شرح كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد [خالد المصلح]
تأليف : خالد بن عبد الله المصلح
نبذة مختصرة
كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد : كتاب نفيس صنفه الإمام المجدد - محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - يحتوي على بيان لعقيدة أهل السنة والجماعة بالدليل من القرآن الكريم والسنة النبوية، وهوكتاب عظيم النفع في بابه، بين فيه مؤلفه - رحمه الله - التوحيد وفضله، وما ينافيه من الشرك الأكبر، أو ينافي كماله الواجب من الشرك الأصغر والبدع؛ وفي هذه الصفحة ملف لشرح الشيخ خالد بن عبد الله المصلح - أثابه الله -، وهي عبارة عن تفريغ لشرحه الصوتي والمكون من ثلاثين شريطاً.
-
1
شرح كتاب التوحيد [ خالد المصلح ]
PDF 4.6 MB 2019-05-02
-
2
شرح كتاب التوحيد [ خالد المصلح ]
DOC 5.6 MB 2019-05-02
تفاصيل
- كتاب التوحيد
- باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب
- باب: من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب.
- باب الخوف من الشرك
- باب الدعاء إلى شهادة أن لا إلـٰه إلا الله
- باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إلـٰه إلا الله
- بابٌ من الشرك لُبْس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه
- باب ما جاء في الرقى والتمائم
- باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما
- باب ما جاء في الذبح لغير الله
- باب من الشرك النذر لغير الله
- باب: من الشرك الاستعاذة بغير الله
- باب: من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره
- باب قول الله تعالى: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا﴾( ) الآية. وقوله: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ﴾( ) الآية.
- باب الشفاعـة
- باب قول الله تعالى: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾( )الآية.
- باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهِم دينَهم هو الغلو في الصالحين
- باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر
- باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين
- باب ما جاء في حماية المصطفى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جناب التوحيد
- باب ما جاء أن بعض هـٰذه الأمة يعبد الأوثان
- باب ما جاء في السحر
- باب بيان شيء من أنواع السحر
- باب ما جاء في الكهان ونحوهم
- باب ما جاء في النُّشرة
- باب ما جاء في التطير
- باب ما جاء في التنجيم
- باب قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ﴾( )، الآية
- باب قول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾( ).
- باب قول الله تعالى: ﴿وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾( )
- باب قول الله تعالى: ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾( )
- باب: من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله
- باب ما جاء في الرياء
- باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا
- باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أرباباً من دون الله
- باب قول الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا﴾( )الآيات
- باب قول الله تعالى: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ﴾( ).
- باب قول الله تعالى: ﴿فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾( )
- باب ما جاء فيمن لم يَقْنَع بالحلف بالله
- باب قول: ما شاء الله وشئت
- باب: من سب الدهر فقد آذى الله
- باب: التسمي بقاضي القضاة ونحوه
- باب: من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول
- باب ما جاء في قول الله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هـٰذا لِي﴾( )
- باب قول الله تعالى: ﴿فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا﴾( ).
- باب قول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾( ) .
- باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت.
- باب لا يقال: عبدي وأَمَتِي
- باب: لا يُرَدُّ من سأل بالله.
- باب: لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة
- باب ما جاء في الـ(لَوْ)
- باب: النهي عن سَبِّ الريح
- باب قول الله تعالى: ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾( ).
- باب: ما جاء في مُنْكِري القدر
- باب ما جاء في كثرة الحَلِف
- باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه
- باب ما جاء في الإقسام على الله
- باب: لا يُستَشفَع بالله على خلقه
- باب ما جاء في حماية النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِمَى التوحيد، وسَدِّه طرق الشرك
شرح كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد [خالد المصلح]
لشيخ الإسلام والمسلمين مجدد الدين
محمد بن عبد الوهاب التميمي المشرفي
- رحمه الله تعالى-
لفضيلة الشيخ خالد بن عبد الله المصلح
الدرس الأول [المتن]
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
كتاب التوحيد
وقول الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾( )، وقوله: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾( ) الآية، وقوله: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾( ) الآية، وقوله: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا﴾ ( ) الآية. وقوله: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا﴾ ( ) الآيات.
قال ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التي عليها خاتمة فليقرأ قوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَأَنَّ هـٰذا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا..﴾( ) الآية.
وعن معاذ بن جبل -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: كنت رديف النّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على حمار فقال لي: ((يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟)) [فـ]قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً))، فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: ((لا تبشرهم فيتكلوا)) أخرجاه في الصحيحين. ( )
[الشرح]
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد؛ فهـٰذا الكتاب المبارك - كتاب التوحيد - للشيخ العلامة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، وهـٰذا الكتاب فريد في نوعه، وهو من أهم الكتب التي أُلفت في بابه؛ أي في باب توحيد العبادة، بل لا يبالغ الإنسان إذا قال: إنه لم يؤلَّف مثله في بابه، فإنه كتاب حوى آيات وأحاديث كثيرة من أحاديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وآثار الصحابة التي تجلِّي وتبين حقيقة ما دعت إليه الرسل، فهـٰذا الكتاب لا تجد له نظيرًا، وليس هـٰذا مبالغة بل هـٰذا هو الواقع، فإنه كتاب لا نظير له فيما نعلم: من حيث حسن التبويب، ومن حيث جودة الانتقاء للأدلة، ومن حيث وضوح المعاني؛ فإن الشيخ رحمه الله ذيل الأبواب بمسائل تبين مقاصد الباب وتوضح المراد من سياق الآيات والأحاديث والآثار في هـٰذه الأبواب التي جعلها شبيهةً بكتاب الإمام البخاري رحمه الله؛ حيث إنه ترجم لكل باب، حتى إنه ترجم لكل باب بما يناسبه من الآيات والأحاديث.
ثم إنه لم يُجمع ما يتعلق بهـٰذا الباب من أبواب العلم وهو ما يتعلق بتوحيد العبادة كما جُمِّع في هـٰذا المصنف، فإنك تجد من كلام أهل العلم ما يتعلق بتوحيد العبادة مُفرَّقًا في ثنايا كلامهم، سواءً في التفسير أو في كتب العقيدة، ولكن الشيخ جمع النظير إلى نظيره والشبيه إلى شبيهه، فهـٰذا الكتاب خرج بهـٰذا الشكل البديع، فجزاه الله خيرًا ونفع الله به الأمة.
وهـٰذا الكتاب ألفه الإمام قبل أن يذيع صيتُه وقبل أن تشتهر دعوته، فممَّا قيل: إنه ألفه لَمَّا كان في البصرة يتلقى عن علمائها في رحلته لطلب العلم، ولعل الشيخ - رحمه الله - بدأ الكتاب في البصرة ، وأعاد وأبدأ فيه حتى خرج بهـٰذا العقد البديع والنظم الذي يَعجَب منه المُطالِع من حُسْن تصنيفه وبديع سبكه.
المؤلف - رحمه الله - بدأ هـٰذا الكتاب كسائر أهل العلم بالبسملة تأسيًا بكتاب الله، فإن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- افتتح كتابه بالبسملة، وتأسيًا برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واقتداء بسنته، فإن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يفتتح كتبه بذكر البسملة، وعلى هـٰذا جرى أهل العلم قديمًا وحديثًا يفتتحون كتاباتهم باسم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وقد ورد في هـٰذا حديث ولكنه ضعيف لا يستند إليه في سُنِّية البداءة بالبسملة، وإنما المستند في سنية البداءة بالبسملة في الكتابات إلى كتاب الله وما جرى عليه عمل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وما سار عليه وسلكه سلف الأمة.
والبسملة الكلام فيها مشهور معروف وما أظن أننا بحاجة إلى تكراره فهو متكرر كثيًرا في الكتب، إنما نعرف أن البداءة بالبسملة تبركٌ باسم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وطلبٌ لفتحه ورحمته، يستفتح الإنسان بهـٰذه الأسماء العظيمة التي عنها تصدر الخيرات: باسم الله العظيم، وباسمه الرحمـٰن، وباسمه الرحيم، فإنها اشتملت على ثلاثة أسماء من أسماء الله عز وجل: الله، الرحمـٰن، الرحيم.
ومما يقال في البسملة: إنها جملة مفيدة. هـٰذا اعرفه واضبطه، ثم اعلم أن العلماء اختلفوا: هل هي جملة اسمية أم فعلية؟ ومنشأ خلافهم اختلافهم في التقدير: هل يقدِّرون اسمًا أم فعلاً؟ الذين قدروا الفعل قالوا: لأن الأصل في العمل للفعل، والذين قدروا الاسم قالوا: إن الاسم هو أصل الأفعال، فمنه تشتق الأفعال. والذي عليه جمهور أهل النحو وأهل اللغة أن البسملة جملة فعلية؛ لأنّ المقدر فيها فعل، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أنها جملة اسمية؛ لأنه قدر متعلق البسملة باسم.
ومما يقال أيضًا ويُذكّر به أن هـٰذا الاسم أو الفعل الذي تعلق به الجار والمجرور أفضل ما قيل فيه تقديره بمناسب، أن يكون فعلاً مناسبًا يناسب حال القائل لهـٰذه الجملة: فعند القراءة تقول: باسم الله أقرأ، وعند الذبح تقول: باسم الله أذبح، وعند الأكل: باسم الله آكل... وهلم جرّاً، يكون الفعل المقدر الذي تعلقت به الباء في البسملة فعلاً مناسبًا.. وهكذا.
وأيضًا مما يقال في هـٰذا أنه مؤخر تبركًا بالبداءة باسم الله عز وجل. يكفي هـٰذا فيما يتعلق بالبسملة، الكتب التي تكلمت عن البسملة كثيرة، وكتب التفسير مليئة وكتب أهل العلم مليئة بالحديث عن هـٰذه الجملة، وما ذكرناه هو زبدة وخلاصة يستحضرها طالب العلم عند قراءته للبسملة: أنها جملة مفيدة إما فعلية أو اسمية، تتعلق بفعل مقدر مؤخر مناسب، هـٰذا أبرز ما تستحضره في البسملة، ثم معاني ما تضمنته من الأسماء: اسم الله، واسم الرحمـٰن، واسم الرحيم، هـٰذه تأتي -إن شاء الله تعالى- في ثنايا كلامنا على هـٰذا الكتاب المبارك.
وهنا ابتدأ الشيخ - رحمه الله - ببيان موضوع الكتاب بعد ذكر البسملة فقال: (كتاب التوحيد.)
و(كتاب) على وزن فِعَال بمعنى مفعول أي مكتوب، فالكتاب هنا بمعنى مكتوب، والأصل في الكتاب هو الجمع، فالمؤلف أراد أن يبين أن هـٰذا الكتاب قد جمع ما يتعلق بالتوحيد، والتوحيد المشار إليه هنا هو توحيد الإلهية بالدرجة الأولى، وكذلك توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، فإن المؤلف - رحمه الله - قد تطرّق في هـٰذا الكتاب إلى جميع أنواع التوحيد، فلم يَقْصُره على توحيد الإلهية فقط، بل تكلم عن توحيد الأسماء والصفات وتكلّم عن توحيد الربوبية، وإنما غالب الكتاب في تقرير توحيد الإلهية.
واعلم - بارك الله فيك -أن التوحيد مصدر مأخوذ من وحَّد، وهـٰذا الأصل - وَحَّد - معناه أفرد، فالتّوحيد هو الإفراد أو التفريد، هـٰذا معنى التوحيد في اللغة.
أما في الاصطلاح فأجمع ما قيل في تعريف التوحيد: هو إفراد الله بما يستحقه في الإلهية وفي الربوبية وفي الأسماء والصفات، هـٰذا أجمع تعريف ينتظم أنواع التوحيد.
ومن هـٰذا نعرف أن للتوحيد أقسامًا ثلاثة وهي: توحيد الإلهية أو الألوهية -يصح هـٰذا وهـٰذا-، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات.
وأما توحيد الإلهية فتعريفه المختصر المفيد: توحيد العبادة، فهو إفراد الله بالعبادة: أن لا تعبد مع الله غيره. ويفصل بعض أهل العلم في التوحيد فيقولون: هو إفراد الله -عز وجل- بالعبادة، بأن لا تصرف نوعًا من أنواع العبادة إلى غيره. لكن هـٰذا تطويل في التعريف؛ لأننا إذا قلنا: إفراد، يعني ألا تصرف؛ لأن الإفراد مقتضاه منع الشركة، فالتوحيد هو إفراد الله بالعبادة.
ومن التعاريف التي اشتهرت: إفراد الله بأفعال العباد. لكن يرد على هـٰذا التعريف إشكال، وهو أن أفعال العباد ليست كلها عبادات، منها ما هو أفعال عبادية، ومنها ما هو أفعال عادية كالمعاملات وما يجري في حياة الناس من عادات، لذلك فإن أدقّ تعريف التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، وهـٰذا هو موضوع الكتاب في الأصل.
أما النوع الثاني من أنواع التوحيد فهو توحيد الربوبية، وهـٰذا النوع تعريفه هو: إفراد الله عز وجل بالخلق والملك والتدبير والرّزق، وعرَّفه شيخ الإسلام ببعض هـٰذا فقال: توحيد الربوبية هو أن تعتقد أن الله هو خالق كل شيء ومليكه. ولكن التعريف الذي يجمع توحيد الربوبية هو ما ذكرناه، وهو: إفراد الله بالخلق والملك والتدبير والرزق.
القسم الثالث: هو توحيد الأسماء والصفات، وتعريفه: هو إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الأسماء والصفات، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. من حقق هـٰذا التعريف فإنه قد حصَّل تكميل توحيد الأسماء والصفات.
هـٰذا التقسيم هو المشهور للتوحيد عند أهل العلم.
هناك تقسيم آخر ذكره ابن القيم - رحمه الله - وجاء ذكره أيضًا في كلام شيخ الإسلام - رحمه الله - فقسم التوحيد إلى قسمين: توحيد الإثبات والمعرفة، وتوحيد القصد والإرادة.
هل هـٰذا التقسيم يخالف التقسيم السابق؟ الجواب: لا، لا يخالف؛ لأن التقسيم أمر اصطلاحي وليس أمرًا تعبديًّا منصوصًا لا تجوز مخالفته، إنما هو أمر اصطلاحي، فتوحيد الإثبات والمعرفة يقابل توحيد الأسماء والصفات وتوحيد الربوبية، وتوحيد الإرادة والقصد والطلب هو توحيد الإلهية.
بعد ذكر هذين النوعين من التقسيم للتوحيد يرد سؤال وهو: ما دليلكم على هـٰذا التقسيم؟ هل جاء هـٰذا التقسيم عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ هل جاء عن الصحابة؟ هل جاء في الكتاب أو السنة؟
الجواب: من أسهل ما يكون أن يقال لهم: هـٰذا التقسيم استفدناه من استقراء الأدلة من الكتاب والسنة، فدليله الاستقراء، والاستقراء هو التّتبع، أي: إن أهل العلم تتّبعوا ما ورد من الآيات والأحاديث التي تتكلّم عن التوحيد فصنّفوها إلى ثلاثة أصناف، وقسموها إلى ثلاثة أقسام: قسم يتعلق بتوحيد الإلهية، قسم بالربوبية، قسم بالأسماء والصفات. ونحن نقول: لا مشاحة في الاصطلاح إن أبيتم هـٰذا التقسيم، أهم من إثبات هـٰذا التقسيم الإقرار بمضمونه، وهنا يُسقط في أيديهم؛ لأن المخاصمين الذين شنعوا على المقسمين وقالوا: إن هـٰذا التقسيم بدعة أحدثها شيخ الإسلام ابن تيمية وتبعه عليها محمد بن عبد الوهاب، نقول لهم: دعكم من هـٰذا التقسيم إذا كنتم تأبون، لنتكلم عن مضمونه، هل تقرون بمضمونه؟ إن أقروا بمضمونه فلا خلاف، فيكون الخلاف لفظيّاً لا حقيقيّاً، لكن هم في الحقيقة ينكرونه؛ لأن شيخ الإسلام –رحمه الله- بيَّن وقرَّر تقريرًا واضحًا أن الإقرار بتوحيد الربوبية لا يفيد الإنسان الدخول في الإسلام؛ لأنّ المشركين كانوا يقرّون بتوحيد الربوبية، وكثير ممن ينكر هـٰذا التقسيم عندهم أن معنى لا إلـٰه إلا الله: لا خالق إلا الله، لا قادر على الاختراع، لا صانع إلا الله. فإذا قلت: إن هـٰذا الذي تقولونه أمر قاصر عما جاء به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فإنّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أتى محتجًّا بتوحيد الرّبوبية على إثبات توحيد الإلهية، وهو إفراد الله بالعبادة، وهـٰذا هو السر في تشنيعهم على هـٰذا التقسيم. وإلا لو نظرنا في كلام أهل العلم لوجدنا أنهم أحدثوا من التقسيمات التي تسهِّل العلم على طلابه شيئًا كثيرًا لم يكن على عهد السلف الصالح، الآن أين الدليل في كتاب الله تعالى وسنة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أن الصلاة فيها أركان وشروط وواجبات ومستحبات ومكروهات؟ أين هـٰذا؟ ليس موجوداً.
لو قلنا لهم: أين دليلكم؟ يقولون: دليلنا التتبع. نقول: أنتم تتبعتم في هـٰذا الأمر وتوصلتم إلى هـٰذه النتيجة، ونحن تتبعنا نصوص التوحيد وتوصلنا إلى هـٰذه النتيجة، ولا خلاف بيننا وبين من يوافق في مضمون ما دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة. ثم إنه في الواقع قد ورد هـٰذا التقسيم في كلام المتقدمين من أهل العلم، فليس أول من ذكره شيخ الإسلام - رحمه الله - بل ذكره غيره ممن سبقه، فليس هو ببدعة محدثة تشددون فيها، لكن أنتم عرفتم سبب إنكارهم.
دليل توحيد الإلهية ما سيذكره المؤلف - رحمه الله -، ودليل توحيد الأسماء والصفات الآيات التي لا حصر لها التي فيها إثبات الأسماء والصفات لله عز وجل، ولو لم يكن من ذلك إلا قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾( ) لكان كافيًا في إثبات الأسماء والصفات؛ لأنّ أسماء الله تتضمن صفاته، والدليل الخاص في الصفات قول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾( )، ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾( ).
إذاً عرفنا الأدلة على النوعين، بقي توحيد الربوبية ما دليله؟
توحيد الربوبية أدلته كثيرة، ولكن هناك آية جمعت أركان هـٰذا التوحيد وهي آية سورة يونس: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾( ) الآية.
فهـٰذا خطاب، أمَرَ الله رسوله أن يخاطب المشركين فيسألهم هـٰذا السؤال: ﴿مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾ هـٰذا فيه إثبات الرزق ﴿أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ﴾ هـٰذا فيه إثبات الملك ﴿وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ فيه إثبات الخلق ﴿وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ﴾ فيه إثبات التدبير.
الجواب: مَن الذي سيقول؟ المشركون الذين بعث فيهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ﴿فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ أي: تتقون الشرك، وتذرون ما أنتم عليه من شرك، وتذرون ما أنتم عليه من تكذيب للرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟
ولم يذكر في السياق ما يُتَّقى ليعم كل ما يجب اتقاؤه، كما مضى في قواعد التفسير.
هـٰذه الأنواع الثلاثة هل وردت مجموعة في كتاب الله عز وجل؟
الجواب: نعم، وردت في آية في سورة مريم، وهي قوله تعالى: ﴿رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ وهـٰذا فيه إثبات للربوبية ﴿فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ﴾ وهـٰذا فيه إثبات للإلهية ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾( ) هـٰذا فيه إثبات أسمائه وصفاته، وأنه المنفرد بكمال الأسماء والصفات، معنى الآية أي: هل تعلم له نظيرًا ومثيلاً وشبيهًا؟ تعالى الله عن ذلك.
وبعد هـٰذا التقديم لهـٰذا الكتاب نلج فيما ذكره رحمه الله.
قال: (كتاب التوحيد.)، ثم قال: (وقول الله تعالى.) ولم يجعل المؤلف مقدمة بين يدي كتابه، وهـٰذا ليس بغريب، اكتفى بالبسملة وشرع في مقصوده، وهـٰذا مسارعة منه - رحمه الله - في بيان ما يريد الحديث عنه والكتابة فيه.
قال رحمه الله تعالى: (قول الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾( ).)
من بديع تصنيف المؤلف وبراعة استهلاله أنه بدأ بهـٰذه الآية لأمرين:
الأول: بيان موضوع الكتاب وأنه في توحيد الإلهية.
والثاني: حث القرّاء والمطالعين لهـٰذا الكتاب على العناية بهـٰذا الكتاب وما تضمنه؛ لأنّه هو غاية الخلق والمقصود من الوجود، فالمؤلف يقول: هـٰذا الكتاب يتعلّق بغاية الخلق ومقصود الوجود؛ لأنّ الله تعالى ما خلق الخلق إلا ليعبدوه، فإذا كان كذلك كان هـٰذا حافزًا مشجّعًا على قراءته والاستفادة منه. فإذا قيل لك: الغرض من هـٰذا الكتاب هو بيان غاية الوجود، وأنت لم تدرك هـٰذه الغاية إدراكًا تامًّا، أو لم تدرك سبيل تحقيق هـٰذه الغاية؛ فإنك ستقبل على هـٰذا الكتاب لأجل معرفة كيفية تحقيق الغاية وطرق تحصيلها.
قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ﴾، هـٰذه الآية الكريمة فيها حصر الله الغاية من الخلق بأمر، وهو قوله تعالى: ﴿ليَعْبُدُونِ﴾ يعني حصر الغاية من خلق الجن والإنس بالعبادة فقال سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾. وهـٰذا النوع من أنواع الحصر هو من أقوى أنواعه؛ لأنه نفي وإثبات، فمن أقوى أساليب الحصر النفي والإثبات.
يقول الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ﴾ الخلق هو الإيجاد والتكوين. ﴿الْجِنَّ﴾ هم عالم غيبي خلقهم الله من نار، وهم مكلّفون، وخلقهم سابق لخلق بني آدم، ولذلك قُدِّموا في الذكر هنا، فقُدِّموا على الإنس مع أن الإنس أشرف منهم. وأما ﴿الإنْسَ﴾ فهم بنو آدم وهم البشر، وخص هذين النوعين بالذكر دون سائر المخلوقات لأنهم هم الذين خلقوا للابتلاء، ولأنّ غيرهم من الخلق مسخَّر لهم، فما في الدنيا والآخرة من المخلوقات جعلها الله مسخرةً لهذين الصنفين الجن والإنس.
قال: ﴿إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ هـٰذا حصر، والحصر هنا من أجل عموم المقاصد والأغراض، يعني لم يخلقهم لشيء إلا لعبادته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، هـٰذا حصر من عموم الأغراض والمقاصد.
لكن اعلم - بارك الله فيك - أن الغرض من الخلق نوعان: هـٰذه الآية بينت الغاية المرادة بالخلق، لو قيل لك: ما الغاية المرادة بالخلق؟ تقول: العبادة.
قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾( )، هـٰذه بينت الغاية من الخلق أيضًا، فإن ملك الله عز وجل وخلقه لما في السمٰوات والأرض لماذا؟ ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ وهـٰذه هي الغاية التي تراد من الخلق. عندنا قسمان: الغاية من الخلق عبادة الله، والغاية التي يصير إليها الخلق هي الجزاء على الأعمال؛ الإحسان بالإحسان والإساءة بما يليق بها، فعندنا غاية مطلوبة وغاية ينتهي إليها الأمر: الغاية المطلوبة هي العبادة، والغاية التي ينتهي إليها الأمر هي قوله عز وجل: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾( ). فالناس صائرون إلى هـٰذا المآل كما دلّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾( ). ففهم من هـٰذا أن الحصر هنا للأغراض المطلوبة من الخلق، فإنما أُوجِدوا وخُلقوا لتحقيق العبودية لله عز وجل، وقوله: ﴿لِيَعْبُدُونِ﴾ اللام هنا للتعليل، ويعبدون أي يوحدون كما قال ابن عباس وغيره من المفسرين، فالعبادة هنا هي التوحيد.
والعبادة في الأصل معناها اسم جامع لكمال المحبة لله وكمال الذل له. عرَّفها شيخ الإسلام بهـٰذا التعريف في بعض كلامه، وهو تعريف يجمع ركني العبادة اللذين ترجع إليهما جميع الصور، فكل ما شرع من العبادات لتحقيق هذين: المحبة والذل، وبهما تقوم العبادة ولا تقوم العبادة إلا بهما، ولذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) ( ) نعوذ بالله وعيد شديد، مثقال ذرة هل نرى هـٰذا المثقال؟ يعني وزن الذرة، والذرة قد لا تدركها ببصرك، فإذا كان في قلب العبد وزن ذرة من كبر منعه ذلك من دخول الجنة حتى يخلص من هـٰذا الكبر الذي في قلبه؛ لأن الجنة دار العباد، والكبر هو المعارض الأكبر للعبادة، لذا ينبغي أن يعالج المرء قلبه؛ لأنّه من أعظم أسباب تخلّف العبودية لله جل وعلا.
إذن نعود؛ ما هي العبادة؟ اسم جامع لكمال المحبة ولكمال الذل له سبحانه، وبهما تتحقق للعبد العبودية لله عز وجل.
التعريف الآخر المشهور هو ما ذكره ابن تيمية: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال، الظاهرة والباطنة، الواجبة والمستحبة. فالله عز وجل خلق الخلق لهـٰذا.
وأعظم ما تتحقق به العبودية هو التوحيد، فمن لا توحيد له لا عبودية له، فلو أن رجلاً صلَّى وصام وزكَّى وحج وفعل شرائع الدين؛ لكنه أشرك مع الله غيره، لم يُفرد الله بالعبادة، ما مصيره؟ مصيره: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾( ). نعوذ بالله من الخسران، لا يحصِّل من هـٰذا شيئاً مهما كان، ولذا لما سألت عائشة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن عبد الله بن جدعان قالت: يا رسول الله! على ما كان عليه من خير في الجاهلية هل ينفعه ذلك يوم القيامة؟ قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (( لا، إنه لم يقل يومًا من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)) ( ) أي: إنه كان يكذّب بالبعث والحساب، فما نفعه مع ما كان عليه من خير من إحسان وصدقة، ولذا كان من فقه ابن عباس ودقيق علمه وفهمه لكتاب الله أن فسَّر العبادة هنا بالتوحيد.
واعلم أنه كلّما رسخ التوحيد في قلب العبد وثبت كان ذلك سببًا للإتيان ببقية شرائع الدِّين، ولذلك قال الله في يوسف: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾( ) وفي قراءة: ﴿الْمُخْلَصِينَ﴾. ﴿الْمُخْلِصِينَ﴾ يكون من فعله و﴿الْمُخْلَصِينَ﴾ يكون من اصطفاء الله له، واصطفاء الله له لا يكون إلا لأنه حقق التوحيد، فالقراءتان تبين إحداهما الأخرى، فهـٰذه الآية بيان لسبب خلق الجن والإنس وهو أنه للعبادة.
ثم قال رحمه الله: (قوله: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾( ).) هـٰذه ثاني آية في هـٰذا الكتاب، وفيها بَيَّن المؤلف - رحمه الله - أن الله عزّ وجل إنما بعث الرسل لتقرير هـٰذه الغاية التي خلق الخلق لأجلها، فإن الله تعالى لما أنزل آدم وحواء إلى الأرض ظل هو وزوجته والناس من بعده على التوحيد عشرة قرون، فلما حدث الشرك بعث الله عز وجل الرسل ليقيموا الناس على الصراط المستقيم، وليردّوهم إلى عبادة الله، فبعث الله عزّ وجل الرسل لما تخلّفت هـٰذه الغاية ولما حصل اختلال في تحقيقها، قال: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا﴾ أي أرسلنا، والبعث أصله الإثارة، بعثتُ الشيء أي أثرته، فبعث الله عز وجل في كل أمة -وهـٰذا يشمل جميع الأمم الماضية، فإنه ما من أمة إلا خلا فيها نذير، بعث الله فيها- رسولاً، ماذا يفعل؟ ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾، ﴿أَنْ﴾ هنا تفسيرية؛ لأنها جاءت بعد البعث الذي فيه معنى القول دون حروفه، (أن) التفسيرية تأتي بعد فعل مُحْتَوٍ على معنى القول دون حروفه، فالبعث هنا لأجل أي شيء؟ ليقول لهم: ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾. فأمرهم بأمرين متلازمين لا يقوم أحدهما إلا بالآخر: ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾. وهـٰذا فيه طلبهم بإفراد العبادة، طلب منهم أن يفردوا الله بالعبادة، ثم قال: ﴿وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ أي اجعلوا الطّاغوت في جانب وأنتم في جانب، فاجتناب الشيء لا يتحقق إلا إذا جعلت الشيء المجتنب في جانب وأنت في جانب، يعني أنت في طرف وهو في طرف، وهـٰذا معنى ﴿وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾.
﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ أعظم ما يعبد الله به التوحيد، ولذلك (من قال: لا إلـٰه إلا الله دخل الجنة)؛ لأنها مفتاح التوحيد وأصل التوحيد وكلمة التوحيد، ولكن المقصود بالقول هنا القول الذي يوافقه القلب، لا القول الذي يخالفه القلب والفعل والقول، فقوله: ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ هـٰذا فيه دعوتهم إلى التوحيد، فجميع الرسل جاؤوا بهـٰذه الدعوة : ﴿وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ فيه أن الرسل اتفقوا على النهي عن عبادة الطاغوت، فما هو الطاغوت؟ الطاغوت مأخوذ من الطغيان، والفعل طغى هو المجاوزة، أصله تجاوز الحد، إذا تجاوز الإنسان حدّه كان طاغية أو نقول: قد طغى، والطّاغوت على وزن فعلوت صيغة مبالغة.
وأحسن ما قيل في تعريفه أنه: اسم جنس لكل ما عُبد من دون الله أو دعا الناس إلى ضلالة. هـٰذا أجمع وأحسن ما قيل في تعريف الطاغوت.
وما في كلام العلماء المتقدمين من تعريف الطاغوت بالشيطان أو بالساحر أو بالكاهن إنما هو تفسير بالمثال، لكن المعنى الجامع لجميع هـٰذه الصور هو ما ذكرناه، وقد ذكر شيخ الإسلام في تعريف الطاغوت فقال: هو اسم جنس للشيطان والكاهن والدرهم والدينار؛ لأنّ الدرهم والدينار يحملان الإنسان على التخلف عن العبادة، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميلة، تعس عبد القطيفة)) ( ) فكل هـٰذه إذا حملت الإنسان على المجاوزة جعلته قد طغى وتكون هي طاغوتًا.
إذن يكون عندنا تعريفان: تعريف شيخ الإسلام: اسم جنس للشيطان والوثن والكاهن والدرهم والدينار وغير ذلك، عرفه غيره بقوله: اسم جنس لمن عُبد من غير الله أوكان رأسًا في الضلالة. هـٰذا تعريف، وفيه آخر قال: أو لمن دعا الناس إلى ضلالة. والتعريف الأخير أشمل.
فالله في هـٰذه الآية أمر المؤمنين باجتناب الطاغوت وكل شيء يحملهم على الطغيان والخروج عن حد العبودية، ولذا قال ابن القيم في تعريف الطاغوت: ما تجاوز به العبد حده، أي ما حده له الشرع من معبود أو متبوع أو مطاع، كل هـٰذه التعريفات تصب في معنى واحد.
والخلاصة: أن الشيخ ساق هـٰذه الآية لبيان اتفاق الرسل على دعوة التوحيد، وأنهم جاؤوا يدعون الناس إلى عبادة الله وحده وترك عبادة غيره.
ثم قال - رحمه الله -: (وقوله: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾( ).) في هـٰذه الآية يُخبر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقضاءٍ قضاه وهو ما بينه في قوله: ﴿أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا..﴾. إنما الشاهد في قوله: ﴿أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ﴾. وقضاء الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- نوعان: قضاء كوني قدري، وقضاء شرعي ديني. هـٰذا الذي في الآية هو من النوع الثاني، من القضاء الشرعي الأمري الديني، أي ما يتعلق بما يحبه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، أما النوع الثاني وهو القضاء الكوني فذاك ما قدره وقضاه كونًا وهو لا يتعلق بمحبته، بل يتعلق بحكمته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، ومنه ما ذكره الله في كتابه في سورة الإسراء: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾( ). ومعلوم أن الفساد في الأرض مما يبغضه الله ويكرهه، فالقضاء في ذلك الموضع هو القضاء الكوني القدري.
ومقصود المؤلف - رحمه الله - من سياق هـٰذه الآية بيان أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قضى وحكم وقدر شرعًا ألا يُعبد إلا هو -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فكما أنه –سبحانه- خلق الخلق لعبادته وأرسل الرسل للدعوة إلى عبادته وحده لا شريك له فإنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قضى شرعًا ألا يُعبد إلا هو، فمن عبد غيره فإنه قد خالف حكم الله الشرعي.
وقوله: ﴿أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ﴾ المراد بالعبادة هنا جميع ما أمر الله به من العبادات الواجبة والمستحبة الظاهرة والباطنة، وهو اسم لكمال المحبة وكمال الذّل والتعظيم لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كما تقدّم. ولاحظ في هـٰذا الموضع كما في سائر المواضع التي فيها تقرير التوحيد أنه يأتي بصيغة الحصر، وصيغ الحصر متنوِّعة، هنا أتى بصيغة النّفي والإثبات وهي من أقوى صيغ الحصر، والحصر إما أن يكون بصيغة لفظية أو بأمر معنوي، فالذي في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾. الحصر هنا معنوي؛ لأنه لما أمر بعبادته وأمر باجتناب الطاغوت عُلم بأنه أمر بعبادته وحده لا شريك له.
ثم بعد أن فرغ من ذكر حقه -جل وعلا- ذكر أعظم الحقوق بعد حقه وهو حق الوالدين، فقال سبحانه: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾. والذي يهمنا هنا في هـٰذه الآية فيما يتعلق بدرسنا القضاء الأول، وهو قضاء الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- على عباده بالتوحيد وإفراده بالعبادة.
ثم قال رحمه الله: (وقوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾.)
أيضًا في هـٰذه الآية أمر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بعبادته وحده فقال: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ﴾. ثم أكّد انفراده بالعبادة وأنها لا تكون لغيره بقوله: ﴿وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾، وهـٰذا نهي عن الشرك بجميع صوره؛ لأن قوله: ﴿شَيْئًا﴾ نكرة في سياق النهي، والنّكرة في سياق النهي تُفيد العموم، فيشمل الشرك الأصغر والأكبر، ويشمل الشرك الفعلي والقولي والقلبي، ويشمل الشرك بمن له جاه ومنزلة عند رب العالمين وبمن ليس كذلك، ويشمل الشرك بالأحياء والأموات والجوامد. المهم أنه نهيٌ عن جميع صور الشرك؛ لأن قوله: ﴿شَيْئًا﴾ نكرة في سياق النفي، وفائدة هـٰذه الآية زيادة على ما تقدم في قوله: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ﴾ أن التوحيد هو أمره؛ فكما أنه قضاؤه -وقضاؤه ملزم- إلا أنه لم يكتف بذلك -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، بل صرح بالأمر به، فكان التوحيد غاية الوجود، وهو أيضًا دعوة الرّسل، وهو أيضا قضاء رب العالمين، وهو أمره جل وعلا.
ثم قال رحمه الله: (وقوله: ﴿قَلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾.)
هـٰذه الآية فيها أمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يدعو المشركين، فقل يا محمد: ﴿تَعَالَوْا﴾. الخطاب للمشركين الذين كفروا بالله وأبوا دعوة التوحيد، وهـٰذه آية من سورة الأنعام، ومعلوم أن سورة الأنعام من السور التي كثر فيها جدال المشركين وبيان ما هم عليه من كفر وتكذيب وإقامة الحجة عليهم. ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ فهـٰذا هو الذي أوصاهم به -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وهو ألا يشركوا به شيئًا، وهـٰذا فيه بيان أن صرف التوحيد لغير الله -وهو ما يضاد التوحيد ويقابله- نهى الله عنه، فالآية السابقة فيها أنّ التوحيد أمره -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وفي هـٰذه الآية أن التوحيد نهى -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عما يضاده ويخالفه، فقال: ﴿أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾. وهـٰذه الآية كثر الكلام في تركيبها، ونُرجئ الكلام عليها إلى درس التفسير حتى ما يطول بنا المقام، لكن اعلم أن قوله: ﴿أَلا تُشْرِكُوا﴾ لأهل العلم فيه قولان:
منه أنه جملة تفسيرية؛ لأنها جاءت بعد ما فيه معنى القول دون حروفه، وهو قوله سبحانه: ﴿أَتْلُ﴾ والتلاوة قول.
ومنهم من قال: إنها مصدرية.
ومنهم من قال: إن قوله: ﴿مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ مضمن معنى الوصية، فالمعنى: تعالوا أتل ما وصاكم الله به.
ومنهم من قال: إنه مقدر، قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم وأوصاكم ألا تشركوا به شيئاً.
أقوال كثيرة، وأهم ما علينا أن نعرف أن المقصود من سياق هـٰذه الآية هو النهي عن الشرك، وأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- جعله بين يدي أصول المحرمات، فإن هـٰذه الآية فيها ذكر أصول ما حرمه الله على الأمم على اختلاف أنواعها وأزمانها وشرائعها، فإنها تضمنت أصول المحرمات. ونظير هـٰذه الآية ما ذكره الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في سورة الأعراف في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ...﴾ الآيات إلى قوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾( ). فإن السياق هناك مشابه للسياق هنا في ذكر ما حرمه الله عز وجل من أصول المحرّمات في جميع الأمم. ونظيره ما في سورة الإسراء في قوله: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾. فهـٰذه ثلاثة مواضع في القرآن ذكر فيها أصول المحرمات، كلها ابتدئت بذكر التوحيد والنهي عن الشرك، مما يدلّ على أن أعظم ما أمر الله به التوحيد، وأعظم ما نهى الله عنه الشرك، وهـٰذا يوجب على المرء أن يتعلم التوحيد وأن يعرف الشرك: يتعلم التوحيد ليعمل به، ويعرف الشرك ليحذره ويتجنّبه وينأى عنه. ثم قال: (إلى قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هـٰذا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا﴾) وهـٰذه الآيات ذكرنا أنها تضمنت أصول المحرمات.
وبعد ما ساق الشيخ - رحمه الله تعالى - الآيات التي تضمنت أهمية ما تضمنه هـٰذا الكتاب، وعظم شأن التوحيد، أتى بآثار تبين أيضًا أهمية هـٰذا الأمر وعظم شأنه.
فذكر أولاً حديث ابن مسعود، (قال ابن مسعود: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ إلى قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾).
قول ابن مسعود: (من أراد أن ينظر) أي: من أحب ورغب (أن ينظر إلى وصية محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)، الوصية هنا ليست الوصية الاصطلاحية عند الفقهاء وهي الأمر بالتصرف بعد الموت، إنما المراد بالوصية هنا ما هو أعم من ذلك، وهو العهد بالشيء، فقول ابن مسعود: (من أراد أن ينظر إلى وصية محمد) أي: ما عهد به إلى أمته وما أمرهم به وما كرره عليهم، فهو من قبيل الوصايا القولية، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يترك وصية مكتوبة، بل لما هم أن يكتب لهم كتابًا وقع الاختلاف بين الصحابة في الكتابة، فتركها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يكتب شيئًا. فقول ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: (إلى وصية محمد التي عليها خاتمه). يعني: التي لو كان موصيًا خاتِمًا لأوصى بها، وذكر الخاتم هنا لأن الغالب فيما يعتنى به من الأمور أن يُمهر ويختم، وهـٰذا يشعر بأن ابن مسعود يرى أن ما تضمنته هـٰذه الآيات من أهم ما كان يأمر به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهي كذلك، فهي وصايا عظيمة تكفل سعادة الخلق في الدارين: سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
إنما المراد أن هـٰذه الوصايا التي أشار إليها ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بدأت بالنهي عن الشرك: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾، فدل ذلك على أهمية هـٰذه الوصية وعلى أهمية هـٰذا الأمر ووجوب الحذر منه، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يكرر على أصحابه التحذير من الشرك والأمر بالتوحيد إلى آخر رمق -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهو كذلك، وسيأتي –إن شاء الله تعالى- بيان هـٰذا الأمر وعناية النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتقرير التوحيد وصيانة جنابه في كلام الشيخ.
ثم بعد أن ذكر هـٰذا الأثر، وهو أثر اختلف العلماء في تحسينه: فمنهم من حسنه، ومنهم من ضعّفه. والذين حسنوه حسنوه لأنهم رأوا أنه من طريق داود الأودي، وهو داود بن عبد الله الأودي الثقة. وعلى كل حال فالأثر عن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فهو مطابق من حيث المعنى، فإن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ختم ما ذكر في كتابه في هـٰذه الآيات بقوله: ﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ﴾. فهي وصية الله جل وعلا، ومعلوم أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لو كان موصيًا بشيء لأوصى بما أوصى به الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
ثم ذكر بعد ذلك في آخر هـٰذا التقديم لهـٰذا المقطع من كتابه: (وعن معاذ بن جبل -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: كنت رديف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على حمار). الرديف هو الذي يَركب في الخلف (فقال لي: ((يا معاذ!))). القائل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ((يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟))لم يذكر معاذ إلى أي شيء كانا ذاهبين هو ورسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إنما ذكر أنه كان معه على هـٰذه الصفة، وأن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سأله هـٰذا السؤال: ((ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟)) وهما سؤالان. (قلت: الله ورسوله أعلم) أجاب معاذ بن جبل بهـٰذا الجواب، وهو جواب متكرّر من صحابة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في كثير من الأسئلة التي يوردها عليهم: (الله ورسوله أعلم). وفيه رد العلم إلى عالمه، فإنه رد علم ذلك إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وإلى رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقال مبينًا: ((حق الله أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا)) إفراده بالعبادة، هـٰذا حق الله على عباده: إفراده بالعبادة، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا كائنًا ما كان، وهـٰذا فيه ما تقدم من المعنى الذي قررته الآيات السابقة من وجوب إفراد الله بالعبادة وحده لا شريك له، وهـٰذا واضح. ثم قال: ((وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً)). هـٰذا حق العباد على الله، فحقّهم إذا قاموا بما أمروا به أن يجزيهم هـٰذا الجزاء: أن يؤمنهم من العذاب، وليس الأمر واقفًا عند التأمين من العذاب، بل فضل الله واسع، فإن أمْنهم من العذاب سبب لدخول الجنة أو يتضمّن دخول الجنة، وإن كان الإنعام يحصل بالأمرين: التأمين من العذاب نعمة، ودخول الجنة نعمة. ولذلك لما يسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أهل الجنة: ((إن لكم موعداً يريد أن ينجزكموه. فيقولون: ألم يبيض وجوهنا؟ ألم يدخلنا الجنة؟ ألم يجرنا من النار؟)).( ) فالنجاة من العذاب منّة تذكر، فقوله في هـٰذا الحديث: ((ألا يعذب من لا يشرك به شيئًا)). يتضمّن الأمن من العذاب ودخول الجنة، لكنّه اهتم في السياق بذكر الأمن من العذاب؛ لأن الذي أمن من العذاب فمآله النعيم والجنة.
لكن من الذي يأمن من العذاب؟ من لا يشرك به شيئًا، سواءٌ كان شركًا أصغر أو شركًا أكبر؛ لقوله: ((شيئًا)) وهو نكرة في سياق النفي. واعلم أن العذاب مختلف باعتبار الشرك، فالشرك الأكبر عذابه دائم لا انقطاع له: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾( ). وأما الشرك الأصغر فيحاسب عليه صاحبه ويذوق من العذاب ما يقابله، ثم بعد ذلك مآله إلى الجنة. فقوله: ((لا يعذب من لا يشرك به شيئًا)). هنا نفي أصل العذاب بنوعيه العذاب الأكبر والأصغر، العذاب الدائم والعذاب المنقطع.
ثم قال: (قلت: يا رسول الله! أفلا أبشّر الناس؟). وهـٰذا سؤال غريب، ولكنه يدل على دقة فهم معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-. وجه غرابة هـٰذا السؤال أن الأصل فيما يبلغ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يبلغ أو أن يكتب، لذلك دعا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمن سمع حديثه وبلغه وقال: ((بلغوا عني ولو آية)). لكن معاذاً -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لما سمع الحديث من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان عميق الفقه خشي أن يكون في الإخبار به مفسدة، فسأل عن الإخبار فقال: أفلا أبشرهم؟ ثم انظر: الإخبار هنا ليس الإخبار الشخصي فيما يظهر، بل هو التبشير وهو إظهار البشارة، ولا يكون كذلك في الغالب إلا على وجه العموم، ولذا قال: (أفلا أبشر الناس؟) أي أخبرهم على وجه العموم؟ فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لا تبشرهم فيتكلوا)). فنهاه عن تبشيرهم خشية أن يركنوا ويتكّلوا ويعتمدوا على مثل هـٰذا الحديث، فيكون سببًا في وقوعهم في ما لا تحمد عقباه من التقصير في حقوق الله سبحانه. وبهـٰذا يكون قد انتهى الحديث الذي ساقه المؤلف - رحمه الله - لبيان فضل التوحيد.
وفائدة هـٰذا الحديث: أنّ التوحيد حق الله، ومن أشرك فقد نقص الله حقه، ومن نقص الله حقه فإنه لا يأمن من عذابه وعقابه. ثم انظر في هـٰذا الحديث: حيث بدأ بحق الله قبل حق العباد، وسبب ذلك: لأن حق العباد مرتب على حق الله، فإنه لا ينال حق العباد على الله إلا إذا أوفوا الله حقه. أيضًا بدأ بحق الله قبل حق الناس؛ لأن الغالب في الناس المطالبة بحقوقهم والاشتغال بطلبها عن حقوق غيرهم، فقدم الإخبار بحق الله على الإخبار بحق العباد لكون الناس تشتغل أنفسهم بطلب ما لهم، وأما ما عليهم فإنهم يغفلون عنه، فقدمه لأهميته ولشحذ الهمم للوفاء بهـٰذا الحق.
واعلم أن إثبات حق الله على عباده لا خلاف فيه بين أهل القبلة، فالجميع يثبت حق الله على عباده، وأما حق العباد على الله فهـٰذا اختلف فيه أهل القبلة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: قول المعتزلة، وهو: أن على الله حقوقًا لعباده، لكن هـٰذه الحقوق تثبت بالعقل والقياس والاعتبار والنظر. وهـٰذا قول مجانب للصواب، لماذا؟ لقوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾( ) فهو لا يقاس بعباده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ فيما يجب له وفيما يمتنع عليه وفيما يجوز عليه، فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ لا يقاس بعباده في شيء من الأشياء، ولذلك إثبات الحق بالعقل بناء على القياس، فهم يقيسون ما يجب عقلاً بين الخلق، ويقولون: يجب على الخالق أن يفعل كذا وألا يفعل كذا. وهـٰذا مردود.
القول الثاني: قول من يقول: لا يجب عليه حق بالكلية، وإنما نعرف ما يفعل من خبره وما يقع. وهؤلاء هم الأشاعرة.
القسم الثالث: هم أهل السنة والجماعة - جعلنا الله وإياكم منهم - الفرقة الناجية قالوا: نثبت ما أثبته الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- على نفسه من الحقوق، وليس للعقل مجال في إثبات ما لم يرد في النص، بل نقتصر في ذلك على ما دلّت عليه النصوص، هـٰذا من جهة؛ أيضًا من جهة أخرى يقولون: هـٰذا الحق الذي نثبته، هـٰذا الاستحقاق هو استحقاق إنعام وفضل لا استحقاق مقابلة، فإن الله -عز وجل- أوجب على نفسه ذلك تكرمًا منه وإحسانًا بالخلق، ولذلك قال الناظم:
ما للعباد عليه حق واجب
إن عذبوا فبعدله أو نُعِّموا
كلا ولا سعي لديه ضائع
بفضله فهو الكريم الواسع
إن عذبوا فبعدله أو نعموا
فبفضله وهو الكريم الواسع
سبحانه وبحمده، ولذلك الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا يخاف جوره بل يخاف عدله، ويؤمّل ويرجى فضله، بخلاف غيره، فإنه يخاف جوره -ظلمه-، فإن الله قد حرم الظلم على نفسه وجعله بين خلقه محرمًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا﴾( ). إنما يخاف عدله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فلو أجرى قانون العدل في خلقه كان ذلك سببًا لهلاكهم؛ لأنه مهما كان فعل العبد فلا يوفّي ما ينبغي أن يقوم به لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
العلماء ذكروا أجوبة عن سبب تحديث معاذ بهـٰذا الحديث، مع أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((لا تبشّرهم)). فقالوا: إنه أخبر به تأثمًا خشية كتمان العلم، وقيل: أخبر به لما استقرت شرائع الدين وأمن من المحظور في قوله: ((فيتكلوا)). وقيل: أخبر به -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يمنعه ابتداءً، إنما أخبره بالخبر ثم أشار عليه بألا يبشِّر لما سأله: هل أبشر الناس أو لا؟ وهـٰذا الجواب فيه ضعف.
وعلى كل حال أخبر به اجتهادًا. ولا حجة فيه للمستهترين الذين يقولون: يكفي في التوحيد قول اللسان؛ لأن حق الله -عز وجل- عظيم والتوحيد أصله، ولا يعني أنه ليس له إلا ذلك وليس على العبد إلا هـٰذا، بل هـٰذا أصل الحقوق، وبقيّتها بينتها النصوص في القرآن والسنة بيانًا واضحًا شافيًا.
[المتن]
فيه مسائل:
الأولى: الحكمة في خلق الجن والإنس .
[الشرح]
وهي العبادة: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾.
[المتن]
الثانية: أن العبادة هي التوحيد؛ لأن الخصومة فيه.
[الشرح]
وذلك في قوله: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً﴾.
[المتن]
الثالثة: أن من لم يأت به لم يعبد الله، ففيه معنى قوله: ﴿وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾.
الرابعة: الحكمة في إرسال الرسل.
الخامسة: أن الرسالة عمّت كل أمة.
السادسة: أن دين الأنبياء واحد.
[الشرح]
لأن جميعهم بعثوا بـ: ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾.
[المتن]
السابعة: المسألة الكبيرة أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت، ففيه معنى قوله: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ﴾( ) الآية.
[الشرح]
﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ فالاستمساك بالعروة الوثقى مرتّب على أمرين، وهما:
الكفر بالطاغوت- وهو الكفر بكل ضلالة وبكل شرك-.
وعلى الإيمان بالله، ورأس الإيمان بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- توحيده.
[المتن]
الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عُبد من دون الله.
[الشرح]
هـٰذا تعريف الشيخ - رحمه الله – للطاغوت: أنه عام لكل ما عُبد من دون الله، وذكرنا لكم أنه اسم جامع لكل ما عبد من دون الله ولكل من دعا الناس إلى ضلالة.
[المتن]
التاسعة: عظم شأن الآيات الثلاث المحكمات في سورة الأنعام عند السلف.
[الشرح]
وجه ذلك قول ابن مسعود: (من أراد أن ينظر إلى وصية محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التي عليها خاتمه فليقرأها). وهـٰذا بيان عنايتهم بها، وهي حَرِية وجديرة بذلك؛ لما فيها من أصول السعادة في الدنيا والآخرة، ونظيرها ما في سورة الأعراف وما في سورة الإسراء.
[المتن]
وفيها عشر مسائل: أولها النهي عن الشرك.
العاشرة: الآيات المحكمات في سورة الإسراء، وفيها ثماني عشرة مسألة، بدأها الله بقوله: ﴿وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولاً﴾ وختمها بقوله: ﴿وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا﴾ ونبهنا اللهُ –سبحانه- على شأن هـٰذه المسائل بقوله: ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ﴾.
الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة، بدأها الله تعالى بقوله: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾.
[الشرح]
ضم لهـٰذه الثلاثة المواضع ما في سورة الأعراف، فإنه قريب من هـٰذه في جمعها لأصول المناهي والأمر بما فيه السّعادة، وذكرنا لكم مبدأها في قوله: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ﴾ إلى نهاية قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ﴾. نص على هـٰذا شيخ الإسلام وابن القيم رحمهما الله، ولو تأملتها لوجدتها مطابقةً للمواضع السابقة في سورة النساء والأنعام والإسراء.
[المتن]
الثانية عشرة: التنبيه على وصية رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند موته.
الثالثة عشرة: معرفة حق الله علينا.
[الشرح]
شيخ الإسلام كأنه يشير إلى أن هـٰذه الوصية كانت عند موته، ولا شك؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى آخر حياته كان يحذر من الشرك، فمما حُفظ عنه في آخر أيامه قوله –عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-: ((لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)). .( ) ولعل الشيخ يشير إلى قول بعض أهل العلم: إن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لو أراد أن يوصي لأوصى بهـٰذه الآية عند موته. وقد ذكرنا لكم أن الوصية هنا هي ما أمر به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قولاً وكرّره وعهد به إلى الناس.
[المتن]
الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه.
الخامسة عشرة: أن هـٰذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة.
[الشرح]
وجه ذلك أن معاذاً -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: (أفلا أبشر الناس؟). ولو كانت شائعة لما سأل هـٰذا السؤال، ولما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ((لا تبشرهم)). فدلّ ذلك على أنها ليست مما عم العلم به.
[المتن]
السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة.
[الشرح]
هـٰذا صحيح، وليس كل كتم للعلم ممنوعاً مذموماً، بل منه ما هو محمود، بل منه ما هو واجب كما قال ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ما أنت محدث قومًا بحديثٍ لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم.
[المتن]
السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره.
الثامنة عشرة: الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله.
[الشرح]
هـٰذا يأمن منه الإنسان بالنّظر إلى ما جرى عليه فعل الله -عز وجل- في بعض من عاقبه، فإن آدم عليه السلام أخرجه الله من الجنة بخطيئة، فلا يأمن الإنسان من مواقعة السيئات ويقول: أستند إلى سعة رحمة الله وفضله. فما أدراك أن فضله يدركك وأنك أهل له؟ فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أعلم بأهل الفضل، الله أعلم بالمهتدين، وهو أعلم حيث يمن ويرحم -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فينبغي للمؤمن أن يكون على حذر.
[المتن]
التاسعة عشرة: قول المسؤول عما لا يعلم: الله ورسوله أعلم.
[الشرح]
أما إذا كان في مسائل الشريعة فلا إشكال؛ أنه يقول ذلك في حياة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبعد موته، إذا سئل الإنسان مسألة من مسائل الدين والشرع وهو لا يعلمها فيقول: الله ورسوله أعلم، في حياة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبعد موته.
أما بعد موته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مسائل الكون فإنه لا يضاف العلم إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بل يضاف العلم إلى الله وحده، وكذلك في حياته في ما لا يدركه عادة من أمور الكون، فلا يقال: الله ورسوله أعلم، لم يرد مثل هـٰذا إلا في مسائل الأخبار الدينية الشرعية، أما الأخبار العادية الكونية فإنه لا يعلمها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فيميز بين مسائل الشرع ومسائل الكون.
[المتن]
العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض.
الحادية والعشرون: تواضعه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لركوب الحمار مع الإرداف عليه.
الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة.
الثالثة والعشرون: فضيلة معاذ بن جبل.
الرابعة والعشرون: عظم شأن هـٰذه المسألة.
شرح
كتاب التوحيد
الذي هو حق الله على العبيد
لشيخ الإسلام والمسلمين مجدد الدين
محمد بن عبد الوهاب التميمي المشرفي
- رحمه الله تعالى-
لفضيلة الشيخ
الدرس الثاني
www.almosleh.com
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
[المتن]
باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب
وقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾( ).الآية
عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((من شهد أن لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)). أخرجاه. ( )
ولهما في حديث عتبان: ((فإن الله حرم على النار من قال: لا إلـٰه إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)).( )
وعن أبي سعيد الخدري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((قال موسى: ياربِّ علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به؟ قال: يا موسى قل: لا إلـٰه إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقولون هـٰذا. قال: يا موسى، لو أن السمٰوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إلـٰه إلا الله في كفة، مالت بهن لا إلـٰه الله)). رواه ابن حبان، والحاكم وصححه. ( )
وللترمذي وحسنه عن أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: ((قال الله تعالى: يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)). ( )
[الشرح]
هـٰذا هو الباب الثاني، أو هـٰذا هو أول باب ذكره المؤلف رحمه الله بعد المقدمة، فإن في المقدمة التي قدم بها بعد ذكره لعنوان الكتاب أنه كتاب التوحيد بين مضمون الكتاب وأنه يبحث في الغاية من الوجود، ويبحث فيما بعث الله الرسل من أجله، ويبين حق الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- على عباده. ثم في هـٰذا الباب أتى المؤلف -رحمه الله- ببيان فضل التوحيد؛ ليشجع على تحقيقه والعمل به والأخذ به والبعد عن ضده، ولا يمكن لأحد أن يحصّل هـٰذه الفضائل إلا بعد العلم به، فإن العلم بالتوحيد هو سبيل العمل به، وإذا عمل به الإنسان حصّل ما رتّب الله -عز وجل- من الفضائل على التوحيد.
قال رحمه الله: (باب فضل التوحيد). أي: باب بيان فضل التوحيد، فالمؤلف رحمه الله جعل هـٰذه الترجمة مدخلاً لبيان ما امتاز به التوحيد وما فضل به عن سائر العمل. ثم قال رحمه الله: (وما يكفر من الذنوب.)
التوحيد في قوله: (باب فضل التوحيد) في الأصل المراد به توحيد الإلهية، وإذا قلنا: توحيد الإلهية فإنه يتضمن توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، فإن من حقق توحيد الإلهية لا بد أن يكون حقق نوعي التوحيد: توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، فهـٰذا الفضل لتوحيد الإلهية الذي لا سبيل إلى تحصيله إلا بتحصيل توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، فهـٰذا فضل التوحيد بجميع أنواعه، فالفضل للتوحيد بجميع أنواعه للغاية والوسيلة.
قال: (وما يكفر من الذنوب).
(ما) هنا أحسن ما قيل فيها أنها مصدرية، يعني والتقدير: وتكفيره الذنوب، باب فضل التوحيد وتكفيره الذنوب.
ويصح أن تكون (ما) موصولة ويكون المعنى: والذي يكفره من الذنوب.
ويصح أن تكون استفهامية ويكون المعنى السؤال عن: ما الذي يكفره التوحيد من الذنوب.
لكن أقوى هـٰذه المعاني وأبلغها هو أن تكون مصدرية؛ لأن المصدرية تفيد أن التّوحيد يكفر جميع الذنوب، وهـٰذا هو الواقع، فإن التوحيد يكفر جميع الذنوب ويحط جميع الخطايا، كما دلّ عليه حديث أنس الذي ذكره المصنف في آخر هـٰذا الباب في الحديث الإلهي: ((قال الله تعالى: يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)).
وهـٰذا واضح في أنّ التوحيد تتلاشى بجانبه الذنوب. ويشهد له أيضًا حديث صاحب البطاقة فإنه يؤتى ببطاقة فيها: لا إلـٰه إلا الله، فتوضع في كفة، ويوضع في الكفة الأخرى تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر من الخطايا والذنوب، فإذا وضعت لا إلـٰه إلا الله في الكفة المقابلة طاشت تلك الصحف.( ) وهـٰذا يبين بيانًا واضحًا أن التوحيد يكفر الذنوب وتتلاشى معه الخطايا، وهو فضل عظيم، فأفضل ما قيل في (ما) أنها مصدرية؛ لأنها تطابق ما دلت عليه الآثار من أن التوحيد يكفر الذنوب.
وقوله: (ما يكفر من الذنوب.)
(الذنوب) جمع ذنب وهي الخطايا، وهـٰذا يشمل -فيما يظهر- حق الله وحق الخلق، لكن أخرجت النصوص حق الخلق، ولعلّ الله -عز وجل- إذا علم من عبده صدق التوحيد يتحمّل عنه، ولكن الأصل أن الذنوب التي هي حقوق العباد ليست تحت المغفرة إلا إن أسقطها أهلها وأصحابها، وقد يغفرها الله، وليس معنى غفرانها أنها تذهب كحقوق الله بلا مقابل، بل يعوض الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أصحاب الحقوق عن هـٰذه الحقوق، فيتحمل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عن المخطئ، ولكن الأصل أنها لا تغفر إلا بوضعها من أهلها أو رد مقابلها إليهم.
ثم قال رحمه الله: (وقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ﴾( )) افتتح المؤلف هـٰذا الباب بهـٰذه الآية العظيمة، وهي الآية التي عقب الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بها ما قصَّه في كتابه في سورة الأنعام من المحاجة التي كانت بين إبراهيم وقومه، وهـٰذه المحاجة كانت في تقرير التوحيد ونفي الشرك وبيان بطلانه، بعد ذلك قال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ فمن العلماء من قال: إن الآية من كلام إبراهيم. ومنهم من قال: إنها من كلام الله جل وعلا. وعلى كلٍّ فإن إبراهيم إنما يتكلم بما أعلمه الله، ولذلك الظاهر أنها من كلام الله جل وعلا، إما استئنافًا وإما تبليغًا: إما استئنافًا أن الله سبحانه لما قص النبأ وذكر خبر ما كان من إبراهيم وقومه من المحاجة عقَّب بهـٰذا البيان، وقد يكون من إبراهيم الذي يبلغه قومه ويقيم عليهم به الحجة، وهو من الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
مناسبة الآية للباب:
هـٰذه الآية مناسبتها للباب ظاهرة، فإن الله ذكر فيها فضل تحقيق التوحيد فقال: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾. فالله عز وجل أخبر بأن الذين آمنوا وهم من حققوا الإيمان تحقيقًا تامّاً كاملاً..
والإيمان: اسم للعبادات الظاهرة والباطنة، فيشمل عبادة القلب وعبادة اللسان وعبادة الجوارح. ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾، ثم أضاف قيدًا آخر فقال: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ﴾ أي: لم يخلطوا إيمانهم بظلم ﴿لَمْ يَلْبِسُوا..﴾ يعني:لم يخلطوا إيمانهم بظلم، هؤلاء ما الخبر عنهم وما هو حالهم؟ أولئك الذين قال الله جل وعلا عنهم في الآية: ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾. فلهم فضيلتان مقابل هـٰذين العملين، العملان هما: تحقيق التوحيد، والبراءة من كل ما يضاده، وأول وأعظم وأهم ما يضاده الشرك. والفضل المرتب على هذين هو: الأمن والاهتداء، فلهم الأمن التام ولهم الاهتداء التام، لما كملوا الإيمان وسلموا من الشرك. والإيمان هنا ذكرنا أنه اسم لجميع ما أمر الله به من العبادات الظاهرة والعبادات الباطنة.
وقوله: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ المراد به ما فسرها به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبينه، وإذا جاء التفسير عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلا معدل عنه، فإنّ ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال لما نزلت هـٰذه الآية: شق على أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما فيها، فجاؤوا فقالوا: يا رسول الله! أينا لم يظلم نفسه؟ لأن الآية فيها إطلاق الظلم، ففهم الصحابة أن الأمن والاهتداء لمن سلم من الظلم كله دقيقه وجليله، صغيره وكبيره. فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مطمئنًا لهؤلاء: ((إنه ليس كما تظنون، إنما هو قول لقمان لابنه: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)﴾ ( ))). ففسر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الآية بأعظم الظلم وهو الظلم بالشرك.
والظلم أصله وضع الشيء في غير موضعه، هـٰذا أصله في اللغة، ولا شك أن من يصرف العبادة لغير الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فقد وضعها في غير موضعها وصرفها إلى غير مستحقها، وهـٰذا من أعظم الظلم والجور؛ لأنه تعطيل لغاية الوجود، وإنكار لأعظم من تفضّل على العبد وجاد، فإنّه ما بالإنسان من نعمة إلا من الله جل وعلا، وحق هـٰذه النعمة أن تشكر، وشكرها بإفراد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالعبادة، ولذلك يطلق الله جل وعلا الشكر في عدة مواضع بمعنى العبادة، كقوله تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾( ). فالعبادة حقه الذي لا يجوز أن يُصرف لغيره، حقه لأن الله -جل وعلا- جعل غاية الخلق لذلك، وحقه من جهة أخرى أنه أمدنا بالنعم وأنعم علينا بألوان المنن، وهـٰذا يستوجب أن يفرد بالشكر -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وعلى هـٰذا يكون معنى الآية: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بشرك، وهـٰذا التفسير تفسير النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.﴿أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ أي: الأمن المطلق التام، أي: ولهم الهداية التامة.
واعلم أن هـٰذه الآية كما فسرها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ظاهرة.
خالف في معنى الظلم في هـٰذه الآية المعتزلة فقالوا: إن الظلم هنا هو المعاصي، فقالوا: إن المعصية تنفي الأمن والاهتداء، وعليه فإن من عصى خرج من الإيمان.
وهـٰذا المعنى مخالف لما فسره النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقال شيخ الإسلام رحمه الله- وذكر ذلك الشيخ عبد الرحمـٰن السعدي أيضًا- بأن الظلم هنا نوعان: ظلم أكبر وهو الشرك، ووجوده في سلوك الإنسان وعمله ينفي عنه الأمن والاهتداء، يرتفعان عنه، فإن سلم من الشرك وقارف أنواعًا من المعاصي دون الشرك فله مطلق الأمن والاهتداء، لكنه لا يحصل على الأمن التام والاهتداء التام إلا إن سلم من ظلمه لنفسه وظلمه لغيره. وهـٰذا المعنى صحيح، لكن المراد بالآية هو ما فسرها به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من ارتفاع تمام الأمن والاهتداء، وأن سبب رفع ذلك الشرك بالله.
وهل جرى القرآن على تسمية الشرك بالظلم؟
الجواب: نعم، من ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾( )، وور في مواضع أخرى منها قوله تعالى: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾( )، ومنه: ﴿وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (106)﴾ ( ). فدل ذلك على أن الشرك ظلم كما تقدّم بيانه بتفسير النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ﴾ هـٰذا خبر المبتدأ؛ لأنّ قوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ مبتدأ. ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ و﴿أُولَئِكَ﴾ اسم إشارة، وأتى بالكاف الدالة على البعد لبيان شريف مكانتهم وعظيم منزلتهم، وأنهم لما حققوا هذين الوصفين بلغوا الغاية فيما يستحقون. ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ فالأمن ضد الخوف، وذلك أن الله يؤمِّن أهل التوحيد من أنواع المخاوف في الدنيا والآخرة، فهم آمنون من الخوف في الدنيا لأن قلوبهم معلقة بالله؛ ويعلمون أن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، كما أنه لا يمنع السيئات إلا هو ولا يعطي الحسنات إلا هو -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وإذا كان العبد ملأ قلبه بهـٰذه المعاني فمم يخاف؟! لا يخاف شيئًا. وهم آمنون كذلك في الآخرة من العذاب؛ لأنهم حققوا غاية الوجود، وأتوا ما يستحقون بسببه الفضل والإنعام من رب العالمين، فهم آمنون من المخاوف في الدنيا، وفي الآخرة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، نسأل الله أن نكون منهم.
ثم أفادهم وصفًا آخر وأثبت لهم فضلاً زائدًا فقال: ﴿وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ والاهتداء هو سلوك الصراط المستقيم، فهم سالكون للصراط المستقيم الذي يحصل به فلاح الدنيا والآخرة.
مناسبة الآية للباب واضحة، وهي بيان فضل التوحيد، وأنه سبب للأمن والاهتداء في الدنيا والآخرة.
ثم قال: (عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((من شهد أن لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله... أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)).)
((من)) شرطية، فعل الشرط قوله: ((شهد أن لا إلـٰه إلا الله)) فهـٰذا هو الشرط، وأما جوابه فقوله: ((أدخله الله الجنة)). هـٰذا الحديث من أجمع الأحاديث التي ذكر فيها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما يخرج به العبد من الكفر ويدخل به إلى الإيمان، فقد جمع فيه من العقائد التي هي سبب للفوز في الدنيا وفي الآخرة. بدأ ذلك بأهمها وأعظمها وأشرفها وأعلاها وهو التوحيد فقال: ((من شهد أن لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له)) وذكر الشّهادة لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالإلهية بصيغة الحصر بالنفي والإثبات الذي هو أقوى صيغ الحصر، ثم أكد ذلك بقوله: ((وحده لا شريك له)). أكد النفي والإثبات: فـ((وحده)) تأكيد للإثبات، وتوكيدُ النفي قولُه: ((لا شريك له)).
والشهادة في الأصل تدور على القول والعقد والإظهار والبيان، فـ ((من شهد)) يعني: من اعتقد بقلبه وقال بلسانه وأظهر ذلك، ((أن لا إلـٰه إلا الله)) أي لا معبود إلا الله، فإلـٰه فِعال بمعنى مفعول، ومعناه المعبود المطاع، هـٰذا معنى الإله، أي: لا معبود مطاع إلا الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
واعلم أن كلمة (إلـٰه) في لغة العرب اسم لما عبد بحق أو باطل، ولذا معبودات الكفار تسمى آلهة: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾( ) فسماه الله –عز وجل-: إلهًا، هـٰذا الأصل في الإله، الأصل في الإلـٰه اسم جنس لما يُعبد بحق أو باطل، لكن غلب استعماله على الإلـٰه الحق، وعرفنا معنى الإلـٰه هو أنه المعبود المطاع -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وفسره الشيخ في عدة مواضع بتعريفات متنوعة تدور على معنى واحد، فقال: (الإلـٰه الذي يقصد بالعبادة.) هـٰذا تفسير الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
الرد على من فسر الإلـٰه بأنه القادر المخترع:
فسره جماعة من أهل العلم بأنه المخترع أو الصانع أو القادر على الخلق، وهـٰذا التفسير تفسير مبتدع ترده اللغة ويرده القرآن والسنة. وإنما قدمتُ باللغة -وإن كان الحق في مثل هـٰذه الألفاظ ألا ينظر فيها إلى اللغة، وإنما ينظر فيها بالقرآن والسنة- وذلك أنهم احتجوا باللغة، قالوا: هـٰذا معناه في اللغة.
والصحيح أن ليس في كلام أهل اللغة أن الإلـٰه هو المخترع ولا القادر والصانع، وإنما هو المعبود، ويمكن مراجعة المعاجم، وما نقلوه عن أهل اللغة إنما هو باطل، ولم يُنقل عن أحد من سلف الأمة أنه فسر الإلـٰه بهـٰذا المعنى، وهل هـٰذا أمر سهل حتى يغفل عنه السلف؟ هـٰذا أمر يتعلق بكلمة الإسلام وكلمة التقوى وأصل الدين ومفتاح الجنة، فلو كان ذلك صحيحًا لبُين، لكن لم ينقل عن أحد منهم هـٰذا المعنى.
ثم إن تفسير (الإلـٰه) بالخالق أو بالصانع أو القادر هو تفسير باللازم، ونحن لا نعارض أن من لوازم هـٰذا الوصف أن يكون خالقًا قادرًا صانعًا، لكن قَصْر هـٰذه الكلمة الجليلة على هـٰذا المعنى غلطٌ. هـٰذا الوجه الثالث.
الوجه الرابع: أنه لا خلاف بين الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبين من عارضه من المشركين على أنه لا قادر على الصنع ولا خالق إلا الله جل وعلا،لم تكن الخصومة بين النّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبين قومه في هـٰذا الأمر، بل الخصومة كانت في العبادة لا في الخلق، ولو كان معنى لا إلـٰه إلا الله أي لا صانع ولا قادر على الاختراع إلا الله لما عارضه معارض.
هـٰذه أربعة أوجه يجاب بها على من قال: إن الإلـٰه هو الصانع أو الخالق أو القادر.
ثم اعلم أن هـٰذه الكلمة (لا إلـٰه إلا الله) جملة تامة، والجملة إما أن تكون اسمية وإما أن تكون فعلية، هـٰذه الجملة اسمية، إذا قلنا: إنها اسمية فلا بد لها من ركني الجملة المبتدأ والخبر، هـٰذه الجملة دخل عليها حرف النفي (لا) فنصب (إلـٰه) اسمًا له، فـ(لا إلـٰه): (لا) نافية، (إلـٰه) اسم (لا) التي تعمل عمل إن مبني على الفتح، (إلا الله) لفظ الجلالة بدلٌ - هـٰذا أصح ما قيل فيه، بدل- عن الخبر، ولا يصح أن تقع خبرًا؛ لأن من شرط إعمال لا أن تعمل في النكرات، ولفظ الجلالة (الله) أعرفُ المعارف، ولذلك احتاجوا إلى تقدير خبر (لا)، وأصح ما قيل في تقدير الخبر أنه حق: لا إلـٰه حقٌّ إلا الله. ودليل هـٰذا التقدير هو قول الله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾( )، ﴿فذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ﴾( ). فالله عز وجل وصف نفسه بالحق، وهو -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الحق وغيره باطل.
ومن العلماء من قدره بموجود، قال: لا إلـٰه موجود. لكن هـٰذا التقدير غلط، غلطٌ من جهة المعنى وغلطٌ من حيث الواقع: أما غلطه من جهة المعنى فأنه يلزم أن يكون كل إلـٰه موجود هو الله وأنه حق، فتقدير موجود غلط من حيث المعنى ومن حيث الواقع.
بعض العلماء قال: لا داعي للتقدير. ولكن هـٰذا قول من لا يعرف اللغة العربية؛ لأنه لا بد للجملة من خبر، ولا يصلح أن يكون لفظ الجلالة الذي بعد أداة الاستثناء خبرًا، فأصح ما يقال أن خبرها حق، ودليله: ﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ...﴾، وقوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحق...﴾؛ لأن هـٰذا الباب تكررت فيه هـٰذه الكلمة، ومن المهم أن نعرف معناها؛ لأنها أصل التوحيد، ولأنها مفتاح الجنة، فلا بد أن يعرف الإنسان معنى هـٰذه الكلمة، وليصحح أيضًا المفاهيم الخاطئة في تفسيرها وأنه لا قادر على الاختراع ولا صانع إلا الله عز وجل.
نعود للحديث: ((من شهد أن لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له)). لا شريك له في إلهيته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، ولا فيما يجب له من العبادة، ولا فيما هو متصف به -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، ولا فيما يجوز ولا فيما يمتنع ولا فيما يجب، كل هـٰذا داخل في قوله: ((لا شريك له)).
((وأن محمدًا عبده ورسوله)). عبدُ مَنْ؟ الضمير يعود إلى الله، ووصفه بهذين الوصفين اللذين هما أعظم ما وُصف به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: العبودية والرسالة، والشهادة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالرسالة مقترنة بالشهادة لله بالإلهية، وذلك أن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو المبلِّغ عن الله، وهو الداعي إلى هـٰذه الجملة وإلى هـٰذه الشهادة، فلا طريق إلى تحقيق شهادة أن لا إلـٰه إلا الله إلا بالشهادة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالرسالة.
ثم قال: ((وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه)). أطال في عيسى، وذلك لأن عيسى ضلت فيه أمتان عظيمتان: اليهود والنصارى، فبين النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما يجب اعتقاده فيه؛ ليسلم أهل الإسلام من هاتين الضلالتين: ضلالة اليهود وضلالة النصارى، فقال: ((وأن عيسى عبد الله)). وفي هـٰذا رد على النصارى الذين قالوا: هو الله - تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيرًا - وجعلوه ولدًا لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-. ((وأن عيسى عبد الله)). فهو عبده ورسوله، أي: أرسله الله عز وجل إلى بني إسرائيل. وفي قوله: ((ورسوله)) ردّ على اليهود الذين قالوا: إنه ابن زانية - نعوذ بالله - وليس برسول وهموا بقتله.
ثم بيَّن ما اختص به عيسى عن غيره من الرسل، فقوله: ((وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه)). هـٰذا أمر اختص به عيسى عن غيره من الرسل بل ومن البشر، فإن عيسى عليه السلام اختص بأن كان خلقه بكلمة الله، وأنه روح منه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- .
