خطورة الهم
الكاتب : سعود بن إبراهيم الشريم
نبذة مختصرة
خطورة الهم: خطبةٌ ألقاها فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - في المسجد الحرام يوم الجمعة 23-5-1431 هـ، وتحدَّث فيها عن خطورة الهم وأثره على الإنسان، وبيان السبب المُفضِي إلى الهمِّ، وذكر بعض ما ورد في كتاب الله- جل وعلا - وبعض ما ورد عن السلف في ذلك.
- 1
PDF 3.3 MB 2019-05-02
- 2
DOC 1.6 MB 2019-05-02
تفاصيل
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102 ].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1 ].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71 ].
أما بعد، فيا أيها الناس:
أيام المرء حبلٌ ممدودٌ لا يدري متى ينقطع، وطرفا هذا الحبل ماضٍ وحاضرٌ ومستقبلٌ، فلربما التفت إلى الماضي يتحسَّر عليه فيقنط، أو يحزن عليه فيكسل، ولربما التفت إلى المستقبل مُشرئِبًّا إلى معرفته قبل أوانه، وتذوُّقه قبل إِبَانه، والواقع - عباد الله - أنه ليس له إلا الحاضر الذي يعيش فيه؛ لأن أمس الماضي لا يجد لذَّته، ولا يُحسُّ بشدته، ولأن المستقبل غيب والأمر فيه على خطر؛ فما للمرء إذن إلا الساعة التي يعيش فيها فلن يستطيع رد الأمس ولا تعجيل الغد.
وهو ما دام ذا روح يُقلِّبها فهو يعيش على أمرٍ قد قُدِر، لا يخلو فيه من مصيبة، وقلَّما ينفكّ عن عجيبة، كما أن النسيم لا يهب عليلًا سرمدًا في حياة المرء دونما قتر؛ إذ المُنغِّصات كثيرة والمُشوِّشات حثيثة، والأُنس في الحياة ذو فتح وذو إغلاق، فمن هذه المخاطر والحادثات ينشأ هاجس أقلق القلوب وأفزع الرجال والنساء، ألا إنه: الهمُّ.
نعم الهم الذي هو: شعورٌ يعتري المرء فيودع في نفسه الحزن والاضطراب واليأس ليُزاحم الأُنس والاستقرار والفَأْل؛ فلا يهنَأْ حينها بنومٍ، ولا يلذُّ بطعام، ولا يسيغ شرابًا، نعم إنه الهم الذي يشعر المرء بأن النهار لن يدرك الليل، وأن الليل لن يعقبه نهار، ليجعل الدقيقة ساعات طويلة، ويا للهِ ما أطول الليلَ على من لم ينم!
الهمُّ يخترِمُ الجسيم نحافةً، ويُشيب ناصيةَ الصبي ويُهرمُ، الهمُّ - عباد الله - يجعل البال مُشتَّتًا، والفكر مشغولًا، يضيق على المرء الواسعة بما رَحُبَت ولو سكن قصرًا فخمًا أو برجًا مشيدًا؛ فيصير صدره ضيقًا حرجًا كأنما يصَّعَّدُ في السماء حتى يكون حَرَضًا أو يكون من الهالكين.
ومن منا يا تُرَى الذي عاش عمره كله بلا همٍّ، أو لم يُصِبْه دخانُ الهمِّ وغباره إلا من شاء الله؛ صاحب المنصب والشرف يتوجَّس فقدَه كل لحظة فيُصيبه الهمُّ، والأبَوَان همومهما كثيرةٌ بسبب حاضر الأولاد ومستقبلهم، فهما مهمومان بكسوة هذا، وتزويج تلك، وتوظيف هذه، وتربية ذاك.
وإنه لمُخطئٌ أشدَّ الخطأ مَنْ جعل الهمَّ حِكرًا على ذوي المسكنة ومُلتحفي المسغبة والإملاق؛ لأننا نرى كبراء مهمومين، وأغنياء مضطربين، كما أننا نرى فقراء راضِين مستقرين.
