بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وأمينه على وحيه صلى الله عليه وسلم.
أما بعد: فإن علم الاعتقاد هو أشرف العلوم وأجلُّها؛ لأنه يتحدث عن أشرف معلوم - وهو الحق سبحانه وتعالى - وأشرف مقصود - وهو توحيده والإيمان به - وأشرف مآلٍ - وهو رؤية الرب الكريم في دار النعيم، ومتابعة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وسلوك الصراط المستقيم؛ لذا رغبنا أن نؤلِّف كتابًا يشمل مسائل الاعتقاد نستهدي فيه بكتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بعيدًا عن المصطلحات الكلامية الحادثة والتعاريف والأركان والشروط، ونجعله في متناول الجميع؛ بحيث يستفيد منه العالِم وطُلَّاب العلم في الجامعات وغيرها، وعامة المسلمين.
سبب التأليف:
لقد بذل سلفنا الصالح جهودًا كبيرةً في بيان الاعتقاد الصحيح، وبيان ما يضادُّه والردّ على المخالفين. وقد جاء هذا الكتاب ليقرِّب ما صنَّفه السلف لطلاب العلم ولعامة المسلمين؛ حيث جمعنا مسائل الاعتقاد في كتاب واحد شامل لها، وقمنا بالاقتصار على تقرير الاعتقاد الصحيح دون الخوض في الردود، كما حرصنا على صياغته بعبارات ميسَّرة واضحة، وترتيبه ترتيبًا موضوعيًّا، ونرجو أن نكون بذلك قد حقَّقنا هدفين: أحدهما: المساهمة في تقريب علوم السلف. والآخر: سد حاجة شديدة في المكتبة العقدية، وهي: إيجاد كتاب ميسّر العبارة، شامل لجميع مباحث الاعتقاد.
الـمنهج الذي اتبعناه في التأليـف:
استعراض الآيات والأحاديث المتعلقة بكل موضوع من موضوعات الاعتقاد، واستخلاصه منها.
استعراض جميع موضوعات كتب العقائد؛ سواء المسندة أو المتون أو شروح المتون؛ للتأكُّد من أن استخلاصنا للاعتقاد من الآيات والأحاديث شامل لما دوَّنه مؤلفو كتب الاعتقاد.
إذا وردت المسألة العقدية في القرآن الكريم أو في السنة النبوية على وجه واحد؛ اكتفينا بدليل أو دليلين ورد فيهما ذكر هذه المسألة. أما إذا وردت المسألة في القرآن الكريم أو السنة النبوية على أوجه متعددة - كصفة الكلام، والعلوِّ، واليد، ورؤية المؤمنين لربهم في عرصات القيامة وفي الجنة - فنلتزم بذكر الدليل على كل وجه من وجوه ورودها، ولا نلتزم بإيراد كل ما ورد في الباب.
قد نضطر لإيراد بعض جوانب المسألة في باب، ثم نعيدها ونستكملها في باب آخر، كما أوردنا خبر خلْق الملائكة في باب الخلق، واستكملنا الحديث عنهم في كتاب الإيمان بالملائكة، وذكرنا في باب الإيمان بوجود الله بعض الآيات الدالة على وجوده، وقد ترد الآية ذاتها في باب الربوبية وذلك لتقاربهما، فالمقصود من باب الإيمان بوجود الله إبراز أدلة وجود الرب التي ينكرها الملحد، بينما المقصود من باب الربوبية إثبات الربوبية المستلزمة لألوهية الله التي يجادل فيها المشرك، كما قد نورد الآية الكريمة أو الحديث الشريف في أكثر من موضع بحسب وجه الاستشهاد بهما، والحاجة إليهما.
عند الحاجة قد نذكر بعض النقول عن أئمة السلف التي توضح المراد من الآية والحديث، ونقتصر على ما يبين القول الحق فيها دون إيراد الشبهة أو قول المخالف؛ لئلا يتلقى المتعلم الشبهة، أو يتضلع من أقوال المخالفين قبل أن يتمكَّن من تأصيل هذا العلم في قلبه وفهمه. ونرجو أن يمنح ذلك القارئ -بإذن الله- حصانةً من الزلل في هذه المسألة؛ لما قد أحاط بها من خلاف عقدي مشهور، كمسائل الصفات، والقدر، وغيرها.
تعمدنا أن نبتعد عن التعريفات والمصطلحات الكلامية الحادثة التي ما أنزل الله بها من سلطان.
جعلنا الكتاب على هيئة كتب وأبواب، كما فعل أوائل المصنفين في العلم الشرعي الشريف، ولم نستخدم التقسيمات المعاصرة: مبحث ومطلب، ورتبناه على أصول الإيمان. قال ابن أبي العز الحنفي: (وأحسن ما يرتَّب عليه كتاب أصول الدين ترتيب جواب النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام حين سأله عن الإيمان، فقال: «أن تؤمن بالله وملائكته...» فيبدأ بالكلام على التوحيد والصفات وما يتعلق بذلك، ثم بالكلام على الملائكة، ثم ثم إلى آخره)(([1])).
قمنا بوضع ملخص لكل كتاب في بدايته نسرد فيه جميع مسائل الكتاب بدون أدلة.
وفيما يخص تخريج الأحاديث فقد قمنا بتخريجها تخريجًا مختصرًا، فنبدأ بالكتب الستة حسب ترتيبها المعروف، ثم نرتب بحسب الوفيات، ولرغبتا في تصغير حجم الكتاب فقد اكتفينا بالتخريج بدون الكلام على الأحاديث إلا في أضيق نطاق.
مميزات هذا الكتاب:
ربط المسائل العقدية بالكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة، بحيث يكون واضحًا للطالب مأخذ هذه المسائل.
الإحاطة بالمسائل العقدية الرئيسة المتعلقة بكل باب من أبواب الاعتقاد.
الحرص على تأسيس العقيدة بطريقة مختصرة وشاملة وَفْق عبارات ميسرة أثناء البيان والتوضيح لمسائل الاعتقاد؛ حتى يكون ذلك أدعى للفهم والاستيعاب.
سلامة الكتاب من المباحث الكلامية والفلسفية، وتقريب عباراته، والابتعاد عن الألفاظ التي وردت في بعض كتب الاعتقاد بعد ظهور الأهواء.
ولا نزعم أننا استقصينا مسائل العقيدة؛ لكننا استفرغنا وسعنا في ذلك، ونحن نتطلع لكل إثراء لهذا الكتاب أو تقويم أو استدراك؛ حتى نفيد منه في طبعات الكتاب التالية، وحسبنا أننا وردنا على مورد الوحي، واستنبطنا منه موضوعات أشرف العلوم، وقدمناها إلى طلاب هذا الفن مستشهدين لكل مسألة بآية أو حديث أو بهما معًا. ونسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، موافقًا لسنة نبيه وخليله وأمينه على وحيه، نافعًا لعباده، حجة وشاهدًا لنا يوم أن نلقى ربنا.
ونشكر الله سبحانه وتعالى الذي يسَّر لنا هذا العلم، وسخرنا لخدمة دينه، وبسْط مسائل أركان الإيمان بالله، وبيانها وذكر أدلتها من الكتاب والسنة.
ونشكر كلَّ مَنْ أحسن إلينا، وأَوْلَى الناس بالشكر والدينا، فاللهم اغفر لهم وارحمهم واجزهم عنا خير ما جزيت والدًا عن ولده.
ثم نشكر أصحاب الفضيلة الذين حكَّموا الكتاب وقدّموا مرئياتٍ واستدراكاتٍ مباركة وهم: الأمير الدكتور سعود بن سلمان بن محمد آل سعود، أستاذ العقيدة المشارك في جامعة الملك سعود، والدكتور سهل بن رفاع العتيبي، أستاذ العقيدة المشارك في جامعة الملك سعود، والأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن أحمد الحميدي، أستاذ العقيدة في جامعة أم القرى، وقد قال عن هذا الكتاب: (هذا الكتاب المبارك فَتْحٌ من الله تعالى للشيخين الكريمين، وذخيرةٌ ذخرها الله لهما، فوفقهما لفكرته وخُطّته ثم جمعه وتحريره؛ ليقدّم هذا الكتاب غايات الرسالة وأصول الدين من معدنهما ومنبعهما كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام . وإني أزعم أن مثل هذا النوع من الكتب والتآليف كان دَيْنًَا على أهل السّنة، فوفّق الله الشيخين الكريمين لوفائه). والأستاذ الدكتور عبدالله بن صالح البراك، أستاذ العقيدة في جامعة الملك سعود، والدكتور عبدالله بن عبدالعزيز العنقري، أستاذ العقيدة المشارك في جامعة الملك سعود، ونسأل الله أن يجزيهم عنَّا وعن العلم وأهله خير الجزاء لقاء ما قدموا من نصح خالص ورأي سديد.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
مكة الـمكرمة
اليوم الثامن من ذي الحجة
لعام تسعة وثلاثين وأربع مائة وألف من الهجرة النبوية
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فهذا كتاب نذكر فيه ما يجب على المسلم الإيمان به مما ورد في الكتاب والسنة، وقد نذكر بعض أقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم لشرح آية أو حديث، أو لإيراد قول يحدِّد المراد من الآية أو الحديث. وقد قسمناه إلى كتب وأبواب، والتزمنا فيه الاختصار قدْر الإمكان، والاقتصار على المسائل اللازمة، وابتعدنا عن الخوض فيما خاض فيه المتأخرون من مصطلحات لم ترد في الكتاب ولا في السـنة النبوية -على صاحبها أفضل الصلاة وأتمّ التسليم- يقول الله عز وجل حاثًّا على اتِّباع دينه، والاعتصام بحبله، والاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون} [آل عمران: 103]. وقال تبارك وتعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُون} [الزمر: 55].
فنقول - وبالله التوفيق:
نؤمن أن الله خالق كل شيء، وأن الله كان ولم يكن شيء غيره، ولا شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وخلق الماء قبل أن يخلق السماء والأرض، ثم خلق السموات والأرض، وكانتا رتقًا ففتقهما.
ونؤمن أن الله جعل هذا الخلق شاهدًا على ربوبيته المستلزمة لألوهيته، فهو الخالق الحق، وما سواه مخلوق تبارك ربنا وتعالى، وهو الإله الحق، وما سواه مربوب لا يستحق أن يُعْبد، أو يُرْجى، أو يُقْصد.
ونؤمن أن العرش الكريم خلق عظيم من خلق الله، بل هو أعظم مخلوقاته.
ونؤمن أن الملائكة تحفُّ بعرش الرحمن، وأن الله تبارك وتعالى فوق عرشه، فوق سمواته، بائن من خلقه.
ونؤمن أن الله خلق القلم الذي كتب مقادير كل شيء، وأن أقلام التقدير متعددة.
ونؤمن أن الله خلق الكرسي، وهو أعظم المخلوقات بعد العرش.
ونؤمن أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام من أيام الله، وأن الله رفع السموات بغير عمد، وأن الله خلق هذه المخلوقاتِ العظيمةَ لِحِكَمٍ عظيمة لا يُحاط بها، وقد أتقن الله خلقها وصُنْعها.
ونؤمن أن هذا الكون بسمواته وأرضه وجباله وكل ما فيه سيكون له حال آخر يوم القيامة.
ونؤمن أن الله خلق الشمس والقمر بالحق، وأنه سبحانه وتعالى جعلهما مسخراتٍ بأمره، وخلق النجوم والكواكب لحكم عظيمة، وأن النجوم والكواكب لا تنفع ولا تضرّ، ولا تؤثر في الحوادث السماوية والأرضية، ومن اعتقد أنها مؤثرة بذاتها فقد كفر، أو أشرك.
ونؤمن أن الله خلق الملائكة من نور، وجعلهم متفاوتين في الخلق.
ونؤمن أن الله خلق الجانَّ من مارج من نار، وأن خلق الجن متقدِّم على خلق آدم، وأن رأس الشياطين إبليس، وأنه هو الذي أغوى الأبوين عليهما السلام حتى أخرجهما من الجنة.
ونؤمن أن إبليس استكبر عن السجود، فغضب الله عليه، ولعنه، وطرده، وأن الجن مخاطبون بالشرائع، ومكلفون.
ونؤمن أن الله أخبر ملائكته أنه سيجعل في الأرض خليفة لعمارتها بالعبادة. وبيَّن الحق أن هذا الخليفة هو آدم، وأنه سيخلقه من تراب، وهذا التراب جعله الله طينًا، ثم خلقه أطوارًا.
ونؤمن أن الله خلق آدم بيده الشريفة، وأسجد له ملائكته، وخلق له من نفسه زوجًا ليسكن إليها، وهي حواء، وأسكنهما الجنة، ثم أهبطهما إلى الأرض.
ونؤمن أن الناس كلَّهم من ذرية آدم، وآدم من تراب، فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.
ونشهد أن الله خلق الناس على الفطرة.
ونؤمن أن الروح من أمر الله، وأن البشر لا يعلمون من شأنها إلا ما أطلعهم الله عليه، وأن الأرواح مخلوقة لله.
ونؤمن أن الأرواح تموت، وموتُها مفارقةُ البدن.
ونؤمن أن كلَّ ما يدبُّ على الأرض من دابة أممٌ أمثالُنا.
ونعلم أن الله خلق كل دابة من ماء، وجعل من كل شيء زوجين، وكل هذه المخلوقات إلى الهلاك، إلا ما استثناه الله، عز شأنه وتعالى.
بــاب
نشهد أن الله خالق كل شيء، قال المولى عز شأنه: {ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل} [الأنعام: 102]. وقال الحق جلَّ في علاه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل} [الزمر: 62]، وقال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27].
ونؤمن أن الله كان ولم يكن شيء غيره، ولا شيء قبله، قال الله سبحانه وتعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} [الحديد: 3].
وقال صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ»([2]).
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: إِنِّي عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ قَوْمٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ»، قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، فَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ، فَقَالَ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا أَهْلَ اليَمَنِ، إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ»، قَالُوا: قَبِلْنَا، جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الأَمْرِ: مَا كَانَ؟ قَالَ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ»([3])، وفي رواية بلفظ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماءِ»([4]).
ونؤمن أن كلَّ ما يدبُّ على الأرض من دابة أممٌ أمثالُنا، قال الحق جل في علاه: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُون} [الأنعام: 38]. ونعلم أن الله خلق كل دابة من ماء، قال الحق سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [النور: 45]. وجعـل من كـل شيء زوجين، فقال الله تعالى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} [الذاريات: 49]. وقال المولى عز شأنه: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} [النجم: 45].
ونؤمن أن هذا الخلق -على تنوُّعه وكثرته- متوازنٌ لا يطغى شيء منه على شيء، ولا نوع على نوع، قال الحق جل شأنه: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُون} [الحجر: 19].
وكل هذه المخلوقات ستصير إلى فناء، قال الله جل في علاه: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَام} [الرحمن: 26، 27]. إلا ما استثناه الله من الصعق في قوله عز شأنه وتعالى سلطانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُون} [الزمر: 68].
ونؤمن أن الله جعل هذا الخلق شاهدًا على ربوبيته المستلزمة لألوهيته، فتارة يجعل خلقه لهذا الخلق دالًّا على ذلك، كما في قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِين} [لقمان: 11]. وتارة يذكر الحق أن أكبر مخلوق فيها -وهو العرش- دل على ذلك كما في قول الحق سـبحانه: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم} [النمل: 26]، وقال صلى الله عليه وسلم: «سُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ خَلْقِهِ. سُبْحَانَ اللهِ رِضَا نَفْسِهِ. سُبْحَانَ اللهِ زِنَةَ عَرْشِهِ. سُبْحَانَ اللهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ»([5]). فزنة العرش أثقل الأوزان. وتارة يجعل المخلوقاتِ الكبيرةَ دليلًا على ذلك، كما في قوله جل شأنه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} [البقرة: 29]. وتارة يجعل فردًا من أفراد هذه المخلوقات دليلًا على ذلك، كما في قوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُود} [فاطر: 27].
وتارة يجعل أضعف مخلوق وأصغره دليلًا على ذلك، كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً} [البقرة: 26]. فهو الخالق الحق، وما سواه مخلوق تبارك ربنا وتعالى، وهو الإله الحق، وما سواه مربوب لا يستحق أن يعبد، أو يرجى، أو يقصد.
بــاب
ونؤمن أن العرش خلق عظيم من خلق الله، بل هو من أعظم مخلوقاتـه، وإذا وصفه العظيم بأنه عظيم فهو - حقًّا - عظيمٌ، فقال سبحانه وتعالى: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم} [النمل: 26]. ووصفه بأنه مجيد، فقال المولى عز شأنه: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيد} [البروج: 15]، وهو مع عظمته مخلوق مربوب، قال الله تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم} [المؤمنون: 86]. وقال صلى الله عليه وسلم: «...وَخَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الماء»([6]). وله قوائمُ؛ قال صلى الله عليه وسلم: «النَّاسُ يَصْعَقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ العَرْشِ»([7]).
والعرش فوق السموات، والله فوق العرش، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ لَهَكَذَا - وَقَالَ بِإِصْبُعِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ عَلَيْهِ - وَإِنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ بِالرَّاكِبِ»([8]). وفي رواية: «إِنَّ اللهَ فَوْقَ عَرْشِهِ، وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ»([9]).
ونؤمن أن تحت العرش من الكنوز الربانية ما لا يقدر قدره إلا الله، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «وَأُعْطِيتُ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ آخِرِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ، لَمْ يُعْطَهَا نَبِيٌّ قَبْلِي»([10]).
وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع، وذكر منها: «وَأَمَرَنِي أَنْ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَإِنَّهُنَّ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ»([11]).
ونؤمن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يسجد تحت العرش يوم القيامة حتى يشفع الشفاعة العظمى، ففي حديث الشفاعة الطويل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فَأَنْطَلِقُ، فَآتِي تَحْتَ العَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عز وجل، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ، شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، ...»([12]).
ونؤمن أن أرواح الشهداء تأوي إلى قناديلَ معلقةٍ في ظل العرش، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ...»([13]).
وقيل لابن المبارك: كيف نعرف ربنا؟ قال: «بأنه فوق السماء السابعة على العرش، بائن من خلقه»([14]).
وقال الإمام الدارمي رحمه الله: «فالله تبارك وتعالى فوق عرشه، فوق سمواته، بائن من خلقه، فمن لم يعرفه بذلك لم يعرف إلهه الذي يعبد، وعلْمه من فوق العرش بأقصى خلقه وأدناهم واحد، ولا يبعد عنه شيء؛ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} [سبأ: 3]. سبحانه وتعالى عما يصفه المعطلون علوًّا كبيرًا»([15]).
ونؤمن أن العرش تحمله الملائكة، قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيم} [غافر: 7]. وقال تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة} [الحاقة: 17].
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض صفات حملة العرش فقال: «أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ»([16]).
ونؤمن أن الملائكة تحفُّ بعرش الرحمن، قال الحق: {وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [الزمر: 75].
والعرش مع الكتاب المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي»([17]) هما أعلى المخلوقات، قال صلى الله عليه وسلم: «... فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ؛ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ، وَأَعْلَى الجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّة»([18]).
ونؤمن أن الله مُسْتَوٍ على عرشه استواءً يليق بجلاله، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، وقال الحق جل في علاه: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59].
وقد سـئل ربيعة الرأي عن قـول الله تبارك وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]: كيف استوى؟ قال: «الكيف مجهـول، والاستواء غير معقول، ويجب عليَّ وعليكم الإيمانُ بذلك كله»([19]).
وجاء رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبدالله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}: كيف استوى؟ قال: فما رأينا مالكًا وجد من شيء كوَجْدِهِ من مقالته، وعلَاه الرُّحَضَاءُ، وأطرق، وجعلنا ننتظر ما يأمر به فيه، قال: ثم سُرِّي عن مالك، فقال: «الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإني لأخاف أن تكون ضالًّا، ثم أمر به، فأخرج»([20]).
وكان الإمام أحمد يقول في معنى الاستواء: «هو العلو والارتفاع، ولم يزل الله تعالى عاليًا رفيعًا قبل أن يخلق عرشه، فهو فوق كل شيء، والعالي على كل شيء، وإنما خصّ الله العرش لمعنًى فيه مخالفٍ لسائر الأشياء، والعرش أفضل الأشياء وأرفعها، فامتدح الله نفسه بأنه على العرش استوى؛ أي: عليه علا... وحكي عن عبدالرحمن بن مهدي عن مالك: أن الله تعالى مستوٍ على عرشه المجيد كما أخبر، وأن علمه في كل مكان»([21]).
وربوبية الله سبحانه وتعالى للعرش دليل على استحقاقه للعبادة دون من سواه، فقال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُون} [الأنبياء: 22]، وقال تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم} [المؤمنون: 86]، وقال المولى عز شأنه: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا} [الإسراء: 42].
بــاب
ونؤمن بأن الله جل في عـلاه خلق الماء قبل أن يخلق السماء والأرض، قال صلى الله عليه وسلم: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ»([22])، وجعل الله من الماء كل شيء حيٍّ، قال الحق سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]، وأن الله جعله آية من آيات ربوبيته وألوهيته، قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُون} [البقرة: 22].
وقال عزَّ من قائل: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون} [الرعد: 4]، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان: 53، 54]؛ فجعل من الماء بحرين مختلفين، وجعل بينهما حِجْرًا وبرزخًا، فلا يبغي أحدهما على الآخر، كما جعل من الماء بشرًا، وجعل من البشـر نسبًا وصهرًا، فتبارك الله أحسن الخالقين، وأمثال هذه الآيات كثير.
كما جعله الله دليلًا على البعث، فقال جل من قائل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [فصلت: 39].
وجعله جندًا من جنوده، فنصر به أولياءه، قال المولى عز شأنه: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَام} [الأنفال: 11]، وخذل به أعداءه، قال الولي الحميد: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِر * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِر * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِر} [القمر: 10-12]، إلى غير ذلك من الأحوال التي جعل الله فيها الماء سببًا لنصرة أوليائه أو خِذلان أعدائه.
بــاب
ونؤمن أن الله خلق القلم الذي كتب القَدَر، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قَالَ: رَبِّ، وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»([23]).
ونؤمن أن الأقلام متعددة، قال صلى الله عليه وسلم -وهو يخبر عن الإسراء والمعراج: «ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلَامِ»([24]).
وتكرر في القـرآن والسنة الخبر عن كتابة الملائكة لأفعال العباد، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِين * كِرَامًا كَاتِبِين * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُون} [الانفطار: 10 -12].
وقال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد} [ق: 17، 18].
وقال تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُون} [يونس: 21]
وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُون} [الزخرف: 80].
وفي «الصحيح» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، وَمَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلَّا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً»([25]).
وقال -أيضًا: «إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا»([26]).
بــاب
ونؤمن أن الكرسي هو أعظم المخلوقات بعد العرش، قال الله تعالى مبيِّنًا عظمته: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة: 255].
والكرسي بين يـدي العرش، وهو موضع القدمين، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هـذه الآية: «الكرسيُّ موضع القدمينِ، والعرشُ لا يُقدّرُ أحدٌ قدرهُ»([27]). وقال صلى الله عليه وسلم: «ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة»([28]).
كما أخرج البيهقي عن العباس بن محمد قال: سمعت أبا عبيد يقول: «هذه الأحاديث التي يقول فيها: ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غِيَرِهِ، وإن جهنم لا تمتلئ حتى يضع ربك قدمه فيها، والكرسي موضع القدمين، وهذه الأحاديث في الرواية هي عندنا حق، حملها بعضهم عن بعض، غير أنَّا إذا سُئلْنا عن تفسيرها لا نفسرها، وما أدركنا أحدًا يفسرها»([29]).
بــاب
ونؤمن أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام من أيام الله، وما مسَّه من تعبٍ ولا لُغوبٍ، قال المولى عز شأنه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوب} [ق: 38]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30]، وقال الحق جل في علاه: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِين * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِين * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم} [فصلت: 9-12].
وقال المولى عز شأنه: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُم} [النازعات: 27-33].
ونؤمن أن الله رفع السموات بغير عمد، قال الحق جل شأنه: {اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُون} [الرعد: 2]، وقال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيم} [لقمان: 10].
ونؤمن أن الله تعالى يمسك السموات والأرض أن تزولا، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41].
ونؤمن أنه سبحانه الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، قال تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [الحج: 65].
ونؤمن أن الله سبحانه وتعالى يدبِّر أمر هذه المخلوقات، ويحفظها، ولا يؤوده ذلك، قال الحق: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم} [البقرة: 255].
ونؤمن أن الله خلق هذه المخلوقات العظيمة لِحِكَمٍ عظيمة لا يُحاط بها، وقد أتقن الله خلقها وصُنْعها، قال الله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُون} [النمل: 88]، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِين} [الدخان: 38]، وقال الحق جل شأنه: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُون * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِين * وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُوم} [الحجر: 19-21].
وقد احتجَّ الله بخلقه للسموات والأرض على ربوبيته المستلزمة لألوهيته، فقال عز شأنه: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُون} [النمل: 60]، وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُون} [العنكبوت: 61]، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُون} [العنكبوت: 63].
ونؤمن أن الله جعل الأرض مكانًا للابتلاء، فقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: 7]، كما جعلها مستقرًّا ومعاشًا وكِفاتًا، قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55]. وقال جل شأنه: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاء وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 25، 26].
ونؤمن أن هذا الكون العظيم يمجِّد الله رب العالمين، قال الله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]، ويخضع لعظمته، قال الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين} [فصلت: 11].
ويفْرق هذا الكون، ويخاف من تطاول العباد على الرب سبحانه وتعالى، قال المولى عز شأنه وتعالى سلطانه: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 90، 91].
بــاب
ونؤمن أن الله خلق الشمس والقمر، قال الحق: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُون} [الأنبياء: 33].
ونؤمن أن الشمس والقمر يجريان، كما أخبر الله عن ذلك بقوله سبحانه وتعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيم * لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُون} [يس: 38-40]، فتبارك الله أحسن الخالقين.
ومن رحمته بعباده أن جعلهما مسخراتٍ بأمره؛ لتحقيق منافع العباد، قال الحق جل في علاه: {وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَار} [إبراهيم: 33]، وقال تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} [الأعراف: 54].
وقد خلق الله تعالى الشمس والقمر لحكم عظيمة لا يُحاط بها، ومن تلكم الحكم ما جاء في قول الحق عز شأنه: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم} [الأنعام: 96]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} [الأنعام: 96]، يعني: عدد الأيام والشهور والسنين([30]). وقال الله تعالى أيضًا في بيان بعض حكم خلق الشمس والقمر: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} [يونس: 5].
ونؤمن أن الله جعلهما من آياته العظيمة الدالة على ربوبيته المستلزمة لألوهيته، قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُون} [العنكبوت: 61]، وقال الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون} [فصلت: 37]. وفي الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَه»([31]).
ونؤمن أن الشمس والقمر يسجدان لله رب العالمين -كما تسجد بقية المخلوقات- قال الحق جل شأنه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء} [الحج: 18].
ونؤمن بأن الشمس تسجد تحت العرش في كل يوم، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فعن أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: «أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟»، قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنُ لَهَا. وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ، فَلَا يُقْبَلَ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِنَ فَلَا يُؤْذَنَ لَهَا، يُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم } [يس: 38]»([32]).
بــاب
ونؤمن أن الله خلق النجوم والكواكب لحكم عظيمة، منها ما ذكره الحق جل في علاه في قوله: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُون} [النحل: 16]، قال قتادة رحمه الله: «والعلامات: النجوم، وإن الله تبارك وتعالى إنما خلق هذه النجـوم لثلاث خصلات: جعلها زينة للسماء، وجعلها يُهْتَدَى بها، وجعلها رجومًا للشياطين، فمن تعاطى فيها غير ذلك: فقَدَ رأيهُ، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلَّف ما لا علم له به»([33]).
وعن أبي موسى رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ جَلَسْنَا حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَهُ الْعِشَاءَ. قَالَ: فَجَلَسْنَا، فَخَرَجَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: «مَا زِلْتُمْ هَاهُنَا؟» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، صَلَّيْنَا مَعَكَ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ قُلْنَا: نَجْلِسُ حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَكَ الْعِشَاءَ، قَالَ: «أَحْسَنْتُمْ، أَوْ أَصَبْتُمْ»، قَالَ: فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَكَانَ كَثِيرًا مِمَّا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: «النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ»([34]).
وقـال الحق جـل شأنه: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْأَنْصَارِ، أَنَّهُمْ بَيْنَمَا هُمْ جُلُوسٌ لَيْلَةً مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَاذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، إِذَا رُمِيَ بِمِثْلِ هَذَا؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، كُنَّا نَقُولُ: وُلِدَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، وَمَاتَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّهَا لَا يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنْ رَبُّنَا تبارك وتعالى اسْمُهُ، إِذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ هَذِهِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ: الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيُخْبِرُونَهُمْ مَاذَا قَالَ». قَالَ: «فَيَسْتَخْبِرُ بَعْضُ أَهْلِ السَّمَوَاتِ بَعْضًا، حَتَّى يَبْلُغَ الْخَبَرُ هَـذِهِ السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَتَخْطَفُ الْجِنُّ السَّمْعَ، فَيَقْذِفُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ، وَيُرْمَـوْنَ بِهِ، فَمَا جَاؤُوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُمْ يَقْرِفُونَ فِيهِ، وَيَزِيدُونَ»([35]).
وكان الشياطين يسترقون السمع، فلما بُعث نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم مُنِعوا مقاعدهم من السمع، قال المولى عز شأنه مخبرًا عن ذلك: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا} [الجن: 9]، وقال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِب * وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِد * لاَ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِب * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِب * إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِب} [الصافات: 6-10].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كَانَ الجِنُّ يَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاءِ يَسْتَمِعُونَ الوَحْيَ، فَإِذَا سَمِعُوا الكَلِمَةَ زَادُوا فِيهَا تِسْعًا، فَأَمَّا الكَلِمَةُ فَتَكُونُ حَقًّا، وَأَمَّا مَا زَادُوهُ فَيَكُونُ بَاطِلًا، فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُنِعُوا مَقَاعِدَهُمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِإِبْلِيسَ، وَلَمْ تَكُنِ النُّجُومُ يُرْمَى بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ إِبْلِيسُ: مَا هَذَا إِلَّا مِنْ أَمْرٍ قَدْ حَدَثَ فِي الأَرْضِ، فَبَعَثَ جُنُودَهُ، فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا يُصَلِّي بَيْنَ جَبَلَيْنِ -أُرَاهُ قَالَ: بِمَكَّةَ- فَلَقُوهُ، فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: هَذَا الْحَدَثُ الَّذِي حَدَثَ فِي الْأَرْضِ»([36]).
ونؤمن أن النجوم والكواكب لا تنفع ولا تضر، ولا تؤثر في الحوادث السماوية والأرضية، ومن اعتقد أنها مؤثرة بذاتها فقد كفر أو أشرك، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ، وَمِنْهُمْ كَافِرٌ»، قَالُوا: هَذِهِ رَحْمَةُ اللهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: «فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُوم} [الواقعة: 75]، حَتَّى بَلَغَ{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون} [الواقعة: 82]»([37]).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي فِي آخِرِ زَمَانِهَا إِيمَانٌ بِالنُّجُومِ، وَتَكْذِيبٌ بِالْقَدَرِ، وَحَيْفُ السُّلْطَانِ»([38]).
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النظر في النجوم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنَ النُّجُومِ، اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ، زَادَ مَا زَادَ»([39]).
فلا يجوز تعلُّم النجوم إلا بقدر ما يُهْتَدى به في برٍّ أو بحر؛ لأن تعلُّمَها يدعو إلى الكهانة، فعن سعيد بن جبير قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ، أَوْصِنِي. فَقَالَ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَإِيَّاكَ وَذِكْرَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ الْفَضْلِ. وَإِيَّاكَ وَعَمَلَ النُّجُومِ إِلَّا مَا يُهْتَدَى بِهِ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ، فَإِنَّهَا تَدْعُو إِلَى كَهَانَةٍ. وَإِيَّاكَ وَمُجَالَسَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِالْقَدَرِ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ تُسْتَجَابَ دَعْوَتُهُ، وَأَنْ يُزَكَّى عَمَلُهُ، وَيُقْبَلَ مِنْهُ، فَلْيَصْدُقْ حَدِيثَهُ، وَلْيُؤَدِّ أَمَانَتَهُ، وَلْيُسْلِمْ صَدْرَهُ لِلْمُسْلِمِينَ»([40]).
بــاب
ونؤمن أن الله خلق الملائكة من نور، ففي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ»([41]).
وجعل الله الملائكة متفاوتين في الخلق، قال الحق سبحانه وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [فاطر: 1].
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى جبريل، وأن له ست مائة جناح؛ وأنه عظيم الخَلْق؛ فعن أبي إسحاق الشيباني قال: سألت زرَّ بن حبيش عن قول الله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 9، 10] قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ: «أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ»([42])، وعن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ، وَلَكِنْ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ، وَخَلْقُهُ سَادٌّ مَا بَيْنَ الأُفُقِ»([43]).
وسنفصِّل القول في الحديث عن الملائكة في كتاب الإيمان بالملائكة، بإذن الله، واقتصر الحديث هنا عن خلقهم فقط([44]).
بــاب
ونؤمن أن الله خلق الجانَّ من مارج من نار، قال الحق جل شأنه: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [الحجر: 27]، وقال أيضًا: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّار} [الرحمن: 15]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ عليه السلام مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ»([46]).
ونؤمن أن الله خلق الجن والإنس لعبادته سبحانه وتعالى، قال الله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون} [الذاريات: 56]. والجن يكون فيهم نُذُرٌ، ولا يكون فيهم رسل، قال الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِين} [الأحقاف: 29]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: «الرسل من بني آدم، ومن الجن نذر»([47]).
وأما قوله تعالى {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} ، فالمقصود: أي من جملتكم وليس من جميعكم، فهو كَقَوْلِهِ تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} ، وَقَوْلِهِ: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} مع أن العاقر واحد منهم.
ونؤمن أن خلق الجن متقدِّم على خلق آدم؛ ولذا قال الله تعالى: {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُوم} [الحجر: 27]، ورأس الشياطين إبليس -أعاذنا الله منه- خلقه الله من نار كما خلق سائر الجن والشياطين، قال تعالى مخبرًا عن إبليس أنه قال: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين} [الأعراف: 12]، وأن إبليس كان من الجن، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50].
وإبليس هو الذي أغوى الأبوين عليهما السلام حتى أخرجهما من الجنة، حيث وسوس لهما، وأقسم لهما إنه لمن الناصحين، فدلَّاهما بغرور، فأكلا من الشجرة، قال الحق: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِين * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِين * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِين * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِين * قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} [الأعراف: 19-23].
ونؤمن أن الشيطان استكبر عن السجود، فغضب الله عليه، ولعنه، وطرده من جنة الخلد، وأنه طلب من الله أن ينظره إلى يوم القيامة؛ فأنظره الله، وأنه أقسم بعزة الله ليفتنن جميع بني آدم إلا عباد الله المخلصين، قال الحق مخبرًا عن كيده: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِين * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِين * فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُون * إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِين * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِين * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيم * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّين * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِين * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُوم * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين} [ص: 71-83]. وقال الشيطان كما أخبر الله عنه: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيم * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِين} [الأعراف: 16، 17].
والجن مخاطبون بالشرائع، ومكلفون، ولهم القدرة على سماع الوحي وفهمه من الرسل ومن النذر؛ ولذا قالوا لما سمعوا القرآن، كما أخبر الله عنهم: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِين * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيم} [الأحقاف: 29، 30].
ونعلم أن الجن منهم الصالحون، ومنهم دون ذلك، فمن آمن منهم فمآله الجنة، ومن كفر منهم فمآله النار، قال الحق جل في علاه: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن: 11]، ثم قال تعالى: ({وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 14، 15].
وقال تعالى مخبرًا عن تبكيت الملائكة للفجار من الإنس والجن يوم القيامة: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا} [الأنعام: 130]، وقال تعالى أيضًا: {قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ} [الأعراف: 38].
وبيَّن الحق سبحانه وتعالى أن سبب دخولهم النار هو عدم سماعهم للهدى سماع قَبُولٍ، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف: 179]، ودلت هذه الآية على أن للجن قلوبًا وآذانًا وعيونًا. وللشياطين أصوات يستفزون بها الخلق، قال الحق جل في علاه: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64].
وقد وعظ الله البشر؛ لئلا يغرهم الشـيطان كما غرَّ أبويهـم، قال المولى عز شأنه: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُون} [الأعراف: 27].
ونؤمن أن الشيطان -مع علمه أنه لا يستطيع إغواء عباد الله المخلصين- يحاول هو وجنوده إغواءهم وإفساد عباداتهم عليهم، قال المولى عز شأنه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُون} [الأنعام: 112]. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ البَارِحَةَ -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلَاةَ، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ: رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي»، قَالَ رَوْحٌ: فَرَدَّهُ خَاسِئًا([48])، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ»، قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «وَإِيَّايَ، إِلَّا أَنَّ اللهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ»([49]).
وعن سبرة بن أبي فاكه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ، فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ، فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: تُجَاهِدُ، فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ، فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ»، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عز وجل أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عز وجل أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ»([50]).
وإذا كان الخبيث لا ييأس من التسلُّط على الأنبياء عليهم السلام، فغيرهم من باب أَوْلَى، فعن أبي العلاء أن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُهَا عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خِنْزَبٌ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْهُ، وَاتْفِلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلَاثًا». قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، فَأَذْهَبَهُ اللهُ عَنِّي([51]).
وفي «صحيـح البخاري»: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ»([52]). وبوَّب ابن بطة رحمه الله لهذا المعنى في كتابه «الإبانة»، فقال: «باب الإيمان بأن الشيطان مخلوق مُسَلَّط على بني آدم يجري منهم مجرى الدم إلا من عصمه الله منه، ومن أنكر ذلك فهو من الفرق الهالكة»([53]).
ونعلم أن ابن آدم يتوارد عليه وارِدٌ من الملك، ووارِدٌ من الشيطان، وبيَّن لنا نبينا صلى الله عليه وسلم كيف نتقي وارد الشيطان، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ، وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ المَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ الأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء} الآيَةَ [البقرة: 268]»([54]).
ونؤمن أن الله يحفظ عباده المؤمنين من كيد الشياطين ما داموا يستغفرون، ففي «المسند»: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: وَعِزَّتِكَ يَا رَبِّ، لَا أَبْرَحُ أُغْوِي عِبَادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ، قَالَ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي»([55]).
ونعلم أن الشيطان يتمثل بصورة الآدمي أو بما يأذن الله له فيه من الصور، ففي «صحيح البخاري» عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -فَذَكَرَ الحَدِيثَ- فَقَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ، لَنْ يَزَالَ عَلَيْـكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، ذَاكَ شَيْطَانٌ»([56]).
وقد كان أهل الجاهليـة -لفرط جهلهم- يعوذون بسادات الجن، فلا يزيدهم ذلك إلا خوفًا ورهقـًا، قال الله تعالى مخبرًا عن ذلك: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6].
ونؤمن أن عُبَّاد الأوثان إنما يعبدون الجن، قال تعالى مخبرًا عن حقيقة معبوداتهم: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُون * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُون} [سبأ: 40، 41].
ونعلم أن الشـيطان يغـري الإنسان بالكفر، ثم يتخلى عنه في الدنيا، كما قـال تعالى مخبرًا عنه: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِين} [الحشر: 16]، وكما يغريه بالكفر يغريه بالسحر، ويعلّمه إياه، قال الحق مخبرًا عن ذلك: {وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102].
ونعلم أن الشيطان يتخلى عن أوليائه في الآخرة، ويلومهم على اتباعهم له، قال الحق مخبرًا عن الشيطان أنه يقوم خطيبًا فيهم في نار جهنم: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} [إبراهيم: 22].
بــاب
ونؤمن أن الله أخبر ملائكته أنه سيجعل في الأرض خليفة لعمارتها بالعبادة، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون} [البقرة: 30]، وبيَّن الحق أنه خلق آدم من تراب، قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون}، وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ عز وجل خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ. جَاءَ مِنْهُمُ الْأَبْيَضُ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ»([57]). وهذا التراب جعله الله طينًا، ثم خلقه أطوارًا، قال الحق: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُون * وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُوم * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُون * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِين * فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُون} [الحجر: 26-30]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِين} [المؤمنون: 12]. وقال المولى عز شأنه: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِب} [الصافات: 11].
وقال الإمام أحمد رحمه الله - بعد أن ساق الآيات التي ورد فيها ذكر خلق آدم عليه السلام : «نقول: هذا بدء خلق آدم، خلقه الله أول بدئه من تراب، ثم من طينة: حمراء، وسوداء، وبيضاء، ومن طينة طيبة وسبخة، فلذلك ذريتهُ طيبٌ، وخبيث، أسود وأحمر وأبيض، ثم بلَّ ذلك التراب فصار طينًا، فذلك قوله: {مِّن طِين} فلما لصق الطـين بعضه ببعض، فصار([58]) طينًا لازبًا - يعني لاصقًا - ثم قال: {مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِين} ، يقول: مثلُ الطين، إذا عُصر انسلَّ من بين الأصابع، ثم نتن فصار حمأً مسنونًًا، فخلق من الحمأ، فلما جفَّ صار صلصالًا كالفخار، يقول: صار له صلصلة كصلصلة الفخار، يقول: له دويٌّ كدويِّ الفخار. فهذا بيان خلق آدم. وأما قوله: {مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّاء مَّهِين} [السجدة: 8]، فهذا بدء خلق ذريته، من {سُلاَلَةٍ} يعني النطفة إذا انسلَّت من الرّجل، فذلك قوله: {مِّن مَّاء} ، يعني النطفة، {مَّهِين} يعني: ضعيف»([59]).
ونؤمن أن الله خلق آدم بيده الشريفة، وأسجد له ملائكته، قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِين * فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُون} [الحجر: 29، 30]، وقال صلى الله عليه وسلم: «يَجْتَمِعُ المؤمِنُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ أَبُو النَّاسِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ»([60]).
ونؤمن بأن الله خلق آدم عليه السلام على صورته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا»([61])، وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ؛ فَإِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ»([62])، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَجَنَّبِ الْوَجْهَ، وَلَا يَقُلْ: قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَكَ وَوَجْهَ مَنْ أَشْبَهَ وَجْهَكَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ»([63]).
ونؤمن أن الله خلق لآدم من نفسه زوجًا ليسكن إليها، وهي حواء، قال الحق جل في علاه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء} [النساء: 1].
ونؤمن أن الله خلق آدم وحواء، وأسكنهما الجنة، قال تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35]، ونهاهما عن الأكـل من الشجرة فوسوس لهما الشـيطان -حسدًا لهما- فأكلا منها، فأخرجهما الله من الجنة، وأهبطهما إلى الأرض، قال الحق مخبرًا عن ذلك: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِين * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِين * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِين * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِين * قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين
* قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُون} [الأعراف: 19-25].
ونؤمن أن الله جعل آدم خليفة في الأرض، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون} [البقرة: 30].
وقد ابتلاه فنسي ثم عصى، ثم اجتباه ربه وهداه، قال الحق: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115]، ثم تلقى آدم من ربه كلمات، فكانت سببًا لمغفرة الله له وتوبته عليه، قال المولى عز شأنه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم * قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون} [البقرة: 37، 38].
ونؤمن أن كل ذلك قد كتبه الله على آدم قبل أن يخلقه بأربعين سنة، ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الجَنَّةِ، قَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى» ثَلَاثًا([64]).
ونؤمن أن بدء خلق ذرية آدم هو كما أخبر الله عنه بقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5]، وقال الحق جل شأنه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِين * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِين *ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين} [المؤمنون: 12-14]. وعن عبد الله رضي الله عنه قال: حدثنا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ - قَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ»([65]).
وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم كيف ينزع الولد تارة إلى أبيه، وتارة إلى أمه، حينما سأله عبدالله بن سلام فقال: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ، مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الجَنَّةِ؟ وَمَا بَالُ الوَلَدِ يَنْزِعُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ؟ قَالَ: «أَخْبَرَنِي بِهِ جِبْرِيلُ آنِفًا»، قَالَ ابْنُ سَلَامٍ: ذَاكَ عَدُوُّ اليَهُودِ مِنَ المَلَائِكَةِ، قَالَ: «أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُهُمْ مِنَ المشرِقِ إِلَى المغربِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ الحُوتِ، وَأَمَّا الوَلَدُ فَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ المرأةِ نَزَعَ الوَلَدَ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ المرأةِ مَاءَ الرَّجُلِ نَزَعَتِ الوَلَدَ». قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ([66]).
ونؤمن أن الناس كلهم من ذرية آدم، وآدم من تراب، فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، قال الحق جل شأنه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير} [الحجرات: 13]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ...»([67]).
ونؤمن أن الله خلق آدم من تراب، وخلق له من نفسه زوجًا هي حواء عليهما السلام، وخلق بقية البشر من ماء مهين، إلا عيسى عليه السلام فقد خلقه الله من أم بلا أب، كما أخبر الله عنه بقوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِين * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِين * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُون} [آل عمران: 45-47].
ونؤمن بأن عيسى عليه السلام - وإن كان خلقه عجيبًا - فهو عبدالله ورسوله، قال الحق جل شأنه: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيل} [الزخرف: 59]، فهو بشر من البشر، يأكل الطعام، وليس بإله، قال الله تعالى: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُون} [المائدة: 75].
ونجد في كتاب ربنا أن الله رد على من زعم أن المسيح إله بأدلة كثيرة([68])، ومن هذه الأدلة: قول الحق تبارك وتعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون} [المؤمنون: 91]، وقوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [المائدة: 17].
ونؤمن أن الله خلق الناس على الفطرة، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون} [الروم: 30]. قال ابن زيد، ومجاهد، وعكرمة: الفطرة: الإسلام([69]).
وقال ابن عبـاس رضي الله عنهما، وإبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، وابن زيد في قوله: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}: «أي: لدين الله»([70]). وبوّب البخاري في «صحيحه»، فقال: «باب {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} لدين الله، {خُلُقُ الأَوَّلِين}: دين الأولين، والفطرة: الإسلام».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ البَهِيمَـةِ تُنْتَجُ البَهِيمَةَ، هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ؟». ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]»([71]).
وعن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: «أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ، مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا...»([72]).
ونؤمن أن الله خصم منكري البعث بأن ذكّرهم ببداية خلقهم من تراب، فقال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيم * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيم} [يس: 78، 79].
كما ذكّرهم بأنه خلقهم من ماء مهين، فكيف يسـتكبرون على ربهم، ويسـتبعدون نشـرهم وحشرهم؟! قال الحـق جل جلاله: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِين * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّاء مَّهِين * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُون * وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُون * قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون} [السجدة: 7-11].
ونؤمن أن خَلْقَ الله تعالى للعباد دليل على أنه وحده المستحق للعبادة، قـال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة: 21].
كما أخبرنا الله في القرآن الكريم أن نوحًا ذكَّر قومه بأن الله خلقهم أطوارًا، فكيف لا يرجون له وقارًا؟! قال تعالى: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 13، 14].
وللإنسان أحـوال في البرزخ وفي الدار الآخرة سـيأتي تفصيلها -إن شاء الله- في كتاب الإيمان باليوم الآخر([73]).
بــاب
ونعلم أن الروح من أمر الله، وأن البشر لا يعلمون من شأنها إلا ما أطلعهم الله عليه، قال الحق جل شأنه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا} [الإسراء: 85]، وعن عبدالله رضي الله عنه قال: «بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَرْثٍ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ، إِذْ مَرَّ اليَهُودُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَقَالَ: مَا رَأْيُكُمْ إِلَيْهِ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَسْتَقْبِلُكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَقَالُوا: سَلُوهُ، فَسَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقُمْتُ مَقَامِي، فَلَمَّا نَزَلَ الوَحْيُ، قَالَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} »([74]).
ونؤمن أن الأرواح مخلوقة، قال الحق جل شأنه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل} [الزمر: 62]. ولما أتمّ الله خلق آدم عليه السلام نفخ فيه من روحه، قال المولى عز شأنه: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِين} [الحجر: 29]. وإذا تم الجنين في بطن أمه أربعـة أشهر أرسـل الله إليه الملك، فنفخ فيه الروح، فعن عبدالله رضي الله عنه قال: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ الصَّادِقُ المصدُوقُ - قَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعٍ: بِرِزْقِهِ وَأَجَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ»([75])، إلا المسيح عليه السلام فكان بدء حمله من نفخة الملك، قال الحق - وقوله الحق: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِين} [الأنبياء: 91]، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} [النساء: 171].
ونؤمن أن الأرواح تقبض أثناء النوم، ثم تعاد إلى الجسد، قال الحق جل شأنه: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42].
وعن عبدالله ابن أبي قتادة عن أبيه رضي الله عنه قال: سِرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً، فَقَالَ بَعْضُ القَوْمِ: لَوْ عَرَّسْتَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «أَخَافُ أَنْ تَنَامُوا عَنِ الصَّلَاةِ»، قَالَ بِلَالٌ: أَنَا أُوقِظُكُمْ، فَاضْطَجَعُوا، وَأَسْنَدَ بِلَالٌ ظَهْرَهُ إِلَى رَاحِلَتِهِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ، فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَالَ: «يَا بِلَالُ، أَيْنَ مَا قُلْتَ؟» قَالَ: مَا أُلْقِيَتْ عَلَيَّ نَوْمَةٌ مِثْلُهَا قَطُّ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ، وَرَدَّهَا عَلَيْكُمْ حِينَ شَاءَ»([76]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي، وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ»([77]).
ونؤمن أن الروح تفارق البدن عند الموت، قال الحق: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُون} [العنكبوت: 57]. فهي تفارق البدن مفارقة تامة بالموت، ويتبعها البصر، فعن أم سلمة قالت: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ، فَأَغْمَضَهُ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ...»([78])، فهي لا تموت كموت البدن، وإنما موتها مفارقة البدن.
ونؤمن أن الملائكة تستخرج الأرواح من الأبدان عند الموت، ويقع عليها النعيم أو العذاب، قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُون} [الأنعام: 93].
فالملك يستخرج النفس، ثم يقع عليها العذاب أو النعيم، كما يقع على الجسد، فعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ، وَلَمَّا يُلْحَدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، كَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِنَا الطَّيْرَ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ عليه السلام حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ». قَالَ: «فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا، فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ»، قَالَ: «فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ - يَعْنِي: بِهَا - عَلَى مَلَإٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ، فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى». قَالَ: «فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ...»([79]). فذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الروح تخرج، وتسيل، وتُقبض، وتُكفن، ويُعرج بها، وتُعاد، وهذا كله شأن المخلوق.
ونؤمن أن الأرواح بعد مفارقة البدن، تستقر في نعيم أو عذاب إلى يوم القيامة، فعن كعب بن مالك رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ عز وجل إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»([80]).
وعن مسروق قال: سألنا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآية: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون} [آل عمران: 169]. قَـالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ...»([81]).
ونؤمن أن الله رضي الإسلام دينًا، وهو دين كل الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهو الميثاق الذي أخذه الله على آدم وذريته.
ونؤمن أن هذا الإسلام هو وصية إبراهيم عليه السلام لبنيه، وهو وصية يعقوب عليه السلام لبنيه أيضًا، وهو أحسن الأديان وأكملها وأتمها، وأن الله لا يقبل دينًا سواه.
ونؤمن أن هذا الدين هو الدين الذي نزل به جبريل الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم، وله مراتب هي: الإسلام، والإيمان، والإحسان، ولكلٍّ منها أركان.
وأن هذا الدين جامع لكل خير، شامل لأعمال القلوب والجوارح.
ونعلم أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، وأن أهله يتفاضلون في أعمالهم. ونؤمن أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
ونشهد أن أهل الإيمان هم أهل الفوز في الدنيا والآخرة، وأن أهل هذا الدين الحق، مآلهُم الجنة على اختلاف درجاتهم ومراتبهم.
ونعلم أنه قد تواردت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة على الأمر بلزوم السنة والتمسُّك بها، والتحذير من مخالفة ذلك كما نهت عن التفرُّق والاختلاف.
بــاب
ونؤمن أن الله رضي الإسلام دينًا، قال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3].وقال الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19]، وهو دين جميع الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، قال تعالى مخبرًا عن نوح عليه السلام أنه قال: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِين} [يونس: 72]، وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام : {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِين}.
ونؤمن أن الله تعالى قد أكمل لنا الدين، فليس فيه نقص بوجه من الوجوه، قال سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]، وهو أحسن الأديان وأكملها، وأتمها، وهذا الدين هو الحنيفية، ملة إبراهيم عليه السلام ، قال الحق جل شأنه: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} [النساء: 125]، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين} [البقرة: 130]. وقال الحق جل شأنه وتقدست أسماؤه في إبراهيم الخليل عليه السلام : {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين} [آل عمران: 67].
وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون} [الروم: 30].
وقال صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ البَهِيمَةِ تُنْتَجُ البَهِيمَةَ، هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ»، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30] ([82]). وهو الميثاق الذي أخذه الله على آدم وذريته، قال الحق جل شأنه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين} [الأعراف: 172].
ونؤمن أن الله لا يقبل دينًا سواه قال المولى سبحانه وتعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين} [آل عمران: 85].
بــاب
ونؤمن أن هذا الدين هو الدين الذي نزل به جبريل الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم، وأن له مراتبَ هي: الإسلام والإيمان والإحسان، ولكل منها أركان، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ، وَيُصَدِّقُهُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ، قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ، قَالَ: «مَا الْمَسْؤولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ». قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا، قَالَ: «أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ»، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا عُمَرُ، أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟» قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ»([83]).
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أركان الإسلام في أحاديث أخرى، فقال: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ»([84]). وعن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ، يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ، وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ». فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ». قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَصِيَامُ رَمَضَانَ». قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ». قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ». قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ»([85]).
وقال الحق جل شأنه: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة} [البينة: 5]. وقال عز من قائل: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم} [التوبة: 5]، وقال الحق سبحانه وتعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]. وقال صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»([86]).
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «مَنْ سَلِمَ المسلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»([87]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَسْلَمَ العَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ القِصَاصُ: الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا»([88]).
بــاب
ونؤمن أن المرتبة الثانية من مراتب الدين هي: الإيمان، وهو كما جاء في جواب النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام حينما سأله عن الإيمان قال: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»، قَالَ: صَدَقْتَ، ... قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟» قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ»([89]).
والإيمان وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد فسره في حديث جبريل عليه السلام السابق بمعنى خاص وهو قوله: «تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»؛ إلا أنه يأتي أيضًا بمعنى أعم فهو جامع لكل خير، شامل لأعمال القلوب والجوارح، قال الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون * أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم} [الأنفال: 2-4].
وفسره النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبدالقيس بالشعائر الظاهرة، ففي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ القَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنِ القَوْمُ؟ -أَوْ مَنِ الوَفْدُ؟-» قَالُوا: رَبِيعَةُ. قَالَ: «مَرْحَبًا بِالقَوْمِ، أَوْ بِالوَفْدِ، غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ، نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، وَنَدْخُلْ بِهِ الجَنَّةَ، وَسَأَلُوهُ عَنِ الأَشْرِبَةِ، فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَع: أَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ المغنَمِ الخُمُسَ». وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: «عَنِ الحَنْتَمِ([90])، وَالدُّبَّاءِ([91])، وَالنَّقِير([92]ِ)، وَالمزفَّتِ، وَرُبَّمَا قَالَ: المقيَّرِ» وَقَالَ: «احْفَظُوهُنَّ، وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ»([93]).
وبوّب البخاري رحمه الله في «صحيحه» بابًا لهذا، فقال: «باب أمور الإيمان، وقول الله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون} [البقرة: 177]».
ونؤمن أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، قال صلى الله عليه وسلم: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ -أوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ- شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ»([94]).
ونؤمن أن أهل الإيمان يتفاضلون في أعمالهم، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَدْخُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ. فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا قَدِ اسْوَدُّوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الحَيَا، أَوِ الحَيَاةِ -شَكَّ مَالِكٌ- فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الحبَّةُ فِي جَانِبِ السَّيْلِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهَا تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً؟!»([95]).
وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ، وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ». قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الدِّينَ»([96]).
ونؤمن أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13]، وقال: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31].
وقال صلى الله عليه وسلم: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ»([97]).
وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى عدي بن عدي: «إِنَّ لِلْإِيمَانِ فَرَائِضَ، وَشَرَائِعَ، وَحُدُودًا، وَسُنَنًا، فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الإِيمَانَ، فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ»([98]).
وكان معمر، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، وابن جريج، وسفيان بن عيينة يقولون: «الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص»([99]).
وقال الحافظ أبو بكر عبدالله بن الزبير الحُميديُّ: «.. وأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ولا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل وقول إلا بنية، ولا قول وعمل ونية إلا بسنة»([100]).
وقال الخلال: «أخبرني عبدالملك الميموني قال: قال لي يعلى بن عبيد منذ أكثر من ستين سنة: الإيمان قول وعمل، وإن الذي يصوم ويصلي ويفعل الصالحات أكثر إيمانًا من الذي يسرق ويزني»([101]).
وقال ابن أبي حاتم: «سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك، فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار -حجازًا، وعراقًا، وشامًا، ويمنًا- فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص»([102]).
وقال اللالكائي: «الإيمان قول وعمل، وبه قال من الفقهاء: مالك بن أنس، وعبدالعزيز بن أبي سلمة الماجشون، والليث بن سعد، والأوزاعي، وسعيد بن عبدالعزيز، وابن جريج، وسفيان بن عيينة، وفضيل بن عياض، ونافع بن عمر الجمحي، ومحمد بن مسلم الطائفي، ومحمد بن عبدالله ابن عمرو بن عثمان بن عفان، والمثنى بن الصباح، والشافعي، وعبدالله ابن الزبير الحميدي، وأبو إبراهيم المزني، وسفيان الثوري، وشريك، وأبو بكر بن عياش، ووكيع، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، ويحيى بن سعيد القطان، وعبدالله بن المبارك، وأبو إسحاق الفزاري، والنضر بن محمد المروزي، والنضر بن شميل، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وأبو عبيد»([103]).
وقال أبو عبدالله بن أبي زمنين في كتابه «أصول السنة»: «باب في أن الإيمان قول وعمل: ومن قول أهل السنة: إن الإيمان إخلاص لله بالقلوب، وشهادة بالألسنة، وعمل بالجوارح، على نية حسنة، وإصابة السنة»([104]).
بــاب
ونؤمن أن المرتبة الثالثة من مراتب الدين هي: الإحسان، وهو كما جاء في جواب النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل حينما سأله عن الإحسان، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ، قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ...». قَـالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟» قُلْتُ: اللهُ وَرَسُـولُهُ أَعْلَمُ، قَـالَ: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ»([105]).
وأخبر الحق جل شأنه أن أهل هذا الدين الحق، مآلهُم الجنةُ على اختلاف درجاتهم ومراتبهم -سواء منهم من كان من أهل الإسلام، ومن كان من أهل الإيمان، ومن كان من أهل الإحسان- فقال المولى عز شأنه وتعالى سلطانه: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِير * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِير * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُور} [فاطر: 31-34].
بــاب
وقد تواردت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة على الأمر بلزوم السنة والتمسُّك بها، والتحذير من مخالفة ذلك والنهي عن التفرُّق والاختلاف، قال اللَّه تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]، وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»([106]).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى»([107]).
وعن الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رضي الله عنه قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»([108]).
وقال البخاري في «صحيحه» في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول الله سبحانه وتعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]، قال: أئمة نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا من بعدنا، وقال ابن عون: «ثلاث أحبهن لنفسي ولإخواني: هذه السُنَّة أن يتعلموها ويسألوا عنها، والقرآن أن يتفهموه ويسألوا عنه، ويَدَعوا الناس إلا من خير»([109]).
ونؤمن بأن الله هو الأول، فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وعرّفنا بنفسه أنه هو الذي خلق السموات والأرض، وأنه هو المالك الحق للسموات والأرض، وأنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل سبحانه وتعالى، وأن هذا الكون المشهود شاهد على أنه هو الموجِد الخالق له وحده ولا خالق معه.
وذكر من آياته الدالة على أنه هو الموجد الخالق لهذا الكون دلائلَ كثيرةً لا يُحاط بها، وأقام الحجة علينا بما نراه في أنفسنا وبما نراه مِنْ حولنا.
ونؤمن بما آمنت به الأنبياء والمرسلون، ونستيقن بما أتوا به من الأدلة والبراهين الدالة عليه سبحانه وتعالى.
ونؤمن أن الله هو الخالق، ولم يخلق خلقه عبثًا؛ بل كان خلقًا محْكمًا لغاية عظيمة.
إلى غير ذلك مما ورد كثيرًا في القرآن الكريم -كما في «سورة الأنعام» و«النحل» وغيرهما- من الدلائل التي لا تحصى، والشواهد التي لا تحصر، وكلها دالة على وجوده وربوبيته، وهي دلائلُ عقليةٌ، وبراهينُ عظيمةٌ، لا يستطيع أحد أن يـأتي بمثلها أو قريب منها، وهي في تنوُّعها مناسبة لجميع الخلق، كافية في إقامة الحجة عليهم، ولو جحد الكافرون، وكره المبطلون، وهل عند الكافر دليل إلا الإنكار والجحود؟!
ونؤمن بأن الله واحد في ربوبيته، وبأنه هو الخالق وحده، وهو الذي بدأ الخلق ولم يشاركه فيه أحد، وأن الله يخلق بأمره سبحانه وتعالى، ويخلق سبحانه وتعالى بما يشاء من الأسباب، وأن كل ما سواه مخلوق.
ونؤمن بأن الله رب كل شيء وخالقه ومدبره، ومالكه، وهو المتصرف فيه، ولا يملك أي مخلوق تدبير أمر نفسه، أو تدبير أمر غيره إلا ما أقدره الله عليه.
ونؤمن بأنه هو المالك الحق، وما سواه مملوك، وكل مَلِكٍ فملكه باطل أو مؤقت زائل.
ونؤمن أن الله هو المحيي المميت وحده سبحانه، وأنه هو الذي خلق الموت والحياة، وأنه هو الذي يتوفى الأنفس.
ونؤمن أنه هو الرزاق ذو القوة المتين، فلا رازق غيره، ولا كافي سواه. ونؤمن بأنه سبحانه قد أحاط بكل شيء علمًا، فلا يعزب عن علمه صغير أو كبير، وأنه سبحانه وتعالى عالم الغيب والشهادة.
ونؤمن بأنه تعالى قد قهر كل شيء عزة وحكمًا.
ونؤمن بأن الرب جل شأنه له الخلق والأمر، فلا رب سواه، ولا مشرِّع غيره، فهو الذي خلق الخلق، وشرع الشرائع، وفرض الفرائض، وبيَّن الدين، وهو المالك لهم، وهو القادر وحده على حسابهم وجزائهم.
ونؤمن بأن الرب جل شأنه خالق العباد، وخالق أفعالهم.
ونؤمن أن الإيمان بربوبية الله فقط لا يكفي الإنسان لأن يكون مؤمنًا، وهذا الإيمان لا يدخل صاحبه الجنة؛ لأنه لم يؤمن أن الله هو المعبود الحق، وألا يعبد إلا الله وحده.
ونؤمن بأن الله واحد في ألوهيته، وأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنه هو الحق، وأن ما يدعون من دونه الباطل. وهذا الأمر العظيم هو الذي من أجله أنزل الله الكتب، وأرسل الرسل، وخلق الجنة والنار، وأجمعت عليه جماهير علماء الأمة، ودلت عليه الفطرة، وشهدت له العقول السليمة. ونعلم علم اليقين أن أساس دعوة الأنبياء لأقوامهم هي: دعوتهم لعبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه.
والعبادة الحقة هي ما كانت لله رب العالمين، موافقة لهدي سيد المرسلين؛ لأن عبادة كل معبود سواه باطلة.
وهذا الركن الركين والأساس المتين من دين الله - وهو إثبات الألوهية لله وحده ونفي العبادة عما سواه- هو قطب رَحَا الدين، وعماد دعوة المرسلين، ومعناها: إفراد الخالق بأعمال الخلق.
وفي القرآن كثيرًا ما يحتجُّ الله على العباد بآيات ربوبيته التي تستلزم عبادته وحده، سبحانه وتعالى.
ونؤمن بأن الخالق لهذه الآيات الكونية الكبرى هو وحده سبحانه، وكما أنه ليس معه خالق فلا ينبغي أن يُعْبد غيره.
وقد نوَّع الله في الأدلة التي نصبها شواهدَ على ألوهيته تنويعًا تقوم به الحجة، وتتضح به المحجة؛ لئلا يكون للناس على الله حجة.
والإقرار لله بالألوهية، مع الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة هو الذي جعله الله حدًّا في عصمة الدماء، وحفظ الأنفس.
ولا بد مع الإيمان بالله من الكفر بالطاغوت، والبراءة من الشرك وأهله.
وهذا الإيمان لا يكفي أن يكون في القلب، بل لا بد أن ينطق به اللسان، ولا يتحقق الإيمان حتى تعمل به الجوارح، ويتفاوت الإيمان في القلب زيادة ونقصًا.
وهذا الإيمان لا بد أن يكون العبد فيه مخلصًا لله رب العالمين، وأن يكون مستيقنًا غير شاكٍّ، وأن يكون إيمانه عن علم وإخلاص وقبول، واستسلام وانقياد وصدق في قوله وفعله واعتقاده، مع الحب لهذا الدين، ومَنْ شرعه، ومَنْ جاء به، ومَنْ دان به.
وكما بيَّن الله حقيقة الإيمان ومقتضاه وأركانه وشرائطه، فقد نقض شُبَه المشركين المعاندين، وبين أن ليس لهم حجة في شركهم؛ لأن هؤلاء الأنداد مخلوقون مُدَبَّرون لا يخلقون شيئًا، ولا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.
وبين الحق أن هؤلاء الأنداد المعبودين من دون الله لا يسمعون دعاء من دعاهم، ولو سمعوا ما استجابوا لهم، ويوم القيامة يكفرون بشركهم، ويتبرؤون منهم.
كما بين الحق أن هؤلاء الأنداد المعبودين من دون الله لا ينفعون ولا يضرون، فكيف يُعْبدون من دون الله؟!
وأبطل الله عبادة الملائكة، وبين أنهم -مع أنهم مقربون لله- لا يشفعون إلا من بعد إذنه، فإذا كانت هذه حال الملائكة، فكيف يُعْبدون من دون الله؟!
والأنبياء والمرسلون عليهم السلام -مع علو مقامهم في الدنيا والآخرة- لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، فكيف بمن دونهم؟!
ونؤمن بأن الله واحد في صفاته ونعوت كماله وجلاله سبحانه وتعالى، وأن الله سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى والصفات العلى، تشهد له بذلك العقول الكاملة، وتسلم له بذلك الفِطَر السليمة، وأجمع على ذلك علماء أمة الإسلام، بل كل الرسالات الإلهية جاءت ببيان صفات الله وأسمائه وأفعاله سبحانه وتعالى، وعاب الله آلهة المشركين بأنها لا تسمع ولا تبصر.
ونؤمن أنه كما وصف نفسه، وكما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فنثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وننفي عنه ما نفاه عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تعطيل ولا تمثيل، ولا تكييف ولا تحريف.
ونعلم علم اليقين أن ربنا متصف بصفاته قبل أن يَخْلق الخلق، وأنه على غاية الكمال والجلال والجمال منذ الأزل إلى الأبد؛ إذ هو الأول والآخر، فهو أول ليس قبله شيء، وآخر ليس بعده شيء، فهو الأول بأسمائه وصفاته كمالًا ومجدًا، وهو الآخر بأسمائه وصفاته كمالًا ومجدًا.
ونؤمن أن من صفات الله صفاتٍ ملازمةً لذاته، كالحياة، والعلم، والسمع، والبصر، واليد، والأصابع، وأن من صفاته صفاتٍ متعلقةً بمشيئته، كالغضب، والرضى، والنزول.
ونؤمن أنه الفعال لما يريد، فهو يفعل متى شاء ما يشاء كيفما يشاء، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، لا راد لأمره، ولا معقب على قضائه وحكمه.
ونؤمن أن صفات الله منها ما ورد مطلقًا، فنصف الله به على إطلاقه، كالسمع، والحياة، والبصر، وغيرها، ومنها ما ورد مقيدًا، فيبقى على تقييده، كوصفه سبحانه بأنه يمكر بأعدائه إذا مكروا، وينسى أعداءه إذا نسوه.
ومن صفاته سبحانه وتعالى: العلم، والسمع، والبصر، والحياة، والقيومية، والكلام، وهو موصوف بالكلام قبل أن يَخْلق الخلق ويكلمهم، وكلام ربنا متعلق بمشيئته، فمتى شاء تكلم. وقد ورد الخبر عن صفة الكلام لله في القرآن على أوجه متعددة، فورد أنه يكلم عباده، ويناجي وينادي من شاء منهم، ويكلم الخلائق يوم القيامة، وتسمع الخلائق يوم القيامة كلام الله.
ونؤمن أن الله سبحانه وتعالى قد احتجب عن خلقه بحجاب من نور، فلا يرونه في الدنيا، وإن كان بعض أنبيائه سمعوا كلامه لما كلمهم من وراء حجاب، كما كلم موسى عليه السلام .
وكلام ربنا يوصف بأن بعضه أحدث من بعض، وبعضه أفضل من بعض.
ومن كلامه: القرآنُ، وكلُّ الكتب الإلهية المنزلة على رسله، كصحف إبراهيم وموسى عليهما السلام، والتوراة، والإنجيل، والزبور - كلها كلام الله، وكلها تكلم الله بها، وسمعها جبريل منه بلا واسطة، وجبريل تنزّل بها على أنبياء الله ورسله عليهم السلام. وتميزت التوراة بأن الله أنزلها مكتوبة في الألواح- وكلام الله وكلماته غير مخلوقة، وكلام الله غير خلقه، ألا ترى أنه فصل بين الخلق والأمر، ونفرق بين كلمات الله الكونية، وكلماته الشرعية.
ومن صفاته سبحانه وتعالى: العزة، والقهر، والجبروت، والملكوت، والكبرياء، والعظمة، والإرادة، والمشيئة، والقدرة، والرحمة، فهذه الرحمة صفة من صفاته، وهي مضافة إلى الله إضافة الصفة إلى الموصوف.
ومن صفاته: العلو، وهو علو القهر، وعلو القدر، وعلو الذات، فالثلاثة كلها صفته دالة على كماله، وقد دل القرآن العظيم والسنة النبوية الشريفة والعقل والفطرة على العلو بأوجه متعددة، بل الأدلة الدالة على أن الله في العلو أنواع كثيرة، وتحت كل نوع أفراد كثيرة لا تحصى.
ومن صفاته سبحانه وتعالى: الاستواء على العرش وقد ذكره الله في سبعة مواضع من كتابه.
ومن صفاته سبحانه: المحبة. ومن صفاته: الرضى. ومن صفاته: كراهيته لأعدائه؛ ذلك لأنهم كرهوا رضوانه، وكرهوا ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن صفاته: الغضب على أعدائه والمقت: وهو مقته للكافرين.
ومن صفاته: مكره بأعدائه الذين يمكرون بأوليائه. ومنها: الأسف، وهو أشد الغضب. ومن صفاته: مخادعة من يخادعه، فالله يخادع المنافقين الذين يخادعونه. ومن صفاته جل وعلا، أنه يستهزئ بمن يهزأ به، سبحانه وتعالى.
ومن صفاته: الضحك، والعَجَب، والمجيء والإتيان يوم القيامة لفصل القضاء بين الناس.
ونؤمن بصفة النزول، وأن ربنا ينزل إلى السماء الدنيا نزولًا حقيقًّا يليق بجلاله وعظمته، وهو ليس كنزول المخلوقين، بل هو كسائر صفاته التي نؤمن بها، ونعلمها، ولا نتمحل في تكييفها، أو نتكلف في ردها؛ بل نؤمن بها كما أخبرنا بها رسولنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
ونؤمن بصفة المعية لله رب العالمين، وأن الله مع خلقه. وهذه المعية نوعان: معية خاصة، وهذه تكون لأولياء الله ورسله عليهم السلام، ومقتضاها النصر والتأييد، ومعية عامة مع الخلق كلهم، مؤمنهم وكافرهم، ومقتضاها: العلم، والإحاطة، والقدرة، والسلطان.
وهذه المعية لا توجب حلولًا ولا اختلاطًا، ولا تنافي علوَّ الله تعالى؛ لأن معناها بإجماع أهل العلم: العلم والإحاطة؛ أي: أن الله تعالى معنا بعلمه وإحاطته وقدرته.
ونثبت لله وجهًا يليق بجلاله وعظمته، ويدًا تليق بجلاله وكماله، وقد ورد الخبر عنها في القرآن والسنة على أوجه متعددة، فقد ورد ذكر اليد مثناة، وأن الله يقبضها ويبسطها، وأن الرب يطوي بها السموات، والأرض في قبضته سبحانه وتعالى، وأن اليد موصوفة بأنها ذات أصابع. وكل ذلك يثبت أن اليد التي ورد وصفها في القرآن والسنة يد حقيقية تليق بجلاله، لا نتكلف في تأويلها، أو تشبيهها، أو تحريف الآيات والأحاديث الدالة عليها. ومن صفاته: صفة الأصابع.
ونؤمن برؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وهذا مما دل عليه الكتاب، وتواترت به الأخبار عن رسولنا صلى الله عليه وسلم فيما بشَّر به المؤمنين أنهم يرون ربهم عِيانًا يوم القيامة.
وكما وصف نفسه بصفات الكمال والجمال والجلال والعزة والكبرياء، فقد نفى عن نفسه صفات النقص، وليس النفي في الصفات هو الأصل في القرآن والسنة؛ لأن الأصل هو إثبات الصفات، والقرآن والسنة مملوءان ببيان صفات الله عز وجل كما ينبغي لجلاله وعظمته وكماله، والرب سبحانه وتعالى إذا نفى عن نفسه صفة فإنما ينفيها؛ لبيان الكمال في ضدها، أو لأن البشر نسبوا النقص إلى ذي العزة والكمال، فينفي الرب النقص المنسوب إليه.
ونؤمن أن الله سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى، وأن أسماءه قد بلغت الغاية في الحسن، فلا أحسن منها، وكل اسم يشتق لله منه صفة، وأسماؤه لا حصر لها.
وحذرنا ربنا من الإلحاد في أسمائه، أو إنكارها، أو جحود معانيها، أو تعطيلها.
وما ورد في القرآن والسنة من أسماء الله وصفاته أعظم من أن يحيط به كتاب، ونحن نؤمن بهذه الأسماء والصفات على مراد ربنا، وعلى مراد رسولنا صلى الله عليه وسلم، ونعلم أن حقائقها لا يعلم بها البشر، ولا يحيطون بها، ولا تبلغها أفهامهم، ولا نتكلف في تأويلها.
بــاب
ونؤمـن بأن الله هـو الأول فليس قبله شيء، قال الله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحـديد: 3]، وقال صلى الله عليه وسلم: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء»([111])، أخرجه البخاري من حديث عمران بن حصين، وفي رواية له -أيضًا: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء»([112]). وعرّفنا بنفسه أنه هو الذي خلق السمواتِ والأرضَ، وأنه مالك السموات والأرض، وأنه يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُور * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} [الحديد: 4- 6].
وأكَّد الحق سبحانه وتعالى أن هذا الكون المشهود شاهدٌ على أنه هو الموجِد الخالق له وحده، ولا خالق معه، قال الله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} [لقمان: 11]؟! ولهذا فقد ذكر من آياته الدالة على أنه هو الموجِد الخالق لهذا الكون دلائلَ كثيرةً، منها: أنه يخـرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي. ومنها: أنه خلق البشر من تراب. ومنها: أنه خلق لنا من أنفسنا أزواجًا. ومنها: اختـلاف الألسنة والألوان في المخلوقات. ومنها: منام العباد بالليل وابتغاؤهم الرزق في النهار. ومنها: أنه يجعل البرق سببًا للخوف والرجاء، وأنه ينزل الماء من السماء. ومنها: أنه هو الذي بدأ الخلق، كما قال جل ثناؤه: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُون * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُون * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِين * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُون * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون * وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُون * وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُون * وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 19-27].
ومن ذلك -أيضًا: أنه أقام الحجة على الخلق بأنه خلقهم من نفس واحدة، قال تعالى: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُون} [الزمر: 6]، فذكر بدء الخلق، وأن الأنعام كلها مخلوقة له سبحانه، ثم أقام الحجة علينا بأنه خلقنا في الأرحام في ظلمات، وأنه لا يستطيع غيره خلق النطفة إنسانًا.
فذكر في الآيات السابقة دليلًا من أعظم الأدلة على وجوده - وهو خلقه للسموات والأرض وما فيهن وما عليهن.
ومن ذلك -أيضًا: أنه أقام الحجة على الخلق بدليل عنايته بهم وبما يجدونه في أنفسهم وذرياتهم، وهو أنه أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئًا، وتعهدهم حتى تكامل خلقهم وعلْمهم، قال جل من قائل: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} [النحل: 78]. وكما أوجد كل شيء وأعدَّه، فقد هدى جميع خلقه لما فيه صلاحهم، قال تعالى مخبرًا عن فرعون أنه قال: {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه: 49]، فكان الجواب الإلهي: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50].
ونؤمن أنه سبحانه وتعالى مدَّ الأرض، وجعل الجبال فيها رواسيَ، وأنبت فيها من كل شيء موزون. فالتوازن المشهود فيها خير شـاهد على أنه هـو الموجِد، كما أن إنزال المطر على هيئة مخصوصة لا يستطيع البشـر أن ينزلوه، ولا أن يخزنوا ما نزل من السماء، فهذا شاهد على أن الموجـد هو الله الواحد القهار، قـال تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُون * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِين * وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُوم * وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِين} [الحجر: 19-22].
ونؤمن بما آمنت به الأنبياء والمرسلون، ونستيقن بما أتوا به من الأدلة والبراهين الدالة عليه سبحانه، كما أخبر الحق أن إبراهيم عليه السلام استدل على النمرود بأن الله يأتي بالشمس من المشرق وغيره لا يستطيع أن يأتي بها من المغرب، قال جل ثناؤه: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258].
كما استدل على قومه بأن الله هو الذي هداه، وأطعمه وسقاه، وإذا مَرِض شفاه، وهو الذي يميته ويحييه، فقال كما أخبر الله عنه: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِين * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِين * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِين} [الشعراء: 78-81]، وقال مخبرًا عن موسى عليه السلام أنه حاج فرعون قائلًا له: إن ربه هو: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، وجاء في التنزيل أن الله سبَّح نفسه عن كل نقص، وعرَّفنا بنفسه، فقال سبحانه وتعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 1-3].
واحتجَّ سبحانه وتعالى على أنه هو الخالق الموجِد لهذا الكون ولا خالق غيره - بأنه هو الذي أنبت الحدائق البهيجة، وأن البشر لا يستطيعون أن ينبتوا شجرها. كما احتج على ذلك بأنه جعل الأرض مستقرة، وجعل فيها أنهارًا وجبالًا راسياتٍ، وجعل بين البحرين حاجزًا؛ لئلا يختلط هذا مع هذا. وأنه هو وحده الذي يجيب المضطرَّ إذا دعاه - ولو كان غير مؤمن - وأنه هو الذي يهدي الناس في ظلمات البرِّ والبحر، وأنه هو الذي يرسل الرياح مبشرات بين يدي الغيث، وأنه هو الذي يرزقنا، لا رازق غيره، ولا رب سواه، ولا خالق غيره، قال الحق سبحانه وتعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُون * أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُون * أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُون * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُون * أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} [النمل: 60 -64].
وقال جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون * وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون} [الرعد: ٣، 4]. فأثبت الحق سبحانه وتعالى أنه هو وحده مَنْ مدّ الأرض، وخلق من كل الأشجار والثمرات زوجين اثنين، وأنه هو وحده الذي يغشي الليلَ النهارَ. واحتج على ذلك بأن القِطَع المتجاورة من الأرض تخرج ثمارًا متشابهة وغير متشابهة، وهي تسقى بماء واحد، فسبحان الله الذي لا رب غيره، ولا خالق سواه.
وبيَّن أن الجبال -مع صلابتها- فيها من بديع الخلق ما يدل على إبداع الخالق، فقال جل من قائل: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُود} [فاطر: 27].
ومن ذلك ما بينه تعالى لنا من أنه هو الذي خلق هذه العوالم كلَّها، وسخّرها للإنسان، ومن ذلك تسيير الفلك في البحر، قال الحق جل ثناؤه: {اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون * وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} [الجاثية: ١٢، ١٣].
ودلّنا سبحانه وتعالى على وجوده بأن جعل لنا من هذه الأنعام مراكبَ وملابسَ ومآكلَ ومشاربَ، وأنه يمسك الطير في جو السماء، قال الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون * وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِين * وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُون} [النحل: ٧٩-81]. فكل هذه دلائلُ شاهدةٌ على وجـوده وربوبيته، فمن الذي أوجدها إلا هو، سبحانه؟! فلا موجد غيره، ولا رب سواه.
وأقام لنا شاهدًا عظيمًا يتكرر في كل يوم، يشهد على وجوده وربوبيته سبحانه وتعالى؛ وهو: أنه هو الذي فلق الإصباح، وفلق الحبّ والنوى، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُون * فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم} [الأنعام: ٩٥، ٩٦].
وكما جعل الشمس والقمر آيتين، جعل الليل والنهار آيتين دالتين على وجوده وربوبيته، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12].
وبين الله تعالى أن جعْلَه البحر عذبًا أو أجاجًا، ويخرج منهما لحما طريًّا وحليًّا - دليل على وجوده، قال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} [النحل: 14]، وقال الحق جل شأنه: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} [الفرقان: 53].
وقد بيَّن الله تعالى أن العقول السوية تدرك أنه لا يمكن أن يُوجد هذا الكون بلا موجد، فقال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلاَفُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُون} [المؤمنون: ٨٠]، وقال جل من قائل: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلاَ يَضُرُّكُم * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُون} [الأنبياء: ٦٦، ٦٧]. فهل رأيت أكبر من هذه الدلائل الدالة على وجوده وربوبيته، سبحانه وتعالى؟!
وأنكر الله على من نسب الخلق إلى غيره، وسألهم سؤال توبيخ وإنكار: هل خُلقوا من عدم؟ أم هم الذين خلقوا أنفسهم، وخلقوا السموات والأرض؟ أم هل عندهم خزائن الله؟ أم هل هم المسيطرون؟ قال الله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُون * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُون} [الطور: ٣٥-٣٧]. وهذه الآية من أعظم الآيات الدالة على وجود الخالق؛ ولهذا ثبت أن جبير بن مطعم قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الآيَةَ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُون * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُون} قَالَ: «كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ»([113])، وكان سماع جبير رضي الله عنه لهذه الآية قبل أن يسلم، فتبين أنهم مخلوقون مربوبون مقهورون، فسبحان الله عما يصفون.
وقال الحق جل شأنه: {مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51]، فإذا جهل الإنسان خلق السموات وجهل خلق نفسه، فكيف ينكر خالقه وموجده؟!
ونؤمن أن الله لم يخلق خلقه عبثًا؛ بل خلقًا محكمًا لغاية عظيمة، قال الله جل شأنه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِين * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِين} [الأنبياء: ١٦، ١٧].
وردّ على النصارى زعمهم أن المسيح إله خالق، ورب مدبِّر لهذا الكون، وبين أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه هو الذي يصور البشر في الأرحام. وممن خلقه الله وصوره في الرحم: المسيح عليه السلام ، فقال المـولى جل شـأنه: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [آل عمـران: ٥، ٦] إلى غير ذلك مما ورد كثيرًا في القرآن الكريم -كما في «سورة الأنعام» و«النحل» وغيرهما- من الدلائل التي لا تحصى، والشواهد التي لا تحصر، وكلها دالة على وجوده وربوبيته.
بــاب
ونؤمن بأن الله واحد في ربوبيته، وبأنه هو الخالق وحده، وهو الذي بدأ الخلق لم يشاركه فيه أحد، قال الحق جل شأنه: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون} [الروم: 11]، وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُون} [يونس: 34].
وأن الله يخلق بأمره سبحانه، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} [يس: 82]. ويخلق سبحانه وتعالى بما يشاء من الأسباب، قال الحق سبحانه: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى} [طه: 53]، وقال المولى عز شأنه: {وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد: 3]، وقال الله تعالى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} [الذاريات: 49].
وأخبر سبحانه وتعالى أنه خالق كل شيء، فكل ما سواه فهو مخلوق، قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل} [الزمر: ٦٢].
ونؤمن بأن الله رب كل شيء وخالقه ومدبره، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ} [البقرة: 21، 22]. وقال الحق جل شأنه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} [يونس: 3]، فهو سبحانه وتعالى خالق السموات والأرض ومالكهما، وهو المتصرف فيهما، قال الحق جل شأنه: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون} [الزمر: 63]، ولا يملك أيُّ مخلوق تدبير أمر نفسه أو تدبير أمر غيره إلا ما أقدره الله عليه، فلا الملائكة، ولا الأنبياء عليهم السلام، ولا الأولياء يستطيعون التصرف في الكون أو جلب النفع أو دفع الضر، قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِير} [سبأ: 22].
ونؤمن بأنه هو المالك الحق، وما سواه مملوك، وكل مَلِكٍ فملكه مؤقت زائل، قال سبحانه وتعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ) [الفاتحة: 4]، وقال سبحانه وتعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [آل عمران: 26]، وما سواه مربوب مقهور، قال الله: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93].
ونؤمن بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض، وأنه يكور الليل على النهار، ويكور النهار على الليل، وأنه هو الذي سخر الشمس والقمر، كلٌّ يجري لأجل مسمًّى، قال الحق سبحانه وتعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلاَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّار} [الزمر: 5]، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نورًا، وجعل اختلاف الليل والنهار آيةً دالةً على عظمة خلقه وحُسْن تدبيره، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون * إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُون} [يونس: 5، 6]، وأنه هو الذي خلقنا من نفس واحدة، وجعل منها زوجها، وخلق الأنعام كلها، قال المولى جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُون} [الزمر: 6].
ونؤمن أنه هو الرزاق ذو القوة المتين، فلا رازق غيره، ولا كافي سواه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين} [الذاريات: 58]، وقال عز من قائل: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِين} [هود: 6].
ونؤمن بأنه سبحانه قد أحاط بكل شيء علمًا، قال الله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء} [البقرة: 255]، فلا يعزب عن علمه صغير أو كبير، قال المولى عز شأنه وتعالى سلطانه: {عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين} [سبأ: 3]، وعلمه محيط بكل شيء في هذا الكون، قال الحق جل شأنه: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين} [الأنعام: 59]، وقال -أيضًا- موضحًا جانبًا من هذا العلم المحيط: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُون} [الأنعام: 38].
ونؤمن بأنه سبحانه عالم الغيب والشهادة، قال الحق سبحانه: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَال} [الرعد: 9]، وأنه لا يُظهر على غيبه أحدًا من خلقه، إلا من ارتضى من رسول، قال سبحانه وتعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 26، 27]، وكل من ادعى علم الغيب فهو كاذب مُفْتر. والرسل لا يعلمون الغيب، وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام: 50]([114]).
ونؤمن أن الله هو المحيي المميت وحده سبحانه، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِير} [التوبـة: 116]، وقـال الحق سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُور} [الحج: 66]. وأنه هو الذي خلق الموت والحياة، قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور} [الملك: 2]، وأنه هو الذي يتوفى الأنفس، قال المولى عز شأنه: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42].
ونؤمن بأنه تعالى قد قهر كل شيء عزةً وحكمًا، كما أخبرنا ربنا تعالى بقوله: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَال} [الرعد: 15]، وقال الحق جل شأنه: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار} [غافر: 16].
ونؤمن بأنه تعالى خلق السماء، ورفعها بغير عمد، قال الله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [لقمان: 10]، وسخر للخلق ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه سبحانه وتعالى، قال الحق جل شأنه وتقدس: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} [الجاثية: 13].
ونؤمن بأن الرب جل شأنه له الخلق والأمر، قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} [الأعراف: 54]، فلا رب سواه، ولا مشرّع غيره، كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى: 13]، وقال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، فهو الذي يشرع الشرائع، ويفرض الفرائض، ويبين الدين. وأنكر الحق على من اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا، وقبلوا منهم ما شرعوا لهم من الدين، قال الله جل شأنه: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ} [التوبة: ٣١]، وقال الحق سبحانه وتعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].
وكما أنه تعالى هو الذي خلق الخلق، وهو المالك لهم، هو الذي شرع لهم الشرائع، فهو القادر وحده على حسـابهم وجزائهم، قال المولى جل شأنه: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون} [الجاثية: 22]، وقال عز من قائل: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15].
ونؤمن بأن الرب جل شأنه خالق العباد وخالق أفعالهم، قال الحق سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون} [الصافات: 96].
ونشهد للحق شهادة صدق أنه سبحانه وتعالى جعل كل آية من آياته الكونية شاهدة ودالة على أنه هو الخالق، وأكد الحق ذلك بقوله تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُون} [النحل: 17]. وقد أنكر الحق جل شأنه على من جعل له شركاء في ربوبيته أو ألوهيته؛ لأنه هو الخالق وحده جل شأنه فقال: {أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّار} [الرعد: 16].
والمشركون كانوا يؤمنون بربوبية الله، ويعلمون أن الله الخالق الرازق المحيي المميت، وأنه هو النافع الضار، وأن أصنامهم وآلهتهم لا تنفع ولا تضر، وأنها وسائلُ تقربهم إلى الله زلفى، ومع ذلك لم يقبل الله ذلك منهم، قال الله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُون * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم * وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُون} [العنكبوت: 61-63]، ومع أنهم يستغيثون بالله في الضراء، ويلجـؤون إليـه إذا مسَّهم الكرب، لم ينفعهم ذلك؛ حيث لا يزالون على شركهم وكفرهم، قال المولى جل شأنه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُون * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُون} [العنكبوت: 65، 66].
بــاب
ونؤمن بأن الله واحد في ألوهيته، وأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنه هو الحق، وأن ما يدعون من دونه الباطل، وأن هذا الأمر العظيم هو الذي من أجله أنزل الله الكتب، وأرسل الرسل، وخلق الجنة والنار، ودلت عليه الفطرة، وشهدت له العقول السليمة. ونعلم علم اليقين أن أساس دعوة الأنبياء لأقوامهم هو: دعوتهم لعبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه، قال المولى جل شأنه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون} [الأنبياء: 25]. وقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. وقال الحق سبحانه: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُون} [الزخرف: 45]، وكل نبي قـال لقومـه: اعبـدوا الله ما لكم من إله غيره، من أولهم نـوح إلى آخرهم محمد عليهم السلام، فقـال الله مخبرًا عن نوح عليه السلام أنه قال: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، وأخبر عن آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار} [ص: 65]، وقـال سبحانه وتعالى: {ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل} [الأنعام: 102].
وهذا الأمر العظيم هو الذي من أجله خلق الله الخلق، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون} [الذاريات: 56] ومعنى: «يعبدون»، أي: يوَحِّدون، قال البخاري رحمه الله عند تفسير هذه الآية: «ما خلقت أهل السعادة من أهل الفريقين إلا ليوحِّدون»([115]).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى نَحْوِ أَهْلِ اليَمَنِ قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى»([116])، وبوَّب البخاري رحمه الله على ذلك بقوله: «باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى».
والعبادة الحقَّة هي ما كانت خالصة لله رب العالمين موافقة لهدي سيد المرسلين؛ فعبادة كل معبود سواه باطلة، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج: 62]، ومعنى: «لا إله إلا الله»: لا معبود بحق إلا الله؛ لدلالة الآية السابقة على ذلك.
والإيمان بالله وحده وعبادته دون ما سواه هي مضمون: «لا إله إلا الله»، وهذه الكلمة العظيمة تضمنت نفي استحقاق العبادة عن كل معبود سوى الله، ونفي الألوهية الحقة عن كل معبود سوى الله أيضًا، وإثبات الألوهية الحقة لله رب العالمين، وأن العبادة الصحيحة لا تكون إلا لله وحده، وهذه الكلمة جاءت بلفظها في القرآن كثيرًا، ووردت آيات كثيرة بمعناها من النفي والإثبات، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقوله عز شأنه: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36].
وهذا الركن الركين والأساس المتين من دين الله -وهو إثبات الألوهية لله وحده، ونفي العبادة عما سواه- هو قطب رحى الدين، وعماد دعوة المرسلين، ومعناها: إفراد الخالق بأعمال الخلق، ولا تكاد تجد سورة من سور القرآن تخلو من هذا الأمر تأسيسًا أو تأكيدًا، وقد أقام الله الحجة على الخلق بأدلة كثيرة، وشواهد عديدة لا يمكن حصرها أو الإحاطة بها، وأعظم دليل على هذا الأمر شهادته سبحانه وتعالى؛ حيث يقول: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُون} [الأنعام: 19].
وشهد الله سبحانه وتعالى، وشهد أجلُّ شاهد من خلقه، وهم الملائكة وأولو العلم، على أجلِّ مشهود، وهو وحدانيته وألوهيته، فقال سبحانه وتعالى: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [آل عمران: 18]، فشهدت الملائكة وأولو العلم بما شهد الله به لنفسه: {وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا} [النساء: 79].
واحتج على خلقه بأنه سبحانه وتعالى هو الخالق لكل ما في هذا الكون، بل جعل كل آية كونية شاهدة على استحقاقه الألوهية والعبادة؛ ولذا يكثر سؤالهم في القرآن عن هذا الأمر وإقرارهم بأنه هو الخالق الرازق المحيي المميت، ثم ينكر عليهم عدمَ عبادته، أو عبادة غيرِه معه، قال الله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُون * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم * وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُون} [العنكبوت: 61 - 63]، وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيم * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُون * وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُون * وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُون} [الزخرف: 9-12].
واحتج الله على عباده بأن قرَّرهم بِنِعَمه عليهم التي توجب عليهم عبادة واهب النعم وموجدها، فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون * فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُون} [يونس: 31، 32].
وفي القرآن كثيرًا ما يحتج الله على العباد بآيات ربوبيته التي تستلزم عبادته وحده سبحانه وتعالى، وأن الخالق لهذه الآيات الكونية الكبرى هو وحده سبحانه وتعالى، وأنه كما أنه ليس معه خالق سواه، لا ينبغي أن يعبد غيره؛ ولذا ختم هذه الآيات التالية بقوله: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} ، وهي قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُون * أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُون * أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُون * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُون} [النمل: 60-63].
ولما ذكر المخلوقات العظيمة الدالة على ربوبيته التي تستلزم ألوهيته في سورة الروم، وهي قوله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُون * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِين * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُون * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون * وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُون * وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُون * وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم * ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون * بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِين} [الروم: 20-29]. استفتح كل آية منها بقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ} ؛ أي: ومن الأدلة الكونية الدالة على ربوبيته المستلزمة لألوهيته ما ذكر، ثم أعقبها بذكر هذا المثل الذي ضربه الله لمن عَدَل به شيئًا من خلقه، يقول: «أكان أحدكم مشاركًا مملوكه في فراشه وزوجته؟! فكذلكم الله لا يرضى أن يُعدل به أحد من خلقه»([117])؛ قاله قتادة. ثم ختمها ببيان أن الفطرة السليمة تقتضي عبادته وحده سبحانه وتعالى، ولذا قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون} [الروم: 30].
وقد نوَّع الله في الأدلة التي نصبها شواهدَ على ألوهيته تنويعًا تقوم به الحجة، وتتضح به المحجة؛ لئلا يكون للناس على الله حجة، وكما احتج الله على الناس بالأدلة القاطعة، والحجج الساطعة، وأقام الشواهد الباهرة الدالة على وحدانيته؛ فقد ضرب الأمثلة، وجاء بالحق سبحانه وتعالى، قال المولى جل شأنه: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} [النحل: 76]، قال ابن جرير عند تفسير هذه الآية: «وهذا مثل ضربه الله تعالى لنفسه والآلهة التي تُعبد من دونه، فقال تعالى ذكره: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ} يعني بذلك الصنم أنه لا يسمع شيئًا، ولا ينطق؛ لأنه إما خشب منحوت، وإما نحاس مصنوع، لا يقدر على نفعٍ لمن خدمه، ولا دفع ضرٍّ عنه، وهو كَلٌّ على مولاه، يقول: وهو عيال على ابن عمه وحلفائه وأهل ولايته، فكذلك الصنم كَلّ على من يعبده، يحتاج أن يحمله، ويضعه ويخدمه، كالأبكم من الناس الذي لا يقدر على شيء، فهو كَلّ على أوليائه من بني أعمامه وغيرهم {أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} يقول: حيثما يوجهه لا يأت بخير؛ لأنه لا يفهم ما يُقال له، ولا يقدر أن يعبر عن نفسه ما يريد، فهو لا يفهم، ولا يُفْهَم عنه، فكذلك الصنم، لا يعقل ما يقال له، فيأتمر لأمر من أمره، ولا ينطق فيأمر وينهى، يقول الله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} يعني: هـل يستوي هذا الأبكم الكَلُّ على مولاه الذي لا يأتي بخـير حيث توجَّه، ومن هو ناطق متكلم يأمر بالحقّ، ويدعـو إليه، وهو الله الواحد القهار، الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته؟ يقول: لا يستوي هو تعالى ذكره، والصنم الذي صفته ما وصف»([118]).
وضرب الله أيضًا مثلًا لإله الباطل وإله الحق، كما قاله مجاهد([119])، فقال الحق سبحانه وتعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُون} [الزمر: 29].
وهذا الأمر -وهو الإقرار لله بالوحدانية، مع الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة- هو الذي جعله الله حدًّا في عصمة الدماء، وحفظ الأنفس، قال تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، وقال سبحانه وتعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»([120]).
وهذا الإيمان لا يكفي أن يكون في القلب، بل لا بد أن ينطق به اللسان؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»([121]). ولا يتحقق الإيمان حتى تعمل به الجوارح، قال الحق - وقوله الحق: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون * أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2-4]، وقال تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون} [البقرة: 177].
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»([122])، فدل هذا الحديث على أن الإيمان يتفاوت في القلب.
ولا بد مع الإيمان بالله من الكفر بالطاغوت، قال الله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} [البقرة: 256]، والبراءة من الشرك وأهله، فلا يكون موحدًا حتى يتبرأ من الشرك وأهله، قال المولى جل شأنه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُون} [الزخرف: 26].
وهذا الإيمان لا بد أن يكون العبد فيه مخلصًا لله رب العالمين، قال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [غافر: 65]، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} [البينة: 5]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَـامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ ظَنَنْتُ -يَا أَبَا هُرَيْرَةَ- أَلَّا يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ، أَوْ نَفْسِهِ»([123]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ»([124]).
وأن يكون مستيقنًا غير شاكٍّ، قال الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15]، وقال الله مخـبرًا عن صاحب الجنة الكافر أنه قال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف: 36].
وأن يكـون إيمانه عن علم، فيعلم حقيقة الإيمان ومقتضاه وما يضاده، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [محمد: 19].
ولا بد مع العلم والإخلاص من القبول لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وبما تضمنه الإيمان، ودلّت عليه كلمة: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} من عبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه، فمن قالها، ولم يقبل عبادة الله وحده، كان من الذين قال الله فيهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُون * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُون} [الصافات: 35، 36].
وأن يستسلم وينقاد، قال الله تعالى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان: 22].
وأن يكون صادقًا في قوله وفعله واعتقاده حتى ينال ما بشَّر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ، إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ»([125]).
وأن يكون محبًّا لهذا الدين، ومَنْ شرعه، ومن جاء به، ومن دان به، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} [البقرة: 165]، وقال رَسُوُلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِيْنَ»([126]). وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المرءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»([127]).
وكما بيَّن الله حقيقة الإيمان ومقتضاه وأركانه وشرائطه، فقد نقض شُبَه المشركين المعاندين، وبين أنه ليس لهم حجة في شركهم؛ لأن هؤلاء الأنداد مخلوقون مُدَبَّرون لا يخلقون شيئًا، ولا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، قال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُون * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُون * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُون * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِين * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُون * إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِين * وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُون * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُون} [الأعراف: 191-198]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِير * وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22، 23]، وهذه الآية قطعت علائق الشرك كله.
وبين الحق أن هؤلاء الأنداد المعبودين من دون الله لا يسمعون دعاء من دعاهم، ولو سمعوا ما استجابوا لهم، ويوم القيامة يكفرون بشركهم، ويتبرؤون منهم، قال الحق جل شأنه وتعالى سلطانه: {إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير} [فاطر: 14].
كما بين الحق أن هؤلاء الأنداد المعبودين من دون الله لا ينفعون، ولا يضرون، فكيف يُعْبدون من دون الله؟! قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا} [الفرقان: 3].
وأوضح الحق سبحانه وتعالى أن الأنداد لا يملكون لأتباعهم رزقًا، قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُون} [النحل: 73]، فكيف يعبدون من لا يملك شيئًا، ولا يستطيع أن يرزق، ولا أن ينفع، أو يضر؟!
واحتج عليهم بأنهم إذا مسَّهم الضر، أو وقعوا في الكرب؛ لجؤوا إلى الله وحده مخلصين له الدين، فإذا نجاهم عادوا إلى شركهم، قال الله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُون} [العنكبوت: 65].
وكما أبطل الحق دعوى المشركين في اتخاذ الأنداد، فقد أبطل كل دعوى بأن الله اتخذ ولدًا، فقال سبحانه وتعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون} [المؤمنون: 91]، وقال سبحانه وتعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُون} [الأنبياء: 22]. وبين الحق جل شأنه أن اليهود والنصارى زعمت أن لله ولدًا، فقال الحق سبحانه وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُون} [التوبة: 30]، ونقض الله اعتقادهم من أصله؛ فكيف يكون البشر الذي يأكل الطعام إلهًا؟! والإله لا يأكل، ولا يشرب، ولا يحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر، قال المولى جل شأنه: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُون * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [المائدة: 75، 76].
وأبطل الله عبادة الملائكة، وبين أنهم -مع كونهم مقربين لله- لا يملكون الشفاعة إلا من بعد إذنه، فقال ربنا جل ذكره: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى} [النجم: 26]، ويخافون ربهم من فوقهم، قال تعالى: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُون * يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} [النحل: 49، 50]، وقال سبحانه عز من قائل: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا} [النساء: 172]، فإذا كانت هذه حال الملائكة، فكيف يُعبدون من دون الله؟
وكذلك الأنبياء والمرسلون عليهم السلام مع علو مقامهم في الدنيا والآخرة، لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، فكيف بمن دونهم؟! قال سبحانه وتعالى مخبرًا عن الأنبياء أنهم يعبدون ربهم على سبيل الرغبة والرهبة: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِين} [الأنبياء: 90]، وأمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول كما أخبر الله عنه بقوله: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون} [الأعراف: 188]، ولما دعا صلى الله عليه وسلم على من آذاه من المشركين في غزوة أحد أنزل الله عليه قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُون} [آل عمران: 128]. وعن الزهري قال: حدثني سالم عن أبيه رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنَ الفَجْرِ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ العَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا»، بَعْدَ مَا يَقُولُ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُون} ([128]).
بــاب
ونؤمن بأن الله واحد في صفاته ونعوت كماله وجلاله سبحانه، وأن الله سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى والصفات العلى تواترت على ذلك نصوص الكتاب والسنة، وتشهد له بذلك العقول الكاملة، وتسلِّم له بذلك الفِطَر السليمة، وأجمع على ذلك علماء أمة الإسلام، بل كل الرسالات الإلهية جاءت ببيان صفات الله وأسمائه وأفعاله سبحانه وتعالى. وعاب الله على المشـركين عبادة الأصنام؛ لأنها مخلوقة مثلهم، بل هي أقل منهم وأنقص، فهي لا تبصر ولا تسمع، بل ليس لها أرجل تمشي بها، ولا أيدٍ تبطش بها، قال الحق سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِين * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُون} [الأعراف: 194، 195]. وقال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِين} [الأعراف: 148].
ونؤمن أنه كما وصف نفسه، وكما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو سبحانه ليس كمثله شيء، وهـو السـميع البصير، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير} [الشورى: 11]. فنثبت لله ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وننفي عنه ما نفاه عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تعطيل ولا تمثيل، ولا تكييف ولا تحريف، ونعلم علم اليقين أن ربنا متصف بصفاته قبل أن يَخْلق الخلق، وأنه على غاية الكمال والجلال والجمال منذ الأزل إلى الأبد؛ إذ هو الأول والآخر، فهو أول ليس قبله شيء، وآخر ليس بعده شيء، فهو الأول بأسمائه وصفاته كمالًا ومجدًا، وهو الآخر بأسمائه وصفاته كمالًا ومجدًا.
ونؤمن أنه سبحانه كما لا يحيط الخلق به علمًا، فكذلك لا تدركه أبصارهم، قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]، وقال المولى عز شأنه: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} [الأنعام: 103]. قال الإمام ابن قتيبة رحمه الله: «الواجب علينا أن ننتهي في صفات الله حيث انتهى في صفته، أو حيث انتهى رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا نزيل اللفظ عما تعرفه العرب وتضعه عليه، ونمسك عما سوى ذلك»([129]).
ونؤمن أن من صفات الله صفاتٍ ملازمةً لذاته، كالحياة، والعلم، والسمع، والبصر، واليد، والأصابع، ومنها صفات متعلقة بمشيئته، كالغضب، والرضى، والنزول. ونؤمن أنه الفعال لما يريد، فهو يفعل متى شاء ما يشاء كيفما يشاء، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، لا رادّ لأمره، ولا معقّب على قضائه وحكمه.
ونؤمن أن صفات الله منها ما ورد مطلقًا، فنصف الله به على إطلاقه، كالسمع، والحياة، والبصر، وغيرها، ومنها ما ورد مقيدًا، فيبقى على تقييده، كوصفه سبحانه وتعالى بأنه يمكر بأعدائه إذا مكروا، وينسى أعداءه إذا نسوه.
ونؤمن أن بعض الصفات ورد وصف الله بها على وجه واحد، كصفة الحياة، والقيومية، والعظمة، فترد في القرآن أو السنة على وجه واحد. ونجد بعض الصفات ورد الخبر عنها في القرآن الكريم أو السنة على أوجه متعددة، كصفة الكلام، والعلو، واليد، ورؤية المؤمنين لربهم في عرصات القيامة وفي الجنة([130]).
ومن صفاته سبحانه وتعالى: العلم والسمع، قال تعالى: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [الأنبياء: 4].
ومن صفاته: البصر، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} [غافر: 20]، وعن أبي يونس سليم بن جبير مولى أبي هريرة رضي الله عنه قال: «سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {سميعا بصيرًا} قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَضَعُ إِبْهَامَهُ عَلَى أُذُنِهِ، وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى عَيْنِهِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا، وَيَضَعُ إِصْبَعَيْهِ، قَالَ ابْنُ يُونُسَ: قَالَ الْمُقْرِئُ: يَعْنِي: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير} ، يَعْنِي أَنَّ لِلَّهِ سَمْعًا وَبَصَرًا»([131]).
ومن صفاته سبحانه وتعالى: العين، قال الله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]، وقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]، وقال جل ثناؤه: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37]، وقال تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]، وعن نافع عن عبدالله رضي الله عنه قال: ذُكر الدجال عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ، إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ -وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عَيْنِهِ- وَإِنَّ المسيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ العَيْنِ اليُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ»([132]).
ومن صفاته سبحانه وتعالى: الحيـاة والقيوميـة، قال تعالى: {اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} [آل عمران: 2].
ومن صفاته سبحانه وتعالى: الكلام، وهو موصوف بالكلام قبل أن يَخْلق الخلق ويكلمهم، وكلام ربنا متعلق بمشيئته، فمتى شاء تكلم، وقد ورد الخبر عن صفة الكلام لله في القرآن على أوجه متعددة، فكلُّ ما أخبر الله به عن نفسه بأنه يأمر أو ينهى فهو دالٌّ على الكلام، كقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} [النحل: 90]. وكل ما أخبر الله به عن نفسه أنه قال، أو يقول، فهو دال على الكلام، كقوله عز شأنه: {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]. وكل ما ورد الخبر فيه عن الإنباء مضافًا إلى الله فهو دال على إثبات صفة الكلام لله رب العالمين، قال الحق: {قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِير} [التحريم: 3].
وكل ما ورد من النداء أو المناجاة مضافًا إلى الله فهو دال على صفة الكلام لله رب العالمين، كما في قوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52]. وكل ما ورد من القول مضافًا إلى الله، أو ورد الكلام في القرآن موصوفًا به الله، فهو دليل على صفة الكلام. وهذا أكثر من أن يحصى، ومن ذلك أنه تعالى كلم الملائكة، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ} [البقرة: 30]، وكلم آدم: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35]، وكلم موسى عليه السلام : {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} [الأعراف: 144].
وكلام ربنا منه ما يكون مناداة، كما نادى إبراهيـم الخليل عليه السلام ، قال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيم} [الصافات: 104]، ومنه ما يكون مناجاة كما ناجى ربنا موسى عليه السلام : {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52]، قال ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما في هذه الآية: «حَتَّى سَمِعَ صَرِيفَ الْقَلَمِ»([133])، وَقَالَ السُّدِّيُّ: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} قَالَ: «أُدْخِلَ فِي السَّمَاءِ فَكُلِّمَ»([134]). وكلام ربنا تسمعه الملائكة كما في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير} [سبأ: 23]، وعن مسروق عن عبدالله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ، سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ لِلسَّمَاءِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا، فَيُصْعَقُونَ، فَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ جِبْرِيلُ، حَتَّى إِذَا جَاءَهُمْ جِبْرِيلُ فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ. قَالَ: فَيَقُولُونَ: يَا جِبْرِيلُ، مَاذَا قَالَ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: الْحَقَّ، فَيَقُولُونَ: الْحَقَّ، الْحَقَّ»([135]).
ويكلم الخلائق يوم القيامة كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، وَلَا حِجَابٌ يَحْجُبُهُ»([136]).
وتسمع الخلائق يوم القيامة كلام الله، كما في الحديث عن عبدالله بن أنيس رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يَحْشُرُ اللَّهُ العِبَادَ، فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الملكُ، أَنَا الدَّيَّانُ»([137]).
ونؤمن أن الله سبحانه وتعالى قد احتجب عن خلقه، فلا يرونه في الدنيا، ويكلم من شاء من ملائكته ورسله عليهم السلام من وراء حجاب، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيم} [الشورى: 51].
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ عز وجل لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ»([138]).
وكلام ربنا يوصف بأن بعضه أحدث من بعض، قال الحق جل شأنه: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُون} [الأنبياء: 2]، وبعضه أفضل من بعض، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} أَحَدٌ، يُرَدِّدُهَا. فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ»([139]).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: «هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ»([140]).
والقرآن وكل الكتب الإلهية المنزلة على رسل الله عليهم السلام، كصحف إبراهيم وموسى عليهما السلام، والتوراة، والإنجيل، والزبور- كلها كلام الله، وكلها تكلم الله بها، وسمعها جبريل عليه السلام منه بلا واسطة، وأنزل الله التوراة مكتوبة على الألواح، وجبريل تنزّل بالوحي على أنبياء الله ورسله عليهم السلام، قال الله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِين *
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِين} [الشعراء: 193، 194]، وقـال المولى عز شأنه: {فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون} [الأعراف: 158]. وكلام الله وكلماته غير مخلوقة؛ ولذا استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمات الله، فقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا، ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ، حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ»([141])، ولو كانت كلمات الله مخلوقة لما استعاذ بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكلام الله غير خلقه، ألا ترى «أن الله قد فصل بين قوله وبين خلقه، ولم يسمّه قولًا، فقال: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: 54]، فلما قال: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ} لم يبق شيء مخلوق إلا كان داخلًا في ذلك، ثم ذكر ما ليس بخلق فقال: {وَالأَمْرُ} فأمره هو قوله، تبارك الله رب العالمين أن يكون قوله خلقًا»([142]).
ونفرق بين كلمات الله الكونية المذكورة في مثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِين} [الأنعام: 34]، وقوله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109]، وكلامه الشرعي الوارد في مثل قوله عز وجل: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [الأنعام: 115]، وقوله جل ذكره: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124].
قال الإمام الدارمي: «فلا ينكر كلام الله عز وجل إلا من يريد إبطال ما أنزل الله عز وجل، وكيف يعجز عن الكلام من علّم العباد الكلام، وأنطق الأنام؟!»([143]).
ومن صفاته سبحانه وتعالى: العزة، قال الحق: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون} [الصافات: 180]، وقال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10].
ومن صفاته سبحانه وتعالى: القهر، قال تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار} [ص: 65].
ومن صفاته سبحانه وتعالى: الجبروت، والملكوت، والكبرياء، والعظمة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه: «سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ»([144]). وقال صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا، قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ»([145]).
ومن صفاته سبحانه وتعالى: الإرادة والمشيئة، قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقوله: {وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِين} [الأنفال: 7]، وقوله: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} [التكوير: 29].
ومن صفاته سبحانه وتعالى: القدرة، قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِير} [الشورى: 29]، وقوله: {إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [البقرة: 20].
ومن صفاته سبحانه وتعالى: الرحمة، قال الرحيم الرحمن سبحانه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، وقال سبحانه وتعالى: { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، فهذه الرحمة صفة من صفاته، وهي مضافة إلى الله إضافة الصفة إلى الموصوف. وقد تأتي الرحمة في الكتاب والسنة مضافة إلى الله من إضافة المخلوق إلى خالقه، كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا} [الفرقان: 48]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ»([146])، فهذه رحمة مخلوقة أضيفت إلى الله من إضافة المخلوق إلى خالقه.
ومن صفاته سبحانه وتعالى: العلو، وهو علو القهر، وعلو القَدْر، وعلو الذات، فالثلاثة كلها صفته، وهي دالة على كماله. وقد دل القرآن العظيم والسنة النبوية الشريفة والعقل والفطرة على العلو بأوجه متعددة، فكل ما أخبر الله به أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم أنه العلي أو الأعلى، أو يشار إليه بأنه في العلو، فهو دال على علوه، وكل خبر فيـه تَنَزّل منه تعالى كنزول الوحي، وتنزل الأمر، وأنـه يجيء ويأتي يوم القيامة لفصل القضاء، أو أنه ينزل في كل ليلة وفي عشية عرفة، وتنزل الملائكة، فهو دال على علوه، وكذلك كل خبر فيه أنه في السماء، أو أنه فوق السـماء، أو أنه فـوق العرش، أو أنه استوى على العرش - فهو دال على علوه، وكذلك كل ما فيه صعـود إليه سبحانه ونحوه فهو دال على علوه.
ومن ذلك: أن الملائكة تخاف ربها من فوقها، وأنها تعرج إليه، وأن الأعمال ترفع إليه، وأنه يصعد إليه، وأن الله رفع عيسى عليه السلام إليه، وأسرى بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعرج به إلى السماء. كل ذلك دال على علوه، بل إن الأدلة الدالة على أن الله في العلو أنواع كثيرة، وتحت كل نوع أفراد كثيرة لا تحصى إلا بالكلفة.
ومن هذه الأدلة: قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم} [الشورى: 4]، وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير} [الحج: 62]، وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، وقول الحق سـبحانه: {وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون} [الأنعام: 155]، وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} [يوسف: 2]، وقوله سـبحانه: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} [النحل: 50]، وقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ} [آل عمران: 55]، وقوله: {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة} [المعارج: 4]، وقوله جل ثناؤه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]، وقـول الحق سبحانه: {بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 158]. وقول ربنا سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير} [الإسراء: 1].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الخَلْقَ، كَتَبَ كِتَابًا عِنْدَهُ: غَلَبَتْ، أَوْ قَالَ: سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ»([147])، وعن مُعَاوِيَة بن الحكم السّلمِيّ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟! فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللهِ، مَا كَهَرَنِي، وَلَا ضَرَبَنِي، وَلَا شَتَمَنِي. قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ»، أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، وَقَدْ جَاءَ اللهُ بِالْإِسْلَامِ، وَإِنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ، قَالَ: «فَلَا تَأْتِهِمْ»، قَالَ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ، قَالَ: «ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ، فَلَا يَصُدَّنَّهُمْ»، -قَالَ ابْنُ الصَّبَّاحِ: فَلَا يَصُدَّنَّكُمْ- قَالَ: قُلْتُ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ، قَالَ: «كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ، فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ»، قَالَ: وَكَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ، لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا أُعْتِقُهَا؟ قَالَ: «ائْتِنِي بِهَا»، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهَا: «أَيْنَ اللهُ؟» قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: «مَنْ أَنَا؟» قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، قَالَ: «أَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ»([148]).
وعن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الفَجْرِ وَصَلَاةِ العَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ»([149])، وفي حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ؟ قَالَ: «كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ، وَخَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الماء»([150])، هذه وغيرها كثير من الآيات والأحاديث الدالة على العلو.
والأدلة الدالة على العلو أكثر من أن تحصر، فقد أجمع علماء الإسلام على إثباته، كما دل عليه العقل والفِطَرُ السليمة، قال الإمام ابن بطة رحمه الله: «وأجمع المسلمون من الصحابة والتابعين وجميع أهل العلم من المؤمنين أن الله تبارك وتعالى على عرشه، فوق سمواته، بائن من خلقه، وعلمه محيط بجميع خلقه»([151]).
ونقل الدارمي رحمه الله: قول ابن المبارك لما سئل: «بم نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق العرش، فوق السماء السابعة على العرش، بائن من خلقه»([152]).
ومن صفاته سبحانه وتعالى: الاستواء على العرش، وقد ذكره الله في سبعة مواضع من كتابه، منها: قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} [الأعراف: 54]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الخَلْقَ، كَتَبَ كِتَابًا عِنْدَهُ: غَلَبَتْ، أَوْ قَالَ: سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ»([153]). وأخرج اللالكائي عن ابن عيينة قال: سئل ربيعة عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]: كيف استوى؟ قال: «الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق»([154]). ونُقِلَ مثل هذا القول عن إمام دار الهجرة الإمام مالك رحمه الله([155]).
ومن صفاته سبحانه وتعالى: المحبة، قال الله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، قال الإمام الدارمي رحمه الله: «فجمع بين الحبين: حب الخالق، وحب المخلوق متقارنين، ثم فرّق بين ما يُحَبَّ وما لا يحب؛ ليعلم خلقه أنهما متضادان غير متفقين، فقال: {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 148]، و {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِين} [الأنعام: 141]»([156]).
وقال: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين} [البقرة: 222]، وعن سهل ابن سعد رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ»([157]). وقال صلى الله عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»([158]).
ومن صفاته سبحانه وتعالى: الرضى، قال الحق جل شأنه: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [التوبة: 100]، وعن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ، فَالْتَمَسْتُهُ، فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ، وَهُوَ يَقُولُ: «اللهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ»([159]).
ومن صفاته سبحانه وتعالى: كراهيته لأعدائه؛ ذلك لأنهم كرهوا رضوانه، وكرهوا ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُم} [محمد: 28]، وقوله: {وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِين} [التوبة: 46]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللَّهُ: إِذَا أَحَبَّ عَبْدِي لِقَائِي أَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ، وَإِذَا كَرِهَ لِقَائِي كَرِهْتُ لِقَاءَهُ»([160]).
ومن صفاته سبحانه وتعالى: الغضب على أعدائه، قـال الله سبحانه وتعالى: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} [الفتح: 6]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سَبِيلِ اللَّهِ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ دَمَّوْا وَجْهَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم»([161]).
ومن صفاته سبحانه وتعالى: المقت، وهو مقته للكافرين، قال الحق جل شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} [غافر: 10].
ومن صفاته سبحانه وتعالى: مكره بأعدائه الذين يمكرون بأوليائه، قال المولى جل شأنه: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُون * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِين} [النمل: 50، 51].
ومن صفاته سبحانه وتعالى: الأسف، وهو أشد الغضب، قال الحق جل في علاه: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِين} [الزخرف: 55]، قال قتادة والسدي: {فَلَمَّا آسَفُونَا} أي: أغضبونا»([162]).
ومن صفاته سبحانه وتعالى: مخادعة من يخادعه، فالله يخادع المنافقين الذين يخادعونه، قال الله عز شأنه وتعالى مجده وسلطانه: {يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُون} [البقرة: 9]، وقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142].
وبيَّن الحق أنه ينسى أعداءه كما نسوا لقاءه، قال الله تعالى: {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا} [الأعراف: 51].
ومن صفاته سبحانه وتعالى: أنه يستهزئ بمن يهزأ به سبحانه وتعالى، قال الحق جل شأنه: {اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون} [البقرة: 15]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: «يسخر بهم للنقمة منهم»([163]).
ومن صفاته سبحانه وتعالى: الضحك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ يَدْخُلَانِ الجَنَّةَ»([164])، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الطويل في رؤية الله تعالى يوم القيامة، وذكر فيه قصة آخر أهل الجنة دخولًا: «....فَيَقُولُ اللَّهُ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، مَا أَغْدَرَكَ، أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ العُهُودَ وَالمِيثَاقَ، أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي أُعْطِيتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَا تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ، فَيَضْحَكُ اللَّهُ عز وجل مِنْهُ، ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الجَنَّةِ...»([165]).
قال وكيع: «إذا سئلتم: هل يضحك ربنا؟ فقولوا: كذلك سمعنا»([166]).
وبوّب الحافظ ابن بطة رحمه الله في كتابه «الإبانة»: «باب الإيمان بأن الله عز وجل يضحك» وقال فيه: «اعلموا -رحمكم الله- أن من صفات المؤمنين من أهل الحق تصديق الآثار الصحيحة، وتلقيها بالقبول، وترك الاعتراض عليها بالقياس، ومواضعة القول بالآراء والأهواء؛ فإن الإيمان تصديق، والمؤمن هو المصدق، قال الله عز وجل: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. فمن علامات المؤمنين: أن يصفوا الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم مما نقلته العلماء، ورواه الثقات من أهل النقل الذين هم الحجة فيما رووه من الحلال والحرام والسنن والآثار، ولا يقال فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف؟ ولا: لِمَ؟ بل يتبعون ولا يبتدعون، ويسلّمون ولا يعارضون، ويتيقنون ولا يشكّون ولا يرتابون، فكان مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه أهل العدالة، ومن يلزم المؤمنين قبول روايته وترك مخالفته: أن الله تعالى يضحك. فلا ينكر ذلك ولا يجحده إلا مبتدع مذموم الحال عند العلماء»([167]).
ومن صفاته سبحانه وتعالى: المجيء والإتيان يوم القيامة لفصل القضاء بين الناس، قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158]، وقال تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، وقال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الامُور} [البقرة: 210]. وعن أبي هـريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئًا فليتبعه...» وساق الحديث إلى قوله: «وتبقى هذه الأمة، فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله عز وجل فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه»([168]).
وعن أبي العالية في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ} [البقرة: 210] يقول: «الملائكة يجيئون في ظلل من الغمام، والله عز وجل يجيء فيما يشاء»([169]).
ومن صفاته سبحانه وتعالى: أنه ينزل إلى السماء الدنيا نزولًا حقيقيًّا يليق بجلاله وعظمته، وهو ليس كنزول المخلوقين، بل هو كسائر صفاته التي نؤمن بها ونعلمها، ولا نتمحل في تكييفها، أو نتكلف في ردها؛ بل نؤمن بها كما أخبرنا بها رسولنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فقال: «إِذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ، أَوْ ثُلُثَاهُ، يَنْزِلُ اللهُ تبارك وتعالى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ»([170]).
وبوّب إمام الأئمة محمد بن خزيمة رحمه الله في كتابه «التوحيد» بقوله: «باب أخبار ثابتة السند، صحيحة القوام رواها علماء الحجاز والعراق عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول الرب جل وعلا إلى السماء الدنيا كل ليلة، نشهد شهادة مقرٍّ بلسانه، مصدق بقلبه، مستيقن بما في هذه الأخبار من ذكر نزول الرب، من غير أن نصف الكيفية؛ لأن نبينا المصطفى لم يصف لنا كيفية نزول خالقنا إلى سماء الدنيا، وأعلمنا أنه ينزل، والله جل وعلا لم يترك ولا نبيُّه عليه السلام بيانَ ما بالمسلمين الحاجةُ إليه من أمر دينهم، فنحن قائلون مصدقون بما في هذه الأخبار من ذكر النزول غير متكلفين القول بصفته أو بصفة الكيفية؛ إذ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصف لنا كيفية النزول»([171]).
وبوّب الحافظ ابن بطة رحمه الله في كتابه «الإبانة» بقوله: «باب الإيمان والتصديق بأن الله تعالى ينزل في كل ليلة إلى سماء الدنيا من غير زوال ولا كيف. ثم قال رحمه الله: «اعلموا -رحمكم الله- أن الله قد فرض على عباده المؤمنين طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقبول ما قاله وجاء به، والإيمان بكل ما صحت به عنه الأخبار، والتسليم لذلك بترك الاعتراض فيها وضرب الأمثال والمقاييس إلى قول: لِمَ؟ ولا كيف؟... وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ»([172]) في حديث طويل سنذكره -إن شاء الله- بتمامه، رواه الأئمة المحدثون الثقات والمثبتون والفقهاء الورعون، الذين نقلوا إلينا شريعة الإسلام ودعائمه، مثل الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، وما يتلو ذلك من سائر الأحكام من النكاح، والطلاق، والبيوع، والحلال والحرام»([173]).
ونؤمن بصفة المعية لله رب العالمين، وأن الله مع خلقه بعلمه وإحاطته ومشيئته، وقد دل على إثباتها لله تعالى الكتاب والسنة، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} [المجادلة: 7].
وقال صلى الله عليه وسلم: «ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، وَهُوَ مَعَكُمْ»([174]).
وهذه المعية نوعان:
معية خاصة: وهذه تكون لرسل الله عليهم السلام ولأوليائه، ومقتضاها: النصر والتأييد، قال تعالى: {قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46].
ومعية عامة؛ أي: أن الله مع الخلق كلهم، مؤمنهم وكافرهم، قال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: 4]، ومعنى هذه المعية: العلم والإحاطة والقدرة والسلطان.
وهذه المعية لا تنافي علو الله تعالى؛ لأن معناها - كما سبق بإجماع أهل العلم: العلم والإحاطة؛ أي: أن الله تعالى مع خلقه بعلمه وإحاطته.
ومن صفاته تعالى: العَجَب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ»([175]). وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يَعْجَبُ رَبُّكُمْ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي رَأْسِ شَظِيَّةٍ بِجَبَلٍ، يُؤَذِّنُ بِالصَّلَاةِ، وَيُصَلِّي، فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا يُؤَذِّنُ، وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ، يَخَافُ مِنِّي، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ»([176]).
ونؤمن برؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، كما دل على ذلك الكتاب، وتواترت به الأخبار عن رسولنا صلى الله عليه وسلم فيما بشَّر به المؤمنين أنهم يرون ربهم عِيانًا يوم القيامة -وهذا - والله - أعظم نعيم أهل الجنة- قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة} [القيامة: 22، 23]، وقال تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، وقوله جل شأنه: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُون} [المطففين: 15]. وقد سئل الإمام مالك فقيل له: يا أبا عبدالله: هل يرى المؤمنون ربهم يوم القيامة؟ فقال: لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعيّر الله الكفار بالحجاب فقال: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُون} ([177]).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ: «هَلْ تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ إِذَا كَانَتْ صَحْوًا؟»، قُلْنَا: لَا، قَالَ: «فَإِنَّكُمْ لَا تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ يَوْمَئِذٍ، إِلَّا كَمَا تُضَارُونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا»، ثُمَّ قَالَ: «يُنَادِي مُنَادٍ: لِيَذْهَبْ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، فَيَذْهَبُ أَصْحَابُ الصَّلِيبِ مَعَ صَلِيبِهِمْ، وَأَصْحَابُ الأَوْثَانِ مَعَ أَوْثَانِهِمْ، وَأَصْحَابُ كُلِّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِم، حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ، مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ، وَغُبَّرَاتٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُعْرَضُ كَأَنَّهَا سَرَابٌ، فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ، فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلَا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُقَالُ لِلنَّصَارَى: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ المسِيحَ ابْنَ اللَّهِ، فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ، وَلَا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ، حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا يَحْبِسُكُمْ، وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ؟ فَيَقُولُونَ: فَارَقْنَاهُمْ، وَنَحْنُ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِ اليَوْمَ، وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي: لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا، قَالَ: فَيَأْتِيهِمُ الجَبَّارُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَلَا يُكَلِّمُهُ إِلَّا الأَنْبِيَاءُ، فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ؟ فَيَقُولُونَ: السَّاقُ، فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِن»([178]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ، كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ، لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ»([179]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ: «هَلْ تُمَارُونَ فِي القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟» قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ» قَالُوا: لَا، قَالَ: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ القَمَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَدْعُوهُمْ، فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ، وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلَّا الرُّسُلُ، وَكَلَامُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ»([180]).
فأحاديث الرؤية -بحمد الله- متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: ١٤٣]، نفيُ الرؤية؛ لأن هذا في الدنيا، وهو مماثل لقوله صلى الله عليه وسلم في جوابه لأبي ذر رضي الله عنه، حينما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ»([181])، فلم ير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ربه ليلة أسري به؛ وقد أخبرنا تعالى عما أكرمه به من الآيات ليلة أسري به، فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير} [الإسراء: 1]. ولم يذكر تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه، ولو رأى ربه لذكر الله ذلك من باب الامتنان عليه صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} [الأنعام: 103]، لا يدل على نفي الرؤيـة؛ لأن الإدراك معنًى زائدٌ على الرؤية. وأيضًا: فإن الآيات السابقة على هذه الآية جاءت في سـياق توكيد التوحيد ونفي الولد، وليست في أخبار المعاد حتى تكون الآية متعلقة بالرؤية.
قال الدارمي رحمه الله: «فهذه الأحاديث كلها -وأكثر منها- قد رويت في الرؤية، على تصديقها والإيمان بها أدركنا أهل الفقه والبصرِ من مشايخنا، ولم يزل المسلمون قديمًا وحديثًا يروونها ويؤمنون بها، لا يستنكرونها ولا ينكرونها، ومن أنكرها من أهل الزيغ نسبوه إلى الضلال، بل كان من أكبر رجائهم وأجزل ثواب الله في أنفسهم النظرُ إلى وجه خالقهم حتى ما يعدلون به شيئًا من نعيم الجنة»([182]).
وقال إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله: «وأما الصواب من القول في رؤية المؤمنين ربهم عز وجل يوم القيامة -وهو ديننا الذي ندين الله به، وأدركنا عليه أهل السنة والجماعة- فهو: أن أهل الجنة يرونه على ما صحت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم»([183]).
قال ابن بطة رحمه الله: «وإنما أرادوا بجحد رؤيتـه إبطال ربوبيته؛ لأنهم متى أقروا برؤيته أقروا بربوبيته؛ لأن الله تعالى جعل ثواب من صدق به بالغيب إيمانًا أن يراه هذا عِيانًا»([184]).
وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، عن هذه الأحاديث التي فيها الرؤية وغير ذلك، فقالوا: «أمْضِها بلا كيف»([185]).
ونثبت لله وجهًا يليق بجلاله وعظمته، كما قال تعالى: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون} [القصص: 88]، وقال جل شأنه: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَام} [الرحمن: 27]. وقال عز من قائل: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد: 22]، وقال: {إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل: 20]، وقال تعالى: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ القَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ»([186]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ عز وجل لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وعمل النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ»([187]).
وقال أبو عثمان الصابوني رحمه الله: «وكذلك يقولون في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن، ووردت بها الأخبار الصِّحاح من السمع، والبصر، والعين، والوجه، والعلم، والقوة، والقدرة، والعزة، والعظمة، والإرادة، والمشيئة، والقول، والكلام، والرضى، والسخط، والحياة، واليقظة، والفرح، والضحك، وغيرها من غير تشبيه لشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين، بل ينتهون فيها إلى ما قاله الله تعالى وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير زيادة عليه، ولا إضافة إليه، ولا تكييف له، ولا تشبيه، ولا تحريف، ولا تبديل، ولا تغيير، ولا إزالة للفظ الخبر عما تعرفه العرب، وتضعه عليه بتأويل منكر، ويجرونه على الظاهر، ويَكِلُون علمه إلى الله تعالى، ويقرون بأن تأويله لا يعلمه إلا الله، كما أخبر الله عن الراسخين في العلم أنهم يقولونه في قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَاب} [آل عمران: 7]»([188]).
ومن صفاته سبحانه وتعالى: صفة اليد، وقد ورد الخبر بها في القرآن والسنة على أوجه متعددة، فتارة ذكرت مثناة، وتارة أخبر تعالى أنه يقبضها ويبسطها، وأنه تعالى يقبض الأرض بيده، ويطوي السموات بيمينه سبحانه وتعالى، وتارة موصوفة بأنها ذات أصابع، وكل ذلك يثبت أن اليد التي ورد وصفها بالقرآن والسنة يد حقيقية تليق بجلاله، لا نتكلف في تأويلها أو تشبيهها أو تحريف الآيات والأحاديث الدالة عليها، قال الحق جل شأنه: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِين} [ص: 75]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، وقال الحق عز شأنه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} [الزمر: 67].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى عليهما السلام عِنْدَ رَبِّهِمَا، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، قَالَ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ»([189])، وفي رواية: «احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا آدَمُ، أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الجَنَّةِ، قَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ»([190]).
وفي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عز وجل، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا»([191]).
وعن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهَ عز وجل يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»([192]).
وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء، وَبِيَدِهِ المِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ»([193]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ، وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، عَطَسَ، فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ بِإِذْنِهِ...» إلى أن قال: «فَقَالَ اللَّهُ لَهُ وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ: اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ، قَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي، وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ، ثُمَّ بَسَطَهَا، فَإِذَا فِيهَا آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ»([194]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ»([195]).
وأخرج عبدالله ابن الإمام أحمد في كتابه «السنة»، بسنده عن وكيع قال: «نسلّم هذه الأحاديث كما جاءت، ولا نقول: كيف كذا؟ ولا: لم كذا؟ يعني مثل حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «إن الله عز وجل يحمل السموات على أصبع، والجبال على إصبع»، وحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ»([196]). ونحوها من الأحاديث([197]).
وقال شريك رحمه الله جوابًا لمن سأله عمن ينكر بعض أحاديث الصفات: «إن الذين جاؤوا بهذه الأحاديث هم الذين جاؤوا بالقرآن، وبأن الصلوات خمس، وبحج البيت، وبصوم رمضان، فما نعرف الله إلا بهذه الأحاديث»([198]).
قال الحافظ ابن بطة رحمه الله -بعد أن ساق الأحاديث الدالة على صفة اليد لله رب العالمين: «فهذه الأحاديث وما ضاهاها، وما جاء في معناها، في كمال الدين، وتمام السنة: الإيمان بها، والقبول لها، وتلقيها بترك الاعتراض عليها، واتباع آثار السلف في روايتها بلا كيف، ولا لِمَ»([199]).
وكما وصف نفسه بصفات الكمال والجمال والجلال والعزة والكبرياء، فقد نفى عن نفسه صفات النقص، ولم يكن النفي في الصفات هو الأصل في القرآن والسنة؛ لأن الأصل هو إثبات الصفات، والقرآن والسنة مملوءان ببيان صفات الله عز وجل كما ينبغي لجلاله وعظمته وكماله، والرب سبحانه وتعالى إذا نفى عن نفسه صفة، فإنما ينفيها؛ لبيان الكمال في ضدها؛ أو لأن البشر نسبوا النقص إلى ذي العزة والكمال، فينفي الرب النقص المنسوب إليه.
ومما نفاه الرب عن نفسه: السِّنَة، والنوم، كما في قوله تعالى: {اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [البقرة: 255]، ونفى النسيان، فقال الحق: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]، ونفى الحق سبحانه وتعالى عن نفسه اللغوب؛ لأن اليهود -عليهم لعنة الله- نسبوا إلى الله التعب لما خلق الخلق، ونفى الحق سبحانه وتعالى أنه استراح بعد تمام الخلق، فقال جل في علاه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوب} [ق: 38].
وأثبت ربنا أنه خلق الخلق لحكمة عظيمة، ولم يخلق خلقه عبثًا، فنفى ربنا عن نفسه العبث، وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُون} [المؤمنون: 115]، وبين الحق أن حكمه العدل وقوله الفصل، وأنه لا يظلم أحدًا؛ لتمام عدله سبحانه وتعالى، فقال ربنا جل وعلا: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، وقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد} [فصلت: 46].
ونسبت اليهود والنصارى الولد إلى الله، مشابهة للذين كفروا من قبلهم، فنفى الله الولد عن نفسه، فقال المولى جل شأنه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون: 91]، وبين الحق سبحانه وتعالى أن من كان له ولد فلا بد له من صاحبة، والله منزه عن الصاحبة والولد، فقال سبحانه وتعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} [الأنعام: 101]، وقال: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا} [الجن: 3].
ونؤمن أن الله سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى، وأن أسماءه قد بلغت الغاية في الحسن، فلا أحسن منها، قال الحق جل في علاه: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} [طه: 8]، ومنها ما ورد في قوله تعالى: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين * الرَّحْمـنِ الرَّحِيم * مَـلِكِ يَوْمِ الدِّين} [الفاتحة: 2-4]، وفي قوله سبحانه وتعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيم * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُون * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [الحشر: 22-24].
وأسماء الله مشتقة، وليست جامدة، وكل اسم يشتق لله منه صفة، فتشتق صفة الرحمة من الرحيم، والعزة من العزيز، والحكمة من الحكيم، والحياة من الحي، وهكذا.
وأسماؤه لا حصر لها، قال صلى الله عليه وسلم: «أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ»([200])، وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا: مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ»([201]).
وحذرنا ربنا من الإلحاد في أسمائه، فقال جل في علاه: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون} [الأعراف: 180].
والإلحاد في أسمائه أنواع؛ منها: التسمي بأسمائه التي لا يجوز أن يتسمى بها البشر، كالخالق، والرحمن، وغيرها. ومنها: تسمية الأصنام بأسماء مشتقة من أسماء الله، كاللات من اسم الله، والعزى من العزيز. ومنها: إنكارها، أو جحود معانيها، أو تعطيلها.
وما ورد في القرآن والسنة من أسماء الله وصفاته أعظم من أن يحيط به كتاب، ولكن يكفينا شرفًا أننا أشرنا إلى جُمَلٍ في هذا الباب.
ونؤمن أن المسلم يجب عليه ألا يصف الله، أو يسميه إلا بما وصف به نفسه أو سمى به نفسه، أو وصفه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وينفي عنه ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، ويسكت عما وراء ذلك.
ونحن نؤمن بهذه الأسماء والصفات على مراد ربنا، وعلى مراد رسولنا صلى الله عليه وسلم، ونعلم أن حقائقها لا يعلم بها البشر، ولا يحيطون بها، ولا تبلغها أفهامهم، ولا نتكلف في تأويلها؛ لأن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {وَمَا أَنَا مِن المُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]، وكما أن في الجنة من أصناف النعيم الوارد ذكرها في القرآن والسنة ما يشترك مع أمثالها في الاسم من نعيم الدنيا، إلا أن بينهما من التفاوت والتباين ما لا يحيط به البشر، فإذا كنا نؤمن بنعيم الجنة، ونحن لم نره، ولا نعلم حقيقته وكيفيته - فالله أعظم من أن يشابهه البشر لمجرد الاشتراك في الصفات أو الأسماء، ولا يلزم من ذلك نفي الأسماء والصفات عن الله لمجرد الاشتراك اللفظي.
وقد توارد أئمة الهدى والعلم على تقرير ذلك، قال ابن أبي زمنين: «فهذه صفات ربنا التي وصف بها نفسه في كتابه، ووصفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم، وليس في شيء منها تحديد ولا تشبيه ولا تقدير، فسبحان من ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير. لم تره العيون فتحده كيف هو كينونيته، لكن رأته القلوب في حقائق الإيمان به»([202]).
وقال عبدالرحمن بن القاسم: «لا ينبغي لأحد أن يصف الله إلا بما وصف به نفسه في القرآن، ولا يشبه يديه بشيء، ولا وجهه بشيء، ولكن يقول: له يدان، كما وصف نفسه في القرآن، وله وجه كما وصف نفسه، يقف عند ما وصف به نفسه في الكتاب؛ فإنه تبارك وتعالى لا مثل له ولا شبيه، ولكن هو الله لا إله إلا هو كما وصف نفسه، ويداه مبسوطتان كما وصفهما: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: ٦٧] كما وصف نفسه»([203]).
وقال الإمام الحميدي رحمه الله: «وما نطق به القرآن والحديث، مثل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: ٦٤]، ومثل: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: ٦٧]، وما أشبه هذا من القرآن والحديث، لا نزيد فيه، ولا نفسره. نقف على ما وقف عليه القرآن والسُّنَّة»([204]).
وقال الإمام أحمد: «نعبدالله بصفاته كما وصف به نفسه، قد أجمل الصفة لنفسه، ولا نتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصفه كما وصف نفسه، ولا نتعدى ذلك، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه تعالى ذكره صفة من صفاته شَنَاعَةً شُنِّعَتْ، ولا نزيل ما وصف به نفسه من كلام، ونزول، وخُلُوّه بعبده يوم القيامة، ووضْع كنفه عليه، هذا كله يدل على أن الله يُرى في الآخرة، والتحديد في هذا بدعة، والتسليم لله بأمره، ولم يزل الله متكلمًا عالمًا غفورًا عالم الغيب والشهادة علام الغيوب، فهذه صفات الله وصف بها نفسه لا تدفع، ولا ترد، وقال: {اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23]، هذه صفات الله وأسماؤه»([205]).
وقال الإمام قِوام السنة أبو القاسم -وقد سئل عن صفات الرب تعالى- فقال: «مذهب مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن سعيد، وعبدالرحمن بن مهدي، وإسحاق بن راهويه: أن صفات الله التي وصف بها نفسه، أو وصفه بها رسوله، من السمع، والبصر، والوجه، واليدين، وسائر أوصافه، إنما هي على ظاهرها المعروف المشهور، من غير كيف يتوهم فيه، ولا تشبيه ولا تأويل»([206]).
وقال أيضًا: «وأنا أذكر - بتوفيق الله تعالى - جماعة من أئمتنا من السلف ممن شرعوا في هذه المعاني، فمنهم: أبو عبدالله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري؛ فإنه قد أظهر اعتقاده، ومذهبه في السنة في غير موضع، وقد أملاه على شعيب بن حرب، ومنهم: أبو محمد سفيان بن عيينة الهلالي؛ فإنه قد أجاب في اعتقاده حين سئل عنه كما رواه محمد بن إسحاق الثقفي، ومنهم أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي إمام أهل الشام؛ فإنه قد أظهر اعتقاده في زمانه، ورواه ابن إسحاق الفزاري، ومنهم: أبو عبدالرحمن بن عبدالله بن المبارك إمام خراسان، والفضيل بن عياض، ووكيع بن الجراح، ويوسف بن أسباط، قد أظهروا اعتقادهم ومذاهبهم بالسنن، ومنهم: شريك بن عبد الله النخعي، ويحيى بن سعيد القطان، وأبو إسحاق الفزاري، ومنهم: أبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحي المديني إمام دار الهجرة وفقيه الحرمين؛ فإنه قد أظهر اعتقاده في باب الإيمان والقرآن، ومنهم: أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المطلبي سيد الفقهاء في زمانه، ومنهم: أبو عبيد القاسم بن سلام، والنضر بن شميل، وأبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي من تلاميذ الشافعي أظهر اعتقاده حين ظهرت المحنة في باب القرآن، ومنهم: أبو عبدالله أحمد بن حنبل سيد أهل الحديث في زمانه، .... وكان أبو أحمد بن أبي أسامة القرشي الهروي مِنْ أفاضل مَنْ بخراسان من العلماء والفقهاء أملى اعتقادًا له، قال: وينبغي لمن منَّ الله بعلم الهداية والكرامة بالسنة ممن بقي من الخلف، القدوةُ ممن مضى من السلف، وأن مذهبنا ومذهب أئمتنا من أهل الأثر: أن نقول: إن الله عز وجل أحد لا شريك له، ولا ضد له، ولا ند، ولا شبيه له، إلهًا واحدًا صمدًا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، ولم يشرك في حكمه أحدًا»([207]).
وقال أيضًا رحمه الله: «سبيل الأخبار الواردة في الصفات: أن يؤمن بها، ولا يُتعرض لها، وتمضى كما أمضاها الأسلاف، من غير تمثيل، ولا تأويل»([208]).
وقال ابن قتيبة رحمه الله: «وعدل القول في هذه الأخبار -أي أخبار الصفات- أن نؤمن بما صح منها بنقل الثقات لها، فنؤمن بالرؤية والتجلي، وأنه يعجب، وينزل إلى السماء الدنيا، وأنه على العرش استوى، وبالنفس، واليدين، من غير أن نقول في ذلك بكيفية، أو بحد، أو أن نقيس على ما جاء ما لم يأت، فنرجو أن نكون في ذلك القول والعقد على سبيل النجاة غدًا، إن شاء الله تعالى»([209]).
وقال الزهري: «على الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم»([210]).
ونؤمن بالملائكة، ونعلم علم اليقين أن الإيمان بالملائكة هو الركن الثاني من أركان الإيمان.
والإيمان بالملائكة ينتظم معاني:
أحدها: التصديق بوجودهم.
الثاني: إنزالهم منازلهم، وإثبات أنهم عباد الله وخلقه، كالإنس والجنِّ، مأمورون مكلفون لا يقدرون إلا على ما يقدرهم الله تعالى عليه، والموت جائز عليهم، ولكن الله تعالى جعل لهم أمدًا بعيدًا، فلا يتوفاهم حتى يبلغوه، ولا يوصفون بشيء يؤدي وصفهم به إلى إشراكهم بالله -تعالى جَدُّه- ولا يُدْعون آلهة، كما ادعى ذلك المشركون.
الثالث: الاعتراف بأن منهم رُسُلَ الله يرسلهم إلى من يشاء من البشر، وقد يجوزُ أن يرسل بعضهم إلى بعض، ويتبع ذلك الاعتراف بأن منهم حملة العرش، ومنهم الصّافون، ومنهم خزنة الجنة، ومنهم خزنة النار، ومنهم كتبة الأعمال، ومنهم الذين يسوقون السحاب، وقد ورد القرآن بذلك كله أو بأكثره([211]).
الرابع: الإيمان بالملائكة على سبيل الإجمال والتفصيل، فنؤمن بوجود الملائكة إيمانًا مجملًا، ونؤمن بمن علمنا من أسمائهم وصفاتهم وأعمالهم كما ورد في الكتاب والسنة إيمانًا مفصلًا.
ونؤمن بمن علمنا منهم ومن لم نعلم، ونؤمن بأعمالهم وصفاتهم، ونعلم أن ما خفي علينا من أعدادهم وأعمالهم وصفاتهم أكثر مما علمنا، ولكننا نؤمن بكل ذلك، كما أخبرنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا نطلب له كيفية، ولا نرده بعقولنا، ولا نتوهمه بآرائنا، ولا نتأوله باجتهاداتنا، بل نقول: آمنا، وصدقنا، وسلّمنا.
ونؤمن أن الله خلق الملائكة من نور، فهم خلقٌ مِنْ خلْق الله، خلقهم على هيئة مخصوصة لا يعلم حقيقتها إلا اللهُ، وهم عباد مربوبون، خلقهم لعبادته، والقيام بأوامره، فهم يعبدونه، ولا يستنكفون عن عبادته.
ومن عباداتهم: التسبيح، والسجود، والخوف، والوجل، وهم -مع عظيم عبادتهم- يخافون ربهم أشد الخوف، ومن عباداتهم: أنهم يوالون في الله، ويحبون في الله.
ونؤمن أن الله خلقهم على هيئة لا يحيط بها إلا الذي خلقهم عليها.
ونؤمن أن الله جعل لهم أجنحة، وقد أذن لهم أن يأتوا إلى الأنبياء والرسل عليهم السلام على هيئة البشر، ومن زعم من المشركين أن الملائكة بنات الله فقد أكذبه الله.
ونؤمن أن الملائكة لا يأكلون، ولا يشربون؛ لأنه ليس لهم شهوات، وأن من خُلقهم الحياء، وأنهم يتأذون مما يتأذى منه بنو آدم.
ونؤمن أن الله جعل فيهم من القوة والبأس ما لا يحاط به، والملائكة خلق كثير لا يحصي عددهم إلا الذي خلقهم.
ونؤمن أن الله شرّفهم، وكلفهم أعمالًا جليلةً وكثيرة ومتنوعة، وأشرفها أن يكونوا رسلًا بين الله وبين عباده، يبلغونهم الوحي، والمَلَك الموكَّل بإنزال الوحي إلى أنبياء الله ورسله عليهم السلام هو جبريل عليه السلام . وقد يرسلهم الله إلى غير الأنبياء ابتلاء وامتحانًا.
ومن أعمالهم: حمل العرش، وكتابة القدر، والقيام على شؤون الأرحام ومن فيها - خلقًا وتصويرًا ونفخًا - وتوفي العباد، ونفخ الأرواح في الأجساد في الدنيا وفي الآخرة، والجهاد مع المؤمنين، والدعاء للمؤمنين والاستغفار لهم، وشهود عبادات المؤمنين، ورفع كلماتهم الطيبة، وإخبار الرب عن أعمالهم -وهو الخبير العليم الذي لا يحتاج إلى من يخبره.
ومن أعمالهم: النزول إلى الأرض في مواسم الإيمان، كيوم الجمعة ويوم عرفة وليلة القدر.
ومن أعمالهم: إبلاغ النبي صلى الله عليه وسلم صلوات أمته عليه.
ومن أعمالهم: حفظ بني آدم، وكتابة الحسنات والسيئات، وحراسة المدينة النبوية من الدجال، وسؤال الميت في قبره، وتبشير المؤمنين عند الموت بالفوز العظيم، واستقبالهم في الدار الآخرة، والدخول عليهم من أبواب الجنة، وأنهم يتنزلون مع الله صفًّا صفًّا يوم القيامة.
ومن أعمالهم: أن منهم خازن الجنة، وخازن النار.
ونؤمن أن الله جعل للملائكة مقاماتٍ ومراتبَ، وأعظمُ الملائكة مقامًا جبريلُ وميكائيل وإسرافيل، ومن أشرافهم: حملة العرش، وكذا من حضر غزوة بدر من الملائكة، وفي كل سماء من الملائكة ما لا يحصي عددهم إلا الله، وهؤلاء الملائكة لكلٍّ منهم مقام معلوم، وفيهم مقربون.
بــاب
ونؤمن بالملائكة، ونعلم علم اليقين أن الإيمان بالملائكة هو الركن الثاني من أركان الإيمان، قال المولى جل شأنه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285]، وقال الحق سبحانه وتعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولُ اللهِ، مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكِتَابِهِ، وَلِقَائِهِ، وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الْآخِرِ»([212]).
قال البيهقي رحمه الله: «والإيمان بالملائكة ينتظم معاني: أحدها: التصديق بوجودهم. والآخر: إنزالهم منازلهم، وإثبات أنهم عباد الله، وخلقه كالإنس والجن، مأمورون مكلفون لا يقدرون إلا على ما قدّرَهم الله تعالى عليه، والموت جائز عليهم، ولكن الله تعالى جعل لهم أمدًا بعيدًا، فلا يتوفاهم حتى يبلغوه، ولا يوصفون بشيء يؤدي وصفهم به إلى إشـراكهم بالله تعالى جدُّه، ولا يُدْعون آلهة كما ادعتهم الأوائل([213]). والثالث: الاعتراف بأن منهم رسل الله يرسلهم إلى من يشاء من البشر، وقد يجوز أن يرسل بعضهم إلى بعض، ويتبع ذلك الاعتراف بأن منهم حملة العرش، ومنهم الصافون، ومنهم خزنة الجنة، ومنهم خزنة النار، ومنهم كتبة الأعمال، ومنهم الذين يسوقون السحاب، وقد ورد القرآن بذلك كله أو بأكثره»([214]).
فذكر البيهقي ثلاثة من معاني الإيمان بالملائكة.
والرابع: الإيمان بالملائكة على سبيل الإجمال والتفصيل، فنؤمن بوجود الملائكة إيمانًا مجملًا، ونؤمن بمن علمنا من أسمائهم وصفاتهم وأعمالهم كما ورد في الكتاب والسنة إيمانًا مفصلًا.
ونعلم أن ما خفي علينا من أعدادهم وأعمالهم وصفاتهم أكثر مما علمنا، ولكننا نؤمن بكل ذلك كما أخبرنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا نطلب له كيفية ولا نرده بعقولنا، ولا نتوهمه بآرائنا، ولا نتأوله باجتهاداتنا، بل نقول: آمنا، وصدقنا، وسلّمنا.
بــاب
ونؤمن أن الله خلق الملائكة من نور، قال صلى الله عليه وسلم: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ»([215])، فهم خلق من خلق الله خلقهم على هيئة مخصوصة، لكنهم ليسوا أرواحًا فقط، ولا قوًى فقط، بل هم عالم غيبي، وعباد مربوبون، خلقهم لعبادته، والقيام بأوامره، فهم يعبدونه، ولا يستنكفون عن عبادته.
ومن عباداتهم: التسبيح، والسجود، والخوف، والوجل، وغير ذلك، قال المولى جل شأنه: {لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} [التحريم: 6]، وقال -أيضًا: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُون} [النحل: 49]، وقال الحق جل شأنه: {وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر: 75]، وهم -مع عظيم عبادتهم- يخافون ربهم أشد الخوف، قال المولى جل شأنه: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} [النحل: 50].
ومن عباداتهم: أنهم يوالون في الله ويحبون في الله، قال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي الأَرْضِ»([216])، ويعادون، ويبغضون في الله، ويغارون على محارم الله، ويلعنون مَنْ لعنه الله، قال المولى عز شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين} [البقرة: 161]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ تَمَاثِيلُ أَوْ تَصَاوِيرُ»([217]).
ونؤمن أن الله خلقهم على هيئة لا يحيط بها إلا الذي خلقهم عليها، فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ»([218]).
ونؤمن أن الله جعل لهم أجنحة، قال الحق: {جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء} [فاطر: 1]، وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: «أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ»([219])، وأن لهم قلوبًا، قال الحق جل شأنه: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير} [سبأ: 23].
وأذن الله لهم أن يأتوا إلى الأنبياء والرسل عليهم السلام على هيئة بشر، فدخلوا على إبراهيم، وعلى لوط عليهما السلام في هيئة أضياف لا يعرفونهم، قال الله تعالى مخبرًا عن ذلك: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِين * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُون} [الذاريات: 24، 25]، وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَـذَا يَوْمٌ عَصِيب} [هود: 77]، وجاء جبريل عليه السلام إلى مريم عليها السلام بصورة لم تعرفه لأول وهلة، كما قصَّ الله علينا بقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} [مريم: 17-19]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «وَكَانَ جِبْرِيلُ عليه السلام يَأْتِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي صُورَةِ دِحْيَةَ»([220]).
ونؤمن أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون؛ لأنه ليس لهم شهوات؛ ولذا لما دخلوا على إبراهيم عليه السلام وقدَّم لهم الطعام لم يأكلوا، قال الحق سبحانه مخبرًا عن ذلك: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِين * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُون * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيم} [الذاريات: 26-28]، وأن من خلقهم الحياء، قال صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ»([221]).
وأنهم يتأذون مما يتأذى منه بنو آدم، قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ، الثُّومِ -وقَالَ مَرَّةً: مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ- فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ»([222]).
ونؤمن أن الله جعل فيهم من القوة والبأس ما لا يُحاط به، قال تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِين} [التكوير: 20]، وقال المولى جل شأنه: {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} [التحريم: 6]، وأرسل الله ملكًا إلى قرى قوم لوط، وهي سبع قرى، فقلبها عليهم، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُود} [هود: 82].
ونؤمن أن الملائكة خلق كثير، لا يحصي عددهم إلا الذي خلقهم، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فَرُفِعَ لِي البَيْتُ المعمُورُ، فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ، فَقَالَ: هَذَا البَيْتُ المعمُورُ يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِذَا خَرَجُوا لَمْ يَعُودُوا إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ...»([223]).
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ أَطَّتِ السَّمَاءُ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ»([224]).
وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا»([225]).
وزعم المشركون أن الملائكة بنات الله، فأكذبهم الله بقوله: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلاَئِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُون} [الصافات: 150]. ورد عليهم قولهم بقوله جل وعلا: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا} [الإسراء: 40].
بــاب
ونؤمن أن الله شرّفهم، وكلَّفهم أعمالًا جليلةً وكثيرةً ومتنوّعةً، وأشرفها: أن يكونوا رسلًا بين الله وبين عباده يبلغونهم الوحي، والمَلَك الموكَّل بإنزال الوحي إلى أنبياء الله ورسله عليهم السلام هو جبريل عليه السلام كما قال المولى عز شأنه: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102]، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِين * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِين * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِين * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِين} [الشعراء: 192-195].
وقد يرسلهم الله إلى غير الأنبياء ابتلاء وامتحانًا، كما في قصة ثلاثة النفر من بني إسرائيل، فعن عبدالرحمن بن أبي عمرة أن أبا هريرة رضي الله عنه حدثه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ ثَلَاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَبْرَصَ، وَأَقْرَعَ، وَأَعْمَى، بَدَا لِلَّهِ عز وجل أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا، فَأَتَى الأَبْرَصَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ، فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا، وَجِلْدًا حَسَنًا، فَقَالَ: أَيُّ المال أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الإِبِلُ -أَوْ قَالَ: البَقَرُ، هُوَ شَكَّ فِي ذَلِكَ: إِنَّ الأَبْرَصَ، وَالأَقْرَعَ، قَالَ أَحَدُهُمَا: الإِبِلُ، وَقَالَ الآخَرُ: البَقَرُ- فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، فَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا، وَأَتَى الأَقْرَعَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ شَعَرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا، قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ، وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا، قَالَ: فَأَيُّ المال أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: البَقَرُ، قَالَ: فَأَعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلًا، وَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا، وَأَتَى الأَعْمَى، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ، قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ، قَالَ: فَأَيُّ المال أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ الغَنَمُ: فَأَعْطَاهُ شَاةً وَالِدًا، فَأُنْتِجَ هَذَانِ، وَوَلَّدَ هَذَا، فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنْ إِبِلٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ بَقَرٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ غَنَمٍ، ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ، تَقَطَّعَتْ بِيَ الحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ اليَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الحَسَنَ، وَالجِلْدَ الحَسَنَ، وَالمال، بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الحُقُوقَ كَثِيرَةٌ، فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ، فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ؟ فَقَالَ: لَقَدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عَنْ كَابِرٍ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ، وَأَتَى الأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، فَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ، وَأَتَى الأَعْمَى فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ وَتَقَطَّعَتْ بِيَ الحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ اليَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى، فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي، وَفَقِيرًا فَقَدْ أَغْنَانِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ اليَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ، فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ»([226]).
ومنهم حملة العرش، قال الرب جل شأنه وتعالى سلطانه: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة} [الحاقة: 17].
ومن أعمالهم: كتابة القدر، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ»([227]).
ومن أعمالهم: القيام على شؤون الأرحام ومن فيها - خلقًا وتصويرًا ونفخًا - فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً، بَعَثَ اللهُ إِلَيْهَا مَلَكًا، فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَجَلُهُ، فَيَقُولُ رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ»([228]).
وعن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ، أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ، أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا، قَالَ: أَيْ رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الأَجَلُ؟ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ»([229]).
ومن أعمالهم: قبض أرواح العباد، قال الحق - وقوله الحق: {حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُون} [الأنعام: 61]، وقال المولى جل شأنه: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُم} [محمد: 27].
ومن أعمالهم: نفخ الأرواح في الأجساد في الدنيا وفي الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ»([230])، وقال الله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُون} [الزمر: 68].
ومن أعمالهم: الجهادُ مع المؤمنين، وتثبيت المؤمنين في ساحات الوغى، وفي معترك الحياة، قال المولى عز شأنه وتعالى سلطانه: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَان} [الأنفال: 12]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً: فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الملك فَإِيعَادٌ بِالخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ الأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء} الآيَةَ [البقرة: 268]»([231]).
ومن أعمالهم: الدعاء للمؤمنين والاستغفار لهم، قال الولي الحميد: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيم} [غافر: 7].
ومن أعمالهم: شهود عبادات المؤمنين في مواسم الإيمان والخير والأوقات الفاضلة، كيوم الجمعة، ويوم عرفة، وليلة القدر، وصلاتي الفجر والعصر، ورفع كلماتهم الطيبة، وإخبار الرب عن أعمالهم -وهو الخبير العليم الذي لا يحتاج إلى من يخبره- قال الله جل ذكره: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، وقال الحق سبحانه: {تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْر} [القدر: 4].
وقال صلى الله عليه وسلم: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الفَجْرِ وَصَلَاةِ العَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ -وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ»([232]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا : هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ. قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا»([233]).
وتشهد الملائكة مواسم الإيمان كيوم الجمعة ويوم عرفة وليلة القدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ الملائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ»([234]).
ومن أعمالهم: إبلاغ النبي صلى الله عليه وسلم صلوات أمته، عليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَصَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ»([235]).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ يُبَلِّغُونِي مِنْ أُمَّتِي السَّلَامَ»([236]).
ومن أعمالهم: حفظ بني آدم، قال الله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ} [الرعد: 11]. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: فَالْمُعَقِّبَاتُ: «هِيَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ»([237]).
ومن أعمالهم: كتابة الحسنات والسيئات، قال تعالى: {كِرَامًا كَاتِبِين} [الانفطار: 11]. وقال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد} [ق: 17، 18]، وقال: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} [الأنعام: 61]، وقال تعالى فيهم: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُون} [الزخرف: 80]، وقال صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللَّهُ: فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ»([238]). وقال صلى الله عليه وسلم: «قَالَتِ الْملَائِكَةُ: رَبِّ، ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً -وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ- فَقَالَ: ارْقُبُوهُ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ»([239]).
ومن أعمالهم: حراسة المدينة النبوية من الدجال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَلَى أَنْقَابِ المدينَةِ مَلَائِكَةٌ لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ، وَلَا الدَّجَّالُ»([240]).
ومن أعمالهم: سؤال الميت في قبره، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مخبرًا عن حال الإنسان إذا وضع في قبره: «وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم»([241]).
ومن أعمالهم: أن منهم خازن الجنة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آتي باب الجنة يوم القيامة، فأستفتحُ فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحدٍ قبلك»([242]). وخازن النار، قال الله تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُون} [الزخرف: 77]. وقال الحق سبحانه وتعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَر * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً} [المدثر: 30، 31]، وقد ثبت في الصحيح عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرُّونها»([243])([244]).
بــاب
ونؤمن أن الله جعل للملائكة مقاماتٍ ومراتبَ، قال الحق سبحانه مخبرًا عنهم: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُوم * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّون} [الصافات: 164-166].
وأعظمُ الملائكة مقامًا جبريلُ وميكائيل وإسرافيل؛ ولذا توسَّل النبي صلى الله عليه وسلم بربوبية الله للثلاثة الأولين منهم، فعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: سألت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: «اللهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ؛ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»([245]).
ومن أشرافهم حملة العرش، وكذا مَنْ حضر غزوة بدر من الملائكة، وعن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه رضي الله عنه -وكان أبوه من أهل بدر- قال: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ، قَالَ: مِنْ أَفْضَلِ المسلِمِينَ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ المَلَائِكَةِ»([246]).
وفي كل سماء من الملائكة ما لا يحصي عددهم إلا الله، وهؤلاء الملائكة لكلٍّ منهم مقام معلوم، وفيهم مقربون؛ ولذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم عن صعود روح المؤمن وعروجها بعد موته: «فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ -يَعْنِي بِهَا- عَلَى مَلَإٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ، فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا»([247]).
ونؤمن بالكتب، وهي: كتب الله المنزلة على رسله وأنبيائه عليهم السلام والذي نعلم منها هي: صحف إبراهيم وصحف موسى، والتوراة، والزبور، والإنجيل، والقرآن، ونؤمن بما علمنا منها وما لم نعلم.
ونؤمن أن كل هذه الكتب هي كلام الله ووحيه، والتوراة كتبها الله بيده. وهذه الكتب أنزلها على رسله عليهم السلام نزل بها جبريل الأمين، وتضمنت الشرائع الإلهية، والأخبار والمواعظ والأوامر والنواهي، وكان كل كتاب في زمنه هو الوحي الذي يجب العمل به، والتحاكم إليه للأمة التي أنزل عليها.
ونؤمن أن بعضها أفضل من بعض، فالتوراة كتبها الله بيده.
ونعلم علم اليقين أن الإيمان بالكتب هو الركن الثالث من أركان الإيمان، فنؤمن بها كلها، ولا نكون كالذين آمنوا ببعض، وكفروا ببعض.
ونؤمن أن كل الكتب التي سبقت القرآن لم يتكفل الله بحفظها؛ بل وَكَلَ حفظها إلى القوم الذين أنزلها الله عليهم؛ ولذا دخلها التحريف، وتعرضت هذه الكتب الإلهية للضياع والنسيان، وكتبها المفترون، ونسبوها إلى الله زورًا وبهتانًا، فهم يكتبونها ويتلونها بألسنتهم إمعانًا في التلبيس على الخلق؛ ليحسبوها من عند الله.
ونؤمن أن القرآن الكريم هو أعظم الكتب الإلهية وأكملها وأشرفها، وهو آخرها، نزل به جبريل عليه السلام على قلب رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، بلسان عربي مبين، واختار الله له أشرف اللغات؛ وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني؛ فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات، على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتدئ إنزاله في أشرف شهور السنة، وهو رمضان، فكمل من كل الوجوه، وأول ما أنزل الله منه قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق} [العلق: 1]، ومن أواخر ما نزل منه قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]، نزل منجمًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال سنوات نبوته، ومنه المكي والمدني، وعدد سوره مائة وأربع عشرة سورة، وأعظم سوره «سورة الفاتحة»، و«سورة الإخلاص» تعدل ثلث القرآن، وأعظم آياته آية الكرسي.
وأثنى الله على هذا الكتاب العظيم، وجعله نورًا وهدى ورحمةً للمؤمنين، وموعظةً وشفاءً من أدواء القلوب والأبدان.
ونؤمن أن هذا الكتاب العظيم هو أكمل الكتب الإلهية وأشملها، وتضمن من الحجج والبراهين، وضَرْب الأمثال ما تقوم به الحجة على الخلق إلى قيام الساعة - وقد احتوى على كل ما في الكتب الإلهية السابقة وزاد عليها، وتضمن كل ما يحتاج إليه الخلق من أصول الإيمان والشرائع والبراهين والحِكَم والمواعظ والأخبار، وهو في غاية الفصاحة والبيان. ومن أعظم الدَّلالات على أن هذا القرآن كلام رب العالمين، أن الرسول صلى الله عليه وسلم أميٌّ لا يقرأ ولا يكتب، وأنزل عليه أعظم الكتب وأكملها فصاحة وبيانًا.
ونؤمن أن القرآن آية باهرة في لفظه ومعناه، وتحدى الله الجن والإنس جميعًا أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور، أو بسورة واحدة من مثله.
ونؤمن أن هذا القرآن هو كلام الله منزل غير مخلوق، وأنه محفوظ في الصدور، مكتوب في المصاحف، متلوٌّ في المحاريب والمساجد، لا يخرجه ذلك عن أن يكون كلام الله. وكلامُ الله صفة من صفاته، وما كان من صفات الله فلا يكون مخلوقًا؛ إذ لو كان مخلوقًا لجرى عليه ما يجري على سائر المحدثات من الفناء والزوال والتغيُّر.
ونؤمن أن هذا القرآن قد تكفل الله بحفظه، ولم يجعل ذلك إلى خلقه، وجعله محكمًا غاية الإحكام كما جعله متشابهًا، وبيَّن أن أهل الزيغ يتبعون المتشـابه منه، والمؤمنون يؤمنون به كله محكمه ومتشابهه.
وجعله الله حاكمًا على جميع الكتب السابقة، ومهيمنًا عليها، وأن هذا الكتاب يقصُّ علينا أخبار الأمم الماضية، ويفْصلُ بين أهل الكتاب فيما اختلفوا فيه.
ونؤمن أن هذا القرآن العظيم هو كلام رب العالمين نزل به الروح الأمين، وهذا أمر معلوم من دين المسلمين بالضرورة، وجميع المسلمين العلماء منهم والعامة مجمعون على ذلك، ولم يخالف في ذلك أحد منهم، وقد شهد الله لهذا القرآن بأنه من عنده، وشهدت الملائكة أن هذا القرآن تنزيل من حكيم حميد. وشهد أهل الكتاب المعاصرون للرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر الله هذه الشهادة في محكم تنزيله. وشهد شاهد الجن بأن هذا القرآن تنزيل من عند الله وأنه موافق لما جاء به موسى عليه السلام ، وشهد كفار قريش أن هذا القرآن ليس من كلام البشر، وأنه مخالف لكلامهم.
ونؤمن أن ما تضمنه القرآن من علوم إلهية، وأحكام شرعية، وآداب مرعية - أن ذلك مستقرٌّ في الفِطَر، موافق لما جاءت به الأنبياء عليهم السلام، وكل الأصول التي ورد التوكيد عليها في القرآن هي التي دعا إليها المرسلون، وأكدوا عليها.
والقرآن العظيم موافق لما يريده الله سبحانه وتعالى من الخلق، وموافق لما يريده الخلق من الخالق؛ ذلك لأن الله هو الخالق، فيعلم ما يحتاج إليه العباد، ويعلم ما يصلح أديانهم وأبدانهم وأموالهم وديارهم، وما أمر بشيء إلا وفي أمره غاية المصلحة، ولا نهى عن أمر إلا وفي نهيه غاية الاحتياط والحماية.
والقرآن الكريم موافق لما تقتضيه العقول، ولذا لما ذكر الله أصول المحرمات في «سورة الأنعام» ختمها بقوله: {لَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ}.
والأدلة التي جاء بها القرآن الكريم أدلة في غاية البيان والفصاحة والقوة والقرب واليسر، يفهمها كل أحد، ولا يستطيع أن ينقضها أحد أو يردها، وهذا لا يعرف في كلام أحد من البشر، وأدلته لا يمكن -بحال من الأحوال- أن تدل على باطل.
والقرآن العظيم هو كلام رب العالمين، ومع ذلك فهو ميسّر لكل أحد، ولم يكن من معهود البشر أن يكتب الواحد منهم كتابًا، فيكون ميسرًا لكل أحد، ومخاطبًا به كل أحد، فهذا لا يكون إلا لهذا الكتاب الكريم.
والقرآن العظيم محفوظ من التغير والاختلاف، وكتب الله له البقاء والخلود إلى قيام الساعة، وهذا البقاء والخلود وعدم التغير يدل على أنه تنزيل من حكيم حميد، ومع بقائه وخلوده وحفظه، ومع تجدُّد العلوم والفنون والمكتشفات، لم نجد أن علمًا تضمن خلاف ما جاء به القرآن، بل العلوم توافق القرآن فيما ورد في القرآن ذكره، كخلق السموات، وخلق الإنسان، وغير ذلك.
والقرآن هادٍ للتي هي أقوم، شامل لكل خير، فهو شامل للخبر عن الخالق والمخلوق، والدنيا والآخرة، والجن والإنس، والأوامر والنواهي والآداب والواجبات، والجنة والنار، فهو شامل للإيمان والعمل والجزاء.
والقرآن الكريم شفاء للأدواء، ولا يعرف في كلام البشر كلام يكون فيه الشفاء من أدواء القلوب والأبدان، كما في هذا القرآن العظيم الذي هو كلام رب العالمين.
والقرآن يقص علينا أخبار الأمم الماضية كما وقعت، ولم تكن أخبارهم منتشرة بين أهل مكة، فقصها الله علينا كما هي، وهذا شاهد على أن هذا التنزيل من حكيم حميد.
والقرآن العظيم الذي تضمن غاية البيان والفصاحة والأخبار الغيبية والشرائع الربانية جاء به رسول أمي لا يقرأ ولا يكتب، وهذا دالٌّ على أنه تنزيل من حكيم حميد. والسورة الواحدة من القرآن الكريم تنزل في أوقات متباعدة، وفي أماكنَ مختلفةٍ، ومع ذلك تقرأ السورة كأنما أنزلت مرة واحدة، وجرت العادة أن البشر تتفاوت ملكاتهم، وتختلف أساليبهم إذا صنفوا الكتب في أوقات متباعدة.
والرسول صلى الله عليه وسلم قد آتاه الله السنة كما آتاه القرآن: ومن نظر في القرآن والسنة علم أن بينهما من التفاوت ما لا يخفى.
وأن القرآن تضمن توجيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما ينبغي أن يكون، أو ما يجب أن يفعله.
بــاب
ونؤمن بالكتب، وهي كتب الله المنزلة على رسله وأنبيائه عليهم السلام.
والذي نعلم منها هي: صحف إبراهيم، وصحف موسى، والتوراة، والزبور، والإنجيل، والقرآن.
ونؤمن بما علمنا منها وما لم نعلم.
ونؤمن أن كل هذه الكتب هي كلام الله ووحيه، أنزلها على رسله عليهم السلام نزل بها جبريل الأمين، وتضمنت الشرائع الإلهية، والأخبار والمواعظ والأوامر والنواهي. وكان كل كتاب في زمنه هو الوحي الذي يجب العمل به، والتحاكم إليه.
ونؤمن أن بعضها أفضل من بعض، فالتوراة كتبها الله بيده، قال الحق جل في علاه: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145]، وقال صلى الله عليه وسلم مخبرًا عن آدم أنه قال لموسى عليهما السلام: «يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ»([248])، وقال الله في التوراة: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ [المائدة: 44]. وقال الحق في الإنجيل: {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِين} [المائدة: 46].
والإيمان بالكتب هو الركن الثالث من أركان الإيمان بالله، قال المولى جل شأنه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير} [البقرة: 285]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُول اللهِ، مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكِتَابِهِ، وَلِقَائِهِ، وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الْآخِرِ»([249])، ولا نكون كالذين آمنوا ببعضها، وكفروا ببعض، كما أخبر الله عنهم بقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} [النساء: 150]، أو كالذين كذبوا بالكتب التي أنزلها الله على رسله، حيث قال الحق مخبرًا عنهم بقوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُون} [غافر: 70].
ونؤمن أن كل الكتب التي سبقت القرآن لم يتكفل الله بحفظها؛ بل وَكَلَ حفظها إلى القوم الذين أنزلها الله عليهم، فقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء} [المائدة: 44]؛ ولذا دخلها التحريف، قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} [المائدة: 13].
وتعرَّضت هذه الكتب الإلهية للضياع والنسيان، وكتب المفترون ما كتبوا ونسبوها إلى الله زورًا وبهتانًا، قال الحق جل في علاه: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُون} [البقرة: 79]، ويتلونها بألسنتهم إمعانًا في التلبيس على الخلق؛ ليحسبوها من عند الله، قال الله مخبرًا عن ذلك بقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُون} [آل عمران: 78].
بــاب
ونؤمن أن القرآن الكريم هو أعظم الكتب الإلهية وأكملها وأشرفها، وهو آخرها، نزل به جبريل عليه السلام على قلب رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِين * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِين * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِين} [الشعراء: 192-194]، واختار الله له أشرف اللغات، فأنزله بلسان عربي مبين، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} [يوسف: 2]. قال ابن قتيبة: «وإنما يعرف فضلَ القرآن مَنْ كَثُرَ نَظَره، واتسع علمه، وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب، وما خصّ الله به لغتها دون جميع اللغات؛ فإنه ليس في جميع الأمم أمّة أوتيت من العارضة والبيان، واتساع المجال، ما أوتيته العرب خصّيصي من الله؛ لما أرهصه في الرسول صلى الله عليه وسلم، وأراده من إقامة الدليل على نبوّته بالكتاب، فجعله علمه، كما جعل علم كل نبي من المرسلين، من أشبه الأمور بما في زمانه المبعوث فيه»([250]).
وأول ما أنزل الله منه: قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق} [العلق: 1]، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت في أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم: حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الملكُ، فَقَالَ: «اقْرَأْ، قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ: فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَق * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَم}
[العلق: 1-3]، فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ([251]). ومن أواخر ما نزل منه: قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]».
وقد نزل القرآن منجمًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال سنوات نبوته، ومنه المكي والمدني، وعدد سوره مائة وأربع عشرة سورة، وأعظم سوره «سورة الفاتحة»، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: «هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ»([252]). و«سورة الإخلاص» تعدل ثلث القرآن، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ»، فَقَرَأَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد * اللَّهُ الصَّمَد} حَتَّى خَتَمَهَا([253]).
وأعظم آياته آية الكرسي، فعن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟» قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟» قَالَ: قُلْتُ: {اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]. قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: «وَاللهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْم أَبَا الْمُنْذِرِ»([254]).
وأثنى الله على نفسه بإنزال هذا الكتاب، فقال جل ثناؤه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} [الكهف: 1]. كما أثنى سبحانه وتعالى على هـذا الكتاب العظيم، فقال الحق جل شأنه وتعالى سلطانه: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} [الحشر: 21]، وقال سبحانه أيضًا: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: 31]، وجعله هدى ورحمة للمؤمنـين، قال الله تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُون} [الجاثية: 20]، وموعظة وشفاء من أدواء القلوب والأبدان، فقال الحق جل شأنه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين} [يونس: 57]، وقال سبحانه وتعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} [الإسراء: 82].
ونؤمن أن هذا الكتاب العظيم هو أكمل الكتب الإلهية وأشملها، وتضمن من الحجج والبراهين، وضَرْب الأمثال ما تقوم به الحجة على الخلق إلى قيام الساعة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} [النساء: 174]، وقال الحق جل في علاه: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا} [الإسراء: 89]، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا} [الإسراء: 41]، قال ابن جرير: «يقول تعالى ذكره: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} لهؤلاء المشركين المفترين على الله {فِي هَـذَا الْقُرْآنِ} العبر والآيات والحجج، وضربنا لهم فيه الأمثال، وحذرناهم فيه، وأنذرناهم {لِيَذَّكَّرُواْ} يقول: ليتذكروا تلك الحجج عليهم، فيعقلوا خطأ ما هم عليه مقيمون، ويعتبروا بالعبر، فيتعظوا بها، وينيبوا من جهالتهم، فما يعتبرون بها، ولا يتذكرون بما يرد عليهم من الآيات والنذر»([255]).
وقد احتوى هذا القرآن العظيم على كل ما في الكتب الإلهية السابقة، وزاد عليها، قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [الأنعام: 115]، وتضمن كل ما يحتاج إليه الخلق من أصول الإيمان والشرائع والبراهين والحكم والمواعظ والأخبار، قال الحق جل شأنه: {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، وقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ} [يوسف: 3]، وهو في غاية الفصاحة والبيان، قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ} [الزمر: 23]. وقال صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ»([256]).
ومن أعظم الدلالات على أن هذا القرآن كلام رب العالمين: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب، وأنزل عليه أعظم الكتب وأكملها فصاحة وبيانًا، قال الله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُون} [العنكبوت: 48]، وقال تعالى: {فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون} [الأعراف: 158].
ونؤمن أن القرآن آية باهرة في لفظه ومعناه، وتحدى الله الجن والإنس جميعًا أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة واحدة، فتبارك الله رب العالمين، قال الحق جل شأنه: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} [هود: 13]. وقال المولى عز شأنه: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} [البقرة: 23].
ونؤمن أن هذا القرآن قد تكفل الله بحفظه، ولم يجعل ذلك إلى خلقه، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} [الحجر: 9]. وقال تعالى: {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيد} [فصلت: 42]، وجعله محكمًا كله من حيث الإحكام العامِّ، قال المولى عز شأنه: {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِير} [هود: 1]، كما جعله متشابهًا كله، فقال الحق سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ} [الزمر: 23]، وجعل منه المحكم والمتشابه، فقال تعالى: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَاب} [آل عمران: 7]، وبين أن أهل الزيغ يتبعون المتشابه منه، والمؤمنون يؤمنون به كله محكمه ومتشابهه.
وجعله الله حاكمًا على جميع الكتب السابقة، ومهيمنًا عليها، قال المولى عز شأنه: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]. وبين الحق أن هذا الكتاب يقص علينا أخبار الأمم الماضية، كما في قول الحق جل شأنه: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُون} [يوسف: 102]، ومثلها كثير، والقرآن يفْصلُ بين أهل الكتاب فيما اختلفوا فيه، قال المولى عز شأنه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُون} [النمل: 76].
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عَلَى مِنْبَرِهِ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ، فَلَا أَعْرِفَنَّ مَا عَطَفْتُمُوهُ عَلَى أَهْوَائِكُمْ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ خَضَعَتْ لَهُ رِقَابُ النَّاسِ، فَدَخَلُوهُ طَوْعًا وَكَرْهًا، وَقَدْ وُضِعَتْ لَكُمُ السُّنَنُ، وَلَمْ يُتْرَكْ لِأَحَدٍ مَقَالًا إِلَّا أَنْ يَكْفُرَ عَبْدٌ عَمْدًا عَيْنًا، فَاتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا، فَقَدْ كُفِيتُمْ، اعْمَلُوا بِمُحْكَمِهِ، وَآمِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ»([257]).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضًا: «الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ، فَلَا تَصْرِفُوهُ عَلَى آرَائِكُمْ»([258]).
وعَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: «كَانَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ رضي الله عنه لِي جَارًا، فَقَالَ لِي يَوْمًا: يَا هَنَاهْ، تَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا اسْتَطَعْتَ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَسْتَ تَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ»([259]).
ونؤمن أن هذا القرآن هو كلام الله، منزل غير مخلوق، وأنه محفوظ في الصدور، قال الحق جل شأنه: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُون} [العنكبوت: 49]، وسواء كان مكتوبًا في المصاحف، أو متلوًّا في المحاريب والمساجد، فلا يخرجه ذلك عن أن يكون كلام الله، قال الله جل في علاه: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُور} [فاطر: 29]، وقال الله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيم * فِي كِتَابٍ مَّكْنُون * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُون * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِين} [الواقعة: 77-80].
والقرآن العظيم كلام الله، وكلامه صفة من صفاته، وما كان من صفات الله فلا يكون مخلوقًا؛ إذ لو كان مخلوقًا لجرى عليه ما يجري على سائر المحدثات من الفناء والزوال والتغير، قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وقال الحق جل في علاه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُون} [التوبة: 6].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذُ الحَسَنَ وَالحُسَيْنَ، وَيَقُولُ: «إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ»([260]).
وحكى إسماعيل بن أبي أويس إجماع أهل المدينة على أن القرآن غير مخلوق، فقال: «كان مالك وعلماء أهل بلدنا يقولون: القرآن من الله، وليس من الله شيء مخلوق، وعلماء أهل المدينة في وقت مالك بن أنس: محمد بن عبدالرحمن بن أبي ذئب، وعبدالعزيز بن أبي سلمة الماجشون، وأبو بكر بن أبي سبرة، وإبراهيم بن سعد الزهري، وسعيد بن عبدالرحمن الجمحي، وحاتم بن إسماعيل، وعبدالله بن عبدالعزيز العمري الزاهد، وأبو ضمرة أنس بن عياض، ومحمد بن إسماعيل بن أبي فديك»([261]).
وقال شعيب بن حرب: قلت لأبي عبدالله سفيان بن سعيد الثوري: «حدثني بحديث من السنة ينفعني الله عز وجل به، فإذا وقفت بين يدي الله تبارك وتعالى وسألني عنه، فقال لي: من أين أخذت هذا؟ قلت: يا رب حدثني بهذا الحديث سفيان الثوري، وأخذته عنه، فأنجو أنا، وتؤاخذ أنت. فقال: يا شعيب، هذا توكيد، وأي توكيد، اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم: القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود»([262]).
وقال الإمام ابن جرير الطبري: «حدثنا ابن عيينة قال: سمعت عمرو بن دينار يقول: أدركت مشايخنا منذ سبعين سنة يقولون: القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود»([263]).
وعن الحسن بن أيوب قال: «سمعت أحمد بن حنبل يقول عن الفريابي قال: سمعت الثوري - يعني سفيان - يقول: من قال: القرآن مخلوق، فهو زنديق». وعن عبدالله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: بلغني عن إبراهيم ابن سعد، وسعيد بن عبدالرحمن الجمحي، ووهب بن جرير، وأبي النضر هاشم بن القاسم، وسليمان بن حرب قالوا: القرآن ليس بمخلوق»([264]).
وبوّب إمام الأئمة محمد بن خزيمة رحمه الله على هذه المسألة، فقال: «باب من الأدلة التي تدل على أن القرآن كلام الله الخالق، وقوله غير مخلوق»([265]).
وقال أبو سعيد الدارمي: «ففي هذه الأحاديث بيان أن القرآن غير مخلوق؛ لأنه ليس شيء من المخلوقين من التفاوت في فضل ما بينهما كما بين الله وبين خلقه في الفضل؛ لأن فضل ما بين المخلوقين يستدرك، ولا يسـتدرك فضل الله على خلقه، ولا يحصيه أحد، وكذلك فضل كلامه على كلام المخلوقين، ولو كان كلامًا مخلوقًا لم يكن فضل ما بينه وبين سائر الكلام كفضل الله على خلقه، ولا كعشر عشر جزء من ألف ألف جزء ولا قريبًا ولا قريبًا، فافهموه؛ فإنه ليس كمثله شيء، فليس ككلامه كلام، ولن يؤتى بمثله أبدًا»([266]).
وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: «أما القرآن فإنه كـلام الله تعالى، ووحيُه وتنْزيلُه، على هذا وجدتُ أبا حنيفة والأئمةَ، ولم يكن عندهم مخلوقًا، ولا خالقًا»([267]).
بــاب
ونؤمن أن هذا القرآن العظيم هو كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين، وهذا أمر معلوم من دين المسلمين بالضرورة، والمسلمون مجمعون على ذلك، ولم يخالف في ذلك أحد منهم. وهذا الأمر -وهو كونه من رب العالمين- تدل عليه أدلة كثيرة لا يمكن حصرها، ولا الإحاطة بها، فمنها:
شهادة الله لهذا القرآن بأنه من الله، قال الحق - وقوله الحق: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19]، وقال تعالى: {لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166].
ومنها: شهادة الملائكة أن هذا القرآن تنزيل من حكيم حميد، قال تعالى: {لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166].
ومنها: أنه موافق لما جاءت به الأنبياء عليهم السلام، كما في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} [الإسراء: 23]. إلى قوله سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} [الإسراء: 39].
وقال تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيل} [آل عمران: 3]. فكل هذه الأصول التي ورد التوكيد عليها هي التي دعا إليها المرسلون وأكَّدوا عليها.
ومنها: شهادة أهل الكتاب المعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر الله هذه الشهادة في محكم تنزيله، فقال جل من قائل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} [الأحقاف: 10]. وفي «الصحيحين» من خبر ورقة بعدما أخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بما رأى «فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى»([268]).
وفي خبر جعفر رضي الله عنه حينما سأله النجاشي: هل معك شيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فقرأ عليه، ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ: «وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَالْكَلَامَ الَّذِي جَاءَ مُوسَى لَيَخْرُجَانِ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ»([269]).
ومنها: شهادة الجن بأن هذا القرآن تنزيل من عند الله، وأنه موافق لما جاء به موسى عليه السلام : {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِين * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيم} [الأحقاف: 29، 30]. وقال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 1، 2].
ومنها: شهادة كفار قريش أن هذا القرآن ليس من كلام البشر، وأنه مخالف لكلامهم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: «أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ، فَأَتَاهُ، فَقَالَ: يَا عَمُّ، إِنَّ قَوْمَكَ يَرَوْنَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا. قَالَ: لِم؟ قَالَ: لِيُعْطُوكَهُ فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتُعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ، قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا. قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ، أَوْ أَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ قَالَ: وَمَاذَا أَقُولُ؟! فَوَاللَّهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي، وَلَا أَعْلَمَ بِرَجَزٍ وَلَا بِقَصِيدَةٍ مِنِّي وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ»([270]).
ومنها: أن القرآن العظيم موافق لما يريده الله سبحانه وتعالى من الخلق، قال المولى عز شأنه: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [الأنعام: 153].
ومنها: أن ما تضمنه القرآن من معارفَ إلهيةٍ، وأحكامٍ شرعيةٍ، وآدابٍ مرعيـَّةٍ كله مما استقر في الفطر، قال الحق جـل في عـلاه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون} [الروم: 30].
ومنها: أن القرآن العظيم موافق لما فيه صلاح الخلق؛ ذلك لأن الله هو الخالق، فيعلم ما يحتاج إليه العباد، ويعلم ما يصلح أديانهم وأبدانهم وأموالهم وديارهم، قال تعالى: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} [الملك: 14]. وما أمر إلا وفي أمره غاية المصلحة، ولا نهى إلا وفي نهيه غاية الاحتياط والحماية.
ومنها أن القرآن الكريم موافق لما تقتضيه العقول؛ ولذا لما ذكر الله أصول المحرمات في «سورة الأنعام» ختمها بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}، قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} [الأنعام: 151].
وخطاب القرآن لأولي الألباب أكثر من أن يحصر، كما أن الله كثيرًا ما يطلب من العباد التفكُّر والنظر والاعتبار فيما يأمر به، أو ينهى عنه.
ومنها: أن الأدلة التي جاء بها القرآن الكريم أدلة في غاية البيان والفصاحة والقـوة والقرب واليسـر، يفهمها كل أحد، وهذا لا يعرف في كلام أحد من البشر، كما في قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِين} [لقمان: 11]، وفي قوله سبحانه وتعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُون} [الأنبياء: 22]، كما أن أدلته لا يمكن -بحال من الأحوال- أن تدل على باطل، ومن قوة أدلته أنه لا يمكن نقضها أو ردها، قال تعالى: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
ومنها: أن القرآن العظيم -وهو كلام رب العالمين- ميسَّر لكل أحد، قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِر} [القمر: 17]. ولم يكن من معهود البشر أن يكتب الواحد منهم كتابًا فيكون ميسرًا لكل أحد، ومخاطبًا به كل أحد، فهذا لا يكون إلا لهذا الكتاب الكريم.
ومنها: أن القرآن العظيم محفوظ من التغيُّر والتبديل، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} [الحجر: 9]. وكتب الله له البقاء والخلود إلى قيام الساعة، فهذا البقاء والخلود وعدم التغيّر يدل على أنه تنزيل من حكيم حميد، قال الحق: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
ومع بقائه وخلوده وحفظه ومع تجدُّد العلوم والفنون والمكتشفات، لم نجد أن علمًا تضمن خلاف ما جاء به القرآن، بل العلوم توافق القرآن فيما ورد في القرآن ذكره، كخلق السموات، وخلق الإنسان وغير ذلك.
ومنها: أن القرآن هادٍ للتي هي أقوم، شامل لكل خير، فهو شامل للخبر عن الخالق والمخلوق، والدنيا والآخرة، والجن والإنس، والأوامر والنواهي والآداب والواجبات، والجنة والنار، فهو شامل للإيمان والعمل والجزاء، قال تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، وقال تعالى: {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
ومنها: أن القرآن الكريم شفاء للأدواء، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين} [يونس: 57]. ولا يعرف في كلام البشر كلام يكون فيه الشفاء من أدواء القلوب والأبدان، كما في هذا القرآن العظيم الذي هو كلام رب العالمين.
ومنها: أن الله تحدى الإنس والجن أن يأتوا بمثلـه، أو بمثل سـورة منه، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} [يونس: 38]، وبين أنه لا ريب فيه، فقال الحق سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِين} [يونس: 37].
ومنها: أن هذا القرآن يقص علينا أخبار الأمم الماضية كما وقعت، ولم تكن أخبارهم منتشرة بين أهل مكة، فقصها الله علينا، كما في قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِين} [يوسف: 3]. وهذا شاهد على أن هذا التنزيل من حكيم حميد.
ومنها: أن هذا القرآن العظيم الذي تضمن غاية البيان والفصاحة والأخبار الغيبية والشرائع الربانية جاء به رسول أمي لا يقرأ ولا يكتب، قال المولى جل شأنه: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُون} [العنكبوت: 48]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157].
ومنها: أن السورة الواحدة من القرآن الكريم تنزل في أوقات متباعدة وفي أماكن مختلفة، ومع ذلك تقرأ السورة كأنما أنزلت مرة واحدة، وجرت العادة أن البشر تتفاوت ملكاتهم، وتختلف أساليبهم إذا صنفوا الكتب في أوقات متباعدة.
ومنها: أن الرسـول صلى الله عليه وسلم قد آتاه الله السنة كما آتاه القرآن، قال صلى الله عليه وسلم: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ، وَمِثْلَهُ مَعَهُ»([271]).
ومنها: أن القرآن تضمن توجيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما ينبغي أن يكون، أو ما يجب أن يفعله، كما في قوله تعالى: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيم} [الأنفال: 68]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم} [التحريم: 1]، وقوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى} [عبس: ١-7]، وقوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 74، 75]، ولو كان القرآن من عند الرسول صلى الله عليه وسلم لما سجَّل هذا على نفسه؛ فلما ورد فيه مثل هذا التوجيه الكريم للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم؛ دل قطعًا على أنه ليس من عنده، بل هو من عند العليم الحكيم.
ونؤمن أن الإيمان بالرسل عليهم السلام هو الركن الرابع من أركان الإيمان بالله تعالى.
ونؤمن أن أساس دعوة الرسل عليهم السلام هو العلم بالله تعالى وبأسمائه وصفاته وأفعاله، وأنهم كلهم بُعِثوا بالتوحيد ودَعَوا إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه، فالأنبياء والمرسلون أكمل الناس توحيدًا وإيمانًا، وهم أعلم الخلق بالخالق سبحانه وتعالى وما يجب له وما يمتنع عليه سبحانه وتعالى.
وكل نبي دعا قومه إلى أصلين عظيمين، هما: عبادة الله وحده، والإيمان باليوم الآخر وما أعد الله فيه من النعيم لأوليائه، والعذاب لأعدائه.
ونؤمن أن الأنبياء عليهم السلام متفقون في الأصول الكبرى التي دعوا إليها، فكلهم دعا إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، وكلهم دعوا إلى أصول العبادات، كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وأصول الأخلاق المحمودة، ونهوا عن أصول الأخلاق المذمومة، فالأنبياء عليهم السلام متفقون في الأصول، أما الشرائع التي دعوا إليها فمختلفة في أحكامها وتفاصيلها.
ونؤمن أنه يجب الإيمان بجميع الأنبياء عليهم السلام وتصديقهم في كل ما أخبروا به من الغيب، وطاعتهم فيما أمروا به، والانتهاء عن كل ما نهوا عنه، ومحبتهم وتوقيرهم والاقتداء بهم، والشهادة لهم بأنهم بلَّغوا الرسالة، وأدوا الأمانة، ونصحوا لله ولعباده، وجاهدوا في الله حق جهاده، ويجب على كل أمة العمل بشريعة الرسول الذي أرسل إليها، ويجب على هذه الأمة -أمة محمد صلى الله عليه وسلم- من الجن والإنس العمل بشريعة خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مرسل إلى جميع الثقلين.
وكل الأنبياء والرسل عليهم السلام جاؤوا لإخراج الناس من ظلمات الكفر والشرك والجهل، وإن كانوا في عزٍّ من الدنيا وسلطان وقوة وبأس وحرث ومصانعَ.
ونؤمن أن الله أرسلهم مبشرين ومنذرين؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
ونؤمن أن الله قد أرسل في كل أمة رسولًا. فمن علمنا اسمه منهم وجب الإيمان به، ومن لم نعلم اسمه منهم نؤمن به إجمالًا. فالإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين عليهم السلام واجب على كل مسلم ومسلمة، ومن كفر بنبي واحد فقد كفر بجميع الأنبياء عليهم السلام.
ونؤمن أن الله يرسل رسله إلى من شاء من عباده وَفْق ما تقتضيه حكمته، فلا معقب لحكمه، يفعل ما يشاء ويختار.
ونؤمن أن النبوة مِنَّة إلهية، ورحمة ربانية يهبها الله لمن شاء من عباده، فالله يصطفي من الملائكة رسلًا ومن الناس.
والأنبياء والرسل عليهم السلام فيما بينهم متفاضلون، وأفضلهم أولو العزم، وأفضل أولي العزم الخليلان: إبراهيم، ومحمد عليهما السلام، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التفضيل بين الأنبياء إذا كان على سبيل الحمية والعصبية أو التنقص، وكما اتخذ الله إبراهيم ومحمدًا عليهما السلام خليلين، فقد اختار الله موسى عليه السلام واصطفاه على الناس برسالاته وبتكليمه، وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد نال شرف مرتبة الخُلَّة، وشرف أن كلمه ربه من وراء حجاب ليلة أسري به صلى الله عليه وسلم، فيكون نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد نال شرف الخلة، وشرف التكليم.
ونؤمن أن الأنبياء أفضل البشر، ولا يبلغ أحد مرتبة النبي، لا وليٌّ ولا غيره، ولا يجوز تفضيل أحد من البشر على أحد من الأنبياء، وليست النبوة كسبًا، ولا ينالها العبد بالاجتهاد بالطاعة، ولا بتزكية النفس والمجاهدة وتطهير القلب وتنقيته وتهذيب السلوك.
ونؤمن أن الله لم يرسل إلا رجالًا، ونعلم أن الرسل والأنبياء عليهم السلام بشر كبقية البشر، وهم أكمل البشر في أديانهم وعقولهم وأخلاقهم، لكنهم يوحى إليهم، وهم معصومون فيما يبلغونه عن أمر الله، وإذا اجتهد النبي فيما لم يوح إليه فيه شيء ولم يصب، فإن الله لا يقره على اجتهاده، بل يتنزل عليه الوحي لتسديده.
والرسل والأنبياء عليهم السلام لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًَّا، مع أن لهم المنزلة العالية، والدرجة الرفيعة، والمقام المحمود في الدنيا والآخرة، وإذا كانوا لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا فلا يملكون لغيرهم من باب الأولى، وإذا كانوا لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم -حال حياتهم- نفعًا ولا ضرًّا فهم إذًا من باب الأولى لا يملكون لغيرهم نفعًا ولا ضرًّا، بعد وفاتهم.
ولا يعلمون الغيب إلا على قدر ما أطلعهم الله عليه وأذن لهم فيه.
والأنبياء والمرسلون عليهم السلام يعبدون الله خوفًا وطمعًا، ويبتغون إليه الوسيلة ويتقربون إليه سبحانه وتعالى.
ونؤمن أن الأنبياء والمرسلين عليهم السلام يتعرضون لما يتعرض له البشر من البلاء والمرض، ويصيبهم الحزن والموت، وأنهم لهم أزواج وذريةٌ، وأنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ونعلم أن المسيح عليه السلام رفعه الله حيًّا لما أراد قومه قتله.
ونشهد أنهم قد نصحوا للخلق، وأدوا الأمانة، وبلغوا رسالات ربهم، ولا يضرهم أن الأتباع لم يستجيبوا، ولا أن الملأ استكبروا عليهم.
ونؤمن أن الله قد آتى كل نبي من الآيات والحجج ما على مثلها يؤمن البشر.
ونؤمن أن الله ما بعث نبيًّا، إلا ومعه آية تدل على صدقه، سواء علمناها أو لم نعلمها، وقد ذكر الله لنا جملة منها في القرآن الكريم. ونعلم -أيضًا- أن هناك آياتٍ كثيرةً أيَّد الله بها رسله السابقين، ولم يذكرها الله لنا، وتارة يذكر الله الآيات البينات، وتارة يذكر السلطان، ونعلم أن الآيات والحجج التي أيَّد الله بها رسله وأنبياءه عليهم السلام كثيرة جدًّا.
وأعظمُ الأدلة الدالة على صدقهم هي ما يدعون إليه من التوحيد المستقر في الفطر الذي تشهد العقول على حسنه، وما جاؤوا به من العلم النافع والعمل الصالح والهدى ودين الحق والميزان. وشهادة الله لرسله أنهم على الحق، وأن ما جاؤوا به هو الحق. ومن أعظم آياتهم الوحي الذي يتنزل عليهم من الله، وأعظمُ الوحي هو القرآن العظيم آية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الوحي لا يمكن أن يأتي البشر بمثله؛ لأنه كلام الله ووحيه، ولما فيه من الأنباء الغيبية، ولما فيه من الهدى والنور والرحمة والحكمة.
ومما أيَّد الله به رسله عليهم السلام البراهين العقلية التي يمدهم الله بها، فتبهت الكافر، وتزهق باطله.
ومن أعظم آياتهم إخبارهم بالغيوب التي يأذن الله لهم في الإخبار عنها. ومنها: نجاة الأنبياء السابقين عليهم السلام ونجاة أتباعهم من مكر أعدائهم، وهلاك المعاندين المستكبرين، وتذكير الله للمدعوين بما فعل بالسابقين، وأن سنة الله ماضية. ومنها: كمال خصالهم، وحُسْن أخلاقهم وأفعالهم وسيرتهم، وصدق أقوالهم مما يمتنع معه عليهم الكذب. ومنها: التواتر العظيم في نقل آيات الأنبياء، وما جاؤوا به من العلم والهدى ودين الحق، مما يستحيل معه أن يتواطؤوا على نقل الكذب. ومنها: أنهم لا يطلبون أجرًا على رسالاتهم، ولا يبتغون ملكًا. ومنها: أنه لا يوجد من قدح في نبوة الأنبياء إلا جاهل لم ينظر فيما جاؤوا به من الدين والعلم والهدى، أو معاند مستكبر.
ومن أعظم آياتهم ما يكون برهانًا حسيًّا تراه العيون، وتسلم له العقول، كغرق قوم نوح، وناقة صالح، وتحدي هود أن يكيده قومه أجمعون، ونجاة إبراهيم من النار، وآيات موسى، ومنها: العصا، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطوفان، وغرق فرعون وقومه، وآيات داود عليه السلام كتسبيح الجبال وإلانة الحديد، وآيات سليمان عليه السلام وتسخير الريح والجن له، ومعرفته منطق الطير، وآيات المسيح عليه السلام كشفاء الأبرص والأكمه والأعمى، وإحياء الموتى، وأنه كان يعمل من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه بإذن الله فيكون طيرًا، وآيات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي كثيرة لا تحصى إلا بالكلفة، كانشقاق القمر، والإسراء والمعراج، وتكثير الطعام، وحديث الدواب، وتسبيح الحصى، وحنين الجذع، ونصر الله له على أعدائه.
ومن آيات الأنبياء: حال النبي الداعي إلى الحق؛ فإن الناس يميزون بين الداعي إلى الحق الصادق في قوله، والدَّعيِّ الكاذب في قوله...إلى غير ذلك من الآيات.
وآيات الأنبياء كلها اندثرت عدا القرآن العظيم، وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فهما باقيان؛ لأنهما وحي تكفل الله بحفظه، وفيهما أعظم الدلائل والبراهين على صدق الرسالة، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم.
ونؤمن أن الله يؤيد رسله عليهم السلام بما تقتضيه حكمته من الآيات والبراهين الكونية والشرعية، فيهدي الله من شاء بفضله، ويضل من شاء بعدله، ولكن المعاند لا تزيده الآيات إلا عنادًا واستكبارًا.
ونؤمن أن الله لو أراد لهدى الناس جميعًا.
ونؤمن أن دلائل الأنبياء والآيات التي جاؤوا بها والبراهين التي أمدهم الله بها يستحيل أن يأتي بها مدَّعٍ للنبوة، أو ساحر أو كاذب؛ لأن الله قضى ألا ينصر المبطل بدليل صحيح، ولا يصدّق الكاذب ببرهان صادق؛ لأنه الحكيم في شرعه وأمره، وحكمة الله وسنته الجارية تمنع ذلك.
ونؤمن أن نبينا محمد بن عبدالله هو رسول رب العالمين، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، وهو سيد ولد آدم، وهو خليل رب العالمين.
ونعلم أنه أوتي من الآيات ما لم يُؤْتَ مثلَه أحدٌ من الرسل عليهم السلام وأعظم آياته القرآن الكريم، وأول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَقِ الصبح، وأول ما أنزل عليه منه صدر «سورة العلق»، وأنزل عليه بعدها «المدثر»، ثم حمي الوحي وتتابع، وأنه مكث في مكة ثلاثة عشر عامًا يدعو إلى التوحيد، وأقام بالمدينة عشر سنوات يبين شرائع الله، ويدعو إلى دينه، ويجاهد في سبيله، حتى توفاه الله عن ثلاث وستين سنة صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي.
ونعلم أن من أعظم آياته بعد القرآن العظيم الإسراء والمعراج. ومن آياته صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر، وخصه الله بخصائص كثيرة، وهذه الخصائص ذكرها العلماء في ثنايا مصنفاتهم تارة، وتارة يفردون لها مصنفاتٍ مستقلةً.
ونؤمن أنه يجب على كل أحد من الجن والإنس الإيمان به، وتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر.
ونؤمن بأنه يجب ألا يعبد الله إلا بما شرع. وقد حذر الحق من مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم، وأمر الحق بتوقيره ومحبته، وأنه يجب أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحبَّ إلى المرء من نفسه ووالده وولده والناس أجمعين.
ونؤمن أن الله قرن ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بذكره سبحانه في الشهادتين وفي الأذان، وقد استفاض ذكره صلى الله عليه وسلم في الكتب الإلهية السابقة، وفي القرآن العظيم، وصنف أئمة الإسلام المصنفات المتنوعة في بيان سنته، وسيرته، وشمائله، وأخلاقه، وغزواته.
ونؤمن أن الله أرسله إلى الخلق كافة، فهو رسول الله إلى الثقلين: الجن والإنس، وصرف الله إليه نفرًا من الجن يستمعون إليه؛ ليكونوا منذرين مَنْ وراءهم من قومهم، ولتقوم الحجة عليهم، وأخذ الله الميثاق على كل نبي من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام: لئن بُعث محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن به.
ونؤمن أن الأنبياء بشرت به أقوامها، ووردت صفاته صلى الله عليه وسلم وصفات أصحابه رضي الله عنهم في التوراة والإنجيل، وبشَّر به المسيح عليه السلام -على وجه الخصوص- بني إسرائيل، وكان بنو إسرائيل يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. ومن علامات نبوته صلى الله عليه وسلم التي كانت معروفة عند أهل الكتاب خاتم النبوة على كتفه الشريف.
ونؤمن بعموم رسالته صلى الله عليه وسلم ولذا أرسل الكتب إلى الملوك والرؤساء يدعوهم إلى عبادة الله وحده، والإيمان برسالته صلى الله عليه وسلم وتصديقه.
ونؤمن أن الله زوى لنبينا صلى الله عليه وسلم الأرض، فرأى منها ما سيبلغه ملك أمته منها.
ومن أدلة عموم رسالته صلى الله عليه وسلم أن نصارى نجران نكلوا عن مباهلته، وقبلوا أداء الجزية إليه وهم صاغرون؛ لعلمهم أنه نبي.
ومن أدلة عموم رسالته صلى الله عليه وسلم إسلام كثير من أحبار اليهـود ورهبان النصارى، بل الآلاف المؤلفة من أهل الكتاب. ومن أدلة عموم رسالته صلى الله عليه وسلم أنه غزا الروم، وأمر أصحابه بجهاد الفرس والروم من بعده.
ومن أدلة عموم رسالته صلى الله عليه وسلم أنه وعد سراقة بأنه سيلبس سواري كسري، فلبسهما في خلافة عمر رضي الله عنه.
ونعلم علم اليقين أن الله اقتضت حكمته أن يهدي من يشاء بفضله، وأن يضل من يشاء بعدله، كما اقتضت حكمته أن يكون لكل نبي عدو، وأن يكون بين هؤلاء الأعداء تواصٍ على الباطل وتوافق في مقالاتهم، فمقالة الملأ في كل أمة متماثلة: فتارة يقولون: إنه ساحر أو كاهن أو كاذب، وتارة ينكرون أن يكون أتاهم بآية، وتارة يزعمون أنه يفتري الكذب على الله، وتارة يصفونه بالجنون، وحاشا رسل الله عليهم السلام - وهم أكمل الناس عقولًا وأزكاهم قلوبًا. وتارة يستعظمون ما يدعوهم إليه من الدعوة إلى عبادة الله وحده، وتارة يردون على النبي دعوته؛ لأنه بشر مثلهم، وتارة يطالبونهم بأمور ليست في قدرة الخلق -ولكنه الاستكبار والعناد- فقد طالبوا نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يفجر من الأرض ينبوعًا، أو يكون له جنة، أو يسقط السماء عليهم كسفًا، أو يأتيهم بالله والملائكة، أو يكون للنبي بيت من زخرف، أو يرقى في السماء، وينزل عليهم كتابًا. وتارة يطالبون النبي بأن يأتيهم بما يعدهم به، وتارة يصدون عن سبيل الله ويقولون لأتباعهم: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه. وتارة يقابلون الرسول بالتكذيب، أو يتهمون الرسول صلى الله عليه وسلم بأن إنما يُعَلِّمُه بشر، وليس الذي يأتيه وحيًا من الله.
وقد ينصرفون عن الرسول؛ لأن الذين اتبعوه هم الضعفاء، وتارة يسخرون ويستهزئون من الرسل، وتارة يخادعون الرسول، ويطمعون في مداهنته لهم أو الركون إليهم، وتارة بالتعيير بما يعلم المعاند أنه كاذب في قوله، كما في تعيير فرعون لموسى بالكفر.
وتارة يهدد الملأ النبي بالإخراج من الأرض، وحاصر كفار قريش نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم ومن معه وبني هاشم في الشِّعْب ثلاث سنين، وأخرجوه من بلده صلى الله عليه وسلم. وحاول قوم إبراهيم عليه السلام إحراقه بالنار، فنجاه الله سبحانه وتعالى، وحاول بنو إسرائيل قتل الأنبياء، بل قتلوا منهم مَنْ قتلوا...
هذا هو دَيْدَنُ المستكبرين مع المرسلين، وهذه سنة جارية يتبعها الملأ في كل أمة مع المصلحين.
بــاب
الإيمان بالرسل عليهم السلام هو الركن الرابع من أركان الإيمان، قال المولى جل شأنه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285]، وقال الحق سبحانه وتعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكِتَابِهِ، وَلِقَائِهِ، وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الْآخِرِ»([272]).
ونؤمن أن أساس دعوة الرسل عليهم السلام هو العلم بالله تعالى وبأسمائه وصفاته وأفعاله، وأنهم كلهم بُعِثوا بالتوحيد، ودَعَوا إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون} [الأنبياء: 25]، وكل نبي قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُون} [الأعراف: 65]. فالأنبياء والمرسلون أكمل الناس توحيدًا وإيمانًا، وهم أعلم الخلق بالخالق سبحانه وتعالى وما يجب له، وما يمتنع عليه سبحانه وتعالى.
وكل نبي دعا قومه إلى أصلين عظيمين، هما: عبادة الله وحده، والإيمان باليوم الآخر وما أعدّ الله فيه من النعيم لأوليائه، والعذاب لأعدائه، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم} [الأعراف: 59]، وقال عز شأنه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيط} [هود: 84]، وقال الحق سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم} [الأحقاف: 21].
ونؤمن أن الأنبياء عليهم السلام متفقون في الأصول الكبرى التي دعوا إليها، فكلهم دعا إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، وكلهم دعوا إلى أصول العبادات، كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وأصول الأخلاق المحمودة، ونهوا عن أصول الأخلاق المذمومة، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]. فالأنبياء عليهم السلام متفقون في الأصول، أما الشرائع التي دعوا إليها فمختلفـة في أحكامها وتفاصيلها، قـال المولى جـل شأنه: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائـدة: 48].
ونؤمن أنه يجب الإيمان بجميع الأنبياء، وتصديقهم في كل ما أخبروا به من الغيب، وطاعتهم فيما أمروا به، والانتهاء عن كل ما نهوا عنه، ومحبتهم وتوقيرهم والاقتداء بهم، والشهادة لهم بأنهم بلغوا الرسالة، وأدوا الأمانة، ونصحوا لله ولعباده، وجاهدوا في الله حق جهاده، ويجب على كل أمة العمل بشريعة الرسول الذي أرسل إليها، ويجب على هذه الأمة -أمة محمد صلى الله عليه وسلم- من الجن والإنس، العملُ بشريعة خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مرسل إلى جميع الثقلين.
وكل الأنبياء والرسل عليهم السلام جاؤوا لإخراج الناس من ظلمات الكفر والشرك والجهل، وإن كانوا في عزٍّ من الدنيا وسلطان وقوة وبأس وحرث ومصانع، قال تعالى في موسى عليه السلام : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور} [إبراهيم: 5]، وقال تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُون * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُون * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِين} [الشعراء: 128-130]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون} [الروم: 9].
ونؤمن أن الله أرسلهم مبشرين ومنذرين؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، قال تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165].
ونؤمن أن الله قد أرسل في كل أمة رسولًا، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي»([273])، بل قد أخبرنا الله تعالى أنه أرسل إلى قرية من القرى ثلاثة أنبياء في وقت واحد، قال تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُون} [يس: 14].
فمن عرفنا اسمه منهم وجب الإيمان به، ومن لم نعرف اسمه منهم نؤمن به إجمالًا، فيجب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، قال تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير} [البقرة: 285]، وقال تعالى: {قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون} [آل عمران: 84].
ونؤمن أن الله يرسل رسله إلى مَنْ شاء مِنْ عباده وَفْق ما تقتضيه حكمته سبحانه وتعالى، قال المولى عز شأنه: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} [الفرقان: 51]، وقال المولى عز شأنه: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُون} [المؤمنون: 44]، فلا معقب لحكمه، يفعل ما يشاء ويختار، قال الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} [القصص: 68].
ومن كفر بنبي واحد؛ فقد كفر بجميع الأنبياء عليهم السلام؛ ولذا قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِين} [الشعراء: 105]. وهذه الآية كقوله تعالى:{ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيد} [ق: 14].
ونؤمن أن النبوة مِنَّة إلهية، ورحمة ربانية يهبها الله لمن شاء من عباده، فالله يصطفي من الملائكة رسلًا ومن الناس، قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير} [الحج: 75]، وقال المولى عـز شأنه: {اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]. فليست النبوة كسبًا، ولا ينالها العبد بالاجتهاد بالطاعة، ولا بتزكية النفس والمجاهدة وتطهير القلب وتنقية السلوك وتهذيبه.
ونؤمن أن الأنبياء والرسل عليهم السلام متفاضلون فيما بينهم، قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 253]، وأن أفضل الأنبياء هم أولو العزم، وهم المذكورون في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7]، وأشار الله إليهم في قوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]. وأفضل أولي العزم الخليلان: إبراهيم ومحمد عليهما السلام، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} [النساء: 125]. وعن جندب رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النبي صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ، وَهُوَ يَقُولُ: «إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ، فَإِنَّ الله تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا»([274]).
ونشهد أن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل والأنبياء، قال صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة»([275]).
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التفضيل بين الأنبياء إذا كان على سبيل الحمية والعصبية أو التنقُّص، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: اسْتَبَّ رَجُلَانِ: رَجُلٌ مِنَ المسلِمِينَ، وَرَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ، قَالَ المسلِمُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى العَالَمِينَ، فَقَالَ اليَهُودِيُّ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى العَالَمِينَ، فَرَفَعَ المسلِمُ يَدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَطَمَ وَجْهَ اليَهُودِيِّ، فَذَهَبَ اليَهُودِيُّ إِلَى النَّبِيّ ِصلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، وَأَمْرِ المسلِمِ، فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المسلِمَ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى؛ فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَأَصْعَقُ مَعَهُمْ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ جَانِبَ العَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ، فَأَفَاقَ قَبْلِي أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ؟»([276])، وفي لفظ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى عُرِفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: «لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللهِ»([277]).
وكما اتخـذ الله إبراهيم ومحمدًا عليهما السلام خليلين، فقد اختار الله موسى عليه السلام واصطفاه على الناس برسالاته وبتكليمه، وإن كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد نال شرف مرتبة الخُلّة، فقد كلّمه ربه من وراء حجاب ليلة أسري به صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10]، فيكون نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد جمع بين شرف الخلة، وشرف التكليم.
ونؤمن أن الأنبياء أفضل البشر، ولا يبلغ أحد مرتبة النبي، لا وليٌّ، ولا غيره، ولا يجوز تفضيل أحد من البشر على أحد من الأنبياء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى»([278]).
ونؤمن أن الله لم يرسل إلا رجالًا، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء: 7].
ونعلم أن الرسل والأنبياء عليهم السلام صفوة الخلق، قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير} [الحج: 75]. وهم أكمل البشر في أديانهم وعقولهم وأخلاقهم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110]. فهم بشر مثل بقية البشر، لكنهم يوحى إليهم، وهم معصومون فيما يبلغونه عن أمر الله، قال تعالى مخبرًا عن نبيه وخليله محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 3-5].
وإذا اجتهـد النبي فيما لم يوح إليه فيه بشيء، ولم يُصِبْ؛ فإن الله لا يقرُّه على اجتهاده، بل يتنزل عليه الوحي لتسديده، كما في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيم} [الأنفال: 67]. وقوله جل ثناؤه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم} [التحريم: 1].
ومع أن لهم هذه المنزلة العالية والدرجة الرفيعة والمقام المحمود في الدنيا والآخرة، فإنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، قال تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُون} [يونس: 49].
وإذا كانوا لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا فلا يملكون لغيرهم من باب الأولى، قال تعالى في نبيه وخليله محمد صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُون} [آل عمران: 128]، وقال في المسيح عليه السلام : {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة: 17].
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لعمته وابنته فاطمة رضي الله عنها: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا»([279]). وإذا كانوا لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم -حال حياتهم- نفعًا ولا ضرًّا، فهم إذًا لا يملكون لغيرهم نفعًا ولا ضرًا بعد وفاتهم من باب الأولى.
ونؤمن أنهم لا يعلمون الغيب إلا على قدر ما أطلعهم الله عليه، وأذن لهم فيه، قال تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50]، وقال تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون} [الأعراف: 188]، وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 26، 27].
والأنبياء والمرسلون عليهم السلام يعبدون الله خوفًا وطمعًا، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِين} [الأنبياء: 90]، ويبتغون إليه الوسيلة، ويتقربون إليه سبحانه قال تعالى: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57].
والأنبياء والمرسلون عليهم السلام يتعرضون لما يتعرض له البشر من البلاء والمرض والموت، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وقال تعالى مخبرًا عن أيوب أنه مسَّه الضر: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين} [الأنبياء: 83]، ولهم أزواج وذرية، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38]. ويأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، قال تعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20]، ويصيبهم الحزن، كما قال تعالى مخبرًا عن يعقوب عليه السلام : {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيم} [يوسف: 84]. وفي «الصحيحين» في خبر وفاة ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فَلَمَّا قَعَدَ رُفِعَ إِلَيْهِ، فَأَقْعَدَهُ فِي حَجْرِهِ، وَنَفْسُ الصَّبِيِّ جُئِّثُ([280])، فَفَاضَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ سَعْدٌ: مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «هَذِهِ رَحْمَةٌ يَضَعُهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ»([281]).