فنقف عند قوله: ((وكلمته)) ثم قوله: ((وروح منه)). قوله: ((وكلمته)). الضمير يعود على من؟ يعود على الله عز وجل، وأصح ما قيل في معنى هـٰذه اللفظة: أنه خلق بكلمة الله. وهـٰذا المعنى رجحه ابن كثير، وهو أوضح المعاني، وقد صرح الله –عز وجل- بذلك في مواضع عديدة في كتابه:
فقال: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59)﴾( ). فبين الله أن خلق عيسى كان بالكلمة. ومن ذلك قوله: ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35)﴾.( ) هـٰذه ثلاثة مواضع بيَّن الله فيها معنى الكلمة، وهي قوله جل وعلا في خلق عيسى: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾. والمعاني الأخرى من أراد أن يرجع إليها في التفسير، لكن هـٰذا أصح ما قيل في معنى ((وكلمته)).
و((أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ)). أي انتهت كلمته إلى مريم؛ لأنها محل هـٰذه الكلمة فعلاً، وأما الكلمة التي هي (كن فيكون) فهي وصفه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- .
وقوله: ((وروح منه)) هـٰذا أيضًا فيه بيان ما اختص به عيسى من أنه كان بنفخ الروح، فإن الله أرسل الروح القدس جبريل فتمثل لها بشرًا سويّاً وبشرها بالكلمة ونفخ فيها، فكان عيسى من نفخ الروح ومن قول الله: كن فيكون، ولذا تميز في هـٰذا الحديث بأن وصف بأنه كلمته التي ألقاها إلى مريم وروح منه.
وأما قوله: ((وروح منه)) فإن النصارى احتجوا على أنه بعض الله بأن (مِنْ) هنا للتبعيض. وهـٰذا غلط لم يقل به أحد من أهل الإسلام، فإن من هنا ابتدائية، وهي نظير قول الله جل وعلا: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾( ). فهل ما في السمٰوات وما في الأرض جزء من الله؟ تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيرًا، ولم يقل أحد بهـٰذا المعنى. ففهم من هـٰذا أن قوله: ((وروح منه)) أنها روح مبتدأة منه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كسائر الأرواح.
ثم قال: ((والجنة حق، والنار حق)). أي: شهد أن الجنة حق وشهد أن النار حق، ومقتضى هاتين الشهادتين أن يعتقد أن هاتين الدارين دارا الجزاء في الآخرة، وأن الناس صائرون إليهما: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾.( ) والجنة هي اسم لدار النعيم الكامل المطلق أعدها الله لعباده الصالحين، والنار هي دار العذاب الكامل المطلق أعدّها الله للكافرين والمعاندين، ومقتضى الشهادة أن النار حق والجنة حق أن يعتقد أنهما موجودتان الآن، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة وأجمع عليه سلف الأمة، ذلك أن وجود الجنة والنار أمر معلوم بالاضطرار من نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ولم يخالف في ذلك إلا شواذ من المبتدعة حكَّموا عقولهم وقالوا: الحكمة تقتضي أن لا تكون الجنة والنار موجودتين.
ثم قال: ((أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)). هـٰذا جواب الشرط، أدخله الله الجنة التي قلنا: إنها دار النعيم المطلق الكامل، أدخله الله الجنة إذا وفى بهـٰذه الأمور الخمسة، وكلها مما يتعلق بالاعتقاد الذي يترتب عليه العمل، فإن قوله: ((من شهد أن لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق)) هـٰذه الأمور الخمسة كلها من أصول الاعتقاد التي تتعلق بالله وبرسله وباليوم الآخر.
وما لم يذكر في هـٰذا الحديث فإنه يدخل في مضامين هـٰذه الأمور، فإن الإيمان بالملائكة داخل في الإيمان بأن محمدًا رسول الله؛ لأن الرسول لا يكون رسولاً إلا ببلاغ من الملائكة الذين هم الواسطة بين الرّسل وبين الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-. المهم أن هـٰذه الأصول يرجع إليها ما لم يذكر من أصول الاعتقاد والدين، فمن أتى بهـٰذه الأصول ووفى بها وحقق الشرط الذي ذكره رسول الله فإنه موعود بقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)).
وقوله: ((على ما كان من العمل)) أي: وإن قل. وقال بعض أهل العلم: وإن قبح. والمعنيان صحيحان: فإن قل عمله وأتى بأصول الدين فإنه يدخل الجنة، ومن قبح عمله بمخالفة الواجبات وارتكاب المنهيات فإنه يدخل الجنة في نهاية المطاف، فإن الله حرم على النار من قال: لا إلـٰه إلا الله، فالنار ليست دارًا للموحدين، بل أهل التوحيد سالمون منها ابتداءً أو بعد حين، لكن القرار لا يكون للموحدين في النار كما دلّت على ذلك النصوص الكثيرة، وسوف يأتي شيء منها فيما نستقبل، إذًا قوله: ((على ما كان من العمل)) معناه: إن قل وإن قبح.
وقال بعض العلماء: ((أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)). يعني: أن منزلته في الجنة تكون على قدر عمله، فليس المراد بدخول الجنة على ما كان من العمل أنه يدخل وإن كان عمله قليلاً، إنما المراد أن منازل الناس في الجنة على ما كانوا عليه من العمل في الدنيا، وهـٰذا المعنى أشار إليه بعض الشراح، وهو معنى صحيح ولكنه لا يخالف المعاني المتقدّمة، هم أتوا به لينفكوا عن المعنيين السابقين، ولكنِ المعنيان السابقان صحيحان، وأنه يدخل الجنة الموحد وإن قل عمله وإن قبح، ما لم يترك ما لا يصح الإسلام والإيمان إلا به: كالصلاة مثلاً، فإنه لا يستدل بهـٰذا مستدل ويقول: إن ترك الصلاة ليس بكفر؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((من شهد أن لا إلـٰه إلا الله وحده... أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)). نقول: أدخله الله الجنة على ما كان من العمل إذا لم يكن هناك مانع يمنع من دخول الجنة كترك الصلاة، فإن ترك الصلاة يمنع من دخول الجنة؛ لأن تارك الصلاة كافر، كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وكما أجمع عليه الصحابة.
كذلك لو أتى بمكفر غير هـٰذه الأمور، وفى بهـٰذه الأمور، يعني: شهد أن لا إلـٰه إلا الله وأن محمدًا رسول الله... إلى آخر ما ذُكر، ولكنه سب الله مثلاً فإنه يكفر إن لم يتب، أو سب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أو لم يؤمن بشيء جاء به رسول الله، لا شك أنّ هـٰذه الأمور لا تحصل إلا من نواقص في الشهادة المتقدمة.
لكن نقول: إنّ هـٰذه الأمور المذكورة هي سبب دخول الجنة، فإن وجد مانع لدخول الجنة غير ما وجد فإنه يمنع، ولا تعارض بين تلك الأحاديث التي تفيد الموانع وبين هـٰذا الحديث الذي يفيد سبب دخول الجنة أو شروط دخول الجنة؛ لأن الحكم في الدنيا وفي الآخرة لا بد فيه من توافر الشروط وانتفاء الموانع: لا بد فيه من توافر الشروط يعني وجودها، لا بد من وجود الشروط وانتفاء الموانع حتى يثبت الحكم، والشاهد من هـٰذا الحديث لهـٰذا الباب قوله: ((أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)) بعد ذكره أصول الاعتقاد والتوحيد.
وهـٰذا الحديث يفيدنا فائدة مهمة: أنه لا يكفي في حصول الوعد بدخول الجنة قول: لا إلـٰه إلا الله، بل لا بد أن يضيف إلى ذلك ما دلت النصوص على اشتراطه لدخول الجنة، وقد أحسن المؤلف - رحمه الله وغفر له- حيث بدأ في ذكر الأحاديث التي فيها أن من قال: لا إلـٰه إلا الله دخل الجنة بهـٰذا الحديث؛ لأنّ هـٰذا الحديث لم يقتصر فقط على قول: (لا إلـٰه إلا الله) بل أضاف إلى ذلك أمورًا أخرى، فدل ذلك على أن الأحاديث المطلقة التي فيها ((من قال: لا إلـٰه إلا الله دخل الجنة)) يضاف لها ما جاء في النصوص الأخرى حتى يحصل الإيمان التام بما أخبر به رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أما من أعمل بعض النصوص دون بعض فإنه يخشى أن يكون ممن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض.
ثم قال رحمه الله: (أخرجاه) أي: البخاري ومسلم.
قال: (ولهما) أي البخاري ومسلم (في حديث عتبان) أي ابن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فإن الله حرم على النار من قال: لا إلـٰه إلا الله يبتغي بذلك وجه الله.)) الحديث.
((حرم)) أي: منع وحظر على النار. ((من قال: لا إلـٰه إلا الله)). ((مَنْ)) هنا موصولة بمعنى الذي. ((قال: لا إلـٰه إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)). أي: يريد ويطلب ويقصد بهـٰذا القول وجه الله تعالى.
وهـٰذا الحديث فيه فضل (لا إلـٰه إلا الله)، وأن قولها ابتغاء وجه الله سبب للتحريم على النار، والنار هي نار العذاب التي أعدها الله للكفّار والمكذّبين، فإن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- حرم على النار من قال: (لا إلـٰه إلا الله) يبتغي بذلك وجه الله، فأفاد هـٰذا الحديث أنه لا يكفي مجرد القول بل لا بد من عمل القلب، فإن قوله: ((من قال: لا إلـٰه إلا الله)) هـٰذا يفيد قول اللسان، وأضاف إليه قيدًا آخر وهو قوله: ((يبتغي بذلك وجه الله)) وهـٰذا عمل قلبي. ويمكن أن نقول: إن قوله: ((من قال: لا إلـٰه إلا الله)) يشمل قول القلب وقول اللسان؛ لأن القلب له قول واللسان له قول، فلا يكفي قول اللّسان مجردًا عن قول القلب وعمله، فأشار الحديث إلى اشتراط قول القلب وقول اللسان وعمل القلب.
قول القلب واللسان من قوله: ((من قال: لا إلـٰه إلا الله)). ومعلوم أن هـٰذا القول لا يترتب عليه الفضل المذكور وهو تحريم النار إلا إذا كان قولاً صادقًا ، وإلا فإن المنافقين يقولون: لا إلـٰه إلا الله، وهم في الدرك الأسفل من النار، فلم يغنهم قولهم: لا إلـٰه إلا الله لما تخلفت قلوبهم عن قولها.
واعلم أن كل فضل رتبه الله -عز وجل- أو رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على القول فإنه لا يكفي فيه قول اللسان، وهـٰذه قاعدة مهمة: كل فضل رتّبه الله -عز وجل- أو رسوله على قول اللسان لا يكفي في حصوله التلفظ فقط، بل لا بد أن يضاف إلى ذلك قول القلب وعمله، ولذلك سيد الاستغفار مثلاً الفضل المترتب عليه هل يحصل بمجرد التلفظ به دون عقل معناه ودون العمل بمقتضاه؟ الجواب: لا. التسبيح والتحميد والتكبير بعد الصلوات ما رُتب عليه من فضل هل يكفي لتحصيله أن يتكلم بها الإنسان غافلاً عن معناها؟ الجواب: لا. فإنّ الفضائل المعلّقة على الأقوال لابد أن توافقها الأفئدة قولاً وعملاً.
وهـٰذا الحديث صريح في اشتراط عمل القلب في قوله: ((يبتغي بذلك وجه الله)). والابتغاء والقصد عمل من أعمال القلوب، والحديث فيه إثبات الوجه لله تعالى حيث أضاف الوجه إليه، وأوَّله بعضهم فقال: يبتغي بذلك جهة الله, وهـٰذا خلافُ ظاهرِ اللفظ، فظاهرُ اللفظ إثبات الوجه لله عز وجل، وهو صفة لائقة به -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- دل عليها الكتاب والسنة: السنة في هـٰذا الحديث، والكتاب في مثل قوله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ (27)﴾( ). هنا ما يمكن يقولون: إن الوصف يعود إلى الرب؛ لأن ﴿ذُو﴾ عائد إلى الوجه. المهم أن إثبات الوجه لله -عز وجل- ثابت بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.
وسبب سياق هـٰذا الحديث في هـٰذا الباب فضل التوحيد، فإن من قال: (لا إلـٰه إلا الله) حرمه الله على النار.
وانظر حسن تصنيف المؤلف: فالحديث الأول ذكر أن قول: (لا إلـٰه إلا الله) سبب لدخول الجنة، وفي الثاني أن قول: (لا إلـٰه إلا الله) سبب للتحريم على النار، وكلاهما فضل من رب العالمين. والتحريم هو المنع، والأصل فيه المنع الكلي فإن من حقق هـٰذا فإنه يمنع منعًا كليّاً من النار، وهـٰذا يبين فضيلة التوحيد وأنه سبب للنجاة من النار.
ثم قال: (وعن أبي سعيد الخدري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((قال موسى: يارب علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به؟)).) هـٰذا فيه خبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن موسى -عليه السلام- أنه قال: ((يا رب)). يدعو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ((علمني شيئًا أذكرك وأدعوك به؟)). أذكرك وأدعوك هـٰذا عطف، فهل العطف هنا للمغايرة؟ الأصل في العطف أنه للمغايرة، لكن هنا عطف في الحقيقة ليس مغايرًا بل هو عطف خاص على عام، الذكر عام والدعاء من الذكر الخاص، فالذكر يشمل التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد ويشمل حتى الصلاة –يعني: الأفعال- ويشمل الدعاء ويشمل قراءة القرآن ويشمل تعليم العلم، كل هـٰذا يدخل في ذكر الله، وتعلم العلم كله من ذكر الله، لكن قوله: ((وأدعوك به)) هـٰذا ذكر، شيء خاص من الذكر، فهو من باب عطف الخاص على العام. ((وأدعوك به)) الباء هنا للتوسل، يعني: من خلاله أو بسببه وعن طريقه.
((قال)) من القائل؟ قال الله تعالى معلمًا موسى: ((يا موسى قل: لا إلـٰه إلا الله)). علمه هـٰذه الكلمة العظيمة، ((فقال:)) القائل موسى عليه السلام ((يا رب كل عبادك يقولون هـٰذا)). والمقصود بعبادك هنا العبودية الخاصة، ليست العبودية العامة، المقصود عباده المؤمنون، أي: كل عبادك المؤمنين يقولون هـٰذا، فهو أراد شيئًا يختص به دون غيره من المؤمنين، وليس المراد أن جميع العباد مؤمنهم وكافرهم يقولون هـٰذا؛ لأنه معلوم أن فرعون وقومه ما أقروا بهـٰذا، فالخبر عن عباده المؤمنين وهم الذين آمنوا بموسى، فأراد موسى عليه السلام أن يختص بشيء دون سائر عباد الله في هـٰذا الوقت. ((قال: يا موسى، لو أن السمٰوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إلـٰه إلا الله في كفة، مالت بهن لا إلـٰه الله)). هـٰذا فيه بيان فضل هـٰذه الكلمة، وأنه وإن كان الكل يقولها فإن ذلك لا يقلل من قدرها وعظيم مكانتها، ولا شك، فإن لا إلـٰه إلا الله أعظم كلمة: هي مفتاح الجنة، وبها يدخل الإنسان إلى الإسلام في الدنيا، وفضائلها وخيراتها كثيرة، ومن فضلها ما ذكره الله في هـٰذا الحديث: ((لو أن السمٰوات السبع وعامرهن غيري)) السمٰوات السبع، السمٰوات معروفة، والسبع هـٰذا عددها، والمراد بالسمٰوات هنا السقف المحفوظ، وقوله: ((وعامرهن)) أي ساكنهن، وقوله: ((غيري)) أي سواي، والاستثناء هنا استثناء منقطع؛ لأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ليس في السمٰوات ظرفًا له جل وعلا، بل هو على السماء، فيقال: إن الاستثناء هنا منقطع، ويكون المعنى: وعامرهن غيري يعني سواي، فيكون الاستثناء منقطعاً. ويمكن أن يقال: إن هـٰذا كقوله: ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء﴾.( ) وتبينه الآيات والأحاديث الأخرى التي تفيد أنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- على السماء وليست السماء ظرفًا له، على أن بعض أهل العلم ضعف هـٰذا الحديث لضعفٍ في رواته، وعلى كل حال على القول بتصحيحه كما ذهب إلى ذلك ابن حجر فإن الحديث معناه لا إشكال فيه، يكون معنى قوله: ((وعامرهن غيري)) كقوله سبحانه: ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء﴾. ومعلوم أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مستوٍ على عرشه بائن من خلقه، وهـٰذا لا إشكال فيه كما تقدم تقريره. ((والأرضين السبع)). هـٰذه المخلوقات العظيمة ((في كفة)) من كفتي الميزان، ((ولا إلـٰه إلا الله في كفة مالت بهن لا إلـٰه إلا الله)). أي رجحت بهن لا إلـٰه إلا الله، ولا يكون ذلك إلا لعظيم ثقل هـٰذه الكلمة. وقد جاء نظير هـٰذا الحديث في مسند الإمام أحمد بسند صحيح أن نوحًا عليه السلام قال لابنه: ((آمرك بلا إلـٰه إلا الله، فإنه لو كانت السمٰوات السبع والأرضون السبع في كفة ولا إلـٰه إلا الله في كفة لمالت بهن لا إلـٰه إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كانت حلقة مبهمة لفصمتهن لا إلـٰه إلا الله)). ( ) وهـٰذا يدل على عظيم تأثير هـٰذه الكلمة ثقلاً ونفوذًا، فإنها كلمة عظيمة. ويدلّ لذلك أيضًا حديث صاحب البطاقة عند الترمذي وغيره بسند جيد: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبر عن رجل ينادى فيقال له: هل لك من حسنة. بعد أن تعرض عليه سيئاته، فيخاف، فيقول: لا، فيقول الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: إنك لا تظلم شيئا. فيؤتى ببطاقة مكتب عليه لا إلـٰه إلا الله، فيقول: ما هـٰذه البطاقة في تلك السجلات، فتوضع في كفة والسجلات في كفة فتطيش السجلات.. وهـٰذه البطاقة يقول ابن القيم رحمه الله: هي لكل موحد، لكن رجحانها بالسجلات المقابلة هـٰذا لا يكون لكل أحد، إنما يكون على قدر ما يقوم في قلب العبد من التّعظيم والإجلال والعمل بمقتضى هـٰذه الكلمة.
(رواه ابن حبان، والحاكم وصححه.
وللترمذي وحسنه عن أنس قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: ((قال الله تعالى.)))
هـٰذا الحديث حديث إلـٰهي، حديث قدسي يرويه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ربه جل وعلا، والحديث الإلهي هو ما رواه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الله -عز وجل- معنىً ولفظًا، هـٰذا هو الأصل، ومن قال: إنه ما رواه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ربه معنىً دون لفظه يحتاج إلى دليل؛ لأن الأصل في قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((قال الله)) الأصل أن يكون القول باللفظ والمعنى، وهـٰذا هو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو الموافق لظاهر اللفظ.
قال الله تعالى: ((يا ابن آدم)) خطاب لجنس الإنسان وهم بنو آدم ((لو أتيتي بقُراب الأرض خطايا)) ويصح: بقِراب، والمقصود ما يقارب ملء الأرض، خطايا جمع خطيئة، وهي ترك الواجب أو فعل المحرم. ((ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً)) يعني لا شركاً أصغر ولا أكبر ((لأتيتك)) هـٰذا جواب الشرط ((لأتيتك بقرابها)) أي: بملئها ((مغفرة)). وهـٰذا بيان عظيم فضل التوحيد: فهـٰذا رجل يأتي بقراب الأرض خطايا أو ما يقارب ملء الأرض خطايا، لكنه يأتي موحّدًا لم يقع في شيء من الشرك دقيقه وجليله صغيره وكبيره، فهو موعود بهـٰذا الفضل: ((لأتيتك بقرابها مغفرة)) أي: تتلاشى معها تلك الخطايا والذنوب، هـٰذا معنى قوله: ((لأتيتك بقرابها مغفرة)) أي تمحو تلك الخطايا والذنوب. ولكن لا بد من تقييدٍ هنا: أن الخطايا الأصل فيها أن تكون في حق الله، أما ما كان في حق المخلوق كما تقدم فقد يتحمله الله عن العبد وقد يؤاخذ به، فالكلام في الخطايا التي في حقه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ، والحديث ظاهر المناسبة بالنسبة لما ساقه المؤلف من أجله في هـٰذا الباب.
[المتن]
فيه مسائل:
الأولى: سعة فضل الله.
الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله.
الثالثة: تكفيره مع ذلك للذنوب.
الرابعة: تفسير الآية التي في سورة الأنعام.
الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة.
[الشرح]
وهي: شهادة ((لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق))
[المتن]
السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده تبين لك معنى قول: (لا إلـٰه إلا الله)، وتبين لك خطأ المغرورين.
[الشرح]
وأنه لا يكفي مجرّد القول، بل لا بد من أن يضاف إلى ذلك ما أضافته النصوص كما تقدّم بيانه في الشرح.
[المتن]
السابعة: التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان.
[الشرح]
وهو: ((يبتغي بذلك وجه الله)).
[المتن]
الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل (لا إلـٰه إلا الله).
[الشرح]
لاحتمال أن موسى عليه السلام لم يتفطن لفضلها؛ لأنه قال: ((كل عبادك يقولون هـٰذا))، ويحتمل –ما ذكرته في الشرح- أنه أراد شيئاً يختص به، وعندي أن الثاني أقرب وأليق لمقام موسى عليه السلام، وهو أنه طلب من الله عز وجل ما يختص به، لا أنه لم يتبين له فضل لا إلـٰه إلا الله وهو الذي دعا إليها وصبر في الدعوة إليها.
[المتن]
التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيرًا ممن يقولها يخف ميزانه.
[الشرح]
لأنه يقتصر في قولها على اللسان، ولا يأتي ببقية الأركان، وما جُعل في هـٰذه الكلمة من معان.
[المتن]
العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسمٰوات.
[الشرح]
هـٰذه جاءت في القرآن في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾( )
[المتن]
الحادية عشرة: أن لهن عمارًا.
الثانية عشرة: إثبات الصفات، خلافًا للمعطلة.
الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس، عرفت أن قوله في حديث عتبان: ((فإن الله حرم على النار من قال: لا إلـٰه إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله)) أن ترك الشرك، ليس قولها باللسان.
[الشرح]
لأن المنافقين يقولونها، ولكنها لا تفيدهم، فهم في الدرك الأسفل من النار.
[المتن]
الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد عبدي الله ورسوليه.
الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله.
[الشرح]
لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبر بأنه عبد الله ورسوله، ونهى عن الغلو فيه، وطلب له في الحديث الشهادة له بالعبودية والرسالة، ولعيسى بهذين الأمرين أيضًا، ثم ذكر ما اختص به عيسى عليه السلام.
[المتن]
السادسة عشرة: معرفة كونه روحًا منه.
السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار.
الثامنة عشرة: معرفة قوله: ((على ما كان من العمل)).
التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان.
[الشرح]
هـٰذا واضح في حديث موسى عليه السلام، وفيه: ((لو أن السمٰوات السّبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إلـٰه إلا الله في كفة، مالت بهن لا إلـٰه الله)) وفيه رد على من قال: إن المراد بالميزان هو العدل مثل المعتزلة، نقول: إن العدل أمر زائد يثبت من المعنى، لكن المراد بالميزان ما أخبر الله به من الميزان الحقيقي، أما صفته وكيفيته فالله أعلم به، له كفتان كما دلت عليه الأحاديث.
[المتن]
العشرون: معرفة ذكر الوجه.
[الشرح]
أي لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
شرح
كتاب التوحيد
الذي هو حق الله على العبيد
لشيخ الإسلام والمسلمين مجدد الدين
محمد بن عبد الوهاب التميمي المشرفي
- رحمه الله تعالى-
لفضيلة الشيخ
الدرس الثالث
www.almosleh.com
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
[المتن]
باب: من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب.
وقول الله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾( )، وقال: ﴿وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ﴾( ).
عن حصين بن عبد الرحمـٰن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لُدِغت. قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت. قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي. قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حُمَة. قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: ((عرضت عليّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هـٰذا موسى وقومه. فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هـٰذه أمتك، ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض فدخل منزله)). فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئًا. وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبروه، فقال: ((هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون)). فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: ((أنت منهم)). ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: ((سبقك بها عكاشة)).
[الشرح]
قال المؤلف -رحمه الله- في كتاب التوحيد: (باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب).
قوله رحمه الله: (من حقق). (من) شرطية و(حقق) فعل الشرط، و(حقق) أي: بلغ درجة اليقين، فالتحقيق في اللغة هو بلوغ اليقين، وهو من حَقَّ، وهـٰذه المادة مادة - حَقَّ - تدور على إثبات الشيء وصحته، جميع المعاني المشتقة من هذين الأصلين: الحاء والقاف تدور على إثبات الشيء وصحته، والمراد هنا مَن كمَّل التوحيد وبلغ فيه درجة اليقين، وذلك لا يكون إلا بأن لا يبقى في قلبه شيء لغير الله أصلاً، بل يبقى قلبه مواليًا لربه جل وعلا في كل شيء: يحب ما أحبه ويبغض ما أبغضه، يتّبع أمره ويترك ما نهى عنه، فهو دائر مع أمر الله ونهيه، ليس في قلبه ميل إلى غيره -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وهـٰذه درجة عالية رفيعة كبيرة يسعى إليها المشمِّرون، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
قال: (من حقّق التوحيد دخل الجنة بغير حساب).
(دخل الجنة) وتقدّم لنا أن الجنة هي دار النعيم الكامل المطلق التي أعدّ الله فيها لعباده الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. (بغير حساب) أي: بغير محاسبة، فيدخل الجنة دون أن يحاسب، بل يدخل بلا حساب، والذين لا يحاسبون في الآخرة صنفان:
هؤلاء الذين سنقرأ وصفهم في خبر رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهؤلاء الغاية في السعادة، نسأل الله أن نكون منهم.
والقسم الآخر هم الكفار، فإن الكفار لا يحاسبون محاسبة من توزن حسناتهم وسيئاتهم؛ لأنه لا حسنات لهم، بل هم كما قال الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- : ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾. وكما قال الله تعالى: ﴿فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾. فالله -جل وعلا- لا يقيم لهم حسابًا ولا وزنًا يوم القيامة.
الكلام عن الصنف الأول الذين سيأتي وصفهم، يبقى قسمان من الناس يحاسبون، وسيأتي الكلام عليهما في كلامنا على الحديث إن شاء الله تعالى.
قوله: (وقول الله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أَمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.)
﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ إمام الحنفاء وأبو الأنبياء، خليل الرحمـٰن صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إبراهيم وصفه الله عز وجل في هـٰذه الآية بصفات عظيمة تبين درجته في التوحيد وفي تحقيقه، قال الله جل وعلا: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أَمَّةً﴾. والأمة في هـٰذا السياق المراد به الإمامة؛ لأنه كان إمامًا في التقى والتوحيد والإخلاص. ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أَمَّةً﴾ ثم بين سبب إمامته فقال: ﴿قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا﴾، ﴿قانتًا لله﴾ أي: طائعًا له –جل وعلا-، مقبلاً عليه ممتثلاً لأمره، مخلصًا له -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فقوله: ﴿لله﴾ لا لغيره، فهـٰذا وصف من الأوصاف التي نال بها إبراهيم عليه السلام الإمامة. الوصف الثاني الذي لا يحصل لأحد الإمامة إلا به، بل لا يحصل الإسلام والإيمان إلا به قوله: ﴿حنيفًا﴾. والحنيف هو المائل عن الضلالة إلى الهدى؛ لأن أصلها من الحنف وهو الميل من الضلالة إلى الهدى.
وبهـٰذا نعلم أنه لا يتحقّق التوحيد لأحد إلا بوصفين:
الوصف الأول: إخلاص العبادة لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
الوصف الثاني: والكفر بغيره جل وعلا، الكفر بالطاغوت كما قال سبحانه: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾.( )
وكما ذكرنا لكم سابقًا أن التوحيد لا يقر إلا بهذين الأمرين: النفي والإثبات، وهنا نفي وإثبات، الإثبات في قوله: ﴿قانتًا لله﴾، والنفي في قوله: ﴿حنيفًا﴾ وهو المائل عن الشرك إلى التوحيد. ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ هـٰذا تأكيد لمعنى ما تقدم من كونه مخلصًا حنيفًا، فإنه ليس من المشركين في شيء، لم يكن من المشركين في عبادتهم ولا في أحوالهم ولا في شيء من شؤونهم، ليس من المشركين لا حالاً ولا مآلاً: لا حالاً في هـٰذه الدنيا، فإنه فارقهم أحوج ما يكون إليهم. ولا مآلاً فإنه يفارقهم يوم القيامة، وذلك أن الناس يوم القيامة ينقسمون إلى قسمين: فريق في الجنة وفريق في السعير.
الشاهد من هـٰذه الآية قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، وبهـٰذا يحصل للعبد تحقيق التوحيد الذي رتّب الله عليه الفضل في قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب)، كما سيأتي في حديث حصين بن عبد الرحمـٰن.
الآية الثانية في هـٰذا الباب قوله: قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ﴾.( )
وتقدم هـٰذه الآية قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58)﴾ ( ) فوصفهم بأوصاف، من أخص هـٰذه الأوصاف أنهم لا يشركون بربهم، ولم يذكر في هـٰذه الآية المشرَك به: هل هي الأصنام؟ هل هم الصالحون؟ هل هم الأولياء؟ لم يذكر ذلك، السبب: لتعميم كل ما يقع فيه الشرك من الأصنام والأولياء وغيرهم، وهـٰذه الآية أيضًا من الآيات التي تدل على معنى تحقيق التوحيد، وأنه الخلوص من الشرك.
ثم قال رحمه الله -في ذكر الحديث الطويل حديث حصين بن عبد الرحمـٰن-: (كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟). والكوكب المقصود به الشهب التي يرمى بها ، فسأل سعيد بن جبير جلساءه عن الكوكب الذي انقض، فقال حصين بن عبد الرحمـٰن: (فقلت: أنا. أي: أنا رأيته. ثم قلت: أما إني لك أكن في صلاة ولكني لدغت). وهـٰذا فيه دفع توهم أنه رآه لكونه قائمًا يصلي، فبيّن أنه إنما وقع منه ذلك لهـٰذا السّبب، وهـٰذا فيه خلة وصفة من صفات المخلصين، وهي أنهم لا يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فبيّن الواقع لئلا يظن به ما ليس من عمله وفعله.
(ولكني لدغت. قال: فما صنعت؟). يعني: لما لدغت ما صنعت؟ (قلت: ارتقيت). أي: رقيت نفسي، والرقية هنا ظاهرها أنها طلب من الغير، والرقية هي تعاويذ وسيأتي الكلام عليها في (باب ما جاء من الرقى والتمائم)، المراد أنه قرأ على نفسه كلمات يحصل بها التعوذ. (قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي. قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بُريدة بن الحصيب أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حُمَة). يعني: لا رقية نافعة، والمقصود بالعين هنا عين الحاسد، (أو حمة): السم وشبهه، سم العقارب والحيات وما أشبه ذلك.
ثم قال له سعيد -لما بَيَّن له ما صنع وما حمله على ذلك الصنع-: (لقد أحسن من انتهى إلى ما سمع). يعني: من كان نهاية عمله ومنتهى حاله أن يعمل بما بلغه من خبر فقد أحسن. ثم بعد أن أثنى على وقوفه على ما سمع وعمله بما أخذ نقله إلى درجة أعلى، قال: (ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: ((عرضت عليّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد))).
هـٰذا خبر من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه عرضت عليه الأمم، وقد اختلف أهل العلم في وقت هـٰذا العرض متى كان؟
فمنهم من قال: إن وقت هـٰذا العرض كان في ليلة الإسراء، واستدل لذلك بما رواه الترمذي بسند جيد أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((لما أُسري بي عُرضت علي الأمم - أو رأيت الأنبياء -، فرأيت النبي ومعه الرجل...)) إلى آخر الحديث. فيكون هـٰذا العرض حصل ليلة الإسراء بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وقيل: إن هـٰذا العرض حصل منامًا، واستدلوا لذلك بما رواه جابر قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((رأيتُ فيما يرى النائم الأنبياء، فرأيت النبي ومعه الرجل...)). وهـٰذا الحديث يفيد أن العرض كان منامًا، إلا أن هـٰذا الحديث ضعيف، وإذا كان ضعيفًا فنسقطه من الاعتبار.
يبقى الآن الذي سلم لنا أن هـٰذا العرض حصل متى؟ ليلة الإسراء وكان في مكة، جاءت بعض الأحاديث تفيد أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبر بهـٰذا الخبر في المدينة، ففي المسند من حديث ابن عباس بسند جيد أنه قال: أبطأنا عند رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذات ليلة، ثم غدونا عليه صباحًا فقال - وحدّث بالحديث -: ((عرضت علي الأمم)). فاحتار بعض أهل العلم في الجمع بين الحديثين فقالوا: حدث للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إسراءان: إسراء في مكة وإسراء في المدينة. وهـٰذا قول مُطَّرح، والصحيح أن الإسراء لم يتكرر إنما هو في مكة، وأما هـٰذا الذي أخبر به ابن عباس وأيضًا جاء من طريق أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فيفيد أنه حصل هـٰذا العرض ثانية في المدينة، وعليه فيكون هـٰذا العرض الذي أخبر به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هـٰذا الحديث حصل مرتين: عرض في مكة ليلة الإسراء، وعرض في المدينة كما في حديث ابن عباس وحديث أبي هريرة. ولا مانع من أن يتكرر العرض، وهـٰذا الذي دلت عليه الأحاديث، ونحن تبع لما جاء في الأحاديث؛ لأن الأمر لا مجال فيه للعقل، والحديثان لا يمكن أن يحملا على حادثة واحدة.
فنقول: إن العرض تكرر ولا إشكال في ذلك، وهـٰذا هو اختيار شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله أن العرض تكرر مرتين: عرض في مكة ليلة الإسراء، وعرض في المدينة؛ لصحة الأحاديث بالأمرين. قال: ((فرأيت النبي ومعه الرهط)) يعني: الجماعة ((والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد)). أي: لم يتبعه أحد. ((إذ رفع إلي سواد عظيم)). المقصود بالسواد الجمع الكبير، وسمي سوادًا لأنه إذا كثر المجتمعون غلب على جمعهم السواد، فكانوا سوادًا إذا قارنهم الإنسان بالفضاء المجاور لهم. ((فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هـٰذا موسى وقومه))، وفي هـٰذا إشكال: كيف لم يعرف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمته مع أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أخبر بأنه يعرف أمته بالغرة والتحجيل؟ فالجواب على هـٰذا الإشكال أن يقال: يحتمل أن هـٰذا قبل أن يخبر بهـٰذه السمة التي تميز أمته عن غيرها من الأمم، فيكون قوله: ((فظننت أنهم أمتي)) قبل أن يخبره الله بأن أمته تعرف بالغرة والتحجيل، وهـٰذا يرتفع به الإشكال. احتمال آخر يصلح أن يكون جوابًا على هـٰذا الإشكال، وهو أن يقال: إن هـٰذه الميزة التي يعرف أمته بها هي فيما إذا قربوا منه، أما إذا كانوا على هـٰذه الصفة وهـٰذا الحال في البعد فإنه لا يتبين له هـٰذا الوصف. والجواب الأول أقرب، وكلا الجوابين محتمل.
((فقيل لي: هـٰذا موسى وقومه. فنظرت فإذا سواد عظيم)). وإذا السواد العظيم أعظم من السواد السابق. ((فقيل لي: هـٰذه أمتك)) والمقصود بالأمة هنا أمة الإجابة، أي: من أجابه في دعوته. ((ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب)). وهـٰذا فيه فضيلة هـٰذه الأمة على غيرها من الأمم، فإنّهم سواد عظيم، وفيهم هـٰذا العدد الكبير ممن قال فيهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((إنهم يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب))، وهـٰذا فضل الله يؤتيه من يشاء. قوله: ((بغير حساب)) واضح، أي: إنهم لا يحاسبون على أعمالهم، وأما قوله: ((ولا عذاب)) فهـٰذا بيان لأن نفي الحساب لأمنهم من العقوبة، وليس لكونهم كحال أهل الكفر الذين لا يقيم الله -عز وجل- لهم وزنًا، فإنه لا يقيم لهم وزنًا لكونه لا حسنات لهم، وأما هؤلاء فلا حساب لهم لعظيم ما جاؤوا به من التوحيد كما سيتبين إن شاء الله.
قال: (ثم نهض فدخل منزله) أي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم:) أي الصحابة تكلموا في تعيين هؤلاء، (فقال بعضهم: لعلهم الذين صحبوا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وقال بعضهم: لعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً). هـٰذا احتمال آخر (وذكروا أشياء) أي احتمالات أخرى طوى الراوي ذكرها، وإنما اقتصر على أبرز وأهم ما ذكر صحابة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
ومن هـٰذا المقطع في هـٰذا الخبر يتبيّن لنا عميق فقه الصحابة، فإنهم جزموا وأيقنوا أن هـٰذا الفضل لا يحصل بلا عمل، بل لا بد من عمل يكون أجره وثوابه هـٰذا المفهوم، ولذلك اختلفوا وخاضوا في صفة المستحِق لهـٰذا الفضل: ما هي صفة هولاء الذين يدخلون الجنة من غير حساب ولا عذاب؟
(فخرج عليهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبروه). أخبروه بما جرى من خوض وكلام وبحث في تعيين هؤلاء، ومن هـٰذا أخذ جماعة من العلماء أنه يجوز الخوض في مسائل العلم ولو لم يتقدم للإنسان فيها علم جازم، إذا كان يراجع ولا يستقل بما يتوصل إليه من نتيجة، فللإنسان أن يبحث ويديم النظر والفكر في مسألة لم يسبق له بها علم، ثم يعرض ما توصل إليه من فكر ونتيجة على من هو أعلم منه؛ ليتبين الصواب من الخطأ، وهـٰذا هو الذي جرى من الصحابة: فإن الصحابة خاضوا في تعيين هؤلاء، وهو خوض بلا علم؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما بيَّن لهم، والمقصود بلا علم أي بلا علم معين، وإلا فهم حرصوا واجتهدوا في تعيين هؤلاء من خلال ما عرفوه من أسباب الفضل والسبق في دين الإسلام. (فأخبروه فقال لهم) أي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((هم الذين لا يسترقون)) أي لا يطلبون الرقية، فالاسترقاء هو طلب الرقية من الغير، وفي رواية لمسلم: ((ولا يرقون)).
نقف أولاً عند قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لا يسترقون)). يعني: الذين لا يطلبون الرقية. وأشكل هـٰذا على جماعة من أهل العلم: لماذا جعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هـٰذا الوصف من موجبات ذلك الفضل، مع أن الرقية جائزة وقد فعلها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بنفسه، وأمر بها في حق غيره؟
فالتمسوا لذلك أجوبة:
فمنهم من قال: إن هـٰذا الوصف يفيد كراهية التداوي بالرّقية، وأن التداوي بالرقية مكروه، وما جاء من فعله أو أمره فهو يدل على الجواز.
وقالوا: إن البخاري أشار إلى ذلك فيما ترجم له حيث قال: باب من لم يرق، يعني من لم يستعمل الرقية، وساق هـٰذا الحديث. هـٰذا احتمال.
وقال بعضهم: ((لا يسترقون)) أي: لا يستعملون الرقى الجاهلية، فالرقية معروفة في الجاهلية، ولذلك لما سأل الصحابة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الرقى قال: ((اعرضوا علي رقاكم)). فهو أمر معروف قبل الإسلام، فحملوا قوله: ((لا يسترقون)) على ما كان في الجاهلية. هـٰذا احتمال ثانٍ.
احتمال ثالث قالوا: لا يستعملون الرقية قبل وقوعها، أي: قبل وقوع موجبها وهو المرض. هـٰذه أوجه ثلاثة للجواب عن الإشكال، والحقيقة أنه لا يرتفع بها الإشكال:
أما كراهية التداوي: فالتداوي ليس بمكروه، التداوي تجري فيه الأحكام الخمسة، وسيأتينا إن شاء الله تعالى ذلك.
أما قولهم بأن المقصود بالرقى هنا الرقى الجاهلية: فليس فيه ما يدل على هـٰذا التقييد، فقوله: ((لا يسترقون)) عام في الرقى الجاهلية وفي غيرها.
وأما قولهم: إن هـٰذا في الرقية قبل نزول المرض، فلا يُسَلَّم هـٰذا؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يرقي نفسه ويعوذ الحسن والحسين، ومن أذكار النوم أن يقرأ الإنسان وينفث في يده ويقرأ الإخلاص والمعوذتين ويمسح بهما ما استطاع من جسده، وهـٰذا نوع من أنواع الرقية سواء كان مريضًا أو غير مريض، فالرقية مشروعة للرفع والدفع كما سيأتي.
إذاً ما الجواب على هـٰذا الإشكال في قوله: ((لا يسترقون))؟
الجواب: ما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- في قوله: "وهو أن الحديث أشار إلى أن من تمام التوكل والتوحيد ترك طلب الدّعاء من الغير، فإن الاسترقاء هو طلب الدعاء من الغير، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكر في وصف هؤلاء أنهم لا يطلبون الدعاء من الغير، أما إذا رقوا أنفسهم فإنهم فعلوا مشروعًا مندوبًا فعله رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وكذلك إذا رقوا غيرهم فقد أحسنوا إلى غيرهم، والإحسان قد أمر الله به.
إذًا قوله: ((لا يسترقون)) ما معنى ((لا يسترقون))؟ لا يطلبون الدعاء بالرقية من غيرهم، وهـٰذا أوضح الأجوبة، وهو الذي يتسق مع هـٰذه الأوصاف المذكورة في الحديث.
وأما رواية ((لا يرقون)) التي انفرد بها مسلم فهي رواية ضعيفة شاذة دلت الأحاديث على عدم صحتها.
ثم قال: ((ولا يكتوون)) هـٰذا الوصف الثاني. ((لا يكتوون)) أي: لا يستعملون الكي، سواء بفعل منهم أو بفعل من غيرهم، بطلب أو بغير طلب، وذلك أن الكي فيه إيلام. والكي قد ورد الإذن به، وهو من أسباب العلاج كما جاء ذلك في قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((إن يكن الشفاء في شيء ففي شربة عسل، أو شرطة محجم، أو كية بنار، وأنا لا أكتوي)) فأخبر أنه من طرق العلاج، إلا أنه امتنع منه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وذلك لما فيه من الإيلام، وأن ثمرة هـٰذا الكي غير معلومة؛ لأنه لا يعلم حصول الشفاء بالكي، وما كان من الأدوية على هـٰذا النحو فتمام التوكل أن يُترك كما سيأتينا.
إذاً فهمنا من قوله: ((ولا يكتوون)) أن فيه إيلاماً مع عدم التحقق من حصول المقصود.
ثم قال: ((ولا يتطيرون)) التطير سيأتينا باب خاص به، وهو التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم.
ثم قال: ((وعلى ربهم يتوكلون)) اختلف العلماء في هـٰذا الوصف الأخير: هل هو وصف يعود على الأوصاف السابقة، فيكون من باب عطف العام على الخاص؛ لأن الأوصاف السابقة تدور على التوكل؟ أو هو وصف جديد زائد على ما ذكر؟ قولان لأهل العلم، والظاهر أنه وصف جديد؛ لأنه إذا دار الكلام بين أن يكون تأسيسًا أو تأكيدًا فالأصل التأسيس، ونقول: إن التوكل أعم من الصور المذكورة، فإن قوله: ((لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون)) هـٰذه من صور التوكل، ولكن التوكل أوسع من هـٰذا، فالتوكل صدق الاعتماد على الله في جلب المحاب ودفع المضار، وهـٰذا هو الوصف الرابع الذي أوجب لهؤلاء هـٰذا الوصف العظيم، الأوصاف ما هي؟ ((لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون)). وانظر إلى قوله: ((على ربهم يتوكلون)) قدم ما حقه التأخير لإفادة الحصر في التوكل، وأنه على الله وحده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
قال: (فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم) هـٰذا القول للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طلب عكاشة من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يدعو الله أن يجعله منهم، أي: من هؤلاء الذين تقدم وصفهم وأجرهم، فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((أنت منهم)) وهنا خبر من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأنه منهم، والخبر ليس دعاء، ولكن في رواية البخاري قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((اللهم اجعله منهم)) فيكون قد طابق جوابُ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سؤالَ عكاشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فسأل الله -عز وجل- أن يكون منهم، ثم أخبر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه منهم، فتكون هـٰذه الرواية قد طوت السؤال وأتت بالخبر أو بالنتيجة، وهو أن عكاشة بن محصن -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من هؤلاء الذين تقدم وصفهم وأجرهم. (ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((سبقك بها عكاشة))). وهـٰذا رد حسن منه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على سؤال هـٰذا الرجل، فإنه لم يقل: لست منهم، ولم يجبه إلى ما سأله، وإنما تخلص بجواب حسن فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((سبقك بها عكاشة)). فإذا سبقه بها فلا مجال إلى تحصيله إياها؛ لأن السبق هو التقدم إلى الشيء قبل الغير، هـٰذا هو السبق، فلما تقدم عكاشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إلى هـٰذا الفضل سبق غيره.
وقد اختلف أهل العلم في سبب اعتذار النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن إجابة هـٰذا السائل. فمنهم من قال: إن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يجبه سدّاً للذريعة أو سدّاً للباب؛ لأنه لو أجابه لقال آخر: ادع الله أن يجعلني منهم، ثم انفتح الباب وصار كل أحد يسأل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يدعو الله أن يجعله منهم، ولا ينتهي الأمر عند حد، فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهـٰذا الرجل: ((سبقك بها عكَّاشة)) سدّاً للباب. وهـٰذا جواب لا بأس به.
أجاب آخرون فقالوا: إن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما امتنع من إجابة سؤال هـٰذا السائل لأنه كان منافقًا. وهـٰذا الجواب غير سديد؛ وذلك لأنه جاء في بعض الروايات أن السائل سعد بن عبادة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وسعد من كبار الأنصار، وفي رواية أن السائل أحد المهاجرين، وليس في المهاجرين منافق. وعلى كل لو لم تثبت تلك ولا هـٰذه فإن الأصل في الصحابة أنهم عدول، ثم إنه يبعد غاية البعد أن يصدر هـٰذا السؤال من منافق، بل الغالب والقريب أن هـٰذا سؤال مؤمن مصدق وليس سؤال منافق مكذب، فهـٰذا الجواب جواب ظاهر الضّعف؛ لما تقدم.
أجاب شيخ الإسلام رحمه الله وغيره بأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يجب هـٰذا الرجل إلى سؤاله لأنه أوحي إليه أنه لا يجاب إلا في عكاشة، فلما علم أنه لا يجاب إلا في عكاشة قال: ((سبقك بها عكاشة)). وهـٰذا جواب لا بأس به. والذي يظهر أن الجواب الأول هو أولى الأجوبة.
ثم بهـٰذا يكون المؤلف قد انتهى مما في هـٰذا الباب من آثار أو من نصوص، فذكر أولاً آية: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا﴾، ثم ذكر قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ﴾. ثم ذكر حديث حصين بن عبد الرحمن. ومناسبة حديث حصين بن عبد الرحمن للباب واضحة: حيث قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيان الذين ((يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب))-: ((هم الذين لايسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون)). وهـٰذه أوصاف تدور على تحقيق التوحيد وتكميله، وألا يكون في قلب العبد شيء غير الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- .
[المتن]
فيه مسائل:
الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد.
[الشرح]
هـٰذه المسألة أنّ الناس في التوحيد متفاوتون، وليسوا على درجة واحدة: فمنهم من يأتي بأقله، ومنهم من يأتي بغايته، وذلك بتحقيق التوحيد وتكميله وتخليصه من الشوائب والأدران، فالناس في التوحيد على مراتب وليسوا في درجة واحدة، بل هم متفاضلون في التوحيد كما أنهم متفاضلون في الإيمان.
[المتن]
الثانية: ما معنى تحقيقه؟
[الشرح]
تحقيق التوحيد هو تكميله، لئلا يبقى في قلب العبد شيء غير الله تعالى؛ لأن التحقيق هو التثبيت، ولا يكون كذلك إلا إذا كان قلبه خالصًا له؛ محبة وخوفا ورجاء وخشة وإنابة .. جميع أعمال القلوب، ويكون مواليًا لربه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ، قريبًا منه مسارعًا إلى محابه، مبتعدًا عن كل ما يغضبه.
[المتن]
الثالثة: ثناؤه سبحانه على إبراهيم بكونه لم يكن من المشركين.
[الشرح]
فعلم بذلك أنه لا يحصل تحقيق التوحيد إلا بالبراءة من الشرك.
[المتن]
الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك.
[الشرح]
وذلك في الآية ﴿وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ﴾( )
[المتن]
الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد.
[الشرح]
المراد بترك الرقية هنا: ترك طلبها كما تقدم بيانه في الشرح، وترك الكي تقدم أيضا وسيأتي نزيد بيان لهذين.
[المتن]
السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل.
[الشرح]
وهـٰذا من الشيخ -رحمه الله- ترجيح لكون قوله: ((وعلى ربهم يتوكلون)) لأنه من عطف العام على الخاص، وأنها تعود على جميع ما تقدم من الصفات.
[المتن]
السابعة: عمق علم الصحابة بمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل.
[الشرح]
لأنهم خاضوا في تحديد ما يثبت به هـٰذا الفضل.
[المتن]
الثامنة: حرصهم على الخير.
[الشرح]
وجهه أنهم بحثوا وخاضوا وحققوا ثم رجعوا يسألون رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ ليتوصلوا إلى تلك الأوصاف التي توجب ذلك الفضل.
[المتن]
التاسعة: فضيلة هـٰذه الأمّة بالكمية والكيفية.
[الشرح]
الكمية لأنّهم سواد عظيم، والكيفية منهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم بين صفاتهم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقوله: ((هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون)) فهـٰذا فضل في الكيفية وفضل في الكمية.
[المتن]
العاشرة: فضيلة أصحاب موسى.
[الشرح]
من حيث الكثرة، وأنه من أكثر الأنبياء تابعًا، وإلا فهم من أعتى الأمم جحودًا واستكبارًا.
[المتن]
الحادية عشرة: عرض الأمم عليه –عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-.
الثانية عشرة: أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها.
[الشرح]
هـٰذا ظاهر فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((عرضت عليّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط)) ممن تبعه ((والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد)) ثم ذكر أمة موسى، ثم ذكر أمته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فالأمم يوم القيامة تتمايز مع أن الموقف واحد، ولكنهم يتمايزون كل في زمرة من تبع.
[المتن]
الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء.
[الشرح]
لقوله –عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-: ((رأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد)). وهـٰذا من أعجب ما يكون! أن يأتي نبي ليس معه أحد، وهـٰذا مصداق قول الله جل وعلا: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ﴾( ) وقوله: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)﴾ ( ) وغير ذلك من الآيات التي تدل على قلة الاهتداء في بني آدم.
[المتن]
الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحد يأتي وحده.
[الشرح]
وهـٰذا ظاهر في قوله: ((والنبي وليس معه أحد))، وهـٰذا لا ينقص منزلته ولا يقدح في مكانته، ولا يقلل من أجره؛ لأن المطلوب من العبد أن يدعو إلى الله عز وجل، وأن يبين الحق، أما الاستجابة ليست إليه، إنما إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يمن بها على من يشاء،فلا تثريب على الإنسان إذا لم يجب أحد دعوته، فلا يكترث المؤمن بكثرة أو قلة من يجيبه بل يكترث بصحة ما يدعو إليه، فإذا كان الإنسان في دعوته وتبليغه على حق لا يضره ألا يجيبه أحد إلى ما هو عليه.
[المتن]
الخامسة عشرة: ثمرة هـٰذا العلم، وهو عدم الاغتـرار بالكثـرة، وعـدم الزهد في القلة.
[الشرح]
(عدم الاغتـرار بالكثـرة) فتعميه عن الحق، (وعـدم الزهد في القلة) لا يزهد في القلة فيخالف سبيل الهدى لطلب كثرة التابع، فهو يعامل الله رب العالمين -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ لذلك قال ابن تيمية رحمه الله: ومعيار السعادة في معاملة الخلق أن تعامل الله تعالى فيهم لا تعاملهم في الله. ومعنى هـٰذا الكلام: أن ترجو الله في معاملتك لهم، أما هم فلا يقدمون ولا يؤخرون، بل ينظر المؤمن في كل شؤونه في حق الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-. وإذا سار الإنسان على هـٰذه الطريقة سلم له عمله، وانشرح له صدره، فلا يكترث بما يلقاه من صدود أو إعراض أو غير ذلك من أذى الخلق بسبب دعوتهم إلى التوحيد.
[المتن]
السادسة عشرة: الرخصة في الرقية من العين والحمة.
السابعة عشرة: عمق علم السلف؛ لقوله: (قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن كذا وكذا). فعُلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني.
[الشرح]
(قد أحسن من انتهى إلى ما سمع) هـٰذا فيه بيان أنه لم يأتِ نقصًا ولم يغشَ خطأً، وأما قوله: (ولكن كذا وكذا) هو نقل له من منزلة إلى منزلة أعلى منها، فلم يثرب عليه بل نقله إلى الكمال، ولذلك قال: (فعُلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني)؛ لأن الحديث الأول رخصة وإباحة، أما الثاني ففضيلة وسبق.
[المتن]
الثامنة عشرة: بعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه.
التاسعة عشرة: قوله: ((أنت منهم)) علم من أعلام النبوة.
الشرح]
لأنه إخبار بأمر غيبي.
[المتن]
العشرون: فضيلة عكاشة.
الحادية والعشرون: استعمال المعاريض.
الثانية والعشرون: حسن خلقه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
شرح
كتاب التوحيد
الذي هو حق الله على العبيد
لشيخ الإسلام والمسلمين مجدد الدين
محمد بن عبد الوهاب التميمي المشرفي
- رحمه الله تعالى-
لفضيلة الشيخ
الدرس الرابع
www.almosleh.com
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
[المتن]
باب الخوف من الشرك
وقول الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾.( )
وقال الخليل عليه السلام: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾( ).
وفي الحديث: ((أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)). فسئل عنه فقال: ((الرياء)).
وعن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((من مات وهو يدعو من دون الله ندّاً دخل النار)). رواه البخاري.
ولمسلم عن جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار)).
[الشرح]
قال المؤلف رحمه الله: (باب الخوف من الشرك وقول الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ..﴾ الآية.)
مناسبة هـٰذا الباب لما قبله: أنه في الباب السابق ذكر تحقيق التوحيد، وفي هـٰذا الباب ذكر المؤلف رحمه الله الخوف من الشرك، يعني من المناسبة أنه يشير بهـٰذه الترجمة إلى أنه ينبغي للإنسان ألا يركن إلى كونه قد حقق التوحيد، بل لابد -مع مجاهدته وعمله في تحقيق التوحيد- أن يكون خائفًا وجلاً من الشرك، ويمكن أن يقال أيضا: إنه لا يكون ولا يحصل تحقيق التوحيد إلا بالخوف من الشرك، فيكون لهـٰذه الترجمة مناسبتان.
المناسبة الأولى: ألا يركن الإنسان إلى ما يظنه من تحقيق التوحيد فيقول: إذا حققت التوحيد فقد أمنت من الشرك، بل يجب -مع مجاهدته في تحقيق التوحيد- أن يكون على حذر من الوقوع في الشرك.
المناسبة الثانية: أن من كمال تحقيق التوحيد وتمامه أن يكون الإنسان خائفًا من الشرك وجلاً منه، فإنه إذا كان كذلك سلم له توحيده، وصح له إيمانه.
أما مناسبة هـٰذا الباب لكتاب التوحيد فهي ظاهرة: فإن الخوف من الشرك من أهم ما يكون من ثبوت التوحيد، قال رحمه الله: (باب الخوف).
(الخوف) ضد الأمن، وهو الوجل والخشية.
(من الشرك). و(الشرك) يدل في اللغة على التسوية، وهو في الاصطلاح: تسوية الله بغيره في الربوبية أو في الإلهية أو في الأسماء والصفات. وأصل الشرك بجميع صوره وأنواعه يرجع إلى أمرين.
الأمر الأول: تشبيه الخالق بالمخلوق.
والأمر الثاني: التشبّه بالخالق.
وإلى هـٰذين الوصفين يرجع كل شرك في الدنيا، سواء كان شركًا في الرّبوبية أو شركًا في الإلهية أو شركًا في الأسماء والصفات. وقد عاب الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- على المشركين شركهم، ووصفه بأنه عدل وتسوية فقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾( ) أي: يسوون به غيره، ففهم من هـٰذا أن الشرك الذي وقع فيه هؤلاء مداره على التسوية.
و(الشرك) يقسمه العلماء إلى شرك في الربوبية وشرك في الإلهية وشرك في الأسماء والصفات، وهو يقابل التقسيم الذي تقدم في التوحيد، وهو توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية وتوحيد الأسماء والصفات.
أفادت هـٰذه الترجمة أنه ينبغي للمؤمن أن يخاف من الشرك، وألا يأمن على نفسه منه، وهـٰذا يوجب دوام المراقبة.
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله- في هـٰذا الباب، قال: (وقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾( ).)
هـٰذه الآية آية عظيمة، فيها بيان فضل التوحيد وخطورة الشِّرك، فهي توجب للعبد الإقبال على التوحيد وتحقيقه، والخوف من الشرك والتحذير منه. يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾. والمغفرة هي الستر والتجاوز إذا أُطلقت، فنفى الله -عز وجل- مغفرة الذنوب والستر على فاعلها والتجاوز عنه في هـٰذه الآية إن كان الفاعل قد قارف شركًا، فإن الشرك غير قابل للمغفرة.
﴿أَنْ﴾ مصدرية ﴿يُشْرَكَ﴾ فعل مضارع هو وأَنْ في تأويل مصدر. تقدير الكلام: إن الله لا يغفر إشراكًا به. وهـٰذا يوجب الخوف، فإذا كان الشرك سببًا لمنع المغفرة فإن الواجب أن يحذر منه وأن يخاف منه، لأنه يحول دون رحمة الله ومغفرته، وفي المقابل: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ يغفر الله -جل وعلا- بالستر والتجاوز ما دون ذلك. ﴿مَا﴾ هنا بمعنى الذي ﴿دُونَ ذَلِكَ﴾ أقل أو سوى، قولان لأهل العلم، فيغفر ما سوى أو ما أقل من ذلك ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ والمشار إليه في قوله: ﴿ذَلِكَ﴾ الشرك، ولكنه فيما دون الشرك علق المغفرة بالمشيئة فقال: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ فعُلم أن المغفرة فيما دون الشرك ليست مطلقة، بل هي معلقة بالمشيئة: إن شاء الله غفر، وإن شاء أخذ. وهـٰذه الآية دالة على عظم جرم الشرك، وأنه من أعظم أسباب منع المغفرة.
لكن ما المراد بالشرك الذي يمنع المغفرة، هل هو الشرك الأصغر أو الأكبر؟ أو الشرك الأصغر والأكبر؟ قولان لأهل العلم:
فمنهم من قال: إن المراد بالشرك في هـٰذه الآية الشرك الأكبر، وجعل هـٰذه الآية نظير قول الله عز وجل: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلَّظَالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾( ) وهـٰذه الآية اتفاق أهل العلم منعقد على أن المراد بالشرك فيها هو الشرك الأكبر، وقال: هـٰذه مثلها، وهـٰذا قول لشيخ الإسلام رحمه الله في موضع.
والقول الثاني: أن الآية تشمل نوعي الشرك: الشرك الأصغر والشرك الأكبر، فكلاهما لا يغفر؛ لأن أَنْ والفعل الذي دخلت عليه في تأويل مصدر تقديره إشراكًا، إن الله لا يغفر إشراكًا به، وإشراكًا نكرة في سياق النفي فتفيد العموم، ومقتضى هـٰذا أن يدخل في الآية كل أنواع الشرك.
وهـٰذا القول الثاني قال به شيخ الإسلام في موضع، وقال به الشيخ عبد الرحمـٰن السعدي رحمه الله في كلام له.
وعلى كل حال الشرك الأصغر أمره عظيم وخطره جليل، وظاهر الآية يشمل الشرك الأصغر، فإن لم يدل الإجماع على أن الشرك الأصغر ليس داخلاً في الآية فالأصل إجراء اللفظ على ما دل عليه من العموم؛ لأن الأصل عدم التخصيص.
لكن هل معنى هـٰذا أن الشرك الأصغر يوجب الخلود في النار؟
الجواب: لا، فإن هـٰذا مما يفارق فيه الشرك الأصغر الشرك الأكبر. الشّرك الأصغر يفارق الشرك الأكبر في أن الشرك الأكبر يوجب الخلود في النار، وأما الشرك الأصغر فلا يوجب الخلود في النار، هـٰذا فرق.
الفرق الثاني: أن الشرك الأصغر لا يخرج به صاحبه من الإسلام، والشرك الأكبر يخرج به صاحبه من الإسلام.
الفرق الثالث: أن الشرك الأصغر في الوسائل، والشرك الأكبر في المقاصد، يعني: في العبادات.
ولذلك الشرك الأكبر هو صرف أي عبادة لغير الله عز وجل، أن يجعل لله ندّاً بأن تصرف له العبادة.
والشرك الأصغر هو كل وسيلة تفضي إلى الشرك الأكبر. هـٰذا أفضل ما عرف به الشرك الأصغر أن يقال: هو كل وسيلة تفضي إلى الشرك الأكبر. هـٰذه ثلاثة فروق، ويأتي من الفروق من إطلاقات الشارع، فإن الشارع استعمل في الدلالة على الشرك الأصغر ألفاظًا تخالف الألفاظ التي استعملها للشرك الأكبر، ويتبين ذلك إن شاء الله تعالى من خلال ما يمر علينا. والصحيح في هـٰذه الآية أنها تشمل النوعين، هـٰذا هو الأصل مالم يدل على خلاف ذلك إجماع.
هـٰذه الآية أفادت أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يغفر الذنوب ما دون الشرك، والمراد بما دون الشرك أي ما سواه وما أقل منه، وأما ما كان مثل الشرك أو أشد منه فإن الله لا يغفره -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
هل هناك شيء أشد من الشرك؟ الإلحاد أعظم من الشرك. أنت الآن عندك شخص يعبد الله ويعبد غيره، وآخر لا يعبد الله يقول: ما فيه رب أصلاً، أيهما أعظم كفرًا؟ الذي يثبت الله ويعبد معه غيره أو الذي ينفي الله بالكلية؟ الذي ينفي الله بالكلية، ولذلك كان كفر التعطيل أعظم من كفر الشرك ، فالملحدون أعظم كفرًا وأشد عذابًا من المشركين الذي يعبدون الله ويصرفون العبادة لغيره، فالآية تشمل ما دون الشرك، أما ما كان مثل الشرك في المرتبة -كسائر أنواع الكفر التي دل الكتاب والسنة على أنها كفر- أو كان أعظم كالإلحاد فإنه داخل في الآية في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾. وقال: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ أي: بقية الذنوب التي دون الشرك، وهي الكبائر.
ثم قال: (وقال الخليل عليه السلام: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾.( ))
الآية الثانية هي من قول إبراهيم -عليه السلام- في قوله: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ﴾( ) فسأل إبراهيم الله أن يجنبه عبادة الأصنام. ﴿وَاْجُنْبِنِي﴾ أي: باعد بيني وبين عبادة الأصنام، وذلك بأن تكون عبادة الأصنام في جانب وأنا في جانب. ﴿وَبَنِيَّ﴾ قيل في المراد بهم قولان: الأول: أنهم بنوه لصلبه، وهم إسماعيل وإسحاق، وقيل: هم ذريته. وعلى القول الثاني هل يكون قد أجاب الله دعاء إبراهيم؟ لا؛ لأن قريشاً من ذريته وقد وقعوا في الشرك، والظاهر في قوله: ﴿وَبَنِيَّ﴾ أنهم بنوه لصلبه، أو بنوه الذين أدركهم، سواء المباشرون أو من تفرعوا عنهم.
ثم قال: ﴿أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ ويشمل هـٰذا العبادة بأنواعها، وذلك بصرف أي نوع من أنواع العبادة، والأصنام جمع صنم، والصنم قيل: هو الجثة -من شجر أو حجر أو خشب أو غير ذلك- التي تُعبد من دون الله. وقيل: إنه كل ما عبد من دون الله. وقيل: هو ما صرف عن الله. وكل هـٰذه المعاني متقاربة، لكن أشملها أن يقال: الصنم كل ما عُبد من دون الله، لكن في الغالب أن يطلق ذلك على ما كان له هيئة وصورة من حجر أو شجر أو غير ذلك. والله تعالى أعلم.
ثم قال المؤلف (في الحديث: ((أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)). فسئل عنه فقال: ((الرياء)).)
هـٰذا الحديث أتى به المؤلف -رحمه الله- لبيان أن خوف الشرك لا يكون فقط على من ضعُف إيمانه وقلّ يقينه، بل يجب أن يخاف الشرك كل أحد، فإذا كان إمام الموحدين إبراهيم -عليه السلام- خافه على نفسه وعلى ذريته فغيره أحقّ بهـٰذا الخوف؛ لهـٰذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)). يعني: أشد ما أخاف عليكم من الأمور الشرك الأصغر، وذلك أن الشرك الأصغر يخفى كثيرًا ولا يتنبّه له الإنسان، كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((الشرك في أمتي أخفى من دبيب النملة السوداء على الصفاة الصماء في الليلة الظلماء)). وهـٰذا خفي جدّاً يعسر إدراكه ويصعب تبينه، ولا يمكن أن يتوقى منه الإنسان إلا بشدة الحذر ودوام المراقبة وكثرة الاستغفار والاستعاذة بالله من الشرك، ولذلك لما سأل أبو بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن سبيل النجاة من هـٰذا الشرك الدقيق الخفي قال: ((أن تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)).
وقد فسّر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الشرك الأصغر في هـٰذا الحديث بـ((الرياء)).
والرياء: هو أن يعمل العمل لأجل أن يُرى، لا طلبًا لما عند الله عز وجل وطلبًا لمرضاته وابتغاء لوجهه، إنما لأجل أن يراه الرائي، وتفسير النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للشرك الأصغر بـ((الرياء)) هو تفسير بالمثال، وإنما ذكر الرياء دون غيره من الشرك الأصغر لأنه أخطرها وأكثرها انتشارًا وأقلها تنبّهًا، فإن الناس لا يتنبهون إليه؛ لخفائه واختلاطه وكونه لا يظهر. وأما تعريفه العام الذي ينتظم الصور فهو ما تقدّم من أن كل وسيلة تفضي إلى الشرك الأكبر فإنها من الشرك الأصغر.
وفي هـٰذا الحديث: أنه ينبغي للإنسان ألا يركن إلى ما عنده من الخير، وأن يحذر الشرك الأصغر والأكبر جميعًا، وأن الخوف لا يكون فقط من الشرك الأكبر بل حتى الأصغر، فهو أولى بشدة الخوف؛ لكونه يخفى على الإنسان، بخلاف الأكبر فإنه ظاهر وقد يحترز منه الإنسان، وإبراهيم -عليه السلام- ذكر الخوف من الشرك الأكبر: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾.( ) الشرك الأكبر في أظهر صوره وهي عبادة الأصنام، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكر الشرك الأصغر في أخفى صوره وهي الرياء، وبهـٰذا نعلم أن الشرك الأكبر والشرك الأصغر يشتركان في وجوب الخوف من الوقوع فيهما، ويشتركان في وجوب الحذر منهما. وهـٰذا الحديث ثبت بسند جيد من حديث محمود بن لبيد، ومناسبته للباب ظاهرة.
أما الحديث الثاني فحديث ابن مسعود، وفيه: (أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((من مات وهو يدعو من دون الله ندّاً دخل النار)).)
((من)) شرطية، و((مات)) فعل الشرط، وجوابه قوله: ((دخل النار)). وأما قوله: ((وهو يدعو من دون الله ندّاً)) فهـٰذه جملة حالية، أي: من مات حال موته وهو على هـٰذه الحال وهو على هـٰذه الصفة فإنه موعود بدخول النار، نعوذ بالله من الخذلان.
يقول: ((من مات وهو يدعو من دون الله ندّاً)) وفي بعض الروايات: ((من مات وهو يدعو لله ندّاً)). والدعاء أصله النداء، ولكنه يفارقه في أنه لا يلزم منه رفع الصوت ولا يشترط فيه حرف النداء، والدعاء يكون بالقول والفعل وأما النداء فلا يكون إلا بالقول الظاهر، والدعاء في هـٰذا الحديث هو العبادة بجميع أنواعها وصورها. والمراد من قوله: ((يدعو من دون الله ندّاً)) أي يعبد من دون الله أحدًا، سواء كان هـٰذا المعبود ملكًا أو رسولاً أو وليّاً صالحًا أو شجرًا أو حجرًا، كل هـٰذا مما يدخل في عموم قوله: ((يدعو لله ندّاً)) وهـٰذا فيه بيان عظم الشرك وخطورة تسوية الله بغيره -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وتسويةُ غير الله به هي الشرك، بل هي أصل الشرك كما تقدم في بيان الشرك وتعريفه. قوله: ((ندّاً)) نكرة في سياق الشرط يشمل كل مماثل، فمعنى الند: المثيل والنظير والمساوي. وقيل: هو المثيل المناوئ، لكن هـٰذا لا يلزم، الصحيح أن الند هو النظير والمثيل والسمي، كل هـٰذا مما عُرف به الند. وقد نهى الله -جل وعلا- أن يدعى من دونه أندادٌ أو أن يجعل له أندادٌ، فهو -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- المنزه عن ذلك في كل أمر وفي كل شأن، فقال سبحانه: ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾( ) فنهى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عن جعل الأنداد، وقوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي: أنه لا ندَّ له -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ لأن هـٰذا مما استقر في الفطر ولا شك فيه، فإن المشركين يقرون بأنه لا رب إلا الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
وقوله: ((دخل النار)) الدخول هنا هل هو الدخول الأبدي؟
الجواب: إن كان شركًا أكبر فنعم يكون دخولاً أبديّاً، وهو الظاهر أن المراد بهـٰذا الحديث الشرك الأكبر؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72)﴾( ) والنار هي الدار التي أعدها الله -عز وجل- لعباده المعاندين، ودخولها بالنسبة لأهل الشرك دخول أبدي كما تقدم في الآية؛ لأنّ الله حرم عليهم الجنة.
ومناسبة هـٰذا الحديث للباب ظاهرة: فإن الشرك إذا كان هـٰذا مآل صاحبه فإنه يوجب الحذر والخوف واليقظة والتنبه من أن يكون الإنسان فيه الشرك الذي يسبب حرمان الجنة والخلود في النار، ثم قال: (رواه البخاري.)
(ولمسلم عن جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار)).)
أيضًا هـٰذا الحديث فيه ما في الحديث المتقدم من التحذير والتخويف من الوقوع في الشرك دقيقه وجليله؛ لأنه من لقي الله يشرك به شيئًا فإنه موعود بدخول النار، فإنْ كان شركه أكبر فدخوله أبدي، وإن كان شركه أصغر فيدخل إلى أن يمحَّص ويخلص من أوضار الشرك ولوثاته ثم بعد ذلك ينقل إلى الجنة. وأما قوله: ((من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة)). فهـٰذا في حق من حقق التوحيد وسلم من الشرك دقيقه وجليله.
وهـٰذا الحديث فيه المناسبة التي في الحديث السابق من وجوب الخوف والحذر من الشِّرك؛ لأن قليل الشرك وكثيره واحد في كون صاحبه متوعَّدًا بدخول النار، نعوذ بالله من الخسران.
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله- مسائل فقال:
[المتن]
فيه مسائل:
الأولى: الخوف من الشرك.
الثانية: أن الرياء من الشرك.
[الشرح]
هـٰذا لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (((أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)). فسئل عنه فقال: ((الرياء)).) فسماه شركا.
[المتن]
الثالثة: أنه من الشرك الأصغر.
[الشرح]
وهـٰذا كما ذكره النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث، ومنه نأخذ منه أن الشرك قسمان: شرك أكبر، وشرك أصغر.
[المتن]
الرابعة: أنه أخوف ما يُخاف منه على الصالحين.
[الشرح]
لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خافه على أصحابه، وهم خيار الأمة؛ بل هم خيار الناس بعد الأنبياء، فخوفه على من سواهم أولى وأحرى.
[المتن]
الخامسة: قرب الجنة والنار.
[الشرح]
وهـٰذا من قوله: ((من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار)). دل ذلك على قربهما وسهولة الوصول إليهما.
[المتن]
السادسة: الجمع بين قربهما في حديث واحد.
[الشرح]
في حديث جابر.
[المتن]
السابعة: أن من لقيه لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار ولو كان من أعبد الناس.
[الشرح]
لأن الشرك مانع من دخول الجنة، والدليل على أنه مانع ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ﴾( ) لأن التحريم هو المنع، فلو وجد الشرك في إنسان ولو كان على أكمل أحوال الناس عبادةً وتقربًا إلى الله فإنه يمنع من دخول الجنة؛ لكونه بخس الله حقه بهـٰذا الشرك الذي وقع فيه. والمراد بالشرك أي الشرك الأكبر، أما الأصغر فإنه يحاسب عليه ثم يؤول أمره إلى الجنة.
[المتن]
الثامنة: المسألة العظيمة: سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام.
[الشرح]
وذلك في قوله: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾( ) وهي مسألة عظيمة؛ لأن إبراهيم عليه السلام اجتهد اجتهادًا عظيمًا في تبليغ التّوحيد والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه، ولقي في ذلك ما لقي تحقيقًا له وعملاً به، ومع ذلك لم يأمن على نفسه من أن يقع في أظهر صور الشِّرك وهي عبادة الأصنام، وهـٰذا يوجب الخوف ويظهر أن المسألة عظيمة وليست سهلة.
[المتن]
التاسعة: اعتباره بحال الأكثر؛ لقوله: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ﴾( ).
[الشرح]
إذا كان هـٰذا حال الأكثر فما يؤمنك أن تكون منهم، وفيهم الأذكياء وأصحاب الفكر، والنظر؟ ولكن حال الله تعالى بينهم وبين الهداية: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾،( ) ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)﴾ ( )
[المتن]
العاشرة: فيه تفسير (لا إلـٰه إلا الله) كما ذكره البخاري.
الحادية عشرة: فضيلة من سلم من الشرك.
شرح
كتاب التوحيد
الذي هو حق الله على العبيد
لشيخ الإسلام والمسلمين مجدد الدين
محمد بن عبد الوهاب التميمي المشرفي
- رحمه الله تعالى-
لفضيلة الشيخ
الدرس الخامس
www.almosleh.com
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
[المتن]
باب الدعاء إلى شهادة أن لا إلـٰه إلا الله
وقول الله تعالى: ﴿قُلْ هـٰذه سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾( ) الآية.
عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-، أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له: ((إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إلـٰه إلا الله - وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله-، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم. واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) أخرجاه.
ولهما عن سهل بن سعد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال يوم خيبر: ((لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه)). فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها. فلما أصبحوا غدوا على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كلهم يرجو أن يعطاها. فقال: ((أين علي بن أبي طالب؟ )). فقيل: هو يشتكي عينيه. فأرسلوا إليه، فأتي به فبصق في عينيه، ودعا له، فبرئ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال: ((انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا، خير لك من حمر النعم)). يدوكون: يخوضون.
[الشرح]
هـٰذا الباب (باب الدعاء إلى شهادة أن لا إلـٰه إلا الله) مناسبته لكتاب التوحيد ظاهرة: فإن هـٰذا الباب فيه بيان فضل الدعاء إلى التوحيد، وأن هـٰذا سبيل المرسلين.
وأما مناسبته لما قبله: فإنه -رحمه الله- لما تكلم فيما مضى عن التوحيد وفضله وفضل من حقّقه، وعن الشرك ووجوب الخوف منه- بيَّن في هـٰذا الباب أهمية الدعوة إلى التوحيد، وأنه من حق التوحيد أن يدعو الإنسان إليه، من حقه أي من لوازمه وواجباته أن يدعو الإنسان إليه. ومجيء المؤلف رحمه الله بهـٰذا الباب في مقدمة كتابه والذي مضى مما يتعلق بالتوحيد، سبب ذلك: أنه -رحمه الله- أراد أن يبين أنه لا يلزم في تبليغ التوحيد والدعوة إليه أن يلمّ الإنسان بجميع ما يتعلق بهـٰذا الباب من مسائل، بل يكفي في وجوب الدعوة إلى التوحيد أن يحيط علمًا بأصول هـٰذا الباب ومجملاته، فإن التوحيد المجمل مما يجب الدعوة إليه، وأما تفصيل ذلك فيمكن أن يدركه الإنسان فيما يستقبل، فلا يمتنع عن الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك بعلة أنه لم يستكمل دراسة هـٰذا الباب ولم يستكمل الإحاطة به، بل يكفي للدعوة إلى هـٰذا الإحاطة بالمجملات، وهو أن يعلم الإنسان وجوب إفراد الله بالعبادة وأنه لا يجوز أن يصرف شيئًا من العبادة لغير الله عز وجل. هـٰذا وجه.
الوجه الثاني: أن من سبل تحقيق التوحيد ومن طرق السلامة من الشرك أن يدعو الإنسان إلى التوحيد، فإن من دعا إلى شيء امتلأ قلبه به وصلب فيه، بخلاف من أدرك الشيء في ذهنه وعمل به في نفسه دون أن يدعو إليه غيره، فإن هـٰذا أقل صلابة فيما هو فيه. ولذلك لاحظ نفسك إذا قرأت بابًا من العلم ثم يسّر الله لك أن تعلم هـٰذا العلم إما في كلمة أو في درس أو في خطبة أو في غير ذلك من وسائل التعليم، تجد أنك أرسخ في هـٰذا الذي علمت من أبواب العلم منك في غيره، والسبب أن التعليم تثبت به المعلومات وتستقر به قدم صاحبه، فالدعوة إلى التوحيد من أعظم وسائل الثبات عليه، وكذلك هو من وسائل الحذر من الشرك.
ثم إنه مما يستفاد من جعل المؤلف -رحمه الله- هـٰذا الباب في أوائل الكتاب أنه يكفي في فهم دعوة الرسل ما تقدم، فإن الرسل أتوا يأمرون الناس بهـٰذا الأمر المجمل: لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له، يأمرونهم بعبادة الله وحده دون غيره، وعلى هـٰذا تواطأت دعوة الرسل، فيكفي في دعوة الناس إلى التوحيد أن يُدْعَوا إلى هـٰذا.
أيضًا مما يفيده تقديم المؤلف -رحمه الله- هـٰذا الباب قبل غيره أنه يجب في الدعوة إلى التوحيد أن يبدأ بالدعوة إلى أصله وأُسه وأَساسه الذي لا يقوم بغيره، وهو إفراد الله بالعبادة، الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فإنها كلمة الدخول في الإسلام وهي مفتاح الجنة، هي أول واجب على المكلف وهي آخر ما يشرع للمكلف، فإن ((من كان آخر كلامه من الدنيا لا إلـٰه إلا الله دخل الجنة)).كل هـٰذا مما يمكن استفادته من تقديم المؤلف -رحمه الله- هـٰذا الباب بعد ذكره للتوحيد والشرك وقبل ذكره للتفاصيل.
وقوله رحمه الله: (الدعاء إلى شهادة أن لا إلـٰه إلا الله) ولم يقل: الدعاء إلى التوحيد؛ ليبين ما الذي يُدعى إليه من التوحيد، وهو الدعوة إلى شهادة أن لا إلـٰه إلا الله وهو توحيد العبادة، فإن الرسل جاءت تدعو إلى هـٰذا: أن اعبدوا الله، هـٰذا الذي أمرت به الرسل، عبادة الله وحده: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾.( ) فأمر الله -عز وجل- الرسل بالدعوة إلى عبادته وحده.
وأما توحيد الربوبية: فإن توحيد الربوبية يذكر لا لأجل تقريره- فإنه مما استقر في الفطر- إنما يذكر لأجل الاستدلال به على توحيد الإلهية، وكذلك الأسماء والصفات تذكر لتقرير الإلهية، فمن تمام الإيمان بالأسماء والصفات وما ذكره الله عن نفسه من جميل الأفعال يلزم منه إثبات أنه لا إلـٰه غيره -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- . فتصريح المؤلف بالشهادة هنا لبيان أن الرسل إنما دعت إلى هـٰذا، وأنه أول ما يدعى إليه، وأنه الأصل الذي يجب أن يشتغل به من يدعو إلى الله عز وجل.
ثم في هـٰذا الباب ذكر المؤلف -رحمه الله- آية وحديثين، الآية قول الله تعالى: ﴿قُلْ هـٰذه سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ ﴿قُلْ﴾ أمر بالتبليغ، أمر الله -عز وجل- رسوله أن يبلغ الناس، والأمر بالتبليغ الخاص فائدته الاهتمام بهـٰذا البلاغ والتنبيه إلى ما تضمنه. وقوله: ﴿هـٰذه سَبِيلِي﴾ المشار إليه ما كان عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك، فـ﴿هـٰذه سَبِيلِي﴾ أي هـٰذه طريقي التي أسلكها. ثم بيَّن هـٰذا السبيل بعد الإِشارة إليه، والذي تفيده الإشارة هو التنبيه وشد النظر والفكر إلى هـٰذا السبيل، قال: ﴿أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ فسبيل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الدعوة إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وقوله: ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ البصيرة هي نور يقذفه الله في قلب العبد يفرق به بين الحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشاد، هـٰذه هي البصيرة، فرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمره ربه في هـٰذا أن يبيِّن للناس أمرين: أن يبين المدعو إليه وذلك في قوله: ﴿أَدْعُو إِلَى اللَّهِ﴾، وأن يبين طريقة دعوته إلى الله وذلك في قوله: ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ﴾؛ لأن من الناس من يدعو إلى الله لكنه على غير بصيرة وهدى، فيفسد أكثر مما يصلح، وإنما يكتمل الصلاح بهذين الأمرين: بالدعوة إلى الله وحده لا شريك له، وبكون الداعية في دعوته على بصيرة ونور وفرقان من رب العالمين يميِّز به بين الحق والباطل.
وقوله: ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ أتى بحرف ﴿عَلَى﴾ الذي يفيد الاستعلاء؛ ليبين تمكنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من هـٰذه البصيرة، وأنه عليها مستقر في جميع أحواله وفي جميع دعوته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ﴿قُلْ هـٰذه سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ قوله: ﴿أَنَا﴾ قيل: هـٰذا تأكيد للضمير في قوله: ﴿أَدْعُو﴾ وسبب هـٰذا التأكيد ليعطف عليه قوله: ﴿وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾. فيكون الكلام: ﴿قُلْ هـٰذه سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ فيكون هو ومن اتبعه على هذين الأمرين: على بصيرة، وعلى دعوة إلى الله عز وجل، ودعوة إليه دون غيره.
وقال بعض أهل العلم: إن قوله: ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ أن الكلام ﴿قُلْ هـٰذه سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ﴾ ثم يستأنف خبرًا جديدًا وهو في قوله: ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ فتكون ﴿أَنَا﴾ هنا مبتدأ مؤخراً و﴿عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ خبراً مقدماً، وقدم لإفادة الحصر.
وكلا المعنيين صحيح: فهو -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو ومن اتبعه على بصيرة، وهو -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن اتبعه يدعو إلى الله.
والمعنى الأول أكمل؛ لأنه يثبت له -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الدعوة إلى الله وأنه على بصيرة، ويثبت ذلك لكل من اتبعه، وهـٰذا لا إشكال فيه؛ لأن من اتبع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- موافق له -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذين الأمرين، بل لا يكمل الاتّباع ولا يحصل إلا بموافقة هذين الأمرين: بإفراد الله عز وجل بالدعوة، وكونه على بصيرة في أمره ودعوته ودعائه وعبادته.
ومناسبة هـٰذه الآية للباب ظاهرة، وذلك في قوله: ﴿أَدْعُو إِلَى اللَّهِ﴾ وهـٰذا فيه مشروعية الدعوة إلى الله عز وجل؛ لقول الله عز وجل آمرًا رسوله: ﴿قُلْ هـٰذه سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ﴾. وهو مطابق لما ترجم له المؤلف رحمه الله في قوله: (باب الدعاء إلى شهادة أن لا إلـٰه إلا الله.)
قال المؤلف رحمه الله: (وقول الله تعالى: ﴿قُلْ هـٰذه سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾.) وتكلمنا على هـٰذا الجزء من الآية.
بقي قوله: ﴿وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ هـٰذا تكملة لبيان سبيله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومنهجه وطريقه في دينه ودعوته وما جاء به؛ لأن قوله: ﴿قُلْ هـٰذه سَبِيلِي﴾ هـٰذا وصف لكل ما جاء به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على وجه العموم. والسّبيل هي الطريق والمنهج الذي يسلكه الإنسان، فبيَّن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سبيله بهـٰذه الأمور: بدأها بأنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدعو إلى الله: ﴿أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ﴾. أي: ومن منهجه وسبيله وطريقه تنزيه الله جل وعلا، فالتسبيح هو التنزيه، ﴿وَسُبْحَانَ﴾ مصدر حذف عامله وهو أسبح، والتقدير: وأسبح سبحانًا، هـٰذا تقديره. فيكون منهج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الدعوة إلى الله والتسبيح وهو التنزيه، والتنزيه لله -عز وجل- يكون بنفي ما وصفه به الجاهلون هـٰذا واحد. ويكون أيضًا بنفي النّقص عما أخبر به عن نفسه هـٰذا اثنان. ويكون أيضًا بنفي المماثلة في صفات الكمال. فكلما قال القائل: سبحان الله فليستحضر هـٰذه الأمور الثلاثة:
فإنك تنزه الله عن هـٰذه الأمور:
أن يكون له شريك أو مثيل في أسمائه وصفاته وما يختص به.
الثاني: أن يكون موصوفًا بصفات النقص التي وصفه بها الجاهلون.
الثالث: النقص في صفات الكمال. ف-سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- له المثل الأعلى، أي له الصفة العالية الكاملة التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه.
ثم قال: ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ هـٰذا ثالث ما وصف به الله عز وجل سبيل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهو التبرؤ من الشرك: ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ لا في القول ولا في العقد ولا في العمل ولا في المشاركة ولا في الاجتماع ولا في المحبة ولا في أي شيء من أمورهم، فهو تبرؤ تام من أهل الشرك وأفعالهم وصفاتهم.
وبه نعلم أن قوله: ﴿وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ عطف على قوله: ﴿أَدْعُو﴾. فيكون منهجه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو ما تضمنته هـٰذه الآية من الخلال الثلاث والصفات التي وصف الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بها منهج رسوله وطريقه.
ثم قال: (عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما بعث معاذاً إلى اليمن.) بعث رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معاذًا إلى اليمن يدعو إلى الله -عز وجل- كما سيأتي بيانه في هـٰذا الحديث، وهـٰذه البعثة قيل: إنها في السنة الثامنة، وقيل: إنها في أوائل السنة التاسعة بعد رجوعه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من تبوك، وقيل: إنها في السنة العاشرة، وهو الذي رجحه البخاري حيث مال إلى أن بعث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معاذًا وأبا موسى كان في السنة العاشرة. وعلى كل حال ليس هـٰذا مؤثرًا فيما نحن فيه، إنما هو بيان لواقع البعث متى كان؟ قال: (إلى اليمن).
قال: (فقال له -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب))) أي من النصارى واليهود، فأهل الكتاب هم النصارى واليهود، وغالب من كان في اليمن كان يرجع إلى هاتين الملتين، والغالب فيهم النصارى وفيهم يهود، فبين له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من سيُقبل عليهم، ثم بين له ما يدعو إليه، فقال: ((ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إلـٰه إلا الله - وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله)) وفي رواية: ((إلى أن يعبدوا الله)). وفي رواية: ((إلى شهادة أن لا إلـٰه إلا الله وأن محمداً رسول الله)). وهـٰذه الرواية الأخيرة هي أكثر الروايات وأشهرها، وهي التي تجمع معاني الروايات الأخرى، والواقعة واحدة فلا بد أن يكون القول الذي صدر عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واحدًا، وإذا كان كذلك فعند النظر والترجيح بين هـٰذه الروايات نرى أن أرجحها -من جهة كثرة الورود، ومن جهة جمع المعاني، ومن جهة موافقة ما أجمع عليه أهل العلم- هي هـٰذه الرواية التي فيها التصريح بأن الدعوة إلى شهادة أن لا إلـٰه إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهـٰذه الرواية رجحها ابن حجر -رحمه الله- على سائر الروايات؛ لكثرة رواتها.
المهم أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين له ما يدعو إليه، وبدأ فيما يدعو إليه بشهادة أن لا إلـٰه إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وذلك أنه لا يدخل أحد دين الإسلام إلا من هـٰذا الطريق، فلا بد من الشهادتين لدخول الإسلام، وهـٰذا أمر أجمع عليه أهل العلم، وأنه لا يدخل أحد الإسلام إلا بهـٰذا وهو شهادة أن لا إلـٰه إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ورأى بعض أهل العلم زيادة التبرؤ من الكفر.
أقول: زاد بعضهم على الشهادة التبرؤ من الكفر وقال: لا بد من التبرؤ من الكفر، وإلا فإنه لا يحصل الإسلام بمجرد شهادة أن لا إلـٰه إلا الله وأن محمدًا رسول الله مع البقاء على عقائد الكفر السابقة. واستدل هؤلاء لما ذهبوا إليه بمثل قول الله تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾.( ) فجعل الاستمساك بالعروة الوثقى مرتبًا على أمرين: على الكفر بالطاغوت وهو التبرؤ من الشرك والكفر والعقائد الباطلة، وعلى الإيمان بالله وهو الشهادة لله بالألوهية وللنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالرسالة. والذي اختاره شيخ الإسلام رحمه الله أن شهادة أن لا إلـٰه إلا الله وأن محمدًا رسول الله كافية في دخول الإنسان إلى دين الإسلام، ولكن إذا دخل يبين له أن العقائد التي عليها أهل الباطل يجب الكفر بها، وأن كل ما خالف دين الإسلام يجب الكفر به ولا يجوز اعتقاده؛ لأن مقتضى الشهادة الإيمان بالله عز وجل، ومقتضى الشهادة للرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالرسالة تصديقه في الأخبار واتباعه في الأحكام أو الانقياد له في الأحكام. وهـٰذا القول اختاره شيخنا رحمه الله: أنه لا يلزم للدخول في الإسلام زيادة على ما دل عليه حديث معاذ من الشهادة لله بالألوهية وللرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالرسالة، وأنه فيما بعد إذا حصل منه ما يوجب الكفر نبه عليه، فإن تنبه وإلا فإنه يحكم بردته إذا بُين له الحق ولم ينزع عنه، لكن الإسلام يكفي في حصوله لصاحبه أن يشهد أن لا إلـٰه إلا الله.
واشتراط التبرؤ من الكفر هو اختيار شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله.
والذي يظهر ما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله وأيده شيخنا محمد الصالح العثيمين غفر الله له؛ لأنه ظاهر في حديث معاذ أنه لم يطلب منهم زيادة على أن يشهدوا أن لا إلـٰه إلا الله وأن محمداً رسول الله، مع أن اليهود لهم عقائد مخالفة لعقيدة الإسلام كما قالوا: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾.( ) والنصارى كذلك لهم عقائد تخالف ما عليه دين الإسلام كما قالوا: ﴿الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾.( ) وإلا لو كان يلزم أن يتبرأ لزم أن يعرض عليه كل عقائد الإسلام حتى يعتقد الصحيح ويترك الباطل، لكن يكفي في دخول الإسلام ما دلّ عليه الحديث من الدعوة إلى شهادة أن لا إلـٰه إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
ثم قال: ((فإن هم أطاعوك إلى ذلك)). أي أطاعوك إلى هـٰذا الأمر وهو شهادة أن لا إلـٰه إلا الله وأن محمدًا رسول الله ((فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات)) وذلك أن الصلاة ثاني أركان الإسلام، لا يتم إسلام أحد إلا بها، وقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((بني الإسلام على خمس)) وذكر بعد الشهادتين الصلاة، وحددها بهـٰذا العدد لأنها هي المفروضة في كل يوم. وأما ما قيل من فرض غير ذلك من الصلوات الخمس فهو فرض مؤقت بوقت، كصلاة العيد مثلاً على القول بوجوبها، وكصلاة الكسوف وغير ذلك من الصلوات التي قيل بأنها واجبة.
قال: ((في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)) والمراد بالصدقة هنا الزكاة. وقوله: ((تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)) هـٰذا بيان لمصرف الزكاة الأول وليس قصرًا ولا حصرًا، إنما هو بيان لمصرفها الأول، ولذلك في آية التوبة التي ذكر فيها مصارف الزكاة بدأ الله -عز وجل- بذكر الفقراء: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾.( )
وقوله: ((تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)) اختلف العلماء في مرجع الضمير هنا: هل هو إلى أهل البلد أي أهل المكان الذين بعث إليهم معاذًا، أم أن الضمير يعود إلى أهل الإسلام الذين شهدوا أن لا إله إلا الله وأطاعوا في إقام الصلاة؟ فمن قال: إنه يعود إلى أهل البلد رأى أنه لا تنقل الزكاة من مكانها إلا إذا لم يجد محتاجاً أو من أهلها أي من أهل الزكاة المستحقين لها، فعند ذلك ينتقل. وأما من رأى أن الضمير يعود إلى عموم المسلمين فإنه يرى جواز نقلها من المكان الذي أهله -أي أهل المال- فيه؛ لأن الضمير يعود إلى عموم المسلمين، فـ((تؤخذ من أغنيائهم)) أي أغنياء المسلمين فترد على فقرائهم. وهـٰذا المعنى الأخير رجحه شيخنا عبد العزيز بن باز -رحمه الله-، والمسألة خلافية تحقق في كتب الفقه.
قال: ((فإن هم أطاعوك لذلك)) أي: أطاعوك لهـٰذا الفرض ((فإياك وكرائم أموالهم)). تحذير من أخذ أطايب المال؛ لأن النفوس تتعلق به، ولأن فيه مشقة على أهل الأموال أن تؤخذ من كرائم الأموال، فحذر من كرائم الأموال، فهل يأخذ خبيثها ورديئها؟ الجواب: لا، وإنما يأخذ أواسطها، وهـٰذا كمال العدل الذي لا إجحاف فيه على أهل الأموال ولا ضرر فيه على أهل الزكاة المستحقين لها.
ثم قال: ((واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)). هـٰذه الموعظة فيما يتعلق بالأموال، أي أخر هـٰذه الموعظة إلى أن جاء ما يتعلق بالأموال؛ لأن الغالب فيمن يتولى أمرًا أن يقع منه خطأ أو تقصير في حقوق الناس وأموالهم، فحذره بقوله: ((واتق دعوة المظلوم)). والمظلوم هو من وقع عليه الظلم، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه: إما بأخذ حق، أو بتحميل ما لا يجب. فحذره من دعوة المظلوم ليحذر في جِبَايته للزكاة، ولا يأخذ إلا ما وجب شرعًا من غير وكس أو شطط، أي من غير زيادة أو نقص.
قال: ((فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) وهـٰذا فيه بيان خطورة دعوة المظلوم، وأنها لا تحجب عن الله عز وجل، وتبلغه، وهـٰذا مما يوجب الحذر من دعوة المظلوم.
الشاهد من هـٰذا الحديث قول الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله)). هـٰذا هو الشاهد من سياق الحديث، حيث وجه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رسوله - يعني معاذًا –إلى الدعاء إلى هـٰذه الشهادة، وسيأتينا إن شاء الله تعالى بعض ما يتعلق بهـٰذا الحديث من أحكام في المسائل التي يذكرها الشيخ.
ثم قال: (ولهما عن سهل بن سعد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال يوم خيبر: ((لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه)). فبات الناس يدوكون ليلتهم...) الحديث.
هـٰذا الحديث فيه خبر ما وقع من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم خيبر، وخيبر مدينة أو منطقة في شمال المدينة كان يقطنها اليهود، فخرج إليهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما اجتمعوا فيها وحاربوا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وألَّبوا عليه، وحاصرهم فيها، استعصى عليه فتح الحصن المحيط بخيبر، فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)). وهـٰذا فيه بيان فضيلة المعطَى، يعني فضيلة من سيأخذ هـٰذه الراية؛ لشهادة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بهذين الأمرين: محبة الله ورسوله له، ومحبته لله ورسوله. وهـٰذه منقبة عظيمة وفضيلة كبيرة، من ثبتت له فقد حاز فضلاً كبيرًا.
ثم قال: ((يفتح الله على يديه)). يجعل الفتح على يديه. وذكر هـٰذا الوصف قبل هـٰذا الخبر يدل على أن محبة العبد لربه ومحبة العبد لرسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومحبة الله ورسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للعبد من أسباب إجراء الخير على يديه، فإنه لما قدم هـٰذا الوصف بين يدي الخبر بحصول الفتح دل ذلك على أن هـٰذا الوصف له كبير الأثر في الخبر، ولذلك من أراد أن يكون مفتاحًا للخير فليحقق محبة الله ومحبة رسوله، فإن ذلك من أعظم أسباب تحصيل الخير، وأن يكون الإنسان مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر يفتح الله على يديه.
يقول: ((فبات الناس يدوكون ليلتهم)). ((يدوكون)) أي يخوضون كما ذكر المؤلف رحمه الله في آخر الباب، يخوضون فيمن يكون هـٰذا الذي شهد له الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بهـٰذا الفضل وهـٰذه المنقبة، والدوك والخوض الذي جرى منهم في ليلتهم يدل على شدة حرصهم على الخير هـٰذا من وجه. ويدل أيضًا على تشوفهم لهـٰذا الخير، ولذلك قال عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في رواية مسلم لهـٰذا الحديث: "فما تمنيت الإمارة إلا يومئذٍ". وذلك لكون هـٰذه الإمارة وهـٰذا الفضل المذكور يحصل به فضل ديني ودنيوي.
أما الفضل الديني فذلك شهادة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له بالمحبة. وأما الفضل الدنيوي فهو الفتح، وإن كان فضلاً دنيويّاً فهو أيضًا يؤول لأمر الآخرة، وهو أن تكون هـٰذه البلاد تحت أيدي المسلمين، ولذلك تسور لها رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وتشرف لها، لكن فضل الله يؤتيه من يشاء.
قال: (فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبحوا غدوا على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كلهم يرجو أن يعطاها فقال: ((أين علي بن أبي طالب؟ ))). طلب عليّاً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- (فقيل: هو يشتكي عينيه. فأرسلوا إليه) وذلك أنّ علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في أول الأمر تخلف عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بسبب رمد في عينيه أصابه، ثم لما ارتحل -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وخرج شق عليه البقاء فتبعه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ولم يكن معهم في وقت قوله: ((لأعطين الراية غداً رجلاً)) بل كان في طريقه إليهم، فلما سأل عنه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قيل له: (هو يشتكي عينيه. فأرسلوا إليه) فأُتي به يقوده سلمة بن الأكوع كما في الصحيح (فأرسلوا إليه فأُتي به، فبصق في عينيه) أي بصق رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في عينيه (ودعا له). فجمع له بين بركة نفثه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهي بركة ذاتية وبين بركة دعائه، حيث دعا له -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالشفاء فبرأ وارتفع ما به من وجع. يقول: (فبرأ كأن لم يكن به وجع). أي عاد صحيحًا، وهـٰذا من آيات الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. (فأعطاه الراية فقال: ((انفذ على رسلك))). ((انفذ)) أي امضِ ((على رسلك)) أي على مهلك، والأصل في الرِّسْل: التمهل والتؤدة التأني، ومنه: ترسل في حديثه أي تأنى وتمهل.
((حتى تنزل بساحتهم)) أي إلى أن تنزل بمكان قريب منهم. ((ثم ادعهم إلى الإسلام)). فوجهه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى ألا يبدأهم بالقتال، بل يبدؤهم بالدعوة إلى الإسلام. ((وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله -عز وجل- فيه)). وحقه فيه ما دلت عليه النصوص من عبادته وحده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ، والمراد بالإخبار بحق الله تعالى في الإسلام الإخبار بأصوله لا بتفاصيله، إنما الإخبار بالأصول أي الإخبار بالأركان التي يبنى عليها هـٰذا الدين. ((فوالله)) أقسم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ((لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمْر النَّعم)) وهي أشرف أموال العرب وهي الإبل الحمر، وذلك لعظيم الأجر المترتب على الهداية بسببك. فبيّن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فضل الهداية- هداية الشخص إلى دين الإسلام- وأنها خير من أنفس الأموال، وذكر حُمْر النعم لأنها أنفس الأموال في ذلك الوقت، وهي خير من نفيس المال في كل زمان ومكان.
ثم الشاهد من هـٰذا الحديث هو قول رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((ثُم ادعهم إلى الإسلام)). وهـٰذا هو شاهد ذكر هـٰذا الحديث في هـٰذا الباب. قوله: (((يدوكون)) أي يخوضون).
في هـٰذا الباب مسائل.
[المتن]
فيه مسائل.
الأولى: أن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
[الشرح]
هـٰذه المسألة مستفادة من قوله تعالى: ﴿قُلْ هـٰذه سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾( ). فإن سبيل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو الدعوة إلى الله، وهو سبيل من اتبعه، وهي دعوة على بصيرة، فالمسألة مأخذها واضح من الآية.
[المتن]
الثانية: التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيرًا من الناس لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه.
[الشرح]
وهـٰذا مستفاد من قوله: ﴿قُلْ هـٰذه سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ﴾. فإنه يدعو إلى الله –جل وعلا- بَيَّن المدعو إليه، فهو لا يدعو إلى نفسه ولا إلى جماعته ولا يدعو إلى أهل بلده، إنما يدعو إلى الله جل وعلا، وهـٰذا فيه وجوب استحضار إلى من تدعو في دعوتك، فإن الإنسان يغفل كثيرًا في تعليمه ودعوته، فقد يلتبس عليه الحق بالباطل فيدعو إلى نفسه ويظن أنه يدعو إلى الله، أو يدعو إلى جماعته وأهل بلده وهو يظن أنه يدعو إلى الله عز وجل، فالواجب تحرير المدعو إليه، أن يكون واضحًا في نظر الداعية ونظر المدعو إليه، حتى يتبين المدعو إلى من يصير وإلى من يسير.
[المتن]
الثالثة: أن البصيرة من الفرائض.
[الشرح]
كل هـٰذه الفوائد والمسائل مأخوذة من الآية. وجه كون البصيرة من الفرائض أن الله جل وعلا قال: ﴿قُلْ هـٰذه سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ أمر رسوله بأن يبين سبيله وبينه بهـٰذا الوصف، وسبيله واجب الاتباع؛ لقول الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾( )، ولقول الله جل وعلا: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ﴾( )، ولقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾( ). هـٰذه النصوص وغيرها تدل على أن وصف السبيل الذي سلكه واجب، وأنه لا يكفي أن يسلك السبيل دون أن يأخذ بأوصافه، ومن آكد أوصاف سبيل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه على بصيرة، فاتضح وجه قول المؤلف رحمه الله: (أن البصيرة من الفرائض.)
[المتن]
الرابعة: من دلائل حسن التوحيد أنه تنزيه لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عن المسبَّة.
[الشرح]
وجه ذلك أنه لما فرغ من بيان سبيله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ﴿وَسُبْحَانَ اللَّهِ﴾( ). والتسبيح هو التنزيه للرّبّ -جل وعلا- عن كل نقص وكل عيب وعن كل ما وصفه به الجاهلون، فمن كمال توحيده -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن دلائل حسن مسلكه في توحيد ربه أنه ينزِّه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عن الشرك في كل صوره: الشرك في الألوهية، والشرك في الربوبية، والشرك في الأسماء والصفات.
الشرك في الألوهية أن تعبد غيره، والشرك في الربوبية أن تثبت مدبرًا معه، والشرك في الأسماء والصفات أن تثبت للمخلوق ما أثبته الله لنفسه، بأن تسوي بين الخالق والمخلوق، فمن كمال التوحيد أنه يتخلص من كل مسبة ونقص وُصِفَ به -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-. وذكرنا لكم أثناء الشرح أن التسبيح تنزيه الله عز وجل بقولك: سبحان الله عن مماثلة المخلوق وعن وصفه بصفات النقص، كقول اليهود: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾( ). الثالث: النقص في صفات الكمال، تنزهه عن هـٰذه الثلاثة.
[المتن]
الخامسة: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله.
[الشرح]
ما فيه إشكال، وذلك لأنه نسبة النقص لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فالشرك يقتضي أن يكون له مثيل فيما يجب له -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ، والله جل وعلا قد نفى المثيل في كل شأن من شؤونه وفي كل أمر من أموره -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فقال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾،( ) وكذلك قال: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾،( ) وقال: ﴿لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾( ). كل هـٰذا يدل على أي شيء؟ يدل على أنه لا مثيل له -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا في ذاته وصفاته ولا فيما يجب له. وهـٰذه الآيات تساق ليستدل بها على أن لا مثيل له في ذاته وصفاته، ولكن يجب أيضًا أن يستدل بها على أنه لا مثيل له ولا نظير له فيما يجب له، وهو إفراد العبادة.
[المتن]
السادسة -وهي من أهمها-: إبعاد المسلم عن المشركين؛ لئلا يصير منهم وإن لم يشرك.
[الشرح]
وذلك في قوله: ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾( ) فإن من تمام توحيد العبد تجنّب الشرك وأهله، ولا يصحّ إيمان عبد ولا إسلامه إلا بمباينة أهل الكفر وأهل الشرك؛ لأنه عنوان الإسلام أن تحب لله وأن تبغض فيه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وقد نهى الله جل وعلا أهل الإيمان عن القرب من أهل الشرك، وفي هـٰذه الآية قال: ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ ولم يقل: وما أنا بمشرك؛ لأن قوله: ما أنا بمشرك، نفي للشرك عن فعله، وأما قوله: ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ لا في أفعالهم ولا في صفاتهم ولا في ذواتهم، فهو مباين لهم من كل وجه.
[المتن]
السابعة: كون التوحيد أول واجب.
[الشرح]
هـٰذه المسألة مأخوذة من حديث ابن عباس عندما بعث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معاذًا إلى اليمن حيث قال: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إلـٰه إلا الله)) وهـٰذا واضح وظاهر وبيّن في أن أول واجب على المكلف شهادة أن لا إلـٰه إلا الله، وأنه لا يُبدأ بغيرها، فهي التي يدعى إليها أولاً، وهي التي يطلب من المكلف الإتيان بها للدخول في الإسلام.
أما من قال: إن أول واجب النظر- تعلمون ما هو النظر؟ هو الاستدلال بالأدلة العقلية على وجود الرّب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ، أما من قال: إن أول واجب هو النظر- أو: إن أول واجب هو جزء النظر، أو: إن أول واجب هو الشك في وجود الرب؛ فهؤلاء كلهم منحرفون عن طريق الرسل؛ لأن الرسل لم يأمروا الناس بهـٰذا، وإنما بنوا على ما هو مستقر في الفطر، والذي استقر في الفطر هو وجود الرب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فلا حاجة إلى طلب الأدلة على إثباته ووجوده؛ لأنه موجود جل وعلا، وهـٰذا مما تُقر به الفطر، ولذلك طريقة القرآن الاستدلال بتوحيد الربوبية في إثبات وتقرير توحيد الألوهية، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إلـٰه إلا الله)).لم يقل: أول ما تدعوهم إليه النظر أو جزء النظر أو الشك كما يقول أهل الكلام من المنحرفين عن طريق أهل السنة والجماعة.
وهـٰذه أقوال ليست ضربًا من الخيال. هـٰذه أقوال لها من يستند إليها ويصدر عنها، ولكن - الحمد لله - الحق واضح وبيّنٌ، ما هو؟ ما جاءت به النصوص من الكتاب والسنة: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إلـٰه إلا الله)).
[المتن]
الثامنة: أنه يبدأ به قبل كل شيء حتى الصلاة.
[الشرح]
الثامنة من المسائل أنه يبدأ به- أي: بالدعوة إلى التوحيد، وهو شهادة أن لا إلـٰه إلا الله- قبل كل شيء، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إلـٰه إلا الله، فإن هم أطاعوك إلى ذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات)) فجعل الإخبار بفرضية الصلوات مرتباً على الاستجابة والإقرار بالشهادة بالتوحيد، وهـٰذا يدل على أنه لا يقبل غيرها قبلها . ولكن اختلف أهل العلم في مسألة، وهي: لو فعل الكافر ما هو من خصائص أهل الإسلام -كما لو صلى الكافر- فهل يكون مسلمًا بصلاته؟ على قولين لأهل العلم:
منهم من قال: إنه يصير بذلك مسلمًا، وهـٰذا اختيار شيخ الإسلام رحمه الله.
والقول الثاني: أنه لا يصير بذلك مسلمًا؛ لأن الفعل يحتمل؛ يحتمل الاستهزاء ويحتمل الموافقة الظاهرية، فقد لا يكون عن عقد.
ومذهب الحنابلة ينص على أن الكافر إذا صلى صار مسلمًا حكمًا، بأن يحكم بإسلامه فتُجرى عليه أحكام الإسلام. والقول الثاني: أنه لا يكون بذلك مسلمًا؛ لما ذكرنا من الاحتمال. وإذا وجد الاحتمال فالأصل بقاء ما كان على ما كان، وهو الكفر المتيقّن سابقًا.
وطرد بعض أهل العلم هـٰذا القول الذي ذكره جماعة من العلماء في الصلاة في كل ما هو من خصائص الإسلام، فجميع ما يختص به أهل الإسلام إذا فعله الكافر فإنه يصير به مسلمًا: فمثلاً لو حج هـٰذا من خصائص أهل الإسلام يكون بذلك مسلمًا، ولو صام؟ الصيام عند غيرنا ولكن لا أدري هل هو على صفة صيامنا أم لا؟ لكن الصيام ليس من خصائص أهل الإسلام، هم يصومون ولكن صيام له صفة معينة. المهم كل ما هو من خصائص الإسلام إذا فعله الكافر يصير به مسلمًا، وهـٰذا اختيار شيخنا رحمه الله، رجّح قول شيخ الإسلام.
فإذا ظهر منه ما هو من خصائص الإسلام قصدًا، يعني قاصدًا هـٰذا الفعل فإنه يحكم بإسلامه. واختار الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله أنه لا يكون بذلك مسلمًا حتى يظهر التوحيد ويتبرأ من الكفر؛ لما ذكرنا من الاحتمال في الفعل.
[المتن]
التاسعة: أن معنى ((أن يوحدوا الله)) معنى شهادة أن لا إلـٰه إلا الله.
[الشرح]
وجه تفسير التوحيد بشهادة أن لا إلـٰه إلا الله أن الروايات جاءت بهـٰذا وبهـٰذا، فقد ذكر المؤلف رحمه الله روايتين، فالراوية الأولى: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إلـٰه إلا الله)). والرواية الثانية: ((إلى أن يوحدوا الله)). فجعل التوحيد هو الشهادة. هل يحمل تعدد الروايات في هـٰذا الحديث على تعدد الوقائع، أي: هل يكون النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعث معاذًا إلى اليمن في هـٰذه الوصية وأوصاه بأكثر من مرة؟ الجواب: لا؛ لأنه لم يحفظ ذلك إلا في مرة واحدة، فإذا علم أنه لم يحصل البعث إلا مرة واحدة فيعلم يقينًا أن القول الذي صدر عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو أحد هـٰذه الأقوال، فلا يمكن أن يصدر عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جميع هـٰذه الأقوال التي جاءت بها الروايات.
وإذا كان كذلك فالمنهج في اختيار الرواية أن يقال: إن رجح الرواة لفظًا- إما بقوة في الرواة أو بكثرة- فالعمل بما رجّحه النظر في السند، فإذا كان السند لا سبيل إلى الترجيح من خلاله فالترجيح الصحيح في هـٰذا أن يختار من الراويات أوفاها معنى، يعني: الرواية التي تجمع ما في معاني الروايات الأخرى. وهـٰذا المنهج اضبطه فيما تعددت فيه الروايات ولم يمكن حمل ذلك على تعدد القصة، إذا لم يمكن الترجيح من خلال الرواية فاختر من الروايات ما هو أوفاها معنى وأجمعها، يعني: الذي تلتقي فيه جميع الروايات. نحن في نظرنا للروايات التي وردت في هـٰذا الحديث ذكرنا أن الرّاجح منها هو رواية: ((فادعهم إلى شهادة أن لا إلـٰه إلا الله وأن محمداً رسول الله)). فهـٰذه الرواية هي أكثر ما جاء عن الرواة كما ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله.
وعلى هـٰذا نقول: إنّ الرواة الذين نقلوا غير هـٰذه اللفظة نقلوها بالمعنى، وفُهم من ذلك أن الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم -إن كان التصرف منهم في اللفظ- أن التوحيد عندهم هو شهادة أن لا إله إلا الله.
[المتن]
العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب وهو لا يعرفها، أو يعرفها ولا يعمل بها.
[الشرح]
وجه هـٰذه الفائدة: أنّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: ((إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب)) وأهل الكتاب يعبدون الله أم لا؟ يعبدون الله، ويقول كثير منهم: لا إله إلا الله، ومع ذلك أمره بدعوتهم إلى أن يوحدوا الله، وذلك سبب هـٰذه الدعوة مع أنهم يعبدون الله ويقرون بأنه لا إله إلا الله، أو يقر بعضهم بأنه لا إله إلا الله، لا سيما اليهود الذين بُعث إليهم، وهم كثيرون في اليمن؛ لأن أهل الكتاب في هـٰذا السياق في الأصل هم اليهود والنصارى، واليهود يقرون بأن لا إله إلا الله، مع ذلك أمرهم بلا إله إلا الله؛ لِمَا طرأ عليهم من إخلال بهـٰذه الشهادة، فهم لم يفهموها، أو أنّهم فهموها ولم يعملوا بها فقالوا: عزير ابن الله، ووقع منهم مخالفات لهـٰذه الشّهادة فطُلبت منهم، إضافة إلى هـٰذا أنهم مطالبون بالشهادة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالرّسالة وهـٰذا لم يكونوا يقرون به؛ لذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمعاذ: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إلـٰه إلا الله وأن محمدًا رسول الله)). وهـٰذا وجه قول المؤلف رحمه الله: (أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب). يعني من اليهود خاصة أو من النصارى (وهو لا يعرفها) أي لا يعرف هـٰذه الكلمة (أو يعرفها ولا يعمل بها)، هـٰذا الغالب في اليهود، (لا يعرفها) هـٰذا الغالب في النصارى.
[المتن]
الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدريج.
[الشرح]
وذلك واضح في حديث ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فإنه لم ينتقل من مرحلة إلى مرحلة إلا بعد استتمام قبول الدرجة الأولى أو الدرجة السّابقة، فإنه قال: ((فادعهم إلى شهادة أن لا إلـٰه إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة)) وهـٰذا تدرج -لا إشكال- في التعليم والدعوة مع أن شرائع الإسلام قد تمت، ولو أن أحدًا من هؤلاء أقر بأن لا إله إلا الله ولم تكن الدعوة وجهت إليه بالصلاة فإنه يموت مسلمًا، وهـٰذا مستند ومستمسك لأن التدرج في التبليغ والدعوة ثابت حتى بعد استكمال الشريعة، وأنه ليس فقط في وقت التشريع؛ لأن من العلماء من يرى أن التدرج يكون فقط في زمن التشريع، كما تدرج التشريع في الخمر، وأما بعد ذلك فإنه لا تدريج، بل يطلب من الشخص كل ما يقتضيه الدين. وظاهر حديث معاذ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقد بُعث في السنة العاشرة بعد استكمال وجوب شرائع الإسلام وأركانه وأكثر أحكامه كان توجيه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له بالتدرج في قوله: ((فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم)).
[المتن]
الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم.
[الشرح]
هـٰذا واضح، فقد بدأ بالتّوحيد ثم ثنى بالصلاة ثم أتى بالزكاة، ولم يذكر الصيام والحج فما السبب؟
ذكر أهل العلم عدة أجوبة لعدم ذكر الصيام والحج في الحديث مع أنّ البعث متى كان؟ في السنة العاشرة على الصحيح، وفي السنة العاشرة استكملت الشرائع والأركان أم لم تستكمل؟ استكملت الأركان، فالحج مفروض والصيام مفروض ولم يذكرا.
أجاب شيخ الإسلام -رحمه الله- جوابًا مسددًا فقال: إن الصيام لم يذكر في حديث معاذ لأنه تابع لغيره، ولأنه عبادة باطنة.
ويمكن أن يضاف على ما ذكر جواب ثالث: أن وقته لم يأت بعد، فقيل: إن البعث كان في ربيع الثاني أو ربيع الأول، وذلك قبل مجيء رمضان بزمن واسع يمكن أن يدعوهم إذا جاء وقته أو قرب.
أما بالنسبة للحج فالحج لم يذكر أيضًا، وقال شيخ الإسلام رحمه الله: لأنه ليس واجبًا على كل أحد، فوجوبه ليس عامّاً بل وجوبه مقيد بالاستطاعة كما قال جل وعلا: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾.( ) وإذا كان كذلك فإنه يؤخر أو لا بأس في تأخيره. ويمكن أن يضاف الجواب الثاني على الجواب الأخير الذي زدناه في الصيام إلى الحج: فإنّ الحج وقته في ذي الحجة وأشهُرُه لم تدخل شوال وذو القعدة وذو الحجة، والبعث كان قبل ذلك بزمن.
[المتن]
الثالثة عشرة: مصرف الزكاة.
[الشرح]
حيث قال: ((فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم)).
وهل استوعب ذكر مصارف الزكاة في هـٰذا الحديث؟
الجواب: لا، إنما ذكر مصرفًا واحدًا من المصارف وهو أهمها، لذلك بدأ به -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في الآية فقال: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ...﴾ ( ) الآية. ويستفاد من هـٰذا أنه يجوز في صرف الزكاة أن تكون في مصرف واحد، ولا يلزم أن توزع في جميع المصارف الثمانية، بل لو جعلها في الفقراء أو في المساكين أو في سبيل الله أو في ابن السبيل يكفي.
[المتن]
الرابعة عشرة: كشف العالم الشبهة عن المتعلم.
[الشرح]
وذلك مأخوذ من قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب)). فبعث الرّجل إلى قوم من أهل الكتاب محل اشتباه؛ لأن هؤلاء يتفقون مع أهل الإسلام في أصول، وهي: الإيمان بالله والإيمان بالرسل والإيمان باليوم الآخر والعمل الصالح، هـٰذه الأمور اتفقت عليها الشرائع، ولذلك احتاج رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يبيّن لمعاذ بماذا يبدأ، وكيف يبدأ مع هؤلاء الذين يقرّون بهـٰذه الأمور، ولم يكن له سابق معرفة فيما يظهر على دعوة أمثال هؤلاء؛ لأن الدعوة يظهر في المدينة وما حولها كانت لقوم مشركين ليسوا من أهل الكتاب، وهـٰذا وجه قول المؤلف رحمه الله: (كشف العالم الشبهة عن المتعلم.)
والشبهة المقصود بها محل الاشتباه والالتباس، وذكرنا لكم تعريفها فيما مضى: أنها عارض يعرض للقلب يحول بينه وبين النظر أو بين معرفة ما أخبر به الله ورسوله. ويمكن أن يقال بأعم من هـٰذا، فيقال: إن الشبهة عارض يصيب القلب يحول بينه وبين رؤية الأمور على حقائقها؛ ليشمل الشبهة في الكتاب والسنة وفي غيرهما.
وأيضًا يمكن أن يؤخذ هـٰذا من قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((فإياك وكرائم أموالهم)). فإنه لما أخبرهم بفرض الزكاة بيَّن له أنها لا تؤخذ من كرائم الأموال.
[المتن]
الخامسة عشرة: النهي عن كرائم الأموال.
[الشرح]
وجه ذلك - وجه النهي - أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((إياك)). وإياك للتحذير، هـٰذا من وجه. ومن وجه آخر قال بعدها: ((واتق دعوة المظلوم)). فدل ذلك على أن أخذ كرائم الأموال من الظلم الذي يجب أن يتّقى؛ لأن اتقاء دعوة المظلوم لا يحصل إلا باتقاء الظلم، وهو السبب الباعث للدعوة. وكرائم جمع كريمة، وهي النفيسة وجمعها نفائس، والنفائس إما لتعلق النفوس بها، سواء كان ذلك لجودة فيها، أو لعظيم نفع منها، حتى ولو لم تكن مما علا في الجودة لكن عظم نفعه، فهو من النفائس أو من الكرائم التي تتقى.
[المتن]
السادسة عشرة: اتقاء دعوة المظلوم.
[الشرح]
ويحصل ذلك باتقاء الظلم الذي هو سببها.
[المتن]
السابعة عشرة: الإخبار بأنها لا تحجب.
[الشرح]
(لا تحجب) أي لا ترد ولا تمنع، فالحجب هو المنع، وهـٰذا فيه أن دعوة المظلوم من الأدعية المستجابة، لكن هل يكون هـٰذا في كل دعوة لكل مظلوم؟
أما الجزء الثاني وهو: هل هي لكل مظلوم؟
فالجواب: نعم؛ لأن الحديث لم يميز، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لا شك أن السبب في المسلم؛ لأن المأخوذ منه زكاة مسلم، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((اتق دعوة المظلوم)) فيشمل المظلوم من أهل الكفر والمظلوم من أهل الإسلام، هـٰذا جواب على الشطر الثاني من السؤال.
الشطر الأول هل هو لكل دعوة؟ أي: هل كل دعوة يدعو بها المظلوم فإنها لا تحجب، يعني لا بد من إجابتها؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين، منهم من قال: إن كل دعوة للمظلوم فإنها تجاب ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يتعدّ في الدعاء، أما إذا دعا على الظالم بقدر مظلمته فإنه يجاب.
وقال آخرون: إنها لا تخرج عن عموم قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إذا دعا الداعي فإنه إما أن يجاب، وإما أن يدفع عنه من الشر نظيرها، وإما أن تدّخر له في الآخرة.
ولكن هي تتميز عن غيرها حتى على هـٰذا القول الثاني، تتميز عن غيرها بأنها أجدر وأقرب إلى الإجابة من غيرها من الدعوات. وهـٰذا القول له وجه؛ القول الثاني له وجه من العموم في الأحاديث الأخرى.
[المتن]
الثامنة عشرة: من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء.
[الشرح]
وهـٰذا انتقال إلى الحديث الثاني وهو حديث سهل بن سعد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وفيه ما ذكر المؤلف رحمه الله من المشقة؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجد من المشقة في خيبر هو وأصحابه ما لم يجده في غيرها من الغزوات، فاجتمع عليهم المشقة والجوع.
أما المشقة فهو ظاهر؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد حاول فتح حصنهم مرات وطال حصاره لهم ولم يفتح فقال: ((لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)) الحديث. كيف يكون هـٰذا دليلاً على التوحيد؟
يكون هـٰذا دليلاً على التوحيد أن سيد المرسلين أعظم الخلق جاهًا عند الله -عز وجل- لم يملك أن يكشف عن نفسه ما حل به، ولم يملك أن يدفعه، فإذا كان عاجزًا عن الدفع أو الرفع وأن أصحابه لم يتوجهوا إليه بالطلب دل ذلك على أن الذي يملك كشف الضر ورفعه هو الله جل وعلا، وأنه مهما عظم جاه المخلوق فإنه لا يرقى إلى درجة الخالق، ولا يتمكّن من شيء مما هو من خصائص الرّب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من تدبير الكون، بل إنّ الأمر إليه كما قال جل وعلا: ﴿أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ﴾( ).
[المتن]
التاسعة عشرة: قوله: ((لأعطين الراية.. )) إلى آخره علم من أعلام النبوة.
[الشرح]
وجه كون ذلك علمًا من أعلام النبوة الكثيرة: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبر بأمر غيبي. أليس كذلك؟ ما هو؟ قوله: ((يفتح الله على يديه)) ووقع كما أخبر. فدلّ ذلك على صدقه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهو علم من أعلام نبوته الكثيرة.
[المتن]
العشرون: تفله في عينه هو علم من أعلامها أيضًا.
[الشرح]
وذلك أن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قدم وفي عينيه رمد، ثم ما كان من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا أن بصق في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع، وهـٰذا لا إشكال في أنه من دلائل نبوته وأعلامها.
[المتن]
الحادية والعشرون: فضيلة علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
[الشرح]
وذلك أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شهد له بشهادتين:
الشهادة الأولى قال: ((يحب الله ورسوله)) وهـٰذا من أفضل الأعمال وأزكاها عند الله -عز وجل- تحقيق المحبة.
وأهم من هـٰذا الشهادة الثانية وهي قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((يحبه الله ورسوله)) وهـٰذا الشأن كل الشأن أن يحبك الله جل وعلا.
وهـٰذه الفضيلة هل هي خاصة بعلي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؟
احتج الرافضة بهـٰذا الحديث على أن عليّاً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أفضل الصحابة، وهـٰذا ليس بصحيح، فإن الحديث يُثبت فضيلة علي - لا إشكال - بل هو من أصح ما ورد في فضل علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، هل هـٰذا الفضل الذي ثبت لعلي في هـٰذا الحديث خاص به دون غيره؟
الجواب: لا؛ لأنّ إثبات الفضيلة لشخص لا ينفيها عن غيره، فقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)) لا ينفي هـٰذا الفضل عن غير علي. ثم إن ما ثبت لغيره من الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- كأبي بكر وعمر وعثمان أعظم مما ثبت له -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، لا سيما الشيخين أبي بكر وعمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-، فعلي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ما جاء في فضله يشركه فيه غيره في كثير منه إلا في أشياء قليلة، أما أبو بكر فإن أكثر فضائله -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مما اختصّ به.
ومن نسج خيال الرافضة أنهم قالوا: إن الراية قد أعطيت قبل ذلك لأبي بكر ولم يفتح على يديه، ثم أعطيت لعمر ولم يفتح على يديه، ثم قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، ويفتح الله على يديه)). ولكن هـٰذه القصة لم تثبت، فإن الراية لم تؤتَ لأبي بكر ولم تكن له ولم يقربها لا هو ولا عمر، بل إن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما قال هـٰذا القول قال عمر كما في صحيح مسلم: فما تمنيت الإمارة إلا يومئذ. لإصابة هـٰذا الفضل، ولو كان قد أعطيها ولم يفتح على يديه لما طمع فيها، لكنه طمع فيها وتسور إليها –أي: تشرف لها- ليصيبها. فهـٰذا من أباطيلهم وأكاذيبهم فيما يتعلق بالشيخين -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-.
لكن المهم أن نعرف هل هـٰذه الفضيلة مما اختص به علي عن غيره؟ الجواب: لا، هـٰذه من الفضائل التي ثبتت لعلي ويشركه فيها غيره.
[المتن]
الثانية والعشرون: فضل الصحابة في دوكهم تلك الليلة وشغلهم عن بشارة الفتح.
[الشرح]
وذلك أن الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- لم يكترثوا بالفتح قدر ما اهتموا واشتغلوا بتحصيل الفضل المذكور، (فباتوا يدوكون ليلتهم) أي يخوضون فيمن يعطاها، ثم إنهم لما أصبحوا غدوا مبكرين لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كلهم يرجو أن يعطاها. ولا شك أن هـٰذا يدل على عظيم رغبتهم فيما عند الله وعند رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فيما عند الله من الوعد وفيما عند رسوله من الخبر، ولذلك غدوا إليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليعلموا من الذي يصيبه ذلك الفضل، وهـٰذا لشدة حرصهم ومسابقتهم في الخيرات -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-.
[المتن]
الثالثة والعشرون: الإيمان بالقدر؛ لحصولها لمن لم يسعَ إليها ومنعها عمن سعى.
[الشرح]
وهـٰذا واضح جدّاً: فإن علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لم يطمع بها، لم يكن ليطمع بهـٰذه الفضيلة ولا بهـٰذا الشفاء العاجل، لكنّه شق عليه أن يبقى وقد خرج رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، فبعد أن خرج رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن معه تبعهم علي بن أبي طالب، ولما قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قولته: ((لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)) لم يكن قد جاء علي ابن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، بل كان في طريقه، فهو لم يسع لها ولم يهتم لها؛ لأنه لم يسمع ذلك من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لكن الله ساقها إليه فيما يظهر - والعلم عند الله - لصدق نيته وعزمه على نصر الله ورسوله، فإنه -مع ما ألم به من رمد، وهو عذر يبيح له القعود عن القتال، إلا أنه- خرج رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في متابعة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وموافقته، فكان له هـٰذا الفضل العظيم، وهو شهادة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له بهاتين الشهادتين، بينما الذين تسوروا لها وتشرفوا لها وباتوا يخوضون فيمن يأخذها لم يعطوها، لا لقصور في نياتهم ولا لقصور في فضلهم، ولكنه فضل الله يؤتيه من يشاء ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾( ).
[المتن]
الرابعة والعشرون: الأدب في قوله: ((على رسلك)).
[الشرح]
الأدب من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قوله لقائده وصاحب رايته: ((على رسلك)) أي تمهّل. فوجهه إلى السير على مهل وعلى تؤدة؛ لأنه يمضي إلى أمر الله ورسوله. ووجهه أيضًا إلى ألا يلتفت في مشيه كما في بعض الروايات التي تفسر قوله: ((على رسلك)). حيث قال له: لا تلفت يمنة ولا يسرة. ولذلك لما مضى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- شيئًا من الطريق صرخ علي بن أبي طالب كما في بعض الروايات ولم يلتفت امتثالاً لأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال له: يا رسول الله أقاتل الناس على ماذا؟ يعني: على أي شيء أقاتلهم أو: على أي شيء أقاتل الناس؟ فامتثل توجيه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في التؤدة وعدم الالتفات.
[المتن]
الخامسة والعشرون: الدعوة إلى الإسلام قبل القتال.
[الشرح]
(الدعوة إلى الإسلام قبل القتال) تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: واجب. دعوة واجبة، وهي الدعوة إلى من لم تبلغه الرسالة ولم يسمع بها، وهـٰذا لا يجوز قتاله؛ لأنه لم تقم عليه الحجة.
والقسم الثاني من الدعوة: مستحب. وهو دعوة من بلغته الرِّسالة وسمع بها ولكنه لم يتبعها، فهـٰذا دعوته مستحبّة؛ لهـٰذا الحديث. فإنّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجه علي بن أبي طالب إلى من؟ إلى اليهود، وهؤلاء اليهود الذين في خيبر سمعوا برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بل كثير منهم أو جزء ليس بالقليل منهم ممن أجلاهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من المدينة من يهود بني النضير وغيرهم، فهؤلاء قد بلغتهم الدعوة، لكنه مع ذلك أمره بأن يدعوهم إلى الإسلام، والأمر هنا للوجوب أو للاستحباب؟ للاستحباب. كذلك كان من هديه-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا بعث رجلاً على سرية أو جيش قال له: ((إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال، فإن هم أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام فإن هم أجابوك إليه فاقبل منهم وكف عنهم)). فقدم الدعوة إلى الإسلام مع أنهم قد يكون هؤلاء قد بلغتهم دعوة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لكن هـٰذا يقال فيه إذا كان في قوم لم تبلغهم الدعوة ولم يسمعوا بها فإنه على الوجوب، الدعوة واجبة، وإن كانت قد بلغتهم فهي مستحبة؛ لأنه ثبت عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قاتل أقوامًا دون دعوة، فيُحمل ذلك على الجواز، كما في قتاله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لبني المصطلق ، فإنه لم يدعهم بل ذهب وهم غارّون.
الإمام أحمد -رحمه الله- يرى أنه لا حاجة إلى الدعوة بعد إنتشار الإسلام، الدعوة مستحبة وليست واجبة فقال: أما اليوم فلا وجوب، فلا تجب الدعوة؛ لأن كل أحد قد بلغه ذكر الإسلام وسمع به، فلا تجب الدعوة وإنما تستحب؛ جمعًا بين الأحاديث.
[المتن]
السادسة والعشرون: أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك وقوتلوا.
[الشرح]
(لمن دعوا قبل ذلك) أي قبل القتال الحاضر، فإن اليهود الذين في خيبر كثير منهم قد دعوا قبل ذلك لما كانوا في المدينة قبل إجلاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهم (وقوتلوا) على الإسلام، ومع ذلك جدد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الدعوة لهم بتوجيه علي بن أبي طالب في قوله: ((ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه)).
[المتن]
السابعة والعشرون: الدعوة بالحكمة؛ لقوله: ((أخبرهم بما يجب)).
[الشرح]
لأنه دعاهم إلى الإسلام وبيَّن لهم ما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه. وما الذي يجب عليهم من حق الله تعالى فيه؟ إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت إن كان قد فرض، ولكن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة مما علم من حق الله تعالى فيه، ولذلك جاءت هـٰذه المقولة مفسّرة في رواية أخرى حيث قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إلـٰه إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منا دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)).
وقد بيّن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حقها في أحاديث عديدة، منها حديث ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وفيه قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)). هـٰذا من حق الإسلام الذي إذا لم يأت به الإنسان ولم يوف به أبيح دمه مع بقاء وصف الإسلام.
[المتن]
الثامنة والعشرون: المعرفة بحق الله في الإسلام.
[الشرح]
وهو ما ذكرناه قبل قليل.
[المتن]
التاسعة والعشرون: ثواب من اهتدى على يديه رجل واحد.
[الشرح]
وذلك في قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم)). أي خير لك من أنفََس الأموال التي تجنيها وتكتسبها في الدّنيا؛ وذلك لأن أجرها باق، ولأن العامل بهـٰذا العمل لك من أجره بمثل ما عمل لا ينقص من أجر العامل شيئًا كما قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
المهم أن فضل الهداية -فضل هداية الناس- إلى هـٰذا الدين عظيم كما تبيّن في هـٰذا الحديث وفي غيره من الأحاديث، ولكن هل هـٰذا الفضل في الهداية من الكفر إلى الإسلام؟ لا إشكال أنه في الهداية من الكفر إلى الإسلام؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتكلم مع علي وهو متوجّه إلى كفار أو إلى مسلمين؟ إلى كفار. فالحديث في هداية الكفار إلى الإسلام، لكن هل يدخل في هـٰذا هداية المسلمين الضالين المقصرين إلى الطريق المستقيم، إلى ما هو أحسن وأقوم؟ يحتمل، والظاهر أنّه لا إشكال في أن له فضلاً؛ لأنه من الدلالة على الخير، لكنه ليس كفضل الهداية من الكفر إلى الإسلام؛ لأنه إنقاذ من النار، فتلك لا يعدلها هداية، لكن لا نخليها من فضل، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد بين فضل الدعوة إلى الله عز وجل، وأن ((من دلّ على خير كان له من الأجر مثل أجر من عمل بما دعا لا ينقص من أجورهم شيئًا)). والهداية المذكورة هنا هي هداية الدلالة والإرشاد.
[المتن]
الثلاثون: الحلف على الفُتيا.
[الشرح]
وذلك في قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((فوالله)) مع أنه لم يُستقسم ولم يطلب منه الحلف، لكن الحلف يأتي في كلام الله وفي كلام رسوله لتأكيد ما هو عظيم وإن كان لا يدخل إليه شك ولا ريب، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يكذب ولا يُكذب، ومع ذلك -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حلف في هـٰذا الموضع وفي غيره. والحلف لتعظيم المحلوف عليه ولبيان رفعة قدره.
لكن هنا الحلف على الفُتيا أم على التعليم؟
ظاهر هـٰذه الرواية أنه حلف على التعليم؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما أعطاه الراية علمه ماذا يفعل، لكن في رواية من روايات الإمام مسلم قال ذلك في جواب سؤال: (على ماذا أقاتل الناس؟) أو (أقاتل الناس على ماذا؟) فإنه سأل فأجابه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فيكون كما ذكره الشيخ رحمه الله: (الحلف على الفُتيا). بهـٰذا يكون قد انتهى الباب.
شرح
كتاب التوحيد
الذي هو حق الله على العبيد
لشيخ الإسلام والمسلمين مجدد الدين
محمد بن عبد الوهاب التميمي المشرفي
- رحمه الله تعالى-
لفضيلة الشيخ
الدرس السادس
www.almosleh.com
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
[المتن]
باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إلـٰه إلا الله
وقول الله تعالى: ﴿أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ...﴾( ) الآية.
وقوله: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلا الَّذِي فَطَرَنِي...﴾( ) الآية.
وقوله: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ...﴾ ( ) الآية.
وقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ...﴾( )الآية.
وفي الصحيح عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: ((من قال: لا إلـٰه إلا الله وكفر بما يُعبد من دون الله حرُم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل)).
وشرح هـٰذه الترجمة ما بعدها من الأبواب.
[الشرح]
قال المؤلف رحمه الله: (باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إلـٰه إلا الله).
هـٰذا الباب مناسبته لكتاب التوحيد ظاهرة: فإن المؤلف -رحمه الله- عقده لبيان التوحيد الذي تقدم فضله وفضل من حققه وفضل الخوف ووجوب الخوف مما يضاده. المهم يبين لنا ما تقدم مما سبق الكلام عليه في الأبواب السابقة.
ما هو التوحيد الذي تقدم؟
سيبينه المؤلف رحمه الله لنا في هـٰذا الباب، لكن بيان المؤلف رحمه الله للتوحيد في هـٰذا الباب بيان مجمل يتبعه البيان المفصل، وذلك ما أشار إليه رحمه الله في قوله: (وشرح هـٰذه الترجمة ما بعدها من الأبواب). أي تفصيلها وبيان ما بعدها من الأبواب على وجه الكمال.
فسلك المؤلف -رحمه الله- في بيان التوحيد مسلكين.
المسلك الأول: البيان الإجمالي للتوحيد.
والمسلك الثاني: البيان التفصيلي.
أما البيان الإجمالي فهو بيان الأصول التي لا يتحقق التوحيد إلا بها.
أما البيان التفصيلي فهو شرح لتلك الأصول وما يندرج تحتها.
واعلم أن هـٰذا المسلك -وهو الإجمال والتفصيل- مسلك نبوي: فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما سُئل عن الإسلام والإيمان والإحسان بيّن ذلك على وجه الإجمال، ثم كان تفصيل ذلك وبيان تلك المجملات في سائر ما جاء عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سنته، والتوحيد الذي يتكلم عنه المؤلف -رحمه الله- تفسيرًا في هـٰذا الباب وما بعده هو تفسير توحيد الإلهية؛ لأنه هو الذي عقد الكتاب لأجل بيانه وألّف هـٰذا المصنف فيه.
ويبين هـٰذا قوله رحمه الله: (وشهادة أن لا إلـٰه إلا الله.) فإن الواو هنا عاطفة، وهو من باب عطف ماذا؟ من باب عطف المترادفات؛ لأن التوحيد هو شهادة أن لا إلـٰه إلا الله.
مَن يبين لنا أن دليل التوحيد يرادف شهادة أن لا إلـٰه إلا الله؟ نعم، القول في الروايات المتقدمة في حديث معاذ، فإنهم قالوا: ((فادعهم إلى أن يوحدوا الله)). وفي رواية: ((فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله)) تقدم هـٰذا.
فقوله هنا: (وشهادة أن لا إلـٰه إلا الله) هو من عطف المترادفات. مثال لعطف المترادفات في الكتاب قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾( ) فالبث هو الحزن، وهـٰذا من باب عطف الترادف، والأمثلة في ذلك كثيرة. المهم أن عطف الترادف يأتي في كتاب الله وهـٰذا منها.
وكلام المؤلف هنا من باب عطف المترادفات، وبعضهم قال: إن هـٰذا من باب عطف الخاص على العام؛ لأن التوحيد يشمل توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات. لكن هـٰذا ليس بسديد؛ لأن الأصل في بيان المؤلف في هـٰذا الكتاب هو توحيد الإلهية، التوحيد الذي خلق الله الخلق لأجله وبُعثت لأجله الرسل وهو توحيد الإلهية، ولا شك أنه سيتطرق لما يتعلق بتوحيد الربوبية ولما يتعلق بتوحيد الأسماء والصفات لكن ذلك على وجه التبعية لا على وجه الاستقلال.
(تفسير التوحيد) التفسير هو الكشف والإبانة، فالمراد بهـٰذا الباب الكشف عن التوحيد وبيان التوحيد، وكذلك بيان شهادة أن لا إلـٰه إلا الله.
ذكر المؤلف -رحمه الله- في تفسير التوحيد خمسة نصوص: أربع آيات وحديثاً. أما الآيات فبدأها بقول الله تعالى: ﴿أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾( ) هـٰذه الآية لها صلة بما قبلها، والذي قبلها قول الله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً﴾( )، ثم قال: ﴿أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾. ﴿أُولَئِكَ﴾ أُولاء هـٰذا اسم إشارة، وهو مبتدأ، له خبر في هـٰذه الجملة، وهو قوله تعالى: ﴿يَبْتَغُونَ﴾ هـٰذا خبر المبتدأ ﴿أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ أخبر عنهم بخبر، وهو قوله تعالى: ﴿يَبْتَغُونَ﴾ فمن المشار إليهم في قوله: ﴿يَبْتَغُونَ﴾؟
اختلف العلماء في المشار إليه على قولين:
منهم من قال: إن المشار إليهم في الآية السابقة هم قوم من الجن كانوا على عهد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعبدهم بعض المشركين، فأسلم هؤلاء الجن لما بلغتهم الدعوة واستمر عابدوهم على الشرك بهم، فقال الله جل وعلا: ﴿أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾ يعني: هؤلاء الذين تتوجهون إليهم بالدعوة والطلب حقيقة أمرهم أنهم يطلبون القرب إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فهم يعبدون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فجدير بكم وحقيق بكم أن تتركوا عبادتهم وتعبدوا من يعبدون وهو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وهـٰذا التفسير ورد عن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
والقول الثاني: أن ذلك في الملائكة والصّالحين، وزاد بعضهم: والأنبياء، وهـٰذا القول أوسع؛ لأنه يشمل الجن وغيرهم؛ لأن الصالحين من الجن والإنس. والمراد أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أخبر أن كم هؤلاء الذين تعبدونهم من الملائكة والأنبياء والصالحين حقيقتهم أنهم يبتغون ويطلبون الفضل من الله عز وجل، فحقيقٌ بكم أن تكونوا مثلهم. ويكون المقصود بالآية هو كل من عُبد من دون الله وهو عابد لله، وهـٰذا اختيار شيخ الإسلام رحمه الله؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فتشمل كل من توجه إليه أحد بعبادة وهو- أي: المعبود- عابد لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فيشمل الأنبياء والصالحين والملائكة وغيرهم ممن يعبدون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهم معبودون.
هل يدخل في ذلك الأصنام؟ قال بعض أهل العلم: يدخل الأصنام. لكن الصحيح أن الأصنام لا تدخل؛ لأن الأصنام لا يصدق عليها الخبر في قوله: ﴿يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾.
إذًا عرفنا المشار إليه في الآية، وأنه كل من عبد من دون الله وهو عابد لله، هـٰذا أصح ما قيل. ﴿أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾. ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول وهو بدل ﴿يَدْعُونَ﴾ ولم يذكر المعمول؛ ليشمل كل من توجِّه إليه بدعوة، سواء كانت الدعوة دعوة عبادة أو دعوة مسألة، كما تقدّم أن الدعاء في القرآن يتناول دعاء العبادة ودعاء المسألة، ﴿يَبْتَغُون﴾ أي يطلبون، ﴿إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾ والوسيلة هنا هي القربة، أي: إنهم يسألون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- التقرب إليه، وذلك بفعل ما أُمروا به من الواجبات أو من المستحبات، فالوسيلة هي ما يُتقرب به إلى الله -عز وجل- من الواجبات ومن المستحبات، فيكون المعنى: الذين تدعونهم حقيقة فعلهم أنهم مشتغلون بما يقربهم إلى الله -عز وجل- من الواجبات ومن المستحبات.
قوله: ﴿أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ أي: إن فعلهم هـٰذا لطلب القرب من الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
وقوله: ﴿أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ قيل في تفسيره: إنه بدل من الضمير في قوله: (يبتغون) فيكون المعنى: أن هؤلاء الذين تدعونهم من دون الله يتسابقون في القرب من الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، كلهم يطلب ويرجو أن يكون سابقًا قريبًا إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، والقرب إليه في هـٰذه الدنيا، بماذا يكون؟ بفعل الطاعات وترك المنكرات. قال الله عز وجل: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)). فالتقرب هنا بفعل الواجبات وإعقاب ذلك بفعل المستحبات والنوافل. إذًا المؤلف -رحمه الله- ساق هـٰذه الآية لتفسير التوحيد، فكيف نستفيد منها في تفسير التوحيد؟ ما المقصود؟ وكيف فسر المؤلف رحمه الله التوحيد بهـٰذه الآية؟
فسره بأن الآية تضمّنت ثلاثة أركان لا يقوم الإيمان ولا التوحيد إلا بها، وهي: المحبة والخوف والرجاء. فإن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ذكر عن هؤلاء الصالحين المعبودين من دون الله أنهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة، وهـٰذا فيه المحبة: ﴿يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾، ﴿وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ﴾ هـٰذا فيه إثبات الرجاء، ﴿وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ هـٰذا فيه إثبات الخوف من العذاب، وهـٰذه الأركان الثلاثة بها يستقيم إيمان العبد ويصح توحيده.
إذًا تفسير التوحيد هنا لبيان أصوله التي يبنى عليها، وهي: إفراد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالمحبة، وإفراده بالرجاء، وإفراده بالخوف:
المحبة من قوله: ﴿يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾؛ لأن بها تحصل المحبة، وقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث الإلهي: ((ولا يزال عبدي يتقرّب إلي بالنوافل حتى أحبه)). وقد قال الله جل وعلا: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾. والاتباع يكون في الواجب والمستحب، فالاتباع دليل المحبة.
وأما الرجاء ففي قوله: ﴿وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ﴾.
وأما الخوف ففي قوله: ﴿وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾. هـٰذه الآية الأولى.
الآية الثانية فسر المؤلف -رحمه الله- التوحيد فيها بما هو مشهور ومعروف، وهو أن التوحيد لا تثبت قدمه إلا بنفي وإثبات، فقد قال: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلا الَّذِي فَطَرَنِي﴾( ) وهـٰذه الآية في خبر قول إبراهيم -عليه السلام- لأبيه وقومه. قوله: ﴿وَإِذْ﴾ أي: اذكر قول إبراهيم لأبيه وقومه: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ﴾ أي متبرئ ﴿مِمَّا تَعْبُدُونَ﴾ من الذي تعبدون، فـ﴿مَا﴾ هنا موصولة بمعنى الذي، فتبرأ -عليه السلام- مما يعبد هؤلاء، وبراءته من عبادة هؤلاء هي براءة من الأعيان المعبودة من دون الله، ومن الأفعال التي يعبد بها هؤلاء، فالبراءة تكون من أمرين: من الفعل ومن المعبود نفسه، ليست فقط البراءة من أحد هذين. وماذا كان يعبد قوم إبراهيم؟ كانوا يعبدون الكواكب وما يقيمون من التماثيل التي ترمز لهـٰذه الكواكب، فيعبدون آلهة أرضية وآلهة آفاقية أي سماوية من النجوم والكواكب. هل كانوا يعبدون الله مع ذلك؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
منهم من قال: إنهم كانوا يعبدون الله، أي: إنهم مقرون بالصانع، وهـٰذا الذي اختاره شيخ الإسلام رحمه الله، قال رحمه الله: إنه لم تعرف عن طائفة من الطوائف التي بعث إليها الأنبياء من ينكر الله جل وعلا إنكارًا كليّاً، واستدل لذلك بأدلة عديدة من ظواهر القرآن تدل على أنهم كانوا يعبدون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مع عبادتهم لهـٰذه الأصنام، وعلى هـٰذا يكون قوله: ﴿إِلا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ استثناءً متصلاً، ومعنى الاستثناء المتصل أي يخرج من النفي السابق والبراءة المتقدمة عبادة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في قوله: ﴿إِلا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ فاستثنى الله -جل وعلا- مما يعبد هؤلاء، والاستثناء جاء بهـٰذا الوصف: ﴿إِلا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ لبيان أن سبب استحقاق الله -جل وعلا- لهـٰذه العبادة كونه الفاطر، ولذلك قال صاحب (يس) لقومه: ﴿وَمَالِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾( ) فجعل ترك عبادة الفاطر من أعجب ما يكون ومن أعظم ما يستغرب منه.
إذًا الاستثناء على هـٰذا القول يكون متصلاً.
على القول الثاني -وهو أن هؤلاء لا يعبدون الله إنما يعبدون الكواكب والأصنام- يكون الاستثناء منقطعاً، والاستثناء المنقطع معناه المستثنى منه من غير جنس المستثنى، ويكون تقدير الكلام: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ﴾ لكن ﴿الَّذِي فَطَرَنِي﴾ لا بد من أن تقدر: هو معبودي، أو: لكن الذي فطرني معبودي.
تكلمنا عن الآية وذكرنا أن المؤلف رحمه الله ساق هـٰذه الآية أو ذكر هـٰذه الآية في باب تفسير التوحيد؛ ليبين أن التوحيد لا تقوم ساقه ولا يستقر قراره إلا بأمرين، الأمر الأول: الإثبات. والأمر الثاني: النفي. إثبات الألوهية لله -عز وجل- ونفيها عما سواه، وهـٰذا ما تضمنته هـٰذه الآية، فإن الآية تضمّنت نفي ما عدا الله من الآلهة وإثبات الألوهية له -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وتضمّنت أيضًا البراءة من عبادة غيره، فقوله تعالى فيما ذكره عن إبراهيم: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ﴾ هـٰذا يشمل البراءة من الأعيان المعبودة من دون الله ومن الأفعال المتعبد بها لغير الله ومن الفاعلين لتلك العبادات، كل هـٰذا يفيده قول الله تعالى: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ﴾. وقوله: ﴿إِلا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ فيه إثبات العبادة لله وحده لا شريك له، وذكر في الإثبات الصّفة الموجبة لعبادة الله وحده والمسوِّغة لنفي العبادة عن غيره، وهي: ﴿إِلا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ أنه فاطر -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهي صفة الخلق، فهـٰذه الصفة هي التي أوجبت أن يعبد -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- دون غيره، ولذلك جاء ذكر هـٰذه الصفة في الاحتجاج على المشركين في كثيرٍ من الآيات لإبطال عبادتهم وإبطال شركهم، فإنه لا يستحق العبادة إلا الفاطر جل وعلا، ولذلك قال صاحب (يس) في كلامه لقومه: ﴿وَمَالِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾( ) فجعل المسوِّغ للعبادة والموجب لها هو ماذا؟ أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الفاطر. وقد قال الله جل وعلا: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾( ) في إنكار عبادة غيره -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-. فالموجب لذكر هـٰذا الوصف في هـٰذه الآية هو بيان علة إفراد العبادة له -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-. واضح الكلام؟
أفادتنا هـٰذه الآية في تفسير التوحيد أن لابد في التوحيد من إثبات ونفي، ولا بد في التوحيد من براء من المشركين، وأنه لا يكفي فقط في التوحيد إفراد العبادة لله -عز وجل-، بل لا بد أن يضاف إليها البراءة من الشرك وأهله.
ثم قال: (وقوله: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ﴾( )) هـٰذه الآية أتى بها المؤلف رحمه الله في تفسير التوحيد؛ ليبين أن التوحيد لا يتم إلا بالتخلي من الشرك الذي وقع فيه هؤلاء، وما هو الشرك الذي وقع فيه هؤلاء؟ أنهم صيّروا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، فقوله: ﴿اتَّخَذُوا﴾ أي جعلوا وصيروا ﴿أَحْبَارَهُمْ﴾ جمع حَبر وقيل: جمع حِبر وكلاهما صحيح ورجح بعض أهل العلم الكَسر أي حِبر، وعلى كلٍّ كلاهما صحيح حَبر وحِبر كلاهما يدل على العالم. وقوله: ﴿وَرُهْبَانَهُمْ﴾ جمع راهب، والراهب هو العابد، ولماذا سمي العابد راهبًا؟ لأن الحامل على العبادة هو الرهبة. قال: ﴿أَرْبَابًا﴾ جمع رب، والرب هو الخالق المالك الرازق المدبر، وهل جعل هؤلاء -والكلام في الخبر عن بني إسرائيل وعن أهل الكتاب، هل جعل هؤلاء- الأحبارَ والرهبانَ يملكون ويرزقون ويدبرون ويخلقون؟
الجواب: أنهم لم يجعلوا الأحبار والرّهبان على هـٰذه الصفة من كل وجه، يعني: لم يثبتوا لهم جميع ما يتصف به الرب أو ما يختص به الرب، بل أثبتوا شيئًا مما يختص به الرب وهو الملك والتدبير، وبهـٰذا نعلم أنه لا يلزم في الشرك أن تجعل لله ندّاً من كل وجه، بل جعل الند لله -عز وجل- ولو من بعض الوجوه يصح وصفه بالشرك وأنه موجب للخروج من الملة، فإن هؤلاء لم يعبدوهم من دون الله. ولذلك لما قرأ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هـٰذه الآية على عدي بن حاتم ماذا قال؟ قال: يا رسول الله! إنا لم نعبدهم. قال: ((ألم يحلوا لكم الحرام فأطعتموهم، ويحرموا عليكم الحلال فأطعتموهم؟)) قال: بلى. قال: ((فتلك عبادتهم)). فجعل الطاعة في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله من الشرك المخرج عن الملة، وجعله عبادة لغير الله. وسيأتي إن شاء الله في كلام المؤلف باب مستقل لبيان هـٰذا النوع من الشرك وهو شرك الطاعة.
ولكن اعلم أن الطاعة التي تكون شركًا هي الطاعة في التحليل للحرام أو التحريم للحلال، وليست الطاعة في فعل المحرم أو ترك الواجب، فإنّ هـٰذه معصية من المعاصي لا توجب الشرك ولا الكفر. ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ ثم قال: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾( ) هـٰذا الشّاهد في أن ما فعلوه شركا. ثم قال: ﴿سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ فنزه نفسه عن الشرك الذي أضافه إلى مَن؟ إلى هؤلاء الذين تقدم الكلام عنهم في أول الآية في قوله: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾. إذاً الشيخ -رحمه الله- فسر التوحيد هنا بصورة من صوره، وهي إفراد الله تعالى بالطاعة في التشريع في تحريم الحلال أو تحليل الحرام، فإن ذلك حق لله، وقد قال الله جل وعلا: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾( ) فجعلوا ما لم يأذن به الله شرعًا من اتخاذ الشركاء.
واعلم أنّ الشرك في الطاعة له صلة بنوعي التوحيد: الربوبية والإلهية.
له صلة بالربوبية من حيث إنه لا يصدر إلا عن الرب المالك المدبر.
وله صلة بالألوهية أنه لا يتعبد به إلا للإله الرب المستحق للعبادة دون غيره.
فشرك الطاعة له صلة بتوحيد الإلهية، يعني: له صلة بانتقاص توحيد الإلهية وبانتقاص توحيد الربوبية، ويأتي إن شاء الله بيان هـٰذا وتفصيله في الباب الذي عقده المؤلف لذلك.
ثم قال: (وقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ﴾( ))، ﴿مِنْ﴾ هنا للتبعيض أي بعض الناس ﴿مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا﴾، ﴿يَتَّخِذُ﴾ أي يصير ويجعل. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، ﴿مِنْ﴾ هنا بيانية ويصح أن تكون زائدة، ﴿دُونِ اللَّهِ﴾ أي سواه وغيره، ﴿أَندَادًا﴾ جمع ند، والند تقدم تفسيره وهو المثيل والنظير والمساوي والكفء والمسامي ،كل هـٰذا مما يفسر به الند. قال: ﴿يُحِبُّونَهُمْ﴾ الضمير في قوله: ﴿يُحِبُّونَهُمْ﴾ يعود على من؟ على هـٰذه الأنداد، الواو واو الفاعل في (يحبون) عائد على من؟ إلى قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾، ﴿يُحِبُّونَهُمْ﴾ الهاء يعود على من؟ على الأنداد ﴿كَحُبِّ اللَّهِ﴾ أي كمحبة الله، فحب مصدر مضاف إلى ماذا؟ إلى فاعله أو مفعوله؟ مصدر مضاف إلى مفعوله، والمعنى: كمحبة الله. فجعلوا محبتهم لهـٰذه الأنداد والأمثال التي جعلوها لله واتخذوها من دونه كحبِّهم لله، هل هـٰذه الآية فيها إثبات أنهم يحبون الله؟ تحتمل، يحتمل أنهم جعلوهم كمحبة الله مع إثبات محبتهم لله، ويحتمل أنهم استعاضوا بمحبتهم عن محبة الله – واضح؟ - يعني:
يحتمل أنهم أحبوهم مع الله وسووا بين الله وغيره في المحبة.
ويحتمل أنهم استعاضوا بمحبتهم عن محبة الله، فلم يحبوا الله وجعلوا محبتهم لهـٰذه الأصنام.
وهـٰذان قولان لأهل العلم في هـٰذه الآية، والذي يظهر أنهم سووا بين الله وغيره في المحبة، لا أنهم استعاضوا بمحبتهم عن محبة الله واستبدلوا بمحبة الله محبتهم، يعني: جعلوا محبة الله هي التي في قلوبهم وخلوا قلوبهم من محبة الله، المعنى الذي يظهر أنهم أحبوا الله ولكنهم وقعوا في شرك التسوية في المحبة. ودليل هـٰذا أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ذكر عن الكفار في قوله –سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾( ) أي: يسوون، فذكر التسوية من هؤلاء. والتسوية هي أن يجعلوا مع الله مساويًا. وأيضًا قال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في بيان كفر الكافرين وندمهم على ما كان منهم من تسوية الله بغيره: ﴿تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)﴾( ). فعُلم من هـٰذا أن هؤلاء سوّوا غير الله به -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في أي شيء؟ في المحبة. فلمّا وقع منهم هـٰذا تشعبت قلوبهم وتفرّقت؛ لأن القلب وعاءٌ لطيف لا يستوعب هـٰذا التفريق والتشتيت، فلما كانوا كذلك فاقهم أهل الإيمان الذين أثنى الله عليهم بقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ أشد حبّاً لله من أي شيء؟ من هؤلاء لله أم من هؤلاء لآلهتهم؟
قولان لأهل العلم، منهم - من العلماء - من قال: من هؤلاء لله. ومنهم من قال: من هؤلاء لآلهتهم. والذي يظهر أن المعنى أن الذين آمنوا أشدُّ حبّاً لله من هؤلاء لله، يعني: لما خلص هؤلاء محبتهم لله ووفروها عليه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وله؛ كانت محبتهم أعظم من محبة هؤلاء المشركين الذين فرقوا قلوبهم في هؤلاء الأنداد – واضح؟ - وهـٰذا المعنى أقرب وأليق؛ لأن المقارنة والموازنة بين محبة المشركين لله وبين محبة المخلصين والموحدين لله، وليست المقارنة والموازنة بين محبة المشركين لآلهتهم ومحبة المؤمنين لله فالجهة منفكة، إنما الموازنة في شيء واحد وهو محبة هؤلاء وهؤلاء لله عز وجل، ولماذا كانت محبة أهل الإيمان أكمل وأعظم؟ ذكرنا السبب قبل قليل: لأنهم أخلصوا المحبة لله هـٰذا سبب. والسبب الثاني وهو مهم: أنهم كمل علمهم بالله، والقاعدة أن المحبة تابعة للعلم، فبقدر ما مع الإنسان من العلم بالمحبوب بقدر ما يكون معه من المحبة، فلما كمل علمُ أهل الإيمان بالله عز وجل عظمت محبتهم له وخلصت ولم يقابلها شيء من محبة هؤلاء الذين جمعوا أمرين: الجهل بالله حيثُ جعلوا له أندادًا، والتّشتيت لقلوبهم حيثُ فرّقوا قلوبهم بين هؤلاء الأنداد.
وهـٰذه الآية فسّر فيها المؤلف -رحمه الله- التوحيد بركنه العظيم الذي لا يقر ولا يستقيم إلا به، وهو إخلاص المحبة لله، فالمحبة أصل أصيل في تحيق التوحيد؛ لأن العبادة التي فرض الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- على عباده والتي خلق من أجلها الخلق وأمر بإفراده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بها لا تقوم إلا بنهاية المحبة ونهاية الذل، وهما المعبر عنهما في كثير من كلام شيخ الإسلام بـ: غاية المحبة وغاية الذل، فالغاية هنا بمعنى النهاية أي المنتهية.
ثم قال رحمه الله في تفسير التوحيد: (في الصحيح عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: ((من قال: لا إلـٰه إلا الله، وكفر بما كان يعبد من دون الله حرُم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل))).
قوله: ((مَنْ)) هـٰذه شرطية، وذكر بعدها فعل الشرط وهو قول: ((لا إلـٰه إلا الله)) وعطف عليه الكفر بما يعبد من دون الله فقال: ((من قال: لا إلـٰه إلا الله)) أي أتى بالتوحيد. وقول: ((لا إلـٰه إلا الله)) يتضمن الإقرار للنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بالرسالة؛ لأنه لا تتحقق هـٰذه الكلمة لأحد إلا بالشهادة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالرسالة، ولذلك من كان آخر كلامه من الدنيا: أشهد أن لا إلـٰه إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإنه كما لو قال: لا إلـٰه إلا الله، ومن قال: لا إلـٰه إلا الله، فإنه يتضمّن هـٰذا شهادته للرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالرِّسالة، ولذلك لا يشكل أنه لم يذكر الإقرار للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالرسالة؛ لأنه لا يمكن أن تتحقق هـٰذه الكلمة إلا من طريق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وذلك يتضمن الإقرار له بالرِّسالة.
ثم قال: ((وكفر بما يعبد من دون الله)) هـٰذا فيه قيد زائد على ما تقدم، فـ((لا إلـٰه إلا الله)) فيها إثبات العبادة لله عز وجل، وتتضمن أيضًا نفي العبادة عما سواه، لكنه أكّد هـٰذا النفي بقوله: ((وكفر بما يعبد من دون الله)) فذكر الكفر بما يعبد من دون الله. والكفر بما يعبد من دون الله يشمل كل من عُبد من دون الله أيّاً كان المعبود، ومهما كانت الطريقة التي سلكها العابد، ومهما كانت النسبة التي ينتسب إليها العابد، فيشمل الكفر بكل ملل الكفر المخالفة لدين الإسلام، وهـٰذان الوصفان والقيدان هما في كثير من آيات الكتاب وأحاديث رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، من أصرح ما يكون في ذلك من كتاب الله -عز وجل- قوله جل وعلا: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ باِلْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾( ) الاستمساك بالعروة الوثقى هو الثبات على كلمة لا إلـٰه إلا الله، وقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في جواب هـٰذا الشرط في هـٰذا الحديث: ((حرم ماله ودمه)) فذكر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في جواب الشرط تحريم المال والدم، وهـٰذا في الحكم الدنيوي يحرم ماله فيكون ماله معصومًا، ويحرم دمه فيكون دمه معصومًا، أي: تثبت له العصمة في المال والدم، ولم يذكر العرض لأنه إذا حرم المال والدم فالعرض ثابت معهما، ولأن العرض قد يحرم حتى من الكافر. المهم أن عدم ذكر العرض هنا لكونه داخلاً في ثبوت تحريم المال والدم.
وأما ما يتعلق بالآخرة فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((وحسابه على الله عزّ وجل)). هـٰذا فيما يتعلق بالآخرة، أي: ما يكون في قلبه وما يكون من عمله بعد هـٰذا الإقرار إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، المجازاة والمحاسبة الأُخروية ليست إلينا، إنما الذي يرجع إلينا هو إجراء أحكام الدين بعصمة المال والدم لمن قال: لا إلـٰه إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، أما النار والجنة فهـٰذا إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
ثم قال رحمه الله -بعد أن فرغ من هـٰذا الحديث الذي أفادنا أن التوحيد لا بد فيه من الإيمان بالله والكفر بما يعبد من دونه-: (وشرح هـٰذه الترجمة ما بعدها من الأبواب.)
(شرح) هو البيان والتفصيل. وقوله: (هـٰذه الترجمة) الترجمة الأصل فيها هو ما يعبّر به عن كلام الغير، وقد اصطلح أهل العلم على تسمية عناوين الفصول والأبواب بالترجمة لأنها تعبر وتفسر وتبين ما تضمنه الباب، فهي كالمترجم الذي يعبر لك ويبين لك كلام من لا تفهم كلامه.
يقول المؤلف رحمه الله: (شرح هـٰذه الترجمة) أي تفصيلها وبيانها (ما بعدها من الأبواب) وذلك أن المؤلف -رحمه الله- سلك في تفسير التوحيد الإجمال والتفصيل:
الإجمال ما تضمنه هـٰذا الباب من الآيات التي تمثل أصول التوحيد التي يرجع إليها.
وأما التفصيل فهو ما سيأتي في الأبواب القادمة.
واعلم أن المؤلف -رحمه الله- سلك في تفسير التوحيد في هـٰذا الباب تفسير التوحيد ببيان أصوله وبيان ما يضاده وينافيه، وذلك أن الشيء يتبين بالتفصيل والتوضيح له، وأيضًا يتبين ببيان ضده ومقابله، وقد قال الشاعر:
الضد يظهر حسنه الضد
..................................
................................
وبضدها تتميز الأشياء
والمؤلف سلك هذين المسلكين في تفسير التوحيد الإجمالي في هـٰذا الباب؟ نعم.
[المتن]
فيه أكبر المسائل وأهمها وهي تفسير التوحيد وتفسير الشهادة، وبيَّنها بأمورٍ واضحة.
منها آية الإسراء بين فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين، ففيها بيان أن هـٰذا هو الشرك الأكبر.
[الشرح]
يقول رحمه الله: (فيه) أي في هـٰذا الباب (أكبر المسائل وأهمها وهي تفسير التوحيد وتفسير الشهادة، وبينها بأمور واضحة) لماذا كان تفسير التوحيد وتفسير الشهادة أكبر المسائل وأهمها؟ لأنه لا يمكن أن يتحقق التوحيد إلا بفهمه والكشف عنه، فالذي يقول: لا إلـٰه إلا الله. ولا يدرك معناها هل تنفعه؟ لا تنفعه. من قال: لا إلـٰه إلا الله. وسجد للصنم هل يكون قد حقق هـٰذه الكلمة؟ الجواب: لا. فلا تنفعه هـٰذه الكلمة، لكن ينفعه أن يعقل هـٰذا المعنى وأن يفهمه، وأن يترتب على هـٰذا العقل والفهم العمل، ولذلك قال: (أكبر المسائل وأهمها) يعني في هـٰذا الكتاب كله؛ لأنه لا يمكن أن يدرك التوحيد ولا يحقق إلا بفهمه والكشف عنه ، قال في البينات التي ذكرها في بيان التوحيد: (منها آية الإسراء)، وهي قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾( ) (بين فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين من الأنبياء والملائكة وغيرهم، ففيها بيان أن هـٰذا هو الشرك الأكبر). ما هو الشرك الأكبر؟ دعاء الصالحين دعاء عبادة أو دعاء مسألة. وكيف بين ذلك؟ بين ذلك أن الصالحين المدعوين من دون الله يتسابقون في القرب من الله عز وجل، وهم يعبدون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كما قال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ﴿يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾.
[المتن]
ومنها آية براءة بين فيها أن أهل الكتاب ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾( )، وبين أنهم لم يؤمروا إلا أن يعبدوا إلهًا واحدًا، مع أنّ تفسيرها الذي لا إشكال فيه طاعة العلماء والعُباد في المعصية لا دعاؤهم إياهم.
[الشرح]
يقول رحمه الله: (ومنها) أي من الآيات والبينات التي فسر بها التوحيد في هـٰذا الباب (آية براءة) وهي قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، (فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، وبين أنهم لم يؤمروا إلا بأن يعبدوا إلهًا واحدًا).
سؤال: هل أهل الكتاب مشركون؟ الله -عز وجل- يقول: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾( ) ففرّق -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بين أهل الكتاب وبين المشركين هـٰذا موضع. وقال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ﴿وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِن مُشْرِكَةٍ...﴾ ( ) ثم قال: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابِ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾( ) ففرق بين المشركين وبين أهل الكتاب، هـٰذه من المواطن التي يقع فيها إشكال على بعض الناس.
فمنهم من يقول: أهل الكتاب مشركون مطلقًا، ومنهم من يقول: إنهم ليسوا بمشركين.
وهـٰذه الآية دليل على أنهم مشركون، وذلك أن الله عز وجل ختمها بقوله: ﴿سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾( ) فحكم عليهم بالشرك. وقال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ﴾ قف ﴿وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ﴾( ) لا تصل؛ لأنك إن وصلت يفسد المعنى. ﴿وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ﴾ أي: ومنهم من عبد الطاغوت، وعبادة الطاغوت كفر وشرك. الجواب: أنه لا يطلق على أهل الكتاب وصف الشرك مطلقًا، لا يمكن أن نقول: أهل الكتاب مشركون، ولا يمكن أن ننفي عنهم الشرك؛ لأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وصفهم بالشرك وفرق بينهم وبين المشركين، وذلك أن أهل الكتاب أصل دينهم التّوحيد، وإنما وقع الشرك في بعض أعمالهم كالذين قالوا: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ والذين قالوا: ﴿الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾( ) والذين ذكر الله عنهم: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾. فهؤلاء الشرك طرأ عليهم وليس من أصل عبادتهم ودينهم، بخلاف المشركين الذين عبدوا الأصنام من مشركي مكة وأهل الأوثان، فإن أولئك أصل دينهم الشرك بالله عز وجل والكفر. أما هؤلاء فأصل دينهم التوحيد وطرأ عليهم الشرك، فهـٰذه الآية فيها إثبات أن أهل الكتاب يوصفون بالشرك، لكنه شركٌ غير مطلق؛ لدلالة الآيات الأخرى.
(منها آية براءة بين فيها أن أهل الكتاب: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾) فأشركوا من هـٰذا الوجه.
(وبين أنهم لم يُؤمروا إلا بأن يعبدوا إلهًا واحدًا، مع أن تفسيرها) أي تفسير الآية، فالضمير يعود إلى الآية، (مع أن تفسيرها الذي لا إشكال فيه طاعة العلماء والعُباد في المعصية لا دعاؤهم إياهم) والمقصود بالطاعة في المعصية هنا الطاعة في تحريم الحلال أو تحليل الحرام وليس مجرّد الطاعة في المعصية، يعني: في مخالفة أمر الله دون اعتقاد، فإن هـٰذا لا يكون من الشّرك الأكبر الذي يدخل في هـٰذه الآية، وسيأتي مزيد تقرير لهـٰذا -إن شاء الله تعالى- في الباب الذي عقده المؤلف لهـٰذا.
ثك قال:
[المتن]
ومنها قول الخليل -عليه السلام- للكفار: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلا الَّذِي فَطَرَنِي﴾( ) فاستثنى من المعبودين ربه، وذكر سبحانه أن هـٰذه البراءة وهـٰذه الموالاة هي تفسير شهادة أن لا إلـٰه إلا الله فقال: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾( ).
[الشرح]
(ومنها قول الخليل) يعني من البينات التي فسر بها المؤلف -رحمه الله- الشهادتين والتوحيد أو الشهادة والتوحيد. (ومنها قول الخليل -عليه السلام- للكفار: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلا الَّذِي فَطَرَنِي﴾) وذكرنا في تفسير هـٰذه الآية أنّ قوم إبراهيم كانوا يعبدون الله وغيره أو يعبدون الأصنام والأوثان فقط؟ قولان لأهل العلم، المؤلف رحمه الله مشى على أنهم يعبدون الله وغيره، يعبدون مع الله غيره، يعني قال: (فاستثنى من المعبودين ربه) فيكون الاستثناء هنا استثناءً متصلاً، (وذكر سبحانه أن هـٰذه البراءة وهـٰذه الموالاة هي تفسير شهادة أن لا إلـٰه إلا الله فقال: ﴿وَجَعَلَهَا﴾) أي كلمة التوحيد ﴿كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون﴾ وهـٰذا على كون الضمير عائداً إلى قوله: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ﴾، وبعضهم قال: الضمير في قوله: ﴿وَجَعَلَهَا﴾ يعود على البراءة، فيكون قد جعل البراءة من أهل الشرك كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون. وما ذهب إليه المؤلف -رحمه الله- أعم من جهة المعنى، وأن التي جعلها كلمة باقية في عقبه هي إفراد الله بالعبادة والبراءة من الشرك.
ثم قال:
[المتن]
ومنها آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم: ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾( ) ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنهم يحبون الله حبّاً عظيمًا ولم يدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحب الند أكثر من حب الله؟! فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله؟!
[الشرح]
يقول: (ومنها يقول: آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم: ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾. ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنهم يحبون الله حبّاً عظيمًا) وجه دلالة الآية على أن هؤلاء يحبّون الله حبّاً عظيمًا، من يبين وجه الدلالة في الآية؟ أنه جعل حب الله أصلاً وحب الأنداد فرعًا مقيسًا فقال: ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ﴾( )، فنظَّر وشبَّه ومثَّل حبّ هؤلاء بحب الله تعالى. ويمكن أن يقال من وجه آخر: إنه وازن بين محبتهم ومحبة المؤمنين، لكن الوجه الأول أقوى.
ثم قال: (ولم يدخلهم في الإسلام)؛ لأنهم أشركوا في المحبة. وهـٰذا يفيد أنه مهما كان الإنسان عابدًا لله إذا كان يقع في الشرك فإنه لا تنفعه هـٰذه العبادة مهما عظمت ومهما كبُرت. يقول: (فكيف بمن أحب الند أكثر من حب الله؟! فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله؟!) يكون أعظم شركًا وكفرًا.
[المتن]
ومنها قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((من قال: لا إلـٰه إلا الله، وكفر بما يُعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله)) وهـٰذا من أعظم ما يبين معنى (لا إلـٰه إلاّ الله)، فإنه لم يجعل التلفّظ بها عاصمًا للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يُعبد من دون الله، فإن شك أو توقّف لم يحرم ماله ودمه، فيا لها من مسألة ما أعظمها وأجلها! ويا له من بيان ما أوضحه! وحجة ما أقطعها للمنازع!.
[الشرح]
هـٰذا الكلام الأخير واضح؟ نعم -والله تعالى أعلم-.
ثم بعد هـٰذا الباب شرع المؤلف رحمه الله في بيان التوحيد مفصّلاً، وابتدأه بالشرك الأصغر في قوله: (باب من الشرك)، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليه.
شرح
كتاب التوحيد
الذي هو حق الله على العبيد
لشيخ الإسلام والمسلمين مجدد الدين
محمد بن عبد الوهاب التميمي المشرفي
- رحمه الله تعالى-
لفضيلة الشيخ
الدرس السابع
www.almosleh.com
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
[المتن]
بابٌ من الشرك لُبْس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه
وقول الله تعالى: ﴿قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ﴾( ) الآية.
وعن عمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى رجلاً في يده حلقة من صُفر فقال: ((ما هـٰذه؟)) قال: من الواهنة. فقال: ((انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً)) رواه أحمد بسند لا بأس به ( ) .
وله عن عقبة بن عامر مرفوعاً: ((من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له)) وفي رواية: ((من تعلق تميمة فقد أشرك))( ) .
ولابن أبي حاتم عن حذيفة: أنه رأى رجلاً في يده خيطٌ من الحُمى فقطعه وتلا قوله تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾( ).
[الشرح]
قال المؤلف رحمه الله: (باب من الشرك لبسُ الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه، هـٰذا الباب هو أول الأبواب التي شرع فيها المؤلف -رحمه الله- بشرح الشهادتين، بشرح التوحيد شرحاً مفصلاً؛ لأنه في الباب السابق بعد أن ذكر التّفسير المجمل للتوحيد قال رحمه الله: (وشرح هـٰذه الترجمة ما بعدها من الأبواب).
وبدأ المؤلف -رحمه الله- بشرحه لنوعٍ من الشرك وهو الشرك المتعلق بالأسباب؛ لأن الشرك منه ما يتعلق بالأسباب، ومنه ما يتعلق بالألفاظ، ومنه ما يتعلق بالإرادات.
وبدأ المؤلف -رحمه الله- بشرك الأسباب:
لكونه منتشراً كثيراً في الناس، وإن كان غيره من الشرك كثيراً؛ لكن الشرك في الأسباب يظهر أنه أكثر من غيره، هـٰذا من وجه.
وأيضاً أنه يخفى ملحظ الشرك فيه لاسيما فيما يتعلق بالركون إلى الأسباب على كثيرٍ من الناس فيختلط عنده الأمر حيثُ يجعلُ من أخذ الأسباب الركون إليها، ومعلوم أن الركون إلى الأسباب شرك.
والمؤلف -رحمه الله- في هـٰذه الترجمة لم يبيِّن مرتبة الشرك ومنزلته؛ بل أطلق القول فقال: (بابٌ من الشرك) ولم يبيِّن هل هو من الشرك الأصغر أو من الشرك الأكبر؟
وذلك أن (لُبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه) يحتمل أن يكون شركاً أكبر، ويحتمل أن يكون شركاً أصغر، والفارق بين الأمرين ما يقوم في قلب العبد.
وهـٰذه خذها قاعدة: أن كل شركٍ أصغر قد يكون أكبر باعتبار ما يقوم بقلب صاحبه وقصده( ) فالشرك الأصغر قد يرتفع إلى درجة الشرك الأكبر مع أنه مساوٍ للشرك الأصغر في الصورة، والذي رفعه ونقله إلى المرتبة العليا ما قام بقلب صاحبه.
فقول المؤلف رحمه الله: (بابٌ من الشرك) يحتمل الشرك الأصغر والشرك الأكبر، والفارق بينهما أيش؟ القصد وما يقوم بقلب صاحبه.
قوله رحمه الله: (لُبس الحلقة والخيط) اللُُّبس هنا بمعنى التعليق، سواء كان في اليد، أو في العنق أو على الثياب.. أو غير ذلك من المواضع. والحلقة معروفة. والخيط معروف.
قال: (ونحوهما) أي مما يشبهما من المعلقات كالودع والصدف وغير ذلك مما يعلق للغاية في قوله: (لرفع البلاء أو دفعه) والرفع: هو الإزالة بعد النزول. والدفع: هو المنع قبل الحصول. والبلاء: يشمل الأمراض والأسقام والكوارث والعين وكل ما يتضرر به الإنسان في ماله أو بدنه.
هـٰذه هي الترجمة لهـٰذا الباب.
مناسبة هـٰذا الباب لما قبله واضحة، أنه شروعٌ في الشرح التفصيلي للتوحيد.
مناسبة هـٰذا الباب لكتاب التوحيد: أن لُبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه مما يناقض التوحيد، ومما يخلُُّ بالتوحيد إما إخلالاً كليّاً أو إخلالاً جزئيّاً.
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله- في هـٰذا الباب عدة نصوص فبدأ بالأدلة من الكتاب فقال: (وقول الله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾( )) هـٰذه الآية أمر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ- رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالقول فقال: ﴿قُل﴾ مبلغاً لهؤلاء المشركين ﴿أَفَرَأَيْتُمْ﴾، ومعنى ﴿أَفَرَأَيْتُمْ﴾ أي أخبروني، وهـٰذه صيغة تتكرر في القرآن، وهو تفسير لها باللازم؛ لأن الاستفهام هنا عن الرؤية التي ينبني عليها الخبر، فالاستفسار والسؤال في الحقيقة عن الخبر.
﴿مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، ﴿مَا﴾ هنا موصولة أي الذي تدعون من دون الله، والدعاء –تقدم الكلام عليها- هنا يشمل: دعاء العبادة، ودعاء المسألة.
﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، ﴿مِنْ﴾ تقدم الكلام فيها وأنها إما بيانية أو زائدة، ﴿دُونِ اللَّهِ﴾ أي: سواه.
﴿إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ﴾، ﴿إن﴾ شرطية ﴿إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ﴾ والضر هنا يشمل كل ضرر. واعلم أن الضُّر والضَّر يختلفان في المعنى، فالضُّر يراد به الضرر النازل على البدن، وأما الضَّر –بالفتح- فهو كل ضرر في البدن وغيره، فأيهما أعم؟ ما كان مفتوحا (الضَّر). لكن إذا لم يجتمعا فيذكر أحدهما ويراد به الآخر .
﴿إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ﴾ يشمل كل ضرر؛ لأن ضُر نكرة في سياق الشرط فتعم كل ضرر في البدن أو غيره.
﴿هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ﴾ هـٰذا جواب الشرط، وهو جملة استفهامية المراد بها نفي النفع، أي إنّهُن لا يكشفن الضُّر الذي قدره الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ- وأنزله.
وقوله: ﴿كاشِفَاتُ﴾ وكاشفات جمع:كاشفة، وأصله الكشف وهو الإزالة والرفع، ويشمل في الحقيقة الكشف هنا الإزالة بالرفع والإزالة بالدفع؛ لأن الجميع كشف. أما في حال النزول فهو كشفٌ ظاهر؛ لأنها إزالة لنازل، وأما الدفع فهو أيضاً إزالة؛ لأنه دفعٌ لقادم فتشمل الآية دفع الضُّر ورفعه.
﴿أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ﴾ أي أو أراد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ- عبده برحمة، ويشمل كل خير يصل إلى العبد، فالرحمة هنا المراد بها كل خير يصل إلى العبد في دين أو في دنيا أو في غير ذلك.
﴿هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ﴾ أي: مانعات، ﴿رَحْمَتِهِ﴾؟ الجواب: لا، فالاستفهام هنا أيضاً لنفي قدرة هؤلاء المدعوين على دفع الضُر أو إمساك الخير .
ثم بعد أن قرر هـٰذين الأمرين وهما أن ما يدعى من دون الله ويقصد مهما كان في جلب خير أو دفع ضُر لا يحصل الإنسان منه مقصوده ولا ينال مطلوبه، قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ:﴿قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ فأمر الله -عز وجل- رسوله بأن يعلم هؤلاء إلى من يلجؤون ﴿حَسْبِيَ اللَّهُ﴾ والحسب هو الكفاية وهنا يشمل الحسب دفع الضُّر وجلب الخير، وقد ذكر الله -عز وجل- الحسب وهو الكفاية في جلب الخير وفي دفع الضر:
في جلب الخيركما في قوله سبحانه: ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾( ).
وفي دفع الضرر في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾( ) فهنا الكفاية في دفع ضرر وشر.
وفي هـٰذا الموضع تشمل المعنيين الدافع للضرر والرافع، وتشمل أيضاً الجلب للخير: ﴿قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ أي إنما تتم الكفاية به -سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ- في حق من صدق في توكله ﴿عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ فيحصِّلون ما ذكره -سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ- من الكفاية.
هـٰذه الآية مناسبتها للباب واضحة:
فإن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ- قطع العلائق كلها، فلا سبيل لتحصيل نفع أو دفع ضُر إلا من طريقه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ- وكل من رجا جلب خير ودفْع سوء من غير طريقه فإنه لا يحصِّل ما يريد؛ بل لو حصل له ما يريد فإنما يحصل له فتنة واستدراجاً ، وإلا فإن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ- بيده الخير لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع.
هـٰذه الآية هل هي في الشرك الأصغر أم في الشرك الأكبر؟
الأصل أنها في الشرك الأكبر؛ لأن صرف العبادة لغير الله شرك أكبر، وهنا قال: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ فيشمل دعاء العبادة ودعاء المسألة؛ لكنها تشمل أيضاً الشرك الأصغر حيث إنها توافقه في المعنى؛ لأن الذي يلبس الحلقة ويلبس الخيط ويلبس الودع والصدف والحديد وما أشبه ذلك من الملبوسات لدفع البلاء أو رفعه يرجو نفعاً أو رفع ضُر، فهو مشابه لهؤلاء الذين توجّهوا بالعبادة لغير الله؛ لأنه قصد غير الله في تحقيق مطلوبه الأمن من المرهوب؛ لكنه لا يحصّل لأنه لا يمنع ولا يدفع إلا رب العالمين -سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ- فالشرك الأصغر داخل فيها بالمعنى العام، وإلا فالآية مسوقة في إنكار الشرك الأكبر؛ لكن اعلم أن الآيات التي فيها ذم الشرك الأكبر يستدل بها في ذم الشرك الأصغر وذلك:
من حيث النقل: لأن الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- استدلوا بآيات الشرك الأكبر على الشرك الأصغر.
ومن حيث النظر:
• لأن الشرك الأصغر وسيلة إلى الشرك الأكبر، ووسيلة الشيء تأخذ حكمه؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.
• أن الاستدلال بآيات الشرك الأكبر في التحذير من الشرك الأصغر يفيد التنفير والتعظيم؛ لأن الشرك خطره كبير.
ثم قال رحمه الله: (وعن عمران ابن حصين -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى رجلاً في يده حلقة من صُفر)، (حلقة) حلقة أشبه ما يكون بأسورة أو ما أشبه ذلك أدارها على يده .(من صُفر) أي من نحاس، فقال: ((ما هـٰذه؟)) أي: ما الذي جعلك تضع هـٰذا في يدك؟ (قال: من الواهنة)، (من) هنا للسببية، أي: وضعتُها بسبب الواهنة، والواهنة: مرض يصيب الإنسان يهن به بدنه ويضعف.
فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((انزعها)) أمرها بنزعها، والنزع هو الخلع والمفارقة، ثم بعد أن أمره بالنزع بين له علة ذلك فقال: ((إنها لا تزيدك إلا وهناً)) أي: إلا ضعفاً؛ وذلك أن الشرك أعظم ما يضعف به القلب، قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ بماذا؟ ﴿بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً﴾( ) فجعل من أعظم أسباب الرعب في قلوب الكفار ما هم عليه من الشرك، وهـٰذا وجه قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنها لا تزيدك إلا وهناً)) لأنها تضعف القلب، وبهـٰذا نعلم أن الشرك لا يحصل به المطلوب مهما كان، حتى ولو جنى ثماراً قريبة فما هي إلا استدراجٌ، فإن عاقبة ما يحصله وهنٌ وضعفٌ في قلبه ويشهد لهـٰذا ما قصّه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ- في كتابه عن أقوام كانوا يعوذون برجال من الجن: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً﴾( )، واذكر دائما قول الله تعالى: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ﴾ فالباء هنا للسببية، فالكفر والشر من أعظم أسباب ضعف القلوب.
بعد أن بيّن له النتيجة والثمرة الدنيوية انتقل إلى بيان الثمرة الأخروية للشرك فقال: ((فإنك لو مِت وهي عليك ما أفلحت أبداً)) نفى عنه الفلاح الأبدي، والفلاح المنفي هنا هو: إدراك المطلوب؛ والأمن من المرهوب، وأصل الفلاح هو الفوز بما يطلب.
نفى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الفلاح عنه في وهـٰذا الحديث، وهـٰذا يناسب أن يكون الرّجل قد وقع في الشرك الأكبر؛ لأنه هو الذي ينتفي به الفلاح كليّاً أبديّاً ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾( ) هـٰذا في الشرك الأكبر ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾،( ) أما الشرك الأصغر فإنه دون ذلك فالفلاح، المنفي فلاح نسبي؛ لأنه إذا عُوقب على شركه آل إلى الجنة وكان من المفلحين بعد التمحيص والتنقية والتطهير.
فلماذا نفى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الفلاح الكلي في قوله:((ما أفلحت أبداً))؟
قال العلماء: لعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علم من حاله أنّ هـٰذا الرجل يعتقد أن الخير صادر عن هـٰذه الحلقة التي في يده، وأن دفع الشر منها، ولا شك أن اعتقاد ذلك شركٌ أكبر بالله رب العالمين. لأن لابس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه لا يخلو من حالين:
الحالة الأولى: أن يلبس ذلك معتقدا أنها سبب لجلب الخير أو رفع البلاء أو دفعه. وفي هـٰذه الحال يكون شركه من الشرك الأصغر لأنه من شرك الأسباب الذي هو التفات إلى السبب.
الحالة الثانية: أما إذا كان يعتقد أن الحلقة أو الخيط أو ما علقه يدفع عنه الشر بنفسه ويجلب إليه الخير بنفسه، هـٰذا شركه أكبر، وهو شرك في الربوبية، فهو أثبت خالقا مدبرا غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ فيكون بذلك من الشرك الأكبر.
وهـٰذا معنى الكلام الذي ذكرناه في أول الدرس، عند كلامنا على الترجمة أنه يحتمل أن يكون من الشرك الأكبر أو الشرك الأصغر، بناء على قصد الفاعل وما قام في قلبه.
ثم قال رحمه الله: (رواه أحمد بسند لا بأس به ) الحديث تكلم فيه جماعة من المحدثين، وذهب كثيرٌ منهم إلى ضعفه، إلا أن الحديث جاء من عدة طرق وأقل ما يقال فيه: أنه صحيحٌ موقوفٌ على عمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وعمران من الصحابة إلا أن الحديث رواياته متعددة تشهد لثبوته، ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (بسندٍ لا بأس به) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
ثم قال: (وله عن عقبة بن عامر مرفوعاً) أي الإمام أحمد، (مرفوعاً) أي يبلغ به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، ((من تعلق تميمة فلا أتم الله له))، ((تميمة)): على وزن فعيلة بمعنى متممة مفعلة، كـ(نذير) بمعنى (منذر). والمقصود بها: ما يعلقه الإنسان، فالتميمة في لغة العرب أصلها: القلادة؛ لكن هـٰذه القلادة لها معنى فهي تتمم نقصاً في الحُسن إذا كانت قلادة في التجمل كالتي يضعها النساء، وتتمم -بزعم صاحبها- ما قصُر من عافيته وصحته إن كان قد علقها طلباً للشفاء، أو دفعاً للعين؛ ولذلك سميت تميمة، فهي اسمٌ لكل ما يعلق لجلب خير أو دفع شر.
((من تعلق تميمة فلا أتم الله له)) هـٰذا دعاء أو خبر؟
يحتمل أنه دعاء ويحتمل أنه خبر، والمقصود: أي أن الله لا يتم له صحته وعافيته ومقصوده ومطلوبه؛ لأن هـٰذا الذي علق التميمة يريد بهـٰذه التميمة تتميم ما نقص من الصحة والعافية، فعاقبه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ- بنقيض مقصوده وبخلاف مراده، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فلا أتم الله له)).
((ومن تعلق ودعة)) والودعة: هي خرز أبيض يخرج من البحر كانوا يعلقونه يشبه الصدفة، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فلا ودع الله له)) أي: من تعلق الودع فلا تركه الله بعافية وصحة.
وهـٰذه الرواية جاءت بهـٰذه الصيغة ((من تعلق)) وفي بعض الروايات ((من علق)) أيهما أبلغ ؟
((من تعلق)) أبلغ، لأنها وتفيد تشير إلى نوعين من التعلق:
• التعلق الحسي.
• والتعلق المعنوي.
التعلق الحسي: بوضعها على الصدر أو في اليد أو في أي موضع من البدن.
والتعلق المعنوي: أن يعلق قلبه بها في جلب الخير أو دفع الضُّر .
حكم تعليق الودع شرك أصغر أم شرك أكبر؟
الجواب: يحتمل أن يكون شركاً أكبر، ويحتمل أن يكون شركاً أصغر، فالعبرة هنا بالقصد وما يكون في قلب المعلق، إن كان قد علق ذلك على أن الودع يجلب بنفسه الخير ويدفع بنفسه الضُّر فهو شركٌ أكبر، وإن كان علقه يرجو به كسبب لتحصيل دفع الضُّر وجلب الخير فهو شرك أصغر.
ثم قال: (وفي رواية: ((من تعلق تميمة فقد أشرك)) ) في الرواية السابقة خبر بعدم حصول المطلوب، وهنا حكم على هـٰذا الفعل؛ فإنه وإن كان الحكم يستفاد من ذاك؛ لكن هنا فيه التصريح بمرتبة المعصية؛ لأنه قد يكون تعليق التميمة من الكبائر، وقد يكون من المعاصي؛ لكن لما قال: فقد أشرك، تبين أنه ليس من جملة المعاصي؛ بل هو من الشرك والشرك ظلمٌ عظيم.
((من تعلق تميمةً فقد أشرك)) ولم يبين أي نوع من أنواع الشرك لأن الشرك هنا فيه تفصيل: يحتمل أن يكون شركاً أصغر ويحتمل أن يكون شركاً أكبر على ما ذكرناه آنفاً.
هـٰذا الحديث حديث حسن برواياته ولم يتكلم عليه الشيخ رحمه الله؛ لأن الطعن فيه أقل من الحديث الذي قبله.
(قال: ولابن أبي حاتم عن حذيفة) ابن اليمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُما (أنه رأى رجلاً في يده خيطٌ من الحُمى فقطعه وتلا قوله: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾( )) هـٰذا الأثر فيه الإنكار الفعلي على من علق خيطاً أو غيره في دفع بلاء أو رفعه، فإنّ هـٰذا الرجل علّق الخيط في يده من أجل دفع فقوله: (من الحُمى)، (من) هنا للسببية (فقطعه وتلا) أي قطعه حذيفة وتلا قوله: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ هـٰذا قاله الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ- في بيان حال المشركين شركاً أكبر.
﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ وذلك أنهم كانوا يقرون بأن الله هو الخالق والرازق والمدبر والمالك، وأنه هو الذي يرجع إليه في تدبير أمر الكون مع ذلك كان يقع منهم الشرك فيصرفون العبادة لغيره -سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ- فقال –سبحانه- في بيان حالهم: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ﴾ أي لا يؤمن بأنه رب العالمين الذي يستلزم أن يكون الإلـٰه المستحق للعبادة دون غيره ﴿إلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ أي إلا ويقعون في الشرك، وهـٰذه في الشرك الأكبر، واستدل بها حذيفة على نوع من الشرك الأصغر، وذلك أن الآية تشمل نوعي الشرك؛ فقوله: ﴿وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ تشمل الشرك الأكبر والشرك الأصغر.
وهـٰذا الأثر تكلم فيه من حيث صحته؛ ولكنه على كل حال يستأنس به ويشهد له ما تقدم من الأحاديث.
ثم قال رحمه الله:
[المتن]
وفيه مسائل:
الأولى: التغليظ في لُبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك.
[الشرح]
قوله: (التغليظ) حيثُ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنها لا تزيدك إلا وهناً فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً)) وهـٰذا تغليظٌ شديد في هـٰذا الأمر، وهو حريٌّ بهـٰذا التغليظ؛ لأنه إما أن يكون مخرجاً عن الملة أو يكون طريقاً ووسيلة للخروج من الملة.
[المتن]
الثانية: أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح، فيه شاهد لكلام الصحابة أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر.
[الشرح]
وهـٰذا لا إشكال فيه أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر، ويدلك لهـٰذا أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ- منع المغفرة في الشرك، وتقدم أن من العلماء من يجعل الشرك الأصغر من الشرك الذي لا يدخل تحت المغفرة، ثم إن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ- وصف الشرك بأنه ظلمٌ عظيم، وهـٰذا الوصف يصدق على جميع صور الشرك وأنواعه، فهو أعظم من الكبائر مهما كانت.
وأما قوله: (أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح) ذلك أن الرجل الذي رأى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليه هـٰذه الحلقة من الصحابة، فدل ذلك على أن الشرك خطره جسيم يحبط العمل حتى لو كان العمل في جملته صحبة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- .
[المتن]
الثالثة: أنه لم يُعذر بالجهالة.
[الشرح]
يشير في هـٰذه المسألة إلى حديث عمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفيه: (أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى رجلاً في يده حلقة من صُفر فقال: ((ما هـٰذه؟)) قال: من الواهنة. فقال: ((انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا))) ثم قال: (((فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً))) وهـٰذا وجه قوله -رحمه الله: (أنه لم يُعذر بالجهالة) لأن ظاهر الحال أن هـٰذا الرجل جهل الحكم ومع ذلك لم يعذره؛ بل قال:((إنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً)).
وهـٰذا الظاهر من هـٰذا الحديث لا يمكن أن نجعله قاعدة عامّة في مسألة العُذر بالجهل؛ وذلك أن الجهل نوعان:
نوعٌ: لا يُعذر معه صاحبه وهو الجهل الناتج عن تفريط في تحصيل ما يجب تعلمه.
النوع الثاني من الجهل: هو الجهل الناتج عن عُذر إما لقرب إسلام أو نشوءٍ ببادية، أو لكونه لا يدرك مثل هـٰذه المسألة.
فهـٰذه الأعذار وأمثالها لا يمكن أن نلغي العُذر فيها بالجهل مع قيام الأدلة من الكتاب والسنة على العُذر بالجهل:
قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾( ) فنفى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ- المؤاخذة والتعذيب حتى يبعث رسولاً.
ومن السنة الحديث المشهور في قصة الرجل الذي أمر أولاده بأن يحرقوه ثم يذروه فلما جُمع قيل له: ما حملك على هـٰذا؟ قال: خشيتك، وقد قال في تعليل هـٰذا الفعل: فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه لأحد، فشك في حصول القدرة( ).
المهم أن الأدلة كثيرة تدل على العُذر بالجهل، ولا يمكن أن يؤخذ حكم عام في مسألة خطيرة من مجرد حديثٍ واحد لاسيما أن الأحاديث الأخرى تعارض هـٰذا الحديث.
وأن عدم عُذر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هـٰذا الرجل بالجهل غير ظاهر في الحقيقة؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمره بنزعها فقال: ((انزعها)) ثم بين له حكم النزع أو بين له علة النزع فقال: ((فإنها لا تزيدك إلا وهناً وإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً)) فهـٰذا بيان لحكم لُبس مثل هـٰذا، وهـٰذا الحكم إنما يثبت بعد العلم ولا ندري أن هـٰذا الرجل كان عالماً بالحكم أم لا، وكون الحكم يقرن بالعلة لا يلزم أن تثبت هـٰذه العلة قبل بلوغ الحكم.
وعلى كل حال فيمكن أن يقال في جواب هـٰذا: إنه قضية عين، إن سلمنا على عدم العُذر بالجهل فيمكن أن يقال بأنه قضية عين.
وأما بالنسبة للشيخ -رحمه الله- شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب فإنه رحمه الله له نصوصٌ صريحة يُفهم منها ويُعلم أنه ممن يقول بالعُذر بالجهل، وكذلك أئمة الدعوة، ففي مؤلفاتهم وكلماتهم ما يدل على أنهم يعذرون بالجهل، وأن الجهل عندهم من موانع التكفير، ومن موانع إثبات حكم الكفر ولعل الله ييسر بسط هـٰذه المسألة في غير هـٰذا الموضع.
[المتن]
الرابعة: أنها لا تنفع في العاجلة بل تضُر لقوله: ((لا تزيدك إلا وهناً)).
[الشرح]
هـٰذه المسألة أيضاً مأخوذة من مجموع الأحاديث، وإن كان المؤلف -رحمه الله- استدل لها من حديث عمران لكنها مأخوذة من الأحاديث كلها أما من حديث عمران فقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فإنها لا تزيدك إلا وهناً)) ومن حديث عقبة فقوله: ((فلا أتم الله له)) ومن قوله: ((فلا ودع الله له))، فهـٰذه كلها تدل على هـٰذا المعنى وهو أن الشرك يضر صاحبه في الدنيا قبل الآخرة.
[المتن]
الخامسة: الإنكار بالتغليظ على من فعل ذلك.
[الشرح]
واضح في أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أغلظ القول لهـٰذا الرجل، وكذلك حذيفة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهـٰذه سنة نبوية في التغليظ؛ لكن ينبغي أن يُعلم أن التغليظ إنما يكون ممن يُقبل منه التغليظ، أما من لا يُقبل منه التغليظ كمن يكون من عوام الناس، أو ممن لا قبول له فإنه ينبغي أن يسلك معه جانب الرفق في تقرير ما يريد؛ لكن إن كان محل قبول واجتمعت عليه القلوب فتغليظه نافع؛ لأنه أبلغ في الزجر.
ولذلك ينبغي للإنسان أن يترفق فيما إذا كان من عوام الناس، لا يُرى له مكانة ولا يُعرف له قدر، ينبغي له أن يترفق في بيان الحق وأن لا يغلظ على الناس لأن الغلظة مدعاة للجفوة والرفض وعدم القبول، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في دعوته لقومه ولأمره كان في غاية الرفق مع ما هم عليه من شركٍ عظيم فهـٰذا ينظر فيه للحال وإلى حال الداعية وحال المدعو والحال التي تكون فيها الدعوة.
[المتن]
السادسة: التصريح بأن من تعلق شيئاً وُكِل إليه .
[الشرح]
وهـٰذا يؤخذ من حديث: ((من تعلق تميمة فلا أتم الله له)) حيثُ إنه لما قطع تعلقه بقلبه وعلقه بهـٰذا لم يحصل له مقصوده، وإن كان هـٰذا الحديث لم يأتِ إلى الآن سيأتي في الباب القادم هـٰذا اللفظ (أن من تعلق شيئاً وكِل إليه) أليس كذلك؟ نعم لكن هـٰذا مأخوذ من ((من تعلق تميمة فلا أتم الله له ومن تعلق ودعاً فلا ودع الله له)).
[المتن]
السابعة: التصريح بأن من تعلق تميمة فقد أشرك.
[الشرح]
وهـٰذا في رواية حديث عقبة بن عامر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفيه الحكم في تعليق التمائم وأن من علق تميمة فإنه قد وقع في الشرك.
[المتن]
الثامنة: أن تعليق الخيط من الحمى من ذلك.
[الشرح]
وذلك في أثر حذيفة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهو واضح.
[المتن]
التاسعة: تلاوة حذيفة الآية دليلٌ على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر، كما ذكر ابن عباس في آية البقرة.
[الشرح]
إن الرجل الذي أنكر عليه حذيفة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ما كان منه إنما يظهر من فعله أنه علقه من سبب لا على أنه يحصل به المقصود استقلالاً، ومع ذلك قال له: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾( ) وهـٰذا الاستدلال كثير في كلام الصحابة، يستدلون بما ورد في الشرك الأكبر في إنكار ما يكون من الشرك الأصغر.
[المتن]
العاشرة: أن تعليق الودع من العين من ذلك.
[الشرح]
لقوله: ((من تعلق ودعاً فلا ودع له)) فدعاؤه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليه يدلّ على أنه لم يصب صواباً؛ بل إنما فعل ما لا يجوز له من تعليق قلبه بالشرك.
[المتن]
الحادية عشرة: الدعاء على من تعلق تميمة أن الله لا يتم له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له. أي: لا ترك الله له.
[الشرح]
أي: لا ترك الله له الصحة والعافية والدعة والسكون كما تقدم هو في الشرح.
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
[المتن]
باب ما جاء في الرقى والتمائم
في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه كان مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بعض أسفاره فأرسل رسولاً ((أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت))( ).
وعن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: ((إن الرقى والتمائم والتولة شرك)) ( )رواه أحمد وأبو داود.
وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا: ((من تعلق شيئاً وكِل إليه))( )رواه أحمد والترمذي .
التمائم شيء يعلق على الأولاد يتقون به العين؛ ولكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهي عنه منهم ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
والرقى: هي التي تسمى العزائم، وخص منها الدليل ما خلا من الشرك فقد رخص فيه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من العين والحُمة.
التولة: شيء يصنعونه ويزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته.
وروي أحمد عن رويفعٍ قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يا رويفع لعل الحياة تطول بك فأخبر الناس أنه من عقد لحيته أو تقلد وتراً أو استنجي برجيع دابة أو عظمٍ فإن محمداً بريء منه)).
وعن سعيد بن جبير قال: "من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة" رواه وكيع وله عن إبراهيم قال: "كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن ".
[الشرح]
مناسبة هـٰذا الباب لكتاب التوحيد، واضحة وذلك أن كثيراً من التمائم ومن الرقى يكون فيها شرك فاحتاج المؤلف -رحمه الله- إلى بيان القول في ذلك .
أما مناسبة هـٰذا الباب للباب الذي قبله، فهو فبعد أن ذكر ما يتعلق بلُبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه، وتلك الأشياء مما لا شبهة فيه في عدم حصول المقصود بها؛ لأنها لا تضر ولا تنفع وليس فيها متعلق إلا لمن سفه نفسه وعطّل عقله، أما في هـٰذا الباب فإنه ذكر الرقى والتمائم.
والرقى والتمائم: تعويذات وأقوال إما أن تقال أو تعلق فهي أخص من تلك التي لا تنفع؛ لأن منها ما هو نافع كالرقى، والتمائم أيضاً اختلف في حكم تعليقها.
اختلف أهل العلم في حكم تعليقها بينما لم يقع خلاف في عدم جواز تعليق الحلقة والخيط ونحوهما لدفع البلاء أو رفعه. إذاً مناسبة هـٰذا الباب أنها بيان لما وقع فيه الخلاف من المعلقات والمتلوّات لدفع البلاء أو رفعه.
قال رحمه الله: (باب ما جاء في الرقى والتمائم) ولم يذكر حكمه! وذلك لأن الرقى ليست على نوع واحد، وقد اختلفت الأحاديث فيها فمنها ما يدلّ على جوازها ومنها ما يدل على تحريمها، فأطلق القول في الرّقى ليتبين من خلال ما يأتي، كذلك التمائم وقع الخلاف بين العلماء في حكم التمائم ولذلك أطلق أيضا المؤلف -رحمه الله- الكلام ولم يبين الحكم، بل أطلق القول فقال: (باب ما جاء في الرقى والتمائم).
والرقى: جمع رقية، وسيأتي تفسيرها في كلام الشيخ.
والتمائم: جمع تميمة، وسيأتي بيانها في كلام الشيخ وقد تقم أنها على وزن فعيلة، مفعلة أي متممة.
ساق المؤلف رحمه الله في هـٰذا الباب عدة أحاديث ابتدأها بقوله: (في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-)، والصحيح هنا: البخاري ومسلم فالحديث مخرج في الصحيحين .
(عن أبي بشير الأنصاري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه كان مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بعض أسفاره) ولم يبين السفر وهل هو في غزوة أو في سفر عادي ؟ (فأرسل رسولاً) أي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت)). الرسول المرسل مرسل بالتبليغ أم مرسل بالقطع –يعني بالفعل-؟ الظاهر أنه مرسل بالتبليغ، لأنه ورد في بعض الراويات (أرسل منادياً ينادي أن لا يبقين) وفي بعض الراويات (أرسل رسولاً ألا لا يبقين) وهـٰذه أداة استفتاح للكلام تدل على أنه أُرسل بالبلاغ.
وعلى كلّ حال المقصود أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اهتم بهـٰذا الأمر، وأرسل من يبلغ الناس منع ذلك، ((أن لا يبقين)) البقاء هو الدوام وعدم الزوال، فأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدمه في هـٰذا الأمر وهو ((أن لا يبقين في رقبة بعير قلادةٌ من وتر)) القلادة هي: ما يقلد به الشيء، والغالب أنها تطلق على ما يوضع في الرقبة ولكن في هـٰذه الرواية قال: ((أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر))، (من) هنا بيانية لتبين جنس القلادة، والوتر: هو وتر القوس، والغالب أن يصنع من أحشاء البهائم، فأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقطع القلادة من الوتر.
ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أو قلادةٌ إلا قطعت))، ((أو)): هنا اختلف فيها الشراح على قولين:
منهم من قال: إنها للشك، شك الراوي، هل الإرسال كان بأمر قطع القلائد من الوتر أو القلائد من أي شيء كانت فقال: ((لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت)) .
وقال آخرون: هي للتنويع ؛ فيكون من باب عطف العام على الخاص؛ لأن القلادة تعم القلادة من الوتر والقلادة من غيره؛ كالتي تكون من الخيوط والسيور وغير ذلك ويشهد لهـٰذا:
• أن الأصل عدم توهيم الراوي، هـٰذا من وجه.
• وجه آخر أنه في رواية أبي داوود جاءت الرواية بالواو، وهـٰذا يؤيد القول بأنها للتنويع .
وعلى القول هـٰذا لا إشكال.
وعلى القول بأنها للشك: فأي الأمرين أعم؛ هل قول: قلادة من وتر أعم من قول قلادة أو العكس؟ العكس أعم، فأيهما نعمل؟ نعمل الثاني؛ لأن به تبرأ الذمة واليقين حتى على القول بالشك.
فلا خلاف في الحقيقة سواء إن قلنا إنها للتنويع أو إنها للشك.
ثم حتى لو صحت الرواية بأن الذي ورد هو قوله: ((لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر إلا قطعت)) لقلنا: غير الوتر يلحق به في الحكم؛ لأن هـٰذا القول خرج مخرج الغالب، فغالب ما كان يعلقه العرب في ذلك الوقت هو القلائد من وتر. ومعلوم أن ما خرج مخرج الغالب لا يقيد به الحكم؛ لأنه قيدٌ أغلبي.
وعليه فنقول: هـٰذا الخلاف لا ثمرة تحته لأنه على أي وجه حملت الحديث فتصل إلى نتيجة واحدة وهي تحريم المعلقات مطلقاً إذا كانت لدفع البلاء أو رفعه.
وعلى هـٰذا أيضا نقول: لو كان التعليق في غير الإبل كالخيول هل يأخذ الحكم ؟
نعم يأخذ الحكم، فقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لا يبقين في رقبة بعيرٍ)) ليس قيداً بل هـٰذا وصفٌ أغلبي لا يقيد به الحكم .
والخلاصة: أن الحديث أفادنا تحريم تعليق التمائم مهما كانت وفي أي شيء وبأي شيء عُلقت؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أرسل يأمر بنزعها وإزالتها وعدم دوامها في قوله: ((ألا يبقين في رقبة بعيرٍ قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت)) وهـٰذا يشهد لتحريم تعليق التمائم؛ لأن التميمة تشمل كل ما عُلق سواء كان مما كُتب فيه شيء أو مما لا يُكتب فيه شيء كما سيأتي في تعريفها.
ثم قال: (وعن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: ((إن الرقى والتمائم والتولة شرك)) رواه أحمد وأبو داود.) .
ذكر في هـٰذا الحديث ثلاثة أمور وجمعها في حكم واحد، وابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نقل عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هـٰذا القول وهو: ((إن الرقى)) وهـٰذا يشمل كل رقية:لأن الألف والأم هنا للاستغراق هـٰذا أحد القولين. والقول الثاني: أن الرقى هنا المراد بها ما كان فيه شرك؛ لأنه دل الدليل على أن الرقى منها ما هو جائز؛ بل منها هو مندوب إليه .
وقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في الرقى بناء على اختلاف الأحاديث الواردة فيها، فالأحاديث منها ما يأمر بها، ومنها ما ينهى عنها.
فمن الأحاديث التي تأمر بالرقى كقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من استطاع أن ينفع أخاه بشيء فلينفعه)) وهـٰذا ندب إلى استعمال كل ما يحصل به النفع للأخ.
ومنها ما ينهى عنها: كحديث ابن مسعود .
فقال بعضهم في الجمع بين هاتين الطائفتين من الأحاديث: إن أحاديث النهي محمولة على النهي عن الرقى الشركية، وأما الأحاديث النادبة والمبيحة فهي في الرقى التي ليس فيها شرك .
وذهب بعضهم إلى الترجيح: فقال: إن أحاديث الإباحة ناسخة لأحاديث النهي. وقال بعضهم: أحاديث النهي ناسخة لأحاديث الإباحة .
لكن هـٰذا القول ضعيف والصحيح أن يقال بالقول الأول وهو أن الأحاديث المطلقة التي فيها النهي عن الرقى ووصفها بأنها شرك المراد بها الرقى الشركية، أو الجواب الثاني يقال: إن ذلك منسوخ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما سئل عن الرقى قال: ((اعرضوا علي رقاكم)) ثم أعطاهم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إباحة مقيدة بوصف فقال: ((لا بأس بها ما لم يكن شرك)) يعني ما لم يوجد شركٌ فيها فدل ذلك على الإباحة والاستثناء فقط فيما كان شركيا.
وكذلك في حديثٍ آخر عند الإمام مسلم: أن آل عمرو بن حزم سمعوا أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن الرقية وكانوا يرقون فسألوه فقال: ((لا بأس بها ما لم يكن شرك)) فنهاهم عن الرقى الشركية، وأباح لهم الرقى التي ليس فيها شرك.
وبهـٰذا تجتمع الأحاديث فيكون قول ابن مسعود في هـٰذا الحديث أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((إن الرقى شرك)) المقصود بها الرقى الشركية.
وهنا قولٌ رابع: وهو جيد في الحقيقة، أن الرقى نهي عنها أولاً نهياً عاماً وذلك لما كان منتشراً عند أهل الجاهلية من الرقى الشركية، ثم بعد ذلك جاء الإذن في ما لم يكن فيه شركٌ من الرقى، وهـٰذا ليس ببعيد، وله نظير في نهي النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عن زيارة القبور في أول الإسلام، ثم بعد ذلك أذن فيها لما فيها من المصلحة، فيكون الإذن بعد النّهي وهـٰذا قريب من القول الذي ذكرناه أن حديث الإباحة ناسخة للنهي؛ لكن هـٰذا بيان علته ونظيره، فيمكن أن يقال أن هـٰذا هو القول الأول الذي ذكرناه أن يقال أنه كان هناك نهي ونسخ بالإباحة، وهـٰذا وجهه.
ثم قال: ((والتمائم)) والتمائم: جمع تميمة وهي تشمل كل تميمة ؛ لأن الأصل انطباق هـٰذا الوصف على كل ما يصدق عليه من المعلقات، وأن المقصود بها: حصول تمام العافية بالسلامة من البلاء دفعاً أو رفعاً.
قوله: ((والتولة)): وأيضا ستأتي .
ثم قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الخبر عن هـٰذه الأمور الثلاثة: ((شرك)) وهـٰذا حكم يبين أن الرقى والتمائم والتولة شرك .
وقوله: ((شرك)) فيه إطلاق هل هو شرك أصغر أو شرك أكبر؟
فيه احتمال، وقد ذكرنا أنه في الأصل من الشرك الأصغر، وقد يرتقي إلى الأكبر باعتبار ما يقوم بقلب الإنسان وباعتبار قصده.
ثم قال: (رواه أحمد وأبو داود).
قال: (وعن عبد الله بن عُكيم مرفوعا: ((من تعلق شيئاً وكِل إليه)) ) هـٰذا فيه أيضاً التحذير من تعلق القلب أو التعليق على البدن أو على الدابة أو على غير ذلك رغبةً في تحصيل النفع أو دفع الضُّر لقوله: ((من تعلق شيئاً وكِل إليه)) أي جُعل أمره إليه؛ ومعنى جُعل أمره إليه أي أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ- يكفُّ عنه فضله ورحمته وإحسانه وعنايته، بخلاف من توكل على الله، فإن من توكل على الله فهو حسبه كما قال الله جل وعلا: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾( ) أي كافية.
وقوله: ((شيئاً)) نكرة في سياق الشرط فتعم كل شيء يتعلق به القلب أو يعلق على الأشياء لأجل دفع البلاء أو رفعه؛ وهـٰذا يشمل التمائم بجميع أنواعها والمعلقات مما له معنى ومما لا معنى له لعموم قوله: ((شيئاً)).
قال: (رواه أحمد والترمذي).
ثم شرع المؤلف -رحمه الله- في بيان التمائم فقال: (التمائم شيء يعلق على الأولاد) وهـٰذا من المؤلف -رحمه الله- تعريفٌ للتمائم بالغالب، وإن كانت التمائم تعلق على الأولاد وعلى غير الأولاد؛ لكن هـٰذا التعريف بالمثال أو بالصورة أو بالغالب، وهـٰذا يجري في كلام أهل العلم كثيراً، ومنه قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أخوف ما أخاف عليكم الشِّرك الأصغر)) فسئل عنه فقال: ((الرياء)) فعرّف الشرك الأصغر ببعض صوره، وهـٰذا جارٍ في كلام العلماء التعريف بالصورة أو بالمثال أو بما يغلب.
والتعريف العام للتمائم: هي كل ما يعلق لأجل دفع البلاء أو رفعه سواء كان المعلَّق له معنى كالأوراق والحروز التي يكتب عليها قرآن أو يكتب عليها ذكر أو يكتب عليها كلام له معنى صحيح، أو ما يكتب من الشركيات والطلاسم، أو ما لا يكتب عليه شيء كالودع والصدف والحِلق والخيوط وغير ذلك مما يعلق، كل ذلك يشمله معنى التميمة، فإن التميمة: ما يعلق رجاء دفع البلاء أو رفعه سواء كان على الأولاد أو على غيرهم.
قال: (من العين)، (من) هنا سببية أي بسبب العين والمقصود أنهم يعلقونها اتقاء العين، وإنما جرى ذلك لكون العين من أعظم ما يخشاه الناس على أنفسهم وأموالهم، وهو أثر خفي لا يمكن التحرّز منه بأسباب ظاهرة، فيلجؤون إلى هـٰذه الأسباب لدفع هـٰذا الضرر الخفي الذي يكون من حيث لا يشعر الإنسان؛ وهي تكون من العين وتكون من غيره؛ لكن ذكر العين هنا على وجه الغالب.
قال: (لكن إذا كان المعلق من القرآن) هـٰذا استثناء مما تقدم في تعريف التمائم، قال:(لكن إن كان المعلق من القرآن، فرخص فيه بعض السلف وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهي عنه منهم ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) حكى المؤلف -رحمه الله- الخلاف فيما إذا كان المعلق من القرآن.
واعلم أن التميمة لا تخلو من أمرين:
إما أن تكون من القرآن أو الأدعية الصحيحة.
وإما أن تكون من غيرهما، وهـٰذا يشمل كما ذكرنا ما فيه شرك، وما فيه خفاء وعدم ظهور كالطلاسم والرسوم، وما فيه سحر، وأيضاً يشمل ما لا شيء فيه من المعلقات التي يعتقد فيها دفع البلاء أو رفعه.
أما القسم الثاني: وهو ما ليس من القرآن، فالإجماع منعقد على تحريمه، وأنه لا يجوز من الشرك لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((إن الرقى والتمائم والتولة شرك)) ولما أشبه ذلك من الأحاديث التي فيها التصريح بأن التمائم شرك.
وأما القسم الأول: وهو التمائم التي من القرآن وشبهه مما له معنى صحيح؛ فهـٰذه اختلف فيها العلماء على قولين:
جمهور أهل العلم على أنه لا يجوز تعليقها:
• واستدلوا بالعموم في الأحاديث التي تنهى عن التمائم.
• واستدلوا أيضا آثار الصحابة المتقدمة في الباب الذي قبله، وفيها أنهم هتكوا المعلقات وأنكروها وعدوها من الشرك ولم يفرقوا بين القرآن وغيره.
• مما استدلوا به قالوا: إن التعليق طريقٌ للاستشفاء بالقرآن والاستشفاء بالقرآن موقوفٌ على من إليه بيان القرآن وهو رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يبين هـٰذا الطريق من طرق الاستشفاء بالقرآن، ولم يقره كما أقر الرقى، وقال فيها: ((من استطاع منكم أن ينفع أخاه بشيء فلينفعه))، وقال للذي قرأ الفاتحة على أنها رقية: ((ما أدراك أنها رقية)) وبهـٰذا يبطل استدلالهم بعموم الأدلة التي فيها أن القرآن شفاء.
• الرابع قالوا: إن إجازة التعليق من القرآن وغيره مما له معنى صحيح يفضي إلى امتهان القرآن؛ لأنه لا يتحرز منه الإنسان دخولاً إلى الأماكن المكروهة كالحشوش وشبهها، وأيضاً لا يتحرز منه حال الجنابة وحال عدم الطهارة، ومعلوم أن القرآن لا يمسه إلا طاهر سواء كان القرآن كاملاً أو جزءاً منه كالمكتوب في ورقة معلقة.
• الخامس قالوا: إن منع التعليق هو من باب سد الذرائع أيضاً؛ لأنه لا يمكن التمييز بين التمائم الشركية والتمائم غير الشركية، فإجازة التمائم من القرآن تفضي إلى أن يُعلق غير القرآن مما فيه شرك فسد الذريعة التحريم.
ولكن عندنا أن هـٰذا الدليل الأخير لا حاجة إليه مع وجود النصوص الصريحة، لكن هـٰذا مما يعتضد به هـٰذا القول ولا يستقل في الاستدلال للحكم.
أما القائلون بالإباحة وهم جماعة العلماء قديماً وحديثاً:
• فقالوا: إن هـٰذا من الاستشفاء بالقرآن؛ والاستشفاء بالقرآن يشمل كل نوع من أنواع طلب الشفاء منه ما لم يرد تحريمه.
وقد تقدم الجواب على هـٰذا بأن بيان طريق الاستشفاء إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يبين هـٰذا الطريق هـٰذا واحد، وإن الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- أنكروا على من استعمل هـٰذا الطريق فهتكوا التمائم وعمموا القول في المنع منها دون تمييز بين القرآن وغيره.
• دليلهم الثاني قول عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها: "إن التميمة ما علق قبل البلاء لا بعده".
وهـٰذا في ثبوته عنها نظر. ومرادها أن التمائم المحظورة من الشرك هو ما يكون قبل نزول البلاء أما إذا نزل البلاء، فإنه لا مانع أن يستشكل الإنسان في التمائم التي من القرآن.
• الثالث مما استدلوا به ما ورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حيث كان يعلق على أولاده الصغار الذين لم يبلغوا ألواحا فيها كتابة دعاء الفزع إذا استيقظ من النوم.
والجواب من وجهين:
الأول: أن في ثبوت هـٰذا عن عبد الله رَضِيَ اللهُ عَنْهُ نظراً.
الثاني: لو ثبت فإنه لا يلزم من التعليق أنه أراد بذلك التميمة؛ لأنه لم تجر العادة بأن تعلق الألواح؛ لأجل الحرز والتتميم والحفظ، إنما يعلق معلقات صغيرة، وإنما مراده بتعليق الألواح أن يحفظوها، ولذلك في الأثر نفسه أنه كان يحفظها من بلغ من أولاده، ومن لم يبلغ علق لوحا في صدره قد كتب فيه ذلك، قال بعض الشّراح: وهـٰذا التعليق من أجل أن يحفظها لا لأجل أن يُحفظ بها.
وعلى كل حال الحديث لا يصح وهـٰذا يكفينا مؤونة الرد، عليه.
والراجح من هذين القولين: القول الأول، وأن التمائم لا تجوز مطلقاً لا من القرآن ولا من غير القرآن .
لكن هل من التمائم أن يكتب الإنسان شيئاً من القرآن على موضع من بدنه؟
بعضُ أهل العلم يرى أن هـٰذا من قبيل التميمة وعليه فإنه ممنوع.
وآخرون يقولون: لا؛ ليس هـٰذا من التمائم في شيء؛ لأن التمائم تعليق وهـٰذا ليس بتعليق، إنما هـٰذا كتابة لآيات جُرب نفعها في مواضع الألم أو المرض.
وهـٰذا القول الثاني هو الصحيح أن ذلك ليس من التمائم ولا بأس به؛ لأنه نظير النفث بالقرآن على موضع الألم، وكذلك نظير الكتابة في ماء وشربه، ثم إنهم لا يقصدون بالكتابة بقاء الكتابة، إنما يقصدون أن يكتب على الموضع الذي فيه الألم دون أن يبقى ذلك أو يزول، ولذلك لا يجدد الكتابة إذا زالت، وطمس الكتابة بحث أنها لم تقرأ ما ضر ذلك، هي ليست من قبيل الكتابة، وهـٰذا هو اختيار شيخنا -رحمه الله- وأنه لا بأس بذلك، مع أنه يقول بتحريم تعليق التمائم، يقول رحمه الله: (لا بأس بالكتابة في بعض المواضع كبعض الأمراض الجلدية التي جرب كتابة بعض الآيات للاستشفاء وإزالة المرض).
إذن عرفنا الخلاف في هـٰذه المسألة التي أشار إليها المؤلف في قوله: (ولكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهي عنه منهم ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.) ومنهم أيضاً عمران بن حصين، وحذيفة بن اليمان في الآثار السابقة؛ بل إنه لم يُعرف عن الصحابة قائل بالجواز ما عدا الأثر الوارد عن عبد الله بن عمرو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- على اختلاف في فهم المقصود بالتعليق، وعدا أيضاً ما ورد عن عائشة على القول بعدم صحته وثبوته عنها رَضِيَ اللهُ عَنْها.
قال: (والرقى هي التي تسمى العزائم، وخص منها الدليل ما خلا من الشرك فقد رخص فيه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من العين والحمة)
الرقى:جمع رقية كما تقدم، وعرفها المؤلف رحمه الله هنا بقوله: (هي التي تسمى العزائم) وهو تعريفٌ لها بالاسم العرفي المشهور في زمن المؤلف -رحمه الله- وهي: عوذة يتعوذ بها، والمقصود بالرقية كلمات يرجى حصول دفع البلاء أو رفعه، سواءٌ قرئت في ماء، أو قُرئت مباشرة على المريض، أو كُتبت في إناء وشربها المريض كلها من قبيل الرقى.
قال رحمه الله: (وخص منها الدليل ما خلا من الشرك) خص منها الدليل في الإباحة؛ لأنه تقدم من الأحاديث ما يدل على أنها شرك، وعلى نهي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عنها، ثمّ دل الدليل أيضاً على إباحتها؛ لكن بشرط ألاّ يكون فيها شرك، وذلك أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما قيل له: إنك قد نهيت عن الرقى، قال: ((اعرضوا علي رقاكم)) ثم قال:((من استطاع منكم أن ينفع أخاه بشيء فلينفعه))، وحديث آخر قال: ((لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك)) فدل ذلك على جوازه بهـٰذا الشرط؛ وهو أحد الشروط التي لا بد من توافرها في الرقية، وهو أن تكون سالمة من الشرك.
يُشترط أيضاً في الرقية الجائزة أن تكون بألفاظ عربية أو بألفاظ مفهومة المعنى إذا لم تكن من اللغة العربية.
يشترط فيها أيضاً ألا تكون من ساحر ولا كاهن.
ويشترط فيها أيضاً أن يُعتقد فيها أنها سبب لرفع البلاء أو دفعه؛ لا أنها تدفع بعينها؛ بل هي من الأسباب -إن شاء الله- رفع بها البلاء أو دفعه، وإن شاء لم يفعل ذلك.
هـٰذه من الشروط التي لا بد من ملاحظتها في الرقية، ولا فرق في الرقية بين نزول البلاء، وبين كونها قبل نزوله فكلا النوعين جاءت به السنة.
أما من النوع الذي يكون قبل البلاء: فما ورد عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الصحيحين أنه يجمع يديه فينفث فيهما ويقرأُ الإخلاص والمعوذتين كل ليلة ويمسح بهما ويمرهما على ما استطاع من رأسه وجسده ، فهـٰذا يدل على جواز ذلك قبل نزول البلاء.
وأما بعد نزوله: فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رقاه جبريل، ورقته عائشة في مرض موته، ورقاه الملكان لما سُحر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأمر بالرقية ورخص فيها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كل هـٰذا يدل على جوازها بهـٰذه الشروط.
ثم قال: (فقد رخص فيه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من العين والحُمة)، (من) هنا سببية، (العين) والمراد بالعين هنا: النظرة، وهي ما يصيب الإنسان بسببِ عين الحاسد، قال: (والحُمة) المراد بها السُّم، والمعنى من سُم اللوادغ حية أو عقرب أو غير ذلك فتشمل الرخصة الرقية من العين ومن الحُمة.
هل هـٰذا تخصيص بجواز الرقية بهما؟
الجواب: لا، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما عُرضت عليه الرقى قال: ((من استطاع منكم أن ينفع أخاه بشيء فليفعل)) وقال: ((لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك)) وهـٰذا يشمل الرقية من كل شيء، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رُقي من السحر، ورُقي في مرض موته مع أنه لم يكن به عين ولا حُمة. فالصحيح أنه تجوز الرقية من كل ما يصيب الإنسان من العين والحُمة وغيرهما.
أما قوله: ((لا رقية إلا من عينٍ أو حُمة)) المقصود بذلك أن لا دواء أنفع ولا رقية أدعى في حصول الشفاء من الرقية في العين والحُمة .
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (إن الرقية من أعظم وأنفع الأدوية لعموم الأدواء)، وذلك أن الرقية علاجٌ روحاني.