وإذا كان بعض الفقراء يُصابُ بالهمِّ من فراغ بطنه إبان إملاقه، فإننا نرى من الأغنياء من يُصابُ بالهمِّ بسبب تُخمة بطنه إبان إغداقه، وقولوا مثل ذلكم - عباد الله - في الصبي والشاب، والذكر والأنثى، والصحيح والسقيم، والغني والفقير.
إن الكثيرين في الواقع يتبرَّمون بالزوابع التي تُحيطُ بهم، والمُدلهمَّات التي تُفاجِئهم بين الحين والآخر مع أن المتاعب والآلام تربةٌ خصبةٌ تنبت على جوانبها بذور القوة والنشاط؛ إذ ما تفتَّقَت مواهبُ العظماء إلا وسط رُكامٍ من المشاق والجهود المُضنِية.
ولو رجع المرءُ إلى نفسه قليلًا لاتَّهَم مشاعرَه المُتأجِّجة تُجاه ما ينزل به، فمن يدري؟! رُبَّ ضارةٍ نافعة، وربما صحَّت الأجسامُ بالعلل، ورُبَّ محنةٍ في طيِّها مِنْحة، وكم بسمةٍ كانت بعد غُصَّة، ورُبَّ فرحةٍ بعد تَرْحة.
وإن الحوادث والخُطُوب - وإن شرَّقَت وغرَّبَت - فلن ينالك منها أيها المرء إلا ما كُتِبَ لك، ولن يُصرَف عنك منها إلا ما كُتِب أن يُصرَف عنك؛ فعلام الهمّ إذن؟ فعلام الهمّ إذن؟ فعلام الهم إذن أيها المرء؟!
ألا تدري أن عواقب الأمور تتشابه في الغيوب، فرُبَّ محبوبٍ في مكروه، ورُبَّ خيرٍ في شر {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216 ].
قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -:
أيَّ يوميَّ منَ المرءِ أفِر
يومَ لا يُقدَر أو يومَ قُدِر
يومَ لا يقدرُ لا أحذَرُه
ومِن المقدُورِ لا ينجُو الحذِر
فعلام الهمُّ إذن - عباد الله -؟
مرَّ إبراهيم بن أدهم على رجل مهموم فقال له: إني سائلُك عن ثلاثة فأجِبْني، قال: أيجري في هذا الكون شيءٌ لا يُريدُه الله؟ أو ينقص من رزقك شيءٌ قدَّره الله؟ أو ينقص من أجلك لحظة كتبها الله؟ فقال الرجل: لا، قال إبراهيم: فعلامَ الهم إذن؟
عباد الله:
إن الهمَّ جندٌ من جنود الله يبتلي به عباده لينظر ما يعملون، وهو وإن كان شعورًا وليس مادة إلا أنه أشدُّ أثرًا من المُؤذِيات المادية، ويؤكِّد ذلك ما ذكره علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حينما سُئِل: من أشد جند الله؟ فقال: «الجبال، والجبال يقطعها الحديد فالحديد أقوى، والنار تُذِيبُ الحديد فالنار أقوى، والماء يُطفِئُ النار فالماء أقوى، والسحاب يحمل الماء فالسحاب أقوى، والريح تعبثُ بالسحاب فالريح أقوى، والإنسان يتكفَّأ الريح بيده وثوبه فالإنسان أقوى، والنوم يغلب الإنسان فالنوم أقوى، والهم يغلب النوم؛ فأقوى جند الله هو الهمُّ يُسلِّطُه الله على من يشاء من عباده»، ولقد صدق الله: {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125 ].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنبٍ؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد، فيا أيها الناس:
إن من سِمات شريعة الإسلام: الدلالة إلى ما فيه الخير والتحذير مما فيه الشر، وإن مما وجهت به شريعتنا الغراء أن الهموم المُفرطة خطر على كيان الأمة وإنتاجها؛ لأنه خيرٌ لكل مجتمع مسلم أن يستقبل الحياة ببِشْرٍ وأملٍ كي يستفيد من وقته ويغتال القعود والقنوط.
ولا يظن بعاقل أن يزهد بالأُنْس، وإذا ما غلبت المرءَ أعراضٌ قاهرةٌ فسَلَبَتْه الطمأنينة والرضا فإنه يجب عليه أن يجنح إلى الدواء الناجع الذي دلَّ عليه ديننا الحنيف حتى لا يكون الاستسلام لتيار الهمّ الذي يُولِّد انهيار الأعمال بالعجز والكسل؛ فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الصحيح يتعوَّذ بالله من الهمِّ والحزن، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قال إذا أصبحَ وإذا أمْسى: حَسبِي الله لا إلَه إلا هو عليه توكلتُ وهو ربُّ العرشِ العظيم سبع مرات، كفاه الله ما أهمَّه»؛ رواه أبو داود.
وعليك - أيها المهموم - أن تُرطِّب لسانك بذكر الله لتخرج من عنق الزجاجة إلى الفضاء والسعة، وإن زوال الهمِّ مرهونٌ بكثرة الاستغفار ولزومه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ لزِم الاستغفارَ جعلَ الله له من كلِّ ضيقٍ مخرجًا، ومنْ كلِّ همٍّ فرَجًا، ورزقَه من حيث لا يحتسب»؛ رواه أبو داود والنسائي.
إنه لن ينفع أحدَنا جنوحُه إلى زيدٍ، أو شكواه لعمرو ما دام لم يطرق باب أرحم الراحمين المُطَّلِع على الضمائر وما تُكِنُّه الصدور؛ لأن من فَقَدَ الأُنْس بالله فما عساه أن يجِد، ومن وَجَد الأُنْس بالله فما عساه أن يفقد، ففِرَّ من همومك - أيها العبد - إلى ربك خالقِك ومولاك.
دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد ذات يوم، فإذا هو برجلٍ من الأنصار يقال له: أبو أمامة، فقال: «يا أبا أمامة! مالي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت الصلاة؟» قال: همومٌ لزِمَتْني وديون يا رسول الله، قال: «أفلا أُعلِّمُك كلامًا إذا قلتَه أذهَبَ الله همَّك وقضَى عنك دَيْنَك؟» قال: بلى يا رسول الله، قال: «قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهمِّ والحَزَن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجُبْن والبُخْل، وأعوذ بك من غلَبة الدَّيْن وقهر الرجال»، قال أبو أمامة: ففعلتُ ذلك، فأذهَبَ الله همِّي، وقضى عني دَيْني»؛ رواه أبو داود.
عباد الله:
إذا كان اللجوء إلى الله - تعالى - سببًا في انسلال الهموم الجاثمة على المرء فإن ذكر الحبيب المصطفى - صلوات الله وسلامه عليه - سببٌ في الأُنس وكفاية الهمِّ؛ فقد قال رجلٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله! أرأيتَ إن جعلتَ صلاتي كلها عليك - أي: أصرف بصلاة عليك جميع الزمن الذي كنت أدعو فيه لنفسي -، قال - صلى الله عليه وسلم -: «إذن يكفيك الله - تبارك وتعالى - ما أهمَّك من دنياك وآخرتك»؛ رواه أحمد.
ألا فاتقوا الله - عباد الله - وأحسِنُوا التعامل مع الهموم تُفلِحوا، وحذارِ أن تكون همومكم من نسيج خيالكم والواقع منها براء، وخذوا أمور الدنيا بأسهل ما يكون، وغُضُّوا الطرف عن مُذكّيات الهموم بالتغابي عنها؛ فإن الغبيّ ليس بسيدٍ في قومه لكن سيد قومه المُتغَابي، واعملوا على تخليص همِّكم من همِّكم لهمِّكم الأخروي، وإياكم وكثرةَ المعاصي فإنها كلاليب الهموم أجارنا الله وإياكم منها.
فاسْتأنِسوا يا إخوتي في اللهِ
إنَّ الهمومَ لَموحِشاتُ اللاهِي
ويلُ العبادِ من الهمومِ وإنها
تخبُو لدى مستأنسٍ باللهِ
هذا، وصلُّوا - رحمكم الله - على خير البرية وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ به بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّهَ بكم أيها المؤمنون، فقال - جل وعلا -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56 ].
اللهم صلِّ وسلم وزِدْ وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر صحابة نبيك محمدٍ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلِح له بطَانته يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذاب النار.
سبحان ربنا ربِّ العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
التصانيف العلمية: