شرح الصدور بتحريم رفع القبور

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه المكرمين المطهرين.

وبعد:

فاعلم أنه إذا وقع الخلاف بين المسلمين في أن هذا الشيء بدعة أو غير بدعة، أو مكروه أو غير مكروه، أو محرم أو غير محرم، أو غير ذلك، فقد اتفق المسلمون -سلفهم وخلفهم- من عصر الصحابة إلى عصرنا هذا -وهو القرن الثالث عشر منذ البعثة المحمدية- أن الواجب عند الاختلاف في أي أمر من أمور الدين بين الأمة المجتهدين هو: الرد إلى كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، الناطق بذلك الكتاب العزيز: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول﴾، ومعنى الرد إلى الله سبحانه الرد إلى كتابه، ومعنى الرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم الرد إلى سُنته بعد وفاته، وهذا مما لا خلاف فيه بين جميع المسلمين، فإذا قال مجتهد من المجتهدين: هذا حلال، وقال الآخر: هذا حرام، فليس أحدهما أولى بالحق من الآخر، وإن كان أكثر منه علمًا أو أكبر منه سنًّا أو أقدم منه عصرًا؛ لأن كل واحد منهما فرد من أفراد عباد الله، ومتعبد بما في الشريعة المطهرة مما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومطلوب منه ما طَلَب الله من غيره من العباد، وكثرة علمه وبلوغه درجة الاجتهاد أو مجاوزته لها لا يسقط عنه شيئًا من الشرائع التي شرعها الله لعباده، ولا يخرجه من جملة المكلفين، بل العالِم كلما ازداد علمًا كان تكليفه زائدًا على تكليف غيره، ولو لم يكن من ذلك إلا ما أوجبه الله عليه من البيان للناس وما كلفه به من الصدع بالحق وإيضاح ما شرعه الله لعباده: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ﴾، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّعِنُونَ﴾، فلو لم يكن لمن رزقه الله طرفًا من العلم إلا كونه مكلفًا بالبيان للناس لكان كافيًا فيما ذكرناه من كون العلماء لا يخرجون عن دائرة التكليف، بل يزيدون بما علموه تكليفًا، وإذا أذنبوا كان ذنبهم أشد من ذنب الجاهل وأكثر عقابًا، كما حكاه الله عمَّن يعمل سوءًا بجهالة ومَن عمله بعلم، وكما حكاه في كثير من الآيات عن علماء اليهود حيث أقدموا على مخالفة ما شرعه الله لهم، مع كونهم يعلمون الكتاب ويدرسونه، ونعى ذلك عليهم في مواضع متعددة من كتبه، وبَكَّتهم أشدَّ تبكيت، وكما ورد في الحديث الصحيح: «إن أول مَن تُسَعَّر بهم جهنم العالِم الذي يأمر الناس ولا يأتمر وينهاهم ولا ينتهي» وبالجملة فهذا أمر معلوم أن العلم وكثرته وبلوغ حامله إلى أعلى درجات العرفان لا يسقط عنه شيئًا من التكاليف الشرعية بل يزيدها عليه شدة، ويُخاطَب بأمور لا يخاطب بها الجاهل، ويُكلَّف بتكاليف غير تكاليف الجاهل، ويكون ذنبه أشد، وعقوبته أعظم، وهذا لا ينكره أحد ممن له أدنى تمييز بعلم الشريعة، والآيات والأحاديث الواردة في هذا المعنى لو جُمعت لكانت مؤلفًّا مستقيمًا ومصنفًا حافلًا، وليس ذلك من غرضنا في هذا البحث، بل غاية الغرض من هذا ونهاية القصد منه هو: بيان أن العالم كالجاهل في التكاليف الشرعية والتعبد بما في الكتاب والسنة، مع ما أوضحناه لك من التفاوت بين الرتبتين، رتبة العالم ورتبة الجاهل في كثير من التكاليف واختصاص العالم منها بما لا يجب على الجاهل، وبهذا يتقرر لك أن ليس لأحد من العلماء المختلفين، أو من التابعين لهم والمقتدين بهم أن يقول: الحق ما قاله فلان دون فلان، أو فلان أولى بالحق من فلان، بل الواجب عليه -إن كان ممن له فهم وعلم وتمييز- أن يَردَّ ما اختلفوا فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن كان دليل الكتاب والسنة معه فهو على الحق وهو الأولى بالحق، ومن كان دليل الكتاب والسنة عليه لا له كان هو المخطئ، بل هو معذور، بل مأجور، كما ثبت في الحديث الصحيح أنه: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر»، فناهيك بخطأ يؤجر عليه فاعله، ولكن هذا إنما هو للمجتهد نفسه إذا أخطأ، ولكن لا يجوز لغيره أن يتبعه في خطئه، ولا يعذر كعذره، ولا يؤجر كأجره، بل واجب على من عداه من المكلفين أن يترك الاقتداء به في الخطأ ويرجع إلى الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإذا وقع الرد لما اختلف فيه أهل العلم إلى الكتاب والسنة كان من معه دليل الكتاب والسنة هو الذي أصاب الحق ووافقه، وإن كان واحدًا، والذي لم يكن معه دليل الكتاب والسنة هو الذي لم يصب الحق بل أخطأه، وإن كان عددًا كثيرًا، فليس لعالم ولا لمتعلم ولا لمن يفهم -وإن كان مقصرًا- أن يقول: إن الحق بيد من يقتدى به من العلماء إن كان دليل الكتاب والسنة بيد غيره، فإن ذلك جهل عظيم، وتعصب ذميم، وخروج من دائرة الإنصاف بالمرَّة، لأن الحق لا يعرف بالرجال، بل الرجال يعرفون بالحق، وليس أحد من العلماء المجتهدين والأئمة المحققين بمعصوم، ومن لم يكن معصومًا فإنه يجوز عليه الخطأ كما يجوز عليه الصواب، فيصيب تارة ويخطئ أخرى، ولا يتبين صوابه من خطئه إلا بالرجوع إلى دليل الكتاب والسنة، فإن وافقهما فهو مصيب، وإن خالفهما فهو مخطئ، ولا خلاف في هذه الجملة بين جميع المسلمين أولهم وآخرهم، سابقهم ولاحقهم، كبيرهم وصغيرهم، وهذا يعرفه كل من له أدنى حظ من العلم وأحقر نصيب من العرفان، ومن لم يفهم هذا ويعترف به فليتَّهم نفسه، ويعلم أنه قد جنى على نفسه بالخوض فيما ليس من شأنه، والدخول فيما لا تبلغ إليه قدرته، ولا ينفذ فيه فهمه، وعليه أن يمسك قلمه ولسانه، ويشتغل بطلب العلم، ويفرغ نفسه لطلب علوم الاجتهاد التي يتوصل بها إلى معرفة الكتاب والسنة وفهم معانيهما، والتمييز بين دلائلهما، ويجتهد في البحث في السنة وعلومها، حتى يتميز عنده صحيحها من سقيمها، ومقبولها من مردودها، وينظر في كلام الأئمة الكبار من سلف هذه الأمة وخلفها، حتى يهتدي بكلامهم إلى الوصول إلى مطلوبه، فإنه إن لم يفعل هذا وقدم الاشتغال بما قدمنا، ندم على ما فرط منه قبل أن يتعلم هذه العلوم غاية الندم، وتمنى أنه أمسك عن التكلم بما لا يعنيه، وسكت عن الخوض فيما لا يدريه، وما أحسن ما أدبنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من قوله: «رحم الله امرءًا قال خيرًا أو صمت»، وهذا في الذي تكلم في العلم قبل أن يفتح الله عليه بما لابد منه، وشغل نفسه بالتعصب للعلماء، وتصدى للتصويب والتخطئة في شيء لم يعلمه ولا فهمه حق فهمه، ولم يقل خيرًا ولا صمت، فلم يتأدب بالأدب الذي أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا تقرر لك من مجموع ما ذكرناه وجوب الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بنص الكتاب العزيز وإجماع المسلمين أجمعين، عرفت أن من زعم للناس أنه يمكن معرفة المخطئ من العلماء من غير هذه الطريق عند اختلافهم في مسألة من المسائل فهو مخالف لما في كتاب الله، ومخالف لإجماع المسلمين أجمعين، فانظر أرشدك الله إلى أي جناية جنى على نفسه بهذا الزعم الباطل وأي مصيبة وقع فيها بهذا الخطأ الفاحش، وأي بلية جلبها عليه القصور والتقصير، وأي محنة شديدة ساقها إليه التكلم فيما ليس من شأنه؟

وها أنا أوضح لك مثالًا لما ذكرناه من الاختلاف بين أهل العلم، ومن كيفية الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليتبين المصيب من المخطئ، ومن بيده الحق ومَن بيده غيرُه، حتى تعرف الحق حق معرفته، ويتضح لك غاية الاتضاح، فإن الشيء إذا ضُربت له الأمثلة وصُوِّرت له الصور بلغ من الوضوح والجلاء إلى غاية لا يخفي معها على من له فهم صحيح وعقل رجيح، فضلًا عمن لم يكن له في العلم نصيب، وفي العرفان حظ، ولنجعل هذه المسألة التي جعلناها مثالًا لما ذكرناه وإيضاحًا لما أمليناه: هي المسألة التي لهج بالكلام فيها أهل عصرنا ومصرنا، خصوصا في هذه الأيام لأسباب لا تخفى، وهي:

مسألة رفع القبور، والبناء عليها، كما يفعله الناس من بناء المساجد والقباب على القبور.

 شرح الصدور بتحريم رفع القبور

فنقول:

اعلم أنه قد اتفق الناس، سابقهم ولاحقهم، وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة رضوان الله عنهم إلى هذا الوقت: أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها، واشتدَّ وعيدُ رسول الله لفاعلِها، كما يأتي بيانه، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين، لكنه وقع للإمام يحي بن حمزة مقالة تدل على أنه يرى أنه لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء، ولم يقل بذلك غيرُه، ولا روي عن أحدٍ سواه، ومَن ذَكَرها من المؤلفين في كتب الفقه من الزيدية فهو جَرْيٌ على قوله واقتداء به، ولم نجد القول بذلك ممن عاصره، أو تقدم عصرُه عليه، لا من أهل البيت ولا من غيرهم، وهكذا اقتصر صاحب البحر الذي هو مدرس كبار الزيدية، ومرجع مذهبهم ومكان البيان لخلافهم في ذات بينهم، وللخلاف بينهم وبين غيرهم، بل اشتمل على غالب أقوال المجتهدين وخلافاتهم في المسائل الفقهية، وصار هو المرجوع إليه في هذه الأعصار، وهذه الديار لمن أراد معرفة الخلاف في المسائل، وأقوال القائلين بإثباتها أو نفيها من المجتهدين: فإن صاحب هذا الكتاب الجليل لم ينسب هذه المقالة -أعني جواز رفع القباب والمشاهد على قبور الفضلاء- إلا إلى الإمام يحيى وحده، فقد قال ما نصه: (مسألة الإمام يحيى: لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء والملوك لاستعمال المسلمين ولم يُنكَر) انتهى.

فقد عرفت مِن هذا أنه لم يقل بذلك إلا الإمام يحيى، وعرفت دليله الذي استدل به، وهو استعمال المسلمين مع عدم النكير، ثم ذكر صاحب البحر هذا الدليل الذي استدل به الإمام يحيى في الغيث واقتصر عليه، ولم يأت بغيره.

فإذا عرفت هذا تقرر لك أن هذا الخلاف واقع بين الإمام يحيى وبين سائر العلماء، من الصحابة والتابعين، ومن المتقدمين من أهل البيت والمتأخرين، ومن أهل المذاهب الأربعة وغيرهم ومن جميع المجتهدين أولهم وآخرهم، ولا يعترض هذا بحكاية من حكى قول الإمام يحيى في مؤلفه، ممن جاء بعده من المؤلفين، فإن مجرد حكاية القول لا يدل على أن الحاكي يختاره ويذهب إليه، فإن وجدت قائلًا مِن بعده مِن أهل العلم يقول بقوله هذا ويرجحه، فإن كان مجتهدًا كان قائلًا بما قاله الإمام يحيى ذاهبًا إلى ما ذهب إليه بذلك الدليل الذي استدل به، وإن كان غير مجتهد فلا اعتبار بموافقته؛ لأنها إنما تعتبر أقوال المجتهدين لا أقوال المقلِّدين.

 فإذا أردت أن تعرف: هل الحق ما قاله الإمام يحيى، أو ما قاله غيره من أهل العلم؟

فالواجب عليك رد هذا الاختلاف إلى ما أمرنا الله بالرد إليه، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

فإن قلتَ: بَيِّنْ لي العمل في هذا الرد حتى تتمَّ الفائدة، ويتضح الحق من غيره، والمصيب من المخطئ في هذه المسألة.

قلتُ: افتح لما أقوله سمعًا، واتخذ له فهمًا، وأرهف له ذهنًا.

وها أنا أوضِّح لك الكيفية المطلوبة، وأُبَيِّنُ لك ما لا يبقى عندك بعده ريب، ولا يصاحب ذهنَك وفهمَك عنده لبس، فأقول:

قال الله سبحانه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ فهذه الآية فيها الإيجاب على العباد بالائتمار بما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم والأخذ به، والانتهاء عما نهى عنه صلى الله عليه وسلم وتركه.

وقال سبحانه: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾، ففي هذه الآية: تعليق محبة الله الواجبة على كل عبد من عباده باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك هو المعيار الذي يُعرف به محبة العبد لربه على الوجه المعتبر، وأنه السبب الذي يستحق به العبد أن يحبه الله.

وقال الله سبحانه: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ ففي هذه الآية: أن طاعة الرسول طاعة لله.

وقال: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً﴾ فأوجب هذه السعادة لمن أطاع الله ورسوله، وهي أن يكون مع هؤلاء الذين هم أرفع العباد درجة عنده، وأعلاهم منزلة.

وقال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾، وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ وأنزل الله على رسوله أن يقول: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ والآيات الدالة على هذا المعنى في الجملة أكثر من ثلاثين آية.

ويستفاد من جميع ما ذكر: أن ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه كان الأخذ به واتباعه واجبًا بأمر الله سبحانه، وكانت الطاعة لرسول الله في ذلك طاعة لله، وكان الأمر من رسول الله أمرًا من الله.

وسنوضح لك ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث من النهي عن رفع القبور والبناء عليها، ووجوب تسويتها، وهدم ما ارتفع منها، ولكنا هنا نبتدئ بذكر أشياء في حكم التوطئة والتمهيد لذلك، ثم ننتهي إلى ذكر ما هو المطلوب، حتى يعلم من اطلع على هذا البحث أنه إذا وقع الرد فيما قاله الإمام يحيى وما قاله غيره في القباب والمشاهد إلى ما أمر الله بالرد إليه، وهو كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كان في ذلك ما يشفي ويكفي، ويقنع ويغني ذكر بعضه، فضلًا عن ذكر جميعه، وعند ذلك يتبين لكل من لهم فهم، ما في رفع القبور من الفتنة العظيمة لهذه الأمة، من المكيدة البالغة التي كادهم الشيطان بها، وقد كاد بها من كان قبلهم من الأمم السابقة، كما حكى الله سبحانه وتعالى ذلك في كتابه العزيز، وكان أول ذلك في قوم نوح، قال الله سبحانه: ﴿قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً﴾ كانوا قومًا صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: «لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم» فصَوَّروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دبَّ إليهم إبليس، فقال: «إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسْقون المطر» فعبدوهم، ثم عبدتهم العرب بعد ذلك.

وقد حُكي معنى هذا في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال قوم من السلف: «إن هؤلاء كانوا قومًا صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمر فعبدوهم»، ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها: «أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله».

وأخرج ابن جرير في تفسير قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى﴾ قال: «كان يَلِتُّ السويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره».

وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت يقول: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك».

وفي الصحيحين من حديث عائشة رضى الله عنها قالت: «لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم كشفها، فقال -وهو كذلك-: "لعنة الله على اليهود والنصارى فقد اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد - يحذر ما صنعوا».

وفي الصحيحين مثله أيضًا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفيهما أيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يكون مسجدًا.

وأخرج الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد».

وأخرج أحمد وأهل السنن من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج».

وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي الهياج الأسدي قال: «قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا أدع تِمْثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مُشرِفًا إلا سويته».

وفي صحيح مسلم أيضا عن ثمامة بن شفي نحو ذلك.

وفي هذا أعظم دلالة على أن تسوية كل قبر مشرف بحيث يرتفع زيادة على القدر المشروع واجبة متحتمة.

