَبِيدٌ وَمَالٌ جَزِيلٌ، وَصَحِبَتْهُمْ هَاجَرُ الْقِبْطِيَّةُ الْمِصْرِيَّةُ. ثمَّ إِن لوطا عَلَيْهِ السَّلَام نزح بِمَالِه مِنَ الْأَمْوَالِ الْجَزِيلَةِ بِأَمْرِ الْخَلِيلِ لَهُ فِي ذَلِكَ، إِلَى أَرْضِ الْغَوْرِ، الْمَعْرُوفِ بِغَوْرِ زُغَرَ ; فَنَزَلَ بِمَدِينَةَ سَدُومَ (2) وَهِيَ أُمُّ تِلْكَ الْبِلَادِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ. وَكَانَ أَهْلُهَا أَشْرَارًا كُفَّارًا فجارا. __________ (1) ا: التَّارِيخ. (2) قَالَ فِي الْقَامُوس: وسدوم لقرية قوم لوط غلط فِيهِ الجوهرى، وَالصَّوَاب سذوم بِالذَّالِ. الْمُعْجَمَة. وَذكر شَارِح الْقَامُوس أَن الْمَشْهُور فِيهِ إهمال الدَّال. (*)
(1/198)
وَأوحى الله تَعَالَى إِلَى إِبْرَاهِيم الْخَلِيل، فَأمره أَنْ يَمُدَّ بَصَرَهُ وَيَنْظُرَ شَمَالًا وَجَنُوبًا وَشَرْقًا وَغَرْبًا، وَبَشَّرَهُ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ كُلَّهَا سَأَجْعَلُهَا لَكَ وَلِخَلَفِكَ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، وَسَأُكْثِرُ ذُرِّيَّتَكَ حَتَّى يَصِيرُوا بِعَدَدِ تُرَابِ الْأَرْضِ. وَهَذِهِ الْبِشَارَةُ اتَّصَلَتْ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، بَلْ مَا كَمَلَتْ وَلَا كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. وَيُؤَيّد ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ زَوَى (1) لِيَ الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وسيبلغ ملك أمتى مازوى لى مِنْهَا " فالوا: ثُمَّ إِنَّ طَائِفَةً مِنَ الْجَبَّارِينَ تَسَلَّطُوا عَلَى لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَسَرُوهُ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُ وَاسْتَاقُوا أنعامه فَلَمَّا بلغ [الْخَبَر إِبْرَاهِيم الْخَلِيل سَارَ إِلَيْهِمْ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا فاستنفذ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاسْتَرْجَعَ (2) ] أَمْوَالَهُ، وَقَتَلَ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ خَلْقًا كَثِيرًا وَهَزَمَهُمْ وَسَاقَ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى وَصَلَ إِلَى شَمَالِيِّ (3) دِمَشْقَ وَعَسْكَرَ بِظَاهِرِهَا عِنْدَ بَرْزَةَ، وَأَظُنُّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ إِنَّمَا سمى لانه كَانَ مَوْقِفِ جَيْشِ الْخَلِيلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ رَجَعَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا إِلَى بِلَادِهِ، وَتَلَقَّاهُ مُلُوكُ بِلَادِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مُعَظِّمِينَ لَهُ مُكْرِمِينَ خَاضِعِينَ، وَاسْتَقَرَّ ببلاده. صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ. __________ (1) زوى: جمع (2) سقط من المطيوعة! (3) المظبوعة: شَرْقي دمشق. (*)
(1/199)
مِنْ هَاجَرَ قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ اللَّهَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، وَأَنَّ اللَّهَ بَشَّرَهُ بِذَلِكَ. وَأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِإِبْرَاهِيمَ بِبِلَاد بَيت الْمُقَدّس عشرُون سنة قَالَت سارة لابراهيم عَلَيْهِ السَّلَام: إِن لرب قَدْ أَحْرَمَنِي الْوَلَدَ، فَادْخُلْ عَلَى أَمَتِي هَذِهِ لَعَلَّ الله يرزقنى مِنْهَا وَلَدًا. فَلَمَّا وَهَبَتْهَا لَهُ دَخَلَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَحِينَ دَخَلَ بِهَا حَمَلَتْ مِنْهُ. قَالُوا: فَلَمَّا حَمَلَتِ ارْتَفَعَتْ نَفْسُهَا وَتَعَاظَمَتْ عَلَى سَيِّدَتِهَا، فَغَارَتْ مِنْهَا [سَارَةُ] (1) فَشَكَتْ ذَلِكَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهَا: افْعَلِي بِهَا مَا شِئْتِ، فَخَافَتْ هَاجَرُ فَهَرَبَتْ فَنَزَلَتْ عِنْدَ عَيْنٍ هُنَاكَ. فَقَالَ لَهَا مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: [لَا تَخَافِي فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ مِنْ هَذَا الْغُلَامِ الَّذِي حَمَلْتِ خَيْرًا] (1) وَأَمَرَهَا بِالرُّجُوعِ وَبَشَّرَهَا أَنَّهَا سَتَلِدُ ابْنًا وَتُسَمِّيهِ إِسْمَاعِيلَ، وَيَكُونُ وَحْشَ النَّاسِ، يَده على الْكل، وَيَده الْكُلِّ بِهِ، وَيَمْلِكُ جَمِيعَ بِلَادِ إِخْوَتِهِ. فَشَكَرَتِ الله عزوجل [عَلَى ذَلِكَ (1) ] . وَهَذِهِ الْبِشَارَةُ إِنَّمَا انْطَبَقَتْ عَلَى وَلَدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ; فَإِنَّهُ الذى بِهِ (2) سادت الْعَرَبُ، وَمَلَكَتْ جَمِيعَ الْبِلَادِ غَرْبًا وَشَرْقًا، وَأَتَاهَا اللَّهُ مِنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَا لم تؤت أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِشَرَفِ رَسُولِهَا عَلَى سَائِرِ الرُّسُلِ، وَبَرَكَةِ رِسَالَتِهِ ويمن سفارته (3) وَكَمَالِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَعُمُومِ بَعْثَتِهِ لِجَمِيعِ أهل الارض. __________ (1) لَيست فِي ا (2) ط: سادت بِهِ (3) ط: بشارته (*)
(1/200)
وَلَمَّا رَجَعَتْ هَاجَرُ وَضَعَتْ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالُوا: وولدته وَلِإِبْرَاهِيمَ مِنَ الْعُمُرِ سِتٌّ وَثَمَانُونَ سَنَةً، قَبْلَ مَوْلِدِ إِسْحَاقَ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَلَمَّا وُلِدَ إِسْمَاعِيل أوحى الله إِلَى إِبْرَاهِيم يبشره يإسحاق مِنْ سَارَةَ، فَخَرَّ لِلَّهِ سَاجِدًا، وَقَالَ لَهُ: قَدِ اسْتَجَبْتُ لَكَ فِي إِسْمَاعِيلَ وَبَارَكْتُ عَلَيْهِ وكثرته ونميته (1) جدا كئيرا (2) ، وَيُولَدُ لَهُ اثْنَا عَشَرَ عَظِيمًا، وَأَجْعَلُهُ رَئِيسًا لِشَعْبٍ عَظِيمٍ. وَهَذِهِ أَيْضًا بِشَارَةٌ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَهَؤُلَاءِ الِاثْنَا عَشَرَ عَظِيمًا هُمُ الْخُلَفَاءُ [الراشدون (3) ] الِاثْنَا عَشَرَ، الْمُبَشَّرُ بِهِمْ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَكُونُ اثْنَا عَشَرَ أَمِيرًا ". ثُمَّ قَالَ كَلِمَةٌ لَمْ أَفْهَمْهَا، فَسَأَلْتُ أَبِي مَا قَالَ. قَالَ " كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِي رِوَايَةٍ: " لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ قَائِمًا، وَفِي رِوَايَةٍ عَزِيزًا، حَتَّى يَكُونَ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ ". فَهَؤُلَاءِ مِنْهُمُ [الْأَئِمَّةُ (4) ] الْأَرْبَعَةُ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَمِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَيْضًا، وَمِنْهُمْ بَعْضُ بَنِي الْعَبَّاس. وَلَيْسَ المُرَاد أَنهم يَكُونُوا اثنى عشر نسقا بل لابد من وجودهم. وَلَيْسَ المُرَاد الائمة الائنى عشر الَّذين يعْتَقد (5) فيهم الرافضة، الَّذين أَوَّلهمْ __________ (1) ا: ويمنته (2) ا: كَبِيرا (3) لَيست فِي ا (4) لَيست فِي ا (5) ا: يَعْتَقِدُونَ (*)
(1/201)
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَآخِرُهُمُ الْمُنْتَظِرُ بِسِرْدَابِ سَامَرَّا -[وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيُّ فِيمَا يَزْعُمُونَ (1) ] فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَنْفَعُ مِنْ عَلِيٍّ وَابْنِهِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، حِينَ تَرَكَ الْقِتَالَ وَسَلَّمَ الْأَمْرَ لِمُعَاوِيَةَ، وَأَخْمَدَ نَارَ الْفِتْنَة وَسكن رحى الْحَرْب (2) بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْبَاقُونَ مِنْ جُمْلَةِ الرَّعَايَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حُكْمٌ عَلَى الْأُمَّةِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ. وَأَمَّا مَا يَعْتَقِدُونَهُ بِسِرْدَابِ سَامَرَّا، فَذَاك هوس فِي الرؤوس، وَهَذَيَانٌ فِي النُّفُوسِ، لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَا عَيْنَ وَلَا أَثَرَ. * * * وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَاجَرَ عَلَيْهَا السَّلَامُ لَمَّا وُلِدَ لَهَا إِسْمَاعِيلُ، اشْتَدَّتْ غَيْرَةُ سَارَةَ مِنْهَا، وَطَلَبَتْ مِنَ الْخَلِيلِ أَنْ يُغَيِّبَ وَجْهَهَا عَنْهَا، فَذَهَبَ بِهَا وَبِوَلَدِهَا، فَسَارَ بِهِمَا حَتَّى وَضَعَهُمَا حَيْثُ مَكَّةَ الْيَوْمَ. وَيُقَالُ إِنَّ وَلَدَهَا كَانَ إِذْ ذَاكَ رَضِيعًا. فَلَمَّا تَرَكَهُمَا هُنَاكَ وَولى ظَهره عَنْهُمَا قَامَت إنيه هَاجَرُ وَتَعَلَّقَتْ بِثِيَابِهِ، وَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَدَعُنَا هَاهُنَا وَلَيْسَ مَعَنَا مَا يَكْفِينَا؟ فَلَمْ يُجِبْهَا فَلَمَّا أَلَحَّتْ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يُجِيبُهَا قَالَتْ لَهُ: آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَتْ فَإِذًا لَا يُضَيِّعُنَا! وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ رَحِمَهُ الله فِي كتاب النَّوَادِر: أَن سارة غضِبت (3) على هَاجر فخلفت لَتَقْطَعَنَّ ثَلَاثَةَ أَعْضَاءٍ مِنْهَا، فَأَمَرَهَا الْخَلِيلُ أَنْ تَثْقُبَ أُذُنَيْهَا، وَأَنْ تَخْفِضَهَا فَتَبَرَّ قَسَمُهَا. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: فَكَانَتْ أَوَّلَ مَنِ اخْتَتَنَ مِنَ النِّسَاءِ، وَأول من ثقبت أدنها مِنْهُنَّ، وَأول من طولت ذيلها. __________ (1) لَيْسَ فِي ا (2) ط: الحروب (3) ا: تغضبت (*)
(1/202)
ذكر مهاجرة إِبْرَاهِيم بِابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ وَأُمِّهِ هَاجَرَ إِلَى جِبَالِ فَارَانَ وَهِيَ أَرْضُ مَكَّةَ، وَبِنَائِهِ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ قَالَ البُخَارِيّ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ - هُوَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، حَدثنَا معممر، عَن أبوب السختيانى وَكثير بن كثير ابْن الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ، يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمِنْطَقَ من قبل أم اسماعيل، اتَّخذت منطقا لتعقى أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ. فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ. ثُمَّ قَفَّى (1) إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ بِهِ أنيس (1) وَلَا شئ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِذًا لَا يُضَيِّعُنَا. ثُمَّ رَجَعَتْ. فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ، حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بهؤلاء الدَّعْوَات وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: " رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يشكرون " (3) . __________ (1) ا: بقى. (2) ا: أنس. (3) سُورَة إِبْرَاهِيم 37 (*)
(1/203)
وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِك المَاء، حَتَّى إِذا نفد مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى (1) - أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ (2) - فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الْأَرْضِ يَلِيهَا فَقَامَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا. فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بلغت [بطن (3) ] الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الانسان المجهود حَتَّى جَاوَزَتِ الْوَادِيَ ثُمَّ أَتَتِ الْمَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا، وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا؟ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، [فعلت (4) ] ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " فَلذَلِك سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا ". فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا فَقَالَتْ: صَهٍ، تُرِيدُ نَفْسَهَا. ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا، فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غُوَاثٌ. فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ - أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ - حَتَّى ظهر المَاء، فَجعلت تحوضه وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا. وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ! لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ، أَوْ قَالَ لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ، لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا " [قَالَ (5) ] : فَشَرِبت وأرضعت وَلَدهَا. فَقَالَ لَهَا الْملك: __________ (1) ط: يلتوى. (2) ا. يبلبط. (3) لَيست فِي ا. (4) ط: فَفعلت. (5) لَيست فِي ا. (*)
(1/204)
لَا تخافى الضَّيْعَة فَإِن هَاهُنَا بَيْتا لله (1) يبنيه هَذَا الْغُلَامُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضَيِّعُ أَهْلَهُ. وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنَ الْأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ، تَأْتِيهِ السُّيُولُ فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، فَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمٍ، أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمٍ، مُقْبِلِينَ من طَرِيق كداء، فنزلوا فِي أفسل مَكَّة فَرَأَوْا طائا عَائِفًا، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاء، لَعَهْدُنَا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ. فَأَرْسَلُوا جَريا (2) أَو جريين فَإِذا هم بالماه، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ فَأَقْبَلُوا. قَالَ: وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْد المَاء، فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. وَلَكِنْ لَا حق لكم فِي المَاء [عندنَا (3) ] قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الْأُنْسَ. فَنَزَلُوا ورسلوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ. وَشَبَّ الْغُلَامُ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ، وَأَنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ. فَلَمَّا أدْرك زوجوه امْرَأَة مِنْهُم. وَمَاتَتْ أم إِسْمَعِيل، فجَاء إِبْرَاهِيم بعد مَا تزوج إِسْمَعِيل يطالع تركته فَلم يجد إِسْمَعِيل، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا. ثمَّ سَأَلَهَا عَن عيشهم وهيئتهم فَقَالَت: نن بشر، [نَحن (4) ] فِي ضيق وَشدَّة، __________ (1) ا. بَيت الله يبْنى (2) الجرى: الرَّسُول. (3) لَيست فِي ا. (4) لَيست فِي ا. (*)
(1/205)
وَشَكَتْ (1) إِلَيْهِ. قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرُ عَتَبَةَ بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ جَاءَنَا شيخ كَذَا كَذَا فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا؟ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ. قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بشئ؟ قَالَتْ نَعَمْ، أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُول لَك غير عتبَة بابك. قَالَ: ذَاك أَبى، وَقد أمرنى أَن أُفَارِقك فالحقي بأهلك، وَطَلقهَا وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى، وَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا. قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ، وَأَثْنَتْ على الله عزوجل. فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَتِ: اللَّحْمُ. قَالَ: فَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتِ الْمَاءُ، قَالَ: " اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ ". قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ (2) ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ [حَبٌّ (3) ] لَدَعَا لَهُمْ فِيهِ " [قَالَ (3) ] فَهُمَا لَا يَخْلُو (4) عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ. قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَمُرِيهِ يُثَبِّتْ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَعِيل قَالَ: هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ، وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي عَنْك فَأَخْبَرته، فَسَأَلَنِي كَيفَ عيشنا؟ __________ (1) ا: فشكت:. (2) الْحبّ: الجرة. (3) لَيست فِي ا (4) بخلو: يقْتَصر. (*)
(1/206)
فَأَخْبَرته أَنا بِخَير. قَالَ: فأوصاك بشئ؟ قَالَتْ نَعَمْ. هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثَبِّتَ عَتَبَةَ بَابِكَ. قَالَ: ذَاكَ أَبِي وَأَنت العتبة، أمرنى أَنْ أُمْسِكَكِ. ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ الله، ثمَّ جَاءَ بعد ذَلِك وإسمعيل يبرى نبلاله تَحت دوحة قرييا مِنْ زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ فَصَنَعَا كَمَا يصنع بِالْوَلَدِ الْوَالِد وبالوالد للوالد (1) ثمَّ قَالَ: يَا إِسْمَعِيل إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ. قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمرك بِهِ رَبُّكَ، قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَاهُنَا بَيْتًا. وَأَشَارَ إِلَى أكمة عَلَى مَا حَوْلَهَا. قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِد من الْبَيْت، فَجعل إِسْمَعِيل يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ. فَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يبْنى وإسمعيل يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَهُمَا يَقُولَانِ: " رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم ". قَالَ: فَجعلَا (2) يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولَانِ: " رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ". ثمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لما كَانَ بَين إِبْرَاهِيم وَبَين أَهله مَا كَانَ، خرج __________ (1) ط الْوَالِد بِالْوَلَدِ وَالْولد بالوالد. (2) ا: وَجعلا. (*)
(1/207)
بإسمعيل وَأم إِسْمَعِيل، وَمَعَهُمْ شَنَّةٌ (1) فِيهَا مَاءٌ. وَذَكَرَ تَمَامَهُ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُوَشَّحٌ بِرَفْعِ بَعْضِهِ، وَفِي بَعْضِهِ غَرَابَةٌ، وَكَأَنَّهُ مِمَّا تَلَقَّاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَفِيه أَن إِسْمَعِيل كَانَ رَضِيعًا إِذْ ذَاكَ. وَعِنْدَ أَهْلِ التَّوْرَاةِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَخْتِنَ وَلَدَهُ إِسْمَعِيل وَكُلَّ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَبِيدِ وَغَيْرِهِمْ فَخَتَنَهُمْ، وَذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً مِنْ عمره، فَيكون عمر إِسْمَعِيل يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَهَذَا امْتِثَالٌ لِأَمْرِ الله عزوجل فِي أَهْلِهِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ. وَلِهَذَا كَانَ (2) الصَّحِيحُ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الرِّجَالِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الذى رَوَاهُ البُخَارِيّ: حَدثنَا قتببة بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالْقَدُومِ ". تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَن بن إِسْحَق عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَتَابَعَهُ عَجْلَانُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ بِهِ. وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: " اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَ مَا أَتَتْ عَلَيْهِ ثَمَانُونَ سَنَةً وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ " وَالْقَدُومُ هُوَ الْآلَةُ، وَقِيلَ مَوْضِعٌ. __________ (1) الشنة: الْقرْبَة الْخلق. (2) ا: لما كَانَ (*)
(1/208)
وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يُنَافِي الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّمَانِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لِمَا سَيَأْتِي مِنَ الْحَدِيثِ عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاتِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِينَ سَنَةً ". رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَلَيْسَ فِي هَذَا السِّيَاقِ ذكر قصَّة الذَّبِيح وَأَنه إِسْمَعِيل، وَلم يذكر فِي قد مَاتَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: أُولَاهُنَّ بعد أَن تزوج إِسْمَعِيل بعد موت هَاجر، وَكَيف تَركهم مِنْ حِينِ صِغَرِ الْوَلَدِ - عَلَى مَا ذُكِرَ - إِلَى حِينِ تَزْوِيجِهِ لَا يَنْظُرُ فِي حَالِهِمْ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ تُطْوَى لَهُ. وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ يَرْكَبُ الْبُرَاقَ إِذَا سَارَ إِلَيْهِمْ، فَكَيْفَ يَتَخَلَّفُ عَنْ مُطَالَعَةِ حَالِهِمْ وَهُمْ فِي غياة الضَّرُورَةِ الشَّدِيدَةِ وَالْحَاجَةِ الْأَكِيدَةِ؟ ! وَكَأَنَّ بَعْضَ هَذَا السِّيَاق متلقى من الاسرائيليات ومطرز بشئ من المرفوعات، وَلم يذكر فِيهِ قصَّة لذبيح. وَقد دللنا على أَن الذَّبِيح هُوَ إِسْمَعِيل على الصَّحِيح فِي سُورَة الصافات. (م - 14 قصَص الانبياء) (*)
(1/209)
قصَّة الذَّبِيح قَالَ الله تَعَالَى: آوقال إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى؟ قَالَ: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أسلما وتله للجبين * وناديناه أَن يَا إِبْرَاهِيم * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المومنين * وبشرناه بإسحق نَبيا من الصَّالِحين * وباركنا عَلَيْهِ وعَلى إِسْحَق وَمن ذريتهما محسن وظالم لنَفسِهِ مُبين (1) ". يذكر تَعَالَى [عَن (2) ] خَلِيله إِبْرَاهِيم أَنه لما هَاجر من بِلَاد قومه، سَأَلَ ربه أَن يهب لَهُ ولدا صَالحا فبشره الله تَعَالَى بِغُلَام حَلِيم، وَهُوَ إِسْمَاعِيل (3) عَلَيْهِ السَّلَام ; لانه أول من ولد لَهُ على رَأس سِتّ وَثَمَانِينَ سنة من عمر الْخَلِيل. وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْملَل، لانه أول ولد وبكره. وَقَوله: " فَلَمَّا بلغ مَعَه السَّعْي " أَي شب وَصَارَ يسْعَى فِي مَصَالِحه __________ (1) الْآيَات: 99 - 113 من سُورَة الصِّفَات (2) لَيست فِي ا (3) ا: اسحق. وَهُوَ تَحْرِيف (*)
(1/210)
كَأَبِيهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: " فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ " أَيْ شَبَّ وَارْتَحَلَ وَأَطَاقَ مَا يَفْعَلُهُ أَبُوهُ من السَّعْي وَالْعَمَل. فَلَمَّا كَانَ هَذَا، رأى إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ هَذَا. وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: " رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ " قَالَهُ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ أَيْضًا. وَهَذَا اخْتِبَارٌ مِنَ اللَّهِ عزوجل لِخَلِيلِهِ فِي أَنْ يَذْبَحَ هَذَا الْوَلَدَ الْعَزِيزَ الَّذِي جَاءَهُ عَلَى كِبَرٍ، وَقَدْ طَعَنَ فِي السِّنِّ، بَعْدَ مَا أُمِرَ بِأَنْ يُسْكِنَهُ هُوَ وَأُمَّهُ فِي بِلَادٍ قَفْرٍ، وَوَادٍ لَيْسَ بِهِ حَسِيسٌ وَلَا أَنِيسٌ، وَلَا زَرْعٌ وَلَا ضَرْعٌ. فَامْتَثَلَ أَمْرَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ، وَتَرَكَهُمَا هُنَاكَ ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمَا فَرَجًا وَمَخْرَجًا وَرَزَقَهُمَا مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبَانِ. ثُمَّ لَمَّا أُمِرَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ هَذَا الَّذِي قَدْ أَفْرَدَهُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، وَهُوَ بِكْرُهُ وَوَحِيدُهُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ، أَجَابَ رَبَّهُ وَامْتَثَلَ أَمْرَهُ، وَسَارَعَ إِلَى طَاعَتِهِ. ثُمَّ عَرَضَ ذَلِكَ عَلَى وَلَدِهِ لِيَكُونَ أَطْيَبَ لِقَلْبِهِ وَأَهْوَنَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَأْخُذَهُ قَسْرًا وَيَذْبَحَهُ قَهْرًا: " قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا ترى؟ ". فبادر الْغُلَام الْحَلِيم، سر وَالِدَهُ الْخَلِيلَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: " يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصابرين ". وَهَذَا الْجَوَابُ فِي غَايَةِ السَّدَادِ وَالطَّاعَةِ لِلْوَالِدِ ولرب الْعباد.