ونعلم أنهم قد نصحوا للخلق، وأدوا الأمانة، وبلغوا رسالات ربهم، ولا يضرهم أن بعض الأتباع لم يستجيبوا، ولا أن الملأ استكبروا عليهم قال صلى الله عليه وسلم: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ»([282]).
ونؤمن أن الله تعالى قد رفع المسيح عليه السلام حيًّا لما أراد قومه قتله، قال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُون * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين * وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين} [آل عمران: 52-54]، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم} [الزخرف: 61]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما، ومجاهد، وقتادة: أن المراد بها: نزول عيسى ابن مريم عليه السلام ([283]).
وقال جل ذكره: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: {قَبْلَ مَوْتِهِ} أي: قبل موت عيسى ابن مريم»([284]).
ونؤمن أنه سينزل في آخر الزمان حكمًا عدلًا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ المالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ»([285]).
وفي خبر نزول المسيح عليه السلام : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ([286])، وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ...»([287]).
بــاب
ونعلم أن الله قد آتى كل نبي من الآيات والحجج ما على مثلها يؤمن البشر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ أُومِنَ، أَوْ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنِّي أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ»([288]).
ونؤمن أن الله ما بعث نبيًّا إلا ومعه آية تدل على صدقه، علمناها أو لم نعلمها، وقد ذكر الله لنا جملة منها في القرآن الكريم، ونعلم -أيضًا- أن هناك آياتٍ كثيرةً أيد الله بها رسله السابقين، لم يذكرها الله لنا، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيم} [المائدة: 10]، وقوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَاب} [آل عمران: 11]. وتارة يذكر الله الآيات البينات، ويذكر السلطان، كما في قوله جل ثناؤه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِين} [هود: 96]، وقوله تعالى: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا} [القصص: 35]، قال عكرمة: «ما كان في القرآن من سلطان فهو: حجة»([289]).
ونعلم أن الآياتِ والحجج التي أيَّد الله بها رسله وأنبياءه عليهم السلام كثيرة جدًّا، وأعظم الأدلة الدالة على صدقهم هي ما جاؤوا به من الوحي، ووحي الله لأنبيائه ورسله عليهم السلام: إما أن يكون وحيًا بغير واسطة، كالرؤيا كقوله سبحانه وتعالى مخبرًا عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102]، أو أن يسمع الرسول كلام الله جل وعلا مباشرة ولكن من وراء حجاب، كما في قوله جل ثناؤه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} [الشورى: 51]، وكما في تكليم الله لموسى عليه السلام كما في قوله جل شأنه: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِين} [الأعراف: 144]، أو يكلمه الملك، كما في قوله تعالى: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} [الشورى: 51].
ونعلم أن من أعظم الأدلة الدالة على صدقهم هي ما يدعون إليه من التوحيد المستقر في الفِطَر، الذي تشهد العقول على حسنه، وما جاؤوا به من العلم النافع، والعمل الصالح، والهدى ودين الحق والميزان، فعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ، أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ: «أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَزَعَمْتَ: أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، وَالصِّدْقِ، وَالعَفَافِ، وَالوَفَاءِ بِالعَهْدِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ»([290]).
وقال النجاشي لما تلا عليه جعفر رضي الله عنه صدر «سورة مريم»: «إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَالْكَلَامَ الَّذِي جَاءَ مُوسَى لَيَخْرُجَانِ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ»([291]).
ومنها شهادة الله لرسله أنهم على الحق، وأن ما جاؤوا به هو الحق، قال الله تعالى: {لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166]، وقال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَاب} [الرعد: 43].
ومن أعظم آياتهم: الوحي الذي يتنزل عليهم من الله، وأعظم الوحي هـو القرآن العظيم آية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا الوحي لا يمكن أن يأتي البشر بمثله؛ لأنه كلام الله ووحيه، ولما فيه من الأنباء الغيبية، ولما فيه من الهدى والنور والرحمة والحكمة.
ومن آياتهم البينات: البراهين العقلية التي يمد الله بها رسله وأنبياءه عليهم السلام، فتبهت الكافر وتزهق باطله كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} [البقرة: 258]، وقوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِين * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِين * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِين * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِين * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّين} [الشعراء: 77-82]، وقوله عن موسى عليه السلام أنه قال لفرعون: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}طه: 50]، ومنها قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُون} [الأنبياء: 22]، وقوله جل ثناؤه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون} [المؤمنون: 91]. وهذه الأدلة كثيرة جدًّا ذكرنا بعضها في باب الربوبية والألوهية، ومن أجل آياتهم إخبارهم بالغيوب التي يأذن الله لهم في الإخبار عنها.
ومن آياتهم الباهرة: نجاة الأنبياء السابقين عليهم السلام ونجاة أتباعهم من مكر أعدائهم، وهلاك المعاندين المستكبرين، وتذكير الله للمدعوين بما فعل بالسابقين، وأن سنة الله ماضية، قال الله تعالى في أول سورة الأنبياء: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِين} [الأنبياء: 9]، وقال في خاتمتها: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون} [الأنبياء: 105]، وقال تعالى: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِر * أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُر} [القمر: 42-43]. وفي «سورة الشعراء» كلما ذكر الله نجاة الأنبياء السابقين عليهم السلام وهلاك أعدائهم يعقب الحق على كل خبر من هذه الأخبار بقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِين} [الشعراء: 67]. وقال الحق جل في علاه: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُود} [فصلت: 13]، وقال المولى عز شأنه: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون} [الروم: 9].
ومن آياتهم الدالة على نبوتهم: كمال خصالهم، وحُسْن أخلاقهم وأفعالهم وسيرتهم، وصدق أقوالهم مما يمتنع معه عليهم الكذب، قال الله مخبرًا عن قوم صالح عليه السلام أنهم قالوا: {يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَـذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيب} [هود: 62]، وقال تعالى: {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيد} [هود: 87].
وقال هرقل بعدما سأل أبا سفيان عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: «وَسَأَلْتُكَ، هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ»([292]).
ومنها: التواتر العظيم في نقل آيات الأنبياء وما جاؤوا به من العلم والهدى ودين الحق مما يستحيل معه أن يتواطؤوا على نقل الكذب.
ومنها: أنهم لا يطلبون أجرًا على رسالاتهم، ولا يبتغون ملكًا، قال تعالى مخبرًا عن كثير من أنبيائهم أن كل واحد منهم قال لقومه: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُون} [هود: 51].
ومنها: أنه لا يوجد مَنْ قدح في نبوة الأنبياء إلا جاهلٌ لم ينظر فيما جاؤوا به من الدين والعلم والهدى، أو معاند مستكبر، قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]، وقال الحق جل في علاه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُون} [الأنعام: 33].
ومنها: ما يكون برهانًا حسيًّا تراه العيون، وتسلّم له العقول، كغرق قوم نوح، وناقة صالح، وتحدي هود قومه أن يكيدوه جميعًا، ونجاة إبراهيم من النار، وآيات موسى، ومنها: العصا، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطوفان، وغرق فرعون وقومه، وآيات داود عليه السلام كتسبيح الجبال، وإلانة الحديد، وآيات سليمان عليه السلام كتسخير الريح والجن له، ومعرفته منطق الطير، وآيات المسيح عليه السلام كشفاء الأبرص والأكمه والأعمى وإحياء الموتى، وأنه كان يعمل من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه بإذن الله فيكون طيرًا، وآيات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي كثيرة لا تحصى إلا بالكلفة، كانشقاق القمر، والإسراء والمعراج، وتكثير الطعام، وحديث الدواب، وتسبيح الحصى، وحنين الجذع، ونصر الله له على أعدائه.
ومنها: حال النبي الداعي إلى الحق؛ فإن الناس يميزون بين الداعي إلى الحق الصادق في قوله، والدَّعيِّ الكاذب في قوله؛ ولذا قال عبدالله بن سلام: «لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المدينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ»([293])، إلى غير ذلك من الآيات.
ولم يبق من آيات الأنبياء شيء عدا القرآن العظيم، وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهما باقيان؛ لأنهما وحي تكفل الله بحفظه، قال المولى عز شـأنه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} [الحجر: 9]، وفيهما أعظم الدلائل والبراهين على صدق الرسالة، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم.
ونؤمن أن الله يؤيد رسله عليهم السلام بما تقتضيه حكمته من الآيات والبراهين الكونية والشرعية، فيهدي الله من شاء بفضله، ويضل من شاء بعدله، ولكن المعاند لا تزيده الآيات إلا عنادًا واستكبارًا، قال الحق: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا} [الإسراء: 41]، وقال الحق جل شأنه: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة: 68]، قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورًا} [فاطر: 42]، وقال تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُون} [الأنعام: 109]، وقال تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، وَأَنْ يُنَحِّيَ الْجِبَالَ عَنْهُمْ، فَيَزْرَعُوا، فَقِيلَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَسْتَأْنِيَ بِهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ نُؤْتِيَهُمُ الَّذِي سَأَلُوا، فَإِنْ كَفَرُوا أُهْلِكُوا كَمَا أَهْلَكْتُ مَنْ قَبْلَهُمْ، قَالَ: لَا، بَلْ أَسْتَأْنِي بِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل هَذِهِ الْآيَةَ: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [الإسراء: 59]»([294]).
ونعلم أن الله لو أراد لهدى الناس جميعًا، قال تعالى: {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء [النحل: 93]. وقال الحق جل في علاه: {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِين} [الأنعام: 35].
ونؤمن أن دلائل الأنبياء والآيات التي جاؤوا بها والبراهين التي أمدَّهم الله بها يستحيل أن يأتي بها مدع للنبوة، أو ساحر أو كاذب؛ لأن الله قضى ألا ينصر المبطل بدليل صحيح، ولا يصدّق الكاذب ببرهان صادق؛ لأنه الحكيم في شـرعه وأمره، وحكمة الله وسنته الجارية تمنع ذلك، قال المولى عز شأنه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِين} [الحاقة: 44-46].
بــاب
ونؤمن أن نبينا محمد بن عبدالله هو رسول رب العالمين، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ قَالَ فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ»([295]).
وهو سيد ولد آدم، قال صلى الله عليه وسلم: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّع»([296])، وهو خليل رب العالمين، قال صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا، لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أَخِي وَصَاحِبِي»([297]).
ونعلم أنه أوتي من الآيات ما لم يؤت مثله أحد من الرسل عليهم السلام، وأعظم آياته القرآن الكريم، وأول ما أنزل عليه منه صدر «سورة العلق»، كما صح بذلك الحديث: عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الملَكُ فَقَالَ: «اقْرَأْ، قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ: فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَق * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَم} [العلق: 1-3]»، فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ([298])، وأنزل عليه بعدها «المدثر»، فعن جابر ابن عبدالله رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحـدث عن فترة الوحي: «فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ، فَإِذَا الملَكُ الَّذِي جاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَجَئِثْتُ مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُونِي»، فَأَنـْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر * قُمْ فَأَنذِر} [المدثر: 1، 2] إِلَى قَوْلِهِ: {فَاهْجُر} [المدثر: 5] -قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَالرِّجْزُ: الأَوْثَانُ- ثُمَّ حَمِيَ الوَحْيُ وَتَتَابَعَ([299]).
وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أَنَّ الحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ رضي الله عنه سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَأْتِيكَ الوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيُفْصَمُ عَنِّي، وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الملَكُ رَجُلًا، فَيُكَلِّمُنِي، فَأَعِي مَا يَقُولُ»، قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الوَحْيُ فِي اليَوْمِ الشَّدِيدِ البَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ، وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا([300]).
وأنه مكث في مكة ثلاثة عشر عامًا يدعو إلى التوحيد، وأقام بالمدينة عشر سنوات يبين شرائع الله، ويدعو إلى دينه ويجاهد في سبيله حتى توفاه الله عن ثلاث وستين سنة صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي.
ونعلم أن من أعظم آياته -بعد القرآن العظيم- الإسراء والمعراج، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير} [الإسراء: 1].
وعن أنس رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ، وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، قَالَ: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، قَالَ: فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عليه السلام بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ صلى الله عليه وسلم: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ، فَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عليه السلام ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِابْنَيِ الْخَالَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ، صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا، فَرَحَّبَا، وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ صلى الله عليه وسلم، إِذَا هُوَ قَدْ اُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عليه السلام ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قَالَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، قَالَ اللهُ عز وجل: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57]، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ صلى الله عليه وسلم، فَرَحَّبَ، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عليه السلام ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى صلى الله عليه وسلم، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ، وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلَالِ، قَالَ: فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ؛ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي، فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تبارك وتعالى، وَبَيْنَ مُوسَى عليه السلام حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلَاةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً، قَالَ: فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ»، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ»([301]).
ومن آياته صلى الله عليه وسلم: انشقاق القمر، قال عز وجل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَر} [القمر: 1]، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: انْشَقَّ القَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةً فَوْقَ الجَبَلِ، وَفِرْقَةً دُونَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اشْهَدُوا»([302]).
وخصَّه الله بخصائصَ كثيرةٍ، كقوله صلى الله عليه وسلم: «فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ»([303])، وهذه الخصائص ذكرها العلماء في ثنايا مصنفاتهم تارة، وتارة يفردون لها مصنفاتٍ مستقلةً.
ونؤمن أنه يجب على كل مؤمن ومؤمنة الإيمان به، وتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح: 9]. وقال عز شأنه، وتقدست أسماؤه: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} [التغابن: 8].
ونؤمن ألَّا يعبد الله إلا بما شرع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [الحشر: 7]. وحذر الحق من مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم، فقال عز شأنه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} [النور: 63].
ويجب توقيره ومحبته، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم} [آل عمران: 31].
ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم من أصول الإيمان، وقد قرنها الله بمحبته، وتوعّد من قدَّم عليها شيئًا من الأمور المحبوبة طبعًا من الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك، فقال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين} [التوبة: 24].
ويجب على المؤمن أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليه من نفسه ووالده وولده والناس أجمعين، فعن عبدالله بن هشام رضي الله عنه قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ»، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ -وَاللَّهِ- لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الآنَ يَا عُمَرُ»([304]).
وقد قرن الله تعالى ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بذكره سبحانه في الشهادتين وفي الأذان، وقد استفاض ذكره صلى الله عليه وسلم في الكتب الإلهية السابقة. وفي القرآن العظيم، وصنَّف أئمة الإسلام المصنفاتِ المتنوعةَ في سنته، وسيرته، وشمائله، وأخلاقه، وغزواته، ونكتفي هنا بما يتوجب اعتقاده بشأن نبوته صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي عياضٌ رحمه الله: «إذا كانت خصال الكمال والجلال ما ذكرناه، ورأينا الواحد منَّا يتشرف بواحدة منها، أو اثنتين إن اتفقت له في كل عصر: إما من نسب، أو جمال، أو قوة، أو حلم، أو شجاعة، أو سماحة، حتى يعظم قدره، ويضرب باسمه الأمثال، ويتقرر له بالوصف بذلك في القلوب أثَرَةٌ عظيمة، وهو منذ عصور خوال، رِمَم بوال، فما ظنك بِعَظِيمِ قَدْرِ مَنِ اجتمعت فيه كلُّ هذه الخصال، إلى ما لا يأخذه عدّ، ولا يعبر عنه مقال، ولا ينال بكسب، ولا حيلة، إلا بتخصيص الكبير المتعال، من فضيلة النبوة، والرسالة، والخلة، والمحبة، والاصطفاء، والإسراء، والرؤية([305])، والقرب، والدنو، والوحي، والشفاعة، والوسيلة، والفضيلة، والدرجة الرفيعة، والمقام المحمود، والبراق، والمعراج، والبعث إلى الأحمر والأسود، والصلاة بالأنبياء، والشهادة بين الأنبياء والأمم، وسيادة ولد آدم، ولواء الحمد، والبشارة، والنذارة، والمكانة عند ذي العرش، والطاعة ثمّ، والأمانة، والهداية، ورحمة للعالمين، وإعطاء الرضى والسُّؤْل، والكوثر، وسماع القول، وإتمام النعمة، والعفو عما تقدم وما تأخر، وشرح الصدر، ووضع الإِصْرِ، ورفع الذِّكْر، وعزة النصر، ونزول السكينة، والتأييد بالملائكة، وإيتاء الكتاب والحكمة، والسبع المثاني والقرآن العظيم، وتزكية الأمة، والدعاء إلى الله، وصلاة الله تعالى والملائكة، والحكم بين الناس بما أراه الله، ووضع الإصر والأغلال عنهم، والقسم باسمه، وإجابة دعوته، وتكليم الجمادات والعجم...، وإسماع الصم، ونبع الماء من بين أصابعه، وتكثير القليل، وانشقاق القمر، وردّ الشمس، وقلب الأعيان، والنصر بالرعب... إلى ما لا يحويه محتفل، ولا يحيط بعلمه إلا مانِحُهُ ذلك، ومفضِّله به لا إله غيره، إلى ما أعدّ له في الدار الآخرة، من منازل الكرامة، ودرجات القدس، ومراتب السعادة، والحسنى والزيادة التي تقف دونها العقول، ويحار دون إدراكها الوهم»([306]).
بــاب
ونؤمن أن الله أرسل رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الخلق كافة، قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون} [الأعراف: 158]، وقـال المولى جل جلاله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون} [سبأ: 28].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الغَنَائِمُ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ»([307]).
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد بعثه الله إلى الثقلـين: الإنس، والجن، باتفاق المسلمين، وقد استمعت الجن إلى القرآن وولَّوا إلى قومهـم منذرين، فأخبر الله رسوله بذلك في القرآن بقوله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِين * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيم * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيم * وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِين} [الأحقاف: 29- 32].
وأخذ الله الميثاق على جميع الأنبياء والمرسلين عليهم السلام لئن بُعِثَ محمد صلى الله عليه وسلم -وهم أحياء- ليؤمننَّ به، قال المولى عز شأنه: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِين} [آل عمران: 81]. قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: «لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ عز وجل نَبِيًّا، آدَمَ فَمَنْ بَعْدَهُ إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ فِي مُحَمَّدٍ: لَئِنْ بُعِثَ -وَهُوَ حَيٌّ- لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ، وَلَيَنْصُرَنَّهُ، وَيَأْمُرُهُ، فَيَأْخُذُ الْعَهْدَ عَلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} الْآيَةَ [آل عمران: 81]»([308]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «دَعْوَةُ أبي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى قَوْمَهُ، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ»([309])، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا دعوة أبي إبراهيم» يقصد بها ما أخبرنا به المولى عز شأنه من دعاء إبراهيم الخليل عليه السلام وهو قوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيم} [البقرة: 129].
ونؤمن أن الأنبياء بشرت به صلى الله عليه وسلم أقوامها، ووردت صفاته صلى الله عليه وسلم وصفات أصحابه رضي الله عنهم في التوراة والإنجيل، قال الحق سبحانه وتعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29]، وقال المولى عز شأنه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} [الأعراف: 157]. وبشر به المسيح عليه السلام بني إسرائيل، قال تعالى مخبرًا عنه أنه قال لهم: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِين} [الصف: 6]. وكان أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفـون أبناءهم، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُون} [البقرة: 146].
ومن علامات نبوته صلى الله عليه وسلم التي كانت معروفة عند أهل الكتاب خاتم النبوة على كتفه الشريف، فعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: «ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، مِثْلَ زِرِّ الحَجَلَةِ»([310]).
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: «وَرَأَيْتُ الْخَاتَمَ عِنْدَ كَتِفِهِ مِثْلَ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ يُشْبِهُ جَسَدَهُ»([311]).
ونؤمن بعموم رسالته صلى الله عليه وسلم ولذا أرسل الكتب إلى الملوك والرؤساء يدعوهم إلى عبادة الله وحده والإيمان برسالته صلى الله عليه وسلم وتصديقه، فعن أبى بردة عن أبيه رضي الله عنه قال: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَنْطَلِقَ إِلَى أَرْضِ النَّجَاشِيِّ -فَذَكَرَ حَدِيثَهُ- قَالَ النَّجَاشِيُّ: أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَلَوْلَا مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ لَأَتَيْتُهُ حَتَّى أَحْمِلَ نَعْلَيْهِ»([312]).
وقال هرقل بعدما ورد عليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَكِنْ لَمْ أَظُنَّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، وَإِنْ يَكُ مَا قُلْتَ حَقًّا، فَيُوشِكُ أَنْ يَمْلِكَ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَلَوْ أَرْجُو أَنْ أَخْلُصَ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لُقِيَّهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ قَدَمَيْهِ»([313]).
عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ العَاقِبُ وَالسَّيِّدُ، صَاحِبَا نَجْرَانَ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدَانِ أَنْ يُلَاعِنَاهُ، قَالَ: فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَا تَفْعَلْ، فَوَ اللَّهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنَّا لَا نُفْلِحُ نَحْنُ، وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا، قَالَا: إِنَّا نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَنَا، وَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا، وَلَا تَبْعَثْ مَعَنَا إِلَّا أَمِينًا. فَقَالَ: لَأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ، فَاسْتَشْرَفَ لَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الجَرَّاحِ»، فَلَمَّا قَامَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ»([314]).
ونؤمن أن الله زوى لنبينا صلى الله عليه وسلم الأرض، فرأى منها ما سيبلغه ملك أمته منها، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا»([315]).
ومن أدلة عموم رسالته صلى الله عليه وسلم إسلام كثير من أحبار اليهود ورهبان النصارى، بل الآلاف المؤلفة من أهل الكتاب.
وأيضًا: فقد غزا صلى الله عليه وسلم الروم، وأمر أصحابه بجهاد الفرس والروم من بعده.
بــاب
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُون} [الأنعام: 112]، وقال الله جل ذكره وتقدست أسماؤه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31].
اقتضت حكمة الله أن يهدي من يشاء بفضله، وأن يضل من يشاء بعدله، كما اقتضت حكمته أن يكون لكل نبي عدو، وأن يكون بين هؤلاء الأعداء تواصٍ على الباطل وتوافق في مقالاتهم، قال تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيم} [فصلت: 43]. فمقالات الملأ في كل أمة متماثلة، فتارة يقولون: إنه ساحر أو كاهن أو كاذب، كما في قول فرعون لموسى فيما أخبر الله عنه بقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِين * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّاب} [غافر: 23، 24]. وتارة ينكرون أن يكون أتاهم بآية، كما قال تعالى: {قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِين} [هود: 53]. وتارة يزعمون أنه يفتري الكذب على الله، قال الله مخبرًا عن مقالتهم الخبيثة: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِين} [سبأ: 43].
وتارة يصفونه بالجنون، قال تعالى: {وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُون} [الحجر: 6]، وقال سبحانه مخبرًا عن مقالتهم: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُون} [الشعراء: 27]. وحاشا رسل الله عليهم السلام، وهم أكمل الناس عقولًا، وأزكاهم قلوبًا.
وتارة يستعظمون ما يدعوهم إليه من الدعوة إلى عبادة الله وحده، قال تعالى مخبرًا عن مقالتهم أنهم قالوا: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِين} [الأعراف: 70]، وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَاب} [ص: 5].
وتارة يردون على النبي دعوته؛ لأنه بشر مثلهم، قال تعالى: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا} [هود: 27]، وقال تعالى: {لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُون} [الأنبياء: 3].
وتارة يطالبونهم بأمور ليست في قدرة الخلق -ولكنه الاستكبار والعناد- فقد طالبوا نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يفجر لهم من الأرض ينبوعًا، أو يكون له جنة، أو يسقط السماء عليهم كسفًا، أو يأتيهم بالله والملائكة، أو يكون للنبي بيت من زخرف، أو يرقى في السماء، وينزل عليهم كتابًا، كما في قوله عز شأنه وتعالى سلطانه: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولا * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولا * قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولا} [الإسراء: 90-95].
وتارة يطالبون النبي بأن يأتيهم بما يعدهم به من العذاب، قال تعالى: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِين} [الأعراف: 70]، وقال عز شأنه: {فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِين} [الأعراف: 77].
وتارة يتّهمون الرسول بالضلالة أو السفاهة، كما في قولهم الذي قصه الله علينا في قوله الحكيـم: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِين} [الأعراف: 66].
وتارة يصدون عن سـبيل الله، ويقولون لأتباعهم: لا تسمعوا لهذا القرآن، والْغَوْا فيه، كما أخبر الله عنهم؛ قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُون} [فصلت: 26].
وتارة يقابلون الرسول بالتكذيب، كما أخبر الله تعالى أنهم قالوا: {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِين}، أو يتهمون الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الذي يعلمه بشر وليس الذي يأتيه وحيًا من الله، قال المولى عز شأنه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِين} [النحل: 103].
وقد ينصرفون عن الرسول؛ لأن الذين اتبعوه هم الضعفاء، كما في قوله تعالى مخبرًا عن قوم نوح: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِين} [هود: 27]، وقال هرقل لأبي سفيان: «وَسَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ»([316]).
وتارة يسخرون، ويستهزئون من الرسل كما في قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُون} [التوبة: 65]، وكما في قوله تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُون} [هود: 38]. وتارة يخادعون الرسول، ويطمعون في مداهنته لهم أو الركون إليهم، كما في قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُون} [القلم: 9]. وقوله سبحانه وتعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا} [الإسراء: 74].
وتارة يتطاولون على النبي بالتعيير كما قال فرعون لموسى عليه السلام : {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِين} [الزخرف: 52].
وقول أبي سفيان -وهو في الشام- عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: «فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ خَرَجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ «ابْنِ أبي كَبْشَةَ»، إِنَّهُ لَيَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ»([317]).
وتارة يهدد الملأ النبيَّ بالإخراج من الأرض، كما قال الله تعالى في قوم شعيب: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُون} [الأعراف: 88].
وقال الحق جـل شأنه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم: 13]، وقال قوم لوط للوط ومن آمن معه كما أخبر الله عنهـم: {أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُون} [الأعراف: 82]. وحاصر كفار قريش نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم ومن معه، وبني هاشم، في الشِّعْب ثلاث سـنين، وأخرجوه من بلده صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «لَمَّا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قِسْمَةَ حُنَيْنٍ، قَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: مَا أَرَادَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ: «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى مُوسَى، لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا، فَصَبَرَ»([318]).
وحاول قـوم إبراهيم عليه السلام إحراقه بالنار، فنجاه الله سبحانه وتعالى، قال المولى عز شأنه: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} [العنكبـوت: 24]، وقال الله مخبرًا عما فعـل بنو إسرائيل مع أنبيائهم: {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُون} [البقرة: 87].
هذا هو دَيْدَنُ المستكبرين مع المرسلين، وهذه سنة جارية يتبعها الملأ في كل أمة مع المصلحين.
وسنة الله جارية بنصر رسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَاد} [غافر: 51]، وقال تعالى: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِين} [الأنبياء: 9].
ونؤمن باليوم الآخر، وأنه ركن من أركان الإيمان الستة، وسمي باليوم الآخر؛ لأنه آخر أيام الدنيا، فليس بعده يوم، وله - أيضًا - أسماء كثيرة ومن أسمائه: يوم القيامة، ويوم البعث، ويوم الحساب، ويوم الدين، والطامة، والحاقة، والواقعة، والصاخة، والغاشية، وقد ذكر الله اليوم الآخر في مواطنَ كثيرةٍ من كتابه الكريم.
ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بعلاماته - أي: علامات الساعة-وأيضًا: الإيمان بما يحصل بعد الموت، وسنبدأ بالكلام على علامات الساعة، ثم ما يحصل بعد الموت؛ لكونها تقع قبل اليوم الآخر.
فعلامات الساعة: هي العلامات الدالة على قرب اليوم الآخر، وهي من الغيب الذي أمرنا بالإيمان به.
وهي ثلاثة أقسام:
أحدها: ما ظهر من علامات الساعة، وانتهى، وهي كثيرة جدًّا.
الثاني: ما ظهر من علامات الساعة، لكنه لم ينته، وإنما ما زال مستمرًّا.
الثالث: ما لم يقع بَعْدُ منها، وإنما تكون بين يدي الساعة قريبًا منها.
ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بأن كل شيء هالك إلا وجهه سبحانه وتعالى، وأن ملك الموت يقبض الأرواح، والإيمان بما يحصل بعد الموت، من سؤال الميت، وعذاب القبر ونعيمه.
ونؤمن بأن الله إذا أذن بزوال هذه الدنيا وانقضائها، أمر الله المَلَكَ، فينفخ في الصور النفخة الأولى، فيصعق كل من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينزلُ الله مطرًا تنبت منه أجساد الخلق، ثم يأذن الله للملك فينفخ في الصور النفخة الثانية؛ فيبعثون من قبورهم، ويقوم الناس لرب العالمين، وأول من تنشق عنه الأرض نبينا صلى الله عليه وسلم، وأول من يفيق نبينا صلى الله عليه وسلم، وأول من يكسى نبي الله إبراهيم خليل الرحمن، ويحشر الناس حفاة عراة غُرْلًا، وأرض الحشر بيضاء.
ونؤمن بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم، ونؤمن بالعرض والحساب والجزاء، وأنه سبحانه وتعالى سريع الحساب. وحساب الله لعباده له مراتبُ وأحوالٌ متباينةٌ، فمن العباد من يحاسب حسابًا عسيرًا، ومنهم من يحاسب حسابًا يسيرًا، ومن المؤمنين من يدخل الجنة بلا حساب.
ولا يُظلم أحد في ذلك اليوم، وأول من يحاسب يوم القيامة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء.
ونؤمن أنه في هذا اليوم يؤتى بالشهداء، فتشهد الملائكة، وتشهد الأرض بما عمل العباد عليها، وتشهد الجوارح.
ونؤمن أن الله تعالى يضع موازينَ حقيقيةً لوزن أعمال العباد.
ونؤمن بأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حوضًا ترده أمته، ثم يساق العباد: إما إلى الجنة، وإما إلى النار -والعياذ بالله- ويضرب الجسر على جهنم، وبه كلاليب مثل شوك السعدان، فتخطف الناس بأعمالهم، وأول من يجيز الجسر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
بــاب
ونؤمن باليـوم الآخر، وهو ركن من أركان الإيمان السـتة المذكورة في قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 177]، وفي قوله جل ثناؤه: {لَّـكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَـئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 162].
ودل عليه حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُول اللهِ، مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكِتَابِهِ، وَلِقَائِهِ، وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الْآخِرِ»([319]).
ودلت عليه دلائل العقل، كما في قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيم * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيم} [يس: 78، 79]، وفي قوله عز شأنه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيج} [الحج: 5]، وقول الحق جل شأنه وتقدست أسماؤه: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا} [النازعات: 27]، وقوله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [فصلت: 39]، وقوله عز شأنه وتقدست أسماؤه: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]، وقوله عز مـن قائل: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِين} [الأنبياء: 104].
وسمي باليوم الآخر؛ لأنه آخر أيام الدنيا، فليس بعده يوم، وله -أيضًا- أسماء كثيرة، ومن أسمائه: يوم القيامة، ويوم البعث، ويوم الحساب، ويوم الدين، والطامة، والحاقة، والواقعة، والصاخة، والغاشية، وقد ذكر الله اليوم الآخر في مواطن كثيرة من كتابه الكريم. كقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِين} [المطففين: 6]. وقوله جل ثناؤه: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُون} [المعارج: 43]، وقوله جل ثناؤه: {فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} [النازعات: 34]. وقوله: {فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّة * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيه * وَأُمِّهِ وَأَبِيه * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيه *
لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه} [عبس: 33 - 37]، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيم * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيد} [الحج: 1، 2]. وقوله جل جلاله وتعالى سلطانه: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9].
بــاب
ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بعلاماته - أي علامات الساعة - وهي العلامات الدالة على قرب اليوم الآخر، كما قال سبحانه وتعالى: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18]، وهي من الغيب الذي أمرنا بالإيمان به.
ومن علامات الساعة ما ظهر وانتهى، وهي كثيرة جدًّا، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ))بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَذِهِ مِنْ هَذِهِ، أَوْ: كَهَاتَيْنِ، وَقَرَنَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى((([320])، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ المَقْدِسِ، ثُمَّ مُوْتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الغَنَمِ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ المالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ، فَيَظَلُّ سَاخِطًا((... ([321])، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ، يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، دَعْوَتُهُمَا وَاحِدَةٌ، وَحَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَحَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الهَرْجُ، وَهُوَ: القَتْلُ، وَحَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ المالُ، فَيَفِيضَ حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ المالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ، وَحَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ الَّذِي يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ: لَا أَرَبَ لِي بِهِ، وَحَتَّى يَتَطَاوَلَ النَّاسُ فِي البُنْيَانِ...))([322]).
ومن علامات الساعة ما وقع، لكنه لم ينته، ولا يزال مستمرًّا، ومن ذلك وقوع الفتن في الأمة([323])، وهي كثيرة، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، فَكَسِّرُوا قِسِيَّكُمْ، وَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ، وَاضْرِبُوا سُيُوفَكُمْ بِالْحِجَارَةِ، فَإِنْ دُخِلَ -يَعْنِي- عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ، فَلْيَكُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ»([324]).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((تَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ المظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ أَقْوَامٌ دِينَهُمْ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا))([325]).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ((([326]).
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ القَوْمَ، جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ القَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ، فَكَرِهَ مَا قَالَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: «أَيْنَ -أُرَاهُ- السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟»، قَالَ: هَا أَنَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: «إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»([327]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: أَنْ يُرْفَعَ العِلْمُ، وَيَثْبُتَ الجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا»([328]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَأَيَّامًا، يَنْزِلُ فِيهَا الجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا العِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الهَرْجُ»([329]).
ومن علامات الساعة ما لم يقع بعد، وإنما يقع بين يدي الساعة قريبًا منها، ومنها: نزول المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام ، قال تعالى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159]، وخروج يأجوج ومأجوج، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُون} [الأنبياء: 96]، وخروج الدابة، قال تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُون} [النمل: 82].
وجاء في حديث حذيفة بن أسيد الغفاري قال: اطَّلَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْنَا، وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ، فَقَالَ: «مَا تَذَاكَرُونَ؟» قَالُوا: نَذْكُرُ السَّاعَةَ، قَالَ: «إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ: -فَذَكَرَ- الدُّخَانَ، وَالدَّجَّالَ، وَالدَّابَّةَ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم، وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ، تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ»([330]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبِهَا آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، فَيَوْمَئِـذٍ {لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]»([331]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ المالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ»([332]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَنْذَرَ قَوْمَهُ الأَعْوَرَ الكَذَّابَ، إِنَّهُ أَعْوَرُ -وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ- مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: كَافِرٌ»([333]).
بــاب في
ونؤمن أن من الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بأن كل شيء هالك إلا وجهه سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88]، وقال المولى عز شأنه: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَام} [الرحمن: 26، 27]، وأن ملك الموت يقبض الأرواح، قال الحق جل في علاه: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون} [السجدة: 11].
ونؤمن بما يحصل بعد الموت، من سؤال الميت، وعذاب القبر ونعيمه، كما في قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب} [غافر: 46]، وقوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيم} [التوبة: 101]، وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيق * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد} [الأنفال: 50، 51]، وقوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُون} [الأنعام: 93]، وقوله تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} [الطور: 47].
وعـن البراء بن عازب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] قَالَ: «نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ، فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]»([334]).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: «قُولُوا: اللهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ»([335]).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَعْضِ حِيطَانِ المَدِينَةِ، فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا، فَقَالَ: «يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ، كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ، وَكَانَ الآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ»، ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ، فَكَسَرَهَا بِكِسْرَتَيْنِ أَوْ ثِنْتَيْنِ، فَجَعَلَ كِسْرَةً فِي قَبْرِ هَذَا، وَكِسْرَةً فِي قَبْرِ هَذَا، فَقَالَ: «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا»([336]).
وعن أبي سعيد قال: حدثني زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ، عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ، وَنَحْنُ مَعَهُ، إِذْ حَادَتْ بِهِ، فَكَادَتْ تُلْقِيهِ، وَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ -قَالَ: كَذَا كَانَ يَقُولُ الْجُرَيْرِيُّ- فَقَالَ: «مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ؟» فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، قَالَ: «فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ؟» قَالَ: مَاتُوا فِي الْإِشْرَاكِ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا، لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ». ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ»، قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، فَقَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ»، قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، قَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»، قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، قَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ». قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ([337]).
وعن أبى أيوب رضي الله عنه قال: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم -وَقَدْ وَجَبَتِ الشَّمْسُ- فَسَمِعَ صَوْتًا، فَقَالَ: «يَهُودُ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا»([338]).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دَخَلَتْ عَلَيَّ عَجُوزَانِ مِنْ عُجُزِ يَهُودِ المدِينَةِ، فَقَالَتَا لِي: إِنَّ أَهْلَ القُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ، فَكَذَّبْتُهُمَا، وَلَمْ أُنْعِمْ أَنْ أُصَدِّقَهُمَا، فَخَرَجَتَا، وَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عَجُوزَيْنِ، وَذَكَرْتُ لَهُ، فَقَالَ: «صَدَقَتَا، إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَذَابًا تَسْمَعُهُ البَهَائِمُ كُلُّهَا»، فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ فِي صَلَاةٍ إِلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ([339]).
وكما أن الكافر والمنافق وبعض أصحاب المعاصي من المسلمين يعذبون في قبورهم، فكذلك المؤمن يُنعم في القبر، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ العَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ، فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَّا المُؤْمِنُ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الجَنَّةِ، فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا»، قَالَ: «وَأَمَّا المُنَافِقُ وَالكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ، وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ»([340]).
بــاب
ونؤمن أن الله إذا أذن بزوال هذه الدنيا وانقضائها، أمر الله المَلَكَ فينفخ في الصور، فيصعق كل من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُون} [الزمر: 68]، وقال صلى الله عليه وسلم: «...ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا، وَرَفَعَ لِيتًا([341])، قَالَ: وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إِبِلِهِ، قَالَ: فَيَصْعَقُ، وَيَصْعَقُ النَّاسُ....»([342]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «...وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلَانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا، فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ، وَلَا يَطْوِيَانِهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلَا يَطْعَمُهُ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ فَلَا يَسْقِي فِيهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أَحَدُكُمْ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلَا يَطْعَمُهَا».
فيُهلك الله مَن شاء مِن خلقه ممن كتب عليه الفناء والهلاك، حتى لا يبقى إلا الحق سبحانه وتعالى، قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَام} [سورة الرحمن: 26، 27]، وقال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون} [سورة القصص: 88]، وقال تعالى: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار} [سورة غافر: 16].
ثم يُنزل الله مطرًا تنبت منه أجساد الخلق، كما قال صلى الله عليه وسلم: «...ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ -أَوْ قَالَ: يُنْزِلُ اللهُ- مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ - أَوِ: الظِّلُّ -نُعْمَانُ([343]) الشَّاكُّ- فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى، فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ...»([344]).
ثم يأمر الله الملك فينفخ في الصور النفخة الثانية، كما قال تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [سورة الزمر: 68].
وبيَّن صلى الله عليه وسلم مقدار ما بين النفختين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ، قَالَ: وَيَبْلَى كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الإِنْسَانِ، إِلَّا عَجْبَ ذَنَبِهِ، فِيهِ يُرَكَّبُ الخَلْق»([345]).
ونؤمن بما أخبرنا به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من أحوال السموات والأرض يوم القيامة، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: «جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الأَحْبَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا نَجِدُ: أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالماء وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الخَلَائِقِ عَلَى إِصْبَعٍ، فَيَقُولُ: أَنَا الملكُ. فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الحَبْرِ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} [الزمر: 67]»([346]).
ونؤمن بأن الناس يبعثون من قبورهم، فيحيي الله تعالى الموتى حين ينفخ في الصور النفخة الثانية؛ فيقوم الناس لرب العالمين، كما قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُون * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُون} [المؤمنون: 15، 16]، وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُون * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُون * إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُون} [يس: 51-53].
وقال تعالى: {وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُون * وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِين * وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيم} [الحجر: 23-25].
وقال تعالى: {وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا *
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلا} [الإسراء: 49-52]، وقال تعالى: {وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا * ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا} [الإسراء: 97-99]، وقال تعالى: {فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء: 104]، والآيات الكريمة في إثبات البعث والنشور كثيرة جدًّا.
وأول من تنشق عنه الأرض نبينا صلى الله عليه وسلم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ»([347]).
وأول من يفيق نبينا صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «...لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي؟ أَمْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللهُ؟»([348]).
وأول من يكسى نبي الله إبراهيم خليل الرحمن، قال صلى الله عليه وسلم: «وَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ القِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ»([349]).
ويحشر الناس حفاة عراة غُرْلًا، كما قال صلى الله عليه وسلم: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًًا»([350]).
ونؤمن أن الأرض التي يحشر عليها العباد أرض غير هذه الأرض، كما قال الحق جل شأنه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار} [إبراهيم: 48].
وأرض الحشر بيضاء، قال صلى الله عليه وسلم: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ، كَقُرْصَةِ نَقِيٍّ»([351]).
وعن أبي سعيد الخدري، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «تَكُونُ الأَرْضُ يَوْمَ القِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً، يَتَكَفَّؤُهَا الجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَكْفَأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ...»([352]).
وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في بيان أين يكون الناس وقت التبديل: فعن ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّ حَبْرًا مِنْ أَحْبَارِالْيَهُودِ جَاءَ إلى رسول يسأله وفيه: «...فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ»([353]).
وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِهِ عز وجل: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} فَأَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: عَلَى الصِّرَاطِ»([354]).
ونعلم أن هذا اليوم عظيم جدًّا، كما قال الله تعالى: {أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُون * لِيَوْمٍ عَظِيم} [المطففين: 4، 5]. وقال جل شأنه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيم} [الحج: 1].
وأن مقداره خمسون ألف سنة، كما صح بذلك الخبر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ إلى أن قال: حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ»([355]).
وفيه تدنو الشمس من الأرض، فعن أبي أمامة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ» -قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ: فَوَاللهِ مَا أَدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ؟ أَمَسَافَةَ الْأَرْضِ، أَمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ؟- قَالَ: «فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا»([356]).
ويتقي المؤمنون حرَّ الشمس بما سبق لهم من الحسنى، فمنهم من يستظل بظل العرش، كما قال صلى الله عليه وسلم: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ»([357]).
ومنهم من تظلله «البقرة» و«آل عمران»، وتحاجَّان عنه، قال صلى الله عليه وسلم: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ. اقْرَؤُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ، وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَؤُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ»([358]). ومنهم من يستظل بظل صدقته، قال صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ»([359]).
بــاب
ونؤمن أن الشفاعة لله سبحانه وتعالى، قال الحق جل شأنه: {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون} [الزمر: 44].
ونؤمن أنه لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه، قال الحق جل في علاه: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، ولا يشفع الشفعاء إلا لمن رضي الرحمن قوله وفعله، قال المولى عز شأنه: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُون} [الأنبياء: 28]، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه: 109].
ونؤمن أن أسعد الناس بشفاعة الشفعاء هم أهل الإخلاص والتوحيد، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قيل: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَنْ لَا يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ، أَوْ نَفْسِهِ»([360]).
ونؤمن أن الكافرين لا تنالهم شفاعة الشافعين، قال الحق جل في علاه: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِين} [المدثر: 48].
ونؤمن أن الله يأذن لمن شاء من عباده بالشفاعة؛ إكرامًا للشافع ورحمة للمشفوع له. ونعلم أن أعظم الشفعاء يوم القيامة هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيشفع شفاعاتٍ متعددةً، وأعظمها وأجلُّها الشفاعة في أهل الموقف، لِيُقْضَى بينهم، وذلك هو المقام المحمود، وهي التي ذكرها الله في كتابه، فقال جل شأنه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [الإسراء: 79]، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند البخاري: «...فَيَشْفَعُ لِيُقْضَى بَيْنَ الْخَلْقِ فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الْبَابِ فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا يَحْمَدُهُ أَهْلُ الْجَمْعِ كُلُّهُمْ»([361]). فذكر في هذا الحديث الشفاعة في فصل القضاء، وأخبر الحق سبحانه وتعالى أنه يتفضل لفصل القضاء كما في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الامُور} [البقرة: 210]. وقوله جل شأنه: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [الفجر: 22]. وقوله عز شأنه: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158].
ثم الشفاعة في دخول أهل الجنةِ الجنةَ، وقد دلَّت على هذه الشفاعات الأحاديث الكثيرة المتواترة، منها حديث أنس رضي الله عنه المشهور أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى؛ فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ، فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى؛ فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ، وَكَلِمَتُهُ، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَيَأْتُونِي، فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لَا تَحْضُرُنِي الآنَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المحَامِدِ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ - أَوْ خَرْدَلَةٍ - مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ، فَأَنْطَلِقُ، فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ». فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ أَنَسٍ قُلْتُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا: لَوْ مَرَرْنَا بِالحَسَنِ، وَهُوَ مُتَوَارٍ فِي مَنْزِلِ أبي خَلِيفَةَ، فَحَدَّثْنَاهُ بِمَا حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، فَأَتَيْنَاهُ، فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَنَا، فَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، جِئْنَاكَ مِنْ عِنْدِ أَخِيكَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَلَمْ نَرَ مِثْلَ مَا حَدَّثَنَا فِي الشَّفَاعَةِ، فَقَالَ: هِيهْ، فَحَدَّثْنَاهُ بِالحَدِيثِ، فَانْتَهَى إِلَى هَذَا الموْضِعِ، فَقَالَ: هِيهْ، فَقُلْنَا لَمْ يَزِدْ لَنَا عَلَى هَذَا، فَقَالَ: لَقَدْ حَدَّثَنِي -وَهُوَ جَمِيعٌ- مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً، فَلَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَمْ كَرِهَ أَنْ تَتَّكِلُوا؟ قُلْنَا: يَا أَبَا سَعِيدٍ، فَحَدِّثْنَا، فَضَحِكَ، وَقَالَ: خُلِقَ الإِنْسَانُ عَجُولًا، مَا ذَكَرْتُهُ إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ، حَدَّثَنِي كَمَا حَدَّثَكُمْ بِهِ، قَالَ: «ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي لَأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»([362]).
ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو نحو حديث أنس رضي الله عنه، وقال في آخره: «...اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، فَيَأْتُوني فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَغَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَأَنْطَلِقُ، فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي، ثُمَّ يَفْتَحُ اللهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ، وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لِأَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَبْوَابِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرٍ، أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى»([363]).
ومنها حديثُ أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَوَّلُ شَفِيعٍ فِي الْجَنَّةِ، لَمْ يُصَدَّقْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا صُدِّقْتُ، وَإِنَّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيًّا مَا يُصَدِّقُهُ مِنْ أُمَّتِهِ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ»([364]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ قَدْ دَعَا بِهَا فَاسْتُجِيبَ، فَجَعَلْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ»([365])، وقال صلى الله عليه وسلم: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ يَدْعُو بِهَا، وَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي فِي الآخِرَةِ»([366]).
ونؤمن أن الله كما أكرم نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم بالشفاعة، فكذلك يكرم الأنبياء والملائكة والمؤمنين، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: «...فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط»([367]).
بــاب
ونؤمن أن كلَّ إنسان يُؤتى كتابه، فآخذ كتابه بيمينه، قال الحق - وقوله الحق: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيه} [الحاقة: 19].
وآخذٌ كتابه بشماله، قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه} [الحاقة: 25]، أو يأخذه من وراء ظهره، قال المولى عز شأنه: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِه} [الانشقاق: 10]، ويقال له: {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14]، وقال الحق جل شأنه: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].
ونؤمن بالعرض، قال الحق - وقوله الحق: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَة} [الحاقة: 18]، وقال تعالى: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا} [الكهف: 48]. وعن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»([368]).
ونؤمن بالحساب، وأن الله يحاسب عباده، قال تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُم * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم} [الغاشية: 25، 26]، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، كما صح بذلك الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «...يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ»([369]).
وهو سبحانه سريع الحساب، قال جل شأنه: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَاب} [غافر: 17].
ونؤمن أن بعض المؤمنين يدخلون الجنة بلا حساب، قال صلى الله عليه وسلم: «يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ....»([370]).
وحساب الله لعباده له مراتبُ وأحوالٌ متباينةٌ، فمن العباد من يحاسب حسابًا عسيرًا، ومنهم من يحاسب حسابًا يسيرًا، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 7، 8].
وعن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَّا هَلَكَ»([371]). فقلت: يا رسول الله، أليس قد قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}؟ [الانشـقاق: 7، 8]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا ذَلِكِ العَرْضُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الحِسَابَ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَّا عُذِّبَ»([372]). ولا يُظْلم أحد في ذلك اليوم، قال تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون} [البقرة: 281].
وأول من يحاسب يوم القيامة من الأمم أمة محمد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «... نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ»([373]).
وأول ما يقضى بين الناس في الدماء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ»([374]).
ونؤمن أنه في هذا اليوم يؤتى بالشهداء، فتشهد الملائكة، وتشهد الأرض بما عمل العباد عليها، وتشهد الجوارح، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَاد} [غافر: 51]، وقال الحق: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون} [الزمر: 69]، وقال المولى عز شأنه: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4]، وقال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [يس: 65].
وفي «الصحيح» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ذكْرُ شهادة الجوارح على العباد، وفيه: «...ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: الْآنَ نَبْعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيْكَ، وَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ؟ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ وَلَحْمِهِ وَعِظَامِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ، وَذَلِكَ لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ، وَذَلِكَ الَّذِي يَسْخَطُ اللهُ عَلَيْهِ»([375]).
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَضَحِكَ، فَقَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟» قَالَ: قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ، يَقُولُ: يَا رَبِّ، أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ قَالَ: يَقُولُ: بَلَى، قَالَ: فَيَقُولُ: فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي، قَالَ: فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا، وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا، قَالَ: فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، فَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، قَالَ: فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ، قَالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ، قَالَ: فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ»([376]).
بــاب
ونؤمن بأن الله تعالى يضع الموازين لوزن أعمال العباد، كما قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين} [الأنبياء: 47]، وقال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُون} [الأعراف: 8، 9]، وهو ميزان حقيقي له كفتان ولسان توزن به أعمال العباد.
ونؤمن أن الأعمال توضع في الموازين، قال صلى الله عليه وسلم: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ»([377]).
وقال صلى الله عليه وسلم -أيضًا: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ...»([378]).
ونعلم أن العامل يوضع مع عمله في الميزان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ القِيَامَةِ، لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ»، وَقَالَ: اقْرَءُوا: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105]([379])، وكذلك توضع في الموازين صحائف الأعمال كما دل على ذلك حديث البطاقة([380]).
بــاب
ونؤمن بأن لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم حوضًا ترده أمته، قال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} [الكوثر: 1].
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا، فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ» فَقَرَأَ: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر} [الكوثر: 1-3]» ثُمَّ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟» فَقُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عز وجل، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ، فَيُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ، فَأَقُولُ: رَبِّ، إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي فَيَقُولُ: مَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَتْ بَعْدَكَ»([381]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ المِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلَا يَظْمَأُ أَبَدًا»([382]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ حَوْضِي أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ مِنْ عَدَنٍ، لَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ بِاللَّبَنِ، وَلَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ، وَإِنِّي لَأَصُدُّ النَّاسَ عَنْهُ، كَمَا يَصُدُّ الرَّجُلُ إِبِلَ النَّاسِ عَنْ حَوْضِهِ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتَعْرِفُنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ، لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا، مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ»([383]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ إِذَا زُمْرَةٌ، حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ، فَقَالَ: هَلُمَّ، فَقُلْتُ: أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ، قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهُمْ؟ قَالَ: إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِم القَهْقَرَى. ثُمَّ إِذَا زُمْرَةٌ، حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ، فَقَالَ: هَلُمَّ، قُلْتُ: أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ، قُلْتُ: مَا شَأْنُهُمْ؟ قَالَ: إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِم القَهْقَرَى، فَلَا أُرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلَّا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ»([384]).
وعن أنس رضي الله عنه قال: لما عُرِجَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى السَّماء قال: «أتيت على نهرٍ حافَّتاهُ قبابُ اللؤلؤ المجوَّف، فقلتُ: ما هذا يا جبريلُ؟ قال: هذا الكوثر»([385]).
بــاب
ونؤمن أن الصراط يُنْصب على مَتْن جهنم، وهو دحض مَزَلَّةٌ، يمر عليه العباد بحسب أعمالهم، وبه كلاليبُ مثل شوك السعدان، فتخطف الناس بأعمالهم، وأول من يجوز الجسر نبينا صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «...يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ القَمَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَدْعُوهُمْ، فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ، وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلَّا الرُّسُلُ، وَكَلَامُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ : اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ»([386]).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قَالَ: «...ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجَسْرِ فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّم»، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الجَسْرُ؟ قَالَ: «مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ، عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلَالِيبُ، وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ، تَكُونُ بِنَجْدٍ، يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ، المُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ، وَكَأَجَاوِيدِ الخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْبًا...»([387]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «...وَفِي حَافَتَيِ الصِّرَاطِ كَلَالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ، فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ، وَمَكْدُوسٌ فِي النَّارِ»([388]).
وعن أَبي الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما يُسْأَلُ عَنِ الْوُرُودِ، فَقَالَ: «نَجِيءُ نَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ كَذَا وَكَذَا، انْظُرْ أَي ذَلِكَ فَوْقَ النَّاسِ؟ قَالَ: فَتُدْعَى الْأُمَمُ بِأَوْثَانِهَا، وَمَا كَانَتْ تَعْبُدُ، الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ، ثُمَّ يَأْتِينَا رَبُّنَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: مَنْ تَنْظُرُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نَنْظُرُ رَبَّنَا، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: حَتَّى نَنْظُرَ إِلَيْكَ، فَيَتَجَلَّى لَهُمْ يَضْحَكُ، قَالَ: فَيَنْطَلِقُ بِهِمْ وَيَتَّبِعُونَهُ، وَيُعْطَى كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مُنَافِقًا، أَوْ مُؤْمِنًا نُورًا، ثُمَّ يَتَّبِعُونَهُ وَعَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ وَحَسَكٌ، تَأْخُذُ مَنْ شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ يَنْجُو الْمُؤْمِنُونَ...»([389]).
وإذا نجا المؤمنون من الصراط فإنهم يُحْبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَخْلُصُ المؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا»([390]).
بــاب
ونؤمن أن الجنة والنار هما دار الجزاء، وورد في القرآن والسنة صفة أهل الجنة والنار، وذكر مساكنهم ومشاربهم ومطاعمهم وملابسهم.
ونؤمن أنهما مخلوقتان الآن، وأن آدم عليه السلام كان في جنة الخلد، قال تعالى: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِين} [الأعراف: 19]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الجَنَّةِ، قَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى» ثَلَاثًا([391]).
والجنة هي دار النعيم المقيم، قال الحق عز شأنه: {أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِين} [آل عمران: 136]. وقال تعالى مُرَغِّبًا فيما فيها من النعيم: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون} [السجدة: 17].
ونؤمن أن أعظم نعيم الجنة هو النظر إلى وجه الله تعالى في جنات النعيم، قال تعالى: ({وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة} [القيامة: 22، 23] وقال: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُون} [المطففين: 15] وعن صهيب الرومي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عز وجل»([392]).
ونؤمن أن الجنة منازلُ، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأدنى أهل الجنة منزلة وأعلاهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ: مَا أَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُم، وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِم، فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الخَامِسَةِ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشْرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ، فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، قَالَ: رَبِّ، فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ، غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»، قال: ومصداقه في كتاب الله عز وجل: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] الآية([393]).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَدْنَى مَقْعَدِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ أَنْ يَقُولَ لَهُ: تَمَنَّ فَيَتَمَنَّى، وَيَتَمَنَّى، فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَمَنَّيْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَا تَمَنَّيْتَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ»([394]).
ونعلم أن أبواب الجنة ثمانية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُاللهِ، وَابْنُ أَمَتِهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ؛ أَدْخَلَهُ اللهُ مِنْ أَيِّ أَبْوابِ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ»([395]).
ونؤمن أن دار النعيم جنات متعددة، كما قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان} [الرحمن: 46]، وقال تعالى: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَان} [الرحمن: 62]، وقال صلى الله عليه وسلم: «جنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبر على وجهه في جنة عدن».
ونؤمن أن نعيم الجنة دائم لا ينقطع، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَنْعَمُ لَا يَبْأَسُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ».
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُنَادِي مُنَادٍ: إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْتَئِسُوا أَبَدًا. فَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل: (ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ) [الأعراف: 43]».
وأخبر الله عن النار وما فيها من أصناف العذاب والنَّكال، فقال تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29]، وقال الحق سبحانه: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُود * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيد} [الحج: 20، 21]، وقال المولى عز شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56].
ونؤمن أن النار دركات مختلفة، وقد بيّن الحق أن المنافقين في دركات الجحيم، فقال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145]. وجاء في القرآن الكريم أن لها سبعة أبواب، فقال الحق جل في علاه: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُوم} [الحجر: 44]. وهي دار العذاب المقيم، قال الحق جل شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقا * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا} [النساء: 168، 169].
ونؤمن بالقضاء والقدر، ونعلم علم اليقين أن الإيمان بالقضاء والقدر هو الركن السادس من أركان الإيمان، فالإيمان بالقدر من الإيمان بالله؛ لأن القدر من علم الله وتقديره وتدبيره ومشيئته وخلقه.
وأجمع المسلمون على أن الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان.
ونعلم أن الإيمان بالقضاء والقدر يتضمن الإيمان بعلم الله الشامل المحيط، وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا، وأن علمه محيط بالأمور العظيمة والجليلة، والكبيرة والصغيرة، ولا شيء مما هو موجود أو مما سيوجد، ولم يوجد بعد، إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ، مكتوب ذلك فيه، ومرسوم عدده ومبلغه والوقت الذي يوجد فيه، والحال التي يفنى فيها.
وأنه سبحانه علم ما كان، وما سيكون، وما لو كان كيف سيكون، وأن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء.
ونؤمن بأن الله كتب كل ما هو كائن في كتاب محفوظ.
ونؤمن أن الله يكتب ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.
ونؤمن بأنه لا يكون شيء إلا بقضاء الله وقدره، ولا يدفع أمر إلا بقضاء الله وقدره، فما قدره واقع لا محالة، وما صرفه لا يستطيع أحد أن يوقعه، فالخلق كلهم لا يستطيعون فعل شيء لم يكتبه الله، ولا دَفْعَ ما كتبه سبحانه وتعالى، فما أخطأ العبدَ لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه.
ونؤمن بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن مشيئته تامة، وقدرته نافذة، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، ونؤمن بأن للعباد مشيئة على الحقيقة، وهي تابعة لمشيئة الله تعالى.
ونؤمن بأن الله قد هدى من شاء بفضله، وخذل من شاء بعدله سبحانه وتعالى، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وكل طاعة من مطيع فبتوفيق الله له، وكل معصية من عاص فبخذلان الله السابق منه وله، والسعيد من سبقت له السعادة، والشقي من سبقت له الشقاوة، وأفعال العباد من الخير والشر فعل لهم، خَلْق لخالقهم.
ونؤمن بأن الله يحب الطاعات والمطيعين، ونؤمن أن الله يكره الفسوق والفاسقين، وإن الله إذا أراد بعبد خيرًا وفَّقه لمحابِّه وطاعته وما يرضى به عنه، ومن أراد به غير ذلك أقام عليه الحجة، ثم عذبه غير ظالم له.
ونؤمن أن الله لا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر.
ونؤمن بأن الله خالق كل شيء، وأن الله خلق العباد، وخلق أفعالهم، لا يشاركه أحد في خلقه، كما لا يشاركه أحد في ملكه. واحتج الله على الخلق بأنه هو الخالق وحده، ومَنْ تفرد بالخلق فليس لأحد أن يدعي مشاركته في الخلق.
ونؤمن أنه لا تعارض بين الشرع والأمر والخلق، فالله سبحانه وتعالى له الخلق، وله الأمر، فكما يفعل ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل، فهو يأمر، ولا راد لقضائه، ولا معقب لأمره.
ونؤمن أن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ومع ذلك أمر بطاعته وطاعة رسله وأنبيائه، ونهى عن معصيته ومعصية رسله وأنبيائه، فجمع سبحانه وتعالى في كتابه بين الإخبار عن تقديره، والأمر باتباع وحيه وأمره. وبين الحق أن الواجب اتباع الهدى، وأنه هدى من شاء بفضله، وأضلّ من شاء بعدله، وجمع الحق بين إخباره عن مشيئته العامة، وتهديده للمخالفين، وأمره لعباده المؤمنين بعبادته والتوكل عليه. والجمع بين الإيمان بالقدر والعمل بالشرع ممكن ومقدور عليه؛ وبين المولى عز شأنه أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها.
ونؤمن بأنه كما لا يوجد تعارض بين الخلق والأمر والشرع، لا يوجد تعارض بين الشرع والأمر والعقل، فكل ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو نهى عنه الله ورسوله، أو قدّره الله، أو أخبر به، فلا يعارض العقل، بل هو مقتضى ما تأمر به العقول، وهو غاية الحكمة.
ونؤمن بأن الله أنزل الكتب، وأرسل الرسل عليهم السلام لتقوم الحجة على الخلق. والشرعُ والأمر والقدر كل ذلك متكامل يكمل بعضه بعضًا، وهو في غاية الحسن، بل لا أحسنَ منه.
وأثنى الله تعالى على كتابه الذي وصفه بأنه أحسن الحديث الذي تضمن الشرع والأمر- فما شرعه الله أو قدّره، فهو في غاية الكمال والحُسْن؛ سواء أدركته العقول أو عجزت عن إدراكه وفهمه، ولا نجعل عقولنا وآراءنا حَكَمًا على شرع الله وقدره، تارة بالتحسين وتارة بالتقبيح، بل كل ما قدره الله وشرعه فهو تامُّ الحُسْن والكمال.
ونؤمن بأن الشرع والقدر كله خير، والله لا يقدر الشر المحض، ولكن يدخل الشر ضمن عموم المقدّر، ويرد في القرآن مضافًا إلى من قام به، ومن باب الأدب ألا يضاف الشر إلى الله تعالى.
ونؤمن بأن فعل الأسباب لا ينافي الإيمان بالقدر، بل مباشرة الأسباب من تمام الإيمان بالقضاء والقدر، وأمر ربنا بفعل الأسباب، ومن أعظم الأسباب الدعاء، وأمرنا بالدعاء وقد سبق القضاء.
ونؤمن بأن الله سبحانه وتعالى -يأمر بالعدل- ويحكم به شرعًا وتقديرًا وجزاءً، ونفى عن نفسه الظلم، وأثبت كمال العدل.
ونؤمن بأن سبْق القدر لا يلزم منه ظلم للعباد؛ لأن الله أنزل الكتب، وأرسل الرسل؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وجعل القدر سرًّا مكتومًا، وجعل للعباد مشيئة واختيارًا، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فعليها.
ونؤمن بأنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي ولا على ترك الطاعات، وأن المشركين الذين احتجوا بالقدر على وقوعهم في الشرك، بين الله كذبهم وأذاقهم بأسه، ولو كان القدر حجة لهم على شركهم ما أذاقهم الله بأسه.
ونؤمن بأنه يجوز للعبد أن يحتج بالقدر على الذنوب بعد التوبة منها، وأن يحتج بالقدر على المصائب.
ونؤمن أن المؤمن إذا سلَّم الأمر إلى الله، ورجع واسترجع عند المصيبة، كتب له ثلاث خصال من الخير: الصلاة من الله، والرحمة، وتحقيق سبيل الهدى.
بــاب
ونؤمن بالقضاء والقدر، فهو سبحانه وتعالى قد علم ما كان وما سيكون، وكتب كل ذلك وشاءه وخلقه وقدَّره تقديرًا.
ونعلم علم اليقين أن الإيمان بالقضاء والقدر هو الركن السادس من أركان الإيمان، قال الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر} [القمر: 49]، وقال الحق جل في علاه: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} [الأحزاب: 38]، وقال المولى عز شأنه: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]، وقال المولى جل شأنه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ} [البقرة: ٢٨٥]، فالإيمان بالقدر من الإيمان بالله؛ لأن القدر من علم الله وتقديره وتدبيره.
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُون} [غافر: 68]، وقال المولى عز شأنه: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين} [الأنعام: 59].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه من حديث جبريل عليه السلام قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ». قَالَ: صَدَقْتَ([396]).
وقد أجمع المسلمون على أن الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، قال الحافظ أبو القاسم اللالكائي: «فإن كان في الدنيا إجماع بانتشار من غير إنكار، فهو في هذه المسألة «يعني القدر»، فمن خالف قوله فيها، فهو معاند مشاقق، يلحق به الوعيد، وهو داخل تحت قوله: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]»([397]).
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أَنَّ نَفَرًا كَانُوا جُلُوسًا بِبَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا؟ فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ، فَقَالَ: «بِهَذَا أُمِرْتُمْ؟ أَوْ بِهَذَا بُعِثْتُمْ؟ أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ؟ إِنَّمَا ضَلَّتِ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ فِي مِثْلِ هَذَا، إِنَّكُمْ لَسْتُمْ مِمَّا هَاهُنَا فِي شَيْءٍ، انْظُرُوا الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ، فَاعْمَلُوا بِهِ، وَالَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ، فَانْتَهُوا»([398]).
وعن عبدالملك -يعني ابن جريج- عن عطاء بن أبي رباح قال: «أتيت ابن عباس، وهو ينزع في زمزم، وقد ابتلت أسافل ثيابه، فقلت له: قد تُكُلِّمَ في القدر، فقال: أوقد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: والله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَر * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر} [القمر: 48، 49]، لا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا على موتاهم، ولو أريتني واحدًا منهم، فقأت عينه»([399]).
وقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رضي الله عنه لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قَالَ: رَبِّ، وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»، يَا بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي»([400]).
وعن يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ: «كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَاجَّيْنِ -أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ - فَقُلْنَا: لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ فِي الْقَدَرِ، فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ دَاخِلًا الْمَسْجِدَ، فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي: أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ، فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الْكَلَامَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَؤونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ، وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ، قَالَ: فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ...»([401]).
وعن أبي هارون الأبلي - وكان ممن صحب سهل بن عبدالله - وكان رجلًا صالحًا، وكان يقرئنا القرآن في المسجد الجامع، قال: «سئل سهل بن عبدالله عن القدر، فقال: الإيمان بالقدر فرض، والتكذيب به كفر، والكلام فيه بدعة، والسكوت عنه سنة»([402]).
وعن الحسن البصري قال: «جفَّ القلم، وقضي القضاء، وتمَّ القدر بتحقيق الكتاب، وتصديق الرسل، وسعادة من عمل واتقى، وشقاوة من ظلم واعتدى، وبالولاية من الله للمؤمنين، وبالتبرئة من الله للمشركين»([403]).
قال ابن بطة العكبري: «ثم من بعد ذلك الإيمان بالقدر خيره وشره، وحلوه ومرّه، وقليله وكثيره مقدور واقع من الله عز وجل على العباد، وفي الوقت الذي أراد أن يقع، لا يتقدم ولا يتأخر، على ما سبق بذلك علم الله، وأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما تقدم لم يكن ليتأخر، وما تأخر لم يكن ليتقدم... فالإيمان بهذا حق لازم، فريضة من الله عز وجل على خلقه، فمن خالف ذلك، أو خرج عنه، أو طعن فيه، ولم يثبت المقادير لله عز وجل، ويضفها، ويضف المشيئة إليه، فهو أول الزندقة»([404]).
بــاب
ونؤمن أن الإيمان بالقدر يتضمن الإيمان بعلم الله الشامل المحيط، وأنه سبحانه وتعالى يعلم ما في السموات وما في الأرض، قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير} [الحج: 70]، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما، قال المولى عز شأنه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].
وأن علمه محيط بالأمور العظيمة والجليلة، والكبيرة والصغيرة، قال تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين} [الأنعام: 59]. قال ابن جرير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: «ولا شيء -أيضًا- مما هو موجود، أو مما سيوجد ولم يوجد بعدُ، إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ، مكتوب ذلك فيه، ومرسوم عدده ومبلغه، والوقت الذي يوجد فيه، والحال التي يفنى فيها. ويعني بقوله: {مُّبِين}: أنه يبين عن صحة ما هو فيه بوجود ما رسم فيه على ما رسم»([405]).
وقال سبحانه وتعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُور * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين} [سبأ: 2، 3].
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: إِنِّي عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ قَوْمٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ»، قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، فَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ، فَقَالَ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا أَهْلَ اليَمَنِ، إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ»، قَالُوا: قَبِلْنَا، جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الأَمْرِ: مَا كَانَ؟ قَالَ: «كَانَ اللَّهُ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ». ثُمَّ أَتَانِي رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا عِمْرَانُ، أَدْرِكْ نَاقَتَكَ، فَقَدْ ذَهَبَتْ، فَانْطَلَقْتُ أَطْلُبُهَا، فَإِذَا السَّرَابُ يَنْقَطِعُ دُونَهَا، وَايْمُ اللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهَا قَدْ ذَهَبَتْ، وَلَمْ أَقُمْ([406]).
وقد علم سبحانه وتعالى ما كان، وما سيكون، وما لو كان كيف سيكون، قال تعالى -مخبرًا عن المنافقين أنهم لو خرجوا مع المؤمنين ما زادوهم إلا خبالًا، وهم لم يخرجوا معهم بعد -: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِين} [التوبة: 47].
وقال الله تعالى في أهل النار: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين * بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون} [الأنعام: 27، 28]. فذكر أنهم لو ردوا إلى الدنيا لعادوا إلى كفرهم، وهم لم يعرضوا على النار بعد، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين} [سبأ: 3].
ونؤمن بأن الله سبحانه وتعالى كتب كل ما هو كائن في كتاب محفوظ، قال الحق جل شأنه: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين} [يونس: 61]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير} [الحج: 70]، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير} [الحديد: 22].
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ»([407]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ القَلَمَ، فَقَالَ: اكْتُبْ، فَقَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبِ القَدَرَ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الأَبَدِ»([408]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الخَلْقَ، كَتَبَ كِتَابًا عِنْدَهُ: غَلَبَتْ، أَوْ قَالَ: سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ»([409]).
ونؤمن أن الله يكتب ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب، قال الحق - وقوله الحق: {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَاب} [الرعد: 39].
ونؤمن أنه لا يكون شيء إلا بقضاء الله وقدره، ولا يُدفع أمر إلا بقضاء الله وقدره، فما قدره واقع لا محالة، وما صرفه لا يستطيع أحد أن يوقعه، فالخلق كلهم لا يستطيعون فعل شيء لم يكتبه الله، ولا دفع ما كتبه سبحانه وتعالى، فما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَقَالَ: «يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ»([410]).
ونؤمن بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن مشيئته تامة، قال الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} [القصص: 68]، وقال تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} [التكوير: 29]. وقدرته نافذة، قال الحق: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44]، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُون} [الأنعام: 112].
ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، قال الحق: {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد} [البقرة: 253].
ونؤمن بأن للعباد مشيئة على الحقيقة، وهي تابعة لمشيئة الله، قال المولى عز شأنه: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30]، وقال الحق جل شأنه: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيم * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} [التكوير: 28، 29]، وقال عز شأنه: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الإنسان: 29]. وقال سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} [النبأ: 39].
ونؤمن بأن الله قد هدى من شاء بفضله، وخذل من شاء بعدله سبحانه وتعالى، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} [الأنعام: 39]، وقال عز شأنه: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} [الأنعام: 125]، وقال الحق جل في علاه: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين} [السجدة: 13].
وعن أبي بكر المروذي قال: «سمعت أبا عبدالله -يعني: أحمد بن حنبل- يقول: سألوا عبدالرحمن بن مهدي عن القدر، فقال لهم: الخير والشر بقدر»([411]).
وقال أبو بكر بن أبي عاصم: «سألتَ عن السنة ما هي؟ والسنة: اسم جامع لمعان كثيرة في الأحكام وغير ذلك، ومما اتفق أهل العلم على أن نسبوه إلى السنة: القول بإثبات القدر، وأن الاستطاعة مع الفعل للفعل، والإيمان بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، وكل طاعة من مطيع فبتوفيق الله له، وكل معصية من عاص فبخذلان الله السابق منه وله، والسعيد من سبقت له السعادة، والشقي من سبقت له الشقاوة، والأشياء غير خارجة من مشيئة الله وإرادته، وأفعال العباد من الخير والشر فعل لهم، خلْقٌ لخالقهم»([412]).
ونؤمن أن الله يحب الطاعات والمطيعين، قال جل ثناؤه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُون} [الحجرات: 7]، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، وقال تعالى: {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين} [البقرة: 195]، وقال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين} [البقرة: 222]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ العُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ»([413]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عـن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ...»([414]).
ونؤمن بأن الله يكره الفسوق والفاسقين، وقال الحق سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون} [الحجرات: 11]، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِين} [البقرة: 190]، وقال المولى عز شأنه: {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَاد} [البقرة: 205].
وعن عثمان البتي قال: دخلت على ابن سيرين، فقال لي: «ما يقول الناس في القدر؟ قال: فلم أدر ما رددت عليه، قال: فرفع شيئًا من الأرض، وقال: ما أُرِيد([415]) على ما أقول مثل هذا، إن الله إذا أراد بعبد خيرًا وفَّقه لمحابِّه وطاعته، وما يرضى به عنه، ومن أراد به غير ذلك اتخذ عليه الحجة، ثم عذبه غير ظالم له»([416]).
ونؤمن بأن الله لا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء} [الأعراف: 28]، وقال عز شأنه وتعالى سلطانه: {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7].
ونؤمن بأن الله خالق كل شيء، قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل} [الزمر: 62]، وأن الله خلق العباد، وخلق أفعالهم، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون} [الصافات: 96]، ولا يشاركه أحد في خلقه كما لا يشاركه أحد في ملكه، قال الحق جل في علاه: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2].
واحتج الله على الخلق بأنه هو الخالق وحده، قال الله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُون * أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُون * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُون} [الواقعة: 57-59]. فهو، وإن كان برهانًا على البعث، دليل على تفرده -سبحانه- بالخلق تبارك وتعالى.
بــاب
ونؤمن بأنه لا تعارض بين الشرع والأمر والخلق، فالله سبحانه وتعالى له الخلق، وله الأمر، فكما يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل، فهو يأمر ولا راد لقضائه، ولا معقب لأمره، قال الحق سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} [الأعراف: 54].
ونؤمن بأن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ومع ذلك أمر بطاعته وطاعة رسله وأنبيائه، ونهى عن معصيته ومعصية رسله وأنبيائه، قال الحق جل شأنه، وتقدست أسماؤه: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم * قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيل * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِين} [يونس: 107-109]. فجمع سبحانه وتعالى في هذه الآيات بين الإخبار عن تقديره، والأمر باتباع وحيه وأمره، وقال الحق جل جلاله: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِين * وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل} [الأنعام: 106-107]، فبين الحق أن الواجب اتباع الهدى، وأنه هدى من شاء بفضله، وأضلّ من شاء بعدله، سبحانه وتعالى، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين * وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِين * وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُون *
وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُون * وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون} [هود: 118-123]. وفي هذه الآيات -أيضًا- جمع سبحانه وتعالى بين إخباره عن مشيئته العامة، وتهديده للمخالفين، وأَمْرِه لعباده المؤمنين بعبادته والتوكل عليه.
والجمعُ بين الإيمان بالقدر والعمل بالشرع ممكن ومقدور عليه؛ ولذا قال المولى عز شأنه: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقال الحق سبحانه وتعالى: {وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [المؤمنون: 62].
وأمرنا الله بالصبر على أقداره المؤلمة، فقال الحق جل شأنه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين} [البقرة: 155]، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب} [الزمر: 10].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ بَلَاءً الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»([417]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا يَزَالُ البَلَاءُ بِالمؤْمِنِ وَالمؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ»([418]).
وعن علي رضي الله عنه قال: كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الغَرْقَدِ، فَأَتَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ، وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ، فَنَكَّسَ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلَّا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً»، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا، وَنَدَعُ العَمَلَ؟ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ، فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّـقَاوَةِ، فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ. قَالَ: «أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ»، ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى } الآيَةَ [الليل: 6]»([419]).
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُعْرَفُ أَهْلُ الجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: فَلِمَ يَعْمَلُ العَامِلُونَ؟ قَالَ: «كُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَوْ: لِمَا يُسِّرَ لَهُ»([420]).
وعن جابر رضي الله عنه قال: جَاءَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلِقْنَا الْآنَ، فِيمَا الْعَمَلُ الْيَوْمَ؟ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ، وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ، أَمْ فِيمَا نَسْتَقْبِلُ؟ قَالَ: «لَا، بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ» قَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ زُهَيْرٌ: ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو الزُّبَيْرِ بِشَيْءٍ لَمْ أَفْهَمْهُ، فَسَأَلْتُ: مَا قَالَ؟ فَقَالَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ»([421]).
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ العَبْدَ لَيَعْمَلُ -فِيمَا يَرَى النَّاسُ- عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ -فِيمَا يَرَى النَّاسُ- عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا»([422]).
قال الإمام الآجري مخبرًا عن الله أنه: «أحبَّ الطاعةَ من عبادِه وأمرَ بها، فجرتْ ممن أطاعه بتوفيقه لهم، ونهى عن المعاصي، وأراد كوْنَها من غير محبة منه لها، ولا للأمرِ بها، تعالى عز وجل عن أن يأمر بالفحشاء، أو يحبها، وجلَّ ربنا وعزَّ من أن يجرِيَ في ملكه ما لم يردْ أن يجري، أو شيء لم يحطْ به علمه قبل كوْنِه، قد علم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم، وبعد أن خلقهم، قبل أن يعملوا قضاءً وقدرًا، قد جرى القلم بأمره تعالى في اللوح المحفوظ بما يكون، من برٍّ أو فجور، يثني على من عمل بطاعته من عبيده، ويضيف العمل إلى العباد، ويعدهم عليه الجزاء العظيم، ولولا توفيقه لهم ما عملوا بما استوجبوا به منه الجزاء؛ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم} [الحديد: 21]، وكذا ذم قومًا عملوا بمعصيته، وتوعدهم على العمل بها، وأضاف العمل إليهم بما عملوا، وذلك بمقدور جرى عليهم، يضل من يشاء، ويهدي من يشاء»([423]).
ونؤمن بأنه كما لا يوجد تعارض بين الخلق والأمر والشرع، فكذلك لا يوجد تعارض بين الشرع والأمر والعقل، فكل ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو نهى عنه الله ورسوله، أو قدره الله، أو أخبر به - لا يعارض العقل؛ بل هو مقتضى ما تأمر به العقول، وهو غاية الحكمة، قال الحكيم العليم: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} [الإسراء: 39]، وقال تعالى: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُر} [القمر: 5]، وقال الحق: {وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113]، وبه تقوم الحجة على الخلق، قال المولى عز شأنه: {قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِين} [الأنعام: 149]. وهذا الشرع والأمر والقدر هو في غاية الحسن، بل لا أحسن منه، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُون} [المائدة: 50].
وعن ابن الديلمي قال: «أَتَيْتُ أبي بْنَ كَعْبٍ، فَقُلْتُ لَهُ: وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنَ الْقَدَرِ، فَحَدِّثْنِي بِشَيْءٍ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُذْهِبَهُ مِنْ قَلْبِي، قَالَ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَلَوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَدَخَلْتَ النَّارَ. قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَحَدَّثَنِي عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ»([424]).
وقال تعالى مثنيًا على كتابه الذي تضمن الشرع والأمر أنه أحسن الحديث، قال تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [الزمر: 23]. فما شرعه الله أو قدره فهو في غاية الكمال والحُسْن؛ سواء أدركته العقول أو عجزت عن إدراكه وفهمه، ولا نجعل عقولنا وآراءنا حكمًا على شرع الله وقدره تارة بالتحسين، وتارة بالتقبيح، بل كل ما قدره الله وشرعه فهو تام الحُسنِ والكمال.
ونؤمن بأن الشرع والقدر كله خير، والله لا يقدر الشر المحض، قال صلى الله عليه وسلم: «وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ»([425]).
ويدخل الشر ضمن عموم المقدر، كما قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر} [القمر: 49]، ويرد الشر في القرآن مضافًا إلى من قام به، قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق * مِن شَرِّ مَا خَلَق} [الفلق: 1، 2].
ومن باب الأدب ألا يضاف الشر إلى الله تعالى، قال المولى مخبرًا عن الجن أنهم قالوا: {وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10]، وقال الله تعالى مخبرًا عن الخليل عليه السلام أنه قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين} [الشعراء: 80]، فنسب المرض إلى نفسه، والشفاء إلى الله جل جلاله.
بــاب
ونؤمن أن فعل الأسباب لا ينافي الإيمان بالقدر، بل مباشرة الأسباب من تمام الإيمان بالقضاء والقدر، وأمر ربنا بطلب الرزق، وقد أخبرنا أنه كتبه لنا، قال الحق: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور} [الملك: 15].
وقال سبحانه وتعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [الجمعة: 10].
وقال الله مخبرًا عن يعقوب أنه قال لبنيه: {يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُون} [يوسف: 67]. وعن السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ أَخَذَ دِرْعَيْنِ، كَأَنَّهُ ظَاهَرَ بَيْنَهُمَا»([426]). وأمر الله نوحًا عليه السلام بصنع السـفينة، كما أمر موسى عليه السلام بأن يضرب البحر، وأمر مـريم عليها السلام بأن تهز جـذع النخلـة لتساقط عليها الرطب، إلى غـير ذلك مما أمر الله به عباده باتخاذ الأسباب.
ومن أعظم الأسباب: الدعاء، فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ «عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}. قَالَ: الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ، وَقَرَأَ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] إِلَى قَوْلِهِ: {دَاخِرِين}»([427]).
ومن الأسباب: الدواء والرقى، فعن أبي خِزَامَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا وَدَوَاءً نَتَـدَاوَى بِهِ وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ قَالَ: «هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ»([428]).
بــاب
نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى يأمر بالعدل، ويحكم به شرعًا وتقديرًا وجزاءً، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90]، وقال المولى عز شأنه: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} [النحل: 76]، وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا»([429]).
ونفى عن نفسه الظلم، فقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد} [فصلت: 46]، وقال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40]، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124]، وقال عز شأنه: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون} [يونس: 44]، وقال الحق جل شأنه: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون} [الأنعام: 160]. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كمال عدله، ونفي الظلم عن نفسه.
ونؤمن بأن سبْق القضاء والقدر لا يلزم منه ظلم للعباد؛ لأن الله أنزل الكتب، وأرسل الرسل؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، قال تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165].
وجعل القدر سرًّا مكتومًا، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26]، وجعل للعباد مشيئة واختيارًا، قال المولى عز شأنه: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، وقال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3]، وقال الحق: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8].
بــاب
نؤمن بأن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب؛ لئلا يكون للناس على الله حجة، قال المولى عز شأنه: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]، وقال تعالى مخبرًا عن المشركين أنهم احتجوا بالقدر على وقوعهم في الشرك، فبين الله كذبهم، وأذاقهم بأسه، قال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُون} [الأنعام: 148]. ولو كان القدر حجة لهم على شركهم ما أذاقهم الله بأسه.
وعن علي رضي الله عنه قال: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَهُ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الأَرْضِ، وَقَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا قَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ أَوْ مِنَ الجَنَّةِ»، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: أَلَا نَتَّكِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لَا، اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ». ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] الآيَةَ»([430])، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل، ونهى عن الاتِّكال على القدر.
ونؤمن أنه يجوز للعبد أن يحتج بالقدر على الذنوب بعد التوبة منها، فعن حميد بن عبدالرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَخْرَجَتْكَ خَطِيئَتُكَ مِنَ الجَنَّةِ، فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ، ثُمَّ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ»، فَقَالَ رَسُـولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى». مَرَّتَيْنِ([431]).
وقال مطرِّف بن عبدالله بن الشِّخِّير رحمه الله: «لم نوكل في القرآن إلى القدر، وقد أخبرنا في القرآن أنَّا إليه نصير»([432])، وقال محمد بن سيرين رحمه الله: «إن لم يكن أهل القدر من الذين يخوضون في آيات الله عز وجل فلا أدري ما هم؟»([433]).
قال ابن وهب، وغير واحد: «سئل مالك عن أهل القدر: أيكف عن كلامهم؟ قال: نعم، إذا كان عارفًا بما هو عليه. قال: ويأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، ويخبرهم بخلافهم، ولا يواضع القول، ولا يصلي عليهم، ولا تُشْهد جنائزهم، ولا أرى أن يناكحوا، زاد في رواية غيره: قال الله: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} [البقرة: 221]، قال في رواية أشهب: ولا يصلى خلفهم، ولا يحمل عليهم الحديث، وإن وافيتموهم في ثغر فأخرجوهم منه»([434]).
ونؤمن بأنه يجوز للعبد أن يحتج بالقدر على المصائب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»([435]).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قولَه في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعون} [البقرة: 156]: قال: أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا سَلَّمَ الْأَمْرَ إِلَى اللَّهِ وَرَجَعَ وَاستَرْجَعَ عِنْد الْمُصِيبَةِ، كُتِبَ لَهُ ثَلَاثُ خِصَالٍ مِنَ الْخيْرِ: الصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ، وَالرَّحْمَةُ، وَتَحْقِيقُ سَبِيلِ الْهدَى. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اسْتَرْجَعَ عِندَ الْمُصِيبَةِ جَبَرَ اللَّهُ مُصِيبَتَهُ، وَأَحسَنَ عُقْبَاهُ، وَجَعَلَ لَهُ خَلَفًا صَالِحًا يَرْضَاهُ»([436]).
نؤمن بأن الله خلق الخلق ليعبدوه، والعبادة التي أمر الله بها هي الحنيفية، وهي ملة إبراهيم عليه السلام ، وهي التي أمر الله بها جميع الثقلين. والعبادة أنواع كثيرة، ولا يجوز صرف شيء منها لغير الله تعالى. ومن أنواعها: الدعاء، والتوكل، والخشية، والخوف، والرجاء، والاستعاذة، والذبح، والاستعانة، والاستغاثة.
ونؤمن بأن الله خلق الخلق ليعبدوه، ونعلم أن أول أمر ورد في القرآن هو الأمر بعبادة الله وحده دون ما سواه، وكل نبي قال لقومه: {اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65].
ونعلم أن العبادة لا تكون مقبولة حتى تكون خالصة لله رب العالمين، موافقة لهدى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
ويجب أن يكون المقصود بالعبادة هو الله وحده لا شريك له، وحذّر سبحانه وتعالى من الشرك كله كبيره وصغيره، فمن عمل عملًا خالصًا لكنه غير موافق لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فعمله مردود عليه، ومن عمل عملًا موافقًا لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم لكنه غير خالص لله؛ فهو مردود عليه.
ونعلم أن أصول العبادة ثلاثة هي: كمال الحب، وكمال الرجاء، وكمال الخوف، وأن الأنبياء والمرسلين فازوا من ذلك بأوفر الحظ والنصيب.
وأعظم ما يرجوه المؤمنون هو رؤية وجه الله الكريم، ورؤية الله هي أعلى نعيم أهل الجنة، بل هي زيادة نعيم على نعيمهم، وإذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ، زاد الله المؤمنين كرامة وإحسانًا إلى إحسانه إليهم تفضلًا منه وجودًا بإذنه لهم بالنظر إليه، وأعظم ما يخافه أهل الإيمان هو حرمانهم من هذا النعيم الذي خص به أولياءه من المؤمنين، وحرم منه أعداءه، وحجب جميع أعدائه عن النظر إليه من المشركين واليهود والنصارى والمجوس والمنافقين.
والوسيلة([437]) هي التقرب إلى الله بكل ما يرضيه من واجب أو مستحب.
ونؤمن بأن الله أمر عباده بالدعاء، ووعدهم بالإجابة، ونعلم أن التوسل إلى الله يكون بأسمائه الحسنى وصفاته العلى؛ ولهذا كانت دعوات الأنبياء والمرسلين أكثر ما تكون بالتوسل بأسماء الله الحسنى. ومن مواطن الدعاء أدبار الصلوات، وفي الثلث الأخير من الليل، وعند الفطر من الصوم، وفي الطواف، وعلى الصفا والمروة، وفي عرفات ومزدلفة، وبعد رمي الجمرات.
كما يكون التوسل بالإيمان بالله، يكون التوسل إلى الله بالعمل الصالح بأنواع العبادات. ويكون التوسل إلى الله بذكر الحال، وإظهار الافتقار إلى الله، وأن العبد محتاج إلى عون الله ورحمته. ويكون التوسل بأن يطلب المسلم من الرجل الصالح الحي الحاضر أن يدعو له، كما طلب إخوة يوسف من أبيهم أن يستغفر لهم، وعَدَلَ الصحابة رضي الله عنهم عن الاستسقاء والتوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته إلى التوسل بالعباس رضي الله عنه؛ لأنهم يعلمون أن هذا من التوسل المشروع.
ولا يجوز التوسـل بغير ما شرع الله؛ فقد كان أهل الجاهلية يتقربون إلى الله بالتوسل إليه بأوثانهم وآلهتهم.
بــاب
نؤمن بأن الله خلق الثقلين لعبادته، قال عز من قائل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون} [الذاريات: 56]؛ أي: وما أمروا إلا ليخلصوا العبادة لله رب العالمين. والعبادة التي أمر الله بها هي الحنيفية، وهي ملة إبراهيم عليه السلام ، قال عز من قائل: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين} [الأنعام: 161].
والعبادة التي أمر الله بها أنواع كثيرة، ولا يجوز صرف شيء منها لغير الله، قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].
ومن أنواعها: الدعاء، قال عز من قائل: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُون} [المؤمنون: 117]، وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين} [غافر: 60].
ومنها التوكل، قال تعالى: {وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين} [المائدة: 23]، وقال تعالى: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].
ومنها الخشية، قال تعالى: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة: 150].
ومنها الخوف، قال الحق جل شأنه: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين} [آل عمران: 175].
ومنها الرجاء، قال الحق جل ثناؤه: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57]، وقال الحق عز شأنه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
ومنها الاستعاذة، قال الحق جل ثناؤه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس} [الناس: 1].
ومنها الذبح، قال الحق جل في علاه: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [الأنعام: 162].
ومنها الاستعانة، قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين} [الفاتحة: 5].
ومنها الاستغاثة، قال الحق جل شأنه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِين} [الأنفال: 9].
ونعلم أن أول أمر ذكر في القرآن هو الأمر بعبادة الله وحده دون ما سواه، قال جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة: 21]. وكل نبي قال لقومه: {اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} ، كما قال الله في أول الرسل عليهم السلام: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم} [الأعراف: 59]، وقال الله مخبرًا عن آخرهم صلى الله عليه وسلم أنه قال لقومه: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]، وقال الله جل في علاه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
ونعلم أن العبادة لا تكون مقبولة حتى تكون خالصة لله رب العالمين، موافقة لهدى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
ونعلم أنه يجب أن يكون المقصود بالعبادة هو الله وحده لا شريك له، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»([438]).
وحذَّر سبحانه وتعالى من الشرك كله كبيره وصغيره، فقال عز وجل: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]. وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ تبارك وتعالى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»([439]).
فمن عمل عملًا خالصًا لكنه غير موافق لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم فعمله مردود عليه، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»([440])، وقال عز من قائل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} [النور: 63]، وقال عز من قائل: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم} [آل عمران: 31].
ونعلم أن أصول العبادة ثلاثة هي: كمال الحب، و كمال الرجاء، وكمال الخوف، وقد فاز الأنبياء والمرسلون من ذلك بأوفر الحظ والنصيب، قال تعالى مخبرًا عن حالهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِين} [الأنبياء: 90]، وقال عز من قائل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُون * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُون} [المؤمنون: 60، 61]، وقال سبحانه وتعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون} [السجدة: 16]، وقال الحق جل في علاه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9].
وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»([441]).
وقال الحق جل في علاه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} [البقرة: 165]، وقال صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»([442]).
وعن أبي هـريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ»([443]). ولا ينال العبد محبة الله حتى يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الحق جل في علاه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم} [آل عمران: 31].
وأعظم ما يرجوه المؤمنون هو رؤية وجه الله الكريم، قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة} [القيامة: 22، 23].
ورؤية الله هي أعلى نعيم أهل الجنة، بل هي زيادة نعيم على نعيمهم، قال تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} [يونس: 26].
وعن صهيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عز وجل»([444]).
بــاب
والوسيلة هي التقرب إلى الله بكل ما يرضيه من واجب أو مستحب.
ونؤمن بأن الله أمر عباده بالدعاء، ووعدهم بالإجابة، فقال جل من قائل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين} [غافر: 60]، وقال جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون} [البقرة: 186].
ونعلم أن التوسل إلى الله يكون بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، كما قال تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون} [الأعراف: 180]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} [الإسراء: 110].
ولهذا كانت دعوات الأنبياء والمرسلين أكثر ما تكون بالتوسل بأسماء الله الحسنى، كما قال تعالى مخبرًا عن آدم وزوجه أنهما قالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} [الأعراف: 23]، وقال الخليل عليه السلام : {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء} [إبراهيم: 40]، وقال موسى عليه السلام : {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين} [الأعراف: 151].
كما يكون التوسل بالإيمان بالله، قال تعالى: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين} [آل عمران: 53].
ويكون التوسل بالعمل الصالح، كما في قصة الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوا المَبيتَ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ، كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لَا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا، وَلَا مَالًا، فَنَأَى بِي فِي طَلَبِ شَيْءٍ يَوْمًا، فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا، فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ، وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ وَالقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ، أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا، فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لَا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ»، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ، كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي، فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا، قَالَتْ: لَا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا، وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ مِنْهَا»، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ، فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأَمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي، فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الإِبِلِ وَالبَقَرِ وَالغَنَمِ وَالرَّقِيقِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، لَا تَسْتَهْزِئ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ، فَاسْتَاقَهُ، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، فَخَرَجُوا يَمْشُونَ»([445]).
ويكون التوسل إلى الله بأنواع العبادات، ومن أهمها الدعاء، كما قال جل ثناؤه في أنبيائه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِين} [الأنبياء: 90]. ومن مواطن الدعاء أدبار الصلوات، وفي الثلث الأخير من الليل، وعند الفطر من الصوم، وفي الطواف، وعلى الصفا والمروة، وفي عرفات، ومزدلفة، وبعد رمي الجمرات.
ويكون التوسل بذكر الحال، وإظهار الافتقار إلى الله، وأن العبد محتاج إلى عون الله ورحمته، قال تعالى مخبرًا عن موسى عليه السلام أنه قال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِير} [القصص: 24]، وقال جل ثناؤه في نبي الله أيوب عليه السلام أنه دعا فقال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين} [الأنبياء: 83].
ويكون التوسل بأن يطلب المسلم من الرجل الصالح الحي الحاضر أن يدعو له، كما طلب إخوة يوسف من أبيهم عليه السلام يستغفر لهم، قال الله تعالى مخبرًا عن ذلك: {قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِين} [يوسف: 97]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} [النساء: 64]. وعن أنس بن مالك، عَنْ خَالَتِهِ أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، قَالَتْ: نَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا قَرِيبًا مِنِّي، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَتَبَسَّمُ، فَقُلْتُ: مَا أَضْحَكَكَ؟ قَالَ: «أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ يَرْكَبُونَ هَذَا البَحْرَ الأَخْضَرَ كَالْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ»، قَالَتْ: فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَدَعَا لَهَا، ثُمَّ نَامَ الثَّانِيَةَ، فَفَعَلَ مِثْلَهَا، فَقَالَتْ مِثْلَ قَوْلِهَا، فَأَجَابَهَا مِثْلَهَا، فَقَالَتْ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: «أَنْتِ مِنَ الأَوَّلِينَ»([446]).
ولما فسر النبي صلى الله عليه وسلم صفة السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب، قَامَ عُكَّاشَةُ رضي الله عنه، فَقَالَ: «ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ»([447]).
وعن أنس رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه «كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المطَّلِبِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا، قَالَ: فَيُسْقَوْنَ»([448])، فعدل الصحابة رضي الله عنهم عن الاستسقاء والتوسل بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم -لكونه قد مات- إلى التوسل بدعاء العباس رضي الله عنه؛ لأنهم يعلمون أن هذا من التوسل المشروع، فعمر رضي الله عنه يقصد التوسل بدعاء العباس، وليس بالعباس نفسه؛ لأنه لو كان المقصود التوسل بالعباس نفسه لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بذلك.
ولا يجوز التوسل بغير ما شرع الله، فقد كان أهل الجاهلية يتقربون إلى الله بالتوسل إليه بأوثانهم وآلهتهم، قال تعالى مخبرًا عن شنيع فعلهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].
ونعلم أن مما يضاد الإيمان بالله: الكفر بالله.
والكفر يكون أكبر وأصغر، والأكبر مُخْرج من الملة، ولا يقبل الله من صاحبه صرفًا ولا عدلًا، وهو مُحْبط لجميع الأعمال، والكافر خالد مخلَّد في النار. أما الأصغر فيضاد كمال الإيمان.
ونعلم أن الكفر الأكبر أنواع، أخبر الله عنها في كتابه، وذكر أن كفر الكافرين تارة يكون جحودًا، وتارة يكون امتناعًا واستكبارًا عن الحق، وتارة يكون تكذيبًا، ولا فرق بين التكذيب باللسان، والتكذيب بالقلب، وتارة يكون شكًّا وظنًّا، فهو متردد في أمر الحق شاكٌّ في البعث ولقاء الله، وتارة يكون سبًّا واستهزاءً، وتارة يكون إعراضًا وصدًّا عن سبيل الله، وتارة يكون بغضًا للحق.
ونعلم أن من الكفر كفرًا دون الكفر الأكبر، وهو الكفر الأصغر، ولا يضاد أصل الإيمان، ولكنه يضاد كماله، وهو لا يخلد صاحبه في النار، ولا يحبط جميع الأعمال، وهو أنواع كثيرة.
ومنه: قتال المسلم، فهذا كفر لا يُخرج من الملة، ولا يُخلد صاحبه في النار؛ لأن الله سمى المؤمنين المتقاتلين إخوانًا فسماهم مؤمنين، وهم يتقاتلون.
ونعلم أن مما يضاد الإيمان بالله: الشرك بالله العظيم - وهو أعظم الظلم - والشرك يحبط جميع الأعمال، والشرك لا يغفر الله لصاحبه إذا مات ولم يتب، والمشرك إذا مات ولم يتب فالجنة عليه حرام، ومأواه جهنم خالدًا فيها.
وقد أبطل الله الشرك، ونعى على المشركين شركهم، وبين فساد اتخاذهم الأنداد، وأنها لا تنفع، ولا تضر، فتارة يبين أن هؤلاء الشركاء لا يسمعون، ولو سمعوا ما استجابوا لمن دعاهم. وتارة يبين الحق أن هؤلاء الشركاء لا ينفعون ولا يضرون، ولا يملكون موتًا ولا حياة. وتارة يبين الحق أن هؤلاء المعبودين من دون الله أنقص ممن عبدها؛ لأنها لا تمشي، ولا تبطش، ولا تسمع، ولا ترى. وتارة يبين المولى عز شأنه عجز هذه المعبودات وضعفها، وتارة يحكم عليها المولى عز شأنه بالفقر والقلّة، وأنها لا تملك مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ملكًا تامًّا، ولا تملك شراكة في شيء من ذلك، وليس شيء منها ظهيرًا ومعينًا لله سبحانه وتعالى، ولا شفيعًا عنده. وتارة يبين الحق سبحانه وتعالى أن وجود آلهة مع الله ممتنع عقلًا، ومستحيل كونًا، وباطل شرعًا.
ونعلم أن الشرك الأكبر أنواع كثيرة:
منها: أن يُجْعل مع الله شريكٌ في ربوبيته وخلقه وملكه ورزقه وتدبيره، وبين الحق أنه هو المتفرد سبحانه بالخلق والأمر.
ومنها: أن يجعل العبد لله ولدًا -تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
ومنها: الإيمان بالكواكب وعبادتها، ومن ذلك -أيضًا- الاستسقاء بالنجوم، واعتقاد أنها تجلب الرزق.
ومنها: أن يجعل مع الله شريكًا في أسمائه أو صفاته سبحانه وتعالى، كمن يزعم أن أحدًا غير الله يعلم الغيب. وقد جاء الوعيد الشديد على من سمى نفسه، أو سمى غيره باسم من أسماء الله التي لا تنبغي إلا لله كلفظ الجلالة «الله»، أو «الرحمن».
ومنها: أن يعتقد أن أحدًا من الخلق متصفٌ بالكمال الإلهي، أو أنه على كل شيء قدير، كيف؟! وقد أبان سبحانه وتعالى عن العجز التام للعابدين والمعبودين من دونه.
ومنها: أن يجعل مع الله آلهة أخرى.
ومنها: أن يصرف العبادة أو جزءًا منها لغير الله.
ومنها: الذبح لغير الله على سبيل التقرب، كمن يذبح للأصنام أو الموتى تقربا إليهم.
ومنها: النذر لغير الله، والنذر عبادة لله لا يجوز صرفه لغير الله؛ ولذا مدح الله المؤمنين الذين يوفون بالنذر.
ومنها: الاستعاذة بغير الله.
ومنها: الاستغاثة والاستعانة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، أو دعاء غير الله تعالى.
ومنها: شرك الطاعة لغير الله، وذكر الله أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا يشرعون لهم، ويحرمون عليهم ما أحل الله لهم.
ومنها: الشرك في الصلاة والركوع والسجود والطواف؛ ذلك أن هذه العبادات وأمثالها لا يجوز صرفها لغير الله، وأمر الله خليله عليه السلام أن يطهر بيته للطائفين والعاكفين والرُّكَّع السجود، وذكر الله أنه لا يستنكف عن عبادته إلا المتكبرون، وذكر الله أن كل المخلوقات تسجد لله.
ومنها: الحكم بغير ما أنزل الله، والتحاكم إلى غير الله، كما فعل أهل الكتاب وغيرهم؛ حيث جعلوا لله شركاء يشرعون لهم الشرائع، وهذا تارة يكون كفرًا، وتارة يكون ظلمًا، وتارة يكون فسوقًا.
ومنها: شرك المحبة، وهي أن يحب المرء مخلوقًا محبة مقترنة بالذل والتعظيم والخضوع.
ومنها: شرك الخوف والخشية، وهو أن يخشى أو يخاف من مخلوق خوفًا مقترنًا بالخضوع والذل والتعظيم، كأن يخافـه أن يُنْزل به البلاء، أو يمنع عنه الخير، أو أن يترك لأجله واجبًا، أو أن يفعل لأجله محرمًا على سبيل التقرب، وبين الحق جل في علاه أن أهل ولايته لا يخشون إلا الله سبحانه وتعالى.
ومنها: شرك الرجاء، وهو كمن يرجو من مخلوق حي حاضر أو غائب ما لا يقدر عليه إلا الله، أو يرجو من الأموات تفريج الكربات وقضاء الحاجات والشفاعة يوم القيامة.
ومنها: السحر.
ومنها: الكهانة والعرافة؛ لأن من يدّعيها يدعي علم الغيب.
ونعلم أن من الشرك شركًا أصغر لا يخرج من الملة، ولا يضاد أصل الإيمان، ولكنه يضاد كماله، وهو لا يخلد صاحبه في النار، ولا يحبط جميع الأعمال، وهو أنواع كثيرة.
ومنه: الطِّيَرة، وحدُّ الطيرة -كما في الحديث - ما أمضاك أو ردك.
ومنه: تعليق التمائم.
ومنه: يسير الرياء، أما من امتلأ قلبه من الرياء، وصار يعمل الصالحات بلا نية ولا إيمان ولا خشية، فهو المنافق الخالص، وعمله حابط مردود غير مقبول، والرسول صلى الله عليه وسلم سماه شرك السَّرائر، وبين صلى الله عليه وسلم أن الرياء خفي جدًّا، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يخافه على أمته أشد من خوفه عليها من المسيح الدجال.
ومنه: إرادة الإنسان بعمله الدنيا، وهذا متردد بين أن يكون شركًا أكبر، وأن يكون أصغر بحسب ما يقوم في قلب العبد.
ومنه: التنجيم، والتنجيم قد يكون شركًا أكبر، وقد يكون شركًا أصغر بحسب ما يقوم بالقلب.
ومنه: قول الرجل: ما شاء الله وشئت وما شابهها من الألفاظ.
ومنه: الحلف بغير الله.
ونعلم أن مما يضاد الإيمان بالله: النفاق، وهو إظهار الإسلام، وإخفاء الكفر، وهو أكبر وأصغر، والنفاق هو الكفر، أن يكفر بالله ويعبد غيره، ويظهر الإسلام في العلانية، مثل المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنفاق الأكبر مخرج من الملة، ونشهد بشهادة الله أن المنافقين كاذبون في دعواهم الإيمان.
ولا يقبل الله من المنافق صرفًا ولا عدلًا، ومآل المنافق - إن مات على النفاق - الخلود في النار.
ونعلم أن النفاق الأكبر يكون بغضًا للحق وكراهية له، ويكون فرحًا بهزيمة الإسلام وأهله، وحسرة إن رأوا نصرًا للإسلام. ويكون كفرًا بعد إيمان، وإعراضًا عن قبول التحاكم إلى الشرع. ويكون ظنًّا بالله ظن السوء أنه لن ينصر نبيه صلى الله عليه وسلم ودينه، ويكون سخرية من الحق وأهله، وسبًّا لهم واستهزاءً بهم - ويكون لمزًا للمسلمين - ويكون مخادعة لأهل الإيمان ورياءً بالأعمال.
وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بجهاد المنافقين.
ونعلم أن النفاق الأصغر لا يخرج من الملة، ولا يحبط العمل، ولا يخلد صاحبه في النار، ولا يضاد أصل الإيمان ولكنه يضاد كماله، وأن النفاق شعب أربع، من كنّ فيه كان منافقًا، ومن كانت فيه خصلة من هذه الأربع كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر
* والبدعة كلها ضلالة.
ونؤمن أن الله قد أكمل لنا الدين، وأتمَّ علينا النعمة. ومما يضاد كمال الإيمان البدع في الدين، ونعلم أن الله نهى عن التفرق والاختلاف.
ونعلم أن من البدع تعظيم القبور والبناء عليها، وقد تصل إلى الشرك، ومن البدع تصوير الصالحين رجاء الاقتداء بهم بعد مماتهم.
ونعلم أن من البدع المنكرة: الاحتفالات البدعية ومشاركة الكفار أعيادهم.
ونعلم أن من البدع المنكرة: طلب البركة مما لم يجعله الله سببًا مباركًا، وهذا قد يكون سببًا إلى الشرك.
بــاب
نعلم أن مما يضاد الإيمان بالله: الكفر بالله، وهو أكبر وأصغر، والكفر الأكبر يضاد أصل الإيمان، والكفر الأصغر يضاد كماله، والأكبر مخرج من الملة، ولا يقبل الله من صاحبه صرفًا ولا عدلًا، قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين} [آل عمران: 85]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِين} [آل عمران: 91]، وقال الحق جل في علاه: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُون} [البقرة: 48]. والكفر محبط لجميع الأعمال، قال الحق جل شأنه: { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين} [المائدة: 5]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} ، قَالَ: «أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعُرْوَةُ الْوثْقَى، وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ عَمَلًا إِلَّا بِهِ، وَلَا يُحَرِّمُ الْجَنَّةَ إِلَّا عَلَى مَنْ تَرَكَهُ»([449]).
والكافر خالد مخلد في النار، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقا * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا} [النساء: 168، 169].
والكفر الأكبر أنواع، أخبر الله عنها في كتابه، وذكر أن كفر الكافرين تارة يكون جحودًا قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُون} [الأنعام: 33]، وقال الحق جل شأنه: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُور} [لقمان: 32]، وقال عز من قائل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِين} [النمل: 14].
وتارة يكون الكفر امتناعًا واستكبارًا عن الحق، قال تعالى في إبليس -وهو إمام الكافرين: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِين} [البقرة: 34]. وقال نوح: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح: 7].
وتارة يكون الكفر تكذيبًا، كما قال الله في الأمم السابقة: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَاب} [آل عمران: 11]، وقال تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُون} [الانشقاق: 22]. ولا فرق بين أن يكون التكذيب باللسان، وأن يكون بالقلب، قال الحق في المنافقين: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُون} [الحشر: 11]، وقال عز شأنه: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون} [المنافقون: 1].
وتارة يكون الكفر شكًّا وظنًّا، فهو متردد في أمر الحق، شاك في البعث ولقاء الله، قال تعالى مخبرًا عن صاحب الجنة أنه قال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف: 36]، فقال له صاحبه المؤمن: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} [الكهف: 37].
وتارة يكون الكفر سبًّا واستهزاءً، كما قال المولى عز شأنه مخبرًا عن الكافرين: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون} [الأنعام: 10]، وقال تعالى مخبرًا عن قوم نوح وسخريتهم به: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُون} [هود: 38].
وتارة يكون الكفر إعراضًا وصدًّا عن سبيل الله، قال تعالى مخبرًا عن إعراض الكافرين: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُون} [الأنبياء: 24]، وقال عز شأنه وتقدست أسماؤه: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُون} [الأحقاف: 3].
وتارة يكون الكفر بغضًا للحق، قال المولى عز شأنه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُم} [محمد: 9].
ونعلم أن من الكفر كفرًا دون الكفر الأكبر، وهو الكفر الأصغر، ولا يضاد أصل الإيمان، ولكنه يضاد كماله، ولا يخلد صاحبه في النار، ولا يحبط جميع الأعمال، وهو أنواع كثيرة.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «سِبَابُ المسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»([450])، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ»([451])، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»([452]).
فهذا الكفر لا يُخرج من الملة، ولا يُخلد صاحبه في النار؛ لأن الله سمى المؤمنين المتقاتلين إخوانًا، فقال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]، فسماهم مؤمنين وهم يتقاتلون، وقال إمام أهل السنة الإمام أحمد رحمه الله - بعد أن ساق جملة من هذه الأحاديث وأمثالها: «هذه الأحاديث التي جاءت: «ثلاث من كن فيه فهو منافق» هذا على التغليظ، نرويها كما جاءت، ولا نفسرها... ونحوه من الأحاديث مما قد صح وحُفظ فإنا نسلم له، وإن لم يُعلم تفسيرها، ولا يُتكلم فيه، ولا يُجادل فيه، ولا تفسر هذه الأحاديث إلا بمثل ما جاءت»([453]).
بــاب
نعلم أن مما يضاد الإيمان بالله: الشرك بالله العظيم، وهو أكبر وأصغر، والشرك الأكبر يضاد أصل الإيمان، والشرك الأصغر يضاد كماله، والشرك الأكبر أعظم الظلم، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} [لقمان: 13]. والشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} [الزمر: 65]، وقال عز من قائل: {ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُون} [الأنعام: 88].
والشرك الأكبر لا يغفر الله لصاحبه إذا مات ولم يتب منه، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]. والمشرك إذا مات ولم يتب فالجنة حرام عليه، ومأواه جهنم خالدًا فيها، قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72].
وعن جابر رضي الله عنه قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْمُوجِبَتَانِ؟ فَقَالَ: «مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ»([454]).
وقد أبطل الله الشرك، ونعى على المشركين شركهم، وبين فساد اتخاذهم الأنداد، وأنها لا تنفع ولا تضر، فتارة يبين أن هؤلاء الشركاء لا يسمعون، ولو سمعوا ما استجابوا لمن دعاهم، قال تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِير * إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر: 13، 14]. فبين الحق أنهم لا يملكون أي شيء، ولا يسمعون لمن دعاهم، ويوم القيامة يكفرون بشركهم.
وتارة يبين الحق أن هؤلاء الشركاء لا ينفعون ولا يضرون، ولا يملكون موتًا ولا حياة، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا} [الفرقان: 3]، وقال عز شأنه: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُون * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّون} [الشعراء: 72، 73].
وتارة يبين الحق أن هؤلاء المعبودين من دون الله أعظم نقصًا ممن عبدها؛ لأنها لا تمشي، ولا تبطش، ولا تسمع، ولا ترى، فهي: «خالية من كل هذه الأشياء التي بها يوصل إلى اجتلاب النفع ودفع الضر»([455]). قال تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُون} [الأعراف: 195].
وتارة يبين المولى عز شأنه عجز هذه المعبودات وضعفها، قال الحق جل في علاه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوب} [الحج: 73]، وقال عز من قائل: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُون} [الأعراف: 197].
وتارة يحكم عليها المولى عز شأنه بالفقر والقلة، وأنها لا تملك مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ملكًا تامًّا، ولا تملك شراكة في شيء من ذلك، وليس لله تعالى منها ظهيرٌ، ولا معين، ولا شفيع عنده، قال تعالى{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِير * وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22، 23].
وتارة يبين الحق سبحانه وتعالى أن وجود آلهة مع الله ممتنع عقلًا، ومستحيل كونًا، وباطل شرعًا، قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُون} [الأنبياء: 22]، وقال الله عز شأنه وتعالى مجده وسلطانه: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا} [الإسـراء: 42]. وقال الحق عز شأنه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون} [المؤمنون: 91].
ونعلم أن الشرك الأكبر أنواع كثيرة:
فمن أنواعه: أن يُجْعَلَ مع الله شريك في ربوبيته وخلقه وملكه ورزقه وتدبيره، قال الحق مخبرًا عن شركهم: {أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّار} [الرعد: 16]، وقال تعالى منكرًا على من جعـل لله شريكًا من الخلق، وهو مخلوق لا يخلق: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِين} [لقمان: 11]، وبين الحق أنه هو المتفرد سبحانه وتعالى بالخلق والأمر، فقال جل شأنه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} [الأعراف: 54].
ومن أنواعه: أن يُجْعَلَ لله ولدٌ -تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا- قال المولى عز شأنه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُون} [التوبة: 30]، وقال عز من قائل: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُون} [الأنعام: 100]، وقال الحق سبحانه وتعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِين * أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِين} [الزخرف: 15، 16].
ومن أنواعه: الإيمان بالكواكب وعبادتها، قال تعالى مخبرًا عن إبراهيم الخليل عليه السلام أنه حاج قومه في عبادة الكواكب: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِين * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِين * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُون * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِين * وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُون * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون} [الأنعام: 75-81].
ومن ذلك -أيضًا: الاستسقاء بالنجوم، واعتقاد أنها تجلب الرزق، قال تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون} [الواقعة: 82]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ، وَمِنْهُمْ كَافِرٌ، قَالُوا: هَذِهِ رحمة الله، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا». قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُوم} [الواقعة: 75]، حَتَّى بَلَغَ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون} [الواقعة: 82]([456]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالْاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ»([457]).
وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أنه قال: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالكَوْكَبِ»([458]).
ومن أنواعه: أن يُجْعَلَ مع الله شريك في أسمائه أو صفاته سبحانه وتعالى كمن يزعم أن أحدًا غير الله يعلم الغيب، والله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُون} [الأنعام: 50]، وقال الحق جل في علاه: {إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ} [يونس: 20]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا -قَالَ مُوسَى فِي حَدِيثِهِ - فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ - ثُمَّ اتَّفَقَا- أَوْ أَتَى امْرَأَةً - قَالَ مُسَدَّدٌ: امْرَأَتَهُ - حَائِضًا، أَوْ أَتَى امْرَأَةً - قَالَ مُسَدَّدٌ: امْرَأَتَهُ - فِي دُبُرِهَا، فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ»([459])، وقد جاء الوعيد الشديد على من سمى نفسه، أو سمى غيره باسم من أسماء الله التي لا تنبغي إلا لله، كلفظ الجلالة «الله»، أو «الرحمن»، والله تعالى يقول: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون} [الأعراف: 180]، وقال المولى عز شأنه: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} [طه: 8]، وقال صلى الله عليه وسلم «أَخْنَى الأَسْمَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأَمْلَاكِ»([460]).
وقال أبو عبيد رحمه الله: «وكان سفيان بن عيينة يفسر قوله: «ملك الأملاك»، قال: هو مثل قولهم: شاهان شاه، أي: أنه ملك الملوك. وقال غير سفيان: بل هو أن يتسمى الرجل بأسماء الله، كقوله: الرحمن، والجبار، والعزيز. قال: فالله هو ملك الأملاك، لا يجوز أن تسمي بهذا الاسم غيره»([461]).
ومن أنواعه: أن يُعْتَقَدَ أن أحدًا من الخلق متصفٌ بالكمال الإلهي، أو أنه على كل شيء قدير، قال الحق جل في علاه: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَد} [الإخلاص: 4]، وقال سبحانه وتعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، وقال تعالى مخبرًا عن كمال قدرته: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [البقرة: 148]، وقال المولى عز شأنه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44]. وأبان سبحانه عن العجز التام للعابدين والمعبودين من دونه، فقال عز شأنه وتعالى سلطانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوب} [الحج: 73].
ومن أنواعه: أن يُجْعَلَ مع الله آلهةٌ أخرى، كما أخبر الله عن قوم إبراهيم عليه السلام أنهم اتخذوا آلهة من دون الله، فقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِين} [الأنعام: 74]، وأخبر الحق عن أصحاب الكهف أنهم اعتزلوا قومهم؛ لأنهم اتخذوا من دون الله آلهة، قال الله تعالى وتقدس: {هَؤُلاَء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف: 15]، وقال سبحانه في قوم موسى عليه السلام أنهم طلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهًا كما للمشركين آلهة: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون * إِنَّ هَـؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُون} [الأعراف: 138، 139]، وقال تعالى مبطلًا عبادة كل معبود من دون الله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون} [المؤمنون: 91].
ومن أنواعه: صَرْفُ العبادة أو جزء منها لغير الله، قال تعالى موضحًا حال المشركين: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَـذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُون} [الأنعام: 136]، وقال صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ تبارك وتعالى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»([462]).
ومن أنواعه: الذبح لغير الله على سبيل التقرب، كمن يذبح للأصنام أو الموتى تقربًا إليهم، قال المولى عز شأنه موضحًا أن الذبح لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [الأنعام: 162]، وقال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم} [النحل: 115]. وعن أبى الطفيل قال: قلنا لعلي بن أبى طالب رضي الله عنه: أخبرنا بشيء أسرَّه إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «مَا أَسَرَّ إِلَيَّ شَيْئًا كَتَمَهُ النَّاسَ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ»([463])؛ ولأن هذا الأمر عظيم جدًّا، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذبح بمكان يذبح فيه لغير الله، فعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: «نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ -هي هضبة من وراء ينبع قريبة من ساحل البحر- فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟» قَالُوا: لَا، قَالَ: «هَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟»، قَالُوا: لَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ»([464]).
ومن أنواعه: النذر لغير الله؛ فالنذر عبادة لله لا يجوز صرفه لغير الله؛ ولذا مدح الله المؤمنين الذين يوفون بالنذر، قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7]، وقال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار} [البقرة: 270]. وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ»([465]).
ومن أنواعه: الاستعاذة بغير الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَبِيتُ أَحَدُهُمْ بِالْوَادِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَقُولُ: أَعُوذُ بِعَزِيزِ هَذَا الْوَادِي، فَزَادَهُمْ ذَلِكَ إِثْمًا»([466])، قال تعالى مخبرًا عن حال أهل الجاهلية: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6]. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من نزل منزلًا وقال: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ»([467]).
ومن أنواعه: الاستغاثة والاستعانة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، أو دعاء غير الله، قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]، وقال تعالى: {إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير} [فاطر: 14]، وقال المولى عز شأنه موضحًا أن المشركين يستغيثون بالله إذا مسهم الضر، ثم يعودون إلى شركهم إذا نجاهم الله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُون} [العنكبوت: 65]، وقال عز شأنه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُون} [الأحقاف: 5]، وقال الله تعالى مبينًا أنه هو الذي يغيث الملهوف ويكشف الضر: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُون} [النمل: 62].
ومن أنواعه: شرك الطاعة لغير الله، قال تعالى مخبرًا عن أهل الكتاب أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا يشرعون لهم، ويحرمون عليهم ما أحل الله لهم: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون} [التوبة: 31]، وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]. وأمر الله عباده بالإيمان به والتحاكم إلى شرعه، وبين أن الشيطان يريدهم أن يتحاكموا إلى الطاغوت، فقال جل من قائل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء: 60]. وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أَتَيْتُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: يَا عَدِيُّ، اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الوَثَنَ، وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي «سُورَةِ بَرَاءَة»: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ} [التوبة: 31]، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ»([468]).
ومن أنواعه: الشرك في الصلاة والركوع والسجود والطواف؛ ذلك أن هذه العبادات وأمثالها لا يجوز صرفها لغير الله، وأمر الله خليله عليه السلام أن يطهر بيته للطائفين والعاكفين والرُّكَّع السجود، قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود} [الحج: 26]، وأمر الحق أن يكون السجود له وحده سبحانه وتعالى، فقال جل من قائل: {لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون} [فصلت: 37]. ولا يستنكف عن عبادته إلا المتكبرون، قال الحق سبحانه وتعالى: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِين} [ص: 75]، وذكر الله أن سائر المخلوقات تسجد له، فقال عز من قائل: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُون} [النحل: 49]. وفي خبر جعفر رضي الله عنه عندما دخل على النجاشي، فقال جعفر: «أَنَا خَطِيبُكُمُ الْيَوْمَ، فَاتَّبَعُوهُ حَتَّى دَخَلُوا عَلَى النَّجَاشِيِّ فَلَمْ يَسْجُدُوا لَهُ فَقَالَ: مَا لَكُمْ لَا تَسْجُدُونَ لِلْمَلِكِ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل بَعَثَ إِلَيْنَا نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَنَا أَلَّا نَسْجُدَ إِلَّا لِلَّهِ»([469]).
ومن أنواعه: الحكم بغير ما أنزل الله، والتحاكم إلى غير الله، وبيّن الله سبحانه وتعالى حكمَ من حكمَ بغير ما أنزل الله، فقال جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} [المائدة: 44]. وقال الحق جل في علاه: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُون} [المائدة: 45]. وقال المولى عز شأنه: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} [المائدة: 47]؛ ذلك لأن الأمر كله لله، قال الحـق جل في علاه: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} [الأعراف: 54]، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِين} [النحل: 35].
وقد نعى الله على أهل الكتاب اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابًا يشرعون لهم، قال تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون} [التوبة: 31]. وقال الحق جل في علاه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]. وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: «يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الوَثَنَ»، وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَة: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ} [التوبة: 31]»، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ»([470]).
وأهل الكتاب يضاهئون في ذلك المشركين الذين قال الله عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِين} [النحل: 35].
وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. وقال عز من قائل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]. وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُون} [المائدة: 50].
ومن أنواعه: شرك المحبة، وهي أن يحب مخلوقًا محبة مقترنة بالذل والتعظيم والخضوع، قال تعالى في محبة المشركين لأندادهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ} [البقرة: 165]. وعن عبدالله رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك...»([471]).
ومن أنواعه: شرك الخوف والخشية، وهو أن يخشى، أو يخاف من مخلوق خوفًا مقترنًا بالخضوع والذل والتعظيم، كأن يخاف أن ينزل به البلاء، أو يمنع عنه الخير، أو أن يفعل لأجله محرمًا على سبيل التقرب، قال عز من قائل: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين} [آل عمران: 175]. والمشركون يعتقدون أن آلهتهم تضر وتنفع؛ ولذا ظنوا أن آلهتهم أصابت نبي الله هودًا عليه السلام بسوء حيث قالوا: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُون} [هود: 54]. قال مجاهد: « {اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ} ، قال: أصابتك الأوثان بجنون»([472]). وقال الحق في صاحب الملة الحنيفية عليه السلام أنه قال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون} [الأنعام: 81].
وكان أهل الجاهلية يستعيذون بسادات الجن خوفًا من سفهائهم، قال عز من قائل: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6].
وقال تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء: 77]. وبين الحق جل في علاه أن أهل ولايته لا يخشون إلا الله سبحانه وتعالى كما قال عز شأنه: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39]، وقال أيضًا: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِين} [التوبة: 18]. وأخبر أن السَّحرة بعد إيمانهم آثروا الخوف من الله على الخوف من فرعون وبطشه، قال تعالى مخبرًا عن مقالتهم: {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 72، 73].
ومن أنواعه: شرك الرجاء، وهو أن يرجو من مخلوق حي حاضر أو غائب ما لا يقدر عليه إلا الله، أو يرجو من الأموات تفريج الكربات، وقضاء الحاجات، والشفاعة يوم القيامة، قال الحق مخبرًا عن سبب عبادة المشركين لآلهتهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقال تعالى: {إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير} [فاطر: 14]، وبين الله أن هؤلاء الشركاء لا يملكون شيئًا، قال عز من قائل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلاَّ غُرُورًا} [فاطر: 40]، وقال تعالى في الأتباع أنهم يقال لهم يوم القيامة: {ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُون} [القصص: 64]. وكل ما ورد في القرآن من ذكر لدعوة المشركين لآلهتهم فهو دليل على شرك الرجاء، قال تعالى: {لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلاَ فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّار} [غافر: 43]. ولو لم يكونوا يعتقدون أنهم يجيبونهم لما نفاها مؤمن آل فرعون.
ومن أنواعه: السحر، قال تعالى: {وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} [البقرة: 102]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الموبِقَاتِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلَاتِ»([473]).
وعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، سَمِعَ بَجَالَةَ يُحَدِّثُ عَمْرَو بْنَ أَوْسٍ، وَأَبَا الشَّعْثَاءِ، قَالَ: «كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ إِذْ جَاءَنَا كِتَابُ عُمَرَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ: اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ...»([474]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنَ النُّجُومِ، اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ»([475]).
ومن أنواعه: الكهانة والعرافة؛ لأن من يدعيها يدعي علم الغيب، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا *
إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 26، 27]. وعن صفية عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً»([476]).
وعن أبي هريرة والحسن رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا، أَوْ عَرَّافًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ؛ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ»([477]).
ونعلم أن من الشرك شركًا أصغر لا يخرج من الملة، ولا يخلد صاحبه في النار، ولا يحبط جميع الأعمال، وهو أنواع كثيرة:
ومنه: الطِّيرة، وحدُّ الطيرة: ما أمضاك أو ردك، قال تعالى: {فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُون} [الأعراف: 131]، وقال الحق جل في علاه: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُون} [يس: 19]. وقال صلى الله عليه وسلم: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ»([478]).
وعَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: ذُكِرَتِ الطِّيَرَةُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «أَحْسَنُهَا الْفَأْلُ، وَلَا تَرُدُّ مُسْلِمًا، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُل: اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ»([479]).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ مِنْ حَاجَةٍ، فَقَدْ أَشْرَكَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ»([480]).
ومنه: تعليق التمائم، فعن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه «أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: وَالنَّاسُ فِي مَبِيتِهِمْ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَسُولًا: أَنْ لَا يَبْقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلَادَةٌ مِنْ وَتَرٍ، أَوْ قِلَادَةٌ إِلَّا قُطِعَتْ»([481]).
وعن عبدالله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ الرُّقَى، وَالتَّمَائِمَ، وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ»([482]).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ»([483]).
ومنه: يسير الرياء، أما من امتلأ قلبه من الرياء، حتى صار يعمل الصالحات بلا نية ولا إيمان ولا خشية فهو المنافق الخالص، وعمله حابط مردود غير مقبول، قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، وقال صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ تبارك وتعالى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»([484]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ؛ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ؛ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ؛ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ»([485]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ»([486]).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ، سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ، وَحَقَّرَهُ وَصَغَّرَهُ»([487]).
وعن أبي موسى رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا القِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، فَرَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ -قَالَ: وَمَا رَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا- فَقَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل»([488]).
ونعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم سماه شرك السرائر، فعن محمود بن لبيد قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ إِيَّاكُمْ وَشِرْكَ السَّرَائِرِ»، قَالُوا: وَمَا شِرْكُ السَّرَائِرِ؟ قَالَ: «أَنْ يَقُومَ أَحَدُكُمْ يُزَيِّنُ صَلَاتَهُ جَاهِدًا؛ لِيَنْظُرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَذَلِكَ شِرْكُ السَّرَائِرِ»([489]).
وبين صلى الله عليه وسلم أن الرياء خفي جدًّا، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يخافه على أمته أشد من خوفه المسيح الدجال عليها، حيث قال: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟»، قَالَ: قُلْنَا: بَلَى، فَقَالَ: «الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ، لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ»([490]).
ومن الشرك الأصغر: إرادة الإنسان بعمله الدنيا، قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيب} [الشورى: 20]، وقال جل ثناؤه: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُون} [هود: 15]. وهذا متردد بين أن يكون شركًا أكبر، وبين أن يكون أصغر بحسب ما يقوم في قلب العبد، قال الحق جل شأنه: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} [الإسراء: 18].
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»([491])، ودعا المصطفى صلى الله عليه وسلم على من كانت الدنيا هي همه وغايته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمِ، وَالقَطِيفَةِ، وَالخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ»([492]).
ومنه: قول الرجل: ما شاء الله وشئت، وما شابهها من الألفاظ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَجَعَلْتَنِي وَاللَّهَ عَدْلًا، بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ»([493])، ويماثل هذا اللفظَ قولُهم: هذا من الله ومنك، ولولا الله وفلان لم يكن كذا.
ومنه: الحلف بغير الله، قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلَا يَحْلِفْ إِلَّا بِاللَّهِ، فَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَحْلِفُ بِآبَائِهَا، فَقَالَ: لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ»([494]). وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ، أَوْ أَشْرَكَ»([495]).
بــاب
ومما يضاد الإيمان بالله: النفاق الأكبر؛ وهو إظهار الإسلام وإخفاء الكفر، وهو أكبر وأصغر. والنفاق الأكبر يضاد أصل الإيمان، والنفاق الأصغر يضاد كماله، قال الإمام أحمد في «أصول السنة»: «والنفاق هو الكفر أن يكفر بالله، ويعبد غيره، ويظهر الإسلام في العلانية، مثل المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم»([496])، والأكبر مخرج من الملة.
ونشهد بشهادة الله أن المنافقين كاذبون في دعواهم الإيمان، قال عز شأنه وتعالى سلطانه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُون} [التوبة: 107]. وقال عز من قائل: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون} [المنافقون: 1].
ولا يقبل الله من المنافق صرفًا ولا عدلًا، قال تعالى: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِين *
وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُون} [التوبة: 53، 54].
ومآل المنافق -إن مات على النفاق- الخلود في النار، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145]. وقال تعالى: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيم} [التوبة: 68].
ونعلم أن النفاق الأكبر يكون بغضًا للحق وكراهية له، قال تعالى مخبرًا عن حال المنافقين: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُم * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُم * وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُم} [محمد: 28-30].
ويكون فرحًا بهزيمة الإسلام وأهله، وحسرة إن رأوا نصرًا للإسلام، قال الحق جل في علاه مبينًا ما تكنُّه صدورهم: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُون} [التوبة: 50].
ويكون كفرًا بعد إيمان، وتوليًا عن قبول التحاكم إلى الشرع، قال المولى عز شأنه: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِين * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُون} [النور: 47، 48].
ويكون ظنًّا بالله ظن السوء أنه لن ينصر نبيه صلى الله عليه وسلم ودينه، قال الحق جل في علاه: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا} [الأحزاب: 12].
ويكون سخرية من الحق وأهله، وسبًّا لهم واستهزاءً بهم، قال الحق جل شأنه: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُون * وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُون} [التوبة: 64، 65].
ويكون لمزًا للمسلمين، قال المولى عز شأنه: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} [التوبة: 79].
ويكون مخادعة لأهل الإيمان ورياءً بالأعمال، قال الله تعالى وتقدس: {يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُون} [البقرة: 9]، وقال -أيضًا: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلا} [النساء: 142]. وعن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لَا يَذْكُرُ اللهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا»([497]).
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ»([498]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ، إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا، قَالَ: فَيَلْقَى الْعَبْدَ، فَيَقُولُ... إلى أن قال: ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ، فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، آمَنْتُ بِكَ، وَبِكِتَابِكَ، وَبِرُسُلِكَ، وَصَلَّيْتُ، وَصُمْتُ، وَتَصَدَّقْتُ، وَيُثْنِي بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَ، فَيَقُولُ: هَاهُنَا إِذًا، قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: الْآنَ نَبْعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيْكَ، وَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ؟ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ وَلَحْمِهِ وَعِظَامِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ، وَذَلِكَ لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ، وَذَلِكَ الَّذِي يَسْخَطُ اللهُ عَلَيْهِ»([499]).
وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بجهادهم، فقال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير * يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِير} [التوبة: 73، 74].
ونعلم أن النفاق الأصغر لا يخرج من الملة، ولا يحبط العمل، ولا يخلد صاحبه في النار، وأن النفاق شُعَبٌ، قال صلى الله عليه وسلم: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ»([500]).
وعن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤْمِنُ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ، وَيَعْمَلُ بِهِ، كَالأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ، وَالمؤْمِنُ الَّذِي لَا يَقْرَأُ القُرْآنَ، وَيَعْمَلُ بِهِ، كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا، وَمَثَلُ المنافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ، كَالرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ المنافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ القُرْآنَ، كَالحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ -أَوْ خَبِيثٌ- وَرِيحُهَا مُرٌّ»([501]).
بــاب
نعلم أن من البدع ما يضاد أصل الإيمان، ومنها ما يضاد كمال الإيمان، فالبدع الشِّركية والكفرية تضاد أصل الإيمان، أما البدع التي دون الشرك والكفر فتضاد كمال الإيمان.
ونؤمن أن الله قد أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، قال الحق جل شأنه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ»([502]).
ونعلم أن مما يضاد كمال الإيمان البدع في الدين، قال صلى الله عليه وسلم: «وإيَّاكم ومُحْدَثاتِ الأمورِ؛ فإن كُلَّ مُحدَثَةٍ بدْعَةٌ، وكل بدعَةٍ ضَلالةٌ»([503]).
وعن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا»([504]).
وبوَّب البخاري رحمه الله في «صحيحه» بابًا، فقال: «باب إثم من دعا إلى ضلالة؛ أو سنَّ سنة سيئة» وأورد فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا، إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا -وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: مِنْ دَمِهَا- لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ أَوَّلًا»([505]).
وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اليَهُود، وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ» ؟!([506]).
ونعلم أن الله نهى عن التفرق والاختلاف، فقال جل شأنه وتقدست أسماؤه: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم} [آل عمران: 105]، وقال عز من قائل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} [النور: 63].
ونعلم أن من البدع تعظيم القبور والبناء عليها -وهذا قد يكون سببًا إلى الشرك. ومن البدع أيضًا تصوير الصالحين رجاء الاقتداء بهم بعد مماتهم، قال صلى الله عليه وسلم: «... أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ»([507]).
وعن عائشة رضي الله عنها: أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ، وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَذَكَرَتَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ»([508]).
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بطمس التماثيل، وتسوية القبور، فعن أبى الهياج الأسدي قال: «قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أبي طَالِبٍ رضي الله عنه: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ أَلَّا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ»([509]).
ونعلم أن من البدع المنكرة الاحتفالات البدعية، ومشاركة الكفار أعيادهم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ: «مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟» قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْأَضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ»([510]).
وقال جل ثناؤه: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيم} [الحج: 67]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، في قوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ}: «يَقُولُ: عِيدًا»([511])، وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا»([512]).
ونعلم أن من البدع المنكرة طلب البركة مما لم يجعله الله سببًا مباركًا، وقد يكون وسيلة إلى الشرك، فعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «سُبْحَانَ اللَّهِ! هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: {اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»([513]).
بــاب
نعلم أن الذنوب منها كبائر وصغائر، قال عز وجل: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} [النجم: 32]، وقال عز وجل أيضًا: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} [النساء: 31].
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله ؟ قال: «أن تدعو لله ندًّا وهو خلقك»، قال: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك»، قال: ثم أي؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك»؛ فأنزل الله تصديقها: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ} ([514]).
ونعلم أن الإيمان يزيد وينقص، قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُون} [التوبة: 124]. فالطاعات تزيد الإيمان وتثبته ، والذنوب تنقص الإيمان وتضعفه، فالمعصية -التي دون الكفر والشرك- تضاد كمال الإيمان، ومرتكب الكبيرة لا يُسلب مطلق الإيمان، ولا يستحق وصف الإيمان المطلق؛ لأنه جاء بما ينقص إيمانه، ولهذا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً، يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ، حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ»([515])، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»([516])، وقال صلى الله عليه وسلم مخبرًا عما يكون في يوم القيامة: «... فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ...»([517]) ، فدلت هذه الأحاديث على أن الذنوب تُضعف الإيمان.
وصاحب الكبيرة مُتَوَعَّد بالعقوبة على كبيرته ما لم يتب منها، أو يقام عليه الحد- إن كانت الكبيرة مما يترتب عليه الحد، أو يغفر الله له بأحد أسباب المغفرة وهي كثيرة. قال جل شأنه: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48].
بــاب
نؤمن أن الله جل وعلا اختار صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم، وجعلهم صفوة خلقه بعد الأنبياء عليهم السلام، وذكر صفاتهم، وأثنى عليهم في التوراة والإنجيل، قال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29]، وذكر الحق رضاه عنهم، فقال عز من قائل: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} [التوبة: 100].
وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الصحابة الكرام خير القرون على الإطلاق، فعن عبدالله قال: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»([518]).
ونؤمن أن المهاجرين أفضل من الأنصار رضي الله عنهم؛ لذا قدمهم الله في الذِّكر في محكم كتابه كما في آية «التوبة» السابقة، وأثنى الله جل في علاه على المهاجرين، فقال: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون} [الحشر: 8].
وقال سبحانه وتعالى في الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} [الحشر: 9].
ونؤمن أن خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم، فترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة.
ونشهد للعشرة المبشرين بالجنة، كما شهد لهم بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَبُو بَكْرٍ فِي الجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الجَنَّةِ، وَالزُّبَيْرُ فِي الجَنَّةِ، وَعَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الجَنَّةِ، وَسَعْدٌ فِي الجَنَّةِ، وَسَعِيدٌ فِي الجَنَّةِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ فِي الجَنَّةِ»([519]).
ونؤمن أن لأهل بدر رضي الله عنهم منقبةً ليست لغيرهم، قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث: «... وَمَا يُدْرِيكَ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ؛ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»([520]).
وعن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه -وكان أبوه من أهل بدر- قال: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ؟» قَالَ: مِنْ أَفْضَلِ المسْلِمِينَ، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا، قَالَ: «وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ المَلَائِكَةِ»([521]).
ونشهد بما شهد به رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل بيعة الرضوان؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ»([522])، وأنهم فازوا ببيعتهم هذه حتى قال الله فيها: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]. ونعلم أن الله قد أحلّ عليهم رضوانه، كما قال سبحانه في محكم تنزيله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18].
ونؤمن أن الله جل وعلا اختص آل بيته صلى الله عليه وسلم بفضائلَ وحقوقٍ، فتجب محبتهم، وموالاتهم، ورعاية حقهم، فمن حقوقهم أن الله جعل لهم حقًّا في الخُمس، والفيء، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لنا: «قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد».
ومن فضائلهم ما ذكر تعالى في قوله جل ثناؤه: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 32، 33]. وقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6].
وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: خرج النَّبِي صلى الله عليه وسلم غداةً وعليه مِرْطٌ مُرَحَّل مِن شَعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثمَّ جاء الحُسين فدخل معه، ثمَّ جاءت فاطمةُ فأدخلَها، ثمَّ جاء عليٌّ فأدخله، ثمَّ قال: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»([523]).
وعن وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رضي الله عنه قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ»([524]).
وعن زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَوَعَظَ، وَذَكَّرَ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ». فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي»([525]).
وقد عرف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لقرابته صلى الله عليه وسلم حقهم وفضلهم، حتى إنَّ أبا بكر رضي الله عنه قال لعليٍّ رضي الله عنه: «والذي نفسي بيدِه لَقرابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبُّ إليَّ أنْ أَصِلَ من قرابَتِي»([526]).
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سب الصحابة رضي الله عنهم، فقال: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلَا نَصِيفَهُ»([527]). وبين النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أن حب الأنصار علامة الإيمان، وبغضهم علامة النفاق فقال صلى الله عليه وسلم: «آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ»([528]).
وقال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه: «لَمَشْهَدُ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْبَرُّ فِيهِ وَجْهُهُ، خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَحَدِكُمْ عُمُرَهُ، وَلَوْ عُمِّرَ عُمُرَ نُوحٍ»([529]).
باب
نعلم أن السمع والطاعة واجب لولاة أمور المسلمين؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمَعْصِيَةِ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعة»([530]).
وفي «الصحيحين» عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَعَلَى أَلَّا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا، لَا نَخَافُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ»([531]).
قال أبو زرعة رحمه الله: «... ونقيم فرض الجهاد والحج مع أئمة المسلمين في كل دهر وزمان، ولا نرى الخروج على الأئمة ولا القتال في الفتنة، ونسمع ونطيع لمن ولَّاه الله عز وجل أمرنا، ولا ننزع يدًا من طاعة، ونتبع السنة والجماعة»([532]).
وطاعة ولاة الأمر إنما تجب في المعروف وتحرم في المعصية لقوله صلى الله عليه وسلم -كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه السابق: «...مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمَعْصِيَةِ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعة»؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ»([533]).
قال الإمام أبو إبراهيم المزني: «والطَّاعة لأولي الْأَمر فيما كان عِنْد الله عز وجل مرضيًّا، واجْتناب ما كان عنْد الله مسخطًا، وترك الخروج عنْد تعديهم وجوْرهم، والتَّوْبة إِلى الله عز وجل كَيْما يعْطف بهم على رعيتهم»([534]).
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، ونشكر المولى جل شأنه على ما منّ به علينا من إتمام هذا السِّفْر العظيم المبارك، ونقول كما يقول أهل الجنة: {أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [يونس: 10]. وكما أمر ربنا جل شأنه: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُون} [النمل: 59].
ونسأله أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، موافقًا لهدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، نافعًا لعباده، شافعًا لنا يوم لقائه.
ونعلم أننا مهما اجتهدنا فلن نحيط بهذا الموضوع الشريف؛ ذلك لأنه حديث عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، ولكننا نختم الكتاب بقول الحق جل شأنه وتعالى سلطانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} [الزمر: 67].
الآحاد والمثاني، المؤلف: أبو بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك ابن مخلد الشيباني «المتوفى: 287هـ»، المحقق: د.باسم فيصل أحمد الجوابرة، الناشر: دار الراية - الرياض، الطبعة: الأولى، 1411هـ-1991م.
الإبانة الكبرى، المؤلف: أبو عبدالله عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان العُكْبَري المعروف بابن بَطَّة العكبري «المتوفى: 387هـ»، المحقق: رضا معطي، وعثمان الأثيوبي، ويوسف الوابل، والوليد بن سيف النصر، وحمد التويجري، الناشر: دار الراية للنشر والتوزيع - الرياض.
الأدب المفرد، المؤلف: أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، «المتوفى: 256هـ»، المحقق: علي عبدالباسط مزيد، وعلي عبدالمقصود رضوان، الناشر: مكتبة الخانجي - القاهرة، الطبعة: الأولى، 1423هـ-2003م.
الأدب المفرد، المؤلف: أبو عبدالله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، «المتوفى: 256هـ»، المحقق: محمد فؤاد عبدالباقي، الناشر: دار البشائر الإسلامية - بيروت، الطبعة: الثالثة، 1409هـ-1989م.
الأسماء والصفات، المؤلف: أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، «384 - 458»، تحقيق: عبدالله بن محمد الحاشدي، الناشر: مكتبة السوادي - جدة.
أمالي الباغندي، المؤلف: الباغندي الكبير محمد بن سليمان بن الحارث الواسطي، أبو بكر الباغَندي، والد الحافظ محمد بن محمد الباغَندي «المتوفى: 283هـ»، تحقيق: أشرف صلاح علي، الناشر: مؤسسة قرطبة، مصر، الطبعة: الأولى، 1417هـ-1997م.
البدع والنهي عنها، المؤلف: أبو عبدالله محمد بن وضاح بن بزيع المرواني القرطبي «المتوفى: 286هـ»، تحقيق ودراسة: عمرو عبدالمنعم سليم، الناشر: مكتبة ابن تيمية، القاهرة- مصر، مكتبة العلم، جدة - السعودية، الطبعة: الأولى، 1416هـ.
بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث، المؤلف: أبو محمد الحارث بن محمد بن داهر التميمي البغدادي الخصيب المعروف بابن أبي أسامة «المتوفى: 282هـ»، المنتقي: أبو الحسن نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان بن أبي بكر الهيثمي «المتوفى: 807هـ»، المحقق: د. حسين أحمد صالح الباكري، الناشر: مركز خدمة السنة والسيرة النبوية - المدينة المنورة، الطبعة: الأولى، 1413هـ- 1992م.
تاريخ مدينة السلام وأخبار محدثيها وذكر قطانها العلماء من غير أهلها ووارديها «المعروف بتاريخ بغداد»، المؤلف: أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، «المتوفى: 463هـ»، المحقق: بشار عواد معروف، الناشر: دار الغرب الإسلامي - بيروت، الطبعة: الأولى، 1422هـ - 2001م.
تعظيم قدر الصلاة، المؤلف: أبو عبدالله محمد بن نصر بن الحجاج المَرْوَزِي «المتوفى: 294هـ»، المحقق: د. عبدالرحمن عبدالجبار الفريوائي، الناشر: مكتبة الدار - المدينة المنورة، الطبعة: الأولى، 1406هـ.
تفسير القرآن العظيم، المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، «المتوفى: 774هـ»، المحقق: سامي بن محمد السلامة، الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة: الثانية 1420هـ- 1999م.
تفسير القرآن العظيم، المؤلف: أبو محمد عبدالرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر التميمي، الحنظلي، الرازي ابن أبي حاتم «المتوفى: 327هـ»، المحقق: أسعد محمد الطيب، الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز - المملكة العربية السعودية، الطبعة: الثالثة، 1419هـ.
تفسير عبدالرزاق، المؤلف: أبو بكر عبدالرزاق بن همام بن نافع الحميري اليماني الصنعاني «المتوفى: 211هـ»، دراسة وتحقيق: د. محمود محمد عبده، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الأولى، 1419هـ.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن، المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير ابن غالب، أبو جعفر الطبري «المتوفى: 310هـ»، تحقيق: الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي، بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات الإسلامية بدار هجر بإشراف الدكتور عبدالسند حسن يمامة، الناشر: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة: الأولى، 1422هـ - 2001م.
الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، المؤلف: محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، المحقق: محمد زهير ابن ناصر الناصر، الناشر: دار طوق النجاة «مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبدالباقي»، الطبعة: الأولى، 1422هـ.
الجامع في الحديث لابن وهب، المؤلف: أبو محمد عبدالله بن وهب بن مسلم المصري القرشي «المتوفى: 197هـ»، المحقق: د مصطفى حسن حسين محمد أبو الخير، أستاذ الحديث وعلومه المساعد - كلية أصول الدين - القاهرة، الناشر: دار ابن الجوزي - الرياض، الطبعة: الأولى، 1416هـ-1995م.
الجامع لشعب الإيمان، المؤلف: أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، ا«لمتوفى: 458هـ»، المحقق: عبدالعلي عبدالحميد حامد، الناشر: مكتبة الرشد بالرياض، بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي، الطبعة: الأولى، 1423هـ - 2003م.
جزء فيه حديث المصيصي لوين، المؤلف: أبو جعفر محمد بن سليمان بن حبيب ابن جبير الأسدي المصيصي المعروف بـ لوين «المتوفى: 245هـ»، المحقق: أبو عبدالرحمن مسعد بن عبدالحميد السعدني، الناشر: أضواء السلف - الرياض، الطبعة: الأولى، 1418هـ- 1997م.
الجهاد لابن أبي عاصم، المؤلف: أبو بكر بن أبي عاصم وهو أحمد بن عمرو ابن الضحاك بن مخلد الشيباني «المتوفى: 287هـ»، المحقق: مساعد بن سليمان الراشد الجميد، الناشر: مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة، الطبعة: الأولى، 1409هـ.
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، المؤلف: أبو نعيم أحمد بن عبدالله بن أحمد ابن إسحاق بن موسى بن مهران الأصبهاني «المتوفى: 430هـ»، الناشر: السعادة - مصر، 1394هـ-1974م.
الدعاء، المؤلف: أبو عبدالرحمن محمد بن فضيل بن غزوان بن جرير الضبي مولاهم الكوفي «المتوفى: 195هـ»، المحقق: د عبدالعزيز بن سليمان بن إبراهيم البعيمي، الناشر: مكتبة الرشد - الرياض، الطبعة: الأولى، 1419هـ-1999م.
الدعاء، المؤلف: سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني «المتوفى: 360هـ»، المحقق: مصطفى عبدالقادر عطا، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الأولى، 1413هـ.
دلائل النبوة، المؤلف: أبو نعيم أحمد بن عبدالله بن أحمد بن إسحاق بن موسى ابن مهران الأصبهاني «المتوفى: 430هـ»، حققه: الدكتور محمد رواس قلعه جي، عبدالبر عباس، الناشر: دار النفائس، بيروت، الطبعة: الثانية، 1406هـ-1986م.
دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، المؤلف: أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي «المتوفى: 458هـ»، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الأولى، 1405هـ.
الرد على الجهمِيَّة، المؤلف: أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي، المحقق: أبو عاصم الشوامي الأثري، الناشر: المكتبة الإسلامية، القاهرة - مصر، الطبعة: الأولى، 1431هـ-2010م.
الزهد، المؤلف: الإمام أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني «المتوفى: 241هـ»، وضع حواشيه: محمد عبدالسلام شاهين، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى، 1420هـ-1999م.
الزهد، المؤلف: أبو السَّرِي هَنَّاد بن السَّرِي بن مصعب بن أبي بكر بن شبر بن صعفوق بن عمرو بن زرارة بن عدس بن زيد التميمي الدارمي الكوفي «المتوفى: 243هـ»، المحقق: عبدالرحمن عبدالجبار الفريوائي، الناشر: دار الخلفاء للكتاب الإسلامي - الكويت، الطبعة: الأولى، 1406هـ.
الزهد والرقائق، المؤلف: أبو عبدالرحمن عبدالله بن المبارك بن واضح الحنظلي، التركي ثم المرْوزي «المتوفى: 181هـ»، المحقق: حبيب الرحمن الأعظمي، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت.
السنة، المؤلف: أبو بكر أحمد بن عمرو المعروف بابن أبي عاصم، «المتوفى: 287هـ»، المحقق: باسم بن فيصل الجوابرة، الناشر: دار الصميعي - الرياض، الطبعة: الأولى، 1419هـ - 1998م.
السنة، المؤلف: أبو عبدالرحمن عبدالله بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني البغدادي «المتوفى: 290هـ»، المحقق: أبو عبدالله عادل بن عبدالله آل حمدان، الناشر: يطلب من جوال «0544892772»، الطبعة: الأولى، 1433هـ - 2012م.
السنة، المؤلف: أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد الخَلَّال البغدادي الحنبلي «المتوفى: 311هـ»، المحقق: د. عطية الزهراني، الناشر: دار الراية - الرياض، الطبعة: الأولى، 1410هـ- 1989م.
سنن أبي داود، المؤلف: أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِسْتاني «المتوفى: 275هـ»، المحقق: شعَيب الأرنؤوط - محمد كامل قره بللي، الناشر: دار الرسالة العالمية، الطبعة: الأولى، 1430هـ - 2009م.
سنن الترمذي، المؤلف: محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى «المتوفى: 279هـ»، تحقيق وتعليق: أحمد محمد شاكر «جـ 1، 2»، ومحمد فؤاد عبدالباقي «جـ 3»، وإبراهيم عطوة عوض المدرس في الأزهر الشريف «جـ4، 5»، الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي - مصر، الطبعة: الثانية، 1395هـ-1975م.
سنن ابن ماجه، المؤلف: ابن ماجه أبو عبدالله محمد بن يزيد القزويني «المتوفى: 273هـ»، المحقق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد - محمد كامل قره بللي - عبد اللّطيف حرز الله، الناشر: دار الرسالة العالمية، الطبعة: الأولى، 1430هـ-2009م.
سنن سعيد بن منصور، المؤلف: أبو عثمان سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني الجوزجاني «المتوفى: 227هـ»، المحقق: حبيب الرحمن الأعظمي، الناشر: الدار السلفية - الهند، الطبعة: الأولى، 1403هـ-1982م.
السنن الكبرى، المؤلف: أبو عبدالرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني، النسائي «المتوفى: 303هـ»، حققه وخرج أحاديثه: حسن عبدالمنعم شلبي، أشرف عليه: شعيب الأرنؤوط، الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة: الأولى، 1421هـ-2001م.
السنن الكبير، المؤلف: أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، «المتوفى: 458هـ»، المحقق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي - بالتعاون مع مركز هجر للبحوث والدراسات العربية والإسلامية، بإشراف الدكتور عبدالسند حسن يمامة، الناشر: دار هجر - القاهرة، الطبعة: الأولى، 1432هـ-2011م.
شرح مشكل الآثار، المؤلف: أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبدالملك ابن سلمة الأزدي الحجري المصري المعروف بالطحاوي «المتوفى: 321هـ»، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1415هـ-1494م.
الشريعة، المؤلف: أبو بكر محمد بن الحسين بن عبدالله الآجُرِّيُّ البغدادي «المتوفى: 360هـ»، المحقق: الدكتور عبدالله بن عمر بن سليمان الدميجي، الناشر: دار الوطن - الرياض - السعودية، الطبعة: الثانية، 1420هـ - 1999م.
صحيح ابن خزيمة، المؤلف: أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة ابن صالح بن بكر السلمي النيسابوري «المتوفى: 311هـ»، المحقق: د. محمد مصطفى الأعظمي، الناشر: المكتب الإسلامي - بيروت.
صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، المؤلف: محمد بن حبان بن أحمد بن حبان ابن معاذ بن معبد، التميمي، أبو حاتم، الدارمي، البُستي «المتوفى: 354هـ»، المحقق: شعيب الأرنؤوط، الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة: الثانية، 1414هـ-1993م.
الصلاة، المؤلف: أبو نعيم الفضل بن عمرو بن حماد بن زهير بن درهم القرشي التيمي بالولاء الملائي، المعروف بابن دُكَيْن «المتوفى: 219هـ»، المحقق: صلاح ابن عايض الشلاحي، الناشر: مكتبة الغرباء الأثرية - المدينة، السعودية، الطبعة: الأولى، 1417هـ - 1996م.
صفة النفاق وذم المنافقين، المؤلف: أبو بكر جعفر بن محمد بن الحسن ابن المُسْتَفاض الفِرْيابِي «المتوفى: 301هـ»، شرحه وحققه وعلق عليه: أبو عبدالرحمن المصري الأثري، الناشر: دار الصحابة للتراث، مصر، الطبعة: الأولى، 1408هـ - 1988م.
الصمت وآداب اللسان، المؤلف: أبو بكر عبدالله بن محمد بن عبيد بن سفيان ابن قيس البغدادي الأموي القرشي المعروف بابن أبي الدنيا «المتوفى: 281هـ»، المحقق: أبو إسحاق الحويني، الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة: الأولى، 1410هـ.
العظمة، المؤلف: أبو محمد عبدالله بن محمد بن جعفر بن حيان الأصفهاني المعروف بأبِي الشيخ، المتوفى: 369هـ، المحقق: رضاء الله بن محمد إدريس المباركفوري، الناشر: دار العاصمة - الرياض، الطبعة: الأولى، 1408هـ.
عمل اليوم والليلة سلوك النبي مع ربه عز وجل ومعاشرته مع العباد، المؤلف: أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن أسباط بن عبد الله بن إبراهيم بن بُدَيْح، الدِّيْنَوَريُّ، المعروف بـ «ابن السُّنِّي» «المتوفى: 364هـ»، المحقق: كوثر البرني، الناشر: دار القبلة للثقافة الإسلامية ومؤسسة علوم القرآن - جدة - بيروت.
فضائل الصحابة، المؤلف: أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني «المتوفى: 241هـ»، المحقق: د. وصي الله محمد عباس، الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة: الأولى، 1403هـ-1983م.
فضائل القرآن، المؤلف: أبو عُبيد القاسم بن سلاّم بن عبدالله الهروي البغدادي «المتوفى: 224هـ»، تحقيق: مروان العطية، ومحسن خرابة، ووفاء تقي الدين، الناشر: دار ابن كثير «دمشق - بيروت»، الطبعة: الأولى، 1415هـ-1995م.
القدر وما ورد في ذلك من الآثار، المؤلف: أبو محمد عبدالله بن وهب بن مسلم المصري القرشي «المتوفى: 197هـ»، المحقق: د.عبد العزيز عبدالرحمن العثيم، الناشر: دار السلطان - مكة المكرمة، الطبعة: الأولى، 1406هـ.
القضاء والقدر، المؤلف: أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، «384هـ - 458هـ»، المحقق: محمد بن عبدالله آل عامر، الناشر: مكتبة العبيكان - الرياض، الطبعة: الأولى، 1421هـ-2000م.
كتاب الإيمان، المؤلف: أبو بكر بن أبي شيبة، عبدالله بن محمد بن إبراهيم ابن عثمان بن خواستي العبسي «المتوفى: 235هـ»، المحقق: محمد ناصر الدين الألباني، الناشر: المكتب الإسلامي، الطبعة: الثانية، 1983م.
كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل، المؤلف: أبو بكر محمد بن إسحاق ابن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمي النيسابوري «المتوفى: 311هـ»، المحقق: عبدالعزيز بن إبراهيم الشهوان، الناشر: مكتبة الرشد - الرياض - السعودية، الطبعة: الخامسة، 1414هـ - 1994م.
كتاب القدر، المؤلف: أبو بكر جعفر بن محمد بن الحسن بن المُسْتَفاض الفِرْيابِي «المتوفى: 301هـ»، المحقق: عبدالله بن حمد المنصور، الناشر: أضواء السلف - السعودية، الطبعة: الأولى، 1418هـ - 1997م.
المجتبى من السنن = السنن الصغرى للنسائي، المؤلف: أبو عبدالرحمن أحمد ابن شعيب بن علي الخراساني، النسائي «المتوفى: 303هـ»، تحقيق: عبدالفتاح أبو غدة، الناشر: مكتب المطبوعات الإسلامية - حلب، الطبعة: الثانية، 1406هـ-1986م.
اسم مختصر قيام رمضان، المؤلف: محمد بن نصر المروزي، «المتوفى: 294هـ»، المختصر: المقريزي، الناشر: حديث أكاديمي فيصل آباد - الهند.
المرض والكفارات، المؤلف: أبو بكر عبدالله بن محمد بن أبي الدنيا، «المتوفى: 281هـ»، طبع: ضمن الجزء الخامس من موسوعة ابن أبي الدنيا، المحقق: فاضل ابن خلف الحمادة الرقي، الناشر: دار أطلس الخضراء - الرياض، الطبعة: الأولى، 1433هـ-2012م.
المستدرك على الصحيحين للحاكم، المؤلف: أبو عبدالله الحاكم محمد بن عبدالله بن محمد بن حمدويه بن نُعيم بن الحكم الضبي الطهماني النيسابوري المعروف بابن البيع «المتوفى: 405هـ»، المحقق: أبو عبدالرحمن مقبل بن هادي الوادعي، الناشر: دار الحرمين - القاهرة؛ الطبعة: 1417هـ-1997م.
المسند، المؤلف: أبو بكر عبدالله بن الزبير القرشي الحميدي، «المتوفى: 219هـ»، المحقق: حسين سليم أسد، الناشر: دار السقا - دمشق.
المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، المؤلف: مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري «المتوفى: 261هـ»، المحقق: محمد فؤاد عبدالباقي، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت.
مسند أبي داود الطيالسي، المؤلف: أبو داود سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي البصرى «المتوفى: 204هـ»، المحقق: الدكتور محمد بن عبدالمحسن التركي، الناشر: دار هجر - مصر، الطبعة: الأولى، 1419هـ-1999م.
مسند الإمام أحمد بن حنبل، المؤلف: أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني «المتوفى: 241هـ»، المحقق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبدالله بن عبدالمحسن التركي، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421هـ-2001م.
المسند، المؤلف: عبدالله بن المبارك المروزي «المتوفى: 181هـ»، المحقق: صبحي البدري السامرائي، الناشر: مكتبة المعارف - الرياض، الطبعة: الأولى، 1407هـ-1987م.
مسند البزار المنشور باسم البحر الزخار، المؤلف: أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبدالخالق بن خلاد بن عبيد الله العتكي المعروف بالبزار «المتوفى: 292هـ»، المحقق: محفوظ الرحمن زين الله، وعادل بن سعد، وصبري عبدالخالق الشافعي، الناشر: مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة، الطبعة: الأولى، «بدأت 1988م، وانتهت 2009م».
المسند الصحيح المخرج على صحيح مسلم، المؤلف: أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفرائيني، «المتوفى: 316هـ»، المحقق: رباح بن رضيمان بن تركي العنزي، الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، الطبعة: الأولى، 2014م.
مسند ابن أبي شيبة، المؤلف: أبو بكر بن أبي شيبة، عبدالله بن محمد بن إبراهيم ابن عثمان بن خواستي العبسي «المتوفى: 235هـ»، المحقق: عادل بن يوسف العزازي و أحمد بن فريد المزيدي، الناشر: دار الوطن - الرياض، الطبعة: الأولى، 1997م.
مسند إسحاق بن راهويه، المؤلف: أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم الحنظلي المروزي المعروف بـ ابن راهويه «المتوفى: 238هـ»، المحقق: د. عبدالغفور بن عبدالحق البلوشي، الناشر: مكتبة الإيمان - المدينة المنورة، الطبعة: الأولى، 1412هـ- 1991م.
مسند الروياني، المؤلف: أبو بكر محمد بن هارون الرُّوياني «المتوفى: 307هـ»، المحقق: أيمن علي أبو يماني، الناشر: مؤسسة قرطبة - القاهرة، الطبعة: الأولى، 1416هـ.
مسند الشاميين، المؤلف: سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني «المتوفى: 360هـ»، المحقق: حمدي بن عبدالمجيد السلفي، الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة: الأولى، 1405هـ- 1984م.
مشيخة ابن طهمان، المؤلف: أبو سعيد إبراهيم بن طهمان بن شعبة الخراسانى الهروي «المتوفى: 168هـ»، المحقق: محمد طاهر مالك، الناشر: مجمع اللغة العربية - دمشق، سنة النشر: 1403هـ- 1983م.
المصنف، المؤلف: أبو بكر عبدالله بن محمد بن أبي شيبة، المتوفى: 235هـ، المحقق: محمد عوامة، الناشر: دار القبلة - جدة، الطبعة: الأولى، 1427هـ-2006م.
المصنف، المؤلف: أبو بكر عبدالرزاق بن همام بن نافع الحميري اليماني الصنعاني «المتوفى: 211هـ»، المحقق: حبيب الرحمن الأعظمي، الناشر: المجلس العلمي- الهند، يطلب من: المكتب الإسلامي - بيروت، الطبعة: الثانية، 1403هـ.
المعجم الأوسط، المؤلف: سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني «المتوفى: 360هـ»، المحقق: طارق بن عوض الله بن محمد، عبدالمحسن بن إبراهيم الحسيني، الناشر: دار الحرمين - القاهرة.
معجم الشيوخ، المؤلف: ثقة الدين، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر «المتوفى: 571هـ»، المحقق: الدكتورة وفاء تقي الدين، الناشر: دار البشائر - دمشق، الطبعة: الأولى 1421هـ-2000م.
مكارم الأخلاق ومعاليها ومحمود طرائقها، المؤلف: أبو بكر محمد بن جعفر بن محمد بن سهل بن شاكر الخرائطي السامري «المتوفى: 327هـ»، تقديم وتحقيق: أيمن عبدالجابر البحيري، الناشر: دار الآفاق العربية، القاهرة، الطبعة: الأولى، 1419هـ-1999م.
المنتخب من مسند عبد بن حميد، المؤلف: أبو محمد عبدالحميد بن حميد ابن نصر الكَسّي ويقال له: الكَشّي بالفتح والإعجام «المتوفى: 249هـ»، المحقق: صبحي البدري السامرائي، محمود محمد خليل الصعيدي، الناشر: مكتبة السنة - القاهرة، الطبعة: الأولى، 1408هـ - 1988م.
نقض الإِمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله عز وجل من التوحيد، المؤلف: أبو سعيد عثمان بن سعيد بن خالد ابن سعيد الدارمي السجستاني «المتوفى: 280هـ»، المحقق: أبو عاصم الشوامي الأثري، الناشر: المكتبة الإسلامية للنشر والتوزيع، القاهرة - مصر، الطبعة: الأولى، 1433هـ - 2012م.
الهواتف، المؤلف: أبو بكر عبدالله بن محمد بن أبي الدنيا، «المتوفى: 281هـ»، طبع: ضمن الجزء السادس من موسوعة ابن أبي الدنيا، المحقق: فاضل بن خلف الحمادة الرقي، الناشر: دار أطلس الخضراء - الرياض، الطبعة: الأولى، 1433هـ - 2012م.
([1]) شرح العقيدة الطحاوية (2/ 689).
([2]) أخرجه مسلم (2713)، وأبو داود (5051)، والترمذي (3400)، وابن ماجه (3831).
([3]) أخرجه البخاري (7418)، والترمذي (3951).
([4]) أخرجه البخاري (3191).
([5]) أخرجه مسلم (2726)، والنسائي (1351/1)، والترمذي (3555)، وابن ماجه (3808).
([6]) أخرجه الترمذي (3109)، وابن ماجه (182)، والطيالسي (1189)، وأحمد (16188) وابن أبي عاصم في السنة (625).
([7]) أخرجه البخاري (3398)، ومسلم (2374)، وأبو داود (4668).
([8]) أخرجه أبو داود (4726)، وعثمان بن سعيد الدارمي في الرد على الجهمية (24)، وابن أبي عاصم في السنة (587)، وابن خزيمة في التوحيد (147).
([9]) أخرجه أبو داود (4726)، وعثمان بن سعيد الدارمي في الرد على الجهمية (24)، وابن أبي عاصم في السنة (588)، وابن خزيمة في التوحيد (147).
([10]) أخرجه مسلم (522) دون موطن الشاهد، والطيالسي (418)، وابن أبي شيبة في المصنف (32306)، وأحمد (23251) واللفظ له. وغيرهم.
([11]) أخرجه البزار (3966)، وابن أبي شيبة في المصنف (35491)، وهناد في الزهد (1013)، وأحمد في المسند (21415) واللفظ له، وفي الزهد (401).
([12]) أخرجه البخاري (4712)، ومسلم (194)، والترمذي (2434)، وابن ماجه (3307).
([13]) أخرجه أبو داود (2520)، وابن المبارك في الجهاد (62)، وابن أبي شيبة (19678)، وأحمد (2388).
([14]) الرد على الجهمية، للدارمي (ص: 47)، والأسماء والصفات، للبيهقي (2/336)، والفتوى الحموية الكبرى (ص: 333)، وشرح الطحاوية - ط دار السلام (ص: 219).
([15]) الرد على الجهمية (ص: 47).
([16]) أخرجه أبو داود (4727)، والطبراني في الأوسط (1709)، وأبو الشيخ في العظمة (476)، وابن شاهين في الفوائد (19).
([17]) أخرجه البخاري (3194)، ومسلم (2751)، والترمذي (3543)، وابن ماجه (189، 4295).
([18]) أخرجه البخاري (7423).
([19]) الأسماء والصفات للبيهقي (2/306)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/582).
([20]) الرد على الجهمية، للدارمي (ص: 66)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/441)، وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/325)، والاعتقاد، للبيهقي (ص: 116)، وشرح السنة، للبغوي (1/171). والأسماء والصفات، للبيهقي (2/306).
([21]) العقيدة رواية أبي بكر الخلال (ص: 108).
([22]) أخرجه مسلم (2713)، وأبو داود (5051)، والترمذي (3400)، وابن ماجه (3831).
([23]) أخرجه أبو داود (4700)، والترمذي (2155، 3319)، والطيالسي (578)، وأحمد (22705، 22707)، وابن أبي عاصم في السنة (115).
([24]) أخرجه البخاري (349)، ومسلم (163).
([25]) أخرجه البخاري (4948)، ومسلم (2647)، وأبو داود (4694)، والترمذي (2136، 3344)، وابن ماجه (78).
([26]) أخرجه البخاري (42، 7501)، ومسلم (128، 129، 130)، والترمذي (3073).
([27]) أخرجه الدارقطني في الصفات (36) مرفوعًا وموقوفًا. وأخرجه عثمان بن سعيد الدارمي في الرد على بشر المريسي (84، 89)، وعبدالله ابن أحمد في السنة (586)، وابن خزيمة في التوحيد (154)، وأبو الشيخ في العظمة (216، 217).
([28]) أخرجه ابن حبان (361)، وفي المجروحين (3/ 130)، والطبراني في الكبير (1651)، وفي المكارم (1)، والآجري في الأربعين (40)، وأبو الشيخ في العظمة (259)، وأبو نعيم في الحلية (1/18 و 166 - 168)، والبيهقي في الأسماء (ص: 510 - 511)، وفي الشعب (4325 و 7668)، وابن عبدالبر في التمهيد (9/199). وهو حديث طويل، وحديثنا هنا جملة منه، والحديث له طرق كثيرة لكنها ضعيفة لا تصح، وقد ذكر العقيلي بعض هذه الطرق وأشار إلى ضعفها، وذكرها أيضًا ابن عدي وقال: «هذا حديث منكر من هذا الطريق عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن أبي ذر، وهذا الحديث ليس له من الطرق إلا من رواية أبي إدريس الخولاني والقاسم ابن محمد عن أبي ذر والثالث حديث ابن جريج وهذا أنكر الروايات»، لكن هذا=
= الحديث مشهور، ولم يرو غيره مرفوعًا في الكرسي، ولهذا أوردناه مع ضعفه ونكارته.
([29]) الأسماء والصفات، للبيهقي (2/ 198).
([30]) تفسير الطبري (11/ 558).
([31]) أخرجه البخاري (1048)، والنسائي (1459).
([32]) أخرجه البخاري (3199)، ومسلم (159)، وأبو داود (4002)، والترمذي (2186، 3227).
([33]) تفسير الطبري (17/ 185).
([34]) أخرجه مسلم (2531).
([35]) أخرجه مسلم (2229).
([36]) أخرجه الترمذي (3324)، وأحمد (2482)، والنسائي في الكبرى (11562)، وأبو يعلى (2502).
([37]) أخرجه مسلم (73).
([38]) أخرجه الروياني (1245)، والطبراني في الكبير (8113).
([39]) أخرجه أبو داود (3905)، وابن ماجه (3726)، وابن أبي شيبة (26159)، وأحمد (2000)، وعبد بن حميد (714).
([40]) أخرجه ابن بطة في الإبانة (1987).
([41]) أخرجه مسلم (2996).
([42]) أخرجه البخاري (3232)، ومسلم (174)، والترمذي (3277).
([43]) أخرجه البخاري (3234)، ومسلم (177)، والترمذي (3068).
([44]) انظر (ص: 149) من هذا الكتاب.
([45]) سنتناول في هذا الباب كل ما يتعلق بالجن والشياطين -أعاذنا الله وإياك منهم- لأنه لن يتكرر الحديث عنهم في موضع آخر.
([46]) أخرجه مسلم (2996).
([47]) تفسير ابن كثير (3/340).
([48]) أخرجه البخاري (461)، ومسلم (541).
([49]) أخرجه مسلم (2814).
([50]) أخرجه النسائي (3134) وفي الكبرى (4327)، وابن أبي شيبة (19675)، وأحمد (15958)، وابن حبان (4593).
([51]) أخرجه مسلم (2203).
([52]) أخرجه البخاري (2038، 7171).
([53]) الإبانة الكبرى، لابن بطة (4/61).
([54]) أخرجه الترمذي (2988)، وابن المبارك في الزهد (1435)، وأحمد في الزهد (854)، وأبو داود في الزهد (164).
([55]) أخرجه أحمد (11237)، وعبد بن حميد (932)، وأبو يعلى (1273، 1399)، والطبراني في الأوسط (8788)، وفي الدعاء (1779).
([56]) أخرجه البخاري (3275، 5010)، معلقًا عن شيخه عثمان بن الهيثم في الموضعين.
([57]) أخرجـه أبو داود (4693)، والترمذي (2955)، وعبدالرزاق في التفسـير (41)، وأحمد (19582)، والبـزار (3025، 3026).
([58]) هكذا في المطبوع (فصار).
([59]) الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 179-180) ط/ دغش العجمي.
([60]) أخرجه البخاري (4476)، ومسلم (193)، وابن ماجه (4312).
([61]) أخرجه البخاري (6227)، ومسلم (2841).
([62]) أخرجه البخاري (2559)، ومسلم (2612) واللفظ له.
([63]) أخرجه عبدالرزاق (17952)، والحميدي (1153)، وأحمد (7420)، والبخاري في الأدب المفرد (173)، وابن أبي عاصم في السنة (531).
([64]) أخرجه البخاري (6614)، ومسلم (2652)، وأبو داود (4701)، والترمذي (2134)، وابن ماجه (80).
([65]) أخرجه البخاري (3208)، ومسلم (2643)، وأبو داود (4708)، والترمذي (2137)، وابن ماجه (76).
([66]) أخرجه البخاري (3938).
([67]) أخرجه أبو داود (5116)، والترمذي (3956)، والمعافى بن عمران في الزهد (147)، وابن وهب في الجامع (30)، وأحمد (8736).
([68]) سنذكر بعضها - بإذن الله- في كتاب الإيمان بالله من هذا الكتاب انظر (ص: 112).
([69]) تفسير الطبري (20/98).
([70]) المصدر السابق، الموضع نفسه.
([71]) أخرجه البخاري (4775)، ومسلم (2658)، وأبو داود (4714)، والترمذي (2138).
([72]) أخرجه مسلم (2865).
([73]) انظر (ص: 241) من هذا الكتاب.
([74]) أخرجه البخاري (4721)، ومسلم (2794)، والترمذي (3141).
([75]) أخرجه البخاري (3208)، ومسلم (2643)، وأبو داود (4708)، والترمذي (2137)، وابن ماجه (76).
([76]) أخرجه البخاري (595)، وأبو داود (439، 440)، والنسائي (846).
([77]) أخرجه البخاري (6320)، ومسلم (2714)، وأبو داود (5050)، والترمذي (3401)، وابن ماجه (3874).
([78]) أخرجه مسلم (920)، وأبو داود (3118)، وابن ماجه (1454).
([79]) أخرجه أبو داود (3212)، والنسائي (2001)، وابن ماجه (1548) وأبو داود الطيالسي (789)، وعبدالرزاق (6324، 6737)، وأحمد (18534) واللفظ له.
([80]) أخرجه النسائي (2073)، والترمذي (1641)، وابن ماجه (4271)، وعبدالرزاق في التفسير (484، 2681)، والحميدي (897)، وأحمد (15776، 15777).
([81]) أخرجه مسلم (1887)، والترمذي (3011)، وابن ماجه (2801).
([82]) أخرجه البخاري (1385)، ومسلم (2658)، وأبو داود (4714)، والترمذي (2138).
([83]) أخرجه مسلم (8)، وأبو داود (4695)، والترمذي (2610)، والنسائي (4990)، وابن ماجه (63).
([84]) أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16)، والترمذي (2609)، والنسائي (5001).
([85]) أخرجه البخاري (46)، ومسلم (11)، وأبو داود (391)، والنسائي (458).
([86]) أخرجه البخاري (25)، ومسلم (22).
([87]) أخرجه البخاري (11)، ومسلم (42)، والترمذي (2504)، والنسائي (4999).
([88]) أخرجه البخاري - معلقًا- (41)، والنسائي (4998).
([89]) أخرجه مسلم (8)، وأبو داود (4695)، والترمذي (2610)، والنسائي (4990)، وابن ماجه (63).
([90]) الحنتم: جرار مدهونة كانت تحمل فيها الخمر. النهاية في غريب الحديث (448/1).
([91]) الدباء: القرع، وكانوا ينتبذون فيها فتسرع الشدة في الشراب. النهاية في غريب الحديث (96/1).
([92]) النقير: أصل النخلة ينقر وسطه ثم ينبذ فيه التمر ويلقى عليه الماء؛ ليصير نبيذًا مُسْكرًا. النهاية في غريب الحديث (104/5)
([93]) أخرجه البخاري (53)، ومسلم (17)، وأبو داود (3692)، والترمذي (2611)، والنسائي (5031).
([94]) أخرجه البخاري (9)، ومسلم (35) واللفظ له، وأبو داود (4676)، والترمذي (2614)، والنسائي (5005)، وابن ماجه (57).
([95]) أخرجه البخاري (22)، ومسلم (184).
([96]) أخرجه البخاري (23)، ومسلم (2390)، والترمذي (2285) وفيه عن بعض أصحاب النبي، والنسائي (5011).
([97]) أخرجه البخاري (44)، ومسلم (193)، والترمذي (2593).
([98]) أخرجه البخاري -معلقًا- (1/ 10)، وابن أبي شيبة في المصنف (31084) وفي الإيمان (135)، والخلال في السنة (1162، 1553)، وابن بطة في الإبانة (1166)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1572).
([99]) الإبانة الكبرى (2/806)، والشريعة، للآجري (2/606).
([100])أصول السنة للحميدي (ص: 37).
([101])السنة، لأبي بكر بن الخلال (3/590).
([102]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 198)، وعقيدة السلف - مقدمة ابن أبي زيد القيرواني لكتابه الرسالة (ص: 29).
([103]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للإمام اللالكائي (4/ 913).
([104]) أصول السنة (ص: 207).
([105]) أخرجه مسلم (8)، وأبو داود (4695)، والترمذي (2610)، والنسائي (4990)، وابن ماجه (63).
([106]) أخرجه مسلم في (867)، والنسائي (1578)، وأبو داود (2954)، وابن ماجه (45).
([107])أخرجه البخاري(7280).
([108]) أخرجه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42)، وأحمد (17416)، والدارمي (96)، والحديث صححه الترمذي.
([109])صحيح البخاري (8/ 139).
([110]) المقصود من هذا الباب، إبراز أدلة وجود الرب التي ينكرها الملحد، وسيأتي بعده باب الربوبية؛ حيث المقصود منه: إبراز أدلة إثبات الربوبية المستلزمة لألوهية الله التي يجادل فيها المشرك.
([111]) أخرجه البخاري (7418)، والترمذي (3951).
([112]) أخرجه البخاري (3191).
([113]) أخرجه البخاري (4854)، ومسلم (463)، وأبو داود (811)، والنسائي (987)، وابن ماجه (832).
([114]) سيأتي توضيح ذلك في باب الرسل بإذن الله. انظر (ص: 212) من هذا الكتاب.
([115]) هكذا في البخاري غير منسوب (6/ 49)، وذكر ابن حجر في «الفتح» أنه قول الفراء (8/ 600).
([116]) أخرجه البخاري (1458)، ومسلم (19).
([117]) تفسير الطبري (20/95).
([118]) تفسير الطبري (17/262).
([119]) المصدر السابق (21/285).
([120]) أخرجه البخاري (1399، 7284)، ومسلم (20)، وأبو داود (1556)، والترمذي (2607)، والنسائي (2443).
([121]) أخرجه البخاري (25)، ومسلم (22).
([122]) أخرجه مسلم (49)، وأبو داود (1140)، والترمذي (2172)، والنسائي (5008)، وابن ماجه (1275).
([123]) أخرجه البخاري (99، 6570).
([124]) أخرجه البخاري (425)، ومسلم (33)، والنسائي (788)، وابن ماجه (754).
([125]) أخرجه البخاري (128)، ومسلم (32).
([126]) أخرجه البخاري (15)، ومسلم (44)، والنسائي (5013)، وابن ماجه (67).
([127]) أخرجه البخاري (16)، ومسلم (43)، والترمذي (2624)، والنسائي (4987)، وابن ماجه (4033).
([128]) أخرجه البخاري (4559)، والنسائي (1078).
([129]) الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية، لابن قتيبة (ص: 44).
([130]) وقد حرصنا إذا ورد الخبر عن الصفة على أوجه متعددة أن نذكر أكثر من وجه في إثباتها، وما ورد الخبر عنها على وجه واحد أن نكتفي بذكر دليل أو دليلين ورد فيهما ذكر هذه الصفة أو تلك.
([131]) أخرجه أبو داود (4728)، وحفص بن عمر في جزء قراءات النبي (33)، وابن خزيمة في التوحيد (49)، وابن أبي حاتم في التفسير (5524).
([132]) أخرجه البخاري (7407)، ومسلم (169)، وأبو داود (4757)، والترمذي (2241).
([133]) أخرجه ابن أبي شيبة (32506)، وهناد في الزهد (149)، وعبد الله بن أحمد في السنة (1231)، والطبري في التفسير (15/559)، والحاكم (3472).
([134]) تفسير ابن كثير (5/238)، والدر المنثور في التفسير بالمأثور (5/515).
([135]) أخرجه أبو داود (4738)، وعثمان بن سعيد الدارمي في الرد على الجهمية (158)، وعبد الله بن أحمد في السنة (536)، ومحمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة (217).
([136]) أخرجه البخاري (7443)، ومسلم (1016)، والترمذي(2415)، وابن ماجه (185).
([137]) أخرجه البخاري معلقًا (9/ 141)، وفي الأدب المفرد (970)، وفي خلق أفعال العباد (90)، وأحمد (16042).
([138]) أخرجه مسلم (179)، وابن ماجه (195).
([139]) أخرجه البخاري (5013)، وأبو داود (1461)، والنسائي (995).
([140]) أخرجه مسلم (806)، والنسائي (912).
([141]) أخرجه مسلم (2708)، والترمذي (3437)، وابن ماجه (3547).
([142]) ينظر: الرد على الجهمية، للإمام أحمد (ص: 224).
([143]) الرد على الجهمية، للدارمي (ص: 155).
([144]) أخرجه أبو داود (873)، والنسائي (1049)، وأحمد (23980)، والترمذي في الشمائل (314)، والبزار (2750).
([145]) أخرجه أبو داود (4090)، وابن ماجه (4174)، والحميدي (1183)، وابن أبي شيبة (27111)، وأحمد (7382).
([146]) أخرجه البخاري (6469)، ومسلم (2752)، والترمذي (3541)، وابن ماجه (4293).
([147]) أخرجه البخاري (7553)، ومسلم (2751)، والترمذي (3543)، وابن ماجه (189).
([148]) أخرجه مسلم (537)، وأبو داود (930)، والنسائي (1218).
([149]) أخرجه البخاري (555)، ومسلم (632)، والنسائي (485).
([150]) أخرجه الترمذي (3109)، وابن ماجه (182)، والطيالسي (1189)، وأحمد (16188) وابن أبي عاصم في السنة (625).
([151]) الإبانة الكبرى، لابن بطة (7/136).
([152]) الرد على الجهمية، للدارمي (ص: 98).
([153]) أخرجه البخاري (7553)، ومسلم (2751)، والترمذي (3543)، وابن ماجه (189).
([154]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/442)، والعرش، للذهبي (2/213).
([155]) أخرجه أبو نعيم في الحلية (6/ 325، 326)، والبيهقي في الأسماء والصفات (304/2)، وابن عبدالبر في التمهيد (7/ 138)، وقال الذهبي رحمه الله: «وقد أخذ العلماء من قول الإمام مالك: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة»، قاعدة ساروا عليها في هذا الباب». ينظر: العلو، للذهبي (1/117).
([156]) نقض الدارمي (2/ 865).
([157]) أخرجه البخاري (3009)، ومسلم (2406)، وأبو داود (3661).
([158]) أخرجه البخاري (15)، ومسلم (44)، والنسائي (5013)، وابن ماجه (67).
([159]) أخرجه مسلم (486)، وأبو داود (879)، والترمذي (3493)، والنسائي (169)، وابن ماجه (3841).
([160]) أخرجه البخاري (7504)، والنسائي (1835).
([161]) أخرجه البخاري (4074).
([162]) تفسير الطبري (21/622).
([163]) تفسير الطبري (1/304)، وابن أبي حاتم في التفسير (143).
([164]) أخرجه البخاري (2826)، ومسلم (1890)، والنسائي (3166)، وابن ماجه (191).
([165]) أخرجه البخاري(806).
([166]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/477).
([167]) الإبانة الكبرى، لابن بطة (7/91).
([168]) أخرجه البخاري (806)، ومسلم (182)، وأبو داود (4730)، والترمذي (2554)، وابن ماجه (178).
([169]) الأسماء والصفات، للبيهقي (2/370).
([170]) أخرجه مسلم (758).
([171]) التوحيد، لابن خزيمة (1/289).
([172]) أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758)، وأبو داود (1315)، والترمذي (446)، وابن ماجه (1366).
([173]) الإبانة الكبرى، لابن بطة (7/ 201).
([174]) أخرجه البخاري (4205)، ومسلم (2704)، وأبو داود (1526)، والترمذي (3461).
([175]) أخرجه البخاري (3010)، وأبو داود (2677).
([176]) أخرجه أبو داود (1203)، والنسائي (666)، وأحمد (17312)، وابن أبي عاصم في السنة (584)، والروياني (232).
([177]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (2/468).
([178]) أخرجه البخاري (7439)، ومسلم (183).
([179]) أخرجه البخاري (554)، ومسلم (633)، وأبو داود (4729)، والترمذي (2551)، وابن ماجه (177).
([180]) أخرجه البخاري (806)، ومسلم (182)، وأبو داود (4730)، والترمذي (2554)، وابن ماجه (178).
([181]) أخرجه مسلم (178)، والترمذي (3282).
([182]) الرد على الجهمية، للدارمي (ص: 122).
([183]) صريح السنة، للطبري (ص: 20).
([184]) الإبانة الكبرى، لابن بطة (2/ 7).
([185]) الصفات، للدارقطني (ص: 75).
([186]) أخرجه البخاري (4878)، ومسلم (180)، والترمذي (2528)، وابن ماجه (186).
([187]) أخرجه مسلم (179)، وابن ماجه (195، 196).
([188]) عقيدة السلف أصحاب الحديث، لأبي عثمان الصابوني (ص: 16، 17).
([189]) أخرجه البخاري (6614)، ومسلم (2652)، وأبو داود (4701)، والترمذي (2134)، وابن ماجه (80).
([190]) أخرجه البخاري (6614)، ومسلم (2652)، وأبو داود (4701)، والترمذي (2134)، وابن ماجه (80).
([191]) أخرجه مسلم (1827)، والنسائي (5379).
([192]) أخرجه مسلم (2759).
([193]) أخرجه البخاري (4684)، ومسلم (993)، والترمذي (3045)، وابن ماجه (197).
([194]) أخرجه الترمذي (3368)، وابن أبي عاصم في السنة (596)، والبزار (8194)، والنسائي في الكبرى (9977).
([195]) أخرجه مسلم (2654).
([196]) أخرجه مسلم (2654).
([197]) السنة، لعبدالله بن أحمد (1/267).
([198]) السنة، لعبدالله بن أحمد (1/273).
([199]) الإبانة، لابن بطة (3/313).
([200]) أخرجه الضبي في الدعاء (6)، وابن أبي شيبة في المصنف (29930)، وفي المسند (329)، وأحمد (3712)، والحارث بن أبي أسامة في المسند، كما في بغية الباحث (1057).
([201]) أخرجه البخاري (2736)، ومسلم (2677)، والترمذي (3506)، وابن ماجه (3860).
([202]) أصول السنة، لابن أبي زمنين (ص: 74).
([203]) أصول السنة، لابن أبي زمنين (ص: 75).
([204]) العلو للعلي العظيم، للذهبي (ص: 168).
([205]) الإبانة الكبرى، لابن بطة (7/326).
([206]) العلو للعلي العظيم للذهبي (2/459).
([207]) الحجة في بيان المحجة (2/508).
([208]) الترغيب والترهيب، لقوام السنة (1/253).
([209]) الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية، لابن قتيبة (ص: 53).
([210]) الحجة في بيان المحجة (2/512)، وشرح السنة للبغوي (1/171).
([211]) شعب الإيمان (1/ 296).
([212]) أخرجه البخاري (4777)، ومسلم (9)، وابن ماجه (64).
([213]) يطلقون الأوائل، ويقصدون هم الفلاسفة.
([214]) شعب الإيمان (1/ 296).
([215]) أخرجه مسلم (2996).
([216]) أخرجه البخاري (3209)، ومسلم (2637)، والترمذي (3161).
([217]) أخرجه مسلم (2112).
([218]) أخرجه أبو داود (4727)، وابن طهمان في مشيخته (21)، والطبراني في الأوسط (1709)، وأبو الشيخ في العظمة (313).
([219]) أخرجه البخاري (4857)، ومسلم (174)، والترمذي (3277).
([220]) أخرجه أحمد (5857)، ومحمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة (372)، وابن بطة في الإبانة (831).
([221]) أخرجه مسلم (2401).
([222]) أخرجه البخاري (854)، ومسلم (564) واللفظ له، وأبو داود (3822)، والترمذي (1806)، والنسائي (707)، وابن ماجه (3365).
([223]) أخرجه البخاري (3207)، ومسلم (164)، والترمذي (3346)، والنسائي (448).
([224]) أخرجه الترمذي (2312)، وابن ماجه (4190)، وابن أبي شيبة (27044)، وأحمد (21516)، والبزار (3924، 3925).
([225]) أخرجه مسلم (2842)، والترمذي (2573).
([226]) أخرجه البخاري (3464)، ومسلم (2964).
([227]) أخرجه البخاري (3208)، ومسلم (2643)، وأبو داود (4708)، والترمذي (2137)، وابن ماجه (76).
([228]) أخرجه مسلم (2645).
([229]) أخرجه البخاري (6595)، ومسلم (2646).
([230]) أخرجه البخاري (3208)، ومسلم (2643)، وأبو داود (4708)، والترمذي (2137)، وابن ماجه (76).
([231]) أخرجه الترمذي (2988)، وابن المبارك في الزهد (1435)، وأحمد في الزهد (854)، وأبو داود في الزهد (164).
([232]) أخرجه البخاري (555)، ومسلم (632)، والنسائي (485).
([233]) أخرجه البخاري (6408)، ومسلم (2689).
([234]) أخرجه البخاري (881)، ومسلم (850)، وأبو داود (351)، والترمذي (499)، والنسائي (1388).
([235]) أخرجه أبو داود (204)، وأحمد (8804)، والطبراني في الأوسط (8030)، والبيهقي في الشعب (3865).
([236]) أخرجه النسائي (1282)، وعبدالرزاق (3116)، وابن أبي شيبة في المصنف (8797)، وفي المسند (269)، وأحمد (3666).
([237]) أخرجه الطبري في التفسير (13/ 463)، وابن أبي حاتم في التفسير (12198).
([238]) أخرجه البخاري (7501)، ومسلم (128)، والترمذي (3073).
([239]) أخرجه مسلم (129).
([240]) أخرجه البخاري (1880)، ومسلم (1379).
([241]) أخرجه أبو داود (4753)، والنسائي (2001)، وابن ماجه (1548)، والطيالسي (789)، وعبدالرزاق (6737)، وابن أبي شيبة (12185).
([242]) أخرجه مسلم (197).
([243]) أخرجه مسلم (2842)، والترمذي (2573).
([244]) تفسير القرطبي (19/80).
([245]) أخرجه مسلم (770)، وأبو داود (767)، والنسائي (1625)، وابن ماجه (1357).
([246]) أخرجه البخاري (3992).
([247]) أخرجه أبو داود (3212)، والنسائي (2001)، وابن ماجه (1548) وأبو داود الطيالسي (789)، وعبد الرزاق (6324، 6737)، وأحمد (18534) واللفظ له.
([248]) أخرجه البخاري (6614)، ومسلم (2652)، وأبو داود (4701)، والترمذي (2134)، وابن ماجه (80).
([249])أخرجه البخاري (4777)، ومسلم (9)، وابن ماجه (64).
([250]) تأويل مشكل القرآن (ص: 17).
([251]) أخرجه البخاري (3)، ومسلم (160)، والترمذي (3632).
([252]) أخرجه مسلم (806)، والنسائي (912).
([253]) أخرجه مسلم (812).
([254]) أخرجه مسلم (810)، وأبو داود (1460).
([255]) تفسير الطبري (17/453).
([256]) أخرجه البخاري (2977)، ومسلم (523)، والترمذي (1553)، والنسائي (3087).
([257]) أخرجه أحمد في الزهد (191)، والدارمي (3398)، وعبدالله بن أحمد في السنة (117)، والآجري في الشريعة (155) واللفظ له، وابن بطة في الإبانة (23).
([258]) أخرجه الآجري في الشريعة (156).
([259]) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص: 77)، وابن أبي شيبة (30722)، وأحمد في الزهد (192)، وعثمان بن سعيد الدارمي في الرد على الجهمية (160)، وعبدالله بن أحمد في السنة (111).
([260]) أخرجه البخاري (3371)، وأبو داود (4737) وقال: هذا دليل على أن القرآن ليس بمخلوق، والترمذي (2060)، وابن ماجه (3525).
([261]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/300).
([262]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/170).
([263]) صريح السنة، للطبري (ص: 19).
([264]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/277).
([265]) التوحيد، لابن خزيمة (1/404).
([266]) الرد على الجهمية، للدارمي (ص: 188).
([267]) الاعتقاد، للنيسابوري (ص: 135).
([268])أخرجه البخاري (3392)، ومسلم (160).
([269]) أخرجه إسحاق بن راهويه (1835)، وأحمد (22498)، وابن خزيمة (2260)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (5598)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 115)، وفي دلائل النبوة (194).
([270]) أخرجه الحاكم (3872)، والبيهقي في الشعب (133)، وفي دلائل النبوة (2/ 198).
([271]) أخرجه أبو داود (4604)، والترمذي (2664)، وابن أبي شيبة في المصنف (24816) وفي المسند (927)، وأحمد (17174).
([272]) أخرجه البخاري (4777)، ومسلم (9)، وابن ماجه (64).
([273]) أخرجه البخاري (3455)، ومسلم (1842)، وابن ماجه (2871).
([274]) أخرجه مسلم (532).
([275]) أخرجه مسلم (2278)، وأبو داود (4673).
([276]) أخرجه البخاري (2411)، ومسلم (2373)، وأبو داود (4671)، والترمذي (3245)، وابن ماجه (4274).
([277]) أخرجه مسلم (2373).
([278]) أخرجه البخاري (4804).
([279]) أخرجه البخاري (2753)، ومسلم (206)، والترمذي (3185)، والنسائي (3646).
([280]) جئث؛ أي فزع، وجئث فهو مجئوث، أي: مذعور. فتح الباري (722/8)، والنهاية في غريب الحديث (1/ 232).
([281]) أخرجه البخاري (6655)، ومسلم (923)، وأبو داود (3125)، والنسائي (1868)، وابن ماجه (1588).
([282]) أخرجه البخاري (5705)، ومسلم (220)، والترمذي (2446).
([283]) أخرجه الطبري في التفسير (20/ 631 - 633).
([284]) تفسير الطبري (9/380).
([285]) أخرجه البخاري (2222)، ومسلم (155)، وأبو داود (4324)، والترمذي (2233)، وابن ماجه (4078).
([286]) أي في شقتين، أو حلتين، وقيل الثوب المهرود: الذي صُبغ بالورس ثم بالزعفران. النهاية في غريب الحديث (5/ 258).
([287]) أخرجه مسلم (2937)، وأبو داود (4321)، والترمذي (2240)، وابن ماجه (4075).
([288]) أخرجه البخاري (7274)، ومسلم (152).
([289]) تفسير الطبري (8/30) و (9/337).
([290]) أخرجه البخاري (2681)، ومسلم (1773)، والترمذي (2717).
([291]) أخرجه إسحاق بن راهويه (1835)، وأحمد (22498)، وابن خزيمة (2260)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (5598)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 115) وفي دلائل النبوة (194).
([292]) أخرجه البخاري (7)، ومسلم (1773).
([293]) أخرجه الترمذي (2485)، وابن ماجه (1334)، وابن أبي شيبة (25898)، وأحمد (23784)، وعبد بن حميد (496).
([294]) أخرجـه أحمد (2333)، والبزار (5036)، والنسائي في الكبرى (11226)، والحاكم (3437)، والبيهقي في دلائل النبوة (605).
([295]) أخرجه البخاري(3535)، ومسلم(2286).
([296]) أخرجه مسلم (2278)، وأبو داود (4673).
([297]) أخرجه البخاري (3656).
([298]) أخرجه البخاري (3)، ومسلم (160)، والترمذي (3632).
([299]) أخرجه البخاري (4926)، ومسلم (161)، والترمذي (3325).
([300]) أخرجه البخاري (2)، ومسلم (2333)، والترمذي (3634)، والنسائي (933).
([301]) أخرجه البخاري (7517)، ومسلم (162) واللفظ له، والترمذي (3131)، والنسائي (450)، وابن ماجه (1399).
([302]) أخرجه البخاري (4864)، ومسلم (2800)، والترمذي (3285).
([303]) أخرجه مسلم (523)، والترمذي (1553).
([304]) أخرجه البخاري (6632).
([305]) رؤية النبي ﷺ ليلة أسري به مُخْتلف فيها، والصحيح أن رسولنا ﷺ لم ير ربه ليلة الإسراء.
([306]) الشفا بتعريف حقوق المصطفى (1/ 55 - 57).
([307]) أخرجه البخاري (438)، ومسلم (521)، والنسائي (432).
([308]) أخرجه الطبري في التفسير (5/ 540).
([309]) أخرجه أحمد (17163)، وعثمان بن سعيد الدارمي في الرد على الجهمية (261)، وابن أبي عاصم في السنة (418)، وعبدالله بن أحمد في السنة (865)، وابن حبان (6404)، والطبراني في مسند الشاميين (1455).
([310]) أخرجه البخاري (190)، ومسلم (2345)، والترمذي (3643).
([311]) أخرجه مسلم (2344)، والترمذي (3644)، والنسائي (5114).
([312]) أخرجه أبو داود (3205)، وابن أبي شيبة (37795)، وعبد بن حميد (550)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (366)، والروياني (502)، والحاكم (3268).
([313]) أخرجه البخاري (2941)، وأبو داود (5136).
([314]) أخرجه البخاري (4380)، ومسلم (2420)، والترمذي (3796)، وابن ماجه (135).
([315]) أخرجه مسلم (2889)، وأبو داود (4252)، والترمذي (2176)، وابن ماجه (3952).
([316]) أخرجه البخاري (7)، ومسلم (1773).
([317]) أخرجه البخاري (4553)، ومسلم (1773)، والترمذي (2717).
([318]) أخرجه البخاري (4335)، ومسلم (1062)، والترمذي (3896).
([319]) أخرجه البخاري (4777)، ومسلم (9)، وابن ماجه (64).
([320]) أخرجه البخاري (5301)، ومسلم (2950).
([321]) أخرجه البخاري (3176)، وابن ماجه (4042).
([322]) أخرجه البخاري (7121)، ومسلم (157)، والترمذي (2218).
([323]) في الصحيحين أحاديث كثيرة في الفتن، لكنها ليست صريحة في أن الفتن من أشراط الساعة؛ لهذا ذكرنا الحديثين الآتيين من السنن؛ لأن فيهما التصريح بذلك.
([324]) أخرجه أبو داود (4259)، والترمذي (2204)، وابن ماجه (3961)، وابن أبي شيبة (30978)، وأحمد (19662)، والروياني (585).
([325]) أخرجـه الترمذي (2197)، وابن أبي شيبة في المصنف (31053) وفي الإيمان (64)، والفريابي في صفة النفاق وذم المنافقين (97).
([326]) أخرجه البخاري (7121)، ومسلم (157)، والترمذي (2218).
([327]) أخرجه البخاري (59).
([328]) أخرجه البخاري (80)، ومسلم (2671)، والترمذي (2205)، وابن ماجه (4045).
([329]) أخرجه البخاري (7062)، ومسلم (2672)، والترمذي (2200)، وابن ماجه (3959، 4050).
([330]) أخرجه مسلم (2901)، وأبو داود (4311)، والترمذي (2183)، وابن ماجه (4041).
([331]) أخرجه البخاري (4635)، ومسلم (157)، وأبو داود (4312)، وابن ماجه (4068).
([332]) أخرجه البخاري (2222)، ومسلم (155)، وأبو داود (4324)، والترمذي (2233)، وابن ماجه (4078).
([333]) أخرجه البخاري (7408)، ومسلم (2933)، وأبو داود (4316)، والترمذي (2245).
([334]) أخرجه البخاري (1369)، ومسلم (2871) واللفظ له، والترمذي (3120)، والنسائي (2056، 2057) وابن ماجه (4269، 4750).
([335]) أخرجه مسلم (590)، وأبو داود (1542)، والترمذي (3494)، والنسائي (2063)، وابن ماجه (3840).
([336]) أخرجه البخاري (6055)، ومسلم (292)، وأبو داود (20)، والترمذي (70)، والنسائي (31)، وابن ماجه (347).
([337]) أخرجه مسلم (2867).
([338]) أخرجه البخاري (1375)، ومسلم (2869)، والنسائي (2059).
([339]) أخرجه البخاري (6366)، ومسلم (586)، والنسائي (2067).
([340]) أخرجه البخاري (1374)، ومسلم (7318).
([341]) و«رفع ليتًا»، أي أمال صفحة عنقه إليه. النهاية في غريب الحديث (3/ 33).
([342]) أخرجه مسلم (2940).
([343]) وهو أحد رواة الحديث.
([344]) أخرجه مسلم (2940).
([345]) أخرجه البخاري (4814)، ومسلم (2955).
([346]) أخرجه البخاري (4811)، ومسلم (2786)، والترمذي (3238).
([347]) أخرجه مسلم (2278)، وأبو داود (4673).
([348]) أخرجه البخاري(2441)، ومسلم(2373).
([349]) أخرجه البخاري (3349)، ومسلم (2860)، والترمذي (2423)، والنسائي (2082).
([350]) أخرجه البخاري (6527)، ومسلم (2859)، والنسائي (2083)، ابن ماجه (4276).
([351]) أخرجه البخاري (6521)، ومسلم (2790).
([352]) أخرجه البخاري (6520)، ومسلم (2792).
([353]) أخرجه مسلم(315).
([354]) أخرجه مسلم (2791).
([355]) أخرجه البخاري (2371)، ومسلم (987)، وأبو داود (1658)، والترمذي (1636)، والنسائي (3563)، وابن ماجه (2788).
([356]) أخرجه مسلم (2864)، والترمذي (2421).
([357]) أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031).
([358])أخرجه مسلم(804).
([359]) أحمد (17333)، وأبو يعلى (1766)، وابن خزيمة (2431)، وابن حبان (3310)، وصححه ابن خزيمة وابن حبان.
([360]) أخرجه البخاري (99، 6570).
([361]) أخرجه البخاري (1475).
([362]) أخرجه البخاري (7510)، ومسلم (193)، وابن ماجه (4312).
([363]) أخرجه البخاري (3340)، ومسلم(194).
([364]) أخرجه مسلم (196)، والدارمي(52).
([365]) أخرجه البخاري (6305).
([366]) أخرجه البخاري (6304)، ومسلم (199)، والترمذي (3602)، وابن ماجه (4307).
([367]) أخرجه البخاري (7439)، ومسلم (183).
([368]) أخرجه البخاري (6539)، ومسلم (1016).
([369]) أخرجه مسلم (2577).
([370]) أخرجه البخاري (5811)، ومسلم (216) واللفظ له.
([371]) أخرجه البخاري (6537)، ومسلم (2876).
([372]) أخرجه البخاري (6537).
([373]) أخرجه مسلم (856).
([374]) أخرجه البخاري (6864)، ومسلم (1678).
([375]) أخرجه مسلم (2968).
([376]) أخرجه مسلم (2969).
([377]) أخرجه البخاري (6682)، ومسلم (2694)، والترمذي (3467)، وابن ماجه (3806).
([378]) أخرجه مسلم (223)، والترمذي (3517)، والنسائي (2437)، وابن ماجه (280).
([379]) أخرجه البخاري (4729)، ومسلم (2785).
([380]) أخرجه الترمذي (2639)، وابن ماجه (4300)، وابن المبارك في المسند (100)، وفي الزهد (2/ 109)، وأحمد (6994).
([381]) أخرجه مسلم (400).
([382]) أخرجه البخاري (6579)، ومسلم (2292).
([383]) أخرجه مسلم (247).
([384]) أخرجه البخاري (6587).
([385]) أخرجه البخاري (4964).
([386]) أخرجه البخاري (806)، ومسلم (182)، وأبو داود (4730)، والترمذي (2554)، وابن ماجه (178).
([387]) أخرجه البخاري (7439).
([388]) أخرجه مسلم(195).
([389]) أخرجه مسلم(191).
([390]) أخرجه البخاري (6535).
([391]) أخرجه البخاري (6614)، ومسلم (2652)، وأبو داود (4701)، والترمذي (2134)، وابن ماجه (80).
([392]) أخرجه مسلم(181).
([393]) أخرجه مسلم(189).
([394]) أخرجه مسلم (182).
([395]) أخرجه البخاري (3435)، ومسلم (28).
([396]) أخرجه مسلم (8)، وأبو داود (4695)، والترمذي (2610)، والنسائي (4990)، وابن ماجه (63).
([397]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/ 726).
([398]) أخرجه ابن ماجه (85)، وأحمد (6845) واللفظ له، والحارث بن أبي أسامة في المسند -كما في بغية الباحث (735)، وابن أبي عاصم في السنة (406).
([399]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/597).
([400]) أخرجه أبو داود في سننه(4700)، والسنة، لابن أبي عاصم (1/51).
([401]) أخرجه مسلم في مقدمة الصحيح (8)، والشريعة، للآجري (2/851).
([402]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/786).
([403]) الشريعة، للآجري (2/881).
([404]) الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة، لابن بطة (ص: 213 - 216).
([405]) تفسير الطبري (11/403).
([406]) أخرجه البخاري (7418)، والترمذي (3951).
([407]) أخرجه مسلم (2653)، والترمذي (2156).
([408]) أخرجه أبو داود (4700)، والترمذي (2155، 3319)، والطيالسي (578)، وأحمد (22705، 22707)، وابن أبي عاصم في السنة (115).
([409]) أخرجه البخاري (7553)، ومسلم (2751)، والترمذي (3543)، وابن ماجه (189).
([410]) أخرجه الترمذي (2516)، وابن وهب في القدر (28)، وأحمد (2669)، وعبد بن حميد (636).
([411]) الإبانة الكبرى، لابن بطة (4/261).
([412]) السنة، لابن أبي عاصم (2/645).
([413]) أخرجه البخاري (6223)، ومسلم (2994)، وأبو داود (5028)، والترمذي (2746)، وابن ماجه (968).
([414])أخرجه البخاري (6040)، ومسلم (2637)، والترمذي (3161).
([415]) في الشريعة للآجري ما يزيد. (2/ 887).
([416]) القدر، للفريابي (ص: 263).
([417]) أخرجه إسحاق بن راهويه (2413)، وأحمد في المسند (27079)، وابن أبي الدنيا في المرض والكفارات (6)، والنسائي في الكبرى (7440).
([418]) أخرجه الترمذي (7859)، وابن أبي شيبة (10916)، وأحمد في المسند (7859)، وهناد بن السري في الزهد (402).
([419]) أخرجه البخاري (1362)، ومسلم (2647)، وأبو داود (4694)، والترمذي (3344).
([420]) أخرجه البخاري (6596)، ومسلم (2649)، وأبو داود (4709).
([421]) أخرجه مسلم (2648).
([422]) أخرجه البخاري (6493)، ومسلم (112).
([423]) الشريعة، للآجري (2/ 702).
([424]) أخرجه أبو داود (4699)، وابن ماجه (77)، وأحمد (21589)، وعبد بن حميد (247)، والفريابي في القدر (190)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/676).
([425]) أخرجه مسلم (771)، وأبو داود (761)، والترمذي (266)، والنسائي (897).
([426]) أخرجه ابن ماجه (2806)، وسعيد بن منصور (2858)، وأحمد (15722)، والنسائي في الكبرى (8529).
([427]) أخرجه أبو داود (1479)، والترمذي (2969)، وابن ماجه (3828).
([428]) أخرجه الترمذي (2065)، وابن ماجه (3437)، وابن وهب في الجامع في الحديث (699)، وأحمد (15472) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2610).
([429])أخرجه مسلم (2577)، والترمذي (2495).
([430]) أخرجه البخاري (6605)، ومسلم (2647)، والترمذي (2136)، وابن ماجه (78).
([431]) أخرجه البخاري (6614)، ومسلم (2652)، وأبو داود (4701)، والترمذي (2134)، وابن ماجه (80).
([432])السنة، لعبدالله بن أحمد (2/412).
([433]) السنة، لعبدالله بن أحمد (2/432)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/696).
([434]) ترتيب المدارك وتقريب المسالك (1/91).
([435]) أخرجه مسلم (2664)، وابن ماجه (79).
([436]) أخرجه الطبري في التفسير (2/ 707)، (3/ 223)، وابن أبي حاتم في التفسير (1421)، والطبراني في الكبير (13027)، والبيهقي في الشعب (9240).
([437]) وتأتي الوسيلة بمعنى آخر -أيضًا- وهو المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: «سلوا الله لي الوسيلة».
([438]) أخرجه البخاري (6689)، ومسلم (1907)، وأبو داود (2201)، والترمذي (1647)، والنسائي (75)، وابن ماجه (4227).
([439]) أخرجه مسلم (2985).
([440]) أخرجه مسلم (1718).
([441]) أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675)، والترمذي (3603)، وابن ماجه (3822).
([442]) أخرجه البخاري (16)، ومسلم (43)، والترمذي (2624)، والنسائي (4987)، وابن ماجه (4033).
([443]) أخرجه البخاري (14)، والنسائي (5015).
([444]) أخرجه مسلم (181)، والترمذي (2552)، وابن ماجه (187).
([445]) أخرجه البخاري (2272)، ومسلم (2743).
([446]) أخرجه البخاري (2799)، ومسلم (1912)، وأبو داود (2490)، والنسائي (3172)، وابن ماجه (2776).
([447]) أخرجه مسلم (218).
([448]) أخرجه البخاري (1010).
([449]) تفسير الطبري (3/113) و (9/593). وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1307)، ولكن في تفسير قوله: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ }.
([450]) أخرجه البخاري (48)، ومسلم (64)، والترمذي (1983)، والنسائي (4108)، وابن ماجه (69).
([451])أخرجه مسلم (67).
([452]) أخرجه البخاري (121)، ومسلم (65)، والنسائي (4131)، وابن ماجه (3942).
([453]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 182).
([454]) أخرجه مسلم (93).
([455]) تفسير الطبري (13/322).
([456]) أخرجه مسلم (73)، والطبري في التفسير (23/154).
([457]) أخرجه مسلم (934)، وابن ماجه (1581).
([458]) أخرجه البخاري (846)، ومسلم (71)، وأبو داود (3906)، والنسائي (1525).
([459]) أخرجه أبو داود (3904)، والترمذي (135)، وابن ماجه (639)، والفضل بن دكين في الصلاة (15)، وإسحاق بن راهويه (482)، وأحمد (9536).
([460]) أخرجه البخاري (6205)، ومسلم (2143)، وأبو داود (4961)، والترمذي (2837).
([461]) غريب الحديث، للقاسم بن سلام (2/ 18).
([462]) أخرجه مسلم (2985).
([463]) أخرجه مسلم (1978)، والنسائي (4422).
([464]) أخرجه أبو داود (3313).
([465]) أخرجه البخاري (6696)، وأبو داود (3289)، والترمذي (1526)، والنسائي (3806)، وابن ماجه (2126).
([466]) أخرجه الطبري في التفسير (23/ 322).
([467]) أخرجه مسلم (2708)، والترمذي (3437)، وابن ماجه (3547).
([468]) أخرجه الترمذي (3095)، وابن سعد (6/ 219)، وابن أبي حاتم في التفسير (10057)، والطبراني في الكبير (17/ 92/ 218).
([469]) أخرجه الطيالسي (344)، وسعيد بن منصور (2481)، وأحمد (4400)، ولوين في جزئه (4)، والطحاوي في أحكام القرآن (418).
([470]) أخرجه الترمذي (3095)، وابن سعد (6/ 219)، وابن أبي حاتم في التفسير (10057)، والطبراني في الكبير (17/ 92/ 218).
([471]) أخرجه البخاري (4477)، ومسلم (86)، وأبو داود (2310)، والترمذي (3182)، والنسائي(4013).
([472]) تفسير الطبري (15/361).
([473]) أخرجه البخاري (2766)، ومسلم (89)، وأبو داود (2874)، والنسائي (3671).
([474]) أخرجه أبو داود (3043)، وعبدالرزاق (9972)، وسعيد بن منصور (2180)، وأحمد (1657).
([475]) أخرجه أبو داود (3905)، وابن ماجه (3726)، وابن أبي شيبة (26159)، وأحمد (2000)، وعبد بن حميد (714).
([476]) أخرجه مسلم (2230).
([477]) أخرجه أحمد (9536) عن أبي هريرة، والحسن، وأخرجه أبو داود (3904)، والترمذي (135)، وابن ماجه (639)، وابن أبي شيبة (17077)، وإسحاق بن راهويه (482)، وأحمد (9290) من حديث أبي هريرة.
([478]) أخرجه البخاري (5707)، ومسلم (2220)، وأبو داود (3911).
([479]) أخرجه أبو داود (3919)، وابن أبي شيبة في المصنف (26920) وفي الأدب (162)، والخلال في (1405).
([480]) أخرجه ابن وهب في الجامع (658)، وأحمد (7045)، واللفظ له، والطبراني في الكبير (14622)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (292).
([481]) أخرجه البخاري (3005)، ومسلم (2115)، وأبو داود (2552).
([482]) أخرجه أبو داود (3883)، وابن ماجه (3530)، ومعمر في الجامع (20343)، وابن أبي شيبة (23924)، وأحمد (3615).
([483]) أخرجه الترمذي (2072)، وابن أبي شيبة في المصنف (23923)، وفي المسند (786)، وأحمد (18781).
([484]) أخرجه مسلم (2985).
([485]) أخرجه مسلم (1905)، والترمذي (2382)، والنسائي (3137).
([486]) أخرجه البخاري (6499)، ومسلم (2987)، وابن ماجه (4207).
([487]) أخرجه ابن المبارك في الزهد (141)، وابن أبي شيبة (36448)، وهناد في الزهد (872)، وأحمد (6509) وفي الزهد (238).
([488]) أخرجه البخاري (123)، ومسلم (1904)، وأبو داود (2517)، والترمذي (1646)، والنسائي (3136)، وابن ماجه (2783).
([489]) أخرجه ابن أبي شيبة (8489)، وابن خزيمة (937)، والطبراني في الكبير (4301) والبيهقي في السنن الكبرى (3629)، وفي الشعب (2872).
([490]) أخرجه ابن ماجه (4204)، وأحمد (11252)، وحنبل بن إسحاق في الفتن (30)، والطبري في تهذيب الآثار (1117).
([491]) أخرجه البخاري (2810)، ومسلم (1904)، وأبو داود (2517)، والنسائي (3136).
([492]) أخرجه البخاري (2886)، وابن ماجه (4135).
([493]) أخرجه ابن أبي شيبة (27227)، وأحمد (1839)، والبخاري في الأدب المفرد (783)، وابن أبي الدنيا في الصمت (342)، والباغندي في أماليه (36).
([494]) أخرجه البخاري (3836)، ومسلم (1646)، والنسائي (3764).
([495]) أخرجه الترمذي (١٥٣٥)، وأحمد (٦٠٧٢) وأبو عوانة (٦٤٠١)، والحاكم (٧٨٩٥).
([496]) أصول السنة، لأحمد بن حنبل (ص: ٥٥).
([497]) أخرجه مسلم (622)، وأبو داود (413)، والترمذي (160)، والنسائي (511).
([498]) أخرجه مسلم (654)، وأبو داود (550)، والنسائي (849)، وابن ماجه (777).
([499]) أخرجه مسلم (2968).
([500]) أخرجه البخاري (34)، ومسلم (58)، وأبو داود (4688)، والترمذي (2632)، والنسائي (5020).
([501]) أخرجه البخاري (5059)، ومسلم (797)، والترمذي (2865)، والنسائي (5038)، وابن ماجه (214).
([502]) أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718)، وأبو داود (4606)، وابن ماجه (14).
([503]) أخرجه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42)، وأحمد (17144)، وابن أبي عاصم في السنة (26)، وابن وضاح في البدع (54).
([504]) أخرجه مسلم (2674)، وأبو داود (4609)، والترمذي (2674)، وابن ماجه (206).
([505]) أخرجه البخاري (7321)، ومسلم (1677)، والترمذي (2673)، والنسائي (3985)، وابن ماجه (2616).
([506]) أخرجه البخاري (3456)، ومسلم (2669).
([507]) أخرجه مسلم (532).
([508]) أخرجه البخاري (427)، ومسلم (528)، والنسائي (704).
([509]) أخرجه مسلم (969)، وأبو داود (3218)، والترمذي (1049)، والنسائي (2031).
([510]) أخرجه أبو داود (1134)، والنسائي (1556)، وإسـماعيل بن جعفر في حديث علي ابن حجر (62)، وأحمد (12827)، وعبد بن حميد (1392).
([511]) تفسير الطبري (18/679)، وابن أبي حاتم في التفسير (14718).
([512]) أخرجه البخاري (952)، ومسلم (892)، وأبو داود (1593)، وابن ماجه (1898).
([513]) أخرجه الترمذي (2180)، ومعمر في الجامع (20763)، وعبدالرزاق في التفسير (931)، وابن أبي شيبة (38530).
([514]) أخرجه البخاري (6001) ومسلم (86).
([515]) أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (57).
([516]) أخرجه مسلم (49).
([517]) أخرجه البخاري (7493)، ومسلم (183).
([518]) أخرجه البخاري (6658)، ومسلم (2533)، والترمذي (3859)، وابن ماجه (2362).
([519]) أخرجه الترمذي (3747)، وأحمد في المسند (1675)، وفي فضائل الصحابة (278)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (232).
([520]) أخرجه البخاري (3007)، ومسلم (2494)، وأبو داود (2650)، والترمذي (3305).
([521]) أخرجه البخاري (3992).
([522]) أخرجه أبو داود (4653)، والترمذي (3860)، وأبو الجهم في جزئه (1)، وأحمد (14778)، والنسائي في الكبرى (11444).
([523]) أخرجه مسلم (2424).
([524]) أخرجه مسلم (2276).
([525]) أخرجه مسلم (2408).
([526]) أخرجه البخاري(3508)، ومسلم(1759).
([527]) أخرجه البخاري (3673)، ومسلم (2541)، وأبو داود (4658)، والترمذي (3861).
([528]) أخرجه البخاري (17)، ومسلم (74)، والنسائي (5019).
([529]) أخرجه أبو داود (4650).
([530]) أخرجه البخاري (2955)، ومسلم (1839).
([531]) أخرجه البخاري (7055)، ومسلم (1709).
([532]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للإمام اللالكائي (1/175)
([533]) أخرجه البخاري(7257)، ومسلم(1840).
([534]) شرح السنة للمزني (ص: 84).