خطورة الاستدراج

نبذة مختصرة

خطورة الاستدراج: خطبةٌ ألقاها فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - في المسجد الحرام يوم الجمعة 30/ 5/ 1431 هـ، وتحدَّث فيها عن بيان ابتلاء الله لعباده بالنعم والرخاء وأن هذا ليس دليلاً على توفيق الإنسان؛ بل قد يكون ذلك استدراج من الله - جل وعلا - لعباده إذا لم يشكروا هذه النعم ولم يعرفوا الحق الواجب عليهم تجاهها، وبيان الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة.

تنزيــل
أرسل ملاحظة

تفاصيل

    الخطبة الأولى

    الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عِوَجًا، أحمده - سبحانه - لم يكن له شريك في الملك ولم يتَّخِذ صاحبةً ولا ولدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.

    أما بعد:

    فاتقوا الله - عباد الله -: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281 ].

    أيها المسلمون:

    في مقام البيان والتذكير وإرشاد العباد إلى ما تَطِيبُ به حياتهم وتستقيم به أحوالهم يأتي التنبيه والتحذير لمن تجافَى عن طريق الهداية، وسَلَكَ سبيل العصيان والمحادَّة أن ما يراه من تتابُع النعم، واتصال المِنَن إنما هو نذيرٌ له بحُلُول العقوبة، ونزول البأس، ووقوع البلاء.

    فقد أخرج الإمام أحمد في «مسنده» بإسنادٍ حسنٍ عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا رأيتَ اللهَ يُعطِي العبدَ من الدنيا على معاصيه على ما يحب فإنما هو استدراجٌ، ثم قرأ قوله - تعالى -: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 44، 45 ]».

    وهو إخبارٌ منه - سبحانه - أن أولئك العصاة لما تَرَكوا العمل بما أمرهم الله به على ألسنة رسله إعراضًا عنه وتكذيبًا به بدَّل الله مكان بأسَائِهم رخاءً وسعةً في العيش، وصحةً وسلامةً في الأبدان استدراجًا لهم، حتى إذا فرِحُوا بما فتح الله عليهم من أبواب النعم بَطَروا وأشِروا وأُعجِبوا بما عندهم، وظنُّوا أن ذلك لا يفنى، وأنه دليل بيِّنٌ على كمال رضا الله عنهم، وجميل برِّه بهم، أتاهم - سبحانه - عندها بالعذاب فجأة وهم غاضون لا يشعرون أن ذلك كائنٌ حالٌّ بهم.

    وأنكى شيء هو ما يفجأ المرء من البغتة؛ فكان التذكير الذي تركوه إعراضًا وتكذيبًا وإصرارًا بمنزلة الآية والعلامة على الاستدراج والإمهال، كما قال - سبحانه -: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 183 ].

    فأصبحوا آيِسِين من كل خيرٍ، منقطعةٌ حُجَجُهم لا يُحِيرون جوابًا لشدة ما نزل بهم من سوء الحال.

    قال الحسن - رحمه الله -: «مَنْ وسَّعَ الله عليه فلم ير أنه يُمكَر به فلا رأي له»، وقال قتادة - رحمه الله -: «بَغَتَ القومَ أمرُ الله، وما أخذ الله قومًا قط إلا عند سكرتهم وغلظتهم».

    فلا تغترُّوا بالله فإنه لا يغترّ بالله إلا القومُ الفاسقون.

    وفي الآية - كما قال أهل العلم -: «أن البأساء والضرَّاء وما يقابلهما من السرَّاء والنعماء هو مما يَتربَّى ويَتهذَّب به المُوفَّقون من الناس، وإلا كانت النعم أشدّ وبالًا عليهم من النقم».

    وهذا ثابتٌ بالاختيار؛ إذ الشدائدُ مصلحة للفساد، وأجدرُ الناس بالاستفادة من الحوادث المؤمن، كما جاء في حديث صهيب - رضي الله عنه - عن رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «عجبًا لأمرِ المؤمن إن أمرَهُ كلَّه له خير؛ إنْ أصابتهُ سرَّاءُ شَكَرَ فكان خيرًا له، وإنْ أصابتْهُ ضرَّاءُ صَبَرَ فكانَ خيرًا له»؛ أخرجه مسلم في «صحيحه».

    وأما الثناء الحسن في ذلك الذي جرى من نصر الله - تعالى - لرسله بإظهار حُجَجهم، وتصديق نُذُرهم، وإهلاك المشركين الظالمين بالعذاب المُستأصِل الذي لم يغادر منهم أحدًا، وإراحة الخلق من شركهم وظلمهم فهو ثابتٌ حقٌّ لله رب العالمين المُدبِّرُ لأمورهم، المُقيمُ لأمر اجتماعهم بحكمته البالغة وسُنَنه العادلة؛ ففي هذا بيانٌ للواقع من استحقاق الحمد والثناء لله - تعالى -، وفيه إرشادٌ للمؤمنين بما يتعيَّن عليهم من حمده - سبحانه - على نصر عباده المرسلين المُصلِحِيْن، وقطع دابر الظالمين المُفسِدين، وعلى حمده - عزَّ اسمه - في كل أمرٍ وفي خاتمة كل عمل، كما قال - سبحانه - في حق عباده المتقين: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10 ].

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99 ].

    نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ؛ إنه هو الغفور الرحيم.

    الخطبة الثانية

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فاتقوا الله عباد الله.

    أيها المسلمون:

    إن فيما أوضَحَه رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - مما يُعطِيه الله – تعالى - للعصاة من سابغ النعم مع إقامتهم على العصيان واجتراحهم السيئات إنما هو استدراجٌ وإملاءٌ فيه تحذيرٌ وإرشادٌ للأمة قاطبةً في أعقاب الزمن يبعثُ على اجتناب أسباب سخط الله والسلامة من عقوبته؛ فإن أخذه أليمٌ شديدٌ، كما قال - سبحانه -: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102 ].

    وكما جاء في الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله - عز وجل - يُملِي للظالمِ - أي: يُمهِلْه -، فإذا أخذَهُ لم يُفلِتْه»، ثم قرأ - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية؛ أخرجه مسلم في «صحيحه».

    فاللهم جنِّبنا أسباب غضبك، واسلُك بنا سبيل مرضاتك، ووفِّقنا للاعتبار بعظاتك.

    فاتقوا الله - عباد الله - وصلُّوا وسلِّموا على خاتم رسل الله: محمد بن عبد الله؛ فقد أُمِرتم بذلك في كتاب الله؛ حيث قال الله - تعالى -: {إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56 ].

    اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خير من تجاوَزَ وعَفَا.

    اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحْمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين وسائر الطغاة والمفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفهم، وأصلِح قادتهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.

    اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادك المؤمنين المجاهدين الصادقين.

    اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمَّتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البطانة الصالحة، ووفِّقه لما تحبُّ وترضى يا سميع الدعاء، اللهم ووفِّقه ونائبَيْه وإخوانه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح العباد والبلاد يا من إليه المرجع يوم التناد.

    اللهم احفظ هذه البلاد حائزةً كل خير، سالمةً من كل شر وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.

    اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرْنا من خِزْي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخِرَتَنا التي فيها معادنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شر.

    اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعتمك، وتحوُّل عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك، اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، واختم بالصالحات أعمالنا.

    ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذاب النار.

    وصلَّى الله وسلَّمَ على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.