(1/211)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ " قِيلَ: أَسْلَمَا: أَيِ اسْتَسْلَمَا لِأَمْرِ اللَّهِ وَعَزَمَا على ذَلِك. وَقيل: وَهَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ، وَالْمَعْنَى: " تَلَّهُ لِلْجَبِينِ " أَيْ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ. قِيلَ أَرَادَ أَنْ يَذْبَحَهُ مِنْ قَفَاهُ لِئَلَّا يُشَاهِدَهُ فِي حَالِ ذَبْحِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: بَلْ أَضْجَعَهُ كَمَا تُضْجَعُ الذَّبَائِحُ وَبَقِيَ طَرَفُ جَبِينِهِ لَاصِقًا بِالْأَرْضِ " وَأَسْلَمَا " أَي سمى إِبْرَاهِيم وَكبر، وَتشهد الْوَلَدَ لِلْمَوْتِ. قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: أَمَرَّ السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ فَلَمْ تَقْطَعْ شَيْئًا. وَيُقَالُ: جُعِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَلْقِهِ صَفِيحَةٌ مِنْ نُحَاسٍ. وَاللَّهُ أعلم. فَعِنْدَ ذَلِك نودى من الله عزوجل: " أَن يَا إِبْرَاهِيم قد صدقت الرُّؤْيَا " أَيْ قَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنِ اخْتِبَارِكِ وَطَاعَتِكَ، وَمُبَادَرَتِكَ إِلَى أَمْرِ رَبِّكَ، وَبَذْلِكَ وَلَدَكَ لِلْقُرْبَانِ، كَمَا سَمَحْتَ بِبَدَنِكَ لِلنِّيرَانِ، وَكَمَا مَالُكَ مَبْذُولٌ لِلضِّيفَانِ! وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبلَاء الْمُبين " أَيِ الِاخْتِبَارُ الظَّاهِرُ الْبَيِّنُ. وَقَوْلُهُ: " وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم " أَيْ وَجَعَلْنَا فِدَاءَ ذَبْحِ وَلَدِهِ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنَ الْعِوَضِ عَنْهُ. وَالْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ كَبْشٌ أَبْيَضُ أَعْيَنُ أَقْرَنُ (1) ، رَآهُ مَرْبُوطًا بِسَمُرَةٍ فِي ثَبِيرٍ. قَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَن سعيد ابْن جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَبْشٌ قَدْ رَعَى فِي الْجَنَّةِ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ يَرْتَعُ فِي الْجَنَّةِ حَتَّى تشقق عَنهُ ثبير، وَكَانَ عَلَيْهِ __________ (1) الاعين: الْعَظِيم سَواد الْعين. والاقرن الْكَبِير القرنين. (*)
(1/212)
عِهْنٌ (1) أَحْمَرُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هَبَطَ عَلَيْهِ مِنْ ثَبِيرٍ كَبْشٌ أَعْيَنُ أَقْرَنُ لَهُ ثُغَاءٌ فَذَبَحَهُ، وَهُوَ الْكَبْشُ الَّذِي قَرَّبَهُ ابْنُ آدَمَ فَتُقُبِّلَ مِنْهُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: فَذَبَحَهُ بِمِنًى، وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: ذبحه بالْمقَام. فَأَما ماروى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ وَعْلًا، وَعَنِ الْحسن أَنه كَانَ تنسا مِنَ الْأَرْوَى وَاسْمُهُ جَرِيرٌ، فَلَا يَكَادُ يَصِحُّ عَنْهُمَا. ثمَّ غَالب ماهاهنا مِنَ الْآثَارِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ. وَفِي الْقُرْآنِ كِفَايَةٌ عَمَّا جَرَى مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ وَالِاخْتِبَارِ (2) الْبَاهِرِ، وَأَنَّهُ فُدِيَ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ كَبْشًا. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ خَالِهِ نَافِع، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ: أَخْبَرَتْنِي امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ وَلَّدَتْ عَامَّةَ أَهْلِ دَارِنَا قَالَتْ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عُثْمَان بن طَلْحَة، وَقَالَت مَرَّةً: إِنَّهَا سَأَلَتْ عُثْمَانَ: لِمَ دَعَاكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ [قَالَ لى رَسُول الله (3) ] " إِنِّي كُنْتُ رَأَيْتُ قَرْنَيِ الْكَبْشِ حِينَ دَخَلْتُ الْبَيْتَ، فَنَسِيتُ أَنْ آمُرَكَ أَنْ تُخَمِّرَهُمَا (4) فَخَمِّرْهُمَا فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيْتِ شئ يشغل الْمصلى ". قَالَ سُفْيَان: لم يزل قرنا الْكَبْش [معلقين (3) ] فِي الْبَيْت حَتَّى احْتَرَقَ الْبَيْت فاخترقا. __________ (1) العهن: الصُّوف. (2) ا: والاخبار. (3) سَقَطت من ا (4) تخمرهما: تعطيهما (*)
(1/213)
وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَأْسَ الْكَبْشِ لَمْ يَزَلْ مُعَلَّقًا عِنْدَ مِيزَابِ الْكَعْبَةِ قَدْ يَبِسَ. وَهَذَا وَحْدَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَعِيل ; لانه كَانَ هُوَ الْمُقِيم بِمَكَّة وَإِسْحَق لَا نعلم أَن قَدِمَهَا فِي حَالِ صِغَرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْقُرْآنِ، بَلْ كَأَنَّهُ نَصٌّ على أَن الذَّبِيح هُوَ إِسْمَعِيل ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ قِصَّةَ الذَّبِيحِ (1) ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ. " وبشرناه بإسحق نَبيا من الصَّالِحين ". وَمَنْ جَعَلَهُ حَالًا فَقَدْ تَكَلَّفَ، وَمُسْتَنَدُهُ أَنَّهُ إِسْحَق إِنَّمَا هُوَ إِسْرَائِيلِيَّاتُ. وَكِتَابُهُمْ فِيهِ تَحْرِيفٌ، وَلَا سِيَّمَا هَاهُنَا قَطْعًا لَا مَحِيدَ عَنْهُ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَذْبَحَ ابْنه وحيده (2) وفى نسخ هـ من المعربة بكره إِسْحَق، فلفظة إِسْحَق هَاهُنَا مُقْحَمَةٌ مَكْذُوبَةٌ مُفْتَرَاةٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الوحيد وَلَا الْبكر [إِنَّمَا] (3) ذَاك إِسْمَعِيل. وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى هَذَا حَسَدُ الْعَرَبِ، فَإِنَّ إِسْمَعِيل أَبُو الْعَرَبِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ الْحِجَازَ الَّذِينَ مِنْهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِسْحَق وَالِد يَعْقُوب - وَهُوَ إِسْرَائِيل - الذى يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَجُرُّوا هَذَا الشَّرَفَ إِلَيْهِمْ، فَحَرَّفُوا كَلَامَ اللَّهِ وَزَادُوا فِيهِ وَهُمْ قَوْمٌ بُهْتٌ وَلَمْ يُقِرُّوا بِأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. وَقَدْ قَالَ بِأَنَّهُ إِسْحَق طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا أَخَذُوهُ - وَالله أعلم - من كَعْب الاحبار، أَو من صحف (4) أهل الْكتاب __________ (1) ا: الذّبْح (2) ط: ووحيده. (3) من ا (4) ا: أَو مصحف أهل الْكتاب. (*)
(1/214)
وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنِ الْمَعْصُومِ حَتَّى نَتْرُكَ لِأَجْلِهِ ظَاهِرَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَلَا يُفْهَمُ هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ، بَلِ الْمَفْهُومُ بَلِ الْمَنْطُوقُ بَلِ النَّصُّ عِنْدَ التَّأَمُّلِ عَلَى أَنَّهُ إِسْمَعِيل. وَمَا أحسن مَا اسْتدلَّ بِهِ ابْن كَعْب القرظى على انه إِسْمَعِيل وَلبس بإسحق من قَوْله: " فبشرناه بإسحق وَمن وَرَاء إِسْحَق يَعْقُوب " [قَالَ] (1) فَكَيْفَ تَقَعُ الْبِشَارَةُ بِإِسْحَاقَ وَأَنَّهُ سَيُولَدُ لَهُ يَعْقُوب، ثمَّ يُؤمر بِذبح إِسْحَق وَهُوَ صَغِيرٌ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ لَهُ؟ هَذَا لَا يَكُونُ، لِأَنَّهُ يُنَاقِضُ الْبِشَارَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدِ اعْتَرَضَ السُّهَيْلِيُّ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِمَا حَاصله أَن قَوْله: " فبشرناها بإسحق " جُمْلَةٌ تَامَّةٌ، وَقَوْلَهُ: " وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ " جُمْلَةٌ أُخْرَى لَيْسَتْ فِي حَيِّزِ الْبِشَارَةِ. قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ أَنْ يَكُونَ مَخْفُوضًا إِلَّا أَنْ يُعَادَ مَعَهُ حَرْفُ الْجَرّ، فَلَا يجوز أَن يُقَال مَرَرْت يزِيد وَمِنْ بَعْدِهِ عَمْرٍو، حَتَّى يُقَالَ وَمِنْ بَعْدِهِ بِعَمْرو. وَقَالَ: فَقَوله " وَمن وَرَاء إِسْحَق يَعْقُوب " مَنْصُوب بِفعل مُضْمر تَقْدِيره: " وَوَهَبْنَا لاسحق يَعْقُوبَ ". وَفِي هَذَا الَّذِي قَالَهُ نَظَرٌ. وَرَجَّحَ أَنه إِسْحَق ; وَاحْتج بقوله: " فَلَمَّا بلغ مَعَه السَّعْي " قَالَ: وَإِسْمَاعِيلُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ، إِنَّمَا كَانَ فِي حَال صغره هُوَ وَأمه بجبال مَكَّة فَكيف يبلغ مَعَه السَّعْي؟ __________ (1) لَيست فِي ا (*)
(1/215)
وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ الْخَلِيلَ كَانَ يَذْهَبُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ رَاكِبًا الْبُرَاقَ إِلَى مَكَّةَ، يَطَّلِعُ عَلَى وَلَده وَابْنه ثمَّ يرجع. وَالله تَعَالَى أعلم. فَمن حكى القَوْل عَنهُ بِأَنَّهُ إِسْحَق كَعْبُ الْأَحْبَارِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَالْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ وَابْن مَسْعُود، ومسروق وعكرموة وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَأَبِي مَيْسَرَةَ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، وَالزُّهْرِيِّ وَالْقَاسِمِ وَابْن أَبى بردة وَمَكْحُول، وَعُثْمَان ابْن حَاضِرٍ وَالسُّدِّيِّ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَأَبِي الْهُذَيْلِ وَابْنِ سَابِطٍ. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَهَذَا عَجَبٌ مِنْهُ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ عَنْهُ - وَعَنْ أَكْثَرِ هَؤُلَاءِ - أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَيُوسُفُ بْنُ مِهْرَانَ وَعَطَاءٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ ; أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبرنِي عَمْرو ابْن قَيْسٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْمَفْدِيُّ إِسْمَاعِيلُ، وَزَعَمَتِ الْيَهُودُ أَنَّهُ إِسْحَاقُ وَكَذَبَتِ الْيَهُودُ. وَقَالَ عَبْدُ الله ابْن الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِيهِ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَأَلْتُ أَبِي عَنِ الذَّبِيحِ فَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي الطُّفَيْلِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ
(1/216)
وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَبِي صَالِحٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: الذَّبِيحُ هُوَ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَحَكَاهُ الْبَغَوِيُّ أَيْضًا عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالْكَلْبِيِّ وَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ. قُلْتُ: وَرُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَجَاءَ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَابْنَ الذَّبِيحَيْنِ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ: لَا شَكَّ فِي هَذَا. وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن بُرَيْدَة عَن سُفْيَانِ بْنِ فَرْوَةَ الْأَسْلَمِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ خَلِيفَةٌ إِذْ كَانَ مَعَه بِالشَّام - يعْنى استدلاله بقوله بعد الْعِصْمَة (1) : " فبشرناها بِإسْحَاق وَمن وَرَاء إِسْحَاق يَعْقُوب " - فَقَالَ لَهُ عمر: إِن هَذَا الشئ مَا كُنْتُ أَنْظُرُ فِيهِ، وَإِنِّي لَأَرَاهُ كَمَا قُلْتَ: ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ كَانَ عِنْدَهُ بِالشَّامِ، كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ يُرَى أَنَّهُ مِنْ عُلَمَائِهِمْ. قَالَ: فَسَأَلَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَيُّ ابْنَيْ إِبْرَاهِيمَ أُمِرَ بِذَبْحِهِ؟ فَقَالَ: إِسْمَاعِيلُ وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِن الْيَهُود لَتَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ يَحْسُدُونَكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَبَاكُمُ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فِيهِ وَالْفَضْلِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ مِنْهُ لِصَبْرِهِ لما أَمر بِهِ، فهم يححدون ذَلِك ويزعمون أَنه إِسْحَق، لَان إِسْحَق أبوهم. وَقد ذكرنَا هَذِه الْمَسْأَلَة مستصاة بِأَدِلَّتِهَا وَآثَارِهَا فِي كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ والْمنَّة. __________ (1) كَذَا بالاصول. ولعلها: بعد الْقِصَّة. (*)
(1/217)
قَالَ الله تَعَالَى: " وبشرناه بإسحق نَبيا من الصَّالِحين * وباركنا عَلَيْهِ وعَلى إِسْحَق وَمن ذريتهما محسن وظالم لنَفسِهِ مُبين ". وَقد كَانَت الْبشَارَة بِهِ من الملاكة لابراهيم وَسَارة لما مروا بهما مُجْتَازِينَ ذَاهِبِينَ إِلَى مَدَائِنِ قَوْمِ لُوطٍ، لِيُدَمِّرُوا عَلَيْهِمْ لِكُفْرِهِمْ وَفُجُورِهِمْ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى، قَالُوا سَلَامًا، قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَة فَضَحكت فبشرناها بإسحق وَمن وَرَاء إِسْحَق يَعْقُوب * قَالَت يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيخا؟ إِن هَذَا لشئ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مجيد (1) ". وَقَالَ تَعَالَى: " ونبئهم عَن ضيف إِبْرَاهِيم إِذا دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا، قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وجلون * قَالُوا لَا تؤجل إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ؟ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يقنط من رَحْمَة ربه إِلَّا الضانون (2) ". __________ (1) الْآيَات: 69 - 73 من سُورَة هود (2) الْآيَات: 51 - 56 من سُورَة الْحجر (*)
(1/218)
وَقَالَ تَعَالَى: " هَل أَتَاك حَدِيث ضيف إِبْرَاهِيم الْمُكرمين * إِذْ دخلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاما، قَالَ سَلام قوم منكرون * فرَاغ إِلَى أَهله فجَاء بعجل سمين * فقربه إِلَيْهِم قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ؟ * فأوجس مِنْهُم خيفة، قَالُوا لَا تخف وبشروه بِغُلَام عليم * فَأَقْبَلت امْرَأَته فِي صرة فصكت وَجههَا وَقَالَت عَجُوز عقيم * قَالُوا كَذَلِك قَالَ رَبك إِنَّه هُوَ الْحَكِيم الْعَلِيم (1) ". يَذْكُرُ تَعَالَى: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ * قَالُوا: وَكَانُوا ثَلَاثَةً: جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ - لَمَّا وَرَدُوا عَلَى الْخَلِيلِ حسبهم [أَولا (2) ] أضيافا، فعاملهم مُعَاملَة الضيوف، وشوى لَهُم عجلا سمينتا مِنْ خِيَارِ بَقَرِهِ، فَلَمَّا قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَرَ لَهُمْ هِمَّةً إِلَى الْأَكْلِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَيْسَ فِيهِمْ قُوَّةُ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّعَامِ " فَنَكِرَهُمْ " إِبْرَاهِيمُ " وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قوم لوط " أَيْ لِنُدَمِّرَ عَلَيْهِمْ. فَاسْتَبْشَرَتْ عِنْدَ ذَلِكَ سَارَةُ غَضبا لله عَلَيْهِم، وَكَانَت قَائِمَة على رُؤُوس الْأَضْيَافِ كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ النَّاسِ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ. فَلَمَّا ضَحِكَتِ اسْتِبْشَارًا بِذَلِكَ، قَالَ الله تَعَالَى: " فبشرناها بإسحق وَمن وَرَاء إِسْحَق يَعْقُوب " أَيْ بَشَّرَتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِذَلِكَ " فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صرة " أَي فِي صرخة " فصكت وَجههَا " أَيْ كَمَا يَفْعَلُ النِّسَاءُ عِنْدَ التَّعَجُّبِ وَقَالَتْ: " يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيخا " أَيْ كَيْفَ يَلِدُ مِثْلِي وَأَنَا كَبِيرَةٌ وَعَقِيمٌ أَيْضا، وَهَذَا بعلى، أَيْ زَوْجِي، شَيْخًا؟ تَعَجَّبَتْ مِنْ وُجُودِ وَلَدٍ وَالْحَالة هَذِه. __________ (1) الْآيَات: 24 - 30 من سُورَة الذاريات (2) من ا (*)
(1/219)
وَلِهَذَا قَالَت: " إِن هَذَا لشئ عَجِيبٌ * قَالُوا: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ! رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مجيد ". وَكَذَلِكَ تَعَجَّبَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتِبْشَارًا بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ وَتَثْبِيتًا لَهَا وَفَرَحًا بِهَا، " قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مسنى الْكَبِير فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ من القانطين " أَكَّدُوا الْخَبَرَ بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ وَقَرَّرُوهُ مَعَهُ، فَبَشَّرُوهُمَا " بِغُلَام عليم " ; وَهُوَ إِسْحَق أَخُو إِسْمَاعِيل. غُلَام عليم مُنَاسِبٌ لِمَقَامِهِ وَصَبْرِهِ، وَهَكَذَا وَصَفَهُ رَبُّهُ بِصِدْقِ الْوَعْدِ وَالصَّبْرِ. وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: " فَبَشَّرْنَاهَا بإسحق وَمن وَرَاء إِسْحَق يَعْقُوب ". وَهَذَا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ، وَأَن إِسْحَق لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ بِذَبْحِهِ بَعْدَ أَنْ وَقَعَتِ الْبِشَارَةُ بِوُجُودِهِ وَوُجُودِ وَلَدِهِ يَعْقُوبَ الْمُشْتَقِّ مِنَ الْعَقِبِ مِنْ بَعْدِهِ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ أَحْضَرَ مَعَ الْعِجْلِ الْحَنِيذِ، وَهُوَ الْمَشْوِيُّ، رغيفا من مَكَّة فِيهِ ثَلَاثَةُ أَكْيَالٍ وَسَمْنٌ وَلَبَنٌ. وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ أكلُوا. وَهَذَا غلط مَحْض. وَقيل: كَانُوا يرَوْنَ أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ وَالطَّعَامُ يَتَلَاشَى فِي الْهَوَاءِ. وَعِنْدَهُمْ أَن الله تَعَالَى قَالَ لابراهيم: أما سارا امْرَأَتُكَ فَلَا يُدْعَى اسْمُهَا سَارَا وَلَكِنِ اسْمُهَا سَارَةُ، وَأُبَارِكُ عَلَيْهَا وَأُعْطِيكَ مِنْهَا ابْنًا، وَأُبَارِكُهُ وَيكون الشعوب وَمُلُوكُ الشُّعُوبِ مِنْهُ. فَخَرَّ إِبْرَاهِيمُ عَلَى وَجْهِهِ - يَعْنِي سَاجِدًا - وَضَحِكَ قَائِلًا فِي نَفْسِهِ: أَبَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ يُولَدُ لِي غُلَامٌ؟ أَوْ سَارَةُ تَلِدُ وَقَدْ أَتَتْ عَلَيْهَا تِسْعُونَ سَنَةً؟ !
(1/220)
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِلَّهِ تَعَالَى: لَيْتَ إِسْمَاعِيلَ يَعِيشُ قدامك. فَقَالَ الله لابراهيم: بِحَق إِنَّ امْرَأَتَكَ سَارَةَ تَلِدُ لَكَ غُلَامًا وَتَدْعُو اسْمه إِسْحَق إِلَى مثل هَذَا الْحِين من قَابل، وأوثقه مِيثَاقِي إِلَى الدَّهْرِ وَلِخَلَفِهِ مِنْ بَعْدِهِ. وَقَدِ اسْتَجَبْتُ لَكَ فِي إِسْمَاعِيلَ وَبَارَكْتُ عَلَيْهِ وَكَثَّرْتُهُ ونميته جدا كثيرا، وَيُولَدُ لَهُ اثْنَا عَشَرَ عَظِيمًا وَأَجْعَلُهُ رَئِيسًا لِشَعْبٍ عَظِيمٍ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا بِمَا تقدم. وَالله أعلم. فَقَوله تَعَالَى: " فبشرناها بإسحق وَمن وَرَاء إِسْحَق يَعْقُوب " دَلِيل على أَنَّهَا تستمتع بِوُجُود وَلَدهَا إِسْحَق، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ يُولَدُ وَلَدُهُ يَعْقُوبُ. أَيْ يُولد فِي حياتهما لنقر أعينهما بِهِ كَمَا قرت بولده. وَلَوْ لَمْ يُرِدْ هَذَا لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ يَعْقُوبَ وَتَخْصِيصِ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ مِنْ دُونِ سَائِرِ نسل إِسْحَق فَائِدَة. وَلما عين بِالذكر [دلّ] (1) على أَنَّهُمَا يتمتعان بِهِ ويسران بولده كَمَا سُرَّا بِمَوْلِدِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: [" وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَق وَيَعْقُوب كلا هدينَا "] (1) وَقَالَ تَعَالَى: " فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دون الله وهبنا لَهُ إِسْحَق وَيَعْقُوب (2) ". وَهَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ مِهْرَانَ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلُ؟ [قَالَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟] (3) قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى " قلت كم __________ (1) سَقَطت من ا. (2) من الْآيَة: 9: من سُورَة مَرْيَم (3) سَقَطت من المطبوعة. (*)
(1/221)
بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: " أَرْبَعُونَ سَنَةً " قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: " ثُمَّ حَيْثُ أَدْرَكْتَ الصَّلَاةَ فَصَلِّ فَكُلُّهَا مَسْجِدٌ ". وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي أَسَّسَ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى، وَهُوَ مَسْجِد إيليا بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَرَّفَهُ اللَّهُ. وَهَذَا مُتَّجِهٌ. وَيَشْهَدُ لَهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْحَدِيثِ، فَعَلَى هَذَا يكون بِنَاء يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ - إِسْرَائِيل - بَعْدَ بِنَاءِ الْخَلِيلِ وَابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً سَوَاءً. وَقَدْ كَانَ بِنَاؤُهُمَا ذَلِكَ بعد وجود إِسْحَق ; لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَعَا، قَالَ فِي دُعَائِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا، وَاجْنُبْنِي، وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ، وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ من شئ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيل وَإِسْحَق إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (1) ". وَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث من أَن سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام، لما بنى __________ (1) الْآيَات: 35 - 43 من سُورَة إِبْرَاهِيم (*)
(1/222)
بَيت الْمُقَدّس سَأَلَ الله خلالا ثاثا كَمَا ذَكرْنَاهُ عِنْد قَوْله: " رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بعدى "، وَكَمَا سَنُورِدُهُ فِي قِصَّتِهِ - فَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّهُ جَدَّدَ بِنَاءَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ بَيْنَهُمَا أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّ بَيْنَ سُلَيْمَانَ وَإِبْرَاهِيمَ أَرْبَعِينَ سَنَةً سِوَى ابْنِ حِبَّانَ فِي تَقَاسِيمِهِ وَأَنْوَاعِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يُوَافَقْ عَلَيْهِ وَلَا سُبِقَ إِلَيْهِ.
(1/223)
ذكر بناية الْبَيْتِ الْعَتِيقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لابراهيم مَكَان الْبَيْت أَلا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا، وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فج عميق (1) ". وَقَالَ تَعَالَى: " إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا. وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ من الْعَالمين " (2) . وَقَالَ تَعَالَى: " وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا، قَالَ وَمِنْ ذريتي؟ قَالَ لَا ينَال عهدي الظَّالِمين * وَإِذ جعلنَا الْبَيْت مثابة للنَّاس وَأمنا، وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى، وعهدنا إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل أَن طهرا بيتى للطائفين والعاكفين والركع السُّجُود * وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم رب اجْعَل هَذَا بَلَدا آمنا، وارزق أَهله من الثمرات من آمن مِنْهُم بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر، قَالَ وَمن كفر فأمتعه قَلِيلا، ثمَّ أضطره إِلَى عَذَاب النَّار وَبئسَ الْمصير، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْت __________ (1) الْآيَتَانِ: 26 - 27 من سُورَة الْحَج (2) الْآيَتَانِ: 96 - 97 من سُورَة آل عمرَان. (*)
(1/224)
التواب الرَّحِيم * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيز الْحَكِيم " (1) يَذْكُرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَصَفِيِّهِ وَخَلِيلِهِ، إِمَام الحنفاء ووالد الانبياء إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام (2) أَنَّهُ بَنَى الْبَيْتَ الْعَتِيقَ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ وُضِعَ لِعُمُومِ النَّاسِ، يَعْبُدُونَ اللَّهَ فِيهِ. وَبَوَّأَهُ اللَّهُ مَكَانَهُ، أَيْ أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ وَدَلَّهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ أُرْشِدَ إِلَيْهِ بوحى من الله عزوجل. وَقد ذكرنَا فِي صفة خلق السَّمَوَات: أَنَّ الْكَعْبَةَ بِحِيَالِ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، بِحَيْثُ أَنَّهُ لَو سقط لسقط عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ معابد السَّمَوَات السَّبْعِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ فِي كُلِّ سَمَاءٍ بَيْتًا يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ أَهْلُ كُلِّ سَمَاءٍ، وَهُوَ فِيهَا كَالْكَعْبَةِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ. فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا يَكُونُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ كَتِلْكَ المعابد لملائكة السَّمَوَات، وَأَرْشَدَهُ اللَّهُ إِلَى مَكَانِ الْبَيْتِ الْمُهَيَّأِ لَهُ، الْمعِين لذَلِك مُنْذُ خلق السَّمَوَات وَالْأَرْضَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: " إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ". وَلَمْ يَجِئْ فِي خَبَرٍ صَحِيحٍ عَنْ مَعْصُومٍ أَنَّ الْبَيْتَ كَانَ مَبْنِيًّا قَبْلَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَمَنْ تَمَسَّكَ فِي هَذَا بِقَوْلِهِ: " مَكَان الْبَيْت " فَلَيْسَ بناهض __________ (8) الْآيَات: 124 - 129 من سُورَة الْبَقَرَة. (2) ط: عَلَيْهِ أفضل صَلَاة وَتَسْلِيم. (م - 15 قصَص الانبياء 1) (*)
(1/225)
وَلَا ظَاهِرٍ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مَكَانُهُ الْمُقَدَّرُ فِي علم الله، الْمُقَرّر فِي قَدَرِهِ (1) ، الْمُعَظَّمُ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ مَوْضِعُهُ، مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى زَمَانِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ آدَمَ نَصَبَ عَلَيْهِ قُبَّةً، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا لَهُ: قَدْ طُفْنَا قَبْلَكَ بِهَذَا الْبَيْتِ، وَأَنَّ السَّفِينَةَ طَافَتْ بِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَلَكِنْ كُلُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَنْ بنى إِسْرَائِيل. وَقد قَررنَا أَنَّهَا لاتصدق وَلَا تُكَذَّبُ فَلَا يُحْتَجُّ بِهَا، فَأَمَّا إِنْ رَدَّهَا الْحَقُّ فَهِيَ مَرْدُودَةٌ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: " إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهدى للْعَالمين ". أَيْ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِعُمُومِ النَّاسِ لِلْبَرَكَةِ وَالْهدى، الْبَيْت الذى ببكة. وَقيل مَحل الْكَعْبَة " فِيهِ آيَات بَيِّنَات " أَيْ عَلَى أَنَّهُ بِنَاءُ الْخَلِيلِ، وَالِدِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَعْدِهِ وَإِمَامِ الْحُنَفَاءِ مِنْ وَلَدِهِ، الَّذِينَ يَقْتَدُونَ بِهِ وَيَتَمَسَّكُونَ بِسُنَّتِهِ. وَلِهَذَا قَالَ: " مَقَامُ إِبْرَاهِيم " أَيِ الْحَجَرُ الَّذِي كَانَ يَقِفُ عَلَيْهِ قَائِمًا لَمَّا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ عَنْ قَامَتِهِ، فَوَضَعَ لَهُ وَلَدُهُ هَذَا الْحَجَرَ الْمَشْهُورَ، لِيَرْتَفِعَ عَلَيْهِ لَمَّا تَعَالَى الْبناء وَعظم الفناء. كَمَا ذكر فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الطَّوِيلِ. وَقَدْ كَانَ هَذَا الْحَجَرُ مُلْصَقًا بِحَائِطِ الْكَعْبَةِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ إِلَى أَيَّامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ; فَأَخَّرَهُ عَن الْبَيْت قَلِيلا، لِئَلَّا يشغل المصليمن عِنْدَهُ الطَّائِفِينَ بِالْبَيْتِ، وَاتَّبَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذَا، فَإِنَّهُ قَدْ وَافقه ربه فِي أَشْيَاء: مِنْهَا قَوْلِهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: " وَاتَّخذُوا __________ (1) ط قدرته. (*)
(1/226)
من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى ". وَقَدْ كَانَتْ آثَارُ قَدَمَيِ الْخَلِيلِ بَاقِيَةً فِي الصَّخْرَةِ إِلَى أَوَّلِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي قَصِيدَتِهِ اللَّامِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ: وَثَوْرٍ (1) وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ * وَرَاقٍ لِيَرْقَى (1) فِي حِرَاءَ وَنَازِلِ وَبِالْبَيْتِ حَقِّ الْبَيْتِ مِنْ بَطْنِ مَكَّةَ * وَبِاللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِغَافِلِ وَبِالْحَجَرِ الْمُسْوَدِّ إِذْ يمسحونه * إِذْ اكْتَنَفُوهُ بِالضُّحَى وَالْأَصَائِلِ وَمَوْطِئُ إِبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةٌ * عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ يَعْنِي أَنَّ رِجْلَهُ الْكَرِيمَةَ غَاصَتْ فِي الصَّخْرَةِ فَصَارَتْ على قدر قدمه حافيه لامنتعلة. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ " [أَيْ فِي حَالِ قَوْلِهِمَا (2) ] : " رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا أَنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم " فهما فِي غَايَة الاخلاص وَالطَّاعَة لله عزوجل، وهما يسألان من الله عزوجل السَّمِيع الْعَلِيم أَن يتَقَبَّل مِنْهُمَا ماهما فِيهِ مِنَ الطَّاعَةِ الْعَظِيمَةِ وَالسَّعْيِ الْمَشْكُورِ: " رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التواب الرَّحِيم ". * * * وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْخَلِيلَ بَنَى أَشْرَفَ الْمَسَاجِدِ فِي أَشْرَفِ (3) الْبِقَاعِ، فِي وَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، وَدَعَا لِأَهْلِهَا بِالْبَرَكَةِ، وَأَنْ يُرْزَقُوا مِنَ الثَّمَرَاتِ، مَعَ قِلَّةِ الْمِيَاهِ وَعَدَمِ الْأَشْجَارِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ حَرَمًا مُحَرَّمًا وَأَمْنًا مُحَتَّمًا. فَاسْتَجَابَ اللَّهُ وَلَهُ الْحَمْدُ لَهُ مَسْأَلَتَهُ، وَلَبَّى دَعْوَتَهُ، وآتاه طلبته، فَقَالَ __________ (1) ط: لبر (2) لَيست فِي ا (3) ط: أفضل (*)
(1/227)
تَعَالَى: " أَو لم يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ من حَولهمْ (1) ؟ " وَقَالَ تَعَالَى: " أَو لم نمكن لَهُم حرما آمنا يحبى إِلَيْهِ ثَمَرَات كل شئ رزقا من لدنا ". وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ، أَيْ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَعَلَى لُغَتِهِمُ الْفَصِيحَةِ الْبَلِيغَةِ النَّصِيحَة ; لتتم عَلَيْهِم النعمتان الدُّنْيَوِيَّة والدينية، سَعَادَة الْأُولَى وَالْآخِرَةِ (2) . وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ: فَبَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا وَأَيَّ رَسُولٍ! خَتَمَ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ، وَأَكْمَلَ لَهُ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا قَبْلَهُ، وَعَمَّ بِدَعْوَتِهِ أَهْلَ الْأَرْضِ عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ ; فِي سَائِرِ الاقطار والامصار والاعصار إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَكَانَ هَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، لِشَرَفِهِ فِي نَفْسِهِ وَكَمَالِ مَا أُرْسِلَ بِهِ، وَشَرَفِ بُقْعَتِهِ وَفَصَاحَةِ لُغَتِهِ، وَكَمَالِ شَفَقَتِهِ عَلَى أُمَّتِهِ، وَلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَكِرِيمِ (3) مَحْتِدِهِ وَعَظِيمِ مَوْلِدِهِ، وَطِيبِ مَصْدَرِهِ وَمَوْرِدِهِ. وَلِهَذَا اسْتَحَقَّ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ كَانَ بانى الْكَعْبَة لاهل الْأَرْضِ، أَنْ يَكُونُ مَنْصِبُهُ وَمَحَلُّهُ وَمَوْضِعُهُ، فِي منَازِل السَّمَوَات وَرَفِيعِ الدَّرَجَاتِ، عِنْدَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، الَّذِي هُوَ كَعْبَةُ أَهْلِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ الْمُبَارَكِ الْمَبْرُورِ، الَّذِي يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَتَعَبَّدُونَ فِيهِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ إِلَى يَوْم الْبَعْث والنشور. __________ (1) سُورَة العنكبوت 67 (2) ط: والاخرى (3) ا: وَكَمَال (*)
(1/228)
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ صفة بنائِهِ للبيت (1) ، وَمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ، بِمَا فِيهِ كِفَايَة، فَمن أَرَادَ فَلْيُرَاجِعْهُ ثَمَّ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن يبنيا الْبَيْت لَمْ يَدْرِيَا أَيْنَ مَكَانُهُ، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا يُقَالُ لَهُ الْخَجُوجُ لَهَا جَنَاحَانِ وَرَأْسٌ فِي صُورَةِ حَيَّةٍ، فَكَنَسَتْ لَهُمَا مَا حَوْلَ الْكَعْبَةِ عَنْ أَسَاسِ الْبَيْتِ الْأَوَّلِ، وَأَتْبَعَاهَا بِالْمَعَاوِلِ يحفران حَتَّى وضعا الاساس. وَذَلِكَ حِين يَقُولُ تَعَالَى: " وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ". فَلَمَّا بلغا الْقَوَاعِد وبنيا الرُّكْنَ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِإِسْمَاعِيلَ: يَا بُنَيَّ اطْلُبْ لِي [حَجَرًا حَسَنًا أَضَعُهُ هَاهُنَا. قَالَ يَا أَبَتِ إِنِّي كَسْلَانُ تَعِبٌ. قَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ فَانْطَلَقَ، وَجَاءَهُ جِبْرِيلُ بِالْحَجَرِ (2) ] الْأَسْوَدِ مِنَ الْهِنْدِ، وَكَانَ أَبيض يَاقُوتَةً بَيْضَاءَ مِثْلَ الثَّغَامَةِ (3) . وَكَانَ آدَمُ هَبَطَ بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ فَاسْوَدَّ مِنْ خَطَايَا النَّاسِ، فَجَاءَهُ إِسْمَاعِيلُ بِحَجَرٍ فَوَجَدَهُ عِنْدَ الرُّكْنِ. فَقَالَ: يَا أَبَتِ مَنْ جَاءَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: جَاءَ بِهِ مَنْ هُوَ أَنْشَطُ مِنْكَ. فَبَنَيَا وَهُمَا يَدْعُوَانِ اللَّهَ: " رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيع الْعَلِيم ". وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُ بَنَاهُ مِنْ خَمْسَةِ أَجْبُلٍ، وَأَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ وَكَانَ مَلِكَ الْأَرْضِ إِذْ ذَاكَ - مَرَّ بِهِمَا وَهُمَا يَبْنِيَانِهِ فَقَالَ: مَنْ أَمَرَكُمَا بِهَذَا؟ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: اللَّهُ أَمَرَنَا بِهِ. فَقَالَ: وَمَا يُدْرِينِي بِمَا تَقُولُ؟ __________ (1) ط: بناية الْبَيْت (2) سَقَطت من المطبوعة! (3) المطبوعة: النعامة. وَهُوَ تَحْرِيف. والثغامة: نبت أَبيض. (*)
(1/229)
فَشَهِدَتْ خَمْسَةُ أَكْبُشٍ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَآمَنَ وَصَدَّقَ. وَذَكَرَ الْأَزْرَقِيُّ: أَنَّهُ طَافَ مَعَ الْخَلِيلِ بِالْبَيْتِ. وَقد كَانَت [الْكَعْبَة (1) ] عَلَى بِنَاءِ الْخَلِيلِ مُدَّةً طَوِيلَةً، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بَنَتْهَا قُرَيْشٌ، فَقَصُرَتْ بِهَا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ مِمَّا يَلِي الشَّامَ على ماهى عَلَيْهِ الْيَوْمَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَ عَن ابْنَ عُمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَلَمْ تَرَيْ أَن قَوْمك حِين بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ " فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيم؟ فَقَالَ: " لَوْلَا حدثان قَوْمك [بالْكفْر لفَعَلت (1) ] ". وفى رِوَايَة " لَوْلَا أَن قَوْمك حديثوا عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، أَوْ قَالَ بِكُفْرٍ، لَأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَجَعَلْتُ بَابَهَا بِالْأَرْضِ، وَلَأَدْخَلْتُ فِيهَا الْحِجْرَ ". وَقَدْ بَنَاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَيَّامِهِ عَلَى [مَا أَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) ] حَسْبَمَا أخْبرته بِهِ خَالَتُهُ عَائِشَةُ، أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَنْهُ، فَلَمَّا قَتَلَهُ الْحَجَّاجُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ الْخَلِيفَةِ إِذْ ذَاكَ، فَاعْتَقَدُوا أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ إِنَّمَا صَنَعَ ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ. فَأَمَرَ بِرَدِّهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، فَنَقَضُوا الْحَائِطَ الشَّامِيَّ وَأَخْرَجُوا مِنْهَا الْحِجْرَ، ثُمَّ سَدُّوا الْحَائِطَ وَرَدَمُوا الْأَحْجَارَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، فَارْتَفَعَ بَابُهَا الشَّرْقِيُّ وَسَدُّوا الْغَرْبِيَّ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا هُوَ مشَاهد إِلَى الْيَوْم. __________ (1) سَقَطت من ا (*)
(1/230)
ثُمَّ لَمَّا بَلَغَهُمْ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ إِنَّمَا فَعَلَ هَذَا لَمَّا أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ نَدِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا، وَتَأَسَّفُوا أَنْ لَوْ كَانُوا تَرَكُوهُ وَمَا تَوَلَّى مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ الْمَهْدِيِّ بْنِ الْمَنْصُورِ اسْتَشَارَ الْإِمَامَ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ فِي رَدِّهَا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي بَنَاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ [لَهُ (1) ] إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّخِذَهَا الْمُلُوكُ لُعْبَةً. يَعْنِي كُلَّمَا جَاءَ مَلِكٌ بَنَاهَا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِى يُرِيد. فاستقر الامر على ماهى عَلَيْهِ الْيَوْم. __________ (1) سَقَطت من ا (*)
(1/231)