ومعلوم: أن علاج النفس أهم من علاج البدن؛ لأن النفس إذا قويت تتغلب بقوتها على وطأة المرض، بخلاف النفس الضّعيفة الواهية فإنه يتغلب عليها أدنى عارض ويعيقها عن النشاط والقوة، وهـٰذا السر في كون الرقى من أعظم أسباب الشفاء؛ لكن لا بد في الرقية من آلة قوية ومحلٍّ قابل؛ لا بد من فاعل قوي ومحلٍّ قابل، ثم هي سبب من الأسباب قد يكون به الشفاء وقد لا يكتب الله به الشفاء فيكون فيه أجر للقارئ الذي قرأ عليه.
ثم قال رحمه الله: (والتولة شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته.)
يصنعونه ثم هل يعلق أو لا؟ هذا فيه احتمال، والظاهر أنه يعلق أو يوضع في الفرش أو ما أشبه ذلك، وبه نعلم أن التولة نوع من السحر؛ لأنه يحصل به إمالة الزوج إلى زوجته أو الزوجة إلى زوجها، وهـٰذا ما يسمى في السحر بالعطف، وسيأتينا -إن شاء الله تعالى- في باب السحر.
قال: (وروى أحمد عن رويفع قال: قال لي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((يا رويفع، لعل الحياة تطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلّد وترًا أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدًا بريء منه)).)
هـٰذا فيه خطاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لرويفع وإخباره بأن الحياة ستطول به، لكن لم يجزم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلك، بل أتى بحرف الترجية وهو قوله: ((لعل)) والمقصود منها الترجية، ترجية حصول ذلك. ((لعل الحياة تطول بك)) وهو الذي وقع، فإن الحياة طالت به -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
قال: ((فأخبر الناس أن من عقد لحيته)). وعقد اللحية إما يكون بربطها وإما بتنفيشها وتعظيمها، لا سيما ما كان يفعل في أيام الحرب لطلب العظمة والعلو.
قال: ((أو تقلد وترًا)). أي علَّق وترًا، ويشمل ذلك ما إذا تقلّده في نفسه أو ولده أو غيره من الناس أو الدواب أو غير ذلك من الأشياء، يشمل تعليق الوتر في أي شيء، والمقصود تعليقه لدفع البلاء أو رفعه.
قال: ((أو استنجى برجيع دابة أو عظم)).
((استنجى)): طلب النّجى، أي أزال أثر الخارج برجيع دابة وهو الروث، والدابة يشمل ما إذا كانت دابة مما يؤكل لحمه أو مما لا يؤكل لحمه: أما إن كان مما يؤكل لحمه ففيه إفساد لهذا الرّجيع على إخواننا من الجن، فإنه طعام دوابّهم. وأما إن كان من دابة مما لا يؤكل لحمها فإنه نجس كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لابن مسعود: ((إنها ركس)) لما أتاه بروثة.
((أو عظم)) كذلك؛ لأن فيه إفساد العظم على إخواننا من الجن. ويشمل هذا العظم عظم ما يؤكل لحمه وعظم ما لا يؤكل لحمه: أما عظم ما لا يؤكل لحمه فقيل: إنه نجس، والصحيح أنه ليس بنجس، لكن لعدم حصول كمال الطهارة به. وأما إن كان مما يؤكل لحمه فإنه لإخواننا من الجن كما تقدم.
قال: ((فإن محمدًا بريء منه)).
((محمداً)) أي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ((بريء منه)) أي متبرئ منه، وبراءة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الشخص تدل على عظم الذنب، وهي من الصيغ المستعملة في بيان كبائر الذنوب وعظائم الآثام، فإنّ الذنوب الكبيرة - أي الكبائر - هي ما توعد عليه بنار أو لعن أو عقوبة في الدنيا، وأضاف شيخ الإسلام رحمه الله: أو تبرأ منه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فإن براءة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تدل على أن الفعل كبيرة؛ لكن هل هـٰذا يعني أنه ليس من الشرك في قوله: ((أو تقلد وترًا))؟
الجواب: لا، إنما بيان لبراءة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أصحاب هـٰذه الذنوب، ومنها ما هو شرك ومنها ما هو دون ذلك.
ومعلوم أن البراءة من الشرك ليست كالبراءة مما دون ذلك، وإنما تجتمع هـٰذه الأشياء الثلاثة في كونها سببًا لبراءة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأما وصف هـٰذا الذنب هل هو كبيرة أو شرك؟ فيعلم من بقية النصوص.
ثم قال: (وعن سعيد بن جبير قال: ((من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة)). رواه وكيع.)
قول سعيد رحمه الله: ((من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة)) جعله بعض أهل العلم من الآثار التي لها حكم المرسل؛ لأن هـٰذا مما لا يُحدَّث ويقال فيه بالرأي، إنما يتلقى من الأخبار. ويحتمل أن يكون هذا من رأيه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ لأنه في الحقيقة المعنى أن من قطع تميمة من إنسان فكأنما فكه أو فهو في الحقيقة قد فكه من الشرك الموبق الذي يماثل ويضارع ما لو أن الإنسان أعتق عبدًا في الدنيا، فإنه يعتق منه بكل عضوٍ عضوٌ من النار، فلا يظهر جليّاً أن هـٰذا مما لا يقال بالرأي؛ لأنّ المعنى في هذا ظاهر، وهو أنه فكه من النار لمَّا أنقذه من الشرك فكان كعدل رقبة، أي: فكما لو أعتق رقبة من النار فإنه يُعتق منه بكل عضوٍ عضوٌ من النار.
قال: (وله عن إبراهيم قال: "كانوا يكرهون التمائم كلها، من القرآن وغير القرآن".)
(له) أي: لوكيع عن إبراهيم، وإذا أُطلق إبراهيم فالمراد به إبراهيم النخعي، وهو ممن تلقى عن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ، واشتهر أنه إذا قال: (كانوا) أو ما أشبه ذلك من الصيغ أنه يريد بذلك أصحاب ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ، وذلك أن ابن مسعود -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تلقى عنه جمع من أهل العلم من التابعين، وصارت له مدرسة في الكوفة ينتسبون إليه ويأخذون برأيه في كثير من مسائل الأحكام، وابن مسعود من فقهاء الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-. فقوله: (كانوا يكرهون التمائم) يعني: أصحاب ابن مسعود، والتمائم تقدم الكلام عليها.
يقول: (كانوا يكرهون التمائم كلها، من القرآن ومن غير القرآن). وقد تقدم أن التمائم نوعان:
التمائم التي من القرآن: هـٰذه التي وقع فيها الخلاف.
أما التي من غير القرآن: فقد تقدّم أنه لا خلاف في أنها لا تجوز وأنها من أسباب الشّرك، وأن لابسها قد يكون مشركًا شركًا أكبر، وقد يكون مشركًا شركًا أصغر حسب ما يقوم بقلبه.
[المتن]
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الرقى والتمائم.
[الشرح]
وهـٰذا واضح في تفسير الشيخ رحمه الله وبيانه لمعنى الرقى ومعنى التمائم.
[المتن]
الثانية: تفسير التولة.
[الشرح]
وهـٰذا مثل الذي قبله.
[المتن]
الثالثة: أن هـٰذه الثلاثة كلها من الشرك من غير استثناء.
[الشرح]
(من غير استثناء) لأنه لم يستثن صنفًا منها أو نوعًا منها، والمراد بذلك حديث ابن مسعود: ((إن الرقى والتمائم والتولة شرك)). وقد ورد الاستثناء في الرقى بأحاديث أخرى، وأما التمائم فلا دليل على الاستثناء، والتولة كذلك.
[المتن]
الرابعة: أن الرقية بالكلام الحق من العين والحمة ليس من ذلك.
[الشرح]
وجه ذلك أنها قد استثنيت بالأحاديث الكثيرة الدالة على جواز الرقية بالكلام الحق من القرآن والذكر وغير ذلك من المعاني الصّحيحة السليمة التي لا شك فيها ولا شوب.
[المتن]
الخامسة: أن التميمة إذا كانت من القرآن فقد اختلف العلماء هل هي من ذلك أم لا؟
[الشرح]
والجواب: أنّها من ذلك على الرّاجح عند أكثر أهل العلم وفي قول الجمهور، فإن جمهور العلماء على أن التّمائم التي من القرآن تدخل في النهي العام؛ لما تقدم من الأدلة التي ذكرها جمهور أهل العلم في منع التمائم مطلقًا.
[المتن]
السادسة: أن تعليق الأوتار على الدّواب عن العين، من ذلك.
[الشرح]
تعليق الأوتار: تقدم أن الأوتار جمع وتر، ويشمل كل معلَّق على كل دابة.
من ذلك: أي مما ورد النهي عنه، ووجه هـٰذا، وجه أنه من المنهي عنه أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أرسل من يقطع الأوتار المعلقة على الإبل، فإنّه أرسل رسولاً: أن لا يبقين في رقبة بعيرٍ قلادة أو قلادة من وتر إلا قطعت.
[المتن]
السابعة: الوعيد الشديد على من تعلق وترًا.
[الشرح]
وذلك في حديث رويفع، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد تبرأ منه.
[المتن]
الثامنة: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان.
[الشرح]
وهـٰذا في كلام سعيد بن جبير -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
[المتن]
التاسعة: أن كلام إبراهيم لا يخالف ما تقدم من الاختلاف؛ لأن مراده أصحاب عبد الله بن مسعود.
[الشرح]
وهـٰذا واضح.
%%%%
شرح
كتاب التوحيد
الذي هو حق الله على العبيد
لشيخ الإسلام والمسلمين مجدد الدين
محمد بن عبد الوهاب التميمي المشرفي
- رحمه الله تعالى-
لفضيلة الشيخ
الدرس الثامن
www.almosleh.com
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
[المتن]
باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما
وقول الله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى﴾( ) الآيات.
عن أبي واقد الليثي، قال: خرجنا مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((الله أكبر! إنها السنن، قلتم -والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾( ). لتركبن سنن من كان قبلكم)). رواه الترمذي وصححه.
[الشرح]
قال المؤلف رحمه الله: (باب من تبرّك بشجر أو حجر ونحوهما).
مناسبة هـٰذا الباب لكتاب التوحيد: أنّ التبرك بهـٰذه الأشياء من الشرك، والشرك يناقض التوحيد ويقابله، فأتى المؤلف -رحمه الله- بهـٰذا الباب لبيان قادح من قوادح التّوحيد.
وأما مناسبته لما قبله: فإنه في الباب السابق والذي قبله أيضًا البحث كله في شرك الأسباب وهـٰذا منها، فإن التبرك بالشجر أو الحجر أو ما أشبههما من الشرك في الأسباب؛ لأنه جعل ما ليس بسبب في الشرع ولا في الحس سببًا، فهـٰذا وجه ارتباط هـٰذا الباب بما قبله.
ننظر إلى الترجمة: قال رحمه الله: (باب من تبرك بشجر)، عندكم شجرة أم شجر مفرد؟ وجهان، (من تبرك بشجرةٍ أو حجرٍ ونحوهما).
(مَنْ) هنا شرطية، وفعل الشرط: (تبرّك)، والفاعل لم يذكره وهو ضمير يعود على اسم الشرط المتقدم.
المهم، أين جواب الشرط؟ لكل شرط لا بد من جواب، فأين جواب الشرط في الترجمة؟
المؤلف -رحمه الله- لم يذكر جواب الشرط، وقدره بعض الشرَّاح فقال: فهو مشرك، فيكون جواب الشرط الذي تكتمل به الترجمة ويتم به الكلام: (من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما) فهو مشرك. ولعل الشيخ -رحمه الله- لم يذكر جواب الشرط لأنه معلوم من النصوص التي ضمّنها الباب، فإن الشيخ -رحمه الله- ذكر في هـٰذا الباب آية وحديثًا يدلان على أن من تبرك بشجر أو حجر أو نحوهما فإنه واقع في الشرك أو في أسبابه، ويتبيّن هـٰذا -إن شاء الله- تعالى من النصوص.
قوله رحمه الله تعالى: (من تبرك).
(تبرّك) على وزن تفعّل، وهـٰذا الوزن يأتي على أوجه كثيرة ومعانٍ عديدة، المقصود به هنا: من طلب البركة، أو من اتخذ الشجر والحجر لأجل البركة، فهو من باب الطلب أو من باب التصيير، التصيير يعني صير الشجر والحجر محلاًّ لأخذ البركة، أو للتبرك، وهـٰذا الوزن يصلح لهـٰذا ولهـٰذا، يعني: يصلح تفعل بمعنى الطلب وبمعنى التصيير، فهو يفيد أيضًا معنى الصيرورة.
طيب، قوله رحمه الله: (بشجر). وفي بعض النسخ (بشجرة).
الشجر معروف، والمراد به النبات الذي له ساق.
(أو حجر): أيضًا الحجر معروف.
قوله: (ونحوهما) أي: مما يشابه الشجر والحجر في كونه ليس مصدرًا لأخذ البركة، وهـٰذا يفيدنا إخراج ما دل الدليل على أنه يتبارك به وتؤخذ منه البركة، فإن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد جعل بعض عباده مباركًا، والبركة إما بركة ذوات أو بركة منافع وأعمال.
بركة الذّوات كبركة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنه مبارك، ولذلك كان الصّحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- يتبرّكون به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبآثاره الحسّية كعرقه وبصاقه وما أشبه ذلك من شعر وغيره مما جاءت به النصوص، المهم أن قوله رحمه الله: (ونحوه) لإخراج ما يجوز التبرّك به، سواء كانت البركة بركة ذات أو بركة منفعة، لكن المنفي هنا بركة الذّات لا بركة المنافع، المنفي هنا أو الذي هو من الشرك هو إثبات البركة الذاتية للأشجار والأحجار، وقد جاءت النّصوص بإثبات البركة في بعض أنواع الشّجر، وذلك في قوله –تعالى- في سورة النور: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ﴾( ). ﴿مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ﴾ فأثبت البركة لها، وكذلك يثبت الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- البركة لبعض الأماكن ولبعض الأزمان، ولكن هـٰذه البركة المثبتة ينبغي فيها أن يُتلقّى وجه التبرك من الشرع، وهـٰذا من الضوابط التي سنذكرها -إن شاء الله تعالى- فيما يجوز التبرك به.
المهم أن قوله رحمه الله: (من تبرك بشجر –أو: بشجرة- أو حجر ونحوهما) المراد: نفي ما كان عليه المشركون من طلب البركة من هـٰذه الأشياء، وهو التبرك بذواتها واعتقاد أنها تنفع أو أنها أسباب لحصول البركة، ولم يثبت ذلك شرعٌ يُعمل به ويعتمد عليه.
وذكر المؤلف -رحمه الله- في هـٰذا الباب آية وحديثًا:
أما الآية فقال رحمه الله: (وقول الله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾( ).) ﴿أَفَرَأَيْتُمُ﴾ هـٰذا استفهام، الهمزة للاستفهام، والاستفهام هنا للتعجيب والإنكار من حال هؤلاء الذين سووا هـٰذه المعبودات من الأصنام بالله رب العالمين وبعباده الصالحين، فإن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ذكر في أول السورة التي ذُكرت فيها هـٰذه الآية ما له من كمال وما يجب له من تعظيم، وذكر ملائكته وذكر رسوله البشري وهو محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وما خصّه الله به، ثم بعد أن فرغ من ذكر ذلك كله جاء الخبر فيما يتعلّق بما يعبده أهل الجاهلية من الأصنام، فذكر ثلاثة من أعظم أصنامهم ومن أعظم معبودات العرب: ﴿اللاتَ﴾ وكانت الصنم المعظم عند ثقيف، ﴿وَالْعُزَّى﴾ وكانت الصنم المعظم عند قريش، ﴿وَمَنَاةَ﴾ وكانت الصنم المعظم لأهل المدينة، وكانت هـٰذه الأصنام تتفق العرب على تعظيمها، وإن كان كل واحد منها تختص به طائفة أو جهة من الجهات، وأعظم هـٰذه الثلاثة مناة، ولذلك خصه بالوصف دون غيره فوصفه بوصفين: ﴿الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾ وذلك لكونه أعظم هـٰذه المعبودات من الأصنام في ذلك الوقت، أما اللات والعزى فلم يصفهما هنا بوصف: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى﴾ ثم قال: ﴿وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾ فوصفها بوصفين يدلان على تخصيصِها، وتخصيصُها وجهُه أنه مما اتفق العرب على تعظيمه تعظيمًا زائدًا على الصنمين السّابقين.
يقول الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مخاطِبًا هؤلاء المشركين: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ﴾ وهـٰذه الصيغة تتكرر، والأصل فيها طلب الرؤية والإخبار، ولذلك يفسرها كثير من العلماء بأخبروني: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى﴾ أي: أخبروني عن اللات والعزى، والرؤية هنا رؤية بصرية ورؤية علمية؛ لأن هـٰذا مما يدرك بالبصر ومما يدرك عاقبة عبادته بالعقل والعلم والبصيرة.
﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ﴾، ﴿اللاتَ﴾ رجل يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره وأقاموا عنده صنماً، وقيل: إنهم عبدوا الحجر الذي كان يلت عليه السويق تعظيمًا لفعله واستذكارًا لحسن صنيعه، فوقعوا في الكفر بذلك، فإنهم طلبوا البركة من هـٰذا الحجر الذي لا يضرّ ولا ينفع، فوقعوا في الشرك والكفر الأعظم الذي قاتلهم عليه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فيكون قوله: ﴿اللاتَ﴾ دالاًّ على قوله: (من تبرك بحجر) فهو مشرك.
قوله تعالى: ﴿وَالْعُزَّى﴾.
﴿وَالْعُزَّى﴾: شجرة كانت تعبدها قريش، ويعبدها العرب لكن تختص قريش بتعظيمها، وكانت شجرة قريبة من عرفة، وهي التي أشار إليها أبو سفيان لما خاطب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد وقعة أُحد: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((من يجيبه؟ )) فأجابه عمر فقال: الله أعز وأجل، الله أعز وأجل. قال أبو سفيان:اعلُ هبل! فقال النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ((ألا تجيبونه؟)) قالوا: بم نجيبه؟ قال: ((قولوا: الله أعلى وأجل)). فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ((قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم!)).
طيب، وهـٰذا فيه الدليل على قوله: (من تبرك بشجر -أو بشجرة-)، فهؤلاء كانوا يأتون إلى هـٰذه الشجرة يتبركون بها، يذبحون عندها، يطلبون منها حوائجهم، ويعظمونها دون الله.
ثم قال: ﴿وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾.
﴿وَمَنَاةَ﴾: هـٰذه أيضًا من معبوداتهم، وهو صنم يعبد من دون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ويطلب منه البركة، وذكرنا لكم وجه تخصيص مناة بقوله تعالى: ﴿الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾.
وقيل: إن هـٰذه الأسماء اشتقت من أسماء الله عز وجل فـ﴿اللاتَ﴾ مشتق من الإله، ﴿وَالْعُزَّى﴾ مشتق من العزيز، ﴿وَمَنَاةَ﴾ مشتق من المنان، هـٰذا في كلام كثير من المتأخرين.
يقول شيخ الإسلام: والمنان مشتق من (مَنَى، يمني) بمعنى (قَدِرَ، يقدر)، فهو مشتق من صفة القدرة لا من صفة المن، وهـٰذا قليل من ينبه عليه.
والمقصود أنهم اشتقوا لهـٰذه الأصنام، الأوثان التي لا تضر ولا تنفع، اشتقوا لها من أسماء الله وأوصافه ما جعلوه لها أعلامًا عليها، ثم اعلم أن هـٰذه المعبودات زعم هؤلاء أنها أو أنهم إناث، ولذلك قال الله تعالى: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى﴾( ).
وهـٰذا فيه التقبيح لصنيع هؤلاء، حيث نسبوا لله -عز وجل- ما يكرهون نسبته لأنفسهم كما قال الله عز وجل: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ﴾( ). فجعلوا لله عز وجل البنات، وكان أحدهم إذا بشر بالأنثى ظل وجهه مسودًا وهو كظيم، فعاب عليهم بقوله: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى﴾. في الآية التالية قال: ﴿تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾( ). أي قسمة جائرة غير عادلة أن ترضوا لأنفسكم بالكمال ولربكم المستحق لغاية الكمال ترضون له ما تكرهون أن تنسبوه لأنفسكم وأن يكون لكم، والشاهد من هـٰذه الآية قوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾ وهو أنهم جعلوا هـٰذه الأصنام من الأحجار والأشجار محلاًّ للتبرك بطلب الخير منها، والذبح لها وتلقي ما يظنونه أنه يأتي من قِبلها من الخير، وهم بهـٰذا مشركون شركًا أكبر، وهـٰذا النوع من التبرك من الشرك الأكبر؛ لأنه يجعل البركة لغير الله استقلالاً، والأصل في البركة أنها منه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((البركة من الله)) وهـٰذا حديث خاص، وأما الحديث العام فقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((والخير كله في يديك)). فأثبت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- البركة لله بلفظ عام وبلفظ خاص: اللفظ العام قوله: ((والخير كله في يديك))، واللفظ الخاص قوله: ((البركة من الله)).
ثم قال: (عن أبي واقد الليثي، قال: خرجنا مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى حنين.) وحنين كانت بعد فتح مكة، وهي مكان بين مكة والطّائف. (ونحن حدثاء عهد بكفر) المراد أنهم قريبٌ عهدهم بالكفر، فإنهم خرجوا منه قريبًا ودخلوا في الإسلام عن قرب، هـٰذا معنى قوله: (حدثاء عهد بكفر.)
وقوله: (ونحن حدثاء عهد بكفر.) هـٰذه الجملة حالية، وهي اعتذارية في الحقيقة، يعتذر بها عما بدر ممن صدر منهم ما سيأتي في الحديث.
قال: (وللمشركين سدرة يعكفون عندها).
(للمشركين) أي الذين يعبدون غير الله عز وجل، ومنهم هؤلاء الذين كان عهدهم بالكفر قريبًا، فهـٰذه السدرة - وهي شجرة معروفة - كانت تعبد ويتبرك بها ويفعلون عندها ما سيأتي ذكره، معروفة عند العرب، فهؤلاء الحدثاء، هؤلاء الذين كان عهدهم بالكفر قريبًا، ودخولهم الإسلام عن قرب قالوا لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما اقترحوه، قال في بيان ما يفعله الكفار عند هـٰذه السدرة: (وللمشركين سدرة يعكفون عندها).
(يعكفون). العكوف هو الملازمة مطلقًا، هـٰذا الأصل في العكوف، ولكنه يطلق على الملازمة التي يصحبها نوع تعبد، وهـٰذا غالب إطلاقه يكون في هـٰذا، وهو العكوف المقترن بأمر عبادي.
قال: (وينوطون بها أسلحتهم).
(ينوطون) أي يعلّقون، وأصله من النوط، ومنه قول الأصوليين: مناط الحكم، أي: محل تعليق الحكم، ومحل علته.
يقول: (وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط). أي ذات التعاليق. (أنواط) جمع نَوْط وهو المعلَّق، وذلك لكثرة ما يعلَّق بها.
يقول: (فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله) على وجه الاقتراح (اجعل لنا ذات أنواط) يعني: صيّر لنا شجرة ننوط بها أسلحتنا كما أن للمشركين شجرة ينوطون بها أسلحتهم، وهـٰذا منهم طلب مضاهاة الكفار.
قال: (كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((الله أكبر!))) تعجبًا منهم وبيانًا لأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أعظم وأجل من أن يرضى بالشرك وأن يشرع الشرك، فالله أكبر وأجل من ذلك كله، ولاحظ في قوله: ((الله أكبر)) لم يبين من أي شيء أكبر حتى يعم كل شيء، فهو أكبر من كل شيء -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وقد يبين ذلك السياق الذي يرد فيه كما هو هنا، فإنه ورد تكبيرًا لله في مقام طلب الشرك، فيكون المعنى: أكبر من أن يشرع الشرك ويرضى بالشرك، فإنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا يرضى بالكفر.
ثم قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((إنها السَّنَن))، أو ((السُّنن)).
((إنها)). أي: ما جرى منكم من طلب شجرة أو سدرة كما للمشركين سدرة، بيَّن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مراده فقال: ((قلتم -والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل)) اليهود ((لموسى: ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾( ))). أي: إنكم طلبتم مني نظير ما طلبه بنو إسرائيل من موسى، ومعلوم أن المشابهة لا يلزم منها المطابقة من كل وجه، وهـٰذا من أدلة ذلك، فإن بني إسرائيل طلبوا آلهة تُعبد من دون الله أو تعبد مع الله، وهؤلاء لم يطلبوا ذلك لكنهم شابهوهم في أصل الطلب وهو طلب مشابهة الكفار؛ لأن بني إسرائيل لمَّا مروا بقوم يعبدون أصناماًً من دون الله قالوا: ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾. فطلبوا آلهة في الأرض تعبد كما للمشركين آلهة في الأرض تعبد.
﴿قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾. ولا إشكال أن من طلب ذلك فإنما يصدر هـٰذا الطلب عن جهل عظيم به؛ لأن من علم حق العلم فإنه يجل الله عز وجل ويقدره أن يكون له شريك في العبادة؛ لأنه يعلم أن الرب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا يرضى الشرك ولا الكفر.
ثم قال: ((لتركبن سنن من كان قبلكم)).
اللام هنا: لام القسم، الموطئة للقسم، والتقدير: والله لتركبن، فالتأكيد هنا في هـٰذا بالقسم وباللام وبالنون في قوله: ((تركبن)).
((سَنن من كان قبلكم)). أي: طرق ومسالك من كان قبلكم من الأمم، والمراد بمن قبلنا: اليهود والنصارى كما جاء مصرحًا به في الصحيحين، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمَّا أخبر باتباع سنن من قبلنا قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة)). قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟ )). يعني: من القوم إلا أولئك؟ رواه الترمذي وصححه.
والشاهد من هـٰذا الحديث أن الصحابة من مسلمة الفتح الذين لم يرسخ إيمانهم ولم يثبت يقينهم وتتشرّب قلوبهم الإيمان طلبوا من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سدرة ينوطون بها أسلحتهم، والظاهر هنا أنهم طلبوا نظير ما يفعله المشركون من تعليق الأسلحة طلبًا للبركة والقوة والنصر، وهل هـٰذا أنهم طلبوا أن يصيّرها مباركة أم أنهم طلبوا مجرد المشابهة ولو لم تكن مباركة في حقيقة الأمر؟
الظاهر أنهم طلبوا مجرد المشاركة والمضاهاة، لا أنه يصيرها لهم مباركة؛ لأنه لو كان هـٰذا الطلب لما كان هناك مشابهة لما جرى من بني إسرائيل مع موسى من طلب إلـٰه يعبد من دون الله.
[المتن]
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النجم.
[الشرح]
نعم وهـٰذا تقدم.
[المتن]
الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوه.
[الشرح]
ما هي صورة الأمر الذي طلبوه؟ المقصود ما هو الأمر الذي طلبوه؟ المشابهة. هـٰذا قول، القول الثاني وذكره بعض أئمة الدعوة: أنهم طلبوا أن يصيرها مباركة، والله عز وجل يجعل الشيء مباركًا ومصدرًا للبركة كما أنه جعل نبيه مباركًا، فهم طلبوا أن تكون الشجرة مباركة، لكن هـٰذا الوجه في الحقيقة ما هناك ما يساعده في ظاهر النص، فالظاهر أنهم طلبوا مجرد المضاهاة والمشابهة للمشركين.
[المتن]
الثالثة: كونهم لم يفعلوا.
[الشرح]
وذلك أنهم طلبوا دون فعل.
[المتن]
الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك؛ لظنهم أنه يحبه.
[الشرح]
لم يظهر لي هـٰذا، ما ظهر لي أنا من الحديث أنهم إنما طلبوا ذلك لأجل التقرب إلى الله عز وجل، إلا إن كان مراد الشيخ رحمه الله أن هـٰذا بناءً على ما كان في قلوبهم من أن هـٰذه تقرب إلى الله وأن الله يحبها، فإذا كان كذلك فهو ظن كاذب أبطلته الشريعة، لكن إن كان هناك، يعني فيما يظهر من الحديث ليس فيه ما يدل إلا على مجرد طلب المشابهة ومضاهاة المشركين في جعل سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، بغض النظر عن أن ذلك يحبه الله أو لا يحبه، فيمكن أن يقال: إن هـٰذه المسألة مأخوذة مما كانوا يعتقدونه في هـٰذه المعبودات من دون الله وأنها تقربهم إلى الله زلفى، فتكون من بقايا الشرك الذي في نفوسهم، يمكن أن يقال هـٰذا، أقول: مع أن فيه نوع تكلف. لكن على كل حال من ظهر له شيء فليفدنا.
[المتن]
الخامسة: أنهم إذا جهلوا هـٰذا فغيرهم أولى بالجهل.
[الشرح]
هـٰذا إنما صدر من قوم قال عنهم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-: (ونحن حدثاء عهد بكفر)، فقول الشيخ رحمه الله: (أنهم إذا جهلوا هـٰذا فغيرهم أولى بالجهل).
وجهه: لا أنهم حدثاء عهد بكفر لكنهم أهل لسان يعقلون معاني الكلام، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جاء محذرًا من الشرك، مسفهًا لعبادة غير الله عز وجل، ناهيًا عنها بألفاظ واضحة متكررة بليغة، وهم أهل لسان ومع ذلك ما فهموا من هـٰذا أنه لا يجوز مثل هـٰذا الطلب، فجهل غيرهم من باب أولى يعني: ممن لم يكن صاحب لسان ولم يدرك حقيقة ما دعا إليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جهله لهـٰذا الأمر من باب أولى، واضح؟
يقول: (فغيرهم أولى بالجهل). من يريد بـ(غيرهم)؟
أي: ممن لم يدرك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويفهم دعوته، ولم يكن صاحب لسان، فهؤلاء أدركوا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وشهدوا دعوته وفهموا ما يدعو إليه وهم أصحاب اللسان الفصيح ومع ذلك لم يدركوا مع كل هـٰذه الأشياء أن هـٰذا الطلب من الشرك، أو أنه من أسباب الشرك، فغيرهم ممن لم تتوفر فيه هـٰذه الأوصاف، ولم يتيسر له هـٰذه الأمور جهله بأن هـٰذا من الشرك من باب أولى.
[المتن]
السادسة: أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم.
[الشرح]
ما فيه إشكال؛ لأنهم صحابة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهم من المغفرة والسابقة ما ليس لغيرهم، لكن هـٰذه المغفرة لا تصدق على الشرك، فلو وقع الشرك من أحدهم لكان سببًا لعدم المغفرة؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾( ). ولقوله
-سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾( ) فالسابقة والفضل وعظيم الحسنة لا تقابل سيئة الشرك، وإنما مراد الشيخ أنه وقع منهم هـٰذا مع ما هم عليه من الفضل ومع ما لهم من المغفرة، فينبغي أن يحذر وألا يظن بالإنسان إذا بلغ من الطاعة والتقى والصلاح مبلغًا كبيرًا أنه لا يقع منه شيء من الشرك، أو لا يقع في أسباب الشرك، بل يجب عليه أن يحترز ويحذر، وقد تقدم لنا فيما مضى في (باب الخوف من الشرك) قول إبراهيم عليه السلام: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾( ).
[المتن]
السابعة: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يعذرهم، بل رد عليهم بقوله: ((الله أكبر! إنها السنن، لتتبعن سنن من كان قبلكم)) فغلَّظ الأمر بهـٰذه الثلاث.
[الشرح]
نعم لم يعذرهم، لم يقل: هؤلاء حدثاء عهد بكفر، لا بأس نتغاضى عن هـٰذا الطلب، أو نرجئ الإنكار عليهم، بل بادَر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى إنكار الأمر وبيان عظم ما طلبوه، وخطورة ما وقعوا فيه بهـٰذا الكلام حيث قال: (((الله أكبر! إنها السنن، لتتبعن سنن من كان قبلكم)). فغلظ الأمر بهـٰذه الثلاث) الثلاث: قوله: ((الله أكبر!))، وقوله: ((إنها السنن))، وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم)). نعم.
[المتن]
الثامنة: الأمر الكبير، وهو المقصود: أنه أخبر أن طلبهم كطلب بني إسرائيل لما قالوا لموسى: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا﴾( ).
[الشرح]
هـٰذه المسألة التي ذكرها المؤلف -رحمه الله- وهي قوله: (الأمر الكبير وهو المقصود أنه أخبر أن طلبهم كطلب بني إسرائيل لما قالوا لموسى: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا﴾)، حيث إن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما طلبوا منه ذلك قال: ((الله أكبر! إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾)). وإن كان التشبيه بينهما يعني في جنس الطلب لا في عينه، فإن الصحابة لم يطلبوا شجرة تعبد من دون الله بخلاف ما كان من بني إسرائيل، ولكن المشابهة تقع ولو في جزء الصورة، ولا يلزم المطابقة من كل وجه، ولذلك أنكر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك، وتقدم وجه إنكاره في قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((الله أكبر! إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى)).
[المتن]
التاسعة: أنّ نفي هـٰذا معنى (لا إلـٰه إلا الله)، مع دقته وخفائه على أولئك.
[الشرح]
أن نفي هـٰذا، أي نفي طلب البركة من غير الله ولو على وجه التسبب من معنى لا إله إلا الله، فقوله: هـٰذا، المشار إليه: طلب البركة من غير الله على وجه التسبب لا على وجه الاستقلال، فإن الصحابة لم يطلبوا بركة مستقلة؛ لأنهم يعلمون أنه لا يأتي بالخير إلا الله -جل وعلا- كما أنه لا يدفع الشر إلا هو -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، إنما طلبوا أمرًا يكون سببًا لحصول البركة، ومع ذلك بيّن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه نظير قول بني إسرائيل: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ فهو قدح ونقص في التوحيد، ومن هـٰذا يُعرف أن الإله ليس فقط ما كان على صورة أو ما سُجِد له وعُبِد ، ما خُص بعبادة أو سجود أو ما أشبه ذلك، إنما الإله هو كل ما قصد بشيء من العبادة، كل ما قُصد بشيء من العبادة فإنه إلـٰه، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهؤلاء: ((قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾)). وهـٰذا أصح ما قيل في تعريف الإله: أنه كل ما قصد بشيء من العبادة، فهو اسم جنس يعم كل ما قصد بشيء من العبادة.
وقوله: (مع دقته وخفائه)؛ لأنه خفي على هؤلاء الذين هم أشد الناس فهمًا باللغة، وهم أعرف الناس بما كان يدعو إليه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فبهـٰذا يتبيّن أنه ينبغي للمؤمن أن يدقق في معنى لا إلـٰه إلا الله حتى يتبين ما ينافيها من دقيق وجليل، وجلي وخفي، وظاهر وباطن؛ ليجتنبه ويسلم منه.
[المتن]
العاشرة: أنه حلف على الفتيا، وهو لا يحلف إلا لمصلحة.
[الشرح]
وذلك في قوله: ((والذي نفسي بيده)) فحلف بوصف من أوصاف الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وحلفه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الغالب لا يكون إلا لمصلحة، والمصلحة هنا تأكيد الخبر، وإلا فلا شك فيما يخبر به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لكن يأتي الحلف لتأكيد المخبر به وإن كان المخبر لا يتصور منه الكذب، كما جرى القسم من رب العالمين، وكما أمر الله رسوله بالقسم، وكما أقسم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مواضع كثيرة.
[المتن]
الحادية عشرة: أن الشرك فيه أكبر وأصغر؛ لأنهم لم يرتدوا بهـٰذا.
[الشرح]
وهـٰذا مهم أن يعرف أن الشرك قسمان: أصغر وأكبر؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يحكم بكفرهم ولم يقل: هـٰذا شرك، إنما بين لهم أنه مضاهٍ لما كان من بني إسرائيل من طلب الآلهة، ولو كان كفرًا لبين أنهم قد كفروا بذلك، وإنما نهاهم وغلظ عليهم القول لكون ذلك من أسباب الشرك ووسائله. وبه نعلم أن الشرك الأصغر ليس فقط محصورًا في ما نصّ الشارع على أنه شرك، بل هو يشمل كل ما كان سببًا للوقوع في الشرك، وأن من الفروق بين الشرك الأصغر والأكبر أن الشرك الأصغر لا يخرج به صاحبه من الإسلام ولا يخلد في النار، بخلاف الأكبر فصاحبه خارج من الإسلام، وإن مات عليه فهو خالد في النار.
[المتن]
الثانية عشرة: قولهم: (ونحن حدثاء عهد بكفر). فيه أن غيرهم لا يجهل ذلك.
[الشرح]
وهـٰذا فيه الاعتذار عن الذين صدر منهم هـٰذا الطلب، وأنه إنما صدر من مسلمة الفتح الذين لم يرسخ الإيمان في قلوبهم، وأما غيرهم ممن تربى على يد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتلقى عنه فإنه يميز بين هـٰذا وبين غيره، وأن هـٰذا ليس من الإسلام، بل هو من الشرك ومن أسبابه.
[المتن]
الثالثة عشرة: التكبير عند التعجب، خلافًا لمن كرهه.
[الشرح]
وفي رواية الترمذي أنه سبح -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وكلاهما وارد: فالتكبير يكون عند التعجب من الأمر، ويكون التسبيح كذلك عند التعجب من الأمر واستعظامه.
[المتن]
الرابعة عشرة: سد الذرائع.
[الشرح]
(سد الذرائع) هـٰذه من القواعد الفقهية، بل من القواعد الشرعية التي تستعمل كثيرًا، وقد اتفق أهل العلم رحمهم الله على مضمون هـٰذه القاعدة وإن كان بعضهم لا يُعمل اسم هـٰذه القاعدة، يعني: يمنع القول بسد الذرائع لكنه في العمل والتطبيق تجده يقول في مسائل كثيرة بسد الذريعة؛ لكن من خلال قاعدة أخرى، فهم يتفقون على العمل بمسماها ومضمونها، وإن كانت المذاهب تختلف في إعمال هـٰذه القاعدة، فأوسع المذاهب عملاً بها مذهب المالكية، وأضيقهم مذهب الشافعية والحنفية، والحنابلة وسط، وهـٰذه قاعدة معروفة في كتب القواعد الفقهية.
وأخذها من هـٰذا الحديث هو أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منع ذلك لأنه يفضي إلى عبادة هـٰذه الأشجار والأحجار؛ لأنها إذا كانت تطلب منها البركة فإنه يتقرب إليها فيما بعد وتعبد من دون الله، فمنع طلب البركة منها من باب سد الذرائع المفضية إلى الشرك الأكبر.
وهل كل ذريعة تسد أو لا تسد؟
هـٰذا بحث في القواعد الفقهية، ومعلوم أن الذرائع التي تسد هي الذرائع القريبة وليست كل ذريعة، الذرائع القريبة يعني الذرائع التي وقوع المحرم بسببها محتمل وقريب، أما ما كان موهومًا أو بعيدًا فإنه لا يسد، وإلا كان منع من مباح كثير بسبب سد الذرائع: فبيع العنب مثلاً على من يظن أنه يستعمله لصنع الخمر ما يجوز من باب سد الذرائع، لكن إن كان ذلك محتملاً وقريبًا، أما على شخص عادي لا تعرف عنه إلا الخير، أو أنك تجهل حاله ويبعد أن يستعمله في ذلك فإنه لا يمنع بيعه سدّاً للذريعة؛ لأن هـٰذه ذريعة موهومة.
[المتن]
الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية.
[الشرح]
وهـٰذا أصل في هـٰذه الشريعة المباركة: أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- شرع فيها ما يميز أهل الإيمان عن أهل الكفر، فنهى عن التشبه بأهل الكفر، وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((من تشبه بقوم فهو منهم)). وهـٰذا فيه التحذير الشديد من مشابهة الكفار، والشريعة لم تأت فقط بالنهي عن التشبه بالكفار بل أتت بالنهي عن التشبه بكل من كانت حاله ناقصة: فجاء النهي عن التشبه بالكفار، وجاء النهي عن التشبه بالفساق، وجاء النهي عن التشبه بالأعراب، وجاء النهي عن التشبه بالحيوانات، كل هـٰذا يدور في باب واحد وهو النهي عن التشبه بمن كانت حاله ناقصة. وقد قرر شيخ الإسلام رحمه الله هـٰذا تقريرًا جيدًا واضحًا بينًا في كتابه العظيم: " اقتضاء الصراط المستقيم"، فإنه في مخالفة صراط أهل الجحيم، بين فيه رحمه الله الأدلة الشرعية الدالة على هـٰذا الأصل من أصول الإسلام.
من أين نأخذ الفائدة الخامسة عشرة من الحديث؟
من قوله: ((لتركبن سنن من كان قبلكم)) وهـٰذا جاء بعد ذكر الطلب القبيح من بني إسرائيل، فبين النهي عن هـٰذا، فالحديث بمضمونه يدل على النهي عن التشبّه بهؤلاء، فإن قوله: ((لتركبن سنن من كان قبلكم)) ليس خبرًا مجرّدًا، إنما هو خبر للتحذير والنهي عن سلوك سبيل هؤلاء الذين كانت حالهم ناقصة، وقد دلت الأدلة على تحريم مشابهتهم واقتفاء سبيلهم.
[المتن]
السادسة عشرة: الغضب عند التعليم.
[الشرح]
واضح من أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أغلظ لهم القول، فكبر وفي رواية سبح، وهـٰذا فيه التنزيه والتعظيم للأمر، ثم قال: ((قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى))، ثم قال: ((لتركبن سنن من كان قبلكم)). وهـٰذا كله يدل على عظم ما وقع منهم، وعلى شدة إنكار النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليهم.
[المتن]
السابعة عشرة: القاعدة الكلية لقوله: ((إنها السنن)).
[الشرح]
((إنها السنن)): هـٰذا فيه بيان أنّ ما تقع فيه هـٰذه الأمة من مخالفات إنما هي سالكة في سبيل وسنن من كان قبلها من الأمم، وأن ما يقع في هـٰذه الأمة من الشرور فهي متأسية فيها بالأمم السابقة.
[المتن]
الثامنة عشرة: أن هـٰذا عَلم من أعلام النّبوة؛ لكونه وقع كما أخبر.
[الشرح]
وهـٰذا واضح، فإنه قد وقع من ذلك الشيء الكثير، وصدق ما أخبر به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)). وهـٰذا واقع في حال كثير من أهل الإسلام: يتلقون عن الغرب الدقيق والجليل، ويتلقون عن أهل الكفر كل ما جاء عنهم دون تمييز وتمحيص ونظر في النافع والضار.
[المتن]
التاسعة عشرة: أن ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا.
[الشرح]
مقصود المؤلف -رحمه الله- بهـٰذه المسألة أن ما ذم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- به اليهود والنصارى مما وقعوا فيه ليس خاصّاً بهم، بل هو عام لهم ولكل من وافقهم فيما ذموا من أجله، فإذا وقعت الأمة في شيء مما ذمهم الله به وعابهم عليه فإنهم يشاركونهم في الذم والعيب، المراد بهـٰذه المسألة أن ما ذم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- به الأمم السابقة من اليهود والنصارى ليس ذمّاً خاصّاً بأولئك فإذا وقع في هـٰذه الأمة فإنها لا تذم عليه! بل هو ذم لها وذم لكل من شاركها فيما ذمت به أو ذمت من أجله. فمثلاً ذم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- اليهود على أكلهم السحت وتحريفهم الكلم عن مواضعه، فإذا وقع هـٰذا من هـٰذه الأمة هل يشملهم الذم أو لا؟ الجواب: يشملهم الذم.
[المتن]
العشرون: أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمـر، فصـار فيه التنبيه على مسائل القبر. أما (من ربك)؟ فواضح، وأما (من نبيك)؟ فمن إخباره بأنباء الغيب، وأما (ما دينك)؟ فمن قولهم: (اجعل لنا..) إلخ.
[الشرح]
طيب، هـٰذه المسألة يقول: (أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر)، أي أمر؟ الأمر الشرعي، فإن الصحابة لم يبتدئوا ذلك من قِبل أنفسهم، معنى ذلك أنهم لم يتخذوا شجرة للبركة ينوطون بها أسلحتهم ويعكفون عندها، بل طلبوا ذلك من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فدل ذلك على أن المتقرر عندهم أنه لا يشرع شيء من العبادات إلا ما شرعه الله ورسوله، وهـٰذا واضح جلي في الكتاب والسنة. أما الكتاب فقول الله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾( ). وأما السنة فقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((من أحدث في أمرنا هـٰذا ما ليس منه فهو رد)). ثم قال رحمه الله: (فصار فيه التنبيه على مسائل القبر)، (صار فيه) يعني في هـٰذا الحديث (التنبيه على مسائل القبر) يعني الأسئلة التي يسألها المقبور ويمتحن بها الناس في قبورهم.
أما (من ربك) فواضح، وذلك أن العبادة له وحده لا شريك له.
وأما (من نبيك) فمأخوذ من أنّهم رجعوا إليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في طلب التّشريع، هـٰذا من وجه، والوجه الذي ذكره المؤلف -رحمه الله- ظاهر أيضًا في أنه وقع ما أخبر به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فإنّ الإخبار بالغيب لا يكون إلا من رسول؛ لأن الله جل وعلا لا يظهر الغيب إلا لمن ارتضى من رسول كما قال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾( )، وهـٰذا استثناء حاصر – انتبه - أنه لا يظهر الغيب على وجه متحقّق متيقن لا تخلف فيه إلا للرّسول، أما غيره فقد يظهر له شيء من الغيب كما يكون في الرؤى لكنه ليس متحققًا ولا متيقنًا، وهـٰذا وجه الحصر في قوله: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ فكون النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخبر بما سيكون في المستقبل، يخبر بالغيب ثم يقع وفق ما أخبر فإن ذلك يدل على نبوته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
قال: (وأما (ما دينك) فمن قوله: (اجعل لنا) إلى آخره)، حيث طلبوا منه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يجعل لهم هـٰذه الشجرة محلاًّ لنوط الأسلحة والعكوف، ودل ذلك على أن الشرع يتلقى منه وأن الدين ما جاء به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، فهـٰذا يدل على نبوته كنا تقدم، ويدل أيضًا على أن الدين ما شرعه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
[المتن]
الحادية والعشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين.
[الشرح]
وجه ذلك أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عاب عليهم الأخذ بسبيل أولئك فقال: ((لتركبن سنن من كان قبلكم)) وجاء مصرحًا في البخاري ومسلم أن السنة المقصود بها هنا هي سنة اليهود والنصارى، فسنة اليهود والنصارى مذمومة كسنة المشركين؛ لأن دينهم قد بطل ولا يجوز لهم التعبد به، ولا ينفعهم التقرب به إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، بل يجب عليهم تركه إلى دين الإسلام؛ لقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾( ) ولقوله: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾( ). [المتن]
الثانية والعشرون: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يُؤمَن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة؛ لقوله: (ونحن حدثاء عهد بكفر).
[الشرح]
وهـٰذا واضح، فإن المنتقل من الباطل الذي مرن عليه قلبه واعتاد عليه يصعب عليه جدّاً التخلّي عن ذلك الباطل، ولا يمكنه التخلّي عنه إلاّ بعد رسوخ الإيمان فيه، ولذلك ينبغي للمؤمن أن يجتهد في تخليص قلبه من شوائب الشّر ومن أوضار الشرك ومن كل شائبة تعوقه عن امتثال أمر الله ورسوله، وإذا لاحظ المؤمن هـٰذا زال عنه كل ما علق في قلبه مما اعتاده مما يخالف أمر الله ورسوله.
شرح
كتاب التوحيد
الذي هو حق الله على العبيد
لشيخ الإسلام والمسلمين مجدد الدين
محمد بن عبد الوهاب التميمي المشرفي
- رحمه الله تعالى-
لفضيلة الشيخ
الدرس التاسع
www.almosleh.com
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
[المتن]
باب ما جاء في الذبح لغير الله
وقول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ﴾( ) الآية، وقوله: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾( ).
عن علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: حدثني رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأربع كلمات: ((لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثًا، لعن الله من غيَّر منار الأرض)). رواه مسلم.
وعن طارق بن شهاب، أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب)). قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟! قال: ((مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئًا، فقالوا لأحدهما: قرب. قال: ليس عندي شيء أقرب. قالوا له: قرب ولو ذبابًا. فقرب ذبابًا، فخلوا سبيله، فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب. فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئًا دون الله عز وجل. فضربوا عنقه فدخل الجنة)). رواه أحمد.
[الشرح]
قال: (باب ما جاء في الذبح لغير الله).
مناسبة هـٰذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة، وهي أن الذّبح عبادة فيجب إفراد الله تعالى بها.
وأما مناسبته لما قبله: فإنه في الأبواب السابقة ذكر ما هو وسيلة إلى الشرك غالبًا، وفي هـٰذا الباب بدأ بذكر ما هو شرك في ذاته، فإن الذبح عبادة، وصرف العبادة لغير الله شرك أكبر كما تقدم، فانتقل من الشرك في الوسائل إلى الشرك في المقاصد، وبدأ ذلك بالذبح؛ لكونه من أكثر ما يقع من أهل الشرك من صور التقرب لغير الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، هـٰذه مناسبة الباب لما قبله.
يقول رحمه الله: (باب ما جاء في الذبح لغير الله) ولم يذكر حكم ذلك، وتقدم لنا أن أهل العلم ينصون على الأحكام في التراجم أحيانًا ويتركون النص على الحكم في الترجمة أحيانًا أخرى، وإذا تركوا النص على الحكم في الترجمة فذلك إمّا لكون الحكم واضحًا، وإما لكون الحكم مختلفًا فيه، وإمّا لكون المسألة المترجم لها تحتاج إلى تفصيل في الحكم، وإما تمرينًا للطالب ليستنتج الحكم من النصوص المذكورة في الباب، وإما لغير ذلك من الأسباب.
الذّبح هو: التذكية، وهو القطع، قطع الحلق، ولم ينص المؤلف رحمه الله على الحكم هنا لكونه واضحًا مما ساق -رحمه الله- من النصوص في الباب، ويحتمل أنه لم يذكر الحكم في الترجمة لكون الذبح لغير الله ليس على قسم واحد من حيث الحكم، فمنه ما هو شرك ومنه ما ليس شركًا كما سيتبيّن في أقسام الذّبح، ولذلك لم ينص المؤلف -رحمه الله- على الحكم ليراعى هـٰذا التقسيم.
والذبح لغير الله يشمل الذبح تقربًا لغير الله، ويشمل أيضًا الذبح لغير الله لا على وجه التقرب بل لغرض عادي، كذبح الشاة للحم، فإن هـٰذا الذبح ليس لله، أي ليس مما يتقرب به إلى الله عز وجل، المذبوح لا يتقرب به إلى الله عز وجل، وذلك أن الذابح لهـٰذه الذبيحة لا يرجو أجرًا في ذبحه؛ لأنه من الأمور العادية، ولذلك لما ذبح أبو بردة بن نيار قبل صلاة العيد، قال له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((شاتك شاة لحم)). ففرّق رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين ما ذبح قبل الصّلاة وبين ما ذبح بعدها، فجعل المذبوح بعد الصلاة قربة، والمذبوح قبل الصلاة لحم، عادة ليس فيه أجر.
والذبح في ذاته ينقسم من حيث الجملة إلى قسمين: ذبح مشروع، وذبح ممنوع.
الذبح المشروع: على درجات: منه ما هو واجب، ومنه ما هو مستحب، ومنه ما هو جائز.
الواجب: كهدي المتمتع، وكالعقيقة على قول، والأضحية على قول.
المستحب: كالعقيقة في قول، والأضحية في قول، والهدايا التي ترسل إلى مكة، وما يذبحه غير المتمتع في الحج.
والجائز: ما كان المقصود منه اللحم وذُكر اسم الله عليه، ما كان المقصود منه اللحم وروعيت فيه شروط التذكية.
أما الممنوع من الذبح فيندرج تحته أقسام:
القسم الأول: الذبح لغير الله قصدًا وتسميةً، مثاله: أن يذبح للصنم أو للولي أو للجني أو غير ذلك من المعبودات، ويذكر اسم ذلك المذبوح له، فيذبح مثلاً لعلي بن أبي طالب تقربًا ويقول: باسم علي، يذبح للبدوي تقربًا ويذكر اسمه عند الذبح، يعني يذكر اسم المتقرب إليه عند الذبح، وهـٰذا شرك أكبر باتفاق الأمة؛ لأنه مما أُهل لغير الله به، ومما ذبح على النصب، وهو شرك أكبر يخرج به صاحبه من الإسلام؛ لأنّ الذبح عبادة، وصرفها لغير الله كفر، هـٰذا القسم الأول من الذبح الممنوع، وهو ما كانت فيه التسمية لغير الله والقصد لغير الله.
القسم الثاني من الذبح الممنوع: ما كان القصد فيه غير الله وذكر عليه اسم الله جل وعلا.
مثاله: أن يذبح تقربًا للجن، أو يذبح تقربًا للولي أو للنبي أو للملك هـٰذا في نيته وقلبه، وأما في تسميته ولفظه فيذكر الله، فيقول: باسم الله، وهـٰذا شرك، وهو داخل في قول الله عز وجل: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾( ) ويدخل أيضًا بالمعنى في قوله تعالى: ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾( )؛ لأن ما أهل لغير الله به المقصود به ما ذكر عليه اسم غير الله عزّ وجل، فإذا كان النهي عن ذكر اسم غير الله على الذبيحة ولو كان يقصد الله فكيف إذا كان القصد لغير الله؟ يكون التحريم من باب أولى؛ لأن الأصل ما يقوم في القلب من المقصد، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((إنما الأعمال بالنيات)). هـٰذا ثاني الأقسام، وهو ما كان القصد فيه لغير الله والتسمية فيه لله، وهـٰذا شرك أكبر.
القسم الثالث: ما كان القصد فيه لله وذكر عليه اسم غيره -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فهنا القصد التقرب إلى الله عز وجل، لكنَّه في الذبح ذكر اسم غير الله عز وجل، هـٰذا أيضًا من الشرك الأكبر على الصحيح من أقوال أهل العلم؛ لأن ذكر اسم الله عز وجل على الذبيحة عبادة، فإذا ذكر اسم غيره فقد صرف العبادة لغير الله، وهـٰذا هو الشرك الأكبر، وعلى هـٰذا أئمة الدعوة، وهو قول شيخ الإسلام رحمه الله، واختيار شيخنا عبد العزيز بن باز وشيخنا محمد رحمهما الله.
خالف في ذلك بعض أهل العلم فقال: إن الذبيحة محرمة؛ لأنها داخلة في قوله: ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾( ) وهـٰذه لم يذكر عليها اسم الله، ولكنها ليست شركاً، ذبيحة محرمة وليست شركًا، والصواب ما قدمناه، هـٰذا ثالث الأقسام في الذبح المذموم.
وسيأتي أقسام أخرى يكون الذبح فيها مذمومًا لكن لمعنى خارج عن الذبح: كأن يذبح في مكان يذبح فيه لغير الله، كما سيأتي في الباب التالي، فالمنع لا لأجل الذّبح نفسه إنما لأمر خارج، هـٰذه هي أقسام الذبح من حيث المشروعية ومن حيث المنع.
نرجع إلى كلام المؤلف رحمه الله في هـٰذا الباب، قال: (وقول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ﴾( ).)
هـٰذه الآية أمر الله فيها رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالقول تبليغًا للأمة أمة الدعوة وكل من يسمع الخطاب. ﴿إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي﴾: الصلاة معروفة، وهي: التعبد لله عز وجل بأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتّسليم.
﴿وَنُسُكِي﴾: النسك في اللغة يطلق على العبادة، ومنه قول الله جل وعلا: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ﴾( ). ومنه قول الله عزّ وجل في دعاء إبراهيم وإسماعيل: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾( ) أي طرق عبادتنا إياك. ويُطلق ويراد به الذبح. وهـٰذان قولان في النسك هنا: فعلى الأول يكون عطف النسك على الصّلاة من باب عطف العام على الخاص، وأما على القول الثاني وأن المراد بالنسك الذبح فيكون عطف عمل على عمل، وخص هـٰذان العملان بالذكر دون غيرهما لأنهما أعظم الأعمال: فالصلاة أعظم الأعمال البدنية، والذبح أعظم القرب والأعمال المالية، فإذا كان الصلاة والذبح وهما أعظم العبادات لله عز وجل فغيرهما من باب أولى، إخلاص هذين لله يستلزم إخلاص سائر الأعمال له -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
وقوله: ﴿وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي﴾.
﴿وَمَحْيَايَ﴾: أي أمر محياي، وما يكون فيه.
﴿وَمَمَاتِي﴾: أي ما يكون في مماتي لله عز وجل، فهو الذي يدبر أمر محياي وهو الذي يدبر أمر مماتي، فيكون هنا قد ذكر توحيد الإلهية وتوحيد الرّبوبية: توحيد الإلهية في قوله: ﴿إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي﴾ وتوحيد الربوبية في قوله: ﴿وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
وقيل: إن قوله: ﴿وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي﴾ المراد بذلك العمل في المحيا والممات، أما العمل في الحياة فواضح، وهو ما يتقرب به الإنسان إلى ربه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في حياته من صلاة وزكاة وصيام وحج وإحسان وغير ذلك من الأعمال.
وأما قوله: ﴿وَمَمَاتِي﴾ فالمراد بالممات ما قارب الموت من العمل، وهو ما يكون في سياق الموت والاحتضار، وهـٰذا فيه بيان أن عمله كله لله -عز وجل- في حال قوته ونشاطه وفي حال ضعفه وانتهائه؛ ليبين أن جميع ما يكون منه لله عز وجل، وكلا المعنيين قال بهما أهل التفسير.
وقوله: ﴿لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ اللام هنا قيل: إنها للمِلك، وقيل: إنها للتعليل. فإذا قلنا: ﴿إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي﴾ توحيد الربوبية، ﴿وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي﴾ توحيد الإلـٰهية، فيصلح أن تكون دالة على التعليل ودالة على الملك والتصرف. وإذا قلنا: إن المراد بالسابق كله العمل وجاء تعميم بعد تخصيص: ﴿صَلاتِي وَنُسُكِي﴾ عبادات خاصة، ﴿وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي﴾ كل ما يكون من عمل في الحياة والممات، فتكون اللام هنا للتعليل.
﴿لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ثم انظر! -لم يقل: لرب العالمين- بل قال: ﴿لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، فذكر وصفين بهما يثبت لله -عز وجل- كمال الإلهية وكمال الربوبية: فكمال الإلهية في اسم الله المشتق من الألوهية، وهو إله إلا أن الهمزة أسقطت للتخفيف كما تقدم، فهو دال على العبادة والإلهية، و﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ دال على الربوبية. والشاهد من هـٰذه الآية قوله تعالى: ﴿وَنُسُكِي﴾ على القول بأنها الذبح، فيكون مما أفادته هـٰذه الآية وجوب إفراد الله عز وجل بالذبح، أما ذبائح القربة فلا بد من إفراد الله عز وجل بها قصدًا وتسمية، وأما ذبائح اللحم فلا بد من إفراد الله -عز وجل- بها تسميةً، ولذلك لو سمى الله وغيره على الذبح ما حل، لو قال: باسم الله والرسول، أو: باسم الله والولي ما حلّت الذّبيحة؛ لأنه ذكر غير الله عليها، فتكون داخلة في قوله تعالى: ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾( ).
ثم قال: (وقوله: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾( )) الفاء هـٰذه عاطفة، وهي تفيد التعليل، فإن الله عز وجل ذكر في أول هـٰذه السورة ما منَّ به على رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الخير الكثير فقال: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ ثم قال: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ شكرًا وثناء على الله عزّ وجل بالفعل والقول على هـٰذه المنة، وذكر هذين النوعين من العبادة لما تقدّم: لكونهما أعظم ما يتقرب به من العبادة لله عزّ وجل. والشاهد في هـٰذه الآية قوله: ﴿وَانْحَرْ﴾ أي اذبح الهدي واذبح الذبائح تقرّبًا إلى الله عز وجل، الهدي في الحج وما يهدى إلى مكة في غير الحج، والذبائح كالأضحية والعقيقة وذلك لكل أحد في كل مكان، فأمر الله –عز وجل- تعالى بالصلاة والنحر. والشاهد في هـٰذه الآية قوله: ﴿وَانْحَرْ﴾ وقوله: ﴿لِرَبِّكَ﴾ حيث خص النحر به: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ أي له، هـٰذا تقدير الكلام، فالصلاة والنحر له لا لغيره -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
ثم قال: (عن علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-قال: حدثني رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأربع كلمات.)
(كلمات) جمع كلمة، والكلمة في اصطلاح النحويين تطلق على اللفظ المفرد، وهو في اللغة أوسع من ذلك، فالكلمة في اللغة تطلق على الجملة؛ بل وعلى الجمل الكثيرة التي تفيد معنى، ولذلك قال النبي –عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-: ((أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد، وهي: ألا كل شيء ما خلا الله باطل)) وهـٰذه كلمات. فالمقصود بالكلمات هنا جمل.
((لعن الله من ذبح لغير الله)). وهـٰذا الشاهد، فإنّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبر بلعن الله أو دعا على من ذبح لغير الله، وهـٰذا يشمل كل ذبحٍ محرّم: سواء كان الذبح لغير الله تسميةً وقصدًا، أو كان قصدًا دون تسمية، أو تسمية دون قصد، كل هـٰذا مما يدخل في قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لعن الله من ذبح لغير الله)). واللعن هو الطرد والإبعاد، ففي الخبر إذا كان الكلام سيق مساق الخبر فالمراد أن الله لعن أي أبعد وطرد، وإذا كان سؤال دعاء فالمعنى سؤال الله جلّ وعلا لعن وطرد وإبعاد هـٰذا الذي فعل ما ذُكر بعد اللعن: ((لعن الله من ذبح لغير الله)). ويدخل فيه من ذبح لله وغيره معه، والدليل على ذلك قول الله تعالى في الحديث الإلهي: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)). فيكون العمل لمن؟ للمشرَك به، فمن ذبح وسمى الله وغيره فإنه داخل في قول النّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لعن الله من ذبح لغير الله)).
هل يمكن أن نستفيد من هـٰذا الحديث مرتبة الذّبح لغير الله؟ ما هي مرتبته؟ هل هو شرك أو كبيرة من الكبائر؟ لا يمكن أن نأخذ أنه شرك من هـٰذا اللفظ، لكن نأخذ ذلك من النصوص الأخرى الدالّة على وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة، كما في قوله: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾، وقوله: ﴿إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
أما هـٰذه الصيغة فإنها ترد في الشرك وترد فيما دون الشرك من المعاصي، ولذلك كل ما ذُكر بعد اللعن الأول وهو لعن من ذبح لغير الله كله في معاصٍ دون الشرك، وبدأ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأخطر الذنوب والمعاصي وهو الشرك فقال: ((لعن الله من ذبح لغير الله)).
ثم قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لعن الله من لعن والديه)). وهـٰذا من كبائر الذنوب، ولعن الوالدين يكون بتوجيه اللعن لهما مباشرة، أو بما أخبر به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أن ((الرجل يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه)).
ثم قال: ((لعن الله من آوى محدِثًا أو محدَثًا)). اللفظ محدِثاً ويشمل محدَثاً، فاللعن للمحدث هو لعن لما أحدثه، والمقصود بالمحدِث هنا هو كل من طُلب بحق لله عز وجل في حد أو غيره من حقوق الله جل وعلا، ويشمل أيضًا كل من ابتدع في الدين ما ليس منه، فإنه داخل في قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لعن الله من آوى محدِثًا)). والإيواء يكون بالسّتر والإخفاء لمن طُلب في حقّ من حقوق الله، ويكون بالتأييد والنّصر والذّب عن البدع، فإنه داخل في قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لعن الله من آوى محدثًا)).
آخر الجمل الأرْبع في هـٰذا الحديث قوله: ((لعن الله من غير منار الأرض)). ((من غيَّر)) أي بدّل، فالتغيير هو التبدّيل، والمقصود بمنار الأرض هنا ما يُستنار به منها، والمقصود به علامتها التي تميز الأملاك من المراسيم وشبهها وحدودها، ويشمل أيضًا العلامات التي يهتدي بها النّاس في الطرقات، فمن غيَّر العلامات التي يستدل بها الناس على الأماكن بطمس أو تحريف يحصل به إضلال الناس وإتعابهم فإنه من تغيير منار الأرض.
من تغيير منار الأرض أيضًا إضلال المسترشد من أعمى أو بصير، فإذا سألك الأعمى عن الطريق وقلت له: الطريق من ها هنا وهو مخالف لما قلت فإنه من تغيير منار الأرض يدخل في اللعن؛ لأنه موافق له في المعنى، وكذلك لو أن شخصًا سألك من غير أهل البلد عن مكان فيه فدللته على غيره فإنه من تغيير منار الأرض، وهـٰذا تغيير حسي.
من التغيير أيضًا تغيير حدود الأراضي في الصكوك،كما قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في فتواه، فإنه داخل في تغيير منار الأرض؛ لأن تغيير ما تضمنته الصكوك كتغيير المراسيم الحية، ولا فرق في التغيير بين أن يكون التغيير للأخذ من حق معين كأرض الجار مثلاً، أو من حق عام كالأخذ من الشوارع العامة , فإن كل ذلك داخل في اللعن وفي قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لعن الله من غير منار الأرض)).
ثم قال: (وعن طارق بن شهاب أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((دخل الجنة رجل في ذباب)).)
(طارق بن شهاب) ممن اختلف في صحبته، فاختلف العلماء هل هو صحابي أم لا؟ على قولين، وبعضهم أجرى الخلاف في ثبوت هـٰذا الحديث بناءً على الاختلاف في صحبته، والصّحيح أنه لا دخل لصحبته في ثبوت هـٰذا الحديث من عدمه؛ لأن (طارق بن شهاب) إنّما نقله ورواه عن سلمان الفارسي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، كما في الحلية وكما في كتاب الزّهد للإمام أحمد، فالحديث صحيح موقوفًا على سلمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أما رفعه إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنه لا يصح.
يقول في هـٰذا الأثر منسوبًا إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((دخل رجل الجنة في ذباب)). ((في)) هنا للسببية، أي بسبب الذباب، ونظير ذلك قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((دخلت امرأة النار في هرة)) يعني بسببها.
قال: ((دخل الجنة رجل في ذباب)) أي بسببه ((ودخل النار رجل في ذباب)) أي بسبب ذباب. (قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟) يعني: بيِّن لنا. (قال: ((مر رجلان على قوم لهم صنم))) وتقدم تعريف الصنم ((لا يجوزه)) لا يتعداه ولا ينفذ منه ((أحد حتى يقرب له شيئًا)) أي: يتقدم إليه بقربة، وقوله: ((شيئًا)) يشمل الدقيق والجليل، الحقير والكبير ((فقالوا لأحدهما: قرِّب. قال: ليس عندي شيء أقربه)).
الآن هـٰذا بماذا اعتذر؟ اعتذر بإنكار التقريب لهـٰذا الصّنم أو بأنه لا يملك ما يقرب؟ بأنه لا يملك ما يقرب، فماذا كان؟
((قالوا له: قرب ولو ذبابًا)). و((لو)) هنا المقصود بها أي شيء حتى ولو كان في الضآلة والانحطاط إلى درجة الذباب، وهـٰذا فيه حرص هؤلاء على إيقاع الناس في الشرك، وإلا فما فائدة تقريب الذباب؟ ليس فيه إكرام ولا فيه تعظيم، بل لو أنك قدمت لأحد ذباباً لكان ذلك إهانة، لكن هؤلاء أرادوا وقصدوا إيقاع الناس في الشرك.
((فقرَّب ذباباً فخلَّوا سبيله)) أي: تركوه وشأنه ((فدخل النار)). والفاء هـٰذه للتعقيب، أي: لترتيبب الحكم على الوصف السابق، فهي تفيد السببية، فدخل النار، ما سبب دخوله النار؟ تقريبه الذباب لهـٰذا الصنم.
((وقالوا للآخر: قرِّب. قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئًا)). فامتنع من التقريب لاعتقاد أو لعدم مِلك؟ لاعتقاد، وهو أنه لا يستجيز أن يقرب لأحد دون الله شيئًا.
((فضربوا عنقه)) أي: قتلوه ((فدخل الجنة)) بسبب امتناعه عن الكفر.
وهـٰذا الحديث يبين مقصود المؤلف فيه: أن التقرب بالذبح أو بأي شيء ولو كان حقيرًا لغير الله على وجه التعبد فإنه من الشرك، فهـٰذا لما قتل الذباب وقرب الذباب تعبدًا وقع في الشرك فدخل النار، والآخر لما امتنع من ذلك وحقق التوحيد وأنه لم يقرب لأحد، لم يصرف شيئًا من العبادة لأحد دون الله وقُتِل من أجل ذلك كانت عاقبته الجنة.
[المتن]
فيه مسائل:
الأولى: تفسير ﴿إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي﴾.
[الشرح]
فهـٰذه مسائل الباب المتقدّم، أولى هـٰذه المسائل تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي﴾.
[المتن]
الثانية: تفسير ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾.
[الشرح]
الشاهد من هـٰذه الآية، المراد بالنحر هنا الذبح.
[المتن]
الثالثة: البداءة بلعنة من ذبح لغير الله.
[الشرح]
وذلك في حديث (علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وفيه قال: حدثني رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأربع كلمات: ((لعن الله من ذبح لغير الله)).)
فبدأ بهـٰذه المسألة قبل غيرها لأنها أعظم ما استحقّ عليه الإنسان اللعن في هـٰذه المذكورات، فبدأ بها قبل غيرها.
[المتن]
الرابعة: لعن من لعن والديه، ومنه أن تلعن والدي الرجل فيلعن والديك.
الخامسة: لعن من آوى محدِثًا، وهـو الرّجـل يحـدث شيئًا يجـب فيه حق الله فيلتجئ إلى من يجيره من ذلك.
[الشرح]
وهـٰذا تقدم الكلام عليه، وذكرنا أنه يدخل فيه أيضًا من أحدث في شريعة الله ما ليس منها، فإن إيواءه يدخل في قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لعن الله من آوى محدثًا)).
[المتن]
السادسة: لعن من غير منار الأرض، وهي المراسيم التي تُفرِّق بين حقك وحق جارك، فتغيرها بتقديم أو تأخير.
[الشرح]
تقدم الكلام على هـٰذا، وبينا أنه لا فرق بين أن يكون الحق حق الجار حقّاً خاصّاً أو حقّاً عامّاً، فكله يدخل في اللعن، الحق الخاص مثل أن يكون ملكًا لشخص معين، والحق العام أن يكون لعموم المسلمين مثل الطرقات وشبهها، فإنه لا يجوز التغيير في هـٰذا، وهو داخل في لعن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((من غير منار الأرض)) , وأيضًا مما ذكرنا في ذلك تغيير العلامات التي يستدل بها على الأماكن والطرق.
[المتن]
السابعة: الفرق بين لعن المعيّن، ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم.
[الشرح]
وهـٰذا واضح: فإن كل ما ورد فيه اللعن في السنة إنما ورد اللعن فيه على وصف لا على شخص، وفرق بين لعن الأوصاف ولعن الأشخاص، فلعن الأوصاف يوجب التحذير منها وثبوت العقوبة لكل من اتصف بهـٰذا الوصف.
بقي لعن الأشخاص، جاء في السنة في مواضع أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعن أشخاصًا بأعيانهم، فلعن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قنوته: ((اللهم العن فلاناً وفلاناً)) وسمَّى بعض الكفرة، لكنه عوتب في ذلك فانتهى لما نزل عليه قول الله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾( ) فانتهى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن لعن المعينين.
واختلف العلماء في لعن المعين المسلم والكافر:
أما المسلم فلا شك أن لعنه محرّم؛ لأن سباب المسلم -وهو دون اللعن- فسوق؛ لأن السّب يكون باللعن وبغيره وأشده اللعن، فوصفه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأنه ((فسوق)) , وقال –عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-: ((ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش البذيء)). فهـٰذا يدل على منع لعن المسلم.
وأما الكافر فقد اختلف فيه، والصحيح أنه لا يجوز لعن الكافر المعين إلا إذا عُلم مآله ومصيره، كأبي جهل وفرعون وغيرهما من الكفرة الذين نوقن بأنهم في النار، أما من لا يعلم مصيره فإنه لا يلعن. وبعضهم قال: يلعن إذا مات على الكفر. وعلى كل حال الأحوط ترك اللعن؛ لعموم قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((ليس المؤمن باللّعان ولا بالطعان)). فنفي هـٰذا الوصف هو الأصل وهو ترك اللعن.
والفرق بين لعن الموصوف ولعن الشخص: أن لعن الموصوف قد لا يتنزل على الأشخاص؛ لأن انطباق اللعن على الشخص لا بد فيه من توافر الشروط وانتفاء الموانع، فقد تتوافر الشروط وتنتفي الموانع فيستحق الشّخص اللعن، وقد يفوت شرط أو يوجد مانع فيرتفع حكم اللّعن، ولذلك فالأحسن في اللعن أن يكون لعنًا للأوصاف التي لعنها الله ورسوله، أما الأشخاص فليحذر الإنسان من ذلك.
[المتن]
الثامنة: هـٰذه القصة العظيمة، وهي قصة الذباب.
[الشرح]
تقدم الكلام على هـٰذه القصة وما فيها، وأنها تصح عن سلمان موقوفة وليست مرفوعة إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والشاهد فيها بالنسبة للباب عظم وخطورة الذبح لغير الله، من جهة أن أحدهما قرب ذبابة فكان ذلك سببًا في دخوله النار.
[المتن]
التاسعة: كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلُّصًا من شرهم.
[الشرح]
هـٰذه المسألة أخذها الشيخ -رحمه الله- من أن الرجل لما قيل له: ((قرب. قال لهم: لا أجد شيئًا أقربه أو ليس عندي شيء أقربه. قالوا: قرّب ولو ذبابًا)). فأمروه بتقريب أدنى ما يكون حتى الذباب ((فقرّب ذبابًا فخلوا سبيله)). فقال الشيخ -رحمه الله- في المسألة: (كونه دخل النار بسبب ذلك)؛ لقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((دخل رجل النار في ذباب)). قال: (بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصًا من شرهم.)
ما فيه إشكال أنه فعله تخلصًا من شرهم، لكن في قول الشيخ رحمه الله: (لم يقصده) إشكال، وذلك أن الرجل لم يعتذر بأنه لا يقرب لأحد شيئًا، إنما اعتذر لأي شيء؟ لأنه لا يجد ما يقرّب، فلما اقترحوا عليه هـٰذا لم يتردد، بادر إلى التقريب، فدل ذلك على أنه موافق لهم في التقريب لغير الله، وأن ذلك الفعل لم يكن عن إكراه محض، إنما عن موافقة وطاعة لهؤلاء فيما طلبوه منه من الكفر بالله عزّ وجل. معلوم أن الإكراه إذا كان المكرَه موافقًا منشرح الصدر لما أُكره عليه فإنه يؤاخذ به في المعصية والكفر، يعني في المعاصي التي دون الكفر وفي الكفر؛ لأن شرط عدم المؤاخذة بالإكراه أن يكون القلب مطمئنّاً بالإيمان وألا ينشرح إلى الكفر؛ لقول الله تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾( ) فإذا أُكره الإنسان على فعل من الأفعال- كفر فما دونه- وكان منه قبول لهـٰذا المكره عليه فإنه يُؤاخذ به في الكفر فما دونه؛ لصراحة هـٰذه الآية في الاستثناء حيث قال: ﴿وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾ فإنه يؤاخذ بذلك.
ثم إنّ من قال: إن الرجل كان مكرهًا؟ اختلفوا في دلالة الحديث على تأثير الإكراه على الفعل إذا كان كفرًا، فمن العلماء من قال: إن هـٰذا في شرع من قبلنا، وأما شرعنا فإنه وضع عنا ما يكون من الإنسان حال الإكراه فلا يؤاخذ به، فحمل الحديث على شرع من قبلنا، وأما شرع الإسلام فإن الإنسان إذا فعل فعلاً ولو كان كفرًا وهو مكره فإنه لا يُؤاخذ به.
وقال آخرون في الجواب على هـٰذا الحديث: إن الإكراه إنما يصح إذا كان في الأقوال دون الأفعال، فقالوا: إذا أُكره الإنسان على فعل فإنه لا يجوز له أن يفعله، لكن إذا أُكره على قول فلا بأس. واستدلوا لذلك بسبب نزول الآية وهو قصة عمار بن ياسر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فإنهم أكرهوه أن ينال من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فنال من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال في آلهتهم ما يرضيهم من التعظيم، فقالوا: نقصر الآية على سبب النزول وهو ما كان في الأقوال فقط. والصحيح ما عليه المحققون من أهل العلم من أنه لا فرق في الإكراه بين الفعل والقول، وأنه إذا أُكره الإنسان على فعل ما لا يجوز أو قول ما لا يجوز فإنه لا أثر لفعله من حيث المؤاخذة والإثم ولا يرتفع عنه وصف الإيمان. ولذلك جاء في قصة عمَّار أنه لما قص للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وحكى له ما جرى منه قال له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((إن عادوا فعد)). فأذن له -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في العودة إلى قول الكفر إذا أُكره عليه إذا كان قلبه مطمئنّاً بالإيمان، وهـٰذا القول هو الصحيح وأن هـٰذا لا فرق فيه بين الفعل والقول.
[المتن]
العاشرة: معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، كيف صبر ذلك على القتل، ولم يوافقهم على طلبهم، مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر؟
[الشرح]
وذلك أن هـٰذا الرجل امتنع عن تقريب أدنى ما يكون لهـٰذا الوثن ولهـٰذا المعظم وهـٰذا الصنم، فامتنع من تقريب أدنى ما يكون ورضي بالقتل على أن يقرب لأحد دون الله شيئًا، فهل هـٰذا على وجه الوجوب أو على وجه الاستحباب؟
ظاهر الحديث لا يدل لا على الوجوب ولا على الاستحباب، لا سيما إذا قلنا: إن الرجل الذي قرب قرب معتقدًا موافقًا لهؤلاء على عقيدتهم، أما على قول من يقول: إنه أُكره ومع إكراهه لم ينفعه الإكراه في رفع المؤاخذة بالفعل، فإن الرجل امتنع امتناعًا واجبًا. وعلى كل حال ليس لنا نظر في أخذ هـٰذا الحكم من هـٰذا الأثر؛ لكونه موقوفًا على سلمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فنأخذ الحكم من مصادر أخرى، فإذا نظرنا إلى ما دلّ عليه الكتاب وجدنا أنه يجوز للإنسان الموافقة على الكفر إذا أُكره على ذلك إكراهًا ملجئًا إذا كان قلبه مطمئنّاً بالإيمان، ولا يقدح ذلك في إيمانه ولا في منزلته ولا في مكانته.
لكن هل الأولى أن يصبر أو لا؟
هـٰذا يرجع إلى المصلحة: فإن كانت المصلحة أن يصبر ويقتل على الكفر فذاك هو المشروع مشروعية وجوب أو استحباب , وإن كانت المصلحة في الموافقة فذلك أيضًا هو المشروع مشروعية وجوب أو استحباب على حسب الحال، وأما مسألة الجواز فيجوز، إلا إن كان يترتب على الموافقة مفسدة أعظم من عدم الموافقة، فعند ذلك يتعين ألا يوافق.
[المتن]
الحادية عشرة: أن الذي دخل النار مسلم؛ لأنه لو كان كافرًا لم يقل: ((دخل النار في ذباب)).
[الشرح]
وهـٰذا واضح؛ لأنه لو كان سبب دخوله النار غير ذلك لما رُتب عليه الفعل هـٰذا واحد. وثانيًا لكان سبب دخوله النار غير ذلك إذا كان مشركًا كافرًا، فلم يكن سبب دخوله النار تقريبه الذباب إنما هو ما كان عليه من الكفر قبل ذلك، فلما قال: ((دخل رجل النار في ذباب)) دل ذلك على أنه هو السبب الوحيد الذي أدخله النار.
[المتن]
الثانية عشرة: فيه شاهد للحديث الصحيح: ((الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك)).
[الشرح]
وجه ذلك أنه لم يكن بين دخول الجنّة ودخول النار إلا هـٰذا الامتناع وهـٰذا الفعل، فدل ذلك على قربهما، وهو مصداق قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله)). فليس بين الإنسان والجنة إلا العمل الصالح، وليس بينه وبين النار إلا مقارفة السيئات وأعظمها الشرك.
[المتن]
الثالثة عشرة: معرفة أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان.
[الشرح]
وجهه أنهم طلبوا منه أن يعظم هـٰذا الصنم بأدنى ما يكون، فدل ذلك على أنه ليس مقصودهم من التقريب تقريب اللحم أو الأكل، إنما مقصودهم ما يقوم بالقلب من تعظيم هـٰذا المعبود من دون الله، فلذلك قالوا له مقترحين ملحّين: قرّب ولو ذباباً، ولو كان مقصودهم ما يؤكل وما يذبح لعذروه فيما اعتذر به حيث قال: ليس عندي شيء أقرّبه.
¹
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
[المتن]
باب: لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله
وقول الله تعالى: ﴿لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾( )الآية.
وعن ثابت بن الضّحاك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قال: نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة، فسأله النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: ((هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟)) قالوا: لا. قال: ((فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟)) قالوا: لا. فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم)). رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما.
[الشرح]
هـٰذا الباب مناسبته لكتاب التوحيد ظاهرة؛ لأن الذبح لله -عز وجل- بمكان يذبح فيه لغيره من أسباب الشرك ووسائله؛ لأنه يفضي إلى تعظيم هـٰذه الأماكن التي يكفر فيها بالله عز وجل، هـٰذه مناسبة الباب لكتاب التوحيد.
أما مناسبة الباب لما قبله: فإنه في الباب السّابق ذكر الشرك الأكبر وهو الذبح لغير الله تقربًا، وفي هـٰذا الباب ذكر سببًا من أسباب الشرك الأكبر، وهو أن يذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله، فإن هـٰذا من أسباب الشرك ووسائله المفضية إليه، وهـٰذه مناسبة يتبين فيها أن المؤلف انتقل فيها من الأعلى إلى الأسفل، انتقل من الشرك الأكبر إلى الشرك الأصغر كما فعله رحمه الله فيما تقدم فيما يلبس.
قدم أول باب من الإشراك: (لُبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه)، ثم أتى في الباب الثاني (باب ما جاء في الرّقى والتمائم)، وهي دون الحلقة والخيط؛ لأن الحلقة والخيط لا نفع فيهما بالكلية. ثم إن المؤلف أفادنا في الترجمة تحريم الذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله؛ لأنه قال: (باب لا يذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله).
لكن لم يبين -رحمه الله- مرتبة ذلك هل هو شرك أكبر أو شرك أصغر؟ وذلك لأنه يختلف باختلاف ما يقوم بقلب صاحبه: فقد يكون شركًا أكبر، وقد يكون شركًا أصغر.
وساق المؤلف رحمه الله في هـٰذا الباب على هـٰذه الترجمة آية وحديثاً.
الآية قول الله تعالى: ﴿لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾ وهـٰذا نهي لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يقوم في مسجد الضرار، فإن الضمير في قوله: ﴿فِيهِ﴾ يعود إلى مسجد الضرار، وهو مسجد بناه المنافقون في المدينة تفريقًا بين المؤمنين وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله، فأتوا إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يطلبون منه أن يصلي في المسجد لتحل فيه البركة، هكذا ذكر أصحاب السّير، فواعدهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يأتيهم يومًا، فأتاه الوحي بهـٰذه الآية في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًَا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾( ) ثم بعد أن ذكر هـٰذه الأوصاف الموجبة للتحريم قال بعد ذلك: ﴿لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾. فنهاه عن القيام، وأبَّد هـٰذا النهي للدلالة على أن هـٰذا المسجد لا يكون لله ولرسوله، إنما هو للنفاق والمقاصد التي تقدّم ذكرها من الضرار والكفر والتفريق بين المؤمنين والإرصاد لمن حارب الله ورسوله، مع أنهم قدّموا الأيْمَان إنما أرادوا بذلك الإحسان، لكنها رُدت عليهم، وأثبت الله شهادتهم عليهم بالكذب فقال: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾.
بعد هـٰذا كله قال: ﴿لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾ والشاهد في هـٰذه الآية على الباب أنه إذا كان المسجد -وهو بيت من بيوت الله –عز وجل-، والذي يعبد فيه الله -جل وعلا- منع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الصلاة فيه لكونه مقصودًا للضرار والكفر والتفريق بين المؤمنين والإرصاد لمن حارب الله ورسوله، فالمنع من الذبح في الأماكن التي يذبح فيها لغير الله -عز وجل- من باب أولى، هـٰذه هي مناسبة ذكر هـٰذه الآية في هـٰذا الباب، وأنه إذا منع الله رسوله من القيام في مسجد من المساجد لأجل أن غرض أهله وأصحابه سيئ وقبيح -وهو أمر غير ظاهر- فالمنع من التقرب إلى الله في الأماكن التي يكفر فيها به ويشرك فيها به من باب أولى، ولذلك لما نهاه الله تعالى عن القيام في ذلك المسجد لما فيه من المفاسد أمره بأن يقوم فيما أُسِّسَ على التقوى فقال: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ﴾. فدلّ ذلك على أنه يجب على المؤمن أن يتحرى في عبادته مواطن القبول، وألا يشارك أهل الشر ولو كانت المشاركة في عمل خالص لله عزّ وجل. ومما يدلّ على هـٰذا الحكم أيضًا قول الله –تعالى- في بيان المحرمات من الذبائح: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾. فإن النُّصُب قيل: إنها أحجار تذبح العرب عندها وتنشر عليها اللحم تبرّكًا، وقيل: إنها أصنام. والمهم أنهم يذبحون عندها تعظيمًا لها سواء أكانت أحجارًا أم أصنامًا، فنهى الله -عز وجل- عن أكل ما ذُبح على النصب لأنه من جملة الشرك والكفر.
ومما يدل على ذلك أيضًا -يعني على الترجمة التي ذكرها المؤلف: لا يذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله- قول الله تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾( ).
فمنع الله عز وجل أهل الإيمان من مشاركة الخائضين في آيات الله بالكفر والاستهزاء، وأمرهم بالمفارقة في هـٰذه الحالة، فالمشاركة في الأماكن التي يُعظم فيها غير الله ويذبح فيها لغيره أعظم وأخطر. المهم الدلائل على ما ذكره المؤلف رحمه الله كثيرة من هـٰذه الآية التي ذكرها وغيرها من الآيات.
ذكر المؤلف -رحمه الله- بعد ذلك دليلاً من السنة، وهو حديث (ثابت بن الضحاك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-قال: نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة.) وبوانة اسم مكان قيل: في الشّام، وقيل: إنها قرب ينبع، وقيل: إنها في أسفل مكة قريبة من ميقات يلملم. ولا حاجة للبحث في تحديد مكانها، المهم مكان من هـٰذه الأمكنة، قال: (فسأل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن هـٰذا النذر: هل يفي به أو لا؟ فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟)) قالوا: لا. قال) أي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( ((فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟)) قالوا: لا). فسأل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سؤالين، السؤال الأول سأل: ((هل كان فيها)) أي هـٰذا المكان بوانة ((هل كان فيها وثن يعبد من دون الله؟)) سواء أكان على صورة أم على غير صورة، وفرقوا بينه وبين الصنم في أنه على صورة مجسمة وأن الصنم على صورة غير ممثلة بشيء. أما الوثن فهو ممثل إما بإنسان أو بحجر أو بغيره أو شجر، على كل فالصحيح هو كل ما يعبد من دون الله. ولذلك لما دخل عدي بن حاتم على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد لبس الصليب قال له: ((انزع عنك هـٰذا الوثن)). فهو كل ما يعظم من دون الله.
سأل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرجل الذي سأله عن الوفاء بنذره: (((هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟)) قالوا: لا). المجيب هم الصحابة، ويحتمل أن يكون الرجل ومن معه إن كان معه جماعة قد أتوا، أو من حضر مجلس رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ثم سأل سؤالاً آخر فقال: ((هل كان فيها عيد من أعيادهم؟)). والعيد هو كل ما يعود ويتكرر مما يحصل فيه الاجتماع أو عمل معيّن، وذلك يكون في الأزمنة وفي الأمكنة: أمّا الأزمنة فكيوم الجمعة وعيد الفطر وعيد الأضحى، وأما الأمكنة فأيام منى ويوم التّروية ويوم عرفة، فإنها من الأعياد المكانية؛ لأنّ الناس يعودون إليها كل عام في وقت محدد. (فقالوا: لا. فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((أوف بنذرك)).) فأذن له رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالوفاء بالنذر.
وهل هـٰذا أمر إيجاب أو أمر استحباب؟
العلماء لهم في هـٰذا قولان، منهم من قال: إنه أمر إيجاب؛ لأن الأصل في النذر الوجوب، وهـٰذا ليس نذرًا مباحًا؛ لأنه نذر يتعلق بمنفعة أهل ذلك المكان، فكما لو نذر أن يتصدق على أهل بلد من البلدان فإنه يتعيّن عليه أن يرسل صدقته التي نذرها إلى أهل تلك الجهة التي نذرها؛ لأنه تقرّب إلى الله عز وجل بفعل معين، وليس نذرًا مباحًا يُخَير الإنسان فيه بين الفعل والترك. ومنهم من قال: إن قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((أوف بنذرك)) هو رخصة، ولا يجب عليه أن يفي بنذره في ذلك المكان، إنما الواجب عليه أن يفي بالنذر أي بأصل النذر لا بمكانه. والظاهر أن عليه أن يفي بالنذر وبمكانه إذا كان قصده نفع تلك الجهة؛ لأنه من الطاعة التي تدخل في عموم قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)). فهو من الطاعة.
ثم قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- -بعد أن قال له: ((أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله)). فأفادنا هـٰذا القول أنه إن كان المكان الذي نذر العبادة فيه من ذبح أو غيره فيه وثن من أوثان الجاهلية، أو فيه عيد من أعيادهم فإنه لا يجوز الوفاء بالنذر، بل هو من نذر المعصية الذي لا يجوز الوفاء بالنذر فيه, فإن كان الناذر يقصد تعظيم ذلك المكان فإنه يكون شركًا أكبر، ولا يمنع هـٰذا أنه يكون معصية؛ لأن المعصية تشمل الشِّرك وما دونه؛ لأنَّ المعصية هي مخالفة الأمر بشرك فما دونه , وإن كان قصده التقرّب إلى الله في ذلك المكان دون تعظيمه إنما موافقة لمن يفعله فهـٰذا من الشرك الأصغر؛ لأنه من أسباب الشرك.
وعلى الحالين لا يجوز له الوفاء بنذره، يحرم عليه الوفاء بالنذر؛ لأنّه من المعصية، وقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)).
ثم قال: ((ولا فيما لا يملك ابن آدم)) أي: ليس على المؤمن الوفاء بنذر إلا فيما يملكه، فإذا نذر أن يتصدق بما لا يملك فإنه لا يجب عليه الوفاء؛ لأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾( ) وهـٰذا لا يستطيع. لكن هل تكون ذمته بريئة، أي: لا يلحقه شيء بهـٰذا النذر؟
الجواب: لا، يجب عليه أن يكفر كفارة يمين؛ لأن كل نذر لا يتمكن الإنسان من الوفاء به شرعًا أو حسّاً فإنه يجب عليه أن يكفر؛ لعموم قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((كفارة النذر كفارة اليمين)).
وعلى هـٰذا من نَذَر نَذْر معصية، من نذر أن يذبح في مكان يعظم فيه غير الله، هل يجب عليه الوفاء؟
لا يجوز له الوفاء، ويجب أن يذبح لكنه في غير هـٰذا المكان، يبقى فوات المكان هل يكفر عنه؟
الجواب: نعم يكفر عنه؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبر في حديث عقبة بن عامر بالعموم فقال: ((كفارة النذر كفارة اليمين)). وفي حديث عائشة الذي رواه الخمسة أن نذر المعصية لا يجب الوفاء به وقالت: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((وكفارته كفارة يمين)). فدل ذلك على أن نذر المعصية يكفر عنه إذا لم يف به الإنسان، لا يجوز له أن يفي به لكن لا يسقط عنه النذر بمنعه وعدم جواز الوفاء، بل يجب عليه الكفّارة.
ثم قال رحمه الله: (رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما)، أي: إسناد الحديث على شرط البخاري ومسلم. والحديث صحيح، صححه جماعة من العلماء المتقدمين والمتأخرين. الشاهد فيه أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن وفاء النذر إذا كان معصية، ومنه إذا كان في المكان وثن من أوثان الجاهلية يعبد، أو كان فيها عيد من أعيادهم.
[المتن]
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله: ﴿لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾( ).
الثانية: أن المعصية قد تؤثر في الأرض، وكذا الطاعة.
[الشرح]
ما فيه إشكال أن المعصية قد تؤثر في الأرض، ومن تأثيرها في الأرض أنه لا يجوز الذبح في المكان الذي يذبح فيه لغير الله، ومن تأثيرها في الأرض أن الله -عز وجل- نهى نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن القيام في هـٰذا المسجد لما كان الغرض منه والمقصود من بنائه الكفر والتفريق والصد عن سبيل الله والإرصاد لمن حارب الله ورسوله.
[المتن]
الثالثة: رد المسألة المُشْكلة إلى المسألة البيِّنة ليزول الإشكال.
[الشرح]
وهـٰذا لا يختص بهـٰذا الباب، بل هو في كل باب: إذا أشكلت عليك مسألة وخفي عليك شيء من وجهها أو حكمها فردها إلى المسألة البينة. ومراد المؤلف رحمه الله أنه رد في هـٰذا الباب مسألة الذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله إلى قوله تعالى: ﴿لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾. فالمسألة هنا واضحة ظاهرة، وبها يتبين حكم المسألة التي ترجم لها المؤلف رحمه الله.
[المتن]
الرابعة: استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك.
[الشرح]
وذلك أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما سأله الرجل: هل يفي بنذره؟ سأله قال: (((هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟)) فقالوا: لا. قال: ((هل كان فيها عيد من أعيادهم؟)) فقالوا: لا). وهـٰذا استفصال، وهو مما يحتاج إليه المفتي ليصل إلى الجواب الصواب , وذلك فيما يحتاج إلى استفصال من مسائل العلم.
وكثيرًا ما يستفتى الشخص وقد يبادر إلى الجواب، ثم مع المناقشة من المستفتِي يتبين أن جوابه غير مطابق للصواب، بحكم أن المستفتِي قد أخفى شيئًا له أثر في الحكم، لم يبين شيئًا يظن أنه لا يؤثر في الحكم. ويقابل هـٰذا أن بعض المستفتين يأتي بالقصة من أولها إلى آخرها، ويذكر نوع الطعام والشراب والمنام وأشياء تفصيلية لا أثر لها في الحكم يظن أنها تؤثر. والوسط أن ينظر المفتي ما يحتاجه من الاستبانة فيستبينه من المستفتي حتى يصل إلى الحكم، كما جرى من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هـٰذه المسألة.
[المتن]
الخامسة: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع.
[الشرح]
أي: إنه يجوز لا لكونها مقصودة بذاتها، إنما لكون المقصود نفع أهلها، أما قصد بقعة معينة بعبادة لأجل البقعة فهـٰذا غير مشروع إلا في المساجد الثلاثة: ((لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)). فكل من قصد مكانًا معينًا بعبادة وجعلها محلاًّ لعبادته -والقصد هو المكان بعينه لا من في المكان- فإنه يمنع منه؛ لعموم قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)).
[المتن]
السادسة: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية ولو بعد زواله.
[الشرح]
لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سأل: ((هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟)) يعني: في الماضي. ((وهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ )). وهـٰذا يشمل النهي عن ذلك إذا كان قائمًا موجودًا أو إذا كان قد مضى وانتهى؛ لأنه إذا كان موجودًا فهو مشاركة فعلية لهم، وإذا لم يكن موجودًا فهو إحياء لما كانوا يعتقدونه، وفي كلتا الحالين فهو محظور من جهة أنه سبب من أسباب الشرك.
[المتن]
السابعة: المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم ولو بعد زواله.
الثّامنة: أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة؛ لأنه نذر معصية.
[الشرح]
والنّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)). والشّرك من أعظم ما يعصى به الله عز وجل: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾( ) فلا يجوز الوفاء بالنذر إذا كان يتضمن الشرك أو إذا كان وسيلة إلى الشرك؛ لأنه من المعاصي بل هو أعظم المعاصي، وإن كان يشاركها في الجملة ولكنه أعظم منها خطرًا وأعظم منها عقوبة وإثمًا.
[المتن]
التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده.
[الشرح]
وذلك أنّ هـٰذا الرجل لم يقصد بهـٰذا النذر مشابهة المشركين، إنما قصد الذبح لله في هـٰذا المكان فليس له غرض في مشابهتهم، ومع ذلك (سأل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ ... هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ ))). ولم يقل: هل قصدت إحياء ما كانوا يعظمونه من الأعياد والأوثان؟ بل نهاه. وهـٰذه فائدة وقاعدة مهمة، وهي: أن مسائل التشبه لا دخل للمقاصد فيها. نهى الشارع عن التشبه بالكفار، فإذا قال قائل في فعل فعله مما يختص بالكفار مشابهة لهم: أنا لم أقصد التشبه. نقول: أنت منهي عن ذلك ولو لم تقصد التشبه، فتكون آثمًا بمجرد الموافقة ولو لم يكن هناك قصد التشبه، فإذا كان قصد التشبه موجودًا ازداد الإثم إثمًا فكان الإثم في عمل القلب وعمل الظاهر، لكن التشبه بنفسه إثم ولو لم يكن فيه قصد مشابهة أهل الكفر. وقد قرر هـٰذا شيخ الإسلام رحمه الله في اقتضاء الصراط المستقيم تقريرًا واضحًا بينًا، وأنه لا أثر للقصد في التشبه من حيث المنع، وأنه يمنع سواء قصد أو لو لم يقصد.
[المتن]
العاشرة: لا نذر في معصية.
[الشرح]
لا نذر ابتداءً ولا نذر وفاءً، يعني: لا يجوز أن ينذر الإنسان ابتداءً معصية من المعاصي، ولو نذر فإنه لا يجوز له الوفاء. والمعصية هي كل ما نهى عنه الله ورسوله، فلا يجوز نذر المعصية، ولا الوفاء بتلك المعصية إذا نذر.
[المتن]
الحادية عشرة: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك.
[الشرح]
وهـٰذا واضح في قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((ولا فيما لا يملك ابن آدم)). وقوله: ((لا يملك)) يشمل ما إذا نذر ما ليس في ملكه- يعني: ما ليس تحت يده- كأن ينذر أن يذبح شاة ليست في يده: إما في يد غيره أو أنه لم يملكها , وكذلك يدخل في هـٰذا فيما لا يملك أي فيما لا يقدر ولا يستطيع، ففيه النهي عن النذر بنوعيه: نذر ما لا يستطيعه الإنسان، ونذر ما ليس تحت يده.
هل يترتب على هـٰذه الأنواع من النذر شيء؟
الجواب: إذا نذر نذر معصية أو نذر ما لا يستطيعه فإنه يكفره كفارة يمين؛ لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((كفارة النذر كفارة اليمين)). وهـٰذا يشمل جميع أنواع النذر، لكن يبقى نذر الشرك سيأتينا البحث فيه في الباب القادم هل يكفره أو لا يكفره؟
¹
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
[المتن]
باب من الشرك النذر لغير الله
وقول الله تعالى: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾( ). وقوله: ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ﴾( ).
وفي (الصحيح) عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها-، أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)).
[الشرح]
فهـٰذا الباب مناسبته لكتاب التوحيد ظاهرة، وهي: أن النذر عبادة كما دل عليه الكتاب والسنة، فصرف النذر لغير الله شرك أكبر ينافي التوحيد، هـٰذه مناسبة الباب لكتاب التوحيد. وأما مناسبته للباب الذي قبله: ففي الباب الذي قبله ذكر النذر في حديث (ثابت بن الضحاك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-في قصة الرجل الذي نذر أن ينحر إبلاً ببوانة)، فذكر في هـٰذا حكم النذر، وأنه من الشرك أن ينذر لغير الله، والآن يذكر الشرك في العبادة نفسها، وهو الشرك الأكبر بصرفها لغير الله؛ لذلك قال: (من الشرك النذر لغير الله.)
واللام في قوله: (لغير الله) لام التعليل، أي: لأجل غير الله تعبدًا فإنه يكون قد وقع في الشرك. ويشمل هـٰذا إذا ما نذر لغير الله تعبداً صرفًا: كأن يتقرب للولي بالنذر، أو يتقرب للقبر بالنذر، ويشمل أيضًا ما إذا كان نذره لغير الله لسبب: إما دفع ضر، أو جلب نفع. مثاله: النذر للجن، فإذا نذر للجن ليدفعوا عنه شرّاً أو يجلبوا له نفعًا فإنه يكون قد وقع في الشرك الأكبر.
والنذر أصله هو إلزام المكلف المختار نفسه لله شيئًا غير محال. هـٰذا أصل النذر، وأما صيغته فالصحيح أنه لا صيغة له محددة، بل ينعقد النذر بكل قول يدل عليه. فقول الله تعالى في سورة براءة فيما قصه عن المنافقين: ﴿لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ﴾ هـٰذا نذر، هل فيه لفظ النذر؟ ليس فيه لفظ النذر لكن فيه معناه، وهو ماذا؟ إلزام النفس بشيء لله تعالى.
واعلم أن النذر قد يتأكد بالقسم أو يتأكد بالمؤكدات، لكن هـٰذا لا يخرجه عن كونه نذراً، فإذا قال: لله علي عهد أن أذبح. هـٰذا نذر أو لا؟ نذر؛ لأن النذر معناه إلزام النفس بشيء لله تعالى، سواء بلفظه أو بغير لفظه، لذلك فإن الفقهاء رحمهم الله تعالى في تعريف النذر قالوا: بكل قول دل عليه. والمؤلف رحمه الله بيَّن في الترجمة حكم النذر فقال: (باب من الشرك النذر لغير الله.)
سؤال: هل هـٰذا الشرك أصغر أو أكبر؟
هـٰذا شرك أكبر؛ لأنه نذر عبادة وقد صرفها لغير الله، فلا إشكال أنها من الشرك الأكبر.
ذكر المؤلف رحمه الله في هـٰذا الباب آيتين وحديثًا. أما الآيتان فقال: (وقول الله تعالى: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾.) وهـٰذا على وجه الثناء والمدح في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾( ) ثم أثنى عليهم وبين أن من أسباب استحقاقهم لهـٰذا الفضل المذكور وفاءهم بالنذور فقال: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾. ومعنى الوفاء بالنذر هو: إتيان ما عاهد الله عليه، وهـٰذا يدل على أن الوفاء بالنذر من العبادات والقربات التي يؤجر عليها الإنسان.
لكن يبقى النظر في النذر نفسه، هل هو مما حثت عليه الشريعة وأمرت به؟
الجواب: لا، بل إن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن النذر، كما في حديث ابن عمر في الصحيحين وقال: ((لا يأتي بخير)). لكن هـٰذا من حيث إنشاء النذر، أما من حيث الوفاء به فإن الوفاء به من القربات، بل هو من القربات التي يستحق بها صاحبها النعيم في الآخرة؛ للآيات التي ذكرناها قبل قليل، فهو من صفات الأبرار.
وقوله: ﴿بِالنَّذْرِ﴾ هنا يشمل كل ما أوجبه الله عز وجل؛ لأن الأصل في النذر الوجوب، ومما أوجبه الله على عباده أنهم إذا عاهدوه عهدًا وجب عليهم الوفاء به، وهـٰذا المعنى العام للنذر يشمل كل الواجبات: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ يعني كل ما أوجبه الله عليهم يقومون به ويفعلونه.
أما القول الثاني في الآية فهو: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ المعين الخاص، وهو ما ألزموا به أنفسهم.
هل جاء في القرآن ما يدل على المعنى الأول أن النذر هو كل ما أوجبه الله عليهم؟
في قوله تعالى: ﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾. ومعلوم أن من قصد البيت لم ينذر نذراً، إنما المقصود ليوفوا نذورهم أي ليكملوا ويفعلوا ما أوجبه الله عليهم من فرائض الحج.
إذاً النذر في هـٰذه الآية يحتمل أن يكون بمعناه العام، وهو: ما أوجبه الله على الإنسان. ويحتمل أنه على المعنى الخاص، وهو: ما ألزم الإنسان به نفسه من الطاعات.
وقوله: ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ﴾. وهـٰذا فيه الإشارة إلى (وجوب الوفاء بالنذر)، وذلك في قوله: ﴿أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ﴾. فقول الله: ﴿فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ﴾ ما فائدة ذكر العلم هنا؟ هي المجازاة على فعله والمعاقبة على تركه، وإلا فمعلوم أن الله تعالى يعلم من الإنسان كل ما يكون منه، فالله عز وجل بكل شيء عليم، لكن لما خص ذلك في هـٰذه الآية دل على أن المقصود حصول المجازاة بفعل ما تقدم وحصول المعاقبة بترك ما تقدم. والشاهد في الآيتين للباب إثبات أن النذر عبادة، وإذا ثبت أنه عبادة دل على ما ترجم له المصنف في قوله: (باب من الشرك النذر لغير الله)؛ لأنه لو قال قائل: الآية ليس فيها أنه من صرف النذر لغير الله فقد أشرك، فكيف الجواب؟
الجواب: أن الآيات تفيد أن النذر والوفاء به عبادة، وإذا كان عبادة فإن صرف العبادة لغير الله حكمه الشرك، وصرفه لله عز وجل توحيد وطاعة.
ثم قال: (وفي الصحيح عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)).)
((من نذر أن يطيع الله)). وهـٰذه تشمل جميع ما أمر الله به ورسوله. فـ ((من نذر أن يطيع الله)) يعني: أن يقوم بما أمر الله به ورسوله على وجه الوجوب أو على وجه الاستحباب، فإنه يلزمه الوفاء بما نذر. فمن نذر أن يصلي الفجر يجب عليه أن يصلي الفجر أو لا؟ يجب عليه في أصل الشرع؛ لأن الله فرضها على جميع الناس، ويجب عليه أيضًا وجوباً زائداً؛ وفاءً بنذره والتزامه. من نذر أن يتصدق، يعطي المساكين من غير الزكاة، هـٰذا نذر وفعله مستحب في الأصل، لكنه ينتقل إلى الوجوب بنذره؛ لقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((من نذر أن يطيع الله فليطعه)).
الشاهد في الحديث قوله: ((ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)). وهـٰذا فيه حكم النذر إذا كان معصية، وتقدم لنا أن المعصية هي مخالفة أمر الله ورسوله، وأعلى ما يكون في المعاصي الشرك بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فمن نذر شركًا ما حكم الوفاء بالنذر في الشرك؟
يحرم أن يفي به؛ لأجل أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)).
إذا حرم عليه الوفاء به هل يلزمه بنذر المعصية شيء؟
هذة مسألة وقع الخلاف فيها بين أهل العلم في نذر المعصية إذا نذره الإنسان، اتفقوا على أنه لا يجوز له أن يفي بالنذر؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)). ووقع الخلاف بين العلماء إذا ما نذر نذر معصية هل تجب بنذره كفارة أو لا؟ قولان:
الجمهور على أنه لا كفارة.
والقول الثاني أن فيه الكفارة، وهو قول ابن القيم، واختاره شيخنا عبد العزيز بن باز وشيخنا محمد العثيمين - رحم الله الجميع -، واستند القائلون بوجوب الكفارة في نذر المعصية إلى حديث عائشة عند الخمسة وعند الإمام أحمد وأصحاب السنن، وفيه قالت: ((لا نذر في المعصية، وكفارته كفارة يمين)). ويدل له أيضاً عموم حديث عقبة في صحيح مسلم: ((كفارة النذر كفارة اليمين)). وهـٰذا لا إشكال فيه إذا ما كان النذر نذر معصية دون الشرك، أما إذا كان النذر شركاً فقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: إنه لا ينعقد، يعني: لا يثبت به شيء، يجب على صاحبه أن يتوب، ولا يترتب على قوله شيء، ولا تلزمه كفارة، ولا يلزمه إلا التوبة والاستغفار، وهـٰذا لا إشكال فيه، وهو الصحيح فيما لو نذر نذراً شركيّاً، أما إذا نذر نذر معصية؟ ففيه الخلاف الذي ذكرناه: قول الجمهور، وقول ابن القيم ومن اختاره.
لذلك فمن المستحسن أن نقول: إن نذر المعصية ينقسم إلى قسمين: إذا كان شركًا فإن هـٰذا لا ينعقد أصلاً؛ لأنه صرف العبادة لغير الله، والكلام في النذر وتكفيره فيما إذا كان النذر يتقرب به الإنسان إلى الله عز وجل، فهنا نقول: لا تفِ بنذر المعصية؛ لأنه لا يتقرب إلى الله عز وجل بالمعصية، ولكن يلزمك كفارة لهـٰذا النذر؛ للأحاديث التي مرت، أما نذر الشرك فإنه لا ينعقد من أصله.
¹
شرح
كتاب التوحيد
الذي هو حق الله على العبيد
لشيخ الإسلام والمسلمين مجدد الدين
محمد بن عبد الوهاب التميمي المشرفي
- رحمه الله تعالى-
لفضيلة الشيخ
الدرس العاشر
www.almosleh.com
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
[المتن]
باب: من الشرك الاستعاذة بغير الله
وقول الله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾( ).
وعن خولة بنت حكيم -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: ((من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك)). رواه مسلم.
[الشرح]
يقول رحمه الله: (باب: من الشرك الاستعاذة بغير الله، وقول الله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾.)
هـٰذا الباب مناسبته لكتاب التوحيد ظاهرة، فإن الاستعاذة هي طلب العوذ، والعوذ هو طلب الحماية والحفظ، فيكون معنى الاستعاذة طلب الحماية والحفظ. والحماية –والحفظ- المطلقة التامة إنما تكون من الله تعالى، وإذا كانت كذلك فإن طلبها من غير الله تعالى يكون من الشرك الذي يقدح في توحيد صاحبه. لم يبين المؤلف -رحمه الله- من أي أنواع الشرك، لكن ترك بيان ذلك لظهوره ووضوحه، فإن الاستعاذة نوع دعاء، الاستعاذة في الحقيقة دعاء خاص وهو دعاء الحماية والحفظ، ويكون في طلب دفع الشر قبل وقوعه، وكذلك يكون في طلب رفعه بعد وقوعه، فإذا كان دعاءً فصرفه لغير الله شرك أكبر أم أصغر؟
شرك أكبر؛ لأن الدعاء لله وحده كما تقدمت الأدلة على ذلك، وكما سيأتي إن شاء الله تعالى في الباب الذي بعده.
المهم أن قوله: (من الشرك) أي: من الشرك الأكبر، وعرفنا معنى الاستعاذة وأنها تكون في دفع الشر وفي رفعه. أما في دفعه فكقول القائل: أعوذ بالله العظيم، وسلطانه القديم، من شر الشيطان الرجيم. وكتعويذ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من عَوَّذه من الناس، كتعويذه الحسن والحسين، وكقوله: من نزل منزلاً فقال: ((أعوذ بكلمات الله التامات)). هـٰذا طلب دفع الشر قبل وقوعه. ويكون أيضاً في طلب رفعه بعد وقوعه، وهـٰذا ينازع فيه بعض أهل العلم ويقول: إن الاستعاذة لا تكون في الشر بعد وقوعه، إنما تكون في الشر قبل وقوعه.
والصحيح أنها تكون في الأمرين، دليل ذلك أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((إذا وجد أحدكم شيئاً فليضع يده على موضع الألم وليقل: أعوذ بعزة الله العظيم وقدرته من شر ما أجد وأحاذر)). وهـٰذه استعاذة من شر أمر نازل أو أمر متوقع؟ من أمر نازل، فهـٰذا دليل على أن الاستعاذة تكون من أمر نازل أي واقع، وتكون من الأمر الذي يخشى ويخاف وقوعه.
وقوله: (بغير الله). يشمل الاستعاذة بالملائكة، والاستعاذة بالجن، والاستعاذة بالصالحين والأولياء والأنبياء، ويشمل كل ما يستعيذ به الناس في دفع الشر عنهم، كل هـٰذا لا يجوز؛ لأن الأصل في الاستعاذة أنها حق لله تعالى. لكن ينبغي أن نعلم أن الاستعاذة التي هي حق لله عز وجل هي الاستعاذة المطلقة، أما الاستعاذة المقيدة، وهي: ما كان في مقدور الإنسان الحي الحاضر فإنها ليست من الشرك، سواءٌ أكانت بلفظ الاستعاذة أم بلفظ الاستعانة أم بلفظ الاستغاثة، لا حرج في ذلك.
ومنه قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم في خبر الدجال في صحيح مسلم: ((فمن وجد ملجأً أو مَعَاذًا فليعذ به)). فدل ذلك على أن الاستعاذة التي في مقدور الإنسان لا تكون من الشرك، وهـٰذا أمر مجمع عليه ولا خلاف فيه بين أهل العلم، فتنبه! إذ إن كلامنا في قول المؤلف رحمه الله: (من الشرك الاستعاذة بغير الله)، هي الاستعاذة المطلقة، ويندرج تحتها صور:
1- الاستعاذة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق، مثل: طلب النصر، وطلب هداية القلوب، وطلب مغفرة الذنوب، وما أشبه ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله، فهـٰذا سؤاله من المخلوق والاستعاذة بالمخلوق فيه من الشرك الأكبر.
2- ومما يدخل في قول المؤلف رحمه الله: (من الشرك الاستعاذة بغير الله)، الاستعاذة بالأنبياء والصالحين الميتين، فإن هـٰذا من الشرك.
3- ومثله أيضًا الاستعاذة بالحي الغائب.
4- ومثله أيضًا الاستعاذة بالحي ولو كان حاضرًا فيما لا يقدر عليه إلا الله.
كل هـٰذه الصور تدخل في قول المؤلف رحمه الله: (من الشرك الاستعاذة بغير الله). والذي يسلم من أنواع الاستعاذة من أن يكون شركًا هو الاستعاذة بالمخلوق الحاضر الحي فيما يقدر عليه.
بعد هـٰذا ذكر المؤلف -رحمه الله- في هـٰذا الباب آية وحديثًا.
أما الآية فهي: (وقول الله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾( ).)
هـٰذه الآية صلة ما ذكره الجن في سورة الجن، قالوا مخبرين عن أنفسهم: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ﴾ أي يطلبون العوذ ﴿بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ﴾ فماذا كانت عاقبتهم؟ ﴿فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾ أي: فزاد الإنسُ الجنَّ رهقاً، فالفاعل هم الإنس زادوا الجن رهقاً.
الرهق في لغة العرب يطلق على الإثم وغشيان المحارم والمعاصي، فيكون المعنى: أن الإنس لما استعاذوا بالجن زادوا الجن إثماً ووقوعاً في المعاصي والمآثم، وجه ذلك: أن الجن استكبروا وطغوا لما استعاذ بهم الإنس، فإن العرب في جاهليتهم كانوا إذا نزل أحدهم في واد من الأودية قال: أعوذ بسيد هـٰذا الوادي من سفهاء قومه. فتعاظم الجن في أنفسهم وقالوا: سُدنا على الإنس والجن. فكان ذلك سببًا لطغيانهم ولاستطالة شرهم، هـٰذا معنى قوله تعالى: ﴿فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾.
وجه الشاهد من الآية قوله تعالى: ﴿يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ﴾. فإن الاستعاذة الشركية كانت سببًا في زيادة الطغيان والكفر من الجن، ومن هـٰذه الآية يستفاد أنه لا يجوز الاستناد في الاستعاذة على غير الأسباب الظاهرة.
فالأسباب الخفية ليس لها اعتبار في الشرع
الجن ألا يمكن أن يكونوا حاضرين وقت الاستعاذة؟ بلى يمكن. ألا يمكن أن يكون سيدهم قادراً على منع سفهائهم من أذية هـٰذا؟ بلى. لكن لما كان ذلك أمرًا خفيّاً فإن الله جل وعلا منعه وذمه، وجعله من أسباب الزيادة في الكفر والطغيان والوقوع فيما حرم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وعليه فإنه لا يستند في الأسباب إلى الأسباب الخفية التي لا تظهر؛ لأنه ما لم يكن السبب ظاهرًا واضحًا سليمًا من الشرك من كل وجه لا يجوز تعاطيه، ولا يجوز أخذه، ولا يجوز الاعتماد عليه، يعني: العمل به.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (عن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: ((من نزل منزلاً))). منزلاً هنا نكرة في سياق الشرط، فتعم كل منزل ينزله الإنسان في حضره وسفره أو في سفره؟ في حضره وسفره؛ لأنه ما فيه دليل على أنه في السفر فقط، في العمار وفي الفناء، يعني: فيما بني من الأرض وفيما لم يبن.
من نزل منزلاً، بل بعض العلماء عمم ذلك حتى في المركوبات، فإذا ركبت السيارة فقلها أيضاً تسلم من الشر، إذا ركبت الطائرة قل هـٰذا تسلم من الشر، قال ذلك شيخنا عبد العزيز ابن باز رحمه الله.
((فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك)).
((فقال: أعوذ بكلمات الله)). وهـٰذا فيه الاستعاذة، وفيه الشاهد من الحديث، حيث وجه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الاستعاذة بكلمات الله التامات. و((الكلمات)) جمع كلمة، وهي ما تكلم به الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-. و((التامات)) التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه، وهـٰذا وصف كاشف أو وصف مقيد؟ وصف كاشف؛ لأن جميع ما تكلم به الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- تام لا نقص فيه؛ لأن الكلام صفته، وصفاته ليس فيها نقص: ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾( ) الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾( ).
فقوله: ((التامات)) هنا صفة كاشفة. فما المراد بالكلمات؟ هل هي الكلمات الشرعية، أم الكلمات الكونية؟
الشرعية كالقرآن والتوراة والإنجيل وما تكلم به -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في كتبه، أم الكلمات الكونية، وهي: كل ما تكلم به جل وعلا؟ فالمراد المعنى الثاني: الكلمات الكونية، يدل على ذلك أنه وصفها في حديث آخر فقال: ((اللاتي لا يجاوزهن بر ولا فاجر)). وهـٰذا إنما يكون في الكلمات الكونية؛ لأن الكلمات الشرعية هل يجاوزها الكافر أو لا؟ يتجاوزها الكافر ولا يلتزم بها، فالمراد بالكلمات هو الكلمات الكونية. ((أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)). وهـٰذه استعاذة بصفة من صفات الله جل وعلا.
وقد استدل الإمام أحمد رحمه الله بهـٰذا الحديث على أن كلام الله عز وجل صفة من صفاته، وأنه غير مخلوق؛ لأنه لا يجوز الاستعاذة بالمخلوق بحال من الأحوال، فلما كان كذلك دل هـٰذا على أن الكلام صفة من صفات الله عز وجل.
قال: ((من شر ما خلق)). والشر ضد الخير، وهو: ما يقبح من القول أو الفعل، فوجه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المؤمن إلى أن يستعيذ بكلمات الله الكونية القدرية من شر ما خلق. ((ما)) هنا بمعنى الذي، أي: من شر الذي خلق، وهل هـٰذا يشمل جميع الخلق؟ لا يشمل جميع الخلق؛ لأن من الخلق ما لا شر فيه كالجنة. وقال بعض العلماء: والملائكة وما أشبه ذلك مما لا شر فيه من الخلق، فيكون المعنى: من شر ما خلق أي من شر الخلق الذي فيه الشر، وليس كل مخلوق فيه شر.
قال: ((لم يضره شيء)). وهـٰذه أيضاً نكرة في سياق النفي، فيشمل الضرر الحسي والضرر المعنوي، كما ينزل بالإنسان من ضيق الصدر وما أشبه ذلك، هـٰذا هو المعنوي، والحسي كتسلط الآفات عليه والهوام وما أشبه ذلك. ((لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك)) يعني: من هـٰذا المنزل الذي ابتدأ نزوله بقوله: ((أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)).
والشاهد في هـٰذا الحديث الاستعاذة بالله عز وجل، وأنه لا يستعاذ إلا به -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وبصفاته، وهـٰذا أمان مؤقت أم مطلق؟ مؤقت بقوله: (((حتى يرحل من منزله ذلك)). رواه مسلم.)
[المتن]
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الجن.
الثانية: كونه من الشرك.
[الشرح]
وجه ذلك: ﴿فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾ أي كفرًا وطغيانًا، والوجه الذي ذكرناه أنه عبادة ودعاء، فصرفه لغير الله يكون من الشرك.
[المتن]
الثالثة: الاستدلال على ذلك بالحديث؛ لأنّ العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة، قالوا: لأنّ الاستعاذة بالمخلوق شرك.
[الشرح]
وقد عرفتم أن من استدل بهـٰذا الإمام أحمد -رحمه الله- في مناظرته للمعتزلة في مسألة خلق القرآن.
[المتن]
الرابعة: فضيلة هـٰذا الدعاء مع اختصاره.
[الشرح]
سبحان الله! كلمات معدودة: ((أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)). القرطبي -رحمه الله- شارح مسلم ذكر أن هـٰذا من أعظم الأذكار، وأنه منذ عرف هـٰذا الدعاء لم يتركه، ولم يصبه شيء، إلا مرة نزل منزلاً فلدغته حية أو عقرب، فلما تأمل وجد أنه لم يقل هـٰذا الذكر، يقول: فلم أزل أقوله. وهـٰذا فيه بيان فائدة الأذكار الشرعية، وأنها –إضافة إلى كونها اتباعًا للسنة وتحصيلاً للأجر- يحصل بها للإنسان نفع دنيوي، والنفع الدنيوي جائز أيضًا وهو من الفوائد، وسيأتينا إن شاء الله تعالى.
يعني: لو أن الإنسان قال هـٰذا الذكر ليحمي نفسه، ما كان في باله إلا أن يحفظ نفسه فإنه جائز ويحصل له مقصوده، لكن قد يفوته الأجر، أي: أجر اتباع السنة.
[المتن]
الخامسة: أن كون الشيء يحصل به مصلحة دنيوية -من كف شر أو جلب نفع – لا يدل على أنه ليس من الشرك.
[الشرح]
هـٰذه هي المسألة التي أشرنا إليها قبل قليل.
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
[المتن]
باب: من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ﴾( )الآية.
وقوله: ﴿فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ﴾( ) الآية.
وقوله: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ﴾( ) الآيتان.
وقوله: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾( ).
وروى الطبراني بإسناده أنه كان في زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من هـٰذا المنافق. فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ((إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل)).
[الشرح]
هـٰذا الباب في الحقيقة صلة الباب المتقدم؛ لأن الاستعاذة والاستغاثة الكلام فيهما واحد. مناسبة هـٰذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة؛ لأن الاستغاثة لا تكون إلا بالله جل وعلا، وهي عبادة، وهي نوع دعاء إلا أنه دعاء خاص كالاستعاذة، فلا يجوز صرفها إلى غيره -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وصرفها إلى غيره من الشّرك. والاستغاثة هي طلب الغوث، أي: طلب النصرة، وهي إنما تكون في الغالب عند اشتداد الكرب وضيق الحال، فإنه يُتلفظ بهـٰذا اللفظ ومشتقاته في طلب الإنقاذ من الشدة والكرب، والغالب أن يكون نازلاً بالإنسان. والاستغاثة كالاستعاذة فيما يجوز منها وما يحرم على التفصيل السابق، فالاستغاثة من حيث الأصل لا تكون إلا بالله عز وجل، ولا يستغاث إلا به جل وعلا، والاستغاثة التي تكون من الشرك هي:
1- أن يستغيث بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل.
2- أن يستغيث بالأنبياء والصالحين الأموات.
3- أن يستغيث بالغائب.
4- أن يستغيث بالحي الحاضر الذي لا يستطيع، وهـٰذا يدخل في القسم الأول.
5-أن يستغيث بالحي غير الحاضر، هـٰذا أيضاً مما يدخل في الشرك الذي ذكره المؤلف رحمه الله: (من الشرك أن يستغيث بغير الله).
وقوله: (بغير الله) كالكلام في الباب الذي قبله.
قوله: (أو يدعو غيره)، وهـٰذا تعميم بعد تخصيص.
(أو يدعو غيره) أي: يدعو غير الله سبحانه. والدعاء هنا هو دعاء المسألة، بقرينة السياق، وإلا في الأصل فالدعاء يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة، هـٰذا هو الأصل , لكن قرينة السياق دلت على أن المراد بالدعاء هنا هو دعاء المسألة. و(غيره) يشمل دعاء الملائكة والأنبياء، ودعاء الجن، ودعاء الصالحين، ودعاء الأموات، ودعاء الأحياء فيما لا يقدرون عليه , لكن إذا كان دعاءً فيما يقدر عليه، كأن قال له: أعطني كذا، فهـٰذا في اللغة يسمى دعاءً، أو ناداه باسمه وهو حاضر: أعطني كذا، فهـٰذا دعاء لكنه ليس مرادًا في هـٰذا الكلام.
ذكر المؤلف رحمه الله في الاستغاثة والدعاء عدة نصوص تدل على ما ترجم به أنه من الشرك أن يستغاث بغير الله أو يدعو غيره.
واعلم أن دعاء غير الله -عز وجل- على صور، منها ما هو شرك أكبر ومنها ما هو دون ذلك.
فدعاء غير الله من الأموات فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك، هـٰذا القسم الأول.
القسم الثاني من الأدعية الشركية: دعاء الميت، أو خطاب الميت تسأله أن يدعو لك الله، وصورته أن يأتي الإنسان إلى القبر ويقول: يا فلان اسأل الله لي كذا: تفريج الكُرَب، وهداية القلوب، وما أشبه ذلك من المطالب، هـٰذا النوع من الدعاء هل هو دعاء للميت؟ هـٰذا طلب للشفاعة، طلب للواسطة أن يدعو له الله، يعتقد أن الميت يسمعه وأن له جاهًا، فيسأله بناءً على هـٰذا أن يسأل الله له كذا وكذا. وهـٰذا النوع من أنواع الدعاء اختلف فيه أهل العلم من أهل السنة على قولين، منهم من قال: إنه بدعة منكرة، وهو وسيلة من وسائل الشرك؛ لأنه يدعوه اليوم أن يسأل الله له كذا وغدًا يتوجه بالسؤال إليه، وهـٰذا قول شيخ الإسلام -رحمه الله- في عدة مواضع من كلامه أنه بدعة منكرة. واختاره شيخنا محمد رحمه الله.
والقول الثاني أنه شرك أكبر يخرج به صاحبه من الملة، وهـٰذا هو الذي عليه كثير من أئمة الدعوة، وهو أن دعاء الأموات ولو كان دعاءً لطلب الدعاء من الله فإنه شرك أكبر يخرج به صاحبه من الملة.
القسم الثالث من أنواع الدعاء الشركي: الدعاء بالجاه، كأن تقول: اللهم إني أسألك بجاه فلان، هـٰذا استقر الأمر على تحريمه، وعند المتقدمين من السلف قول بجوازه، وممن قال بجوازه الإمام أحمد رحمه الله، وقد ورد في ذلك حديث موضوع، وهو ما ينسب إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ((إذا سألتم الله تعالى فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم)). وهـٰذا حديث كذب موضوع كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، لا يثبت عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- . هـٰذه أقسام الدعاء من حيث مراتبها في البدعة والشرك.
قال المؤلف رحمه الله: (وقول الله تعالى: ﴿وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ﴾.)
نهى الله رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو نهي لكل أحد، لكل من بلغه الخطاب- ﴿وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ﴾ والدعاء المنهي عنه أي أنواع الدعاء؟ هو دعاء العبادة ودعاء المسألة كما ذكرنا؛ لأن النهي عن الدعاء هو نهي عن نوعيه: دعاء العبادة الذي يشمل الصلاة والزكاة والحج وجميع العبادات، ودعاء المسألة الذي هو طلب الحوائج من الله تعالى. فنهى الله تعالى عن صرف العبادة لغيره، ونهى أيضاً عن سؤال غيره -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من دون الله. ﴿مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ﴾ هـٰذا فيه التعليل للنهي، ما علة النهي؟ لماذا نهى الله عز وجل عن دعاء غيره؟ لأنه لا ينفع ولا يضر، ومن كان لا ينفع ولا يضر فإنه من الجهل والحماقة وسوء العقل أن يصرف له الدعاء. ﴿فَإِن فَعَلْتَ﴾ يعني: إن أبيت ولم تنظر إلى ما أمرك الله به ﴿فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ﴾؛ ﴿فَإِن فَعَلْتَ﴾ أي دعوت غير الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- دعاء مسألة أو دعاء عبادة، ﴿فإنك﴾ الخطاب لمن وجه إليه الخطاب ﴿فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ﴾، والظلم هنا هو الظلم الأكبر، وهو الشرك الذي فيه قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾.
الخطاب على القول بأنه للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهـٰذا يفيد احتمال وقوع ذلك منه , أو بيان مرتبة العمل ولو لم يكن واقعًا منه؟
هـٰذا فيه بيان مرتبة العمل، مثل قوله تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾( ) ففائدة مثل هـٰذا هي بيان مرتبة العمل، أما من حيث الوقوع فإن الله عز وجل قد عصمه من الوقوع في المعاصي الكبار، فضلاً عن الشرك.
الشاهد في هـٰذه الآية قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ﴾ ففيه النهي عن دعاء غير الله، وفيه النّهي عن الاستغاثة بغير الله؛ لأن الاستغاثة تقدم لنا أنها دعاء خاص، نوع خاص من الدعاء.
قال: ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾؛ ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ﴾ اقتصر على هـٰذا ثم قال: الآية؛ لأن الاستغاثة تكون في أي شيء؟ في كشف الضر، فهـٰذا دليل على أنه لا يجوز الاستغاثة بغير الله عز وجل؛ لأنّه إذا كان لا كاشف لهـٰذا إلا الله فإنه لا يسأل غير الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-. وقوله: ﴿بِضُرٍّ﴾ سواء أكان ضرّاً قليلاً أم ضرّاً كبيرًا فذلك مما لا يسأل في كشفه إلا الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، ما لم يكن في مقدور الإنسان الحاضر فإنه لا بأس من طلب الغوث منه وطلب العوذ منه، ومنه قول الله جل وعلا في قصة صاحب موسى: ﴿فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ﴾( ) على أن بعض العلماء يقول: إن هـٰذه الآية لا يستدل بها على جواز الاستغاثة بالمخلوق؛ لأنها من رجل لا حجة في فعله، فإنه ظالم معتدٍ، ولذلك لما استنصره في اليوم التالي ﴿قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ﴾( ) فمثل هـٰذا لا يستدل بقوله. على كل حال الاستغاثة -طلب الغوث، طلب النصر- من الحي الحاضر فيما يقدر عليه جائزة، سواء سميناها استغاثة أو سميناها استعاذة أو سميناها استجارة. وهـٰذا محل إجماع لا خلاف فيه، وإنما المنهي عنه هو الاستغاثة والاستعاذة فيما لا يقدر عليه إلا الله، وفي الصور التي تقدم ذكرها.
وقوله تعالى: ﴿فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ﴾ هـٰذا في الدعاء؛ لأنه طلب خير: ﴿فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾. والرزق هنا يشمل الرزق الحسي والمعنوي، يشمل كل رزق يجب طلبه وابتغاؤه من الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فلا يطلب من غيره.
قوله: ﴿وَاعْبُدُوهُ﴾. هـٰذا عطف عام على خاص؛ لأن ابتغاء الرزق من الله عز وجل عبادة، وإنما قدمها لأن فيها بيان أن الرزق إنما سبيل تحصيله من الله عز وجل؛ لقطع حجج من يظن أن عبادة غير الله عز وجل هي سبب رزقه وسبب تحصيل مكسبه، فبين الله جل وعلا أن الرزق من عنده، وأنه يجب إفراده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بطلب الرزق، ولذلك قال: ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ فقدم ما حقه التأخير لإفادة الحصر. ﴿فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ﴾.
قال: (وقوله: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ﴾). ﴿وَمَنْ أَضَلُّ﴾ هـٰذا استفهام بمعنى النفي الذي يفيد سوء حال هـٰذا، وهو مشرب بالتحدي كما هو معلوم، فإن الاستفهام إذا جاء مضمنًا معنى النفي كان مشربًا بمعنى التحدي، يعني: أتحدّى أن يكون أحد أضل من هـٰذا، ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ﴾. وجه الضلال ظاهر أو لا؟ بينته الآية أم لم تبينه؟ بينته في قوله تعالى: ﴿مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ﴾ يعني: لو ظل يدعو ويسأل ويتضرع ويلح في سؤاله وطلبه ما حصَّل مطلوبه هـٰذا ولو استمر هـٰذا إلى يوم القيامة.
﴿وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ﴾ فهم في غفلة عن دعاء هؤلاء.
ثم قال: ﴿وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ كل هـٰذا بيان لوجه ضلال دعوة هؤلاء وطلب الحاجات منهم، سواءٌ أكانت دعاءً مطلقًا أم دعاء استغاثة أم دعاء استعاذة أم دعاء استجارة.
ثم قال: وقوله: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ هـٰذا استفهام أيضًا لبيان عظيم وصف الله عز وجل، وأنه لا يكشف ما نزل بالإنسان من الضرورات وما حل به من الكربات إلا هو -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فهـٰذا استفهام بمعنى النفي، أي: لا يجيب المضطر إذا دعاه ولا يكشف السوء إلا هو -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فإذا كان كذلك وجب ألا يسأل غيره، وألا يستغاث بغيره، وألا يستعاذ إلا به؛ لأن بيده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مفاتيح الفرج، وهو -جل وعلا- الذي يكشف السوء ويرفع ما نزل بالإنسان من الكربات والظلمات.
وكل هـٰذه الأدلة دالة على ما تقدم في الترجمة من أنه لا يجوز الاستعاذة بغير الله، ولا دعاء غيره، وأن من الشرك الاستعاذة بغير الله ودعوة غيره -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
قال رحمه الله تعالى: (وروى الطبراني بإسناده). أي: بإسناد الطبراني، ولم يبين المؤلف -رحمه الله تعالى- راوي الحديث ولا قصته؛ لأن المقصود المعنى الذي تضمنه، فقال رحمه الله: (أنه كان في زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منافق يؤذي المؤمنين.)
(المنافق) معروف، وهو: من أبطن الكفر وأظهر الإسلام. وهـٰذا هو الأصل في إطلاق هـٰذا الوصف، وأنه لا يطلق على النفاق العملي على وجه الإطلاق، وإنما يطلق على النفاق الاعتقادي؛ لأن المنافق في كلام السلف هو الزنديق، وهـٰذا لا يكون إلا لمن فسد اعتقاده بأن أبطن الكفر وأظهر الإسلام، فالذي عنده مخالفات في العمل وعنده خصال من خصال المنافقين لا يوصف بالنفاق المطلق، إنما نفاقه لا بد من تقييده وهو نفاق العمل، فالمنافق هنا هو من أظهر الإسلام وأبطن الكفر. (يؤذي المؤمنين). ولم يبيّن الحديث وجه الأذى، والغالب أن أذاهم قولي؛ لأنهم لا يجرؤون على الأذى الفعلي، أذاهم قولي بالسبّ والشتم والطعن والتشبيه والتشكيك والتحريض على المؤمنين والإرجاف بينهم وما أشبه ذلك. (فقال بعضهم). أي بعض المؤمنين: (قوموا بنا نستغيث برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). والقائل هنا هو أبو بكر كما بينته الروايات، فإن أبا بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هو الذي أشار عليهم بهـٰذا الرأي فقال: (قوموا بنا نستغيث برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
والاستغاثة هنا فيما يظهر هي في أمر مقدور للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أم لا؟
الجواب: أنها في أمر يقدر عليه ويستطيعه، هـٰذا الذي كان في ذهن الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- وعلى رأسهم أبو بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي أشار بهـٰذا الرأي، والاستغاثة هنا هي سؤال كف الشر من هـٰذا المنافق: إما بقتله، وإما بعقوبته، وإما بتهديده، وإما بغير ذلك من وسائل كف الأذى. وهم يذهبون إلى الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي هو ولي أمرهم، فهم يطلبون من ولي الأمر -وهـٰذا وصف أخص من وصف الرسالة- أن يكف شر أحد أفراد المجتمع، وهـٰذا في مقدور ولي الأمر أو لا؟ الغالب أنه في مقدوره، ولذلك أشار عليهم أبو بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بهـٰذا الرأي، فذهبوا (فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في جواب طلبهم: ((إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل)).
((لا يستغاث بي)) أي: لا يطلب الغوث في هـٰذا الأمر مني ((وإنما يستغاث بالله))؛ لأن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكن يستطيع أن يكف شر المنافقين، وكف الشر بمعنى القطع، أي: استئصال شرهم.
ويشهد لهـٰذا -أن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكن قادرًا على كف شرهم- أن شرهم بلغه في أهله كما في قصة الإفك، فاتهموا زوجه العفيفة الطاهرة بما رموها به من الإفك، ولم يملك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يكف أذاهم ولا شرهم، بل قال على المنبر: ((من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي؟)). فلم يتمكن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من كف أذاهم، مع علمه بمن أذاع الشر في أهله لم يتمكن من كف شره، وطلب العذر من الناس على المنبر.
فعُلم بهـٰذا أن قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ((إنه لا يستغاث بي، ولكن يستغاث بالله)). أنه لا يستطيع كف شر هـٰذا الرجل، ووجههم إلى من بيده كف كل شر، وهو الله -جل وعلا- فقال: ((إنما يستغاث بالله)). فرجعهم إلى الله تعالى الذي بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله: ﴿أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ﴾( ) ليكف شر هـٰذا عنهم.
هل هـٰذا الحديث يدل على عدم جواز الاستغاثة برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما لا يقدر عليه؟
الجواب: نعم يدل؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيّن لهم أنه في هـٰذا الأمر لا يستغاث به، مع أن هـٰذا الأمر -كما ذكرنا- المتوقع والمظنون والذي كان في ذهن الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- أنه في مقدور الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي استطاعته، فكيف بالاستغاثة به فيما لا يقدر عليه كمغفرة الذنوب، وهداية القلوب، وإصلاح الأمور، وكشف الكروب وما أشبه ذلك؟ هـٰذا من أبعد ما يكون، وهـٰذا دليل على أنه لا يجوز الاستغاثة بالمخلوق في كل ما لا يستطيعه ولا يقدر عليه، حتى لو ظن الإنسان المستغيث بأن المستغاث به يستطيع ذلك يجب عليه أن يبيّن له، وهـٰذا في الأمور التي يتوهم فيها أنه يستطيع أن يقوم بها، فكيف بالأمور التي لا يظن ولا يتوهم أنه يقدر عليها؟ ففي هـٰذه الحال فإن الإنكار فيه أشد.
لهـٰذا لم يشدد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النكير على الصحابة لما سألوه؛ لأنه أمر متوقع من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, بخلاف ذلك لما قال الرجل للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ما شاء الله وشئت. ماذا قال –عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-؟ قال: ((أجعلتني لله ندّاً؟)). فشدد في الأمر لأنه أمر يتعلق بالتوحيد، ولا يمكن أن يسوغ ولا يقبل التسوية بين الله وأحد من خلقه مهما كان. وكما جاء في الأثر أيضاً الذي قال للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : إنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك. فقال: ((سبحان الله، سبحان الله! شأن الله أعظم، إنه لا يستشفع بالله على أحد)). أي: لا تطلب الوساطة من الله عند أحد؛ لأنه جل وعلا الكبير المتعال. وهـٰذا يدلنا على أن السؤال الذي سألوه أمر ليس مما يقدح في توحيدهم، ولا مما ينقص إخلاصهم.
لكن يستفاد من هـٰذا أن سؤال ما لا يقدر عليه الإنسان يجب أن يفرد به الله جل وعلا، ولا يجوز سؤاله من أحد كائناً من كان. وحرف بعض المنحرفين عن السبيل المستقيم هـٰذا الحديث فقال: إن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله)). لا يدل على عدم جواز الاستغاثة به فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما قال ذلك على غرار قوله للأشعريين: ((ما حملتكم إنما حملكم الله)). وعلى غرار قول الله جل وعلا: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾. وهو ما يسمى في علم التصوف شهود القيومية، ومعناه: أن كل ما في الكون هو فعل لله تعالى.
فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما قال: ((إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث بالله)). يعني: أنكم لما استغثتم بي إنما استغثتم بالله، وهـٰذا يدل على أي شيء؟ على جواز طلب الاستغاثة منه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما لا يقدر عليه إلا الله، لماذا؟ لأنه إذا كانت الاستغاثة بالنبي –عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- هي استغاثة بالله فإن الموضوع إذاً واحد، لا فرق بين أن تقول: يا ألله أغثني، وبين أن تقول: يا رسول الله أغثني. الأمر واحد عند هؤلاء؛ لأن الفعل كله لله جل وعلا, وهـٰذا من تحريف الكلام عن مواضعه، وهـٰذا فيه نسبة الجهل لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، ونسبة سوء الظن بصحابة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- .
هـٰذا الحديث في سنده ضعف، ولم يصححه شيخ الإسلام رحمه الله، إنما ذكر أنه يحتج به على وجه الاعتضاد بغيره، لا على وجه الاستقلال في الاستدلال به؛ لأن مضمونه قد جاء في أدلة كثيرة في الكتاب والسنة، وما كان كذلك فإنه يذكر على وجه الاعتضاد لا على وجه الاستدلال والاعتماد, وفرق بين الاعتضاد والاعتماد:
• الاعتماد إثبات الحكم بالنص.
• والاعتضاد التقوي بهـٰذه الآثار لإثبات ما دلت عليه النصوص الصحيحة.
ومن هـٰذا ما يفعله بعض العلماء في تقرير ما ذهبوا إليه، فتجده يقول: المسألة حكمها كذا، والدليل من الكتاب كذا والدليل من السنة كذا، وقد يذكر أحاديث ضعيفة، ثم يأتي بآثار ما تعلم صحتها، ثم يأتي بأقوال ونقولات عن أهل العلم. كل هـٰذا لو استقل في الاستدلال، لو أن شخصاً استدل بقول شخص من هؤلاء الذين ساق كلامهم أو أثرا من الآثار الضعيفة على الحكم ما استقل في إثبات الحكم، لكنه يفيد في عضد الحكم وتقويته وإن كان ثابتاً بالأدلة الصريحة.
وأما الحديث ففيه علة، وهي أنه من رواية عبد الله بن لهيعة، وهو -رحمه الله- إمام فاضل وعالم جليل وقاضٍ مشهور من المفتين المشهورين، لكنه اختلط في آخر عمره مما تسبّب عنه ضعف حديثه، لكن الشيخ -رحمه الله- يقول: غالب ما يرويه صحيح, لكن لا يكفي في إثبات نسبة الحديث إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- .
[المتن]
فيه مسائل:
الأولى: أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص.
[الشرح]
واضح هـٰذا؛ لأن الاستغاثة دعاء خاص، وهو طلب النصرة.
[المتن]
الثانية: تفسير قوله: ﴿وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ﴾.
الثالثة: أنّ هـٰذا هو الشرك الأكبر.
الرابعة: أن أصلح الناس لو فعله إرضاءً لغيره صار من الظالمين.
الخامسة: تفسير الآية التي بعدها.
السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا، مع كونه كفرًا.
[الشرح]
وجهه قوله تعالى: ﴿مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ﴾، وأيضًا في قوله: ﴿فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ﴾، فإذا كان لا كاشف له إلا الله جل وعلا فدعاء غيره عبث ولا فائدة فيه، فهو لا يفيد الداعي، ويضره في دنياه وآخرته: أما في الدنيا فتجري عليه أحكام الكفر، وأما في الآخرة فمآله إلى النار: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾( ).
[المتن]
السابعة: تفسير الآية الثالثة.
[الشرح]
﴿فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾
[المتن]
الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله، كما أن الجنة لا تطلب إلا منه.
[الشرح]
وجه ذلك تقديم ما حقه التأخير: ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ تقديم الظرف.
[المتن]
التاسعة: تفسير الآية الرابعة.
[الشرح]
قوله: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ﴾.
[المتن]
العاشرة: أنه لا أضل ممن دعا غير الله.
[الشرح]
(من) مضمنة هنا معنى النفي، ذكرنا هـٰذا في تفسير الآية.
[المتن]
الحادية عشرة: أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه.
[الشرح]
الله أكبر! لقوله: ﴿مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ﴾. وهـٰذه غفلة ممتدة أم مؤقتة؟ غفلة ممتدة؛ لقوله: ﴿إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ﴾.
[المتن]
الثانية عشرة: أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له.
[الشرح]
وذلك لقوله: ﴿كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾.
[المتن]
الثالثة عشرة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو.
[الشرح]
وذلك لقوله: ﴿وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾.
[المتن]
الرابعة عشرة: كفر المدعو بتلك العبادة.
[الشرح]
يعني: كفر المسؤول بتلك العبادة، وأنه لا يقبلها ولا يقرّ بها، ويتبرأ منها؛ لأن الإقرار بها ندامة: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾( ) فإذا رضي دخل في هـٰذه الآية، ولذلك يكفر بها ويأباها وينكرها على فاعلها.
[المتن]
الخامسة عشرة: أن هـٰذه الأمور سبب كونه أضل الناس.
السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة.
[الشرح]
﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾
[المتن]
السابعة عشرة: الأمر العجيب، وهو إقرار عبدة الأوثان بأنه لا يجيب المضطر إلا الله، ولأجل هـٰذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين.
[الشرح]
نعم، فهم مقرون بهـٰذا؛ لذلك فهم يدعونه في الشدة ويتركونه جل وعلا في الرخاء.
[المتن]
الثامنة عشرة: حماية المصطفى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حمى التوحيد، والتأدب مع الله عز وجل.
[الشرح]
وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: ((إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله)).
وفي هـٰذا الحديث فائدة: أن الإنسان ينبغي له ألا يخجل إذا نسب إليه ما لا يستحق بالتبرؤ منه؛ لأن بعض الناس تحمله المجاملة على قبول كلام ليس فيه ووصف لا يستحقه، وهـٰذا خلاف ما كان عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فالواجب التبرؤ مما ليس في الإنسان، والواجب إثبات الفضل لأهله، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله)).
شرح
كتاب التوحيد
الذي هو حق الله على العبيد
لشيخ الإسلام والمسلمين مجدد الدين
محمد بن عبد الوهاب التميمي المشرفي
- رحمه الله تعالى-
لفضيلة الشيخ
الدرس الحادي عشر
www.almosleh.com
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
[المتن]
باب قول الله تعالى: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا﴾( ) الآية. وقوله: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ﴾( ) الآية.
وفي (الصحيح) عن أنس قال: شُجَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم أحد وكسرت رباعيته، فقال: ((كيف يفلح قوم شَجُّوا نبيهم؟)). فنزلت: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾( ).
وفيه عن ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أنه سمع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: ((اللهم العن فلانًا وفلانًا)). بعد ما يقول: ((سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمــد)). فأنزل الله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾ الآية.
وفي رواية: يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام، فنزلت: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾.
وفيه عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قام رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين أنزل عليه: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ فقال: ((يا معشر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئًا)).
[الشرح]
هـٰذا الباب مناسبته لكتاب التوحيد ظاهرة، وهي: أنه لا يجوز صرف العبادة لأحد مهما كان، ولو بلغ من الجاه والمكانة عند الله عز وجل الدرجة العليا، فإن أعظم البشر جاهًا عند الله عز وجل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، ومع ذلك لم يتمكن عليه الصلاة والسلام أن يدفع عن نفسه الشر، وذلك فيما جرى له يوم أحد، ولا أن يجلب لأحد الخير من غير إذن الله تعالى، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام لقومه: ((لا أغني عنكم من الله شيئاً)). ويأتي إن شاء الله تعالى مزيد من التفصيل في هـٰذا في الشرح، المهم أن المناسبة ظاهرة، فإن هـٰذا الباب يبين أن الإنسان مهما بلغ من المكانة والجاه عند الله عز وجل فإنه لا يخرج عن كونه مربوبًا ضعيفًا مفتقرًا إلى الله جل وعلا، لا يتمكن من قضاء الحوائج إلا ما أمكنه الله منه.
ومناسبته للباب الذي قبله ظاهرة: أنه في الباب الذي قبله ذكر الاستغاثة، وقبله ذكر الاستعانة، والغالب أن المستعين والمستغيث يستغيث بمن يعتقد أنه قادر على كشف ما نزل به ورفع ما حل به أو دفع ما يخشاه ويخافه.
وفي هـٰذا الباب بيان أن أعظم الناس جاهًا لا يتمكن من هـٰذا، فإذا كان أعظم الناس جاهاً لا يقدر على تحقيق هـٰذا فالسؤال منه عبث، هـٰذا فوق أنه شرك وكفر بالله عز وجل؛ لأن الإنسان إنما يسأل من ينتفع بسؤاله، ويطلب ممن يفيده الطلب منه، ويستغيث بمن يرجو منه كشف الكربات أو دفعها، فإذا كان لا يستطيع لا هـٰذا ولا هـٰذا فلا يسوغ الاستعاذة به، ولا يسوغ الاستغاثة به ولا دعاؤه.
المؤلف -رحمه الله- ذكر في هـٰذا الباب آيتين وحديثاً.
قال رحمه الله: باب قول الله تعالى: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا﴾. الاستفهام هنا استفهام إنكار وتعجيب من حال هؤلاء الذين غيبوا عقولهم وعطلوا أفكارهم، ووقعوا في أبين الضلال وأعظم الكفر: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا﴾ والشرك هنا يشمل شرك الربوبية ويشمل شرك الإلهية:
شرك الربوبية بإثبات الفعل لهؤلاء.
وشرك الإلهية بصرف العبادة لهم.
وهؤلاء لا يستحقون أن يصرف لهم شيء من العبادة، ولا أن يثبت لهم ما لا يثبت إلا لله جل وعلا، ولذلك ذكر الوصف الذي يسقط ويبين ضلال هـٰذا الفعل فقال: ﴿مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾. وهـٰذه حجة متكررة في القرآن الكريم: أن الله -جل وعلا- يستدل على بطلان عبادة الكفار بأنهم يعبدون من لا يخلق شيئاً وهم يخلقون، فالخلق من أعظم أدلة التوحيد؛ لذلك يذكر الله –جل وعلا- من آياته السماوية الأفقية والأرضية ما يدل على أنه الرب المستحق للعبادة؛ لكونه انفرد بخلق هـٰذه الأشياء، فهو المستحق بأن يفرد -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالعبادة: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾( ). والآيات التي يحتج الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بها على إبطال عبادة هؤلاء في عدم قدرتهم على الخلق كثيرة، ومنها هـٰذه الآية: ﴿مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا﴾. و﴿شَيْئًا﴾ هنا نكرة في سياق النفي, وما معنى الخلق هنا؟
الخلق هو الإيجاد من العدم، وهـٰذا لا يقدر عليه أحد ولو كان أصغر ما يكون، فإن الناس لا يخلقون إلا من مواد يركبون ويجمعون ويصنعون ويخلقون، لكن هـٰذا الخلق خلق مجازيّ؛ لذلك قال الله جل وعلا متحديًا من وقع في الشرك: ﴿هـٰذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾( ) فهـٰذا الدليل قائم، وهو خلق الله -جل وعلا- في السمٰوات والأرض والأنفس، فأين خلقكم؟ أو خلق من تعبدون وتدعون؟ لا خلق لهم لا في الدقيق ولا في الجليل؛ لأن الخلق هو الإيجاد من العدم، وهـٰذا لا يكون إلا من الله جل وعلا.
﴿مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا﴾ هـٰذا وصف ﴿وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ أي: إنهم هم مخلوقون، وهم قد أوجِدوا من قبل من العدم، فالمستحق للعبادة هو من أوجدهم وأنشأهم من عدم.
ثم قال في بيان الإنكار على هؤلاء في شركهم: ﴿وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا﴾ والنصر هنا يشمل كل ظفر، سواء كان في حرب أو في نقاش أو في جلب خير أو دفع شر أو غير ذلك، النصر هو الظفر ﴿وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾. فهم عاجزون عن نصر غيرهم وعاجزون عن نصر أنفسهم، ومن كان كذلك فإنه لا يستحق شيئاً من العبادة، ولا يصرف له شيء منها.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ﴾). تدعون من دونه دعاء مسألة ودعاء عبادة، ما يملكون من قطمير، (ما) هـٰذه نافية، ﴿يَمْلِكُونَ﴾ والملك هو تمام التصرف ﴿مِنْ قِطْمِيرٍ﴾ القطمير هو الغشاء الذي يغلّف نواة التمرة، وهو مثل يضرب في القلة والحقارة. والتمرة فيها أربعة أشياء تضرب مثلاً في لغة العرب للقلة والحقارة: هـٰذا القطمير في الآية في قوله: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ﴾. الثاني النقير، وذلك في قوله: ﴿وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾( ) الثالث الفتيل، وذلك في قوله: ﴿وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيَلاً﴾( ) الرابع ليس في القرآن، وهو التفروق.
والاقتصار على ما في القرآن كافٍ، ثلاثة أشياء في التمرة تضرب مثلاً للحقارة والقلة منها هـٰذا، فهؤلاء لا يملكون حتى غشاء نواة التمرة، فكيف يطلب منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات؟ إن هـٰذا لسفه بيِّن وضلال واضح: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (191) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكِمْ﴾. وهـٰذا نظير قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ الآيات.
المهم أن هاتين الآيتين قدم بهما المؤلف -رحمه الله- لبيان أن جميع ما يعبد من دون الله لا يخلق، وهو مخلوق، ولا ينصر غيره ولا ينصر نفسه، ولا يملك شيئًا. فإذا كان لا يخلق، وليس في قدرته النصرة، وليس له ملك، فكيف يعبد؟ عبادته وهو على هـٰذا الحال، هـٰذا من أعظم الضلال والسفه.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث ما جرى للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غزوة أحد، قال: (وفي الصحيح عن أنس قال: شُج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). والشج هو الجرح في الرأس، وقيل: الرأس والوجه. (شُج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم أحد، وكسرت رباعيته.) والرباعية هي مقدمة الأسنان. (فقال: ((كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟))). هـٰذا استفهام استبعاد، أن من جرى منهم مثل ذلك يبعد أن تقع منهم الهداية، ويبعد أن يحصل لهم الفلاح؛ لأنهم بلغوا في الكفر غايته والمعاندة منتهاها، قال -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: (فنزلت: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾.) وهـٰذا مضمن النهي عن استبعاد هداية هؤلاء بسبب ما وقع للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أذى؛ لأن الله جل وعلا بيده القلوب يصرفها كيف يشاء، فهو -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فلا يجوز أن يستدل بالحال الحاضر على ما يكون في المستقبل من الهداية والضلال. ولذلك قال ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فوالذي لا إلـٰه غيره! إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)). فالاستدلال بالحال الحاضر على المآل فيما يتعلق بالهداية أمر غير صحيح؛ لأن القلوب بيد الله جل وعلا يصرفها كيف يشاء، وهـٰذا يوجب غاية الحذر من كل أحد؛ لأنه إذا كانت القلوب بيد الله تعالى يصرفها كيف يشاء فإنه ينبغي للمؤمن أن يضرع إلى الله تعالى، وأن يلح عليه في الدعاء أن يحفظ قلبه من الزيغ والضلال، وألا يعتمد على جمال حاله الحاضرة ويستدل بها على حسن منقلبه وجميل خاتمته، فإن هـٰذا غير مطرد.
﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾ لماذا؟
لأن الله جل وعلا قد يتوب عليهم، ويدل على أن هـٰذا هو علة النهي تمام الآية، حيث قال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾. فقد تقع منهم التوبة فيسلمون، وقد وقعت التوبة كما أشارت الآية من كثير من هؤلاء: فأبو سفيان قائد حزب الكفار في تلك الوقعة أسلم وحسن إسلامه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وهـٰذا الحديث يدل على أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليس في يده شيء من الأمر، وأنه ليس له شيء من الأمر، فإذا كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منعه الله من أن يقول هـٰذه الكلمة التعجبية التي قد تكون صادرة عن انفعال حالي من شدة ما أصابه ووقع عليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، فكيف بمن يظن أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقدر أن يفعل ما لا يفعله إلا الله جل وعلا؟ فقد أبعد النجعة وأخطأ خطأً واضحًا بينًا.
((كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟)). فجاءت هـٰذه الآية: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾. لا الأمر الشرعي ولا الأمر الكوني، وهـٰذا مهم أن تعرفه، فإن الأمر هنا يشمل الأمرين، فالأمر الكوني فهو لله جل وعلا: ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾( ) ولا الأمر الشرعي؛ لأن الشرع هو شرعه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما يبلغ شرع الله جل وعلا، كما قال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (03) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى﴾( ).
ثم قال المؤلف رحمه الله: (وفيه عن ابن عمر أنه سمع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول إذا رفع رأسه من الركوع -أي في الركعة الأخيرة من الفجر-: ((اللهم العن فلانًا وفلانًا)). بعد ما يقول: ((سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد)). فأنزل الله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾.)
هـٰذا الحديث مناسبته للباب واضحة، وهي: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يملك أن يلحق الضرر أو ينزل السوء بأعدائه وخصومه، ولذلك سأل الله جل وعلا أن يلعنهم في قنوته (فقال: ((اللهم العن فلانًا وفلانًا))). هـٰذا من وجه. ومن وجه آخر أنه أيضًا لا يملك شيئاً، حيث إن الله عز وجل منعه حتى الدعاء عليهم بهـٰذه الصفة وهي اللعن المعين، فإذا كان كذلك فهو لا يملك أن يجلب لمن دعاه أو سأله أو استغاث به خيرًا أو يدفع عنه ضرّاً فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، أو بعد موته، وعلى هـٰذا فإنه لا يجوز الاستغاثة به ولا سؤاله ولا شيء من ذلك؛ لكونه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عبداً ليس له من الأمر شيء، كما قال الله -جل وعلا- في هـٰذه الآية التي كان من سبب نزولها هاتان القصتان: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾.
أما قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (((اللهم العن فلانًا وفلانًا)).) فقد بينته الرواية الثانية، وهي أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دعا على صناديد قريش الذين حاربوه وآذوا أهل الإسلام: يدعو على (صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام). وهـٰذا الدعاء دعاء النازلة، وذلك أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دعا على الكفار شهرًا لما قتلوا القراء، فلعن من قتل القراء، وعين أشخاصًا دعا عليهم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولعنهم، فأنزل الله عز وجل قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾. فكف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ذلك، ولم ينقل عنه أنه دعا على معين باللعن بعد هـٰذا.
وأما هـٰذا الحديث ففيه من الفوائد: مشروعية دعاء القنوت في الصلاة، ولا إشكال في هـٰذا، فإنه يشرع دعاء القنوت في الفرائض للنوازل، وهـٰذا أمر واضح ومعروف، ولكن في الحديث فائدة مهمة، وهي أنه في دعاء النازلة ودعاء القنوت إذا رفع الإمام من الركوع لا يزيد في الذكر بعد الرفع من الركوع على قول: ((ربنا ولك الحمد)). فيقول: ((سمع الله لمن حمده)) حال رفعه، ثم يقول: ((ربنا ولك الحمد)). ثم يشرع في الدعاء مباشرة، وهـٰذا الذي قاله الفقهاء رحمهم الله، فإنهم نصوا على ذلك، لا سيما فقهاء الشافعية، فإنهم نصوا على أنه يشرع ولا يقول الذكر بعد الرفع؛ لأنه ظاهر من حديث ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه لا يقول الذكر، بل يقول: ((ربنا ولك الحمد)) ثم يشرع مباشرة في دعائه، ولا فرق في هـٰذا بين دعاء القنوت الذي في الوتر وبين دعاء القنوت في النوازل، ففي الجميع يقول الدعاء مباشرة بعد قول: ((ربنا ولك الحمد)). ولا يطيل في ذكر الدعاء الذي يكون بعد الرفع: ((ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركاً فيه...إلخ)). لا يقول هـٰذا فيما يظهر من الحديث. وبعض العلماء قال: لا، بل يكمل ذكر الاعتدال ثم يدعو. لكن الأظهر والأقرب إلى السنة هو هـٰذا، وهو اختيار شيخنا رحمه الله أنه يشرع مباشرة في دعائه.
الحديث فيه النهي عن لعن المعين، وقد اختلف العلماء في مذهب الإمام أحمد وغيره في لعن المعين الفاسق على قولين، فمنهم من قال: يجوز اللعن؛ لأنه فعل ما يوجب اللعن. وقال آخرون: إنه لا يجوز لعن المعين؛ لأن اللعن سؤال الطرد من رحمة الله، وهـٰذا لا يسوغ؛ لأنه من أشد ما يقع على الإنسان أن يُلْعَن، ولقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ((ليس المؤمن بالطعَّان ولا باللعان ولا بالفاحش البذيء)). وهـٰذا القول أقرب، وأنه لا يلعن المعين، وإنما يكون اللعن على وجه العموم، فإذا فعل الإنسان ما يقتضي اللعن يلعن على وجه العموم لا على وجه التعيين، كما فعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمَّا رأى من وسم حمارًا في وجهه قال: ((لعن الله من فعل هـٰذا)). فهـٰذا لعن معين أو لعن عام؟
هـٰذا لعن عام، من فعل هـٰذا يعني: الذي فعل هـٰذا، ومَنْ مِن ألفاظ العموم، فيشمل كل من فعل هـٰذا. لكن اعلم أنه فرق بين اللعن المعين واللعن العام: أن اللعن العام كآيات الوعيد العامة، قد يصدق فيمن فعل ذلك وقد لا يصدق، فإن المعين قد يكون عنده من الحسنات ما يمحو به الله جل وعلا موجب هـٰذه السيئة وهـٰذه المعصية، وقد يكون عنده من الذنوب ما هي مُكفََّرَة، وقد يكون له سابقة، وقد يكون قد تاب منها، وقد يكون جاهلاً بالحكم.
المهم أن أسباب رفع العقوبة كثيرة، ولذلك لا يلعن المعين، بعض الناس يقول: إنني أجد في نفسي رغبة في لعن من عرف بالظلم والكفر؛ لشدة طغيانه وسوء عمله وشدة أذاه لعباد الله المؤمنين وأذاه لدين الله عز وجل، ففي هـٰذه الحالة نوجهه إلى ما وجه به الإمام أحمد رحمه الله من لعن الحجاج وهو من الولاة الظلمة، فإن الإمام أحمد كره لعنه وقال لمن أراد لعنه: لا تلعنه، إنما إذا أردت أن تلعن إذا ذكر الحجاج فقل: ألا لعنة الله على الظالمين. وهـٰذا لعن عام أو لعن خاص؟
هـٰذا لعن عام وليس لعنًا خاصّاً، ومثل هـٰذا إذا أراد الإنسان أن يلعن من آذاه أو من اعتدى عليه، فإنه لا ينبغي له أن يلعنه على وجه التعيين؛ لما ذكرنا من أن المعيَّن قد ينتفي موجب اللعن في حقه لأسباب كثيرة ذكرها أهل العلم، لكن الأحسن والأعدل والأكمل والأتبع للسنة أن يكون اللعن على وجه العموم فيقول: ﴿أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾( ). ﴿أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ إذا كان من أهل الكفر، أو ما أشبه ذلك ولا يعين، وينبغي للإنسان ألا يطاوع نفسه في لعن الناس والنيل منهم، بل يذكر قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾. وهـٰذا خطاب للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، وإذا دار الأمر بين أن تلعن وأن لا تلعن فالأحسن أن لا تلعن؛ لأنه ليس من صفات المؤمن كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ((ليس المؤمن باللعان ولا بالطعان)). هـٰذا بالنسبة للَّعن المعين، أما بالنسبة للعن العام فقد لعن الله تعالى في كتابه أهل الكفر وأهل الفسق وأهل الظلم وأهل الكتاب، فاللعن العام خلاف اللعن الخاص، وهو تمامًا كأحاديث الوعيد العامة والخاصة، وهو تمامًا كالتكفير المطلق والتكفير المقيد، كل هـٰذا الباب فيه واحد، والتفريق فيه مهم لطالب العلم، حتى يميز بين ما يجوز وما لا يجوز من هـٰذا كله.
ثم في هـٰذا الحديث: أن الله -جل وعلا- نهاه وبين له علة النهي، وهـٰذا فيه أن الأحكام الشرعية معللة، وهـٰذا أمر ظاهر ومستقل وبين لكل من تدبر وتأمل النصوص من الكتاب والسنة. يقول الله تعالى في تعليل النهي: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾. فعلة النهي عن الدعاء عليهم ولعنهم احتمال التوبة عليهم؛ لأنه قال: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾. يعني: احتمال أن يتوبوا، واحتمال أن يستمروا على كفرهم فيتولى الله عذابهم، وليس لك من عذابهم شيء حتى تدعو عليهم، فالأمر لله جل وعلا، وهـٰذا فيه بيان علة الحكم. ومن حيث الواقع صدق ما أخبر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- به من احتمال توبة هؤلاء: فإن (صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام) كلهم أسلموا وحسن إسلامهم، فهـٰذا من حكمة الله جل وعلا، ومن سابق رحمته وفضله، فنزلت: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾. لاحظ أنها نزلت عندما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غزوة أحد: ((كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم؟)). وكذلك في لعنه لمعينين من قريش، وكذلك في لعنه لمعينين من قبائل العرب، وهـٰذا يفيد فائدة مهمة، وهي: أنه قد يتكرر نزول الآية الواحدة في عدة أحداث، وفائدة هـٰذا بيان أن الآية تشمل هـٰذا الحدث فتكرر نزول الآية، هـٰذه فائدته، وهي بيان أن الآية تشمل هـٰذا الحدث وهـٰذا الحدث، فليست قاصرة على الحدث السابق، وهو مما يدل ويفيد أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولو كان بخصوص السبب لما تكرر نزول الآية في مناسبة أخرى.
ثم قال رحمه الله في سياق أحاديث هـٰذا الباب: (وفيه عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قام رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين أُنزل عليه: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾.) أي: حين أنزل الله جل وعلا قوله تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾. أمره الله عز وجل بإنذار عشيرته، والعشيرة في الأصل تطلق على الأبناء والأقارب، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليس له أبناء، فيكون معنى العشيرة هنا الأقارب، ثم بين أن الأحق بالدعوة هم الأقربون فقال: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾. فكلما كان الإنسان أقرب إلى الإنسان الداعية فحقه في الدعوة أكثر من غيره, مع أن دعوة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليست خاصة بأقاربه، بل هي عامة لكافة الناس، بل لجميع الإنس والجن.
ثم بين تأويل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهـٰذه الآية- أي: عمله بها- فقال: ((يا معشر قريش)) وهؤلاء هم عشيرته الأقربون ـ (أو كلمة نحوها) ـ يعني: مما يفيد النداء والدعاء. ((اشتروا أنفسكم)). ومعناه أي: خلصوها وأنقذوها من الهلكة، والشراء يطلق في كل ما يكون فيه استنقاذ للشيء من مخوف، لا سيما إذا عُدِّي إلى النفس: ((اشتروا أنفسكم)).
ثم بين النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجه أمره بذلك فقال: ((لا أغني عنكم من الله شيئًا)). ((لا أغني)) أي: لا أملك غناءً ونفعًا عنكم ((من الله شيئاً)). يعني: لا أملك أن أدفع عنكم من عقوبة الله شيئاً إذا فعلتم ما يقتضي العقوبة. ((لا أغني عنكم من الله شيئاً)).
وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ((شيئاً)) نكرة في سياق النفي , وأما قوله: ((عن)) فهي على باب المجاوزة، والمعنى: لا أدفع عنكم من الله شيئاً إذا فعلتم ما يقتضي العقوبة. ثم قال: ((يا عباس بن عبد المطلب)). وهـٰذا عم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، فدعاه باسمه وهو من أخص أقاربه وعشيرته الأقربين: ((لا أغني عنك من الله شيئًا)). فبعد التعميم انتقل إلى التخصيص، حتى يزيل ما قد يتوهمه المتوهمون من أنه قد ينفع الأقربين منه، وإن كان لا ينفع عموم العشيرة ولكن ينفع الأقربين منه، فخص رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رجلاً ذكرًا من أقاربه الأقربين فقال: ((يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً)). هـٰذا كالذي قبله، أي: لا أدفع عنك ولا أملك لك من الله شيئاً. ثم قال: ((يا صفية عمة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا أغني عنكِ من الله شيئاً)). واختار في هـٰذا النداء امرأة من أقاربه، ووجه اختيار المرأة: أنه تخصيص أيضًا أخص من السابق؛ وذلك أن الإنسان يدفع عن محارمه الأقربين أكثر من دفعه عن الرجال؛ لأن الرجال قد يستغنون بأنفسهم وقوتهم وجاههم وما معهم من مُكنة فيدفعون عن أنفسهم، لدفع هـٰذا التوهم خص النساء من الأقربين فقال: ((يا صفية عمة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا أغني عنك من الله شيئًا)). ثم أتى بأخص من كل ما تقدم فقال: ((يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئًا)). فناداها -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- باسمها وقال: ((سليني من مالي ما شئت)). أي: اطلبي مني من المال ما تشائين، وهـٰذا فيه الإشارة إلى أنه -وإن كان يستطيع أن يوصل إليها بعض النفع في الدنيا من جهة المال وشبهه مما هو في مقدور المخلوق، لكنه- لا يغني عنها من الله شيئاً، فهو لا يملك أن يدفع عنها من الله شيئاً: لا في أحكام الله القدرية، ولا في أحكام الله الشرعية. ومثال عدم غناء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ابنته شيئاً في الأحكام الشرعية قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ((وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)). ولو كان يملك لها من الله شيئاً لدفع عنها الحد إذا استوجبته وفعلت ما يوجبه، فهو لا يملك أن يدفع عنها شرع الله وحكمه الشرعي، ولا يملك أن يدفع عنها حكمه القدري أيضًا. وهـٰذا كله يوجب الانجذاب إلى الله جل وعلا، وإخلاص العبادة وأعمال القلب له -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وإخلاصه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالرغبة والرهبة.
مناسبة هـٰذا الحديث للباب ظاهرة، وهي تدل على دقة تصنيف المؤلف رحمه الله، وعمق فهمه جزاه الله عنا خير الجزاء، حيث إنه في الأحاديث السابقة أتى بما يدل على أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يملك أن يدفع الضر عن نفسه، ولا عمن آمن برسالته: فعن نفسه في حديث: (شُج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم أحد وكسرت رباعيته). وعمن آمن به في حديث ابن عمر.
وأما حديث أبي هريرة ففيه الدلالة على أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يستطيع جلب الخير لغيره، وأنه لا يملك غناء لأحد بدفع شر عنه أو بجلب خير إليه إلا بإذن الله جل وعلا، وهـٰذا يدل على أنه لا يُسأل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيئاً في الدنيا بعد موته، وأما في حياته فإنه لا يُسأل ما لا يستطيعه وما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا، وأن سؤال ذلك من الشرك؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يملك ذلك ولا يقدر عليه، فسؤاله هو تنزيله منزلة لا يستحقها، وقد نفاها عن نفسه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- . اتضحت مناسبة هـٰذه الأحاديث للباب.
[المتن]
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين.
[الشرح]
اللتين في أول الباب، وهي قوله: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾. والثانية: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ﴾.
[المتن]
الثانية: قصة أحد.
الثالثة: قنوت سيد المرسلين وخلفه سادات الأولياء يؤمِّنون في الصلاة.
[الشرح]
ووجه هـٰذا: أن سيد المرسلين وخلفه سادات الأولياء خير الناس بعد الأنبياء ما استطاعوا أن يدفعوا عن أنفسهم الضر، واحتاجوا في دفع الضر إلى التوسل والتضرع وسؤال الله عز وجل أن يرفع عنهم، فكيف بمن سواهم؟ إذا كان هؤلاء -على ما هم عليه من الجلال والقدر والمكانة عند رب العالمين- لا يملكون أن يدفعوا عن أنفسهم الضر، بل ينزلون حوائجهم بالله جل وعلا، فكيف بغيرهم من الناس؟ هـٰذا وجه قول الشيخ رحمه الله: قنوت سيد المرسلين وخلفه سادات الأولياء يؤمنون في الصلاة، أي: في جلب النفع لهم ودفع الضر عنهم.
[المتن]
الرابعة: أن المدعو عليهم كفار.
[الشرح]
لقوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾. فإن الله شهد عليهم بالظلم.
[المتن]
الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار. منها: شجهم نبيهم وحرصهم على قتله، ومنها: التمثيل بالقتلى مع أنهم بنو عمهم.
[الشرح]
وهـٰذا فيه بيان سبب قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ((كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم؟)). وهو إنما صدر لعظيم ما فعلوه به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، وبالغ ما وصله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أذاهم.
[المتن]
السادسة: أنزل الله عليه في ذلك: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾.
[الشرح]
مع أن الضرر قد وصله وبلغه، وهـٰذا يوجب طلب الانتقام والرغبة في طلب الثأر من الخصم والتشفي ، ومع ذلك قال له الله جل وعلا: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾. فما كان من العبد الذي كمَّل العبودية إلا أن كفَّ، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
[المتن]
السابعة: قوله: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ ( ). فتاب عليهم فآمنوا.
الثامنة: القنوت في النوازل.
[الشرح]
وهـٰذا تكلمنا عليه، والنوازل التي يُقنت فيها هي النوازل العامة وليس النوازل الخاصة، وقد اختلف العلماء – رحمهم الله – في القنوت :
هل يكون في النوازل الخاصة ؟
فذهب جماعة من العلماء إلى أنه يقنت في النوازل الخاصة لكن قنوتًا خاصّاً، وممن اختار هـٰذا:
شيخ الإسلام – رحمه الله–، فشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله– يرى جواز القنوت في النافلة، وفي الصلاة الخاصة، يقنت الإنسان لرفع ما نزل به وما حل به.
وأما القنوت الذي يكون في المساجد، فإنه لا يكون إلا للنوازل العامة، ولا يكون للنوازل الخاصة.
وقد ذكر العلماء أن الذي يقنت هو الإمام العام، والإمام العام معروف من هو، الذي له الولاية العامة في البلاد، ويقوم مقامه أن يقول للناس: اقنتوا، فإذا أمرهم بالقنوت فإنهم يتبعونه في ذلك؛ لأنه كقنوته وتوكيل منه لهم.
ذكر الفقهاء في القنوت أنه لا يُقنت لمثل الزلزلة غير الدائمة وما أشبه ذلك، مسائل في ما يقنت له وما لا يقنت له تجدونها في كتب الفقه، المراد أن الحديث دل على مشروعية القنوت في النوازل.
[المتن]
التاسعة : تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم.
[الشرح]
وأن هـٰذا لا يبطل الصلاة؛ لأنه دعاء، والذي نُهي عنه المصلي هو الكلام، أما الدعاء -ولو كان بأسماء معينة- فلا يبطل الصلاة.
[المتن]
العاشرة : لعن المعين في القنوت.
[الشرح]
المراد من هـٰذه أنـها من المسائل التي تضمنتها الأحاديث، وليس فيها أنه من المشروع أن يلعن المعين في القنوت؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نُهِيَ عن ذلك في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾( ).
[المتن]
الحادية عشرة : قصته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما أُنزل عليه: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ ( ).
الثانية عشرة : جِده -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون، وكذلك لو يفعله مسلم الآن.
[الشرح]
(جِده) أي: في امتثال أمر ربه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فإن رسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- امتثل أمر الله – جل وعلا -أكمل امتثال، ولذلك قام -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالنذارة حق القيام، فمنذ أن قال الله له: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (01) قُمْ فَأَنْذِرْ﴾( ) ما جلس رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن النِّذَارة والتبليغ حتى في رمقه الأخير، فكان صلى الله عليه وآله وسلم في رمقه الأخير يأمر بما أمر الله به من التوحيد، ومن المحافظة على الصلاة، ومن أداء الحقوق ، فجَدَّ في الأمر غاية الجد – نسأل الله أن يتبعنا أثره.
[المتن]
الثالثة عشرة : قوله للأبعد والأقرب: لا أغني عنك من الله شيئاً، حتى قال: يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً. فإذا صرح وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني شيئاً عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان بأنه لا يقول إلا الحق، ثم نظر في ما وقع في قلوب خواص الناس اليوم، تبين له ترك التوحيد وغربة الدين .
[الشرح]
يعني: ما وقع في قلوبهم من أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يملك النفع والضر، وأنه يُسأل، وأنه يُستغاث به، ويُستعاذ به، علم حال التوحيد وغربة الدين في العصور المتأخرة التي أدركها الشيخ رحمه الله.
والحمد الله دلائل التوحيد واضحة وبينة، ولا لبس فيها ولا غبش، والعجيب أن الذين يشبهون ويشغبون على أهل التوحيد إنما يستندون فيما يستندون إليه إما إلى ضعيف لا يقوى على مقابلة النصوص الصريحة الواضحة الظاهرة في الكتاب والسنة، وإما على ما فيه اشتباه ولبس، ولا تخرج استدلالات المبتدعة من أهل الشرك والمسوِّغين له عن هذين :
إما ضعيف لا يقوى على مقابلة الصحيح، وإما شُبَه تعامل معاملة المتشابه في ردها إلى المحكم والأخذ بما هو محكم في كتاب الله وسنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
[المتن]
باب قول الله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾( ).
وفي (الصحيح) عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك. حتى إذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير. فيسمعها مسترق السمع -ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض، وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه- فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء)).
وعن النواس بن سمعان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ((إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمـر تكلـم بالوحي, أخذت السمٰوات منه رجفة ـ أو قال: رعدة ـ شديدة خوفاً من الله عز وجل، فإذا سمع ذلك أهل السمٰوات صعقوا وخروا سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال الحق وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل)).
[الشرح]
هـٰذا الباب مناسبته لكتاب التوحيد، كمناسبة الباب السابق تماماً:
فإن الباب السابق بيَّن فيه أن المخلوق لا يملك غناءً عن نفسه ولا عن أقاربه ولا عن أتباعه، وكذلك هـٰذا الباب بيَّن فيه أن أعظم الخلق قوة وقدرة فيما أُخبرنا -وهم الملائكة- لا يملكون لأنفسهم غَناءً.
فالباب السابق بين فيه أن أعظم الخلق جاهًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يملك لنفسه ولا لأتباعِه ولا لأقارِبِه ولا لأخص أقاربه نفعًا ولا ضرّاً، وهـٰذا الباب بيَّن فيه أن أعظم الخلق قدرة ومن أشرفهم مكانة وهم الملائكة لا يملكون دفعًا عن أنفسهم ولا جلبًا للخير إليها، لا عن أنفسهم ولا عن غيرهم، ولا لهم ولا لغيرهم.
قال رحمه الله: (باب قول الله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾.( ))
﴿فُزِّعَ﴾ أي: أُزيل الفزع وكُشف عن قلوب الملائكة، فالضمير يعود إلى الملائكة.
﴿قَالُوا﴾ أي: قال الملائكة الذين كُشف عن قلوبهم الفزع.
﴿مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ﴾ أي: أي شيء تكلم الله به؟
﴿قَالُوا الْحَقَّ﴾ وظاهره أن الجواب منهم أيضًا، وأنَّ السؤال منهم، ويحتمل أن السؤال من بعضهم والجواب من البعض الآخر كما دلت عليه بعض الروايات:
فإذا كان الجواب منهم والسؤال منهم جميعًا، فيكون السؤال هنا على وجه التعظيم لا على وجه الاستعلام، فيقولون: ماذا قال ربكم؟ تعظيماً لقوله جل وعلا.
وإذا كان السؤال من بعضهم والجواب من البعض الآخر فهو سؤال استفهام واستعلام.
﴿قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾. أي: إن قوله –جل وعلا– الحق، وهـٰذا الجواب بيان لوصف القول لا لعينه؛ لأنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كما تدل الأحاديث التي ساقها المؤلف -رحمه الله- يتكلم بالأمر من أمره –جل وعلا– فتقول الملائكة هـٰذا الجواب.
بعض العلماء قال: هـٰذه الآية هي وصفٌ لحال الملائكة في كل كلام لله –جل وعلا– يتكلم به .
وقال آخرون: إنه وصف لهم في يوم العرض على الله –جل وعلا– في يوم القيامة، وذلك أن الملائكة تشفع، فإذا استأذنت للشفاعة وتكلم الله –جل وعلا– بالإذن كانت هـٰذه هي حال الملائكة.
والظاهر من الأحاديث أنها ليست حالة خاصة بالشفاعة، وإنما هي حال عامة، إذا تكلَّم الله –جل وعلا– بالكلام فيكون ذلك هو حالهم الدائم مع كلام الله جل وعلا.
وذكر الآية في سياق الشفاعة يكون ذكراً لحالهم العامة في إحدى صورها، وهو عند طلبهم واستئذانهم في الشفاعة لمن أراد الله –جل وعلا– أن يُشَفِّع الملائكة فيهم؛ لأن هـٰذه الآية جاءت في سياق الآيات التي نفى فيها الله –جل وعلا– الشفاعة إلا بإذنه، فقال –-سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ﴿وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾( ) يعني: إذا طلبوا الشفاعة وطلبوا الإذن وفزع عن قلوبهم بمجيء الإذن وكُشِف عنها ﴿قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ﴾.
ولكنَّ المعنى الأعم الذي دلت عليه الأحاديث أقوى وأظهر، وتكون الآية صورة من الصور التي هي لوصف حال الملائكة في الأحاديث التي بينت عموم وصفهم في كلام الله عز وجل.
يقول : (في الصحيح عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((إذا قضى الله الأمر في السماء)).) والأمر هنا يشمل الأمر الشرعي والأمر الكوني.
((إذا قضى الله الأمر في السماء)) و(في) هنا للظرفية، و(السماء) المراد بها العلو، يعني: في العلو.
((ضربت الملائكة بأجنحتها.)) ضربت أي: وضعت أجنحتها، ولكنه ليس وضعًا رفيقًا إنما هو وضع شديد، ولذلك عبَّر بالضرب: ((ضربت الملائكة بأجنحتها)). وهـٰذا يدل على أن للملائكة أجنحة، ويكفي في الدلالة على ذلك أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى جبريلَ له ستمائة جناح قد سدَّ الأفق، وكذلك الآية في سورة فاطر: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ﴾( ). فثبوت الأجنحة للملائكة لا إشكال فيه.
((خضعاناً لقوله)). أي: إنها وضعت أجنحتها حال كونها خاضعة.
((لقوله)). اللام هنا للتعليل، أي: بسبب قوله، أي: لأجل قوله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-. والمراد بقوله هنا أي كلامه، وهـٰذا يبين أن هـٰذا الخلق العظيم، وانظر إلى ذكر الأجنحة الدالة على القوة وما خوَّلهم الله –عز وجل– من المُكنة والقدرة، مع ذلك إذا قضى الله –عز وجل– الأمر في السماء، هـٰذه حال هـٰذا الخلق العظيم أنه- يضرب بأجنحته خضعانًا، ذلاًّ وخضوعاً لله –جل وعلا– ولقوله وكلامه.
يقول: ((كأنه)) كأن من أدوات التمثيل والتشبيه، وقوله: ((كأنه)). الضمير فيها يحتمل أن يعود إلى القول، ((ضربت الملائكة أجنحتها خضعاناً لقوله كأنه))، أي: كأنَّ قوله ((سلسلة على صفوان)). أي: كأن قوله سلسلة على صفوان، وقد جاء ذلك مبيَّنًا في بعض الروايات بإسنادٍ صحيح، كما ذكر الطبري أنه إذا تكلَّم الله –عز وجل– كان لقوله –جل وعلا–كصوت السلسلة على الصفوان، فهـٰذا يبين لنا أن الضمير في قوله: ((كأنَّه)) عائدٌ إلى قوله جل وعلا.
((سلسلة)) والسلسلة معروفة، هي حلق الحديد التي أخذ بعضها ببعض.
((على صفوان)). الصفوان هو الحجر الأصم، ومعلوم أن جرَّ السلسلة على الصفوان يحدث صوتًا مزعجًا ينفذ نفوذًا كبيرًا، ولذلك قال: ((ينفذهم ذلك)). الضمير في ينفذهم يعود إلى الملائكة، أي ينفذُ الملائكة ذلك الصوت .
وهنا إشكال وهو : ما الجواب على قوله: كأنه سلسلة على صفوان؟ وقلنا: إن الضمير يعود إلى قوله، والله –جل وعلا– قال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾( ). فهل هـٰذا يتضمن التشبيه والتمثيل؟
الجواب: لا، بل الآية محكمة: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ ولا تشبيه ولا تمثيل.
ثم هل التشبيه في هـٰذا -على القول بأن مرجع الضمير إلى قول الله –عز وجل–، هل التشبيه- لصوته؟
الجواب: لا، ليس تشبيهًا لصوته؛ لأن الله –جل وعلا– ليس كمثله شيء: لا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا في ما يجب له، والصوت صفة من صفات الله عز وجل، فليس تشبيهًا لصوته، هـٰذا يجب أن يكون مقررًا مهما كان؛ لأنه المحكم الذي تُرجع إليه النصوص المتشابهة، وهـٰذا من المتشابه يحتمل أن يراد به صوت الله، فالتشبيه لصوت الله ويحتمل معنًى آخر، فننفي المعنى الذي ترفضه وتمنعه النصوص المحكمة، والنصوص المحكمة تمنع أن يكون لله –عز وجل– نظيرٌ أو مثيل أو سمي أو نِد في شيء من صفاته أو أسمائه أو أفعاله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً﴾( )، ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾( )، ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾( ).
كلُّ هـٰذه نصوص محكمة تدل على نفي الشبيه ونفي النظير والمثيل والسمي له -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
بقي على القول بأن الضمير يرجع إلى قول الله –عز وجل– كيف يكون المعنى ؟
يكون المعنى: كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم. فالتشبيه ليس لصوت الله –جل وعلا– إنما هو لنفاذ الصوت في هؤلاء، والنفاذ ليس صفةً له إنما صفةٌ لهم، فهو بيان لصفة إدراكهم ونفوذ هـٰذا الصوت فيهم، أما الصوت فليس كمثله شيء، وهـٰذا يحل الإشكال وهو واضح وبيّن.
يبقى المعنى الثاني الذي ذكره بعض أهل العلم: أن الضمير يعود إلى السماء، كما في بعض الروايات عن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ، وفيها: ((يسمع أهل السماء للسماء صوتاً كأنه سلسلة على صفوان)). فيكون المشَبَّه ما يحدث في السماء من جراء كلام الله عز وجل، وما يحدث في السماء صفة لله أم صفة للسماء ؟ صفة للسماء ليس صفة لله.
فما يحدث في السماء من جراء الكلام ليس صفة لله عز وجل .
ونظيره ما ذكره الله –عز وجل – في تجليه للجبل: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً﴾( ). والدك هـٰذا صفة للرب أو صفة للجبل؟ صفة للجبل، لكن ما سببه؟ هو تجلي الرب جل وعلا.
فنظيره هـٰذا المعنى في هـٰذا الحديث: ((كأنه سلسلةٌ على صفوان)). أي : كأن صوت السماء لكلام الرب –جل وعلا–كصوت السلسلة على صفوان ينفذهم.
ثم قال: ((ينفذهم ذلك)) المشار إليه الصوت المشبه به، أو المشبه له؟ الصوت المشبه له.
يقول: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾( ). (حتى) غائية، وهي تختلف عن (إلى) في أن ما بعدها داخل في ما قبلها، أي: إنه داخل في الغاية وليس منتهى الغاية، بخلاف (إلى) قد يدخل المُغَيَّا وقد لا يدخل.
﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ وهـٰذا يدل أن هـٰذه الحال تعتريهم حتى بعد فراغ الله –عز وجل– من الكلام، يحتاجون إلى فترة حتى يُكشف عنهم، وذلك لعظيم أثر هـٰذا الكلام عليهم.
﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ قلوب الملائكة ﴿قَالُوا﴾ ذكرنا فيها في التفسير أن القائل بعضهم لبعض، ويحتمل أن الجميع يقولون هـٰذا على وجه التعجب والتعظيم لهـٰذا الكلام الذي تكلَّم به الرب جلَّ وعلا.
﴿قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ وهل هـٰذا وصف مقيد أو وصف كاشف؟ هـٰذا وصف كاشف؛ لأنّه وصف لجميع ما يتكلم به الرب جل وعلا، كما قال جلَّ وعلا: ﴿قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾( ).
قال: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾. وذَكَرَ هذين الوصفين للدلالةِ على عظيم صفة الكلام، وأنها دالة على عظمة الرب وكِبَره جل وعلا، وعظيم وصفه.
ثم قال: ((فيسمعها مسترق السمع.)) مسترق السمع هم الجن الذين يسرقون ما تتكلم به الملائكة من قضاء الله –جل وعلا– وقدره، وما يقضي به -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
(((فيسمعها مسترق السمع))، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض.)
يقول: (وصفه سفيان) أحد رواة الحديث (بكفه فحرفها). أي أمالها، أمال يده، (وبدد) أي فرق (بين أصابعه). هـٰذا وصف إما أن يكون متلقى من الرواة قبله تلقوها عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونقله سفيان عمّن رواه، ومن رواه نقله عمّن قبله.
ويحتمل أن يكون من فهم سفيان؛ لأنهم يسترقون السمع من أين؟ من السماء، ومن لازم استراقهم السمع من السماء كما في بعض الروايات أنه ((يركب بعضهم على بعض حتى يبلغوا عنان السماء أو السماء الدنيا)). ليسمعوا ما قضاه الله وقدره، فهو إما أن يكون اجتهاديّاً أو توقيفيّاً، والظاهر أنه اجتهادي من سفيان رحمه الله.
(فحرفها وبدد بين أصابعه، ((فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته))). من الذي يسمع؟ أعلاه يسمع الكلمة.
والمقصود بالكلمة: أي من القضاء الذي ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا له، وذلك بعد أن يُكشَف عنهم ويتناقلوا الخبر ويخبر بعضهم بعضًا بما قضاه الله –جل وعلا–، تسمعه الشياطين.
((فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته))، وهكذا يُبَلِّغ الأعلى الأسفل.
((حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن)). الساحر: هو من يتعاطى السحر، والكاهن: هو من يخبر بالمغيبات.
يقول: ((فربما ألقاها)). أي: مسترق السمع .
((قبل أن يدركه)). يعني: الشهاب والرجوم .
((فيكذب معها)) من الذي يكذب؟ الكاهن، الساحر، ويحتمل أن يكون الكاذب هم هؤلاء، يزيدون فيكون الكذب منهم ومن السحرة والكهان.
وقد قال الله –جلَّ وعلا– في بيان من يتلقى عنهم في نفي التهمة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ ( ). فجمع وصفين: عظيم الإفك وهو الكذب، وعظيم الإثم وهو الفجور والمعاصي، وهـٰذه حال الكهان والسحرة.
((فيكذب معها مائة كذبة)). فتكون مائة وواحدة، والمقصود بمائة كذبة هنا التكثير في الكذب، وأنه لا نسبة لصحة كلام هؤلاء مع ما يقولونه؛ لأن الغالب أن ينسب الشيء إلى المائة لا سيما في أوقاتنا –وأما في وقت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلا أدري هل ينسبون إلى المائة أو لا- لكن المراد أنه يكذب مع هـٰذا الخبر وهـٰذه الكلمة التي تلقاها عن الوحي كذبًا كثيرًا يضمحل ويغيب فيه هـٰذا الصدق القليل، وما كانت نسبته هـٰذه النسبة فلا يلتفت إليه ولا يستند إليه ولا يعتمد عليه.
((فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا، كذا وكذا؟)). من الذي يقول هـٰذا القول؟ الذي يقول هـٰذا القول هم الذين يستمعون إلى السحرة والكهان ويتلقون عنهم.
((فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا، كذا وكذا؟)). أي: يحتجون بتلك الكلمة التي سمعت من السماء فوقعت كما أخبر بها الكاهن والساحر على صدقه في ما يكذب من الكذبات، فيصدق بتلك الكلمات، أي: التي سمعت كما قال، التي سُمِعت من السماء، فعلم أن ما عند هؤلاء من الإخبار بالغيب إنما هو مما يتلقاه عن مسترق السمع، وإلا فالغيب لله جل وعلا، لا يعلمه إلا هو -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾( ). وهـٰذا أمر لا إشكال فيه، ومن كذبه فقد كذب القرآن؛ لأن انفراد الله بالغيب واضح وضوحًا لا ريب فيه، وهو معلوم من الدين بالضرورة؛ لكثرة ما جاء من الأدلة الدالة على انفراده –-سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-– بعلم الغيب.
والشاهد من هـٰذا الحديث:
أنَّ الملائكة خلق من خلق الله، ليس بهم غنىً عن الله -جل وعلا-، لا يملكون من أمر تدبير الكون أو القضاء فيه شيئاً، إنما هم مربوبون مقهورون لا سبيل لهم إلى شيء إلا بإذن الله –عز وجل– ومشيئته، وأنهم على عظيم خلقهم وقدرتهم إلا أن هـٰذه حالهم عند كلام الله –جل وعلا– بما يتكلم به.
ثم جاء في الحديث الآخر مزيد توضيح لحال الملائكة في كلام الله عز وجل.
يقول: (وعن النواس بن سمعان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، أخذت السماء منه رجفة -أو قال: رعدة- شديدة خوفاً من الله عز وجل، فإذا سمع ذلك أهل السمٰوات))).
سمعوا أي شيء؟ الرجفة والرعدة، وهـٰذا هو المعنى الثاني الذي ذكرناه في فك الضمير في قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ((كأنه سلسلة على صفوان)). فيكون الصوت صوت السماء.
((فإذا سمع ذلك أهل السمٰوات صعقوا وخروا لله سجداً)). فجمعوا بين أمرين: صعقوا، وخروا لله سجداً.
وما فائدة ذكر الخرور سجدًا؟
ليتبين أن الصعق ليس صعق إغماء، لا قدرة لهم عليه، أو يفقدون به كلَّ ما يدركون به الأمر أو يدركون به القضاء، إنما هو صعق إجلال وتعظيم يقترن معه الخرور، والخرور سجود وتعظيم.
((خروا سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد)).
هـٰذا ظاهره أنه يكلمه تكليمًا خاصّاً بعد هـٰذا الكلام العام، فيكون الكلام العام يشمل جميع الملائكة، يسمع أثره الجميع، وأما تكليمه جبريل فهو بعد ذلك، وهو تكليم خاص.
((فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال الحق وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل)).
والحديث هـٰذا ليس فيه زيادة على ما مضى إلا بيان مرجع الضمير، وأيضًا بيان أن أول من يرفع رأسه جبريل، وأنه هو الذي يبلغ الملائكة بما قضاه الله -عز وجل– بعد ذلك.
وقد ذكر العلماء بياناً لسبب هـٰذا الحديث:
أنه لما انقطع الوحي ما بين محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبين عيسى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هـٰذه المدة الطويلة، ثم تكلم الله بالوحي وهو الوحي الشرعي حصل من الملائكة هـٰذا.
فظاهر هـٰذا القول أن الحديث خاص بتلك الحال، وهي أول ما تكلم الله فيه بالوحي للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد انقطاع الكلام من عيسى ليه السلام.
لكن هـٰذا ما عليه دليل واضح، والظاهر أن هـٰذه هي حالهم على وجه العموم. وبهـٰذا نعرف أن قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ فيه ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه عام لحال الملائكة في كل كلام لله جل وعلا.
الثاني: أنه حال الملائكة عند طلب الشفاعة، وتلقي الإذن بالشفاعة.
القول الثالث: أنه خاص بابتداء الوحي للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد انقطاعه ما بينه وبين عيسى عليه السلام.
والظاهر: العموم؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يبين ذلك في الحديث الصحيح قال: ((إذا قضى الله الأمر في السماء)). وهـٰذا يشمل ما كان في ذلك الوقت وما بعده.
ويدل على هـٰذا أيضًا ما ذكره من استراق السّمع، واستراق السمع ليس منقطعًا بل هو مستمر، إنما انقطع في فترة إنزال الوحي على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حفظت السماء: ﴿وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً﴾( ). هـٰذا في وقت بعثة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والوحي إليه، ثم لما مات -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُزيل هـٰذا الحفظ، لكنَّه لم يُزَل بالكلية، هو أشد مما كان الأمر عليه قبل بعثة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لكنه ليس كوقت بعثته أي وقت الوحي إليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
واستراق السمع مستمر، ويشير النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى ما يجري من الكهان من الإخبار بما يخبرون به من الغيب، وتصديق الناس الكهان بسبب ما يتلقونه من أمر السماء.
[المتن]
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية.
[الشرح]
الآية: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ﴾. فزع ما معناه؟ كشف وجُلِّي وأزيل.
[المتن]
الثانية: ما فيها من الحجة على إبطال الشرك، خصوصاً من تعلَّق على الصالحين، وهي الآية التي قيل: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب.
[الشرح]
وهي قوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ(22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾( ). في هـٰذه الآية ذكر الله –عز وجل– أربعة أمور بها يسوغ توجيه السؤال إلى من يُسأل من دون الله وهي منفية، فإذا كانت منفية عن كل من سئل من دون الله فإنه لا يجوز السؤال ولا التوجه إلى غيره -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: فنفى -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الشركة في شيء، ونفى الملك، ونفى المعاونة، ثم لم يبقَ إلا الشفاعة فبين أنها لا تكون إلا بإذنه، فدل ذلك على أنها لا تطلب إلا منه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الباب القادم.
[المتن]
الثالثة: تفسير قوله: ﴿قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾.
الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك.
[الشرح]
(سبب سؤالهم)، ما هو سبب سؤالهم؟ ما يعتريهم من الصعق والفزع، فيقولون هـٰذا القول استعلامًا أو تعظيمًا.
استعلامًا: إذا كانوا لم يدركوا ما تكلم به الله –عز وجل– بسبب الصعق.
فإن كانوا أدركوا ما تكلم به -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فهو تعظيم وإجلال لما تكلم به -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
[المتن]
الخامسة: أن جبريل يجيبهم بعد ذلك بقوله: (قال كذا وكذا).
[الشرح]
كما في الرواية الثانية حديث النواس بن سمعان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
[المتن]
السادسة: ذكر أن أوَّل من يرفع رأسه جبريل.
[الشرح]
وهـٰذا فيه شرفه وعظيم منزلته عند الرب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
[المتن]
السابعة: أنه يقول لأهل السمٰوات كلهم؛ لأنهم يسألونه.
[الشرح]
وهـٰذا أيضًا فيه بيان فضله وشرفه أنَّ أهل السمٰوات يسألونه عما تكلم به الرب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
[المتن]
الثامنة: أن الغشي يعم أهل السمٰوات كلهم.
[الشرح]
هـٰذا واضح في قوله: ((ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله)). والملائكة هنا يشمل الجميع؛ لعدم الاستثناء، وللتصريح به في الحديث الآخر، حيث ذكر أن أول من يرفع رأسه جبريل، فهو من جملة من صعق.
[المتن]
التاسعة: ارتجاف السمٰوات لكلام الله.
[الشرح]
هـٰذا واضح : ((أخذت السمٰوات منه رجفة)) .
[المتن]
العاشرة: أنَّ جبريل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله.
[الشرح]
هـٰذا أيضًا واضح .
[المتن]
الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين.
[الشرح]
هـٰذا في الحديث الأول ، وواضح أيضًا.
[المتن]
الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضاً.
[الشرح]
هـٰذا واضح أيضًا.
[المتن]
الثالثة عشرة: إرسال الشهاب.
الرابعة عشرة: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل أن يدركه.
[الشرح]
فهو مدركه لا محالة، لكن قد يدركه قبل التبليغ وقد يدركه بعد التبليغ، المهم أنه لا بد أن يدركه.
[المتن]
الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدق بعض الأحيان.
السادسة عشرة: كونه يكذب معها مائة كذبة.
السابعة عشرة: أنه لم يُصدَّق كذبه إلا بتلك الكلمة التي سمعت من السماء.
[الشرح]
لأنها هي الكلمة الموافقة والمطابقة للواقع، ولذلك يغتر به من يغتر، ولذلك لما سُئل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عنهم، عن الكهان الذين يخبرون بما يقع قال: ((ليسوا بشيء)). وصدق رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ليسوا بشيء؛ لأنهم لا يأتون به من قبل أنفسهم، إنما يأتون بما يأتون به من صدق قليل نزر نادر عن طريق ما يتلقونه من مسترق السمع الذي ينقل ما تتكلم به الملائكة من قضاء الله عز وجل.
[المتن]
الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة؟!.
[الشرح]
الله أكبر! صحيح، لكن سبب ذلك أنَّ الناس يتشوفون إلى استشراف ومعرفة ما يكون في المستقبل، النفوس مجبولة على هـٰذا، ولذلك نجد أن الناس الآن يتعلقون بالرؤى وما يكون فيها تعلقًا عظيمًا، والسبب أنهم يستجرون منها ما يكون في المستقبل، وهـٰذا فيه نوع غلو وخطأ ينبغي أن يُحذَرَ منه وأن يُحَذَّر منه.
مسألة التعلق بالرؤى وما يكون هـٰذه مسألة تجاوزت الحدود، ووجدت من يروِّج لها من بعض طلبة العلم وهو غلط كبير، لا شك أن الرؤى مبشرات، لكن كما قال الإمام مالك رحمه الله: الرؤى تسر ولا تغر.
والواقع أن الرؤى في حال الناس الآن تغر وتسر: يغترون بها ويبنون عليها أحكامًا، ويجعلونها أصلاً للتشريع في بعض الأحيان، أو أصلاً لتعيين ما أخبر به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أحداث، وهـٰذا غلط كبير ينبغي أن يحذر منه.
الرؤى تسر وهي لا تضر، كما قال أحد السلف: اتق الله في اليقظة ولا يضرك ما رأيت في المنام .
[المتن]
التاسعة عشرة: كونهم يلقي بعضهم إلى بعض تلك الكلمة ويحفظونها ويستدلون بها.
العشرون: إثبات الصفات، خلافاً للأشعرية المعطِّلة.
[الشرح]
إثبات الصفات. المقصود أصل الصفات، ولكن الصفة المعينة هنا هي كلام الله عز وجل، وذلك يؤخذ في الحديث من عدة مواضع:
((إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله)). ولم يقل: خضعاناً لخلقه.
ثم إن الله –عز وجل– يخلق ولا ينفك من الخلق –جل وعلا–، ومع ذلك هم يؤولون الكلام بالخلق، فإذا كان الكلام هنا هو الكلام الشرعي كما حمله بعض أهل العلم، فلا يسوغ تفسير القول هنا بالخلق، وهو على كل حال غير سائغ؛ لدلالة النص على الفرق بين القول والخلق.
ثم لما سئلوا عمّا جرى في زمن صعقهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ ولم يقولوا: ماذا خلق؟ ثم جاء الجواب: قالوا الحق. أي: قال الحق. وكل هـٰذا لا يمكن أن يصرف ويؤول.
ثم إن مسترقي السمع ماذا يسترقون؟ يسترقون خلقاً أو كلاماً؟ كلامًا، كل هـٰذا يدل على كذب هؤلاء وانحرافهم في تأويل هـٰذه الصفة العظيمة للرب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
[المتن]
الحادية والعشرون: التصريح بأنَّ تلك الرجفة والغشي خوفاً من الله عز وجل.
[الشرح]
لقوله: ((خضعاناً لقوله))، وقوله: ((أخذت السمٰوات رعدة شديدة خوفاً من الله عز وجل)).
[المتن]
الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجداً.
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
[المتن]
باب الشفاعـة
وقول الله تعالى: ﴿وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ﴾( ).
وقوله: ﴿قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾( ) .
وقوله: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾( ) .
وقوله: ﴿وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾( ) .
وقوله: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ...﴾ الآيتين( ).
قال أبو العباس: نفى الله عما سواه كلَّ ما يتعلق به المشركون: فنفى أن يكون لغيره مُلك أو قسط منه، أو يكون عوناً لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبيَّن أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال: ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى﴾( ). فهـٰذه الشفاعة التي يظنها المشركون أنها لهم، هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولاً، ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تُعط، واشفع تُشفع.
وقال أبو هريرة له -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: ((من قال: لا إلـٰه إلا الله خالصاً من قلبه)). فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله.
وحقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضَّل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذِنَ له أن يشفع؛ ليكرمه وينال المقام المحمود. فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهـٰذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بيَّن النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى كلامه.
[الشرح]
فمناسبة هـٰذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة: فإنَّ من أعظم أسباب الوقوع في الشرك قديمًا وحديثًا طلب الشفاعة، والسعي في تحصيلها، ولذلك كان من المناسب أن يبيِّن المؤلف –رحمه الله– ما يتعلق بهـٰذا الباب؛ حتى يقطع حجة وشبهة كلِّ من تعلَّق بهـٰذا الأمر، وليتبين ما الذي يثبت من الشفاعة من الذي لا يثبت، هـٰذه هي مناسبة الباب لكتاب التوحيد.
أما مناسبته للباب الذي قبله: فإنَّه في الباب السابق ذكر الملائكة، وأنهم خلق من خلق الله لا يستطيعون لأحد نفعًا ولا ضرّاً إلا ما شاء الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، ولما كان المشركون تعلقوا في شركهم بالملائكة أنهم شفعاء إنما يعبدونهم ليقربوهم إلى الله زلفى؛ ناسب أن يبين المؤلف رحمه الله– بعد بيان حال الملائكة، وأنهم لا يستطيعون جلب النفع ودفع الضر- أنهم لا يملكون هـٰذا الشيء الخاص الذي كان سببًا للشرك بهم، وهو طلب الشفاعة منهم.
فالمناسبة الخاصة -أي مناسبة هـٰذا الباب للذي قبله-: أن الملائكة يطلب منهم شيء كثير، يطلب منهم المشركون أشياء كثيرة، لكن أعظم ما ذُكر مما يطلبه المشركون من الملائكة هو الشفاعة، كما قال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ ( ). فبيَّنت هـٰذه الآية حكم الشفاعة.
قال رحمه الله: (باب الشفاعة).
والشفاعة: أصلها مأخوذ من الشفع وهو جعل الفرد زوجًا، جعل الواحد اثنين، هـٰذا من حيث اللغة.
وأما من حيث المعنى الاصطلاحي: فهي طلب جلب النفع أو دفع الضر عن الغير.
وعرَّفها بعضُ أهل العلم بأنَّها: التوسط للغير في جلب منفعة أو دفع مضرة لأجل الغير.
هـٰذا كله معنى متقارب، واعلم أنَّ من العلماء من فسَّر الشفاعة بالدعاء فقال: الشفاعة هي الدعاء.
لكن ينبغي أن يقال: إنه دعاء خاص وليس دعاءً بمعناه المطلق؛ بل هو دعاء خاص في جلب نفع معين أو دفع ضر معين.
المؤلف –رحمه الله– رتّب هـٰذا الباب ترتيبًا بديعاً: فذكر أولاً الآيات المتعلِّقة بالشفاعة، ثم بعد ذلك جاء بكلامٍ لشيخ الإسلام –رحمه الله– تضمّن بيان ما تضمنته هـٰذه الآيات من معانٍ، فنبدأ بما ذكره أولاً –رحمه الله– من الآيات فقال: (وقول الله عز وجل: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ﴾.) هـٰذه الآية أمر الله –عزّ وجل– فيها رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يُنذِر الذين يخافون أن يُحشروا إلى ربّهم.
ومن هم أولئك؟
هم من آمن به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصدّقه فيما جاء به من الهدى ودين الحق. ﴿أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾ أي: يخافون لقاء الله جل وعلا؛ لأنّهم يعلمون أنهم ملاقوه، فهـٰذا فيه أنهم يؤمنون باليوم الآخر، وفيه أيضًا أنهم يؤمنون بأن اليوم الآخر يوم جزاء على الأعمال، ولذلك وقعت منهم المخافة.
﴿يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا﴾ والحشر: هو الجمع .
﴿إِلَى رَبِّهِمْ﴾ وهـٰذا بيان منتهى الحشر، وأن الحشر غرضه ومنتهاه أن يبلغ العبد ربه جل وعلا.
﴿لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ﴾ أي: من دون الله –عز وجل– في ذلك اليوم ولا في غيره، لكن في ذلك اليوم يتّضح هـٰذا اتضاحاً بيّنًا.
﴿لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ﴾ يعني: في ذلك اليوم.
﴿وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ﴾ ولي ناصر أو شفيع جالب للخير ودافع للشر عندهم بالتوسط، فنفى الطريقين اللذين يؤمل منهما الخير ويرجى منهما دفع الشر، وهما: الولاية والشفاعة، فليس لهم من دون الله ناصر يمنعهم دونه جل وعلا، وليس لهم من دونه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- شفيع يشفع لهم إلا بالشروط التي ستأتي.
وهـٰذه الآية فيها: نفي الشفاعة، وهو نمط من الآيات أو نموذج من الآيات التي في كتاب الله –عز وجل– التي جاءت فيها الشفاعة منفية، فالله -جل وعلا- نفى الشفاعة، كما في هـٰذه الآية نفى الشفيع قال : ﴿وَلا شَفِيعٌ﴾ وهـٰذا نفي للشفاعة، إذا انتفى الشفيع فالشفاعة منتفية.
ومن ذلك أيضًا: ما ذكره في الآية الثانية التي ساقها المؤلف رحمه الله.
(وقوله: ﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً﴾.) لله لا لغيره، وقدّم الجار والمجرور ليفيد انحصار الشفاعة فيه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- دون غيره: ﴿لِلَّهِ الشَّفَاعَة﴾ ثم أكد ذلك فقال: ﴿جَمِيعاً﴾ أي: جميع أنواعها، وجميع ما يتعلق بها، وجميع شأنها لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-. وبه يعلم أن الشفاعة محض فضل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ومحض كرمه وجوده على عبده، ليس للعبد فيها استحقاق، بل هي منة ومنحة وكرامة وإحسان وبر من رب العالمين.
وهـٰذا النص، وهـٰذه الآية من الآيات التي فيها نفي الشفاعة.
ولكنَّ النفي هنا معنوي أو لفظي؟ النفي هنا معنوي؛ لأنه بصيغة الإثبات الحَصري الذي يفيد الحصر والقصر، أما الآية السّابقة فالنفي فيها لفظي صريح: ﴿وَلا شَفِيعٌ﴾ وهـٰذا هو النوع الأول من الآيات التي ذُكرت فيها الشفاعة، وهو نفيها عن غير الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فإذا كانت منفية عن غيره ومثبتة له وحده لا شريك له كان الحق والواجب أن تطلب منه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وأن تسأل وأن ترجى منه دون غيره، فمن سألها من غير الله أو طلبها من دونه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فقد وقع في الشرك.
قال رحمه الله: (وقوله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ﴾( ).) هـٰذه الآية أثبتت الشفاعة للخلق، لكنَّها أثبتتها بتقييد ولم تثبتها بإطلاق، فهي ثابتة لمن أذِنَ له الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- .
واعلم أن الشفاعة المنتفية السابقة هي الشفاعة الشّركية التي يزعمها أهل الشرك، وأيضًا هي الشفاعة التي اختلّت فيها الشروط.
فالشفاعة المنفية في الآيتين الأوليين هي الشفاعة الشّركية أو الشفاعة التي اختلّت فيها الشروط.
أما ما تضمّنته هـٰذه الآية من إثبات الشفاعة فهي الشفاعة التي تكون لأهل التوحيد، وهي مشروطة بشروط، منها:
ما ذكره الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في هـٰذه الآية في قوله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ﴾. (من) هنا استفهام إنكار، أي: لا أحد يشفع عنده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إلا بإذنه.
وهـٰذا نفي وإثبات لبيان أنه لا تحصل الشفاعة لأحد إلا بإذن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
والله –جلَّ وعلا– إنما يأذن لمن يرضى كما ستبينه الآيةُ التالية، فالإذن هنا ليس إذنًا مطلقًا غير مبيَّن، بل هو إذن واضح مبيَّن بالآية الأخرى، فعُلِم من هـٰذا أن الشفاعة لا بد فيها من الإذن، والإذن إنما يكون لمن رضي عنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
قال المؤلف رحمه الله: (وقوله: ﴿وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا﴾( ).) ﴿لا تُغْنِي﴾: أي لا يحصل بها الغَناء، ولا يحصل بها النفع، ولا يحصل بها دفع الضرر والضر عن المخلوق .
﴿لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا﴾. و﴿شَيْئًا﴾ نكرة في سياق النفي، فتعم الشفاعة في دقيق الأمر وجليله، تعم الشفاعة في دخول الجنة وفي النجاة من النار، وفي رفع الدرجات،وفي جميع أنواع ما تحصل فيه الشفاعة .
﴿إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾. وهنا ذكر شرطًا مفصلاً، فذكر الإذن ثم بين لمن يكون الإذن، فالإذن إنما يكون لمن رضيه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، ليس لكل أحد.
والله –جل وعلا– لا يرضى إلا عن أهل التوحيد، الذين أخلصوا العبادة له، إن الله لا يرضى لعباده الكفر.
فمن وقع في ما لا يرضى الله –جل وعلا– فإن الله لا يرضى عنه، ومن حقق الغاية من الخلق والوجود فقد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وهـٰذا يبين لنا أن التوحيد شرط أساسي في تحصيل الشفاعة وحصولها للعبد يوم القيامة.
وقوله تعالى: ﴿وَكَم مِّن مَّلَكٍ﴾؛ ﴿كَم ﴾هنا تكثيرية، كثير من الملائكة لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا بالشرط المذكور: ﴿إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾. والنص على الملائكة دون غيرهم في هـٰذه الآية -مع أن الشفاعة ليست خاصة بهم-: لكون المشركين تعلَّقوا بالملائكة في الشفاعة، وقالوا: إن الملائكة يشفعون لنا عند الله، فبيَّن أن الملائكة الذين تتعلقون بهم وتظنون منهم الخير لا يشفعون إلا بهـٰذه الشروط، فدلَّ ذلك على أنه لا بد من إرضاء الله –جل وعلا– قبل الشّفاعة، والله –عز وجل– لا يرضى الشفاعة إلا لأهل التوحيد.
وقوله: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ( ).. ﴿قُلِ﴾ هـٰذا أمر من الله –عز وجل– لنبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أمر بالقول لمن؟ القول لمن وقع في الشرك، فهو أمر من الله للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يوجه هـٰذا الخطاب لأهل الشرك. ﴿ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾. ادعوا دعاء عبادة ودعاء مسألة ﴿الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾. أي: افتريتم ونسبتم إليهم الخير، وأنهم يجلبون لكم ما تريدون وصرفتم لهم العبادة. ﴿لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ﴾. فنفى عنهم الملك، وليس النفي هنا نفيًا خاصّاً لملك خاص، بل هو نفي لأدق ما يكون من الملك وأقل ما يكون من الملك، وهو ملك ذرة في هـٰذا الملكوت العظيم في السمٰوات والأرض. ﴿لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾. مثقال يعني: وزن، ميزان، ميزان ذرة في السمٰوات ولا في الأرض، فنفى عنهم ملك شيء في السماوات والأرض .
فانتفى عنهم سبب من أسباب الشفاعة؛ لأن الذي يشفع وينفع إنما يكون كذلك بمسوغ ومبرر: إمَّا أن يكون ملكًا أو مالكًا لشيء من هـٰذه الأشياء التي يطلُبُ الشفاعة فيها، وهو ليس له ملك. ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ﴾. فبعد أن نفى الملك الخاص المستقل نفى الشركة، فالشركة أيضًا منفية عنهم، فليس لهم في ملك السماوات والأرض شركة حتى تدعوهم وتعبدوهم وتصرفوا لهم العبادة.
﴿وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾. هـٰذا ثالث ما نفته الآية، وهو الإعانة، فالله -عز وجل– نفى الإعانة منهم، فليس لهم عون ولا معاونة يستوجبون بها صرف العبادة.
ثم بعد أن نفى هـٰذه الأمور الثلاثة: الملك والشركة والمعاونة في الخلق، بقيت الشفاعة، فقال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ﴿وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَه﴾. ثم بيَّن أن هـٰذا الإذن ليس إذن ند لنده ولا نظير لنظيره، بل هو طلب العبد المخلوق الذليل الضعيف الإذن من الرب جل وعلا الكبير المتعال، فقال:
﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾. وهـٰذا بيان حال الشافع وأنه في منتهى الذل، فإذا تكلم الرب –جل وعلا–كانت هـٰذه حاله، فكيف يرجى منه ما يغضب الله –جل وعلا–، وهو أن يشفع الشفاعة الشركية؟
وهـٰذه الآية كما قال غير واحد من أهل العلم: قطعت عروق الشرك، فقد قطعت أسبابه وحسمت مادته، فلم يبق للمشركين ما يتعلقون به أو يركنون إليه، فإن الله نفى الملك عن غيره ونفى الشركة ونفى المعاونة، وبيَّن أن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه .
وقد تقدم أن الشفاعة لا تكون إلا لمن رضيه –-سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-–، والله –جل وعلا– لا يرضى إلا من حقق التوحيد.
بعد هـٰذا السياق للآيات التي بيَّن فيها المؤلف –رحمه الله– أنواع الشفاعة وما يثبت منها مما لا يثبت، نقل عن شيخ الإسلام –رحمه الله– كلامًا شارحًا موضحًا فقال: (قال أبو العباس) وهـٰذه كنية الإمام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم، شيخ الإسلام رحمه الله.
وهـٰذا النقل من المجلد السابع في الصفحة السادسة والسبعين أو السابعة والسبعين، يقول: (قال أبو العباس: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون: فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه –أي: قسط من الملك-، أو يكون عوناً لله، ولم يبق إلا الشفاعة –يعني: بعد هـٰذا النفي لم يبق إلا الشفاعة-، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال: ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى﴾. فهـٰذه الشفاعة التي يظنها المشركون أنها لهم هي منتفية يوم القيامة، فلا يحصل بها النفع لهم ولا يحصل بها الخير لهم، كما نفاها القرآن، وأخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولاً.)
وهـٰذا فيه بيان الشفاعة المثبتة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهي الشفاعة لأهل التوحيد بعد إذن الله –عز وجل– ورضاه.
وأعظم هـٰذه الشفاعات شفاعة النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الموقف لأهل الموقف، وهي التي أشار إليها الشيخ –رحمه الله– في نقله هـٰذا.
قال: (وأخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده). وهـٰذا المجيء بعد أن يطلب أهل الموقف الشفاعة من آدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى، كلهم يحيل إلى الآخر، فإذا جاؤوا إلى عيسى عليه السلام أحالهم إلى محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، فيقول: أنا لها أنا لها.
يقول: (فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولاً.) وهـٰذا فيه أن الشفاعة ليست حقّاً للشافع، إنما هي أمر يتوسل إلى الله –عز وجل– في تحصيله، فلا بد من الإذن، لا يبدأ بالشفاعة أولاً، ثم يقال له –أي: يقال للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- -: (ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع.) فيؤذن له في الشفاعة.
والأحاديث التي ذكرت الشفاعة في الصحيحين تطوي ذكر الشفاعة العظمى وتنتقل مباشرة إلى ذكر شفاعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أمته، والسبب في هـٰذا أن الشفاعة العظمى لا ينكرها المنكرون ممن أنكر الشفاعة، ولم يكن فيها خلاف، إنما الخلاف في شفاعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأهل الكبائر من أمته، هـٰذه الشفاعة هي التي وقع الخلاف فيها بين أهل السنة والوعيدية وغالية المرجئة، فالشفاعة ثابتة لأهل الكبائر؛ ولذلك اهتم بها نقلة الأحاديث، ولم يذكروا شفاعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أهل الموقف، مع أن السؤال جاء من أهل الموقف، فالجواب على هـٰذا الإشكال: أن الرواة طووا ذكر الشفاعة العظمى -وهي شفاعته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أهل الموقف- لكونه لم يقع فيها خلاف، وأما التي وقع فيها الخلاف فذكروها ورووها بالتفصيل .
ثم قال رحمه الله: وقال أبو هريرة. وهـٰذا الحديث فيه إثبات الشفاعة، الشفاعة العظمى للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، وفيه أيضًا إثبات الشفاعة الخاصة به وهي شفاعته في أمته. وشفاعات النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ست:
منها ثلاث خاصة به، وثلاث له ولغيره.
أما الخاصة به: فهي شفاعته في أهل الموقف أن يأتي الله –جل وعلا– لفصل القضاء.
والثانية: شفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه من عذاب النار.
والثالثة: شفاعته في دخول أهل الجنةِ الجنةَ. هـٰذه الشفاعات الثلاث الخاصة بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- .
وأما الشفاعات التي له ولغيره: فشفاعته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قوم استحقوا النار ألا يدخلوها، وفي قوم دخلوها أن يخرجوا منها، وشفاعته أيضًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وغيره في رفع الدرجات.
وهناك شفاعة أيضًا خاصة بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهي شفاعته لأهل الجنة في دخولها، فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((أنا أول شفيع في الجنة)). وهـٰذا يشمل أنه أول من يشفع في دخول الجنة لجميع أهلها، فإنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ((يأتي إلى باب الجنة ويستفتح، فيقول الخازن: من؟ فيقول: محمد. فيقول الخازن: بك أمرت، لا أفتح لأحد قبلك)).
ويشمل أيضًا أنه أول من يشفع في من استحق النار ألا يدخلها، يشفع فيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلا يدخلها، يشفع أيضًا في قوم دخلوا النار أن يخرجوا منها، يشفع أيضًا في قوم دخلوا الجنة أن ترفع درجاتهم، وكل هـٰذا يدخل في عموم قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((أنا أول شفيع في الجنة)).
تلخّص لنا أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له ست شفاعات:
الشفاعات الخاصة:
الأولى: شفاعته في أهل الموقف.
الثانية: في عمه.
الثالثة: في دخول الجنة.
الشفاعات العامة:
الرابعة: في رفع الدرجات.
الخامسة: في قوم استحقوا النار ألا يدخلوها.
السادسة: في قوم دخلوها أن يخرجوا منها.
ست شفاعات: ثلاث خاصة، وثلاث عامة.
واعلم أن العامة التي يشاركه فيها غيره -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نصيبه منها أعظم وأوفر من غيره، ولا مساواة بينه وبين غيره في الشّفاعات العامة، بل نصيبه منها -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعظم من غيره.
قال : (وقال أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: ((من قال: لا إلـٰه إلا الله خالصًا من قلبه.))) وهـٰذا يبيّن لنا أنه بقدر تحقيق العبد للتّوحيد يحصل له شفاعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأسعد الناس يعني: أوفى الناس حظّاً، وأعظم الناس نصيبًا من شفاعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو من قال: لا إلـٰه إلا الله خالصًا من قلبه.
فبقدر تحقيق العبد للتوحيد بقدر ما يحصل له من الشّفاعة، وهـٰذا ندب إلى تحقيق التوحيد.
والنصوص التي وردت في شفاعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نوعان:
نوع ذكر فيها: أن أسعد الناس بشفاعته ((من قال: لا إلـٰه إلا الله خالصاً من قلبه)).
والنوع الثاني: أنّ النّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((من سأل الله لي الوسيلة فقد حلت له شفاعتي)). وانظر الفرق بين التعبيرين: هناك قال :(حلّت) يعني أبيحت وثبتت له، لكن في هـٰذا الحديث بين أن أوفى النّاس نصيبًا من شفاعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هم أعظم الناس تحقيقًا.
وبهـٰذا نعلم أن الناس في حصول شفاعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهم على درجات، وليسوا على درجة واحدة:
فمنهم من تحل له الشفاعة ويستحقها.
ومنهم من يكون له منها النصيب الأعلى والحظ الأوفى.
((من قال: لا إلـٰه إلا الله خالصاً من قلبه))، قال: (فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله.) هـٰذا من كلام شيخ الإسلام -رحمه الله-، فهي شفاعة لأهل التوحيد، وهـٰذا بيان لما أجملته الآيات في قوله تعالى: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾( ) فالرّضا هو الرضا بمن كان موحدًا، وليس الرضا مجملاً لا يدرى ما هو، إنما الرضا هو بالتوحيد.
قال: (فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله.) لأن الله لا يرضى الشرك.
قال: (وحقيقته) وهـٰذا مهم، (حقيقته) يعني: حقيقة الأمر (أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع؛ ليكرمه وينال المقام المحمود.)
إذًا يا أخي الشفاعة يحصل بها عدة أمور:
أولاً: بيان فضل الرب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وعظيم رحمته جلّ وعلا، فلولا فضل الله ورحمته ما حصلت الشفاعة، فهي محض فضل الله –عز وجل–، وفضله على صنفين من الناس:
على الشافع وعلى المشفع فيه: أما الشافع فلكونه بالشفاعة يظهر فضله ومكانته وجاهه عند الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فهو إكرام له، وأما المشفع فيه فهو فضل من الله عليه ورحمة إذ قبل فيه شفاعة الشافعين.
ثم حقيقة الأمر أنه بيان لعظيم فضل التوحيد؛ لأن التوحيد هو الذي يحصل به للعبد الشفاعة، وبه أيضًا يكون العبد شافعًا، فإنه لا يشفع إلا أهل التوحيد، ولا يُشفع إلا في أهل التوحيد.
قال رحمه الله: (فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك)يعني: ما وجد فيها الشرك (ولهـٰذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص) –اللهم اجعلنا منهم–. انتهى كلامه رحمه الله.
[المتن]
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيات.
[الشرح]
هـٰذا واضح.
[المتن]
الثانية: صفة الشفاعة المنفية.
[الشرح]
وهي الشفاعة الشركية.
[المتن]
الثالثة: صفة الشفاعة المثبتة.
[الشرح]
وهي الشفاعة لأهل التوحيد بعد إذن الله.
[المتن]
الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى، وهي المقام المحمود.
[الشرح]
واضح هـٰذا في الحديث الذي ساقه.
[المتن]
الخامسة: صفة ما يفعله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أنه لا يبدأ بالشفاعة أولاً، بل يسجد، فإذا أذن الله له شفع.
[الشرح]
نعم، هـٰذا واضح من قوله: إنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولاً.
[المتن]
السادسة: من أسعد الناس بها؟
[الشرح]
أهل التوحيد جعلنا الله منهم.
[المتن]
السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله.
الثامنة: بيان حقيقتها.
[الشرح]
هـٰذا كله واضح من كلام المؤلف رحمه الله.
بقي أن نذكر الشفاعة، الشفاعة في أهل الكبائر خالف فيها الوعيدية من المعتزلة والخوارج، وخالف فيها أيضًا غلاة المرجئة.
أما المعتزلة والخوارج فحملوا الآيات التي فيها ذكر الشفاعة على الشفاعة لأهل الجنة في رفع الدرجات؛ لأنه عندهم أنَّ من فعل الكبيرة كافر خالد في النار فلا يخرج منها بشفاعة ولا بغيرها.
وأما غالية المرجئة فقالوا: لا حاجة إلى الشفاعة؛ لأن المعاصي لا تضر مع الإيمان، فالإيمان به يدخل الجنة ولا تضره المعاصي، فلا حاجة إلى الشفاعة.
وأوَّلَ هؤلاء الذين أنكروا الشفاعة وصادموا النصوص، أوَّلوها بنوع خاص من الشفاعة، وهو الشفاعة في من؟ في أهل الجنة، في رفع الدرجات.
شرح
كتاب التوحيد
الذي هو حق الله على العبيد
لشيخ الإسلام والمسلمين مجدد الدين
محمد بن عبد الوهاب التميمي المشرفي
- رحمه الله تعالى-
لفضيلة الشيخ
الدرس الثاني عشر
www.almosleh.com
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
[المتن]
باب قول الله تعالى: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾( )الآية.
في (الصحيح) عن ابن المسيَّب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل، فقال له: ((يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)). فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب.وأبى أن يقول: لا إلـٰه إلا الله. فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لأستغفرن لك ما لم أنه عنك)). فأنزل الله عز وجل: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ﴾( ) الآية.
وأنزل الله في أبي طالب: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾ ( ).
[الشرح]
فقد قال الإمام المؤلف المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: ( باب قول الله تعالى: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾.)
ومناسبة هـٰذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة، وهي: أنَّ الهداية من الله جل وعلا، وأنها له -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ملكًا، فلا تُسأل من غيره، فمن سأل الهداية أو طلبها أو ظنها في غير الله جل وعلا فإنه قد أخطأ ووقع في شرك الربوبية وفي شرك الإلهية: في شرك الربوبية حيث جعلها من فعل غيره، وفي شرك الإلهية حيث سألها من غيره، هـٰذه مناسبة هـٰذا الباب لكتاب التوحيد.
أما مناسبة هـٰذا الباب للباب الذي قبله: فإنَّه في الباب الذي قبله -وكذلك ما تقدّمه من أبواب قريبة- ذكر المؤلف –رحمه الله– عجزَ المخلوق مهما بلغ في الجاه والمكانة، وفي القدرة والقوة، عن أن يوصِل خيرًا أو يمنع ضرّاً عن أحد استقلالاً عن الله عز وجل، فبيَّن فيما مضى أن أشرف الخلق وأعظمهم جاهًا لا يستطيع أن يجلِبَ لنفسه ولا أن يدفع عنها، ولا يجلب لغيره نفعًا ولا يدفع عنه ضرّاً، وكذلك أعظم الخلق قدرة وهم الملائكة لا يستطيعون ذلك.
ثم بيَّن أنه حتى الشّفاعة من هؤلاء لا تمكن ولا تحصل إلا بشروط، وهي:
إذنُ الله جل وعلا، ثم رضاه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عن الشافع وعن المشفوع فيه.
في هـٰذا الباب أتى وبيّن -رحمه الله- أن الهداية لا تكون من غير الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فهي لا تُطلب لا من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا من الملائكة ولا من غيرهم، بل إنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يتمكّن من إيصال الهداية إلى أعظم النّاسِ محبةً ودفاعًا عنه وهو أبو طالب، فإنَّه من أعظم الناس محبة لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن أعظمهم دفاعًا عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فإنَّ أبا طالب ضحّى بماله وجاهه ومكانته وكلِّ ما يملك في الدِّفاع عن النّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأثنى على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثناءً بالغاً، كما في لاميته:
وقد علموا أن ابننا لا مُكذَّبٌ
لدينا ولا يُعنى بقول الأباطلِ
اللامية المشهورة من قصيدة أبي طالب في الثناء على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبيان صدق ما جاء به، وأن ما يدعو إليه حق، مع ذلك لم يتمكن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من إيصال الهداية إليه، مع أنَّ الله -جل وعلا- قال في وصفه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مستقيم ﴾( ).
لكن الهداية التي أثبتها الله لرسوله هي هداية الدّلالة والإرشاد والبيان والتوضيح، أما هداية التوفيق والعمل والإلهام فهـٰذه لا تكون إلا من الله جلَّ وعلا، فتلك في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مستقيمٍ﴾ هداية دلالة وإرشاد، وهـٰذه التي في قوله: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾( ) هداية توفيق وعمل، وهـٰذه لا تكون إلا من الله جلَّ وعلا، فمهما اتضحت البينات واستبان الحق، فإنه لا يتمكن الإنسان من سلوك السبيل، والعمل بمقتضى هـٰذا الدليل، إلا بتوفيق الله جل وعلا.
إذًا مناسبة هـٰذا الباب لما قبله: أنه نوع منه، فإنه كما أن النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يستطيع أن يوصل الخير، ولا يستطيع أن يدفع الضر وكذلك الملائكة، فهو أيضًا لا يستطيع أن يوصل الهداية لمن أحب، ولمن حرص حرصًا بالغًا على هدايته، هـٰذا وجهٌ في مناسبة هـٰذا الباب لما قبله.
ومن الأوجه -وهو وجه خفي لكنَّه قد يكون قريبًا-: أنَّ المؤلف -رحمه الله- فيما تقدَّم بيَّن التوحيد، وبيَّن ما رتَّب الله -جل وعلا- من الأجر عليه، وما رتَّب من العقوبة على من خالفه، وبيَّن الشرك وعقوبة أهله، وبيَّن بعض ما يتعلق بالشرك، في شرك الأسباب، وفي شرك الطلب، وفي شرك العبادة بعدة صور تقدَّمت، وهي واضحة بالأدلة البينة.
فبعد أن بين ما بين كأنه يقول: فمن لم يقتنع بذاك فليس عليك هدايته، إنما هدايته إلى الله جل وعلا، فأنت قد قمت بهداية البيان والتوضيح وإقامة الحجة، وأما هداية العمل والتوفيق والامتثال فهـٰذه إلى الله جل وعلا، فلعل هـٰذا من مقاصد المؤلف -رحمه الله- بهـٰذا الباب.
هـٰذا الباب ذكر فيه -رحمه الله- آيةً وحديثًا، الآية هي قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء﴾( ) الخطاب في هـٰذه الآية لمن؟ للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو المخاطَب بهـٰذه الآية. ﴿إِنَّكَ﴾ أي: يا محمد ﴿لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾. والهداية المنفية تقدم لنا أنها هداية العمل، هداية التوفيق، هداية الإلهام، هـٰذه لا تكون لأحد، فهي منفية عن كل أحد ولا تكون إلا لله جل وعلا.
﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾. (من) هنا موصولة بمعنى: الذي. ﴿أَحْبَبْتَ﴾ ولم يذكر في صلة الموصول العائد، وهو الضمير المقدَّر في قوله: أحببت، أي: إنَّك لا تهدي من أحببته، فما هي المحبة التي أثبتها النص لأبي طالب؟ لأن هـٰذه الآية نزلت في أبي طالب، هل هي محبته ذاته؟ أم هي محبة هدايته؟
قولان لأهل العلم:
منهم من قال: إن هناك مقدراً محذوفاً تقديره: من أحببت هدايته، وهـٰذا قاله كثيرٌ من المفسرين ومن أهل العلم.
والقول الثاني: أن الضمير يعود إلى أبي طالب. والمحبة هنا هي المحبة التي لا لوم فيها على الإنسان، وهي محبة الرّحمة، ويمكن أن تكون محبة القرابة؛ لأنَّ المحبة التي تكون للمخلوق إما أن تكون محبة طبيعية، وإما أن تكون محبة إلف وأنس، وإما أن تكون محبة رفق ورحمة.
ومن أنواع المحبة التي قد تندرج في بعض ما تقدّم محبة القرابة، فقد تكون من إلف، وقد تكون من رحمة، وقد تكون محبة طبيعية كمحبة الوالد لولده. المهم أنَّ من العلماء من قال: إننا لا نحتاج إلى تقدير؛ بل نقول: ﴿أَحْبَبْتَ﴾ أي: أحببته لذاته، وذلك أنّ أبا طالب دافع عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مدافعة عظيمة، وأبلى في ذلك بلاءً بيّنًا واضحًا، حتى إن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حزن على موته، وحزن على عدم استجابته حزنًا عظيمًا، فقولان لأهل العلم في توجيه قوله تعالى: ﴿مَنْ أَحْبَبْت﴾؛ ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء﴾.
﴿لَكِنَّ اللَّهَ﴾ هـٰذا استدراك لبيان لمن أو ممن تكون الهداية. ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء﴾. فالهداية منه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وهي منه وفق مشيئته، والمشيئة حيث ذكرت مضافة إلى الله عز وجل فاعلم أنها مشيئة مقترنة بالحكمة، فإنَّ الله -جل وعلا- لا يفعلُ شيئًا إلا لحكمة، فهو الحكيم الخبير
-سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، ذو الحكمة البالغة والقدرة النافذة، فمشيئته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مقترنة بحُكمِه.
﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء﴾ والهداية التي نفاها عن غيره وأثبتها له هي هداية التوفيق والإلهام والعمل.
ذكر المؤلف -رحمه الله- سبب نزول هـٰذه الآية حتى يتضح المعنى اتضاحًا جليّاً، فقال رحمه الله: (في الصحيح عن ابن المسيِّب) ويقال: ابن المسيَّب، مع أن بعض العلماء نقل عنه قوله: سيَّب الله من سيَّبَنِي، فنحتاج إلى تحقيق: هل هو المسيِّب أم المسيَّب، هما وجهان يقرأ بهـٰذا وبهـٰذا، لكن المشهور: المسِّيب.
(عن أبيه) وهو حَزْن، من الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل).
(حضرت): أي نزلت الوفاة، وحضور الوفاة يطلق على أمرين:
يطلق على نزول علامات الموت وكون الإنسان في سياق الاحتضار وسياق الموت .
ويطلق أيضًا على نزول الموت بمعنى نزول بداياته، وليس النزول الذي يكون فيه الإنسان محتضرًا في سياق الموت، يعني: نزل به ما يُعلم منه أنه يموت منه.
فعندنا قوله: (لما حضرت الوفاة) يحتمل أنها حضور العلامات التي يكون الإنسان فيها في سياق الموت، والثاني: أنه نزل به ما يموت منه وإن لم يكن قد قارب الموت .
والذي يظهر من سياق الحديث أنَّ المراد: ساعة الاحتضار؛ لأن هـٰذه المجادلة والمراجعة التي كانت بين رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبين هؤلاء الذين حضروا محاورة المشفق الذي يريد أن يستبق فوتًا، ويأخذ شيئًا قبل أن يمضي.
قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعنده) يعني: عند أبي طالب (عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل، فقال له : ((يا عم))).
وهـٰذه كلمة فيها من التلطف والشفقة والحنو ما يستوجب قبول ما يدعوه إليه.
((يا عم، قل: لا إلـٰه إلا الله)) وهـٰذا القول مفتاح الجنة، وهو مفتاح الإسلام، فمن قاله دخل في الإسلام.
((قل: لا إلـٰه إلا الله)) ولم يقل: وأني رسول الله؛ لأن هـٰذا معلوم، ولأنه في الظاهر أن أبا طالب لا يُنكر رسالة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لكنه لم يقبل ما جاء به، فهو يصدقه فيما يقول لكنه لم يقبل منه، فعرض عليه هـٰذه الكلمة التي إذا حصَلت ثبت له ما بعدها من الشهادة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالرسالة.
((قل: لا إلـٰه إلا الله، كلمة أُحاج لك بها عند الله)).
((أحاج لك بها عند الله)). قال بعض العلماء: أي أجادل لك بها الله جل وعلا. وقال آخرون: المحاجة المراد بها هنا الشهادة كما جاء في رواية أخرى، وهي رواية مسلم: ((أشهد لك بها عند الله)) وهـٰذا المعنى أقرب، وهو تفسيرٌ لهـٰذه الرواية، فالمراد بالمحاجة: هو الشهادة له بأنَّه قال الكلمة التي يكون بها مسلمًا.
((قل: لا إلـٰه إلا الله، كلمة أُحاج لك بها عند الله)) وهـٰذا القول فيه إشكال، يعني: قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ((أُحاج لك بها عند الله)) فيه إشكال، من جهة أن أبا طالب قال هـٰذه الكلمة التي طُلبت منه في ساعة الاحتضار، وقد قال الله جل وعلا: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾( ) والتي بعدها: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ﴾( ). انظر إلى قوله: ﴿حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾. وهو ما وقع في هـٰذا الحديث، حيث قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة). يعني: لما حضره الموت، فالآية تدل على أن التوبة تنقطع بحضور الوفاة، بحضور الموت، والحديث يدل على أن هـٰذه الكلمة تنفع، ولذلك قال له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ((قل: لا إلـٰه إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)). فأجاب العلماء رحمهم الله عن هـٰذا الإشكال، أو على هـٰذا الإشكال بجوابين:
الجواب الأول: قال جماعة منهم: إن حضور الوفاة هنا هو نزول ما يموت به الإنسان، ولا يلزم أن يكون في ساعة الاحتضار التي ذكرها الله في الآية: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾. وانفكوا من الإشكال.
الجواب الثاني: وهو الذي رجحه جماعة، ومنهم شيخنا -رحمه الله-: أنَّ هـٰذا خاص بأبي طالب، أن هـٰذا مما اختص الله به أبا طالب، أنه لو قالها في تلك الساعة لنفعته، وأما غيره فإنَّ هـٰذه الساعة ليست ساعة توبة وأوبة؛ لأنه إذا غرغر الإنسان وبلغت الروح الحلقوم وكان الإنسان في ساعة الاحتضار لم يقبل منه توبة ولا رجوع.
وهـٰذا الجواب الثاني جواب جيد في الحقيقة ولا إشكال فيه، ودليل الخصوصية أن أبا طالب له من الخصوصية ما ليس لغيره، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شفع في تخفيف العقوبة وقُبلت الشفاعة فيه، ثم إنه فعل من النصرة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولدين الإسلام ما لم يفعله أحد من أهل الشرك والكفر، فهـٰذا دل على أن ما عُرض عليه إنما هو على وجه الخصوصية.
(فقالا له) الضمير يعود إلى عبد الله بن أبي أمية وأبي جهل.
(فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟). والرغبة معناها: الترك، يعني: أتترك ملة عبد المطلب؟ ومن هـٰذا نفهم أن ملة عبد المطلب ليست هي لا إلـٰه إلا الله، وأنه لم يكن على ما كان عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بل كان على أمر يخالف ما يدعو إليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فكان على الشرك.
ومنه نعلم أن عبد المطلب كان مشركًا؛ لأن نسبة الملة إليه ومقابلتها لما دعا إليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تبيّن لنا حاله.
ثم نفهم من هـٰذا أن المشركين يفهمون معنى لا إلـٰه إلا الله، كما سيبين المؤلف رحمه الله في المسائل، إذ إنهم جعلوا هـٰذا القول يقتضي عملاً، وهـٰذا القول يخالف ما هم عليه، ففهموا من لا إلـٰه إلا الله ما لم يفهمه كثيرٌ من المتأخّرين.
فلا إلـٰه إلا الله معناها: أي لا معبود حقٌّ إلا الله كما تقدم، وهـٰذا ما لا يرضاه أهل الجاهلية؛ لأنهم تعجبوا من ذلك غاية العجب، فقالوا: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هـٰذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾( ) . فجعلوه مما يُستغرب منه ويُندهش منه ويُتعجب منه أن يختصر هـٰذه الآلهة المتعددة التي يعبدونها في إلـٰه واحد، وما ذلك إلا لفساد عقولهم، وفساد فِطَرِهم، وإلا فالفِطَر مركوز فيها أن لا تعبد إلا إلهاً واحدًا، ولذلك هم في الشدائد عند نزول كربهم يتركون هـٰذه الآلهة ولا يتوجهون إلا إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
قال: (فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أعاد عليه أي شيء؟ أعاد عليه العرض السابق: ((قل: لا إلـٰه إلا الله، كلمة أُحاج لك بها عند الله)) وهـٰذا فيه أنه ينبغي لمن يدعو إلى الله عزّ وجل أن لا يَمَل وأن لا يَكل، بل ينبغي له أن يواصل في الدعوة إلى الله عز وجل وهداية الخلق مهما كانت دِعاية المقابلين، ومهما كانت حججهم، فحججهم شُبَه؛ ولذلك لم يتعرّض رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى مقالتهم، بل أعاد الحق فقط دون أن يتعرّض لما عرضاه؛ وهـٰذا لأن المقام ليس مقام مناقشة ومجادلة؛ بل هو مقام دعوة وإنقاذ، ولذلك باشر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الدعوة إلى لا إلـٰه إلا الله دون أن يتعرض إلى ملة عبد المطلب، ودون أن يقول: هي ملة باطلة، اتركها، احذرها، تقع بسببها في النار، بل أعاد الحق الذي يدعو إليه، وفي الدعوة إلى الحق كفاية في إبطال الباطل.
(فأعاد عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تلك المقالة، فعادا) أي: أعاد أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية تلك المقالة السيّئة التي صدَّت عن التوحيد وصدَّت عن الإيمان بألوهية الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
(فكان آخر ما قال) من؟ أبو طالب (هو على ملة عبد المطلب) نعوذ بالله من الخسران: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء﴾ مات على هـٰذه الملة الفاسدة التي مآل أهلها إلى النار –نعوذ بالله من الخذلان- وأبىَ أن يقول: لا إلـٰه إلا الله. وفي رواية أخرى بيَّن أبو طالب سبب هـٰذا الامتناع، فقال: ((لولا أن تعيرني قريش لأقررت بها عينك)) تعيره بماذا؟ تعيره أنه جزع في حال السياق والموت وترك ملة أبيه، وملة من يعظمونه وهو عبد المطلب، أبىَ أن يقول: لا إلـٰه إلا الله.
(فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لأستغفرن لك)).) اللام هنا موطئة للقسم، وأكد النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هـٰذا العزم على الاستغفار بثلاثة مؤكدات: القسم، واللام، والنون. ((لأستغفرن لك)) أي: لأطلبنّ لك المغفرة.
((ما لم أُنه عنك)) انظر إلى انصياع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى أمر الله عز وجل، وملاحظته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما يأمره به ربه، وأنه لا يفعل من قِبل نفسه، مهما كان ذلك مخالفًا لما يحبه، فإنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع شدة حرصه على هداية عمه وشفقته عليه وما كان منه من إعراض، قال: ((لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك))، فقَيَّد ذلك بأنه يستمر على الاستغفار إلا إذا جاء نهي، وفي هـٰذا وجوب تقييد أحوال الإنسان بما جاء عن الله وعن رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وبذلك يتحقق للإنسان كمال الإيمان، مَن حكمَ عواطفه، وحكَم مشاعره بما جاء به الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الكتاب والسنة كان على خير عظيم وسلِم من شر عظيم، فأنزل الله عز وجل: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى﴾( ). هـٰذه الآية نزلت لبيان امتناع أن يستغفر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه ومن معه وأهل الإسلام لمن تيقّنوا موته على الشرك.
﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ﴾ أي: أن يطلبوا المغفرة للمشركين ﴿وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى﴾. يعني: ولو كانوا أصحاب قرابة وأهل قرابة، فإنَّ شركهم يقطع هـٰذه الصلة، ويبت هـٰذا الحق لهم، فإنه لا حق للمشرك-إذا مات- في طلب المغفرة.
وقول الله تعالى: ﴿مَا كَانَ﴾ يستخدم في بيان الامتناع الشرعي أو الامتناع الكوني القدري، وكذلك: ما ينبغي. هنا امتناع شرعي أم امتناع كوني؟ هـٰذا امتناع شرعي، يعني: يمتنع شرعًا أن يستغفر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمؤمنون للمشركين. والامتناع الكوني مثاله قول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً﴾( ) . يعني: يمتنع عليه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن ينسى؛ لأنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الحفيظ العليم.
أيضًا من الأمثلة الظاهرة: ﴿وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً﴾( ) فهـٰذه قريبة من هـٰذه، والامتناع هنا امتناع قدري. المهم أن ﴿مَا كَانَ﴾ تأتي للامتناع الشرعي، وتأتي للامتناع القدري.
قال: (وأنزل الله في أبي طالب: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء﴾( ) .) وهـٰذا لا خلاف بين أهل العلم في أنها نزلت في أبي طالب، كما أنه لا خلاف بين أهل العلم أن أبا طالب مات كافرًا، وهـٰذا مما أجمع عليه أهل العلم، وما يدّعيه المدَّعون من أن أبا طالب أسلم، إنما هـٰذا كذب وبهتان تردّه الأدلة الظاهرة ويرده إجماع أهل العلم.
وقد كان جماعة من أهل التصوف يعتقدون أن أبا طالب، وأن عبد المطلب قد ماتا على التوحيد، ولكن هـٰذا يخالف ما هو ظاهر في هـٰذا الحديث وفي غيره، ويكفي في ذلك حصول الإجماع ممن يُصدَر عن إجماعهم وهم أهل العلم في أن أبا طالب مات كافرًا.
وأما قول الراوي: (فأنزل الله عز وجل: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى﴾( )). فظاهر هـٰذا السياق أن هـٰذه الآية نزلت في هـٰذه الحادثة، وهي نزلت متأخرة، وبعض العلماء يقول: لا يمنع أن يكون النزول قد تكرر، فنزلت في هـٰذا الأمر، ونزلت أيضًا في استئذان النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الله – عز وجل- أن يستغفر لأمه، ولكن الظاهر أنها نزلت في ذلك، وأما ما نزل في هـٰذا الحدث فهو قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء﴾( ).
الاستغفار للمشركين ما حُكمه؟ بعد الموت محرَّم ولا إشكال؛ لقوله: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ﴾( ).
في الحياة ما حكمه؟ الصحيح أنه جائز، أن يستغفر الإنسان للمشرك، ومنه قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غزوة أحد: ((اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون)).
ولكن اعلم أن المغفرة التي سألها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لقومه وهم مشركون في حياتهم ليست المغفرة التي هي العفو عن الشرك، فالشرك لا يقع تحت المغفرة: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾( ). إنما هي طلب هدايتهم والتوبة عليهم، بترك الشرك، فقول النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)). هو كقوله: اللهم اهدهم، اللهم تب عليهم من هـٰذا الشرك، وليس المقصود أن يبقوا على شركهم ويغفر لهم، فهـٰذا ممتنع؛ لأن الله قد بين أنه لا يغفر الشرك: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾( ).
إذًا طلب المغفرة للمشرك في حال حياته جائزة أو ليست جائزة؟ جائزة، والمعنى هو طلب الهداية والتوبة عليه من الشرك الذي هو فيه، وأما بعد موته فلا شك أنه لا يجوز طلب المغفرة للمشرك إذا مات على الشرك.
[المتن]
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء﴾( ).
[الشرح]
وهـٰذا واضح. ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾. ما الهداية التي نفاها الله عن رسوله؟ هداية التوفيق والعمل.
[المتن]
الثانية: تفسير قوله: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ﴾( ).
[الشرح]
هـٰذه واضحة.
[المتن]
الثالثة وهي المسألة الكبرى: تفسير قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((قل: لا إلـٰه إلا الله)) بخلاف ما عليه من يدعي العلم.
[الشرح]
هـٰذه المسألة -كما قال الشيخ رحمه الله- مسألة كبرى، وهي فهم معنى لا إله إلا الله، ويشير الشيخ -رحمه الله- في هـٰذه المسألة إلى خطأ من يفسر هـٰذه الكلمة العظيمة الفارقة بين أهل الإسلام وأهل الكفر، الموجبة للدّخول في الإيمان وهي أولّ الواجبات وآخر المطلوبات؛ لأن ((من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة)). هي أول الواجبات وآخر المطلوبات، مع هـٰذا يجهل معناها كثير من الناس، فيفسرها على غير وجهها فيقول: لا إله إلا الله معناها: لا قادر على الاختراع إلا الله، أو لا مخترع إلا الله، أو لا صانع إلا الله، وهـٰذا معنى باطل، تقدَّم بيان بطلان هـٰذا فيما تقدم من الدروس، فما هي أوجه بطلان هـٰذا التفسير، تفسير لا إله إلا الله بلا خالق أو لا صانع أو لا قادر إلا الله؟ غلط من وجوه عدة ذكرناها في الدروس السابقة، نراجعها:
أنَّ هـٰذا تمنعه اللغة، فليس في معاني الإله في كلام العرب لا القدرة ولا الاختراع ولا الصنع، هي من التفسير باللازم، لكن ليس صحيحًا أن يتركَ الإنسان التفسير المطابق الذي يُفهم به المعنى إلى التفسير باللازم، ولا يُصار إلى التفسير باللازم إلا إذا تعذر التفسير المطابق الذي يتبين به اللفظ.
إذاً أولاً: أن هـٰذا مما تمنعه اللغة.
ثانيًا: أنَّ الخصومة التي وقعت بين الرسل وأقوامهم ليست في أن الله هو الخالق أو أنه هو الصانع، بل هم يقرون بذلك، وأنه لا خالق إلا الله، ولا مالك إلا الله، ولا صانع إلا الله، لكنهم كانوا يجادلون ويناقشون في أي شيء؟ في العبودية، في أنها حق لله، فهم يرون أنها ليست حقّاً له وحده، بل هي حق له ولمن اخترعوه من الأصنام والمعبودات، هـٰذا الوجه الثاني.
[المتن]
الرابعة: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا قال للرجل: ((قل: لا إلـٰه إلا الله)). فقبَّح الله من أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام.
[الشرح]
ما فيه إشكال أن أبا جهل كان مدركًا إدراكًا تامّاً لمعنى هـٰذه الكلمة، لكنه أبى أن يقرَّ بها، فباء بالخسران نعوذ بالله من الخذلان، وهـٰذه تابعة للتي قبلها، فإذا كان أبو جهل يعلم من لا إله إلا الله ما لا يعلمه كثير من المسلمين دلَّ على عِظم جهل هؤلاء، وأنهم في ضلال مبين، نسأل الله السلامة والعافية.
[المتن]
الخامسة: جِدُّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومبالغته في إسلام عمه.
[الشرح]
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وهـٰذا واضح في تكرار الدعوة، بشفقة، ورفق، ولين، ورحمة، وبيان أنها تنفعه: (كلمة أُحاج لك بها عند الله). وفي رواية: ((أشهد لك بها عند الله)). كل هـٰذا يبين عظيم جِدِّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وشفقته وحرصه على هداية عمه، مع أنَّ عمه مودع، يعني: لا يستفيد منه شيئًا يعود عليه بالنصر أو بالتمكين أو بالقوة أو بالعز، ومع ذلك حرص -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على هدايته.
ونظير هـٰذا ما كان منه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المدينة لما عاد الصبيَّ اليهودي، فإنَّه عرض عليه الإسلام، فلما أجابه الصبي بعد مراجعة أبيه، قال له أبوه: ((أجب أبا القاسم)). فشهد أن لا إلـٰه إلا الله، خرج رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تبرق أساريره فرحًا بإسلامه، مع أنه ماذا سيستفيد؟ ماذا سيستفيد بالمعنى المادي؟ ما الذي سيعود عليه بإسلام هـٰذا الذي قد ودَّع وانصرف؟ إنما هي الشفقة والرّحمة والحرص على هداية الخلق، ومن كان متأسيًا بالنبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هـٰذا وُفِّق إلى القبول يا إخوان، فإنَّ من أسباب قبول الدعوة أن يكون الإنسان شفيقاً في دعوته، أن يُظهر الحرص واللَّهف على إنقاذ هـٰذا من الهلكة والنار.
[المتن]
السادسة: الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه.
[الشرح]
وهـٰذا واضح في الحديث.
[المتن]
السابعة: كونه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استغفر له فلم يُغفر له، بل نُهي عن ذلك.
[الشرح]
وهـٰذا فيه أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يملك من الأمر شيئًا، كما قال الله جل وعلا: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾( ) فالأمر لله جل وعلا، الأمر الكوني القدري، والأمر الشرعي الديني لله جلَّ وعلا، فرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مبلِّغ لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرّاً ولا نفعًا، فلم يملك جلب النفع لأعظم الناس شفقة عليه، وهو عمه.
[المتن]
الثامنة: مضرة أصحاب السوء على الإنسان.
[الشرح]
وهـٰذا واضح جدّاً، حيث كان هـٰذان الرجلان سببًا في الضلال، وهـٰذا مما يُستفاد منه-كما قال الفقهاء-: أنه ينبغي أن يحضره -أي المحتضر- أهل الصلاح وأن يبعد عنه أهل السوء، فقد يُختم له بسوء بسبب من عنده.
[المتن]
التاسعة: مضرَّة تعظيم الأسلاف والأكابر.
[الشرح]
وهـٰذا واضح وسيقرره المؤلف -رحمه الله- تقريراً واضحًا في الباب القادم، ووجه هـٰذا: أنهما لم يحتاجا في رده وثنيه عن قول: لا إله إلا الله إلا أن ذكروه بملة عبد المطلب، قالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فكان ذلك سببًا لامتناعه عن قول هـٰذه الكلمة.
[المتن]
العاشرة: الشبهة للمبطلين في ذلك؛ لاستدلال أبي جهل بذلك.
الحادية عشرة: الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم؛ لأنه لو قالها لنفعته.
الثانية عشرة: التأمل في كبر هـٰذه الشبهة في قلوب الضالين؛ لأن في القصة أنهما لم يجادلوه إلا بها، مع مبالغته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتكريره، فلأجل عظمها ووضوحها عندهم، اقتصورا عليها.
[الشرح]
فهـٰذه المسألة هي المسألة الأخيرة، وفيها أشار المؤلف -رحمه الله- إلى كِبَر هـٰذه الشبهة، وهي البقاءُ والاستمرار على ما كان عليه الآباء والأسلاف، حيث إن عبد الله بن أبي أمية وأبا جهل لم يذكرا لأبي طالب غيرَ هـٰذه الشبهة، فلما عرَض عليه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الإسلام ما كان منهما إلا أن قالا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فانتهى عن إجابة النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى قول تلك الكلمة التي لو قالها لنجا ولسعد في الدارين.
كِبَر هـٰذه الشبهة في قلوب الضالين؛ (لأن في القصة أنهما لم يجادلوه إلا بها مع مبالغته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتكريره، فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم اقتصروا عليها)، وهـٰذه المسألة توطئة للباب الذي سنقرؤه الآن إن شاء الله تعالى.
¹
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
[المتن]
باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهِم دينَهم هو الغلو في الصالحين
وقول الله عز وجل: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾( ).
في (الصحيح) عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- في قول الله تعالى: ﴿وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾( ). قال: "هـٰذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونُسِي العلم عبدت".
وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلَهم، ثم طال عليهم الأمدُ فعبدوهم.
وعن عمرَ بنِ الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابنَ مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)). أخرجاه.
وقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)).
ولمسلم عن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((هلك المتنطعون)) قالها ثلاثاً.
[الشرح]
مناسبة هـٰذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة: وذلك أن المؤلف -رحمه الله- ذكر في هـٰذا الباب السبب الذي جعل الناس يخالفون التّوحيد، ويخرجون عن دائرة التّوحيد إلى الشرك، فقال رحمه الله: (باب ما جاء أنّ سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلوّ في الصالحين.)
فأعظم ما يخرج به الناس عن التوحيد، ويقعون بسببه في الشِّرك هو الغلو في الصالحين، ولذلك بيَّنه المؤلف -رحمه الله- في هـٰذا الباب.
أما مناسبته للباب الذي قبله: فهي أيضًا واضحة، وذلك أنه في الباب السابق أشار -رحمه الله- إلى شبهة المشركين في شركهم، وهي تعظيمهم لكبرائهم ورؤسائهم ومقدَّميهم، وغلّوهم في هؤلاء، فذكر في هـٰذا الغلو، لكنه ذكر الغلو الذي هو أصل الشّرك، وهو الغلو في الصالحين، فلما كان في الباب المتقدِّم ذكرُ نوع من الغلو منع من الانقياد للحق، ذكر هنا الغلو الذي كان سبب الكفر وكان سبب خروج كثير من الناس عن جادة التوحيد، هـٰذا وجه.
الوجه الآخر الذي يمكن أن يكون مناسبة بين البابين: أنه في الباب السابق ذكر ملة عبد المطّلب، وذلك في قول النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعمِّه: ( ((يا عم قل: لا إلـٰه إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)). فقالا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟) أي: عبد الله وأبو جهل قالا- لأبي طالب-: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فبيَّن في هـٰذا الباب أصل هـٰذه الملة التي جعلوها بإزاء قول: لا إلـٰه إلا الله، في مقابلة لا إلـٰه إلا الله، أصل هـٰذه الملة هو الغلو في الصالحين، فملة عبد المطلب هي بقايا ما كان عليه أهل الشرك الذين أشركوا بالله -عز وجل- بسبب غلوهم في الصالحين، فكان من المناسب أن يُبيِّن في هـٰذا الباب أصل تلك الملة التي جُعلت في مقابل ملة الإسلام.
التّرجمة احتوت عدة معانٍ:
المعنى الأول: بيانُ سبب الكفر وترك الدِّين، وأنَّ هـٰذا لا يخصّ فئةً من الناس، بل هو في جميع بني آدم، ولذلك قال: أنَّ سبب كفر بني آدم في القديم والحديث، في الماضي والحاضر، وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين.
أفادت الترجمة أيضًا: أنَّ أصلَ محبة الصالحين عبادة وقربة يتقرب بها إلى الله عز وجل، وأنَّ المنهي عنه هو الغلو، وأما أصل المحبة فإنها عبادة وقربة يتقرب بها العبد إلى الله عز وجل، والذي يُنهى عنه هو الغلو وهو الزيادة.
وقوله: (في الصالحين) هـٰذا يشمل كلَّ من صدق عليه وصف الصلاح من ملَك، أو رسول، أو ولي من الجن والإنس، من ذكر أو أنثى، فكل هؤلاء يدخلون في قوله -رحمه الله-: (في الصالحين).
وفي هـٰذا أيضًا فائدة في هـٰذه الترجمة : وهي أنَّ الأصل في الناس التوحيد، وأنَّ الشرك طارئ، وهـٰذا مصداق قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ- فيما يرويه عن ربه -عز وجل- في الحديث الإلهي: ((خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين)). حنفاء أي: مستقيمين على التوحيد مائلين عن الشرك، فالأصل هو إفراد الله بالعبادة، والذي طرأ هو الشرك، هـٰذا كله مما يستفاد من ترجمة المؤلف رحمه الله.
ثم قال -رحمه الله- : (وقول الله عز وجل: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾( ).)
هـٰذه الآية الخطاب فيها لأهل الكتاب، وأهل الكتاب في الأصل هم اليهود والنصارى، وسموا بذلك لأنهم من الأمم الباقية إلى عهد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإلى وقت بعثته ومعها كتاب ترجع إليه وتصدر عنه، وإن كان قد طرأ على الكتاب تحريف وتغيير وتبديل، لكن أصل الرّسالة باقٍ.
والمراد بأهل الكتاب في هـٰذه الآية هم النصارى خاصة، فخرج بذلك اليهود فإنّهم لا يدخلون في هـٰذه الآية؛ لأنَّ اليهود أهل جفاء، خلافًا للنصارى الذين هم أهل غلو، هـٰذا مرجح.
المرجّح الثاني الذي يدلُّ على أن المراد بأهل الكتاب النصارى هو السياق، فإنَّ السياق في الحديث عن غلو النصارى في المسيح ابن مريم عليه السلام وفي أمه، ثم جاء بعد ذكر هـٰذا الغلو قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾( ). ولذلك ذهب جماعة من العلماء إلى أنَّ المراد بأهل الكتاب النّصارى، وقال آخرون: إن المراد اليهود والنصارى؛ لأن اليهود حصل عندهم غلو أيضًا، لكنه ليس غالبًا ولكنَّه في بعض طوائفهم، وهم الذين قالوا: عزيرٌ ابن الله: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾( ). لكن الظاهر أن المعنى الأول هو المتبادر، وأنَّ الخطاب للنصارى؛ لأن الآية في خاتمتها تدل على ذلك، حيث قال الله جل وعلا: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾( ). كلُّ هـٰذا في إثبات ضلال هؤلاء، والضلال وصفٌ للنصارى، والضلال هو عدم الهدى، وأما اليهود فوصفهم الغضب واللعنة؛ لأنهم أهل غيّ، وهم الذين لم يعملوا بالعلم ولم يعملوا بالهدى، فالآية تدلّ بسياقها وسباقها على أن المراد بالنداء في قوله: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ النّصارى.
ثم قال تعالى بعد النداء: ﴿لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ وهـٰذا نهي عن الغلو، والغلو في الأصل هو مجاوزة الحد، وهو الزيادة على المشروع.
وقوله: ﴿فِي دِينِكُمْ﴾ يشمل كلَّ ما يُدان به من قول أو اعتقاد أو عمل، فنهى الله -جلَّ وعلا- أهلَ الكتاب عن الغلو في الدين وهو الزيادة، ومن الغلو في الدين الزيادة فيما شرع الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
واعلم أنَّ الغلوَّ الذي نهت عنه الشريعة نوعان:
نوع يعود على العبادة بالإبطال.
ونوع يعود على صاحبه بالانقطاع والاستحسار.
أمّا النّوع الأول الذي يعود على العبادة بالإبطال: فكزيادة ركعة في الصلاة، أو زيادة شوط في الطواف، أو زيادة شوط في السعي، قصدًا وتعمدًا، فهـٰذا يعود على العبادة بالإبطال؛ لأنه خروج عن الشريعة، وقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((من أحدث في أمرنا هـٰذا ما ليس منه فهو رد)).
القسم الثاني من أقسام الغلو ما يعود على صاحبه بالانقطاع والاستحسار، وهـٰذا لا يعود على العبادة بالإبطال، لكنّه يؤول بصاحبه إلى الانقطاع، وهو الزّيادة في العبادة على وجه غير مشروع، كقيام اللّيل كله، وصيام الدهر عدا ما نهي عنه من الأيام، فهـٰذا يعود على صاحبه بأي شيء؟ بالانقطاع والاستحسار، فيستحسر وينقطع عن العبادة، وهـٰذا الذي قال فيه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((اكلَفوا من الأعمال ما تطيقون)). وقال فيه: ((إن الله لا يمل حتى تملوا)).
والنهي عن هـٰذا وذاك، وإنما فرقنا بينهما باعتبار أثر الزيادة على العبادة، سواء كانت زيادة مبطلة أو لا.
﴿لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ﴾، ﴿غَيْرَ﴾ هنا صفة لمصدر محذوف تقديره: غلوّاً غير الحق، وهـٰذه آية المائدة، وهي في النساء وفي المائدة، في النساء: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ﴾( ). هـٰذه التي في النساء، أما التي في المائدة فهي: ﴿لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا﴾ التي قرأناها قبل قليل، المراد آية المائدة، وآية النساء قريبة لكنها تكلمت عن صورة من صور الغلو وهي غلوهم في المسيح بن مريم عليه السلام.
﴿لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ﴾. قلنا ﴿غَيْرَ﴾ ما إعرابها؟ صفة لمصدر محذوف: (غلوّاً غير الحق). وهـٰذا يصدق على كل زيادة لم يرد بها الشرع، فإنها من غير الحق، فنهى الله عز وجل عن الغلو كله، والآيات التي تحذر وتنهى عن الغلو بمنطوقها ومفهومها كثيرة، وكذلك في السنة النبوية.
ومناسبة هـٰذه الآية للباب واضحة؛ لأن من جملة ما نهي عنه هؤلاء خصوصًا –وهم النصارى- غلوهم في صالحيهم، فإنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح عيسى بن مريم، فنهاهم الله -عز وجل- عن الغلو في هؤلاء باتباعهم وسماع ما عندهم وأخذ أقوالهم المعارضة لما جاء به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- .
يقول: (في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: ﴿وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾.)
هـٰذه الآية في سورة نوح، وهي خبرٌ عن قوم نوح مما قصَّه الله -عز وجل- في كتابه عن هؤلاء الذين وقعوا في الشرك، قالوا من جملة ما قالوه في مقابل دعوة نوح عليه السلام:
﴿لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ﴾. أي: لا تتركوا ولا تدعوا آلهتكم لقول من؟ لقول نوح.
والآلهة: جمع إلـٰه، وهو ما عُبد، ولكن في هـٰذا السياق: ما عُبد من دون الله عز وجل.
﴿وَلاَ تَذَرُنَّ﴾. وهـٰذا تأكيد للنهي السابق، أو تخصيصٌ بعد تعميم، فإما أن يكون تأكيداً، فيكون قولهم: ﴿لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ﴾ ثم أكدوا هـٰذا المعنى بالنهي ثانية فقالوا: ﴿وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ فيكون تأكيداً للنهي الأول السابق.
وإما أن يكون من باب عطف الخاص على العام، فيكون لهم آلهة كثيرة، وخَصُّوا هـٰذه الآلهة بالذكر لكونها أعظم ما يعبدون، والمعنيان محتملان.
هـٰذه الآية فيها قول هؤلاء في آلهتهم وإصرارهم على عبادتها: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر.
قال ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -وهو منقول عن غيره أيضًا من السلف-: (وهـٰذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح).
وقوله: (من قوم نوح) لا يلزم أن يكونوا قد وجدوا في عهد نوح، بل الأمر سابق على نوح، ولذلك في بعض الروايات: هـٰذه أسماء رجال صالحين من بني آدم، وقع الشرك في قوم نوح بسببهم.
(فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا). أي: علامات، والأنصاب هنا مجملة، تشمل تصاويرهم وتشمل ما يحصل تذكرهم به ولو لم يكن على صورهم، كالأنصاب التي تكون على القبور وشبهها.
(وسموها بأسمائهم). أي: سموا هـٰذه الأنصاب بأسماء هؤلاء المعبودين المعظمين. (ففعلوا). فعلوا أي شيء؟ فعلوا ما أوحاه الشيطان إليهم، والسبب في هـٰذا أنه جاءهم بشبهة، وهي تذكيرهم نشاط هؤلاء وما كانوا عليه من الطاعة والعبادة، وأنَّ هـٰذه الأنصاب ستحيي في قلوبهم الطاعة والعبادة، وسيقبلون بنشاط على ما كان عليه هؤلاء من الصلاح والتُّقى. (ففعلوا ولم تُعبد). أي: فعلوا ما أوحاه الشيطان، ولم يحصل شرك بعبادة هـٰذه الأصنام وهـٰذه الأنصاب من دون الله.
(حتى إذا هلك أولئك). المشار إليه من؟ الذين استجابوا للشيطان بوضع الأنصاب. (ونُسي العلم). أي: ودرس العلم ولم يبق أهل العلم الذين يمنعون الناس من الوقوع في الشرك.
(عُبدت) أي: عُبدت من دون الله؛ وذلك أن الشيطان جاءهم وقال لهم: إن سلفكم كانوا يدعون هؤلاء ويعبدونهم ويستمطرون بهم ويستسقون، فعبدوهم من دون الله فوقع الشرك، وبهـٰذا يتبين جليّاً واضحًا أن سببَ الشرك كان منشؤه من الغلو في الصالحين، فنشأة الشرك إنما كانت ناتجة عن الغلو في الصالحين، وهـٰذا الذي جعل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحذر من الغلو تحذيرًا فعليّاً وفي مناسبات كثيرة؛ لأن الغلو في الصالحين يفضي بالغالين تدريجًا إلى عبادة هؤلاء الذين وقع فيهم الغلو من دون الله، وقد صارت هـٰذه الأصنام إلى العرب. هل صارت بأعيانها؟
بعض الناس يقول: صارت بأعيانها إلى العرب، فتفرقت في جزيرة العرب، شمالاً وجنوبًا وشرقًا وغربًا، فاتخذ كلُّ قوم صنمًا من هـٰذه الأصنام يُعبد من دون الله.
وقال آخرون: إنه يبعد أن تكون أعيان تلك الأصنام حَيِيَت؛ لأن الطوفان درَس كل ما كان موجودًا من الشرك وأهله، وإنما الذي حيي وعاد في العرب هو أسماء أولئك؛ وذلك أنَّ الذين نجوا مع نوح في السفينة كانوا يذكّرون أقوامهم وذرياتهم بنعمة الله عليهم، ويحذرونهم من الشرك، ويذكرون أن أقوامهم كانوا يعبدون كذا وكذا وكذا، فبقيت هـٰذه الأسماء حتى آلت إلى العرب.
(وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا) أي هؤلاء الصالحون (عكفوا على قبورهم). من الذي عكف؟ هؤلاء القوم الذين عظموا هؤلاء الصالحين، ومعنى العكوف: الملازمة، أي: لازموا قبورهم، وليس المراد من العكوف الاعتكاف الذي هو لازم لنوع العبادة، وإنما المقصود أنهم لازموا قبورهم، والملازمة إما أن تكون بكثرة المجيء إليها أو بالإقامة عندها.
(عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم). عكفوا عليها يتذكرون عبادتهم وما كانوا عليه من الخير، ثم سوَّل لهم الشيطان أن يصوروا تماثيلهم، أي: تماثيلَ تُشبه أولئكَ الصالحين.
(ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم) أي: عبدوهم من دون الله عز وجل. وبهـٰذا نعلم أنَّ الفتنةَ وقعت أولاً بالغلو، وثانيًا بالقبور، وثالثًا بالتصاوير. والمراقبُ لأفعال أهل الشرك قديمًا وحديثًا يجد أنهم يعظمون صالحيهم ومن يعتقدون فيهم الصلاح، ويعظِّمون المشاهد والقبور، ويعظمون التصاوير، وهـٰذه هي أصول الشرك ومنابع الشر، ولذلك جاء التحذير من هـٰذا كله: فجاء النّهي عن الغلو، وجاء النهي عن التصوير، وجاء النهي عن الصلاة في القبور والعبادة عندها، كما سيأتي.
فبدأ المؤلف -رحمه الله- بأصلِ هـٰذه الأسباب الشركية وأولها وهو الغلو في الصالحين، فبيَّن نهي الله عز وجل، ونهي رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الغلو في الصالحين.
قال المؤلف رحمه الله: (وعن عمر بنِ الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)). أخرجاه.)
هـٰذا الحديث ذكر الحافظ ابن حجر -رحمه الله- أن سبب تكلم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلك ما جرى من معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لما قدِم من الشام، فإنه سجد للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، فلما قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((ما هـٰذا؟ قال: رأيتهم يفعلون ذلك بأحبارهم ورهبانهم وعظمائهم، ففعلته. فنهاه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ذلك، وقال: لو كنت آمرًا أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ لعِظم حقه عليها)).
هكذا ذكر -رحمه الله- في سبب قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ((لا تطروني كما أطرت النصارى)). والحقيقة أن هـٰذا يحتاج إلى دليل، أي: إلى ما يثبت تلك الرواية أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما قال هـٰذا القول عند ذلك الفعل، وعلى كل حال النهي في هـٰذا الحديث ليس مقصورًا على تلك الصورة، بل هو شامل لكل إطراء قولي أو فعلي.
فقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ((لا تطروني)). المنهي عنه هنا هو الإطراء، والإطراء في الأصل هو المجاوزة في مدح الشيء، فإذا تجاوز الإنسانُ في مدح شيء حدَّه الذي هو عليه فقد وقع في الإطراء.
وعلى تفسير وقول ابن حجر -رحمه الله- في سبب الحديث يدخل في ذلك أيضًا الإطراء الفعلي، فيكون النهيُ عن الإطراء القولي بمجاوزة الحد في المدح والثناء والتعظيم والتمجيد، وعن الإطراء الفعلي بصرف ما لا يجوز صرفه للمخلوق من التعظيم كالسجود والانحناء وغيره، فإنَّ ذلك مما يُنهى عنه؛ لأن الله عز وجل أمر بالسجود وبالركوع له، وكل ما أمر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- به من العبادات فإنَّه لا يجوز صرفُها لغيره -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
إلا إذا دلَّ الدليل على أنَّ للمخلوق أن يتوجه إلى المخلوق، يعني: إلى غير الله بذلك، كالشكر مثلاً، فإنَّ الشكر عبادة، أمر الله بشكر الوالدين، وشكر الوالدين عبادة لله وليس عبادة للوالدين.
المهم أن كلَّ ما أمر الله به ورسوله فلا يجوز صرفه لغير الله عز وجل، هـٰذا الأصل فلا يُنقل عنه، وأما أن ينطلق الإنسان مع مشاعره وعواطفه في أنواع التعظيم القولي والفعلي لمن أمر الله بتعظيمه فلا يجوز هـٰذا؛ لأن المشاعر والعواطف إذا لم تُحكم بالشريعة فإنها تُوقع الإنسان في المهالك، ولذلك يجب على كل من أثنى على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قول أو أثنى على من أمر الله بالثناء عليه وبتعظيمه أن يُراعي في ذلك حق الله جل وعلا، وأن لا يتجاوز الحدَّ؛ لأن الأمر خطير.
ولذلك قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ((لا تطروني)). أي لا تتجاوزوا في مدحي والقول فيّ بشيء لم أكن عليه -يعني: لا يطابق الواقع- أو بشيء يوقعكم فيما حرَّم الله عليكم من التعظيم.
ولذلك سيأتينا في الأبواب القادمة -إن شاء الله- القوم الذين جاؤوا إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا: أنت أفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً، أنت سيدنا وابن سيدنا. فقال لهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ((قولوا بقولكم -أو ببعض قولكم في رواية- ولا يستجرينكم الشيطان)). أي: لا يستركضكم ويستجرَّكم في الوقوع فيما حرَّمَ الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من التعظيم الذي لا يجوز إلا له .
فقوله: ((كما أطرت النصارى ابن مريم)). أي: كما غَلَت وتجاوزت في مدحه حتى بلغت به أن قالت: هو الله، أو: هو ابن الله، أو ما قالوه من التعظيم الذي لا يجوز إلا لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
وهـٰذا ليس للحصر إنما هو للتمثيل، فإنَّ من غلاة الصوفية المنحرفين عن طريق السنة والجماعة من يُجيز في رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كلَّ قول إلا أن يقال: إنه هو الله، ولذلك يقول:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم
....................................
من أنه الله أو أنه ابن الله أو ما أشبه ذلك من الأقوال الكفرية،
....................................... واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
ثم قل بعد ذلك ما شئت فيه ولا يحدك حد، ومن هـٰذا وقعوا في الشرك المبين والظلم الكبير؛ لأنَّ كل من غلا في شيء من المخلوقات فإنه قد تعدى على حق الخالق.
ولذلك من ظنَّ أنه يوفي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حقَّه بالمدح والثناء بالمجاوزة عن الحدِّ الشرعي، فإنه في الحقيقة ظلم نفسه، وبخس رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حقه، وظلم نفسه أيضًا بالوقوع فيما نهى الله عنه من القصور بالإلهية عمّا هي عليه.
فكل من وصَفَ المخلوق بما هو وصْفٌ للخالق، أو بما هو حقٌّ لله عز وجل، فإنَّه قد وقع في نقص حق الله جل وعلا، وفي تنقص الربوبية، فينبغي للمؤمن أن يحذر، وأن يكون في هـٰذا الباب وَفق السنة.
وأصحاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعظم الأمة تعظيمًا لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأشدهم محبةً له، فلا يأتي بعدهم من هم أشدُّ حبّاً لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منهم، ومع ذلك لم يُنقل عنهم تلك العبارات التي يقشعرّ منها البدن عندما يسمعها في تعظيم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهي عباراتٌ تدخل في حيز الغلو أو الشرك.
فينبغي للمؤمن أن يحذر، لا سيَّما أن كثيرًا من الناس في افتتاح الكلام يغلو ويتجاوز في وصف رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بكلام لم يُنقل عن السلف، ورسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمَّا نهى عن الإطراء بيَّن أعلى ما يوصف به وأشرف ما بلغه من المنازل فقال: ((إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)). إنَّما أنا عبد فلا يجوز لي شيٌء مما يستحقه الله عز وجل، لا في القول ولا في الفعل.
ثم بعد أن بين منزلته التي هو عليها وأنه لا يرضى أن يُتجاوز به عن هـٰذا الحد، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، في بيان أعظم ما يُثنى به عليه ويُمدح به-: ((فقولوا: عبد الله ورسوله)). وهـٰذان الوصفان هما أشرف ما وُصف به الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مع أنَّ كثيرًا من الناس يرى أنهما لا يفيان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حقَّه من التعظيم، وهـٰذا من جهلهم وضعف عقولهم، فإنَّ الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وصف رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بهذين الوصفين في أشرف مقاماته، وأعظم أحواله: ففي الإسراء قال الله جل وعلا: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾( ) مع أنَّ المعراج هو أفضل مقامات النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومع ذلك لم يجز هـٰذا الوصف. وقال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في مقام الوحي: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾( ). ولم يتجاوز هـٰذا الوصف، فينبغي للمؤمن أن لا يتجاوز ما وصف الله به رسولَه وما رضيَه رسولُه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لنفسِه.
ثالث المقامات الحميدة التي قامها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يتجاوز فيها اللهُ -عز وجل- وصفَه عمّا ذكر في هـٰذا الحديث قول الله عز وجل: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً﴾( ) قال: عبدالله، وهو أشرف مقاماته، وهو الرسالة والتبليغ لدين الله عز وجل.
هـٰذه الآيات الثلاث فيها أعظم مقامات النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولم يتجاوز وصفُ اللِه لرسوله عمّا جاء في هـٰذا الحديث من أنه عبد وأنه رسول.
قال: ((فقولوا: عبد الله ورسوله)) العبودية التي يُوصفُ بها رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هي العبودية الخاصة، بل هي خاصة الخاصة، هي العبودية التي لم يبلغها أحدٌ من الخلق، وليست العبودية العامة التي تشمل كلَّ شيء، بل هي عبودية خاصة اختيارية فضَّله اللهُ بها وخصَّه بها دون غيره. ((ورسوله)). أيضًا هـٰذا الوصف مما اختُص به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أكثر من غيره، فالرسل الذين شاركوه هو أعظم منهم في هـٰذا الوصف -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فينبغي في الثناء على الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي مدحه وفي ذكره أن لا يقصُر الإنسان عن هذين الوصفين، وأن لا يتجاوز هذين الوصفين، وأن يجعلهما في مُقَدَّم وصف الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- .
الآن إذا تكلَّم عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: قال البشير النذير، قال سيد البشر، قال خاتم الأنبياء، وما أشبه ذلك من الأوصاف التي تصدُق على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولكنَّه يترك هذين الوصفين اللَّذين رضيهما رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لنفسه، وهما أعظم ما وُصف به رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
ولذلك في الشهادة وهي أعظم ما يكون من حقوق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، الشهادة له بالرسالة، ماذا نقول؟ أشهد أن لا إلـٰه إلا الله وأنَّ محمدًا عبده ورسوله. فينبغي للمؤمن أن لا يُفرِّط في هذين الوصفين، وأن لا يَقصُر عنهما.
يقول: (أخرجاه) هكذا في النسخة، وبعض المحشين يقول: إنه ليس في صحيح مسلم، إنه فقط في صحيح البخاري، يتحقق منه هل هو في مسلم أو لا، وراجعوا النسخ لعلها في نسخ غير التي بين أيدينا؛ لأنه يبعد أن شيخ الإسلام -رحمه الله- في موضعين أو في ثلاثة يذكر أنه في الصحيحين وليس فيهما، فلعله في بعض النسخ وما أشبه ذلك.
يقول: (وقال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)، من الذي قال ؟ (وقال: قال)؟ هكذا عندكم (وقال: قال)؟ الحديث هـٰذا عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في مسند الإمام أحمد وغيره، ولا أدري هل هو مروي أيضًا عن ابن عمر؟ لم أقف على هـٰذا، على كل حال الحديث مشهور من رواية ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في مسند الإمام أحمد وغيره، وفيه: (قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)).)
ومناسبة هـٰذا القول: أنَّ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حجة الوداع أمر أن يُلتقط له حصى، فلما التقطوا له حصى رفعها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الناس وقال: ((بمثل هـٰذا فارموا، وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)).
وهـٰذا فيه التحذير من الغلو العملي، وذكرنا أنَّ الغلوَّ في العبادات ينقسم إلى قسمين:
غلو يُبطل العبادة، وهو الزيادة على المشروع، كأن يصلي ركعةً زائدة، أو يرمي رميًا زائدًا في الرّمي، وكذلك أن يخرج في العبادة عن الوصف المشروع، كأن يرمي مثلاً بحجر كبير، فإنه لا يجزئ الرمي، ولا يصح رميه، فهو كما لو لم يرم، فإذا زاد في العبادة زيادة غير مشروعة في وصفها أو في عددها فإن ذلك يُبطِل العبادة، هـٰذا القسم الأول من الغلو المبطل للعبادة.
القسم الثاني من الغلو: هو ما لا يبطل العبادة، ولكنَّه سببٌ للانقطاع والاستحسار، ومثَّلنا له بسرد الصيام في غير ما نهي عنه، كأن يصوم الدهر إلا ما نُهي عنه من أيام العيد، وقيام الليل كله، وما أشبه ذلك من العبادات التي يؤول حال الإنسان فيها إلى الانحسار والانقطاع عن العبادة، وكلا هذين مما نَهى عنه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قوله: ((وإياكم والغلو)).
كذلك يدخل النهي عن الغلو فيما يتعلَّق بالعقائد، فإنَّ الغلو في العقائد أيضًا من أسباب الشر والفساد، وقول رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)). من كان قبلنا هلكوا بالغلو في العمل؛ وذلك بمجاوزة الحد المشروع، وأيضًا هلكوا بالغلو فيما أُمروا به من محبة الصالحين، فعظموهم وخرجوا بهم عن مرتبة العبودية إلى أن جعلوهم أربابًا وأندادًا من دون الله، كما قال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾( ). فكلُّ هـٰذا مما نهى عنه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قوله: ((فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)). وفي قوله: ((إياكم والغلو)).
والغلو أصله الزيادة ومجاوزة الحد المشروع، فكل من زاد أو تجاوز الحد المشروع فإنه قد وقع في الغلو المنهي عنه.
قال: (ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((هلك المتنطعون)). قالها ثلاثاً.)
أي: كرر هـٰذا القول، وينبغي للواعظ والمُذكِّر أن لا يقول: قالها ثلاثًا ويقتصر، بل يكرر القول، وإنما قال العلماء: قالها ثلاثًا اختصارًا في التأليف والكتابة، وأما في التبليغ فمن تمام التبليغ أن يقولَ الإنسانُ القول كما نُقل عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، ففي مثل هـٰذا يقول: ((هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون))؛ لفائدتين:
أولاً: لأنه أوفق للسنة.
ثانيًا: أنه موافق لتبليغ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، وبيان شدة الأمر وشدة التحذير والتنفير من هـٰذا الفعل، فإنك إذا قلت: هلك المتنطعون ثم سَكَتَّ، فإن هـٰذا ليس كقولك: هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون. أيهما أوقع في نفس السامع، الأول أو الثاني؟ الثاني؛ لأن تكرار الكلام تأكيد له، وإعادة للفظ والمعنى ليستقر في نفس السامع.
وقول رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ((هلك المتنطعون)) اختلف العلماء هل هو دعاء أم خبر؟ فمنهم من قال: إنَّه دعاء، يدعو رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على المتنطّعين. ومنهم من قال: إنَّه خَبَر. ولا إشكال، فإنَّه خبرٌ ودعاء، يعني: الخبر لا ينافي الدّعاء، فهو خبر ودعاء على هؤلاء؛ لكونهم تجاوزوا ما أُمروا به، ورغِبُوا عن سنة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
والمتنطعون جمع متنطِّع، وهو من خرج عن المشروع بتشديد وتعنُّت وزيادة، فكلُّ من خرج عن المشروع في القول أو في الاعتقاد أو في العمل، فإنَّه داخل في هـٰذا الحديث، والله -عزّ وجل- قد بيَّن لنا هديَ رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في كتابه، وهو السّهولة واليُسْر، فقال -جل وعلا- في وصف رسوله: ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾( ). والتكلُّف هو التنطع والتشدد.
فرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليس من المتنطعين المتكلفين المتعمقين المتشددين في شأن من شؤونه، لا في قوله، ولا في فعله، ولا في دعوته وتبليغه، بل هو -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الحنيفية السمحة، كما قال فيما صح عنه: ((بُعثت بالحنيفية السمحة)). ما معنى الحنيفية السمحة؟ ((بالحنيفية)) هي التوحيد، و((السمحة)) هي اليسر والسهولة في العمل. وهـٰذا الحديث اختصر لك معنى الرسالة التي بُعث بها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، فهي استقامة في الاعتقاد، واستقامة في العمل.
((بُعثت بالحنيفية)): أي بالتوحيد، ((السمحة)): أي التي لا مشقة فيها ولا عناء ولا تكلُّف، بل هي موافقة لما تقتضيه الفِطَر، فهي سهلة يسيرة، وهـٰذا يتعلق بالاعتقاد أو بالعمل؟ بالعمل، فهـٰذا اختصار لما جاء به النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في عَقْدِه وعمله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، نسأل الله أن يُتَبِّعَنا آثاره.
وقد كَرِه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التشدد حتى في اللفظ، وهو وسيلة للتبليغ، فكيف إذا كان التشدد والتعمق في الاعتقاد وفي تكليف الناس ما لا يطيقون، وفي الزيادة على المشروع؟ كلُّ هـٰذا مما يدخل في النهي، ولذلك نهى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن التفيهق والتشدق بالكلام، وجعله من أسباب البعد عنه، وجعله من أسباب بغضه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأصحاب هـٰذا الوصف، فينبغي للمؤمن أن يمشي على السهولة واليسر وعدم التشديد وعدم التكلف.
لكن ليس من التيسير أن يتتبع طالب العلم أو المفتي الساقط من الأقوال ويفتي به الناس، فإذا جاءه جاءٍ يسأله عن مسألة من مسائل العلم قال: هـٰذه قال بها العالم الفلاني ولا حرج عليك، وهو لا يعتقد هـٰذا، فإنَّه لا يجوز له أن يفتيه بناء على قولٍ سمعه لا يدري عن صحته، ولا يعتقد صوابه، ولا يختاره لنفسه؛ لأن الدين النصيحة، ومقتضى النصح لمن يستفتيك أن تدله على ما تبرأ به الذمة، وما يحقق له كمال العبودية، أما أن يُلتقط السّاقط من الأقوال كما هو منهج شائع الآن، منهج الميسِّرين في الفتوى والتعليم؛ فهـٰذا ليس بصحيح.
نحن لا ندعو إلى التشديد لكن ندعو إلى التزام السّماحة التي جاء بها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما -لكن هناك ضابط- ما لم يكن إثمًا، والإثم هو الخروج عن الشريعة والخروج عن أمر الله عز وجل، أو الوقوع فيما نهى عنه، فأنت إذا سرت على هـٰذا الطريق؛ فأنت على السماحة التي جاء بها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، أما التقاط الساقط من الأقوال والبحث عن الرخص في أقوال أهل العلم وإفتاء المستفتين بذلك، أو تعليم المتعلمين ذلك بناءً على أن الدين يُسر؛ فهـٰذا ليس بصحيح، هـٰذا ليس من تيسير الدين بل هـٰذا من تمييعه، وإذهاب رهبته وما فيه من قوّة ينبغي للمؤمن أن يأخذ بها، وأن يأخذ الكتاب بقوة كما أمره الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بذلك.
على كل حال هـٰذه المسألة خارجة، وإنما جرى التنبيه عليها بمناسبة قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((هلك المتنطعون)).
[المتن]
فيه مسائل:
الأولى: أن من فهم هـٰذا الباب وبابين بعده، تبيَّن له غربةُ الإسلام، ورأى من قدرةِ الله وتقليبه للقلوب العجب.
[الشرح]
الله المستعان، على كل حال نؤجل الكلام على هـٰذه المسألة بعد استكمال البابين حتى يتبين عِظم الغربة التي أشار إليها الشيخ -رحمه الله-، فالآن إذا اقتصرت على قولك: (رسول الله) أو: (اللهم صل على محمد) ولم تقل: (سيدنا) أو لم تقل: (حبيبنا) أو ما أشبه ذلك، عدَّ الناس ذلك بخسًا لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حقه، واتهموا من لا يقول ذلك بأنه يبغض رسول الله، وهـٰذا مما يبيِّن لنا غُربة الإسلام، وأنَّ كثيرًا من الناس من هؤلاء المنحرفين ليس عندهم من الإسلام إلا هـٰذه القشور التي يتعلقون بها ويظنون أنها الدين، وهي مخالفة لما جاء به الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- .
أعظم الناس تعظيمًا لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هم أصحابه، ومع ذلك يقول أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((لم يكن أحدٌ أشد محبة لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أصحابه، وكانوا إذا رأوه لا يقومون له)) لماذا؟ لما يعلمون من كراهيته ذلك، فلم يعظموه بالقيام، مع أننا الآن لو دخل علينا رجل كبير في منصبه أو في علمه أو في مكانته؛ رأينا من أنفسنا لزامًا أن نقوم له، وأننا إذا لم نقم فإننا نكون قد بخسناه حقه، ورسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين أظهرهم يُمَدّ بالوحي من السماء ويرون على يديه الآيات العظام، ومع ذلك كانوا امتثالاً لأمره ونزولاً عند رغبته ومحبته لا يقومون له -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لِما يعلمون من كراهيته لذلك.
[المتن]
الثانية: معرفة أول شرك حدث على وجه الأرض أنه بشبهة الصالحين.
[الشرح]
وهـٰذا واضح فيما جرى من تعظيم قوم نوح لمن عظموهم في قولهم: ﴿لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً﴾( )، وتقدَّم أنَّ هـٰذه أسماء رجالٍ صالحين.
وجه الاستدلال: كيف صار في هؤلاء الشرك حتى عبدوهم من دون الله.
[المتن]
الثالثة: أول شيء غُيِّر به دين الأنبياء، وما سبب ذلك مع معرفة أنَّ الله أرسلهم؟
[الشرح]
أول شيء غُيِّر به دين الأنبياء هو الغلو في الصالحين.
[المتن]
الرابعة: قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردّها.
[الشرح]
وهـٰذا من تزيين الشيطان، وإلا فالفطر تردّها وتنكرها وتأنف منها، ولذلك صاحب الفطرة السليمة يكره هـٰذه الأشياء، ويرفض هـٰذه الأفعال التي فيها تعظيم غير الله بما لا يليق إلا به -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فيكرهها ويرى بطلانها بعقله وفطرته وما في قلبه، ولو لم يقم عليها برهان أو دليل من الكتاب والسنة، يعني: في علمه وفيما أدرك، لكنَّه يكرهها بفطرته؛ لأن الله فطر الناس على الحنيفية: ((خلقت عبادي حنفاء)) أي: على التوحيد، ثم حصل اجتيال الشياطين فزيَّنت لهم عبادة غير الله عز وجل، وزينت لهم البدع.
[المتن]
الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل.
فالأول: محبة الصالحين.
والثاني: فعل أناس من أهل العلم والدين شيئاً أرادوا به خيراً، فظنَّ من بعدهم أنهم أرادوا غيره.
[الشرح]
وهـٰذه مسألة مهمة، وهي ضرورية لطالب العلم أن يدركها في نظره في أقوال المبتدعين والمنحرفين: ما من صاحب بدعة إلا ويتمسّك في بدعته بشيء من الحق، وهـٰذا الذي جعل البدع تنطلي على أصحابها، لو كانت البدع شرّاً محضًا وباطلاً لا صواب فيه، لا حقّ فيه لما راجت عند أحد ولما قبلها أحد، لكن لما كان الباطل ممزوجًا بشيء من الحق انطلى هـٰذا على النّاس وخرجوا به عن الصراط المستقيم، وشيخ الإسلام –رحمه الله– يكرّر هـٰذه القاعدة كثيرًا في مناقشته لأهل البدع، ويبين أن ما معهم من الحق يردّ على ما زاغوا فيه وما خرجوا فيه عن الصّراط المستقيم، فلولا امتزاج الحق بالباطل لَما راجت البدع والأقوال الفاسدة.
فيما نحن فيه يقول الشيخ رحمه الله: (أن سبب ذلك) –أي: سبب الوقوع في الشرك والكفر- (كله مزج الحق بالباطل)، خلط – المزج: هو الخلط- (فالأول محبة الصالحين)، محبة الصالحين حق أو باطل؟ حق امتزج بشيء من الباطل وهو الزيادة على المشروع، فوقع ما نهى الله عنه من الكفر والشرك.
(والثاني) الذي حصل به الامتزاج (فعل أُناس من أهل العلم شيئًا أرادوا به خيرًا فظنَّ من بعدهم أنهم أرادوا به غيره)، فهؤلاء احتجوا بفعل من تقدَّم من الصالحين من أهل العلم فقالوا: لولا أن العلماء يقرون هـٰذا لما فعلوه، ولولا أن هـٰذا صواب ما أقره العلماء. وهـٰذه حجة وشبهة يستدل بها كلُّ صاحب باطل على باطله في الغالب، والحجة ليست في فعل أحد، إنما الحجة في قول الله ورسوله، أما فعل غير المعصومين من العلماء فمن دونَهم فلا حجة فيه، بل الحجة في من جعل الله الحجة في قوله، في قول الله –عز وجل– وفي قول رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي قول من أخبر النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن قولَه حجة، كالصحابة والخلفاء الراشدين أصحاب السّنّة المتبعة، وكما لو أجمعت الأمة على شيء، فإنَّ هـٰذه حجج كلها ثابتة بكتاب الله وسنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
[المتن]
السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح.
[الشرح]
قوله تعالى: ﴿وقالوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً﴾( ).
وقد تكلمنا على هـٰذا.
[المتن]
السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه، والباطل يزيد.
[الشرح]
الله المستعان، من أين أخذ هـٰذه المسألة؟
مما ذكره في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: هـٰذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم. ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت. ونسيان العلم نقص للحق في قلب الإنسان، وإذا نقص الحق اشتغل القلب بالباطل؛ لأن القلب لا بد له من شغل، ولا بد له أن يملأ إما بحق أو باطل، فإذا نقص الحق زاد الباطل ولا بد، كما قال ابن القيم رحمه الله: نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل ولا بد.
[المتن]
الثامنة: أن فيه شاهداً لما نقل عن السلف أن البدعة سبب الكفر.
[الشرح]
ما فيه إشكال، هـٰذا واضح، حيث إن هؤلاء وقعوا أولاً في البدعة بهـٰذه التصاوير وبالأنصاب التي جعلوها، ثم آل بهم الأمر إلى أن وقعوا في الكفر الصُّراح نعوذ بالله من ذلك.
[المتن]
التاسعة: معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة ولو حَسُن قصد الفاعل.
[الشرح]
ولذلك يجب أن تحارب البدع ولو كانت البواعث الباعثة لها حسنة؛ لأنّ حسن القصد لا يشفع لصحّة الفعل، بل حُسن القصد قد يُخفف المؤاخذة أو يرفع المؤاخذة عن صاحبه، لكنَّه لا يسوِّغ قبول الخطأ.
ولذلك لما أُخبر ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كما في المسند- عن أقوام في المسجد يجتمعون في حلق، وعلى كل حلقة رجل يقول: سبحوا كذا، سبحوا كذا. أتى إليهم، وقال لهم: إما أن تكونوا على هدي خير من هدي محمد، وإما أن تكونوا مقتحمي باب ضلالة. وهم على خير: التسبيح عبادة، وفي مسجد وذكر، لكنَّهم على غير هدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقال: أنتم بين أمرين: إما أن تكونوا على هدي –يعني: على طريقة وسنة- خير من هدي محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، وهـٰذا لا يُمكن أن يقوله مؤمن، وإما أن تكونوا مقتحمي باب ضلالة، وهـٰذا هو الواقع، والضلالات لا تبدأ بانحرافات كبيرة، إنما تبدأ بشيء يسير ثم تؤول -نعوذ بالله– إلى ضلال كبير.
فينبغي للمؤمن أن يحذر البدع دقيقها وجليلها في نفسه وفي مجتمعه وفي من حوله، ويحذِّر من البدع وينهى عنها ويبيِّن خطرها، ويستعين الله –عز وجل– في ذلك، وإذا صحَّت النية وصدق العزم فإنّ الله –جلّ وعلا– يبارك في القول ويكتب له القبول.
[المتن]
العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو، ومعرفة ما يؤول إليه.
[الشرح]
صحيح، وهـٰذا واضح في التّحذيرات التي مرت في حديث عمر وفي حديث ابن عباس وفي حديث ابن مسعود.
[المتن]
الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح.
[الشرح]
وهـٰذا واضح، وسيأتي مزيد بيان له في الباب التالي، فإنه يُنهى عن لزوم القبور للأعمال الصّالحة، وسيأتينا فعل العمل الصالح عند القبر، وأقسام ذلك في الباب التالي إن شاء الله، ولكن المضرَّة واضحة في أن هؤلاء عكفوا على قبور هؤلاء الصّالحين ولازموا هـٰذه القبور؛ ليتذَّكروا عبادتهم، فآل الأمر بهم إلى أن عبدوهم من دون الله.
[المتن]
الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل، والحكمة في إزالتها.
[الشرح]
صحيح، وسيأتي مزيد بيان لهـٰذا في الباب القادم إن شاء الله، حيث إن التماثيل آلت بالناس إلى أن عبدوها من دون الله عز وجل.
[المتن]
الثالثة عشرة: معرفة عظم شأن هـٰذه القصة، وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها.
[الشرح]
قصة؟ يشير إلى قصة عبادة قوم نوح للصالحين، كما قال الشيخ –رحمه الله– هـٰذه القصة عظيمة الشأن، وتحتاج من أهل التعليم أن يذكروها للناس في مجامعهم، وأن يذكِّروهم بها حتى يقصروا عن التعظيم، لا سيما في البلدان التي يرى الناس فيها أن الرّكوع وأن تقبيل يد العالم أنه مما يجب، وأن دونَ ذلك يكون قصورًا، هـٰذا أقل ما يكون من وسائل التعظيم عند هؤلاء، وإلا فعندهم من العظائم ما الله به عليم، نسأل الله لنا ولهم الهداية.
الانحناء:
ما حكم الانحناء لغير الله؟ لا يجوز، الانحناء لغير الله لا يجوز، نهى الله عنه، أولاً أمر الله به عبادةً فلا يجوز لغيره: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾( ). ونهى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عنه لما سألوه: ((إن أحدنا يلقى أخاه أيقبله؟ قال: لا. قالوا: أينحني له؟ قال: لا)). فنهى عنه، فالانحناء لغير الله لا يجوز، وهو من وسائل الشرك وأسبابه.
وهو شائع في بعض المجتمعات، هـٰذا الانخفاض في السلام أو للمعظَّم أمر –يعني- معتاد، وبعض الناس يقول: أسكت مجاملة لهم، وهـٰذا هو الذي جرى في الذين صوّروا التصاوير، صوروها بحسن القصد ليتذكّروا عبادة هؤلاء، فآل الأمر إلى أن عُبدوا من دون الله. وينبغي في مسائل التّوحيد الحزم، وألا يتهاون الإنسان، وهـٰذا هو هدي النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، التوحيد لا سهولة فيه، ولا تغاضي فيه، بل ينبغي التنبيه، لكن بما يناسبُ الحال من الغِلظة أو الرفق؛ لأن الناس يختلفون في ما يناسب من غلظة أو رفق، المهم يسلك ما يحصل به المقصود.
[المتن]
الرابعة عشرة -وهي أعجب وأعجب-: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح هو أفضل العبادات، واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه، فهو الكفر المبيح للدم والمال.
[الشرح]
يشير الشيخ –رحمه الله– إلى من يرى أن عدم تعظيم الأولياء -بالعكوف على قبورهم، والتشييد عليها، ودعائهم من دون الله، أنَّ هـٰذا- قصور في حقهم ونزول بهم عن المنزلة التي يستحقونها.
[المتن]
الخامسة عشرة: التصريح أنهم لم يريدوا إلا الشفاعة.
[الشرح]
نعم، إنهم لم يكونوا يعبدون هؤلاء عبادةً مستقلة، إنما يعبدونهم ليقربوهم إلى الله زلفى كما ذكر الله –جل وعلا– ، فالتصريح ليس في ما ساقه المؤلف، لكنَّه معلوم من قوله تعالى: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾( ).
[المتن]
السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك.
[الشرح]
يعني: أرادوا عبادتهم من دون الله.
[المتن]
السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم)). فصلوات الله وسلامه على من بلَّغ البلاغ المبين.
[الشرح]
آمين! وجزاه الله عنا خير ما جزى به نبيّاً عن أمته.
[المتن]
الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين.
التاسعة عشرة: التصريح أنها لم تعبد حتى نسي العلم، ففيها بيان معرفة قدر وجوده ومضرة فقده.
[الشرح]
يعني العلم، ولا شك أنه إذا وُجد العلم شاع الخير وانتشر، وإذا فُقِد العلم انتشر الشر، فبقدر ما في المجتمع من العلم وبقدر ما في الأمة من العلم بقدر ما تأمن من الشّرور، وأنت لاحظ كلّما كثر أهل العلم وطلابه في بلد من البلاد كثر خيره، وكلما قلَّ عددهم أو قلّ تأثيرهم شاع الشر وانتشر، ولذلك كان من علامات القيامة رَفْعُ العلم وظهور الجهل.
[المتن]
العشرون: أن سبب فقد العلم هو موت العلماء.
[الشرح]
الله المستعان.
¹
شرح
كتاب التوحيد
الذي هو حق الله على العبيد
لشيخ الإسلام والمسلمين مجدد الدين
محمد بن عبد الوهاب التميمي المشرفي
- رحمه الله تعالى-
لفضيلة الشيخ
الدرس الثالث عشر
www.almosleh.com
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
[المتن]
باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر
رجل صالح، فكيف إذا عبده؟
في (الصحيح) عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- ذكرت لرسول الله -صَ