فمِن إشراف القبور: أن يرفع سمكها أو يجعل عليها القباب أو المساجد، فإن ذلك من النهي عنه بلا شك ولا شبهة، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لهدمها أمير المؤمنين عليًّا، ثم أمير المؤمنين بعث لهدمها أبا الهياج الأسدي في أيام خلافته.

وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن حبان من حديث جابر قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يوطأ »، وزاد هؤلاء المخرجون لهذا الحديث عن مسلم «وأن يكتب عليه»، قال الحاكم: النهي عن الكتابة على شرط مسلم، وهي صحيحة غريبة.

وفي هذا التصريح بالنهي عن البناء على القبور، وهو يصدق على ما بني على جوانب حفرة القبر، كما يفعله كثير من الناس من رفع قبور الموتى ذراعًا فما فوقه؛ لأنه لا يمكن أن يجعل نفس القبر مسجدًا، فذلك مما يدل على أن المراد بعض ما يقربه مما يتصل به، ويصدق على من بنى قريبًا من جوانب القبر كذلك، كما في القباب والمساجد والمشاهد الكبيرة، على وجه يكون القبر في وسطها أو في جانب منها، فإن هذا بناء على القبر، لا يخفى ذلك على من له أدنى فهم، كما يقال: بنى السلطان على مدينة كذا أو على قرية كذا سورًا، وكما يقال: بنى فلان في المكان الفلاني مسجدًا، مع أن سمك البناء لم يباشر إلا جوانب المدينة أو القرية أو المكان، ولا فرق بين أن تكون تلك الجوانب التي وقع وضع البناء عليها قريبة من الوسط، كما في المدينة الصغيرة والقرية الصغيرة والمكان الضيق، أو بعيدة من الوسط كما في المدينة الكبيرة والقرية الكبيرة والمكان الواسع، ومن زعم أن في لغة العرب ما يمنع من هذا الإطلاق فهو جاهل لا يعرف لغة العرب، ولا يفهم لسانها ولا يدري بما استعملته في كلامها.

وإذا تقرر لك هذا علمتَ أن رفع القبور ووضع القباب والمساجد والمشاهد عليها قد لعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاعلَه تارة كما تقدم، وتارة قال: «اشتدَّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، فدعا عليهم بأن يشتد غضب الله عليهم بما فعلوه من هذه المعصية. وذلك ثابت في الصحيح، وتارة نهى عن ذلك، وتارة بعث من يهدمه، وتارة جعله من فعل اليهود والنصارى، وتارة قال: «لا تتخذوا قبري وَثنًا»، وتارة قال: «لا تتخذوا قبري عيدًا» أي: مَوْسِمًا يجتمعون فيه، كما صار يفعله كثير من عبّاد القبور، يجعلون لمن يعتقدون من الأموات أوقاتًا معلومة يجتمعون فيها عند قبورهم، ينسكون لها المناسك، ويعكفون عليها، كما يعرف ذلك كل أحد من الناس من أفعال هؤلاء المخذولين، الذين تركوا عبادة الله الذي خلقهم ورزقهم ثم يميتهم ويحييهم، وعبدوا عبدًا من عباد الله، صار تحت أطباق الثرى، لا يقدر على أن يجلب لنفسه نفعًا ولا يدفع عنها ضرًّا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمره الله أن يقول: ﴿لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً﴾، فانظر كيف قال سيد البشر وصفوة الله من خلقه بأمر ربه: أنه لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، وكذلك قال فيما صح عنه: «يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئًا» فإذا كان هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه وفي أخص قرابته به وأحبهم إليه، فما ظنك بسائر الأموات الذين لم يكونوا أنبياء معصومين ولا رسلًا مرسلين؟ بل غاية ما عند أحدهم أنه فرد من أفراد هذه الأمة المحمدية، وواحد من أهل هذه الملة الإسلامية، فهو أعجز وأعجز أن ينفع أو يدفع عنها ضررًا، وكيف لا يعجز عن شيء قد عجز عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر به أمته كما أخبر الله عنه، وأمره بأن يقول للناس بأنه لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، وأنه لا يغني عن أخص قرابته من الله شيئًا؟ فيا عجبًا! كيف يطمع من له أدنى نصيب من علم أو أقل حظ من عرفان أن ينفعه أو يضره فرد من أفراد أمة هذا النبي الذي يقول عن نفسه هذه المقالة؟ والحال أنه فرد من التابعين له المقتدين بشرعه، فهل سمعت أذناك -أرشدك الله- بضلال عقل أكبر من هذا الضلال الذي وقع في عباد أهل القبور؟! ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.

وقد أوضحنا هذا أبلغ إيضاح في رسالتنا التي سميناها: «الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد» وهي موجودة بأيدي الناس.

فلاشك ولا ريب أن السبب الأعظم الذي نشأ منه هذا الاعتقاد في الأموات هو ما زينه الشيطان للناس من رفع القبور، ووضع الستور عليها، وتجصيصها وتزيينها بأبلغ زينة، وتحسينها بأكمل تحسين، فإن الجاهل إذا وقعت عينه على قبر من القبور قد بُنيت عليه قُبَّةٌ فدخلها ونظر على القبور الستور الرائعة، والسرج المتلألئة، وقد سطعت حوله مجامر الطيب، فلا شك ولا ريب أنه يمتلئ قلبه تعظيمًا لذلك القبر، ويضيق ذهنه عن تصور ما لهذا الميت من المنزلة، ويَدخُله من الروعة والمهابة ما يَزْرع في قلبه من العقائد الشيطانية التي هي من أعظم مكائد الشيطان للمسلمين، وأشد وسائله إلى ضلال العباد ما يزلزله عن الإسلام قليلًا قليلًا، حتى يطلب من صاحب ذلك القبر ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه، فيصير في عداد المشركين.

وقد يحصل له هذا الشرك بأول رؤية لذلك القبر الذي صار على تلك الصفة وعند أول زورة له، إذ لابد أن يخطر بباله أن هذه العناية البالغة من الأحياء بمثل هذا الميت لا تكون إلا لفائدة يرجونها منه، إما دنيوية أو أخروية، فيستصغر نفسه بالنسبة إلى من يراه من أشباه العلماء زائرًا لذلك القبر، وعاكفًا عليه ومُتمسّحًا بأركانه، وقد يجعل الشيطان طائفة من إخوانه من بني آدم يقفون على ذلك القبر، يخادعون من يأتي إليه من الزائرين، يهولون عليهم الأمر، ويصنعون أمورًا من أنفسهم، وينسبونها إلى الميت على وجه لا يَفطن له من كان من المغفلين.

وقد يصنعون أكاذيب مشتملة على أشياء يسمونها كرامات لذلك الميت، ويبثونها في الناس، ويكررون ذكرها في مجالسهم وعند اجتماعهم بالناس، فتشيع وتستفيض، ويتلقاها من يحسن الظن بالأموات، ويَقبل عقلُه ما يروى عنهم من أكاذيب، فيرويها كما سمعها، ويتحدث بها في مجالسه، فيقع الجُهّال في بلية عظيمة من الاعتقاد الشركي، وينذرون على ذلك الميت كرائم أموالهم، ويحبسون على قبره من أملاكهم ما هو أحبها إلى قلوبهم، لاعتقادهم أنهم ينالون بجاه ذلك الميت خيرًا عظيمًا وأجرًا كبيرًا، ويعتقدون أن ذلك قربة عظيمة، وطاعة نافعة، وحسنة متقبلة، فيحصل بذلك مقصود أولئك الذين جعلهم الشيطان من إخوانه من بني آدم على ذلك القبر. فإنهم إنما فعلوا تلك الأفاعيل وهَوّلوا على الناس بتلك التهاويل، وكذَبوا تلك الأكاذيب، لينالوا جانبًا من الحُطام من أموال الطغام الأغتام.

وبهذه الذريعة الملعونة والوسيلة الإبليسية تكاثرت الأوقاف على القبور، وبلغت مبلغًا عظيمًا، حتى بَلَغتْ غَلَّاتُ ما يُوقَف على المشهورين منهم ما لو اجتمعت أوقافُه لبلغ ما يقتاته أهل قرية كبيرة من قرى المسلمين. ولو بيعت تلك الحبائس الباطلة لأغنى الله بها طائفة عظيمة من الفقراء، وكلها من النذر في معصية الله،  وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا نذر في معصية الله»، وهي أيضًا من النذر الذي لا يبتغى به وجه الله، بل كلها من النذور التي يستحق بها فاعلها غضب الله وسخطه؛ لأنها تفضي بصاحبها إلى ما يفضي به اعتقاد الإلهية في الأموات من تزلزل قدم الدين، إذ لا يَسمح بأحب أمواله وألصقها بقلبه إلا وقد زرع الشيطان في قلبه من محبة وتعظيم ذلك القبر وصاحبه والمغالاة في الاعتقاد فيه ما لا يعود به إلى الإسلام سالمًا. نعوذ بالله من الخذلان.

ولا شك أن غالب هؤلاء المغرورين المخدوعين لو طَلب منهم طالبٌ أن ينذر بذلك الذي نذر به لقبر ميت على ما هو طاعة من الطاعات وقربة من القربات لم يفعل، ولا كاد!

 فانظر إلى أين بلغ تلاعُبُ الشيطان بهؤلاء؟ وكيف رمى بهم هوة بعيدة القعر، مظلمة الجوانب؟

فهذه مفسدة من مفاسد القبور وتشييدها، وزخرفتها وتجصيصها.

ومن المفاسد البالغة إلى حد يرمي بصاحبه إلى وراء حائط الإسلام، ويلقيه على أم رأسه من أعلى مكان من الدين: أن كثيرًا منهم يأتي بأحسن ما يملكه من الأنعام وأجود ما يحوزه من المواشي فينحره عند ذلك القبر، متقرِّبًا به إليه، راجيًا ما يضمر حصوله له منه، فيَهِلُّ به لغير الله، ويتعبد به لوثن من الأوثان، إذ إنه لا فرق بين نحر النحائر لأحجار منصوبة يسمونها وثنًا، وبين قبر لميت يسمونه قبرًا، ومجرد الاختلاف في التسمية لا يغني من الحق شيئًا، ولا يؤثِّر تحليلًا ولا تحريمًا، فإن من أطلق على الخمر غير اسمها وشَرِبَها، كان حكمه حكم من شربها وهو يسميها باسمها، بلا خلاف بين المسلمين أجمعين.

ولا شك أن النحر نوع من أنواع العبادة التي تَعَبَّدَ اللهُ العبادَ بها، كالهدايا والفدية والضحايا، فالمتقرِّب بها إلى القبر والناحر لها عنده لم يكن له غرض بذلك إلا تعظيمه وكرامته، واستجلاب الخير منه واستدفاع الشر به، وهذه عبادة لا شك فيها، وكفاك من شر سماعه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا عقر في الإسلام» قال عبد الرزاق: «كانوا يعقرون عند القبر، يعني بَقَرًا وشياهَا».

وبعد هذا كله فاعلم أن ما سقناه من الدلالة وما هو كالتوطيد لها وما هو كالخاتمة تختم بها البحث: يقضي أبلغ قضاء وينادي أرفع نداء، ويدل أوضح دلالة، ويفيد أجلى مفاد: أن ما رواه صاحب البحر عن الإمام يحيى، غلط من أغاليط العلماء، وخطأ من جنس ما يقع للمجتهدين وهذا شأن البشر -والمعصوم من عصمه الله- وكل عالِم يُؤخذ من قوله ويُترَك، مع كونه -رحمه الله- من أعظم الأئمة إنصافًا، وأكثرهم تحرِّيًا للحق وإرشادًا وتأثيرًا، ولكننا رأيناه قد خالف مَن عداه بما قال: من جواز بناء القباب على القبور، رددنا هذا الاختلاف إلى ما أوجب الله الرد إليه، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فوجدنا في ذلك ما قدَّمنا ذكره من الأدلة الدالة أبلغ دلالة، والمنادية بأعلى صوت بالمنع من ذلك والنهي عنه، واللعن لفاعله والدعاء عليه، واشتداد غضب الله عليه، مع ما في ذلك من كونه ذريعة إلى الشرك، ووسيلة إلى الخروج عن الملة كما أوضحناه.

 فلو كان القائل بما قاله الإمام يحيى بعض الأئمة أو أكثرهم لكان قولهم ردًّا عليهم، كما قدمناه في أول هذا البحث، فكيف والقائل به فرد من أفرادهم؟

وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد»، ورفع القبور وبناء القباب والمساجد عليها ليس عليها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما عرَّفناك ذلك فهو ردٌّ على قائله، أي مردود عليه، والذي شرع للناس هذه الشريعة الإسلامية هو الرب سبحانه بما أنزله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

فليس لعالم -وإن بلغ من العلم إلى أرفع رتبة وأعلى منزلة- أن يكون بحيث يُقتدى به فيما خالف الكتاب والسنة أو أحدهما، بل ما وقع منه من الخطأ بعد توفية الاجتهاد حقه يستحق به أجرًا، ولا يجوز لغيره أن يتابعه عليه.

وقد أوضحنا هذا في أول البحث بما لا يأتي التكرار له بمزيد فائدة.

وأما ما استدل به الإمام يحيى حيث قال: «لاستعمال المسلمين ذلك ولم ينكرونه» فقول مردود، لأن علماء المسلمين مازالوا في كل عصر يروون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في لعن من فعل ذلك، ويقررون شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم ذلك في مدارسهم ومجالس حُفّاظهم، يرويها الآخِرُ عن الأول، والصغير عن الكبير، والمتعلم عن العالم، من لدن أيام الصحابة إلى هذه الغاية، وأوردها المحدثون في كتبهم المشهورة من الأمهات والمسندات والمصنفات، وأوردها المفسرون في تفاسيرهم، وأهل الفقه في كتبهم الفقهية، وأهل الأخبار والسير في كتب الأخبار والسير، فكيف يقال: إن المسلمين لم ينكروا على من فعل ذلك، وهم يروون أدلة النهي عنه واللعن لفاعله، خَلَفًا عن سلفٍ في كل عصر، ومع هذا فلم يزل علماء الإسلام منكرين لذلك مبالغين في النهي عنه.

وقد حكى ابن القيم عن شيخه تقي الدين -رحمهما الله- وهو الإمام المحيط بمذهب سلف هذه الأمة وخلفه أنه قد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد على القبور، ثم قال: «وصرح أصحاب أحمد ومالك والشافعي بتحريم ذلك، وطائفة أطلقت الكراهية، لكن ينبغي أن يحمل على كراهة التحريم، إحسانًا للظن بهم، وأن لا يُظن بهم أن يجوِّزوا ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن فاعله والنهي عنه» انتهى.

 فانظر كيف حكى التصريح عن عامة الطوائف؟

وذلك يدل على أنه إجماع من أهل العلم على اختلاف طوائفهم ثم بعد ذلك جعل أهل ثلاثة مذاهب مصرحين بالتحريم، وجعل طائفة مصرحة بالكراهة وحملها على كراهة التحريم.

 فكيف يقال: إن بناء القباب والمشاهد على القبور لم ينكره أحد؟

ثم انظر كيف يصح استثناء أهل الفضل برفع القباب على قبورهم وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما قدمنا- أنه قال: « أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا» ثم لعنهم بهذا السبب.

فكيف يَسُوْغُ من مسلم أن يستثني أهل الفضل بفعل هذا المحرم الشديد على قبورهم، مع أن أهل الكتاب الذين لعنهم الرسول صلى الله عليه وسلم وحذر الناس ما صنعوا لم يعمروا المساجد إلا على قبور صلحائهم.

ثم هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد البشر وخير الخليقة وخاتم الرسل، وصفوة الله من خلقه، ينهى أمته أن يجعلوا قبره مسجدًا أو وثنًا أو عيدًا، وهو القدوة لأمته، ولأهل الفضل من القدوة به والتأسي بأفعاله وأقواله الحظ الأوفر، وهم أحقُّ الأمة بذلك وأولاهم به، وكيف يكون فعل بعض الأمة وصلاحه مسوغًا لفعل هذا المنكر على قبره؟

وأصل الفضل ومرجعه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيُّ فضل ينسب إلى فضله أدنى نسبة أو يكون له بجنبه أقل اعتبار؟ فإن كان هذا محرَّمًا منهيًا عنه ملعونًا فاعله في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ظنُّك بقبر غيره من أمته؟

 وكيف يستقيم أن يكون للفضل مدخل في تحليل المحرمات وفعل المنكرات؟

اللهم غفرًا.

والحمد لله الذي هدانا للحق ووفقنا لاتباعه، وصلى الله على محمد عبد الله ورسوله وعلى آله أجمعين.