ذكر ثَنَاء الله وَرَسُوله الْكَرِيم على عَبده وَخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ للنَّاس إِمَامًا، قَالَ وَمن ذرتي؟ قَالَ لَا ينَال عهدي الظَّالِمين " لما وفى مَا أمره بِهِ ربه مِنَ التَّكَالِيفِ الْعَظِيمَةِ، جَعَلَهُ لِلنَّاسِ إِمَامًا يَقْتَدُونَ بِهِ وَيَأْتَمُّونَ بِهَدْيِهِ. وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْإِمَامَةُ (1) مُتَّصِلَةً بِسَبَبِهِ، وَبَاقِيَةً فِي نَسَبِهِ، وَخَالِدَةً فِي عَقِبِهِ فَأُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ [وَرَامَ] (2) وَسُلِّمَتْ إِلَيْهِ الْإِمَامَةُ بِزِمَامٍ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْ نَيْلِهَا الظَّالِمُونَ، وَاخْتُصَّ بِهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَق وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (3) ". وَقَالَ تَعَالَى: " وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَق وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ. وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وإليسا كل من الصَّالِحين * وإسمعيل وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (4) ". فَالضَّمِير فِي قَوْله " وَمن ذُريَّته " عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلُوطٌ وَإِنْ كَانَ ابْنَ أَخِيهِ إِلَّا أَنَّهُ دَخَلَ فِي الذُّرِّيَّةِ تَغْلِيبًا، وَهَذَا هُوَ الْحَامِلُ لِلْقَائِلِ الْآخَرِ أَنَّ الضَّمِيرَ عَلَى نُوحٍ كَمَا قَدَّمْنَا فِي قصَّته. [وَالله أعلم (2) ] . __________ (1) ا: الامة. (2) لَيست فِي ا. (3) الْآيَة: 27 من سُورَة العنكبوت (4) الْآيَات: 84 - 87 من سُورَة الانعام. (*)
(1/232)
وَقَالَ تَعَالَى: " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذريتهما النُّبُوَّة وَالْكتاب (1) ". الْآيَةَ. فَكُلُّ كِتَابٍ أُنْزِلَ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، فَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَشِيعَتِهِ. وَهَذِهِ خِلْعَةٌ سَنِيَّةٌ [لَا تُضَاهَى، ومرتبة علية (2) ] لاتباهى. وَذَلِكَ أَنَّهُ وُلِدَ [لَهُ] (2) لِصُلْبِهِ [وَلَدَانِ] (2) ذَكَرَانِ عظيمان: إِسْمَعِيل من هَاجر، ثمَّ إِسْحَق (2) من سارة، وَولد لَهُ يَعْقُوبُ - وَهُوَ إِسْرَائِيلُ - الَّذِي يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ سَائِرُ أَسْبَاطِهِمْ، فَكَانَتْ فِيهِمُ النُّبُوَّةُ، وَكَثُرُوا جِدًّا بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا الَّذِي بَعَثَهُمْ وَاخْتَصَّهُمْ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، حَتَّى خُتِمُوا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ من بنى إِسْرَائِيل. وَأما إِسْمَعِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَانَتْ مِنْهُ الْعَرَبُ عَلَى اخْتِلَافِ قَبَائِلِهَا، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ سُلَالَتِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ سِوَى خَاتَمِهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَسَيِّدِهِمْ، وَفَخْرِ بَنِي آدَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ القرشى، الْمَكِّيِّ ثُمَّ الْمَدَنِيِّ. صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. فَلَمْ يُوجَدْ مِنْ هَذَا الْفَرْعِ الشَّرِيفِ وَالْغُصْنِ الْمُنِيفِ سِوَى هَذِهِ الْجَوْهَرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَالدُّرَّةِ الزَّاهِرَةِ، وَوَاسِطَةِ الْعِقْدِ الْفَاخِرَةِ، وَهُوَ السَّيِّدُ الَّذِي يَفْتَخِرُ بِهِ أَهْلُ الْجَمْعِ، وَيَغْبِطُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ كَمَا سَنُورِدُهُ أَنَّهُ قَالَ: " سَأَقُومُ مَقَامًا يَرْغَبُ إِلَى الْخلق كلهم حَتَّى إِبْرَاهِيم ". __________ (1) الْآيَة: 26 من سُورَة الْحَدِيد (2) لَيست فِي ا (3) ا: وَإِسْحَق. (*)
(1/233)
فَمَدَحَ إِبْرَاهِيمَ أَبَاهُ مِدْحَةً عَظِيمَةً فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَدَلَّ كَلَامُهُ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ الْخَلَائِقِ بَعْدَهُ عِنْدَ الْخَلَّاقِ، فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَن مَنْصُورٍ عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَيَقُول: " إِن أَبَاكُمَا كَانَ يعوذ بهما إِسْمَعِيل وَإِسْحَق: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ ". وَرَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ مَنْصُورٍ بِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: " وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى؟ قَالَ أَو لم تُؤْمِنْ؟ قَالَ بَلَى. وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ، ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادعن يَأْتِينَكَ سَعْيًا، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (1) . ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ لِهَذَا [السُّؤَالِ] (2) أَسْبَابًا بَسَطْنَاهَا فِي التَّفْسِيرِ وَقَرَّرْنَاهَا بِأَتَمِّ تَقْرِيرٍ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ اللَّهَ عزوجل أَجَابَهُ إِلَى مَا سَأَلَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمِدَ إِلَى أَرْبَعَةٍ مِنَ الطُّيُورِ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهَا عَلَى أَقْوَالٍ، وَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُمَزِّقَ لُحُومَهُنَّ وَرِيشَهُنَّ، وَيَخْلِطَ ذَلِكَ بَعْضَهُ فِي بَعْضٍ، ثُمَّ يُقَسِّمُهُ قِسَمًا وَيَجْعَلَ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا فَفَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ. ثُمَّ أُمِرَ أَنْ يَدْعُوَهُنَّ بِإِذْنِ رَبِّهِنَّ، فَلَمَّا دَعَاهُنَّ جَعَلَ كُلُّ عُضْوٍ يَطِيرُ إِلَى صَاحبه، وكل __________ (1) الْآيَة: 260 من سُورَة الْبَقَرَة (2) لَيست فِي ا. (*)
(1/234)
رِيشَةٍ تَأْتِي إِلَى أُخْتِهَا، حَتَّى اجْتَمَعَ بَدَنُ كُلِّ طَائِرٍ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَهُوَ ينظر إِلَى قدرَة الذى يَقُول للشئ كُنْ فَيَكُونُ. فَأَتَيْنَ إِلَيْهِ سَعْيًا، لِيَكُونَ أَبْيَنَ لَهُ وَأَوْضَحَ لِمُشَاهَدَتِهِ مِنْ أَنْ يَأْتِينَ طَيَرَانًا. وَيُقَال إِنَّه أَمر أَن يَأْخُذ رؤوسهن فِي يَده، فَجعل كل طَائِر يَأْتِي فَيلقى (1) رَأسه فيتركب على جِئْته كَمَا كَانَ. فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْلَمُ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى على إحْيَاء الْمَوْتَى علما يقينيا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، وَلَكِنْ أَحَبَّ أَنْ يُشَاهِدَ ذَلِكَ عِيَانًا، وَيَتَرَقَّى مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ! فَأَجَابَهُ اللَّهُ إِلَى سُؤَالِهِ وَأَعْطَاهُ غَايَةَ مَأْمُولِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ، لم تحاجون فِي إِبْرَاهِيم وَمَا أنزلت النوراة والابحيل إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ؟ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَالله ولى الْمُؤمنِينَ (2) ". يُنكر تَعَالَى على أهل الْكتاب من الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي دَعْوَى كل من الْفَرِيقَيْنِ، كَون الْخَلِيل على ملتهم وطريقتهم (3) ، فبرأه الله مِنْهُم، وَبَين كَثْرَة جهلهم وَقلة عقلهم فِي قَوْله: " وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ " أَيْ فَكَيْفَ يَكُونُ عَلَى دِينِكُمْ وَأَنْتُمْ إِنَّمَا شرع لكم مَا شرع بعده __________ (1) ا: فيلقيه. (2) الْآيَات: 65 - 68 من سُورَة آل عمرَان. (3) ا: وطريقهم. (*)
(1/235)
بمدد متطاولة؟ وَلِهَذَا قَالَ: " أَفلا تعقلون " إِلَى أَنْ قَالَ: " مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " فَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِينِ اللَّهِ الْحَنِيفِ، وَهُوَ الْقَصْدُ إِلَى الْإِخْلَاصِ، وَالِانْحِرَافُ عَمْدًا عَنِ الْبَاطِلِ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي هُوَ مُخَالِفٌ لِلْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْمُشْرِكِيَّةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ، وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي؟ قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِك إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَق إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا، قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أنزل إِلَى إِبْرَاهِيم وإسمعيل وَإِسْحَق وَيَعْقُوب ولاسباط، وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ من رَبهم، لَا تفرق بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ، فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ * قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ، وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ * أم تَقولُونَ إِن إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَق وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى، قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ؟ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ، وَمَا اللَّهُ بغافل
(1/236)
عَمَّا تَعْمَلُونَ. تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ (1) ". فنزه الله عزوجل خَلِيلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَنْ يَكُونَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، وَبَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ " يَعْنِي الَّذِينَ كَانُوا عَلَى مِلَّتِهِ مِنْ أَتْبَاعِهِ فِي زَمَانِهِ، وَمَنْ تَمَسَّكَ بِدِينِهِ مِنْ بَعْدِهِمْ. " وَهَذَا النَّبِي " يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لَهُ الدِّينَ الْحَنِيفَ الَّذِي شَرَعَهُ لِلْخَلِيلِ، وَكَمَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ، وَأَعْطَاهُ مَا لم يُعْط نَبيا وَلَا رَسُولا من قَبْلَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أول الْمُسلمين " (2) وَقَالَ تَعَالَى: " إِن إِبْرَاهِيم كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ من الْمُشْركين * شاكرا لانعمه اجتباه وهداه إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَإنَّهُ فِي الْآخِرَة لمن الصَّالِحين * ثمَّ أَوْحَينَا إِلَيْك أَن اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " (3) . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى الصُّوَرَ فِي الْبَيْتِ لَمْ يَدْخُلْ حَتَّى أَمَرَ بِهَا فَمُحِيَتْ. وَرَأَى إِبْرَاهِيم وإسمعيل بِأَيْدِيهِمَا الْأَزْلَامُ فَقَالَ: " قَاتَلَهُمُ اللَّهُ! وَاللَّهُ إِنِ استقسما (4) بالازلام قطّ! ". لم يُخرجهُ مُسلم. __________ (1) الْآيَات: 130 - 140 من سُورَة الْبَقَرَة. (2) الْآيَات: 161 - 163 من سُورَة الانعام. (3) الْآيَات: 120 - 123 من سُورَة النَّحْل. (4) ا: لن يسنقسما (*)
(1/237)
وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْبُخَارِيِّ: " قَاتَلَهُمُ اللَّهُ! لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ شَيْخَنَا لَمْ يَسْتَقْسِمْ بِهَا قَطُّ ". وَقَوله: " أُمَّةً " أَيْ قُدْوَةً إِمَامًا مُهْتَدِيًا دَاعِيًا إِلَى الْخَيْر، يقْتَدى بِهِ فِيهِ " قَانِتًا لله " أَيْ خَاشِعًا لَهُ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ، " حَنِيفًا " أَيْ مُخْلِصًا عَلَى بَصِيرَةٍ، " وَلَمْ يَك من الْمُشْركين * شاكرا لانعمه " أَيْ قَائِمًا بِشُكْرِ رَبِّهِ بِجَمِيعِ جَوَارِحِهِ مِنْ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَأَعْمَالِهِ، " اجْتَبَاهُ " أَيِ اخْتَارَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ وَاصْطَفَاهُ لِرِسَالَتِهِ. وَاتَّخَذَهُ خَلِيلًا، وَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ خَيْرَيِ (1) الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: " وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ، وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيم خَلِيلًا (2) " يُرَغِّبُ تَعَالَى فِي اتِّبَاعِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ; لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَقَدْ قَامَ بِجَمِيعِ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ، وَمَدَحَهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فَقَالَ: " وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى " [وَلِهَذَا] اتَّخَذَهُ اللَّهُ (3) خَلِيلًا، وَالْخُلَّةُ هِيَ غَايَةُ الْمَحَبَّةِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي * وَبِذَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا وَهَكَذَا نَالَ هَذِه الْمرتبَة (4) خَاتم الانبياء وَسيد الْمُرْسلين (5) مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ جُنْدَبٍ الْبَجَلِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " أَيهَا النَّاس، إِن الله اتَّخَذَنِي خَلِيلًا ". __________ (1) ا: خير. (2) سُورَة النِّسَاء 125 (3) ا: واتخذه الله خَلِيلًا. (4) ط: الْمنزلَة. (5) ط: الرُّسُل (*)
(1/238)
وَقَالَ أَيْضًا فِي آخِرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا: " أَيُّهَا النَّاسُ لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ " أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ. وَثَبَتَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: إِن معَاذًا لما قدمن الْيَمَنَ صَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ فَقَرَأَ: " وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيم خَلِيلًا " فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: لَقَدْ قَرَّتْ عَيْنُ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ! وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيم بن مُحَمَّد بن مُسلم، حَدثنَا إِسْمَعِيل ابْن أَحْمَدَ بْنِ أُسَيْدٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الْجُوزْجَانِيُّ بِمَكَّةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا زَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَلَسَ نَاس مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَهُ، فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ سَمِعَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ، فَسَمِعَ حَدِيثَهُمْ وَإِذَا بَعْضُهُمْ يَقُول: عجبا (1) أَنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ مِنْ خَلْقِهِ خَلِيلًا! فَإِبْرَاهِيمُ خَلِيلُهُ، وَقَالَ آخَرُ: مَاذَا بِأَعْجَبَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا. وَقَالَ آخَرُ: فَعِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ. وَقَالَ آخَرُ: آدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ. فَخَرَجَ عَلَيْهِمُ فَسَلَّمَ وَقَالَ: " قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكُمْ وَعَجَبَكُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمُوسَى كَلِيمُهُ وَهُوَ كَذَلِكَ وَعِيسَى رُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَآدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ وَهُوَ كَذَلِك، أَلا وإنى __________ (1) ط: عجب. (*)
(1/239)
حَبِيبُ اللَّهِ وَلَا فَخْرَ، أَلَا وَإِنِّي أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حَلْقَةَ [بَابِ (1) ] الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُهُ اللَّهُ فَيُدْخِلُنِيهَا وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَا أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ ". هَذَا حَدِيثٌ غَرِيب من هَذَا الْوَجْه، زوله شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ [وَاللَّهُ أَعْلَمُ (1) ] . وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَتُنْكِرُونَ أَنْ تَكُونَ الْخُلَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ؟ وَالْكَلَامُ لِمُوسَى؟ وَالرُّؤْيَةُ لِمُحَمَّدٍ؟ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ الْسُّلَمِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَمَّا اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا أَلْقَى فِي قَلْبِهِ الْوَجَلَ حَتَّى إِنْ كَانَ خَفَقَانُ قَلْبِهِ لَيُسْمَعُ مِنْ بُعْدٍ كَمَا يُسْمَعُ خَفَقَانُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُضِيفُ النَّاسَ، فَخَرَجَ يَوْمًا يَلْتَمِسُ إِنْسَانًا يُضِيفُهُ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يُضِيفُهُ، فَرَجَعَ إِلَى دَارِهِ فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلًا قَائِمًا، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا أَدْخَلَكَ دَارِي بِغَيْرِ إِذْنِي؟ قَالَ: دَخَلْتُهَا بِإِذْنِ رَبِّهَا. قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مَلَكُ الْمَوْتِ، أَرْسَلَنِي رَبِّي إِلَى عَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ، أُبَشِّرُهُ بِأَنَّ اللَّهَ قَدِ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا. قَالَ: مَنْ هُوَ؟ فَوَاللَّهِ إِنْ أَخْبَرْتَنِي بِهِ ثُمَّ كَانَ بِأَقْصَى الْبِلَادِ لَآتِيَنَّهُ، ثُمَّ لَا أَبْرَحُ لَهُ جَارًا، حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَنَا الْمَوْتُ. قَالَ: ذَلِكَ الْعَبْدُ أَنْتَ. قَالَ: أَنَا! قَالَ: نَعَمْ. __________ (1) سَقَطت من ا. (*)
(1/240)
قَالَ: فَبِمَ اتَّخَذَنِي [رَبِّي (1) ] خَلِيلًا؟ قَالَ: بِأَنَّكَ (2) تُعْطِي النَّاسَ وَلَا تَسْأَلُهُمْ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالْمَدْحِ لَهُ، فَقِيلَ: إِنَّهُ مَذْكُورٌ فِي خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ مَوْضِعًا، مِنْهَا خَمْسَةَ عَشَرَ فِي الْبَقَرَةِ وَحْدَهَا. وَهُوَ أَحَدُ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَى أَسْمَائِهِمْ تَخْصِيصًا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي آيَتَيِ الْأَحْزَابِ وَالشُّورَى، وَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم ميثاقا غليظا "، وَقَوْلُهُ: " شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تتفرقوا فِيهِ " الْآيَةَ. ثُمَّ هُوَ أَشْرَفُ أُولِي الْعَزْمِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ الَّذِي وَجَدَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ بِالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الَّذِي يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ. وَمَا وَقَعَ فِي حَدِيث شريك ابْن أَبى نمير عَنْ أَنَسٍ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ ; مِنْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ وَمُوسَى فِي السَّابِعَةِ، فَمِمَّا انْتُقِدَ عَلَى شَرِيكٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَالصَّحِيحُ الاول. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرو، حَدثنَا __________ (1) سَقَطت من ا (2) ا: إِنَّك (م 16 - قصَص الانبياء 1) (*)
(1/241)
أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: " إِن الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم، يُوسُف بن يَعْقُوب ابْن إِسْحَق بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. ثُمَّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ فِيهِ: " وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَهَذَا هُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: " أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ [يَوْمَ الْقِيَامَةِ (1) ] وَلَا فَخْرَ ". ثُمَّ ذَكَرَ اسْتِشْفَاعَ النَّاسِ بِآدَم، ثمَّ بِنوح، ثمَّ إِبْرَاهِيم، ثُمَّ مُوسَى، ثُمَّ عِيسَى، فَكُلُّهُمْ يَحِيدُ عَنْهَا حَتَّى يَأْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ: " أَنَا لَهَا، أَنا لَهَا " الحَدِيث بِتَمَامِهِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يحيى بن سعيد، حَدثنَا عبيد اللَّهِ، حَدَّثَنِي سَعِيدٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أكْرم النَّاس؟ قَالَ: " [أكْرمهم (1) ] أَتْقَاهُم " فَقَالُوا (2) لَيْسَ عَن هَذَا نَسْأَلك. قَالَ: فَأكْرم النَّاس يُوسُفُ (3) نَبِيُّ اللَّهِ، ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ ". قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: " فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تسألونني؟ [قَالُوا نعم (4) قَالَ] فخيارهم (5) فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ (5) فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا ". __________ (1) سَقَطت من ا (2) ا: قَالُوا (3) ا: قَالَ: فيوسف نبى الله (4) سَقَطت من ا (5) ط: فخياركم (*)
(1/242)
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ - وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ - الْعُمَرِيُّ بِهِ. ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ أَبُو أُسَامَةَ وَمُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: وَقَدْ أَسْنَدَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ حَدِيثِهِمَا، وَحَدِيثِ عَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ. وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [وَلَمْ يَذْكُرُوا أَبَاهُ (1) ] وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم " إِن الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم يُوسُف بن يَعْقُوب ابْن إِسْحَق بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيم يُوسُف بن يَعْقُوب بن إِسْحَق بْنِ إِبْرَاهِيمَ ". تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَن أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ. * * * فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَان، __________ (1) سَقَطت من ط (*)
(1/243)
حَدَّثَنِي مُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَن النى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " يحْشر النَّاس عُرَاةً غُرْلًا، فَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " ثُمَّ قَرَأَ: " كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نعيده " فَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَشُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ، كِلَاهُمَا عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ النُّعْمَانِ النَّخَعِيِّ الْكُوفِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهِ. وَهَذِهِ الْفَضِيلَةُ الْمُعَيَّنَةُ لَا تَقْتَضِي الْأَفْضَلِيَّةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا قَابَلَهَا مِمَّا ثَبَتَ لِصَاحِبِ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ، الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ الَّذِي قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَأَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ - هُوَ الثَّوْرِيُّ - عَنْ مُخْتَارِ [بْنِ مُخْتَار (1) ] بن فلفل، عَن أنس ابْن مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ. فَقَالَ: " ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ " فَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ، وَعَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، أَرْبَعَتُهُمْ عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَهَذَا (2) مِنْ بَاب الهضم والتواضح مَعَ وَالِدِهِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا قَالَ: " لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ". وَقَالَ: " لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَأَجِدُ مُوسَى بَاطِشًا بِقَائِمَةِ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ؟ ". وَهَذَا كُلُّهُ لَا يُنَافِي مَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ من أَنه __________ (1) من اوالمعروف فِيهِ: مُخْتَار بن فلفل. أنظر ميزَان الِاعْتِدَال 4 / 80. (2) ا: فَهَذَا. (*)
(1/244)
سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبى من كَعْبٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: " وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ ". وَلَمَّا كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلَ الرُّسُلِ وَأُولِي الْعَزْمِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، أُمِرَ الْمُصَلِّي أَنْ يَقُولَ فِي تَشَهُّدِهِ، مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ وَغَيْرِهِ، قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا السَّلَامُ عَلَيْكَ قَدْ عَرَفْنَاهُ فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: " قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ [وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ] (1) كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيم [وعَلى] (1) آل إِبْرَاهِيم، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [وَعَلَى] (1) آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حميد مجيد. * * * وَقَالَ الله تَعَالَى: " وَإِبْرَاهِيم الذى وفى ". قَالُوا: وَفَّى جَمِيعَ مَا أُمِرَ بِهِ وَقَامَ بِجَمِيعِ خِصَالِ الْإِيمَانِ وَشُعَبِهِ، وَكَانَ لَا يَشْغَلُهُ مُرَاعَاةُ الْأَمْرِ الْجَلِيلِ عَنِ الْقِيَامِ بِمَصْلَحَةِ الْأَمْرِ الْقَلِيلِ، وَلَا يُنْسِيهِ الْقِيَامُ بِأَعْبَاءِ الْمَصَالِحِ الْكِبَارِ عَنِ الصِّغَارِ. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَن ابْن طَاوُوس عَن أَبِيه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [فِي قَوْلِهِ تَعَالَى] (1) : " وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ " قَالَ: ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالطَّهَارَةِ: خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ، وَخمْس فِي الْجَسَد. فِي الرَّأْسِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَالْمَضْمَضَةُ، وَالسِّوَاكُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ، وَفرق (2) الرَّأْس. وفى الْجَسَد: تقليم __________ (1) سقط من ا. (2) ا: وَفرق فِي الرَّأْس. (*)
(1/245)
الْأَظْفَارِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَالْخِتَانُ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَغَسْلُ أَثَرِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ بِالْمَاءِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ: وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَمُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَأَبِي صَالِحٍ وَأَبِي الْجَلْدِ نَحْوُ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ ". وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَأَهْلِ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ وَكِيعٍ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ الْعَبْدَرِيِّ الْمَكِّيِّ الْحَجَبِيِّ، عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ العترى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ (1) ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ، يَعْنِي الِاسْتِنْجَاءَ ". وَسَيَأْتِي [فِي ذِكْرِ (3) ] مِقْدَارِ عُمُرِهِ وَالْكَلَام عَلَى الْخِتَانِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ لَا يَشْغَلُهُ الْقِيَامُ بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخُشُوعُ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ، عَنْ مُرَاعَاةِ مَصْلَحَةِ بَدَنِهِ، وَإِعْطَاءِ كُلِّ عُضْوٍ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْإِصْلَاحِ وَالتَّحْسِينِ، وَإِزَالَةِ مَا يَشِينُ ; مِنْ زِيَادَةِ شَعْرٍ أَوْ ظُفُرٍ أَوْ وُجُودِ قَلَحٍ (2) أَوْ وَسَخٍ. فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِ مِنَ الْمَدْحِ الْعَظِيمِ: " وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى " __________ (1) جمع برجمة، وهى مفاصل الاصابع من ظهر الْكَفّ. (2) القلح: صفرَة الاسنان (3) لَيست فِي ا. (*)
(1/246)
ذِكْرُ قَصْرِهِ فِي الْجَنَّةِ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَطَّانُ الْوَاسِطِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [" إِنَّ فِي الْجَنَّةِ قَصْرًا - أَحْسَبُهُ قَالَ من لؤلؤة - لَيْسَ فِيهِ فَصم وَلَا وهى أَعَدَّهُ اللَّهُ لِخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نُزُلًا " قَالَ الْبَزَّارُ: وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَمِيلٍ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) ] بِنَحْوِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْلَمُ من رَوَاهُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فَأَسْنَدَهُ إِلَّا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَغَيْرُهُمَا يَرْوِيهِ مَوْقُوفًا. قُلْتُ: لَوْلَا هَذِهِ الْعِلَّةُ لَكَانَ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ. وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ. ذِكْرُ صِفَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ وَحُجَيْنٌ قَالَا: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " عُرِضَ عَلَيَّ الْأَنْبِيَاءُ فَإِذَا مُوسَى ضَرْبٌ مِنَ الرِّجَالِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِذا أقرب من رَأَيْت شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا دِحْيَةُ ". تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَبِهَذَا اللَّفْظِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدثنَا إِسْرَائِيل، عَن عُثْمَان __________ (1) سَقَطت من ا (*)
(1/247)
- يَعْنِي ابْنَ الْمُغِيرَةِ - عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَأَيْتُ عِيسَى بن مَرْيَمَ وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ ; فَأَمَّا عِيسَى فَأَحْمَرُ جَعْدٌ عَرِيضُ الصَّدْرِ، وَأَمَّا مُوسَى فَآدَمُ جَسِيمٌ ". قَالُوا لَهُ: فَإِبْرَاهِيمُ؟ قَالَ: " انْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ " يَعْنِي نَفسه. وَقَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا بنان بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا النَّضْرُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٌ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَذَكَرُوا لَهُ الدَّجَّال [وَأَنه مَكْتُوب (1) ] بَين عَيْنَيْهِ كَافِرٌ أَوْ " ك ف ر "، فَقَالَ: لَمْ أسمعهُ، وَلكنه قَالَ: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَانْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ، وَأَمَّا مُوسَى فَجَعْدٌ آدَمُ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ (2) كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ انحدر فِي الْوَادي " وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَمُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ بِهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْحَجِّ وَفِي اللِّبَاسِ، وَمُسْلِمٌ، جَمِيعًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الله ابْن عون بِهِ. __________ (1) سقط من ا. (2) الحلبة: حَبل من لِيف. (*)
(1/248)
ذكر وَفَاة إِبْرَاهِيم الْخَلِيل وَمَا قِيلَ فِي عُمُرِهِ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ: أَنَّ مَوْلِدَهُ كَانَ فِي زَمَنِ النُّمْرُودِ بْنِ كَنْعَانَ، وَهُوَ - فِيمَا قِيلَ - الضَّحَّاكُ الْمَلِكُ الْمَشْهُورُ، الَّذِي يُقَالُ إِنَّهُ مَلَكَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَ فِي غَايَةِ الْغَشَمِ وَالظُّلْمِ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مِنْ بَنِي رَاسِبٍ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ كَانَ إِذْ ذَاكَ مَلِكَ الدُّنْيَا، وَذَكَرُوا أَنَّهُ طَلَعَ نَجْمٌ أَخْفَى ضَوْءَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، فَهَالَ ذَلِكَ أَهْلَ ذَلِك الزَّمَان وفزع النُّمْرُودُ، فَجَمَعَ الْكَهَنَةَ وَالْمُنَجِّمِينَ وَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: يُولَدُ مَوْلُودٌ فِي رَعِيَّتِكَ يَكُونُ زَوَالُ مُلْكِكَ عَلَى يَدَيْهِ. فَأَمَرَ عِنْدَ ذَلِكَ بِمَنْعِ الرِّجَالِ عَنِ النِّسَاءِ، وَأَنْ يُقْتَلَ الْمَوْلُودُونَ مِنْ ذَلِكَ الْحِينِ، فَكَانَ مَوْلِدُ إِبْرَاهِيمَ [الْخَلِيلِ (1) ] فِي ذَلِك الْحِين، فحماه الله عزوجل وَصَانَهُ مِنْ كَيْدِ الْفُجَّارِ، وَشَبَّ شَبَابًا بَاهِرًا وَأَنْبَتَهُ اللَّهُ نَبَاتًا حَسَنًا، حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا تَقَدَّمَ. وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِالسُّوسِ، وَقِيلَ بِبَابِلَ، وَقِيلَ بِالسَّوَادِ مِنْ نَاحِيَةِ كُوثَى (2) . وَتَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ وُلِدَ بِبَرْزَةَ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ. فَلَمَّا أَهْلَكَ اللَّهُ نُمْرُودَ عَلَى يَدَيْهِ هَاجر إِلَى حَرَّانَ، ثُمَّ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ، وَأَقَامَ بِبِلَادِ إِيلِيَا كَمَا ذَكَرْنَا. وَوُلِدَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَق. وَمَاتَتْ سَارَةُ قَبْلَهُ بِقَرْيَةِ حَبْرُونَ الَّتِي فِي أَرْضِ كَنْعَانَ، وَلَهَا مِنَ الْعُمُرِ مِائَةٌ وَسَبْعٌ وَعِشْرُونَ سنة فِيمَا ذكر أهل الْكتاب. فخزن عَلَيْهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَرَثَاهَا رَحِمَهَا اللَّهُ، وَاشْترى __________ (1) سَقَطت من ا. (2) مَوضِع بسواد الْعرَاق. (*)
(1/249)
مِنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي حِيثَ يُقَالُ لَهُ عفرون بن صَخْر مغارة بأربعمائة مِثْقَال، وَدَفَنَ فِيهَا سَارَةَ هُنَالِكَ. قَالُوا: ثُمَّ خَطَبَ إِبْرَاهِيم على ابْنه إِسْحَق فَزَوجهُ " رفقا " بنت بتوئيل ابْن ناحور بن تارح، وَبَعَثَ مَوْلَاهُ فَحَمَلَهَا مِنْ بِلَادِهَا وَمَعَهَا مُرْضِعَتُهَا وَجَوَارِيهَا عَلَى الْإِبِلِ. قَالُوا: ثُمَّ تَزَوَّجَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " قَنْطُورَا " فَوَلَدَتْ لَهُ: زَمَرَانَ، وَيَقِشَانَ، وَمَادَانَ، وَمَدْيَنَ، وَشَيَاقَ، وَشُوحَ. وَذَكَرُوا مَا وَلَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَوْلَادِ قَنْطُورَا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، عَنْ أَخْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي صِفَةِ مجئ مَلَكِ الْمَوْتِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَارًا كَثِيرَةً اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا. وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ مَاتَ فَجْأَةً، وَكَذَا دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ. وَالَّذِي ذَكَرَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ. قَالُوا: ثُمَّ مَرِضَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَاتَ عَنْ مِائَةٍ وَخمْس وَسبعين، وَقيل وَتِسْعين سنة، وَدفن فِي المغارة الْمَذْكُورَة الَّتِى كَانَت بحبرون الحيثى، عِنْدَ امْرَأَتِهِ سَارَةَ الَّتِي فِي مَزْرَعَةِ عَفْرُونَ الحيثى، وَتَوَلَّى دَفنه إِسْمَعِيل وَإِسْحَاقُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَقَدْ ورد مَا يدل [على (1) ] أَنَّهُ عَاشَ مِائَتَيْ سَنَةٍ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الكلبى. فَقَالَ أَبُو حَاتِم ابْن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: أَنْبَأَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الجندي بِمَكَّة، حَدثنَا على بن زِيَاد اللخمى (2) ، حَدَّثَنَا أَبُو قُرَّةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ __________ (1) سَقَطت من ا (2) ا: الحجبى. (*)
(1/250)
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ [عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) ] أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ بِالْقَدُومِ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِينَ سَنَةً ". وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ من طَرِيق عِكْرِمَة بن إِبْرَاهِيم وجعفر ابْن عَوْنٍ الْعَمْرِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا. ثُمَّ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: ذِكْرُ الْخَبَرِ الْمُدْحِضِ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ رَفَعَ هَذَا الْخَبَرِ وَهْمٌ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن الْجُنَيْد (2) ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " اختتن إِبْرَاهِيم حِين بلغ [عشْرين (3) و] مائَة سَنَةً، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَاخْتَتَنَ بِقَدُومٍ ". وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، أَنَّهُ قَالَ: الْقَدُومُ اسْمُ الْقَرْيَةِ. قُلْتُ: الَّذِي فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ اخْتَتَنَ وَقَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ ثَمَانُونَ سَنَةً. وَفِي رِوَايَةٍ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَلَيْسَ فِيهِمَا تَعَرُّضٌ لِمَا عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الحانى الوَاسِطِيّ زَاد فِي تَفْسِيرِ وَكِيعٍ عَنْهُ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنَ الزِّيَادَاتِ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَن سعيد ابْن الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ أول من تسرول، وَأول من __________ (1) سَقَطت من ا. (2) ا: ابْن نيست. (3) من ا (*)
(1/251)
فَرَقَ، وَأَوَّلَ مَنِ اسْتَحَدَّ وَأَوَّلَ مَنِ اخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ، وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَأَوَّلَ مَنْ قَرَى الضَّيْفَ، وَأَوَّلَ مَنْ شَابَ. هَكَذَا رَوَاهُ مَوْقُوفًا. وَهُوَ أَشْبَهُ بِالْمَرْفُوعِ (1) خِلَافًا لِابْنِ حِبَّانَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ أَوَّلَ مَنْ أضَاف الضَّيْف، وَأَوَّلَ النَّاسِ قَصَّ شَارِبَهُ، وَأَوَّلَ النَّاسِ رَأَى الشيب. فَقَالَ: يَا رب ماهذا؟ فَقَالَ اللَّهُ: " وَقَارٌ " فَقَالَ يَا رَبِّ زِدْنِي وَقَارًا. وَزَادَ غَيْرُهُمَا: وَأَوَّلَ مَنْ قَصَّ شَارِبَهُ، وَأَوَّلَ مَنِ اسْتَحَدَّ، وَأَوَّلَ مَنْ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ. فقبره وقبر وَلَده إِسْحَق وَقَبْرُ وَلَدِ وَلَدِهِ يَعْقُوبَ فِي الْمَرْبَعَةِ الَّتِي بَنَاهَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِبَلَدِ حَبْرُونَ، وَهُوَ الْبَلَدُ الْمَعْرُوفُ بِالْخَلِيلِ الْيَوْمَ. وَهَذَا مُتَلَقًّى بِالتَّوَاتُرِ أُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ مِنْ زَمَنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِلَى زَمَانِنَا هَذَا، أَنَّ قَبْرَهُ بِالْمَرْبَعَةِ تَحْقِيقًا. فَأَمَّا تَعْيِينُهُ مِنْهَا فَلَيْسَ فِيهِ خَبَرٌ صَحِيحٌ عَنْ مَعْصُومٍ. فَيَنْبَغِي أَنْ تُرَاعَى تِلْكَ الْمَحَلَّةُ وَأَنْ تُحْتَرَمَ احْتِرَامَ مِثْلِهَا، وَأَنْ تُبَجَّلَ وَأَنْ تُجَلَّ أَنْ يدلى فِي أَرْجَائِهَا، خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ قَبْرُ الْخَلِيلِ أَو أحد أَوْلَادِهِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ تَحْتَهَا. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدِهِ إِلَى وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: وُجِدَ عِنْدَ قَبْرِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَى حَجَرٍ كِتَابَة خلقَة: __________ (1) ا: من الْمَرْفُوع (*)
(1/252)
أَلْهَى جَهُولًا أَمَلُهْ * يَمُوتُ مَنْ جَا أَجَلُهْ وَمَنْ دَنَا مِنْ حَتْفِهْ * لَمْ تُغْنِ عَنْهُ حيله وَكَيف يبْقى آخرا * مَنْ مَاتَ عَنْهُ أَوَّلُهْ وَالْمَرْءُ لَا يَصْحَبُهْ * فِي الْقَبْرِ إِلَّا عَمَلُهْ ذِكْرُ أَوْلَادِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيل أَوَّلُ مَنْ وُلِدَ لَهُ: إِسْمَاعِيلُ مِنْ هَاجَرَ الْقِبْطِيَّةِ الْمِصْرِيَّةِ، ثُمَّ وُلِدَ لَهُ إِسْحَاقُ مِنْ سَارَةَ بِنْتِ عَمِّ الْخَلِيلِ. ثُمَّ تَزَوَّجَ بَعْدَهَا " قَنْطُورَا " بِنْتَ يَقْطُنَ الْكَنْعَانِيَّةَ فَوَلَدَتْ لَهُ سِتَّةً: مَدْيَنَ، وَزَمَرَانَ، وَسَرَجَ وَيَقِشَانَ، وَنَشَقَ، وَلَمْ يُسَمَّ السَّادِسُ. ثُمَّ تَزَوَّجَ بَعْدَهَا " حَجُونَ " بِنْتَ أَمِينَ، فَوَلَدَتْ لَهُ خَمْسَةً: كَيْسَانَ، وَسُورَجَ، وَأَمِيمَ، وَلُوطَانَ وَنَافَسَ. هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ فِي كِتَابه: " التَّعْرِيف والاعلام ".
(1/253)
وَذَلِكَ أَن لوطا بن هَارَانَ بْنِ تَارَحَ - وَهُوَ آزَرُ كَمَا تَقَدَّمَ - وَلُوطٌ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ فَإِبْرَاهِيمُ وَهَارَانُ وَنَاحُورُ إِخْوَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا، وَيُقَالُ إِنَّ هَارَانَ هَذَا هُوَ الَّذِي بَنَى حَرَّانَ. وَهَذَا ضَعِيفٌ لمُخَالفَته مَا بأيدى أهل الْكتاب وَالله تَعَالَى أَعْلَمُ. وَكَانَ لُوطٌ قَدْ نَزَحَ عَنْ مَحَلَّةِ عَمِّهِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِأَمْرِهِ لَهُ وَإِذْنِهِ، فَنَزَلَ بِمَدِينَةِ سَدُومَ مِنْ أَرْضِ غَوْرِ زُغَرَ (1) ، وَكَانَ أم تِلْكَ الْمحلة وَلها أَرض ومعتملات وَقُرًى مُضَافَةٌ إِلَيْهَا. وَلَهَا أَهْلٌ مِنْ أَفْجَرِ النَّاس وأكفرهم وأسوأهم طَوِيَّةً، وَأَرْدَئِهِمْ سَرِيرَةً وَسِيرَةً، يَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَيَأْتُونَ فِي نَادِيهِمُ الْمُنْكَرَ، وَلَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ. ابْتَدَعُوا فَاحِشَةً لَمْ يَسْبِقْهُمْ إِلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَهِيَ إِتْيَانُ الذُّكْرَانِ مِنَ الْعَالَمَيْنِ، وَتَرْكُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ النِّسْوَانِ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ. فَدَعَاهُمْ لُوطٌ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَنَهَاهُمْ عَنْ تَعَاطِي هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْفَوَاحِشِ الْمُنْكَرَاتِ، وَالْأَفَاعِيلِ الْمُسْتَقْبَحَاتِ فَتَمَادَوْا عَلَى ضَلَالِهِمْ وطغيانهم، واستمرزوا على فُجُورهمْ وكفرانهم، فأحل الله بهم __________ (1) ا: أَرض عز عز: محرفة. (*)
(1/254)
من الْبَأْس الذى لايرد مَا لَمْ يَكُنْ فِي خَلَدِهِمْ وَحُسْبَانِهِمْ، وَجَعَلَهُمْ مَثُلَةً فِي الْعَالَمِينَ، وَعِبْرَةً يُتَّعِظُ بِهَا الْأَلِبَّاءُ مِنَ الْعَالِمِينَ. وَلِهَذَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّتَهُمْ فِي غير مَا مَوضِع فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ. فَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: " وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ * وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُجْرمين (1) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ: " وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا، قَالَ سَلَامٌ، فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بإسحق وَمن وَرَاء إِسْحَق يَعْقُوب * قَالَت يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيخا إِن هَذَا لشئ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ؟ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ * فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ * يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ، وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ * وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لوطا سئ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا، وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عصيب * وجاءه قومه يهرعون __________ (1) الْآيَات: 80 - 84. (*)
(1/255)
إِلَيْهِ، وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ، قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي، أَلَيْسَ مِنْكُم رجل رشيد؟ * قَالُوا لقد علمت مالنا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ، فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ، إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ؟ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ من الظَّالِمين بِبَعِيد (1) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: " وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضيف إِبْرَاهِيم * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ؟ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ * قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَته قَدرنَا إِنَّهَا لمن الغابرين * فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قوم منكرون * قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ، وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ * وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ * وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي __________ (1) الْآيَات: 69 - 83. (*)
(1/256)
فَلَا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ * قَالُوا أَو لم نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ * قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِك لآيَة للْمُؤْمِنين (1) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: " كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ ربكُم من أزواجكم بن أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ * قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يالوط لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ * رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (2) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ: " وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فسَاء مطر الْمُنْذرين (3) ". __________ (1) الْآيَات: 50 - 77 (2) الْآيَات: 160 - 170 (3) الْآيَات: 54 - 85. (17 - قصَص الانبياء 1) (*)
(1/257)
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: " وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ، وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ، فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِن فيخها لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا، لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ، وَلَمَّا أَن جَاءَت رسلنَا لوطا سئ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يعْقلُونَ " (1) . وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة الصافات: " وَإِن لوطا لمن المرسليمن * إِذْ نجيناه وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دمرنا الآخرين * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (2) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي الذَّارِيَاتِ بَعْدَ قِصَّةِ [ضَيْفِ (3) ] إِبْرَاهِيمَ وَبِشَارَتِهِمْ إِيَّاهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ: " قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مسومة عِنْد رَبك للمسرفين * __________ (1) الْآيَات: 28 - 35 (2) الْآيَات: 133 - 138 (3) سَقَطت من ا (*)
(1/258)
فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَة للَّذين يخَافُونَ الْعَذَاب الاليم " (1) . وَقَالَ فِي سُورَة الْقَمَر (2) : " كذبت قوم لوط بِالنذرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ * وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ * وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ * فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَل من مدكر " (3) . وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْقِصَصِ فِي أَمَاكِنِهَا من هَذِه السُّور فِي التَّفْسِيرِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ لُوطًا وَقَوْمَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنَ الْقُرْآنِ ; تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا مَعَ نوح وَعَاد وَثَمُود. * * * وَالْمَقْصُود الْآن إِيرَاد ماكان مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَا أَحَلَّ اللَّهُ بِهِمْ، مَجْمُوعًا مِنَ الْآيَاتِ وَالْآثَارِ. وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ. وَذَلِكَ أَنَّ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَنَهَاهُمْ عَنْ تَعَاطِي مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ الْفَوَاحِشِ، لم يَسْتَجِيبُوا لَهُ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ [حَتَّى] (4) وَلَا رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَتْرُكُوا مَا عَنْهُ نُهُوا. بَلِ اسْتَمَرُّوا عَلَى حَالِهِمْ، وَلِمَ يَرْعَوُوا (5) عَنْ غَيِّهِمْ وَضَلَالِهِمْ، وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ رَسُولِهِمْ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَانَيْهِمْ. وَمَا كَانَ حَاصِلُ جَوَابِهِمْ عَنْ خطابهم - إِذْ كَانُوا لَا يعْقلُونَ __________ (1) الْآيَات: 31 - 37 (2) ا: سُورَة الانشقاق (3) الْآيَات: 33 - 40 (4) لَيست فِي ا. (5) ط: وَلم يرتدعوا. (*)
(1/259)
إِلَّا أَنْ قَالُوا: " أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قريتكم إِنَّهُم أنَاس يتطهرون " فَجَعَلُوا غَايَةَ الْمَدْحِ ذَمًّا يَقْتَضِي الْإِخْرَاجَ! وَمَا حَمَلَهُمْ عَلَى مَقَالَتِهِمْ هَذِهِ إِلَّا الْعِنَادُ وَاللَّجَاجُ. فَطَهَّرَهُ اللَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ، وَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا أَحْسَنَ إِخْرَاجٍ، وَتَرَكَهُمْ فِي مَحَلَّتِهِمْ خَالِدِينَ، لَكِنْ بَعْدَ مَا صَيَّرَهَا عَلَيْهِمْ بَحْرَةً مُنْتِنَةً ذَاتَ أَمْوَاجٍ، لَكِنَّهَا عَلَيْهِمْ فِي الْحَقِيقَةِ نَارٌ تَأَجَّجُ، وَحَرٌّ يَتَوَهَّجُ، وَمَاؤُهَا مِلْحٌ أُجَاجٌ. وَمَا كَانَ هَذَا جوابهم إِلَّا لما نَهَاهُم عَن " [ارْتِكَاب (1) ] الطَّامَّةِ الْعُظْمَى، وَالْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى، الَّتِي لَمْ يَسْبِقْهُمْ إِلَيْهَا أحد من [الْعَالمين (2) ] أَهْلِ الدُّنْيَا. وَلِهَذَا صَارُوا مَثُلَةً فِيهَا وَعِبْرَةً لِمَنْ عَلَيْهَا. وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ، وَيَخُونُونَ الرَّفِيقَ، وَيَأْتُونَ فِي نَادِيهِمْ، وَهُوَ مُجْتَمَعُهُمْ وَمَحَلُّ حَدِيثِهِمْ وَسَمَرِهِمُ، الْمُنْكَرَ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِ. حَتَّى قِيلَ إِنَّهُمْ كَانُوا يتضارطون فِي مجَالِسهمْ، وَلَا يستحون من مجالسيهم، وَرُبَّمَا وَقَعَ (3) مِنْهُمُ الْفَعْلَةُ الْعَظِيمَةُ فِي الْمَحَافِلِ وَلَا يَسْتَنْكِفُونَ، وَلَا يَرْعَوُونَ لِوَعْظِ وَاعِظٍ وَلَا نصيحة من عَاقل. وَكَانُوا فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ كَالْأَنْعَامِ بَلْ أَضَلُّ سَبِيلًا، وَلَمْ يُقْلِعُوا عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْحَاضِرِ، وَلَا نَدِمُوا عَلَى مَا سَلَفَ مِنَ الْمَاضِي، وَلَا رَامُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَحْوِيلًا، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أَخَذًا وَبِيلًا. وَقَالُوا لَهُ فِيمَا قَالُوا: " ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ " فَطَلَبُوا مِنْهُ وُقُوعَ مَا حَذَّرَهُمْ عَنْهُ مِنَ الْعَذَاب الاليم، وحلول الْبَأْس الْعَظِيم. __________ (1) من ا. (2) من ا. (3) ا: وَقد أوقع. (*)
(1/260)
فَعِنْدَ ذَلِكَ دَعَا عَلَيْهِمْ نَبِيُّهُمُ الْكَرِيمُ، فَسَأَلَ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِلَهِ الْمُرْسَلِينَ أَنْ يَنْصُرَهُ عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ. فَغَارَ اللَّهُ لِغَيْرَتِهِ، وَغَضِبَ لِغَضْبَتِهِ ; وَاسْتَجَابَ لِدَعْوَتِهِ، وَأَجَابَهُ إِلَى طِلْبَتِهِ، وَبَعَثَ رُسُلَهُ الْكِرَامَ، وَمَلَائِكَتَهُ الْعِظَامَ، فَمَرُّوا عَلَى الْخَلِيلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَشَّرُوهُ بِالْغُلَامِ الْعَلِيمِ، وَأَخْبَرُوهُ بِمَا جَاءُوا لَهُ مِنَ الْأَمْرِ الْجَسِيمِ وَالْخَطْبِ الْعَمِيمِ: " قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طين * مسومة عِنْد رَبك للمسرفين " وَقَالَ: " وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا، قَالُوا نحون أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا. لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَت من الغابرين ". وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ". وَذَلِكَ أَنه كَانَ يَرْجُو أَن [يجيبوا أَو (1) ] ينيبوا ويسلموا ويفلعوا وَيَرْجِعُوا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ * يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ، وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَاب غير مَرْدُود " أَيْ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَتَكَلَّمْ فِي غَيْرِهِ ; فَإِنَّهُ قَدْ حُتِمَ أَمْرُهُمْ، وَوَجَبَ عَذَابُهُمْ وَتَدْمِيرُهُمْ وهلاكهم، " إِنَّه قد جَاءَ أَمر رَبك " أَي قد أَمر بِهِ من لايرد أَمْرُهُ، وَلَا يُرَدُّ بِأْسُهُ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. " وَإِنَّهُم آتيهم عَذَاب غير مَرْدُود ". وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بن إِسْحَق: أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام جعل يَقُول: أنهلكون قَرْيَة يها ثَلَاثمِائَة مُؤمن [قَالُوا لَا] (2) __________ (1) من ا. (2) سَقَطت من ا. (*)
(1/261)
قَالَ: فَمِائَتَا مُؤْمِنٍ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَأَرْبَعُونَ مُؤْمِنًا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَأَرْبَعَةَ عَشَرَ مُؤْمِنًا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: إِلَى أَنْ قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ فِيهَا مُؤْمِنٌ وَاحِدٌ؟ قَالُوا لَا. " قَالَ: إِنَّ فِيهَا لُوطًا، قَالُوا نَحن أعلم بِمن فِيهَا. " الْآيَةَ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ أَتُهْلِكُهُمْ وَفِيهِمْ خَمْسُونَ رَجُلًا صَالِحًا؟ فَقَالَ اللَّهُ: " لَا أُهْلِكُهُمْ وَفِيهِمْ خَمْسُونَ صَالِحًا ". ثُمَّ تَنَازَلَ إِلَى عَشَرَةٍ فَقَالَ اللَّهُ: " لَا أُهْلِكُهُمْ وَفِيهِمْ عَشَرَةٌ صَالِحُونَ ". قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَمَّا جَاءَت رسلنَا لوطا سئ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عصيب ". قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا فَصَلَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ عِنْدِ إِبْرَاهِيمَ - وَهُمْ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ - أَقْبَلُوا حَتَّى أَتَوا أَرض سدوم، فِي صور شُبَّانٍ حِسَانٍ، اخْتِبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْمِ لُوطٍ وَإِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. فَاسْتَضَافُوا لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَخَشِيَ إِنْ لم يضفهم أَن يضيفهم غَيره، وحسبهم بشرا من النَّاس، و " سئ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا، وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عصيب " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَق: شَدِيدٌ بَلَاؤُهُ. وَذَلِكَ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ مُدَافَعَتِهِ اللَّيْلَة عَنْهُم، كَمَا كَانَ يصنع بهم فِي غَيرهم، وَكَانُوا قد اشتطروا عَلَيْهِ أَنْ لَا يُضِيفَ أَحَدًا، وَلَكِنْ رَأَى مَنْ لَا يُمْكِنُ الْمَحِيدُ عَنْهُ. وَذَكَرَ قَتَادَةُ: أَنَّهُمْ وَرَدُوا عَلَيْهِ وَهُوَ فِي أَرْضٍ لَهُ يعْمل فِيهَا، فتضيفوا فاستحيا مِنْهُمْ وَانْطَلَقَ أَمَامَهُمْ، وَجَعَلَ يُعَرِّضُ لَهُمْ فِي الْكَلَامِ لَعَلَّهُمْ يَنْصَرِفُونَ
(1/262)
عَنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَيَنْزِلُونَ فِي غَيْرِهَا، فَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: [وَاللَّهِ (1) ] يَا هَؤُلَاءِ مَا أَعْلَمُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَهْلَ بَلَدٍ أَخْبَثَ مِنْ هَؤُلَاءِ. ثُمَّ مَشَى قَلِيلًا، ثُمَّ أَعَادَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَتَّى كَرَّرَهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، قَالَ: وَكَانُوا قَدْ أُمِرُوا أَنْ لَا يُهْلِكُوهُمْ حَتَّى شهد عَلَيْهِمْ نَبِيُّهُمْ بِذَلِكَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: خَرَجَتِ الْمَلَائِكَةُ من عِنْد إِبْرَاهِيم نَحْو قَرْيَة لُوطٍ، فَأَتَوْهَا نِصْفَ النَّهَارِ، فَلَمَّا بَلَغُوا نَهْرَ سَدُومَ لَقُوا ابْنَةَ لُوطٍ تَسْتَقِي مِنَ الْمَاءِ لاهلها، وَكَانَت لَهُ ابنتان: اسْم الْكُبْرَى " ريثا " وَالصُّغْرَى " زغرتا ". فَقَالُوا لَهَا: يَا جَارِيَةُ، هَلْ مِنْ مَنْزِلٍ؟ فَقَالَت لَهُم: [نعم (2) ] مَكَانكُمْ لَا تدْخلُوا حَتَّى آتيكم. شَفَقَة (3) عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهَا، فَأَتَتْ أَبَاهَا فَقَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ! أَرَادَكَ فِتْيَانٌ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ، مَا رَأَيْتُ وُجُوهَ قَوْمٍ قَطُّ هِيَ أَحْسَنَ مِنْهُمْ، لَا يَأْخُذُهُمْ قَوْمُكَ فَيَفْضَحُوهُمْ. وَقَدْ كَانَ قَوْمُهُ (4) نهوه أَن يضيف رجلا [فَقَالُوا: خل عَنَّا فلنضف الرِّجَال (2) ] . فَجَاءَ بِهِمْ فَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ إِلَّا أَهْلُ الْبَيْتِ، فَخَرَجَتِ امْرَأَتُهُ فَأَخْبَرَتْ قَوْمَهَا ; فَقَالَتْ: إِنَّ فِي بَيْتِ لُوطٍ رِجَالًا مَا رَأَيْتُ مِثْلَ وُجُوهِهِمْ قَطُّ. فَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: " وَمن قبل كَانُوا يعْملُونَ السَّيِّئَات " أَيْ هَذَا مَعَ مَا سَلَفَ لَهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ الْعَظِيمَةِ الْكَبِيرَةِ الْكَثِيرَةِ، " قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بناتى هن أطهر لكم " يُرْشِدُهُمْ إِلَى غِشْيَانِ نِسَائِهِمْ وَهُنَّ بَنَاتُهُ شَرْعًا ; لَان النَّبِي __________ (1) من ا. (2) لَيست فِي ا (3) ط: فرقت عَلَيْهِم من قَومهَا (4) ا: وَقد كَانُوا نهوه. (*)
(1/263)
لِلْأُمَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: " النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أنفسهم وأزواجه أمهاتهم (1) " وفى قَول بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ: وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: " أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ، بَلْ أَنْتُمْ قوم عادون (2) ". وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَهُوَ الصَّوَابُ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ خَطَأٌ مَأْخُوذٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ تَصَحَّفَ عَلَيْهِم كَمَا أخطأوا فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا اثْنَيْنِ، وَإِنَّهُمْ تَعَشَّوْا عِنْدَهُ. وَقَدْ خَبَّطَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ تَخْبِيطًا عَظِيمًا. وَقَوْلُهُ: " فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي، أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رشيد؟ " نهى لَهُم عَن تعاطى مَالا يَلِيقُ مِنَ الْفَاحِشَةِ، وَشَهَادَةٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ مُسْكَةٌ وَلَا فِيهِ خَيْرٌ، بل الْجَمِيع سُفَهَاء، فجرة أقوياء، كفرة أغبياء (3) . وَكَانَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا أَرَادَ الْمَلَائِكَةُ أَن يسمعوه مِنْهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْهُ. فَقَالَ قَوْمُهُ، عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ الْحَمِيدِ الْمَجِيدِ، مُجِيبِينَ لِنَبِيِّهِمْ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ السَّدِيدِ: " لقد علمت مالنا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيد ". يَقُولُونَ - عَلَيْهِم لعائن الله - لقد علمت يالوط إِنَّهُ لَا أَرَبَ لَنَا فِي نِسَائِنَا، وَإِنَّكَ لتعلم مرادنا وغرضنا. __________ (1) من الْآيَة: 5 من سُورَة الاحزاب (2) الْآيَتَانِ: 165، 166 من سُورَة الشُّعَرَاء. (3) ا: كفرة أعتياء (*)
(1/264)
وَاجَهُوا بِهَذَا الْكَلَامِ الْقَبِيحِ رَسُولَهُمُ الْكَرِيمَ، وَلَمْ يَخَافُوا سَطْوَةَ الْعَظِيمِ، ذِي الْعَذَابِ الْأَلِيمِ. وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّة أَو آوى إِلَى ركن شَدِيد ". وَدَّ أَنْ لَوْ كَانَ لَهُ بِهِمْ قُوَّةٌ، أَوله مَنْعَة وشعيرة يَنْصُرُونَهُ عَلَيْهِمْ، لِيُحِلَّ بِهِمْ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى هَذَا الْخِطَابِ. وَقَدْ قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا، لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ ". وَرَوَاهُ أَبُو الزِّنَادِ (1) عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " رَحْمَةُ اللَّهِ على لوط، إِن كَانَ يَأْوِي (2) إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ - يَعْنِي اللَّهَ عزوجل - فَمَا بَعَثَ اللَّهُ بَعْدَهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا فِي ثَرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ ". وَقَالَ تَعَالَى: " وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ * قَالُوا أَو لم نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ * قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُم فاعلين ". فَأَمَرَهُمْ بِقُرْبَانِ نِسَائِهِمْ، وَحَذَّرَهُمُ الِاسْتِمْرَارَ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ وسيآتهم. هَذَا وَهُمْ فِي ذَلِكَ لَا يَنْتَهُونَ وَلَا يَرْعَوُونَ، بَلْ كُلَّمَا نَهَاهُمْ (3) يُبَالِغُونَ فِي تَحْصِيلِ هَؤُلَاءِ الضيفان ويحرصون، وَلم يعلمُوا ماحم (4) بِهِ الْقدر مماهم إِلَيْهِ صائرون وصبيحة ليلتهم إِلَيْهِ منقلبون. __________ (1) ا: وَرَوَاهُ ابْن أَبى الدُّنْيَا (3) ا: لقد كَانَ يأوى (4) ا: كلما لَهُم (5) ا: مَا حم بهم (*)
(1/265)
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُقْسِمًا بِحَيَاةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سكرتهم يعمهون " وَقَالَ تَعَالَى: " وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ * وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ " (1) . ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ جَعَلَ يُمَانِعُ قَوْمَهُ الدُّخُولَ وَيُدَافِعُهُمْ وَالْبَابُ مُغْلَقٌ، وَهُمْ يَرُومُونَ فَتْحَهُ وَوُلُوجَهُ، وَهُوَ يَعِظهُمْ وينهاهم من وَرَاء الْبَاب، وكل مَالهم فِي إلحاج وإنحاح (2) ، فَلَمَّا ضَاقَ الْأَمْرُ وَعَسُرَ الْحَالُ قَالَ [مَا قَالَ (3) ] " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوى إِلَى ركن شَدِيد "، لَأَحْلَلْتُ بِكُمُ النَّكَالَ. قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: " يَا لُوطُ إِنَّا رسل رَبك لن يصلوا إِلَيْك " وَذَكَرُوا أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ عَلَيْهِمْ، فَضَرَبَ وُجُوهَهُمْ خَفْقَةً بِطَرَفِ جَنَاحِهِ فَطُمِسَتْ أَعْيُنُهُمْ، حَتَّى قِيلَ إِنَّهَا غَارَتْ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا مَحَلٌّ وَلَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ، فَرَجَعُوا يتحسسون مَعَ الْحِيطَانِ، وَيَتَوَعَّدُونَ رَسُولَ الرَّحْمَنِ، وَيَقُولُونَ إِذَا كَانَ الْغَدُ كَانَ لَنَا وَلَهُ شَأنٌ!. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَاب مُسْتَقر " (4) . فَذَلِك أَن الْمَلَائِكَة تقدّمت إِلَى لوط، عَلَيْهِ السَّلَامُ، آمِرِينَ لَهُ بِأَنْ يَسْرِيَ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ. " وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ "، يعْنى عِنْد __________ (1) ا: وَرَوَاهُ ابْن أَبى الدُّنْيَا (2) كَذَا فِي ا. ولعلها إتباع كَقَوْلِهِم شحيح نحيح وفى ط: فِي الجاج والعاج وَهُوَ تَحْرِيف. (3) من ا. (*)
(1/266)
سَمَاعِ صَوْتِ الْعَذَابِ إِذَا حَلَّ بِقَوْمِهِ. وَأَمَرُوهُ أَنْ يَكُونَ سَيْرُهُ فِي آخِرِهِمْ كَالسَّاقَةِ لَهُمْ. وَقَوله: " إِلَّا امْرَأَتك " عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَثْنًى من قَوْله: " فَأسر بأهلك " كَأَنَّهُ يَقُول إِلَّا امْرَأَتك فَلَا تشربها، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِ: " وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُم أحد إِلَّا امْرَأَتَكَ " أَيْ فَإِنَّهَا سَتَلْتَفِتُ فَيُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ. وَيُقَوِّي هَذَا الِاحْتِمَالَ قِرَاءَةُ الرَّفْعِ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَاسْمُ امْرَأَةِ لُوطٍ " وَالِهَةُ "، وَاسْمُ امْرَأَةِ نُوحٍ " وَالِغَةُ " وَقَالُوا لَهُ مُبَشِّرِينَ بِهَلَاكِ هَؤُلَاءِ الْبُغَاةِ الْعُتَاةِ، الْمَلْعُونِينَ النُّظَرَاءِ وَالْأَشْبَاهِ الَّذِينَ جَعَلَهُمُ اللَّهُ سَلَفًا لِكُلِّ خَائِنٍ مُرِيبٍ: " إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْح أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب ". فَلَمَّا خَرَجَ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَهْلِهِ، وَهُمُ ابنتاه، لم يَتْبَعْهُ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَيُقَالُ إِنَّ امْرَأَتَهُ خَرَجَتْ مَعَهُ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَمَّا خَلَصُوا مِنْ بِلَادهمْ وطلعت الشَّمْس فَكَانَت عِنْدَ شُرُوقِهَا، جَاءَهُمْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا لايرد، وَمِنَ الْبَأْسِ الشَّدِيدِ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُصَدَّ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَمَرُوهُ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى رَأْسِ الْجَبَلِ الَّذِي هُنَاكَ فَاسْتَبْعَدَهُ، وَسَأَلَ مِنْهُمْ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى قَرْيَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْهُمْ، فَقَالُوا اذْهَبْ فَإِنَّا نَنْتَظِرُكَ حَتَّى تَصِيرَ إِلَيْهَا وَتَسْتَقِرَّ فِيهَا، ثُمَّ نُحِلَّ بِهِمُ الْعَذَاب. فَذكرُوا أَنه ذهب إِلَى قَرْيَة " صوعر " (1) الَّتِي يَقُولُ النَّاسُ: غَوْرُ زُغَرَ، فَلَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْس نزل بهم الْعَذَاب. __________ (1) ا: صغر. (*)
(1/267)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمين بِبَعِيد ". قَالُوا: اقْتَلَعَهُنَّ جِبْرِيلُ بِطَرَفِ جَنَاحِهِ مِنْ قَرَارِهِنَّ - وَكُنَّ سَبْعَ مُدُنٍ - بِمَنْ فِيهِنَّ مِنَ الْأُمَمِ، فَقَالُوا إِنَّهُم كَانُوا أَرْبَعمِائَة نسمَة، وَقيل أَرْبَعَة آلَاف (1) نَسَمَةٍ، وَمَا مَعَهُمْ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَمَا يَتْبَعُ تِلْكَ الْمُدُنَ مِنَ الْأَرَاضِي وَالْأَمَاكِنِ وَالْمُعْتَمَلَاتِ. فَرَفَعَ الْجَمِيعَ حَتَّى بَلَغَ بِهِنَّ عَنَانَ السَّمَاءِ، حَتَّى سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ أَصْوَاتَ دِيَكَتِهِمْ وَنُبَاحَ كِلَابِهِمْ، ثُمَّ قَلَبَهَا عَلَيْهِمْ، فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ: فَكَانَ أَوَّلَ مَا سَقَطَ مِنْهَا شُرُفَاتُهَا. " وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم حِجَارَة من سجيل ". [وَالسِّجِّيلُ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ (2) ] وَهُوَ الشَّدِيدُ الصُّلْبُ الْقَوِيُّ، " مَنْضُودٍ " أَيْ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي نُزُولِهَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ. " مُسَوَّمَةً " أَيْ مُعَلَّمَةً مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ حَجْرٍ اسْمُ صَاحِبِهِ الَّذِي يَهْبِطُ عَلَيْهِ فَيَدْمَغُهُ، كَمَا قَالَ: " مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ للمسرفين " وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مطر الْمُنْذرين "، وَقَالَ تَعَالَى: " وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى فبأى آلَاء رَبك تتمارى " يَعْنِي (3) قَلَبَهَا فَأَهْوَى بِهَا مُنَكَّسَةً عَالِيَهَا سَافِلَهَا، وَغَشَّاهَا بِمَطَرٍ مِنْ حِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، مُتَتَابِعَةٍ، مسومة مرقومة عَلَى كُلِّ حَجَرٍ اسْمُ صَاحِبِهِ الَّذِي سَقَطَ عَلَيْهِ ; مِنَ الْحَاضِرِينَ مِنْهُمْ فِي بَلَدِهِمْ، وَالْغَائِبِينَ عَنْهَا مِنَ الْمُسَافِرِينَ وَالنَّازِحِينَ وَالشَّاذِّينَ مِنْهَا. وَيُقَالُ إِنَّ امْرَأَةَ لُوطٍ مَكَثَتْ مَعَ قَوْمِهَا، وَيُقَالُ إِنَّهَا خرجت مَعَ زَوجهَا __________ (1) ا: أَرْبَعَة آلَاف ألف نسمَة (2) سَقَطت من ا. (3) ا: أَي قَلبهَا. (*)
(1/268)
وَبِنْتَيْهَا، وَلَكِنَّهَا لَمَّا سَمِعَتِ الصَّيْحَةَ وَسُقُوطَ الْبَلْدَةِ، الْتفت إِلَى قَوْمِهَا وَخَالَفَتْ أَمْرَ رَبِّهَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَقَالَتْ: وَاقَوْمَاهْ (1) ! فَسَقَطَ عَلَيْهَا حَجْرٌ فَدَمَغَهَا وَأَلْحَقَهَا بِقَوْمِهَا ; إِذْ كَانَتْ عَلَى دِينِهِمْ، وَكَانَتْ عَيْنًا لَهُمْ عَلَى مَنْ يَكُونُ عِنْدَ لُوطٍ مِنَ الضِّيفَانِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: " ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا للَّذين كفرُوا امْرَأَة نوح وَامْرَأَة لوط، كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ، فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يغنيا عَنْهُمَا من الله مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الداخلين " (2) أَي خانتاهما فِي الدّين فَلم يتبعاهما فِيهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمَا كَانَتَا عَلَى فَاحِشَةٍ - حاشا وكلا وَلما فَإِن الله لَا يقدر على نبى قطّ (3) أَنْ تَبْغِيَ امْرَأَتُهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: مَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ. وَمَنْ قَالَ خِلَافَ هَذَا قد أَخْطَأَ خَطَأً كَبِيرًا (4) . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ، لَمَّا أَنْزَلَ بَرَاءَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَة نبت الصِّدِّيقِ، زَوْجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا فَعَاتَبَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّبَ وَزَجَرَ، وَوَعَظَ وحذر قَالَ فِيمَا قَالَ: " إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا، سُبْحَانَكَ هَذَا بهتان عَظِيم " (5) أَي سُبْحَانَكَ أَن تكون زَوْجَة نبيك بِهَذِهِ المثابة. __________ (1) ايا قومه. (2) سُورَة التَّحْرِيم. (3) ا: على نبيه أَن تبغى امْرَأَته. (4) ا: كثيرا. (5) سُورَة النُّور (*)
(1/269)
وَقَوله هُنَا: " وَمَا هِيَ من الظَّالِمين بِبَعِيد " أَيْ وَمَا هَذِهِ الْعُقُوبَةُ بِبَعِيدَةٍ مِمَّنْ أَشْبَهَهُمْ فِي فِعْلِهِمْ. وَلِهَذَا ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ اللَّائِطَ يُرْجَمُ، سَوَاءٌ كَانَ مُحصنا أَولا. وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَطَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ ". وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَن اللائط يلقى من شَاهِق [جبل] (1) وَيُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ كَمَا فُعِلَ بِقَوْمِ لُوطٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: " وَمَا هِيَ الظَّالِمين بِبَعِيد " وَجَعَلَ اللَّهُ مَكَانَ تِلْكَ الْبِلَادِ بَحْرَةً مُنْتِنَةً لَا يُنْتَفَعُ بِمَائِهَا، وَلَا بِمَا حَوْلَهَا مِنَ الْأَرَاضِي الْمُتَاخِمَةِ لِفِنَائِهَا، لِرَدَاءَتِهَا وَدَنَاءَتِهَا فَصَارَتْ عِبْرَةً وَمَثُلَةً وَعِظَةً وَآيَةً عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ، وَعِزَّتِهِ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ خَالَفَ أَمْرَهُ، وَكَذَّبَ رُسُلَهُ، وَاتَّبَعْ هَوَاهُ وَعَصَى مَوْلَاهُ، وَدَلِيلًا عَلَى رَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِنْجَائِهِ إِيَّاهُمْ مِنَ الْمُهْلِكَاتِ، وَإِخْرَاجِهِ إِيَّاهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهو الْعَزِيز الْحَكِيم ". وَقَالَ الله تَعَالَى: " فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِك لآيَة للْمُؤْمِنين " أَي من نظر بِعَين __________ (1) لَيست فِي ا. (*)
(1/270)
الْفِرَاسَةِ وَالتَّوَسُّمِ فِيهِمْ (1) ، كَيْفَ غَيَّرَ اللَّهُ تِلْكَ الْبِلَادَ وَأَهْلَهَا؟ وَكَيْفَ جَعَلَهَا بَعْدَ مَا كَانَتْ آهِلَةً عَامِرَةً هَالِكَةً غَامِرَةً؟ كَمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مَرْفُوعًا: " اتَّقَوْا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ " ثُمَّ قَرَأَ: " إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات للمتوسمين ". وَقَوله: " وَإِنَّهَا لبسبيل مُقيم " أَيْ لَبِطَرِيقٍ مَهْيَعٍ مَسْلُوكٍ إِلَى الْآنَ. كَمَا قَالَ: " وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تعقلون ". وَقَالَ تَعَالَى: " وَلَقَد تركناها آيَة بَيِّنَة لقوم يعْقلُونَ " وَقَالَ تَعَالَى: " فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤمنِينَ * فَمَا وجدنَا فيخها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً للَّذين يخَافُونَ الْعَذَاب الاليم ". أَيْ تَرَكْنَاهَا عِبْرَةً وَعِظَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ، وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ، وَخَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَانْزَجَرَ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ وَتَرَكَ مَعَاصِيَهُ، وَخَافَ أَنْ يُشَابِهَ قَوْمَ لُوطٍ. وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَمِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ; كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا قَوْمَ لُوطٍ بِعَيْنِهِمْ * فَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيد فالعاقل اللبيب الفاهم الْخَائِف من ربه، يمتثل مَا أمره الله بِهِ عزوجل، وَيقبل مَا أرشده إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِتْيَانِ مَا خُلِقَ لَهُ مِنَ الزَّوْجَاتِ الْحَلَالِ، وَالْجَوَارِي مِنَ السَّرَارِيِّ ذَوَاتِ الْجَمَالِ، وَإِيَّاهُ أَنْ يَتَّبِعَ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ، فَيَحِقَّ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ، وَيَدْخُلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَمَا هِيَ من الظَّالِمين بِبَعِيد ". __________ (1) ط: فهم. (*)
(1/271)
مَدين قصَّة قوم شُعَيْب عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بَعْدَ قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ: " وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مالكم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ، وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا، وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا، فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا، وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا، قَالَ: أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا، وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا، وَسِعَ رَبُّنَا كل شئ عِلْمًا، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا، رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ * وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا، الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هم الخاسرين *.
(1/272)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالات ربى وَنَصَحْت لكم فَكيف آمى على قوم كَافِرين " (1) . وَقَالَ فِي سُورَةِ هُودٍ بَعْدَ قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ أَيْضًا: " وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مالكم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إنى أَرَاكُم بِخَير، وإنى أخاد عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ، وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بحفيظ * قَالُوا يَا شُعَيْب أصلوتك تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا؟ أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ؟ إِنَّكَ لانت الْحَلِيم الرشيد * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا، وَمَا أُرِيد أَن أخالفكم إِلَى مَا أَنَّهَا كم عَنْهُ، إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ، وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ، وَمَا قَوْمُ لوط مِنْك بِبَعِيد * وَاسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ توبو إِلَيْهِ إِن ربى رَحِيم ودود * قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ، وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا، وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ * قَالَ يَا قوم أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظهريا؟ إِن ربى بِمَا تعلمُونَ مُحِيط * وَيَا قوم __________ (1) الْآيَات: 85 - 93 (18 - قصَص الانبياء 1) (*)
(1/273)
اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ، سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ، وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ * وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لمدين كَمَا بَعدت ثَمُود " (1) . وَقَالَ فِي الْحجر بعد قصَّة قوم لوط أَيْضا: وَإِن كَانَ أَصْحَاب لايكة لظالمين * فانتقمنا مِنْهُم وإنهما لبإمام مُبين " (2) . وَقَالَ تَعَالَى فِي الشُّعَرَاءِ بَعْدَ قِصَّتِهِمْ: " كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ * قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ، فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم " (3) . * * * كَانَ أَهْلُ مَدْيَنَ قَوْمًا عَرَبًا يَسْكُنُونَ مَدِينَتَهُمْ " مَدين " الَّتِى هِيَ قريبَة (4) مِنْ أَرْضِ مُعَانٍ مِنْ أَطْرَافِ الشَّامِ، مِمَّا يَلِي نَاحيَة الْحجاز قَرِيبا __________ (1) الْآيَات: 84 - 95 (2) الْآيَتَانِ: 78 - 79 (3) الْآيَات: 176 - 191 (4) ط: قَرْيَة. محرفة. (*)
(1/274)
مِنْ بُحَيْرَةِ قَوْمِ لُوطٍ، وَكَانُوا بَعْدَهُمْ بِمُدَّةٍ قريبَة. ومدين قَبيلَة عرفت بهم (1) وَهُمْ مِنْ بَنِي مَدْيَنَ بْنِ مديَانَ بْنِ إِبْرَاهِيم الْخَلِيل. وَشُعَيْبٌ نَبِيُّهُمْ هُوَ ابْنُ ميكيلَ (2) بْنِ يَشْجَنَ، ذكره ابْن إِسْحَق. قَالَ: وَيُقَال لَهُ بالسُّرْيَانيَّة يترون، وفى هَذَا نظر. وَيُقَال شُعَيْب ابْن يشخر بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ وَيُقَالُ شُعَيْبُ بْنُ نويب بن عيفا (3) ابْن مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَيُقَالُ شُعَيْبُ بْنُ صِيفُورَ بن عيفا بن ثَابت ابْن مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَيُقَالُ جَدَّتُهُ، وَيُقَالُ أُمُّهُ، بِنْتُ لُوطٍ. وَكَانَ مِمَّنْ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ وَهَاجَرَ مَعَهُ وَدَخَلَ مَعَهُ دِمَشْقَ. وَعَنْ وَهْبِ ابْن مُنَبّه أَنه قَالَ: شُعَيْب وملغم مِمَّنْ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ يَوْمَ أُحْرِقَ بِالنَّارِ، وَهَاجَرَا مَعَهُ إِلَى الشَّامِ، فَزَوَّجَهُمَا بِنْتَيْ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَفِي هَذَا كُلِّهِ نظر. وَالله تَعَالَى أعلم. وَذكر أَبُو عمر ابْن عَبْدِ الْبِرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ فِي تَرْجَمَةِ سَلَمَةَ بن سعد (4) الْعَنزي: أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ وَانْتَسَبَ إِلَى عَنَزَةَ، فَقَالَ: " نِعْمَ الحى عنزة ; مبغى (5) عَلَيْهِم منصورون رَهْط (6) شُعَيْب وأختان (7) مُوسَى ". __________ (1) ط: مَدِينَة عرفت بهَا الْقَبِيلَة. (2) ط: مَكِيل. (3) ا: غبها. (4) ا: سعيد. (5) ا: يبغى. (6) ط: قوم شُعَيْب (7) الاختان. جمع ختن وَهُوَ الصهر. وفى المطبوعة. وأحبار. محرفة. (*)
(1/275)
فَلَوْ صَحَّ هَذَا لَدَلَّ عَلَى أَنَّ شُعَيْبًا صِهْرُ (1) مُوسَى وَأَنَّهُ مِنْ قَبِيلَةٍ مِنَ الْعَرَبِ الْعَارِبَةِ يُقَالُ لَهُمْ عَنَزَةُ، لَا أَنَّهُمْ مِنْ عَنَزَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعْدِّ بْنِ عَدْنَانَ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ بَعْدَهُ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الَّذِي فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ فِي ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ قَالَ: " أَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ: هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَنَبِيُّكَ يَا أَبَا ذَرٍّ " وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يُسَمِّي شُعَيْبًا خَطِيبَ الْأَنْبِيَاءِ. يعْنى لفصاحته وعلزو عِبَارَتِهِ، وَبَلَاغَتِهِ فِي دِعَايَةِ قَوْمِهِ إِلَى الْإِيمَانِ برسالته. وَقد روى ابْن إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ جُوَيْبِرٍ وَمُقَاتِلٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ شُعَيْبًا قَالَ: " ذَاكَ خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ ". وَكَانَ أَهْلُ مَدْيَنَ كُفَّارًا يَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَيُخِيفُونَ الْمَارَّةَ، وَيَعْبُدُونَ الْأَيْكَةَ، وَهِيَ شَجَرَةٌ مِنَ الْأَيْكِ حَوْلَهَا غَيْضَةٌ ملتفة بهَا. وَكَانُوا من أسوإ النَّاسِ مُعَامَلَةً ; يَبْخَسُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، وَيُطَفِّفُونَ فِيهِمَا، يَأْخُذُونَ بِالزَّائِدِ ويدفعون بالناقس. فَبَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَنَهَاهُمْ عَنْ تَعَاطِي هَذِهِ الْأَفَاعِيلِ الْقَبِيحَةِ مِنْ بَخْسِ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ وَإِخَافَتِهِمْ لَهُمْ فِي سُبُلِهِمْ وَطُرُقَاتِهِمْ، فَآمَنَ بِهِ بَعْضُهُمْ وَكَفَرَ أَكْثَرُهُمْ، حَتَّى أَحَلَّ اللَّهُ بهم الْبَأْس الشَّديد. وَهُوَ الولى الحميد. __________ (1) ط: من مُوسَى. ومحرفة (*)
(1/276)
كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا، قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ ربكُم " أَي دلَالَة وَحجَّة وَاضِحَة، وبرهان قَاطع عَن صِدْقِ مَا جِئْتُكُمْ بِهِ وَأَنَّهُ أَرْسَلَنِي، وَهُوَ مَا أَجْرَى اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِى لم ينْقل إِلَيْنَا تفصيلها (1) ، وَإِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ قَدْ دَلَّ عَلَيْهَا إِجْمَالا. " فأوفوا الْكَيْل وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تفسدوا فِي الارض بعد إصلاحها ". أَمَرَهُمْ بِالْعَدْلِ وَنَهَاهُمْ عَنِ الظُّلْمِ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَقَالَ: " ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُم مُؤمنين * وَلَا تقعدوا بِكُل صِرَاط " [أَيْ طَرِيقٍ (2) ] " تُوعِدُونَ " أَيْ تَتَوَعَّدُونَ النَّاسَ بِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ مِنْ مُكُوسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَتُخِيفُونَ السُّبُلَ. قَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ: " وَلَا تقعدوا بِكُل صِرَاط توعدون " أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْعُشُورَ مِنْ أَمْوَالِ الْمَارَّةِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا قَوْمًا طُغَاةً بُغَاةً يَجْلِسُونَ عَلَى الطَّرِيقِ، يَبْخَسُونَ النَّاسَ، يَعْنِي يَعْشُرُونَهُمْ. وَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ سَنَّ ذَلِكَ. " وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وتبغونها عوجا " نَهَاهُم (3) عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ الْحِسِّيَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالْمَعْنَوِيَّةِ الدِّينِيَّةِ. __________ (1) ط: لم تنقل إِلَيْنَا تَفْصِيلًا. (2) لَيست فِي ا (3) ا: فنهاهم. (*)
(1/277)
" وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ، وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة المفسدين " ذَكَّرَهُمْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي تَكْثِيرِهِمْ بَعْدَ الْقِلَّةِ، وَحَذَّرَهُمْ نِقْمَةَ اللَّهِ بِهِمْ إِنْ (1) خَالَفُوا مَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ. كَمَا قَالَ لَهُمْ فِي الْقِصَّةِ الْأُخْرَى: " وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ، وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم مُحِيط " أَيْ لَا تَرْكَبُوا مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَتَسْتَمِرُّوا فِيهِ (2) فَيَمْحَقَ اللَّهُ [بَرَكَةَ] (3) مَا فِي أَيْدِيكُمْ (4) ، وَيُفْقِرَكُمْ وَيُذْهِبَ مَا بِهِ يُغْنِيكُمْ. وَهَذَا مُضَافٌ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ جُمِعَ لَهُ هَذَا وَهَذَا، فَقَدْ بَاءَ بِالصَّفْقَةِ الْخَاسِرَةِ! * * * فَنَهَاهُمْ أَوَّلًا عَن تعاطى مَالا يَلِيقُ مِنَ التَّطْفِيفِ، وَحَذَّرَهُمْ سَلْبَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ، وَعَذَابَهُ الْأَلِيمَ فِي أُخْرَاهُمْ، وَعَنَّفَهُمْ أَشَدَّ تَعْنِيفٍ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ آمِرًا بعد مَا كَانَ عَن شده زَاجِرًا: " وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُم مُؤمنين، وَمَا أَنا عَلَيْكُم بحفيظ ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: " بَقِيَّةُ اللَّهِ خير لكم " أَيْ رِزْقُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَخْذِ أَمْوَال النَّاس. وَقَالَ ابْن جرير: مَا يفضل (5) لَكُمْ مِنَ الرِّبْحِ بَعْدَ وَفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ، خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالتَّطْفِيفِ. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. __________ (1) ا: وَإِن. (2) ا: بِهِ. (3) لَيست فِي ا (4) ا: مَا بِأَيْدِيكُمْ. (5) ط: مَا فضل. (*)
(1/278)
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ وَحَكَاهُ حَسَنٌ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: " قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَو أعْجبك كَثْرَة الْخَبيث " يَعْنِي أَنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْحَلَالِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْكَثِيرِ مِنَ الْحَرَامِ، فَإِنَّ الْحَلَالَ مُبَارَكٌ وَإِنْ قَلَّ، وَالْحَرَامَ مَمْحُوقٌ وَإِنْ كَثُرَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: " يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ " وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِنَّ مَصِيرَهُ إِلَى قُلٍّ ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. أَيْ إِلَى قِلَّةٍ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنَّ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا " وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الرِّبْحَ الْحَلَالَ مُبَارَكٌ فِيهِ وَإِنَّ قَلَّ، وَالْحَرَامَ لَا يُجْدِي وَإِنْ كَثُرَ. وَلِهَذَا قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ شُعَيْبٌ: " بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ". وَقَوله: " وَمَا أَنا عَلَيْكُم بحفيظ " أَيِ افْعَلُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَرَجَاءَ ثَوَابِهِ، لَا لِأَرَاكُمْ أَنَا وَغَيْرِي. " قَالُوا يَا شُعَيْب أصواتك تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ، إِنَّكَ لانت الْحَلِيم الرشيد ". يَقُولُونَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّنَقُّصِ وَالتَّهَكُّمِ: أصلاتك هَذِهِ الَّتِي تُصَلِّيهَا، هِيَ الْآمِرَةُ لَكَ بِأَنْ تَحْجُرَ عَلَيْنَا فَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِلَهَكَ؟ وَنَتْرُكَ (1) مَا يعبد آبَاؤُنَا الاقدمون __________ (1) ا: وَنذر. (*)
(1/279)
وأسلافنا الاولون؟ أَو أَن (1) لَا نَتَعَامَلُ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَرْتَضِيهِ أَنْتَ، وَنَتْرُكُ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تَأْبَاهَا وَإِنْ كُنَّا نَحن نرضاها؟ " أَنَّك لانت الْحَلِيم الرشيد " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُ جَرِيرٍ: يَقُولُونَ ذَلِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ. " قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا، وَمَا أُرِيد أَن أخالفكم إِلَى مَا أَنَّهَا كم عَنْهُ، إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ، وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أنيب ". هَذَا تَلَطُّفٌ (2) مَعَهُمْ فِي الْعِبَارَةِ، وَدَعْوَةٌ لَهُمْ إِلَى الْحَقِّ بِأَبْيَنِ إِشَارَةٍ. يَقُولُ لَهُمْ: " أَرَأَيْتُمْ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ " إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي " أَيْ عَلَى أَمْرٍ بَيِّنٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ، " وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حسنا " يَعْنِي النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ، يَعْنِي وَعَمَّى عَلَيْكُمْ مَعْرِفَتَهَا، فأى حِيلَة لى فِيكُم (3) ؟ وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ سَوَاءً. وَقَوْلُهُ: " وَمَا أُرِيدُ أَن أخالفكم إِلَى مَا أَنَّهَا كم عَنهُ " أَيْ لَسْتُ (4) آمُرُكُمْ بِالْأَمْرِ إِلَّا وَأَنَا أَوَّلُ فَاعل لَهُ، وَإِذا نَهَيْتُكُمْ عَن الشئ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَتْرُكُهُ. وَهَذِهِ هِيَ الصِّفَةُ الْمَحْمُودَةُ الْعَظِيمَةُ، وَضِدُّهَا هِيَ الْمَرْدُودَةُ الذَّمِيمَةُ، كَمَا تَلَبَّسَ بِهَا عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي آخِرِ زمانهم، وخطباؤهم الجاهلون. __________ (1) ا: أَو أَنا. (2) ا: تلاطف. (3) ا: بكم. (4) ا: لَيْسَ. (*)
(1/280)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنفسكُم وَأَنْتُم تتلون الْكتاب أَفلا تعقلون؟ " وَذَكَرْنَا (1) عِنْدَهَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " يُؤْتَى بِالرجلِ فَيلقى فِي النَّار فتندلق أفتاب بَطْنِهِ - أَيْ تَخْرُجُ أَمْعَاؤُهُ مِنْ بَطْنِهِ - فَيَدُورُ [بهَا] (2) كَمَا يَدُور الْحمار برحاه، فيجتمع أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ مَالَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى. كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ ". وَهَذِهِ صِفَةُ (3) مُخَالِفِي الْأَنْبِيَاءِ من الْفجار [و (2) ] الاشقياء. فَأَمَّا السَّادَةُ مِنَ النُّجَبَاءِ، وَالْأَلِبَّاءِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ، فَحَالُهُمْ كَمَا قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ شُعَيْبٌ: " وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ، إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الاصلاح مَا اسْتَطَعْت " أَيْ مَا أُرِيدُ فِي جَمِيعِ أَمْرِي إِلَّا الْإِصْلَاحَ فِي الْفِعَالِ وَالْمَقَالِ بِجُهْدِي وَطَاقَتِي. " وَمَا توفيقي " أَيْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِي " إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب " أَيْ عَلَيْهِ أَتَوَكَّلُ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ، وَإِلَيْهِ مَرْجِعِي وَمَصِيرِي فِي كُلِّ أَمْرِي. وَهَذَا مَقَامُ تَرْغِيبٍ. * * * ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى نَوْعٍ مِنَ التَّرْهِيبِ فَقَالَ: " وَيَا قوم لَا يجر مِنْكُم شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ، وَمَا قوم لوط مِنْكُم بِبَعِيد ". __________ (1) ط: وَذكر عِنْدهمَا. (2) لَيست فِي ا. (3) ا: فَهَذِهِ. (*)
(1/281)
أَي لَا يحملنكم بخالفتى وَبُغْضُكُمْ مَا جِئْتُكُمْ بِهِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ عَلَى ضَلَالِكُمْ وَجَهْلِكُمْ وَمُخَالَفَتِكُمْ، فَيُحِلَّ اللَّهُ بِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، نَظِيرَ مَا أَحَلَّهُ بِنُظَرَائِكُمْ وَأَشْبَاهِكُمْ، مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ هُودٍ وَقَوْمِ صَالِحٍ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الْمُخَالِفِينَ. وَقَوْلُهُ: " وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُم بِبَعِيد "، قِيلَ مَعْنَاهُ: فِي الزَّمَانِ، أَيْ مَا بِالْعَهْدِ مِنْ قِدَمٍ، مِمَّا قَدْ بَلَغَكُمْ مَا أَحَلَّ بهم على كفرهم وعتوهم. وَقيل مَعْنَاهُ: وماهم مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ فِي الْمَحَلَّةِ وَالْمَكَانِ. وَقِيلَ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَحَاتِ، مِنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ جَهْرَةً وَخُفْيَةً بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ وَالشُّبُهَاتِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُمْكِنٌ: فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا (1) بَعِيدِينَ مِنْهُمْ لَا زَمَانًا وَلَا مَكَانًا وَلَا صِفَاتٍ. ثُمَّ مَزَجَ التَّرْهِيبَ بِالتَّرْغِيبِ فَقَالَ: " وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيم ودود " أَيْ أَقْلِعُوا عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، وَتُوبُوا إِلَى رَبِّكُمُ الرَّحِيمِ الْوَدُودِ، فَإِنَّهُ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ تَابَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ، أَرْحَمُ بِهِمْ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا، " وَدُودٌ " وَهُوَ الْحَبِيبُ وَلَوْ بَعْدَ التَّوْبَةِ عَلَى عَبْدِهِ، وَلَوْ مِنَ الْمُوبِقَاتِ الْعِظَامِ. " قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقول وَإِنَّا لنراك فِينَا ضَعِيفا " رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالثَّوْرِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: كَانَ ضَرِيرَ الْبَصَرِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ: أَنَّهُ بَكَى مِنْ حب الله حَتَّى __________ (1) ا. فَإِنَّهُم غير بعيدين. (*)
(1/282)
عَمِيَ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ، وَقَالَ: " يَا شُعَيْبُ أَتَبْكِي خَوْفًا (1) مِنَ النَّارِ؟ أَوْ [مِنْ] (2) شَوْقِكَ إِلَى الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: بَلْ مِنْ مَحَبَّتِكَ (3) ، فَإِذَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ فَلَا أُبَالِي مَاذَا يُصْنَعُ بِي. فَأَوْحَى [اللَّهُ] (2) إِلَيْهِ: هَنِيئًا لَكَ يَا شُعَيْبُ لِقَائِي، فَلِذَلِكَ أَخَدَمْتُكَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ كَلِيمِي ". رَوَاهُ الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَبِي الْفَتْحِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْكُوفِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بن بنْدَار، عَن عبد الله مُحَمَّد بن إِسْحَق الرَّمْلِيّ عَن هِشَام بن عمار، عَن إِسْمَعِيل بن عَبَّاس، عَن يحيى بن سعيد، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ (4) عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ. * * * وَقَوْلُهُمْ: " وